مقصد حفظ نظام الأمة: مقاربة مقاصدية
The Purpose of Guarding the Nation's System: Objective Approach - العدد 140
مقدمة:
إن أي تشريع متعلق بتنظيم حياة الإنسان وسلوكه داخل الجماعة؛ يكون في أصل وضعه؛ وفي تفاصيل مضمونه؛ مبنيا على تحقيق غاية هي المقصود من وضع أي تشريع؛ لا فرق بين أن يكون هذا التشريع قانونا وضعيا أو قانونا سماويا؛ والإسلام كشريعة منظمة لحياة الناس جاء لتحقيق غاية مقصودة وضعت تكاليف الشريعة من أجلها(1).
فإذا كانت الغاية من خلق الإنسان هي أن يكون خليفة في الأرض خلافة قائمة على العبادة والعمارة؛ فان المقصد العام من الشريعة الإسلامية، التي وضعها الله خطابا تكليفيا له، يدور حول تحقيق غاية الإنسان من الاستخلاف؛ وينتج من هذا أن المقصد الأعلى للشريعة هو تمكين الإنسان من تحقيق ما فيه خيره ومصلحته بتحقيق غاية وجوده؛ وهي الخلافة في الأرض؛ بما يفضي إلى سعادته في الدنيا وفي الآخرة(2).
ونظرا للطبيعة الاجتماعية والمدنية التي فطر الله عليها الإنسان والتي تدفع إلى ضرورة الاجتماع مع بني جنسه والتعاون فيما بينهم من أجل تلبية احتياجاته ومصالحه التي يعجز عنها بمفرده والتناصر فيما بينهم؛ فان هذا الاجتماع لن يحقق للإنسان الغاية التي خلق من أجلها إلا إذا انتظم مع بني جنسه في مؤسسة اجتماعية لها سلطة قوية تدفع التواثب والتنازع فيما بين الأفراد؛ وتحقق انتظام الجميع في تحصيل المنافع ودفع المفاسد(3).
ومن ثم فإن الهدف الأسمى من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو حفظ نظام الجماعة وإرساء قواعد العدل بما يحمي الإنسان ويصون كرامته ويدفع عنه الظلم والعدوان ويجنبه الفوضى والفلتان، وقد ارتكز الحكماء في استدلالهم على ضرورة بعثة الأنبياء على هذا المبدأ، أعني حفظ النظام(4). ولكن رغم الاستدلال المنطقي على استهداف التشريع الإسلامي لحفظ نظام المجتمع إلا أن ذلك غير ظاهر عند الفقهاء القدامى؛ مما دفع بعض العلماء المعاصرين إلى الاهتمام بحفظ النظام كمقصد مستقل من مقاصد الشريعة الإسلامية على مستوى الأمة.
المبحث الأول: علاقة حفظ النظام العام بمنظومة مقاصد الشريعة
لما كان الإسلام من الأديان الاجتماعية على حد تعبير د/ مصطفى الزلمي(5). فان انتظام أمر المجتمع وسيلة ضرورية لقيام الإنسان بمهمة الخلافة التي كلفه الشارع الحكيم القيام بها؛ فميزة الدين الإسلامي أن التكليف فيه تكليف جماعي؛ حيث توجد فيه خطابات موجهة للأفراد؛ وخطابات أخرى موجهة للجماعة؛ وهي ما يعرف فقهيا بالواجبات الكفائية التي يتوقف وجودها على وجود سلطة نظامية تسهر على القيام بها؛ وقد عبر الإمام الغزالي عن هذا الترابط ما بين الدين والتنظيم السياسي أيما تعبير مما يدل على تألق فقهه السياسي حيث يقول: “الدين والملك توأمان؛ والدين أصل والسلطان حارس؛ وما لا أصل له فمهدوم؛ وما لا حارس له فضائع”(6). والى هذه النتيجة تقرر عند الإمام الشاطبي وغيره أن السلطة السياسية ضرورة من ضرورات الدين وأنها أي (الإمامة) أصل مقطوع به لا يفتقر في صحته وملاءمته لتصرفات الشارع إلى شاهد(7)، مما يعني اعتبار تأسيس الدولة في الإسلام أحد مقاصد الشريعة على حد تعبير د/ حمادي العبيدي(8)، باعتبارها وسيلة ضرورية لحماية المصلحة العامة متمثلة في إقامة أمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال، وهذا يستلزم من ولاة الأمور سن قوانين وإقامة جهاز تنفيذي يوكل إليه حمل الناس بالرغبة والرهبة على رعاية مصالح الأمة(9). ويترتب على ذلك الاعتراف بالأمة ككيان مستقل ومتميز له خصائصه ومقوماته وتنظيماته التي تستوجب إفرادها بمقاصد تخصها من جانب إيجادها ومن جانب ما يحفظها؛ على نحو ما يعرف في القانون بفكرة الشخصية المعنوية أو الاعتبارية ذات الذمة المالية المستقلة؛ ومن ثم الإقرار بوجود مقاصد جديدة خاصة بها إضافة إلى تلك المقاصد المعروفة بالكليات الخمس.
المطلب الأول: مفهوم حفظ النظام العام وعلاقته بالمصلحة العامة
لما كانت غاية النظام العام في أية جماعة سياسية – والمعبر عنه في مجموع النصوص التشريعية – هو حماية مصالح الفرد في إطار قيم الجماعة؛ الأمر الذي يدفع إلى تقرير أن مصالح الإنسان هي روح المقاصد الشرعية(10)، بحيث تكون المقاصد والمصالح هي الغاية من الشريعة؛ والأسرار التي وضعها الشارع في كل حكم من أحكامها؛ “فالإسلام كدين اجتماعي له فضل ريادي في تحقيق مصالح الإنسان وحقوقه، وسبقه في إرساء القيم الإنسانية التي تمثل أعظم مقاصد الشارع وأهم أهداف التشريع؛ فحقيقة مقاصد شريعته هي نفسها مصالح الإنسان، وأن المصالح والمقاصد وجهان لحقيقة واحدة هي سعادة الإنسان في الدارين ابتداء وانتهاء، وأن مقاصد الشريعة لا تقوم في الوجود والواقع إلا برعاية وتحقيق مصالح الإنسان المختلفة، كما أنه لا رعاية لمصالح الإنسان دون استحضار لمقاصد الشرع”(11).
ومن هذا القبيل يمكن التأسيس لمقاصدية النظام العام كأحد أهم أوصاف الشريعة التي تدخل في مسمى مقاصد الشريعة مثلها مثل الفطرة والسماحة والحرية والعدل، فكل أوصاف لشريعة الله يجب أن تتغياها الحكومة الشرعية. ويلاحظ أن هناك الكثير من الفقهاء المعاصرين من يسمي المقاصد الخمسة السالفة مباشرة “النظام العام” في الشريعة الإسلامية(12) باعتبارها فكرة ضابطة تستغرق كل عناصر النظام العام الأساسية في الجماعات مهما اختلف نظامها السياسي أو الاجتماعي، وحول هذا المعنى يقول الشيخ عيسوي موضحا هذه الفكرة بوجه عام بقوله(13): “إن أصول الشريعة قد أحاطت بما يلزم لفظ المقاصد الخمسة التي لم تشرع الشرائع السماوية أو الوضعية إلا لخدمتها وحفظها، وهذه المقاصد هي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فمهما تنوعت الشرائع و القوانين فإنها ترمي بأحكامها إلى المحافظة على هذه المقاصد”. وقريبا من هذا المعنى رأي د/ علي جريشة في رسالته للدكتوراه بصدد حديثه عن قيود حق السلطة في تنظيم المباح؛ حيث يقول: “وهذا التنظيم ليس طليقا من كل قيد بل هو مقيد بالمقاصد العامة للشريعة؛ وهي التي ترسم إطارا عاما يمكن أن يسمى بالنظام العام؛ أو روح الشريعة الإسلامية”(14).
وعلى هذا يمكن أن نستخلص من ضرورية فكرة النظام العام للحياة الاجتماعية المعقدة والمركبة وضع تعريف له نراه وافيا بالغرض:” مجموعة الأسس والقيم والمصالح العامة الضرورية لبقاء المجتمع دون فوضى واضطرابات في دولة معينة”؛ والتي يعبر عنها في كل عصر ومكان بمجموعة القواعد العليا في المنظومة التشريعية لتلك الدولة حسب عقيدتها ومذهبيتها الفكرية والإيديولوجية.
1- أهمية حفظ النظام العام في المجتمع:
لما كان الاجتماع البشري مظنّة النزاع؛ لما جبل عليه الناس من التنافس و التدافع في الطباع بسبب اختلاف الأهواء، الأمر الذي يفرض الحاجة إلى نظام محايد يضع الحدود والضوابط، ويسهر على حفظ السلطة؛ كان الغرض من نصب الإمام هو حفظ النظام، وهذا ما أكّدته النصوص في مجموعها واستقراءات الفروع الفقهية بمجملها بما لا لبس فيه، كالآيات والأحاديث الآمرة بطاعة ولاة الأمر في المنشط والمكره وعدم الخروج المسلح عليهم؛ ولو كان عبدا حبشيا؛ إلا أن يكون كفرا بواحا، فثمرة مقاصد الشريعة من حفظ الكيان الاجتماعي انتظام الفرد في المؤسسة الاجتماعية لتحقيق مقصد حفظ المجتمع(15).
وبلغة الأصوليين فان النظام العام هو علة وسبب قيام التجمعات البشرية وقوتها؛ ومن ثم يكون الحكم على أي مجتمع بالقوة أو الضعف مرهون بمدى التزام الأفراد وتقيدهم بقواعد النظام العام؛ فالمجتمعات القوية هي التي خضع أفرادها لأكبر قدر من القوانين الناظمة للمصالح الضرورية العامة؛ كما أن عدم الإدراك و الوعي بأهمية حفظ النظام العام بحفظ المصالح الضرورية العامة للاجتماع الإنساني؛ يمثل إحدى كبرى مظاهر التخلف الحضاري.
ومما يستدل به الإمام بدر الدين ابن جماعة على أهمية النظام ما نقله عن الطرطوشي في تفسيره لقوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) قيل في معناها: “لولا أن اللَّه تعالى أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف، وينصف المظلوم من ظالمه، لتواثب الناس بعضهم على بعض، ثم امتنّ اللَّه تعالى على عباده بإقامة السلطان لهم بقوله: (وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (16).
وعلى هذا يكون أهم جانب في النظام العام هو الجانب التشريعي الذي يجب أن يكون ملما بمتطلبات المجتمع الفردية والجماعية؛ خصوصا البعد الإنساني منه بحيث يجب أن يكون آخر الجوانب تضحية في سلم أوليات حفظ النظام العام؛ لارتباط غاية نشأة النظام بالبعد الإنساني فيه؛ فقيمة النظام العام وقدرته على البقاء كامنة في مقدار ما يلتزم به الناس من قواعده؛ كما أن عدم اكتراث الأفراد بتلك القوانين الناظمة مخل بوجوده أصلا(17).
2- علاقة حفظ نظام الأمة بتحقيق المصلحة العامة:
لم تحظ فكرة النظام العام وحفظ فاعليته باهتمام وعناية علماء الأصول بالدرجة التي تتبوؤها المنظومة الخماسية لأصول المصالح، وربما يرجع ذلك كما يرى د/ عبد المجيد النجار إلى أنهم كانوا ينتحون في ضبط المقاصد وترتيبها منحى أقرب إلى التركيز على المصالح الفردية استجابة للمنحى الفقهي العام الذي تضخم فيه الفقه الفردي على حساب الفقه الاجتماعي”؛ ولكن من وجهة نظر البعض أن المقاصد الخمسة للشرع من الخلق، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال هي التي يمكن أن يطلق عليها النظام العام في الشريعة الإسلامية، وغاية هذه المقاصد جلب المنافع للناس ودفع المفاسد عنهم وإخلاء العالم من الشرور والآثام(18).
وهنا تجدر الإشارة إلى قضية مهمة جدا، أشار لها غير واحد من المقاصديين المعاصرين وتتعلق بغياب النظرة “المقاصدية الاجتماعية” عند الكثير من المقاصديين والأصوليين، هذه القضية قل من أشار إليها، وهي أن الفقهاء لم يلاحظوا أن الكتاب والسنة حافلان بالخطابات الموجهة إلى الأمة، باعتبارها مكلفا، بينما اعتبروا أن الخطابات الشرعية كلها موجهة للأفراد، حتى ما سموه بالتكاليف الكفائية اعتبروه خطابات أفراد، بينما نلاحظ أن الشريعة اشتملت على نوعين من الخطابات التكليفية، خطابات للأفراد، وخطابات للأمة، والخطابات الموجهة للجماعة وللأمة كثيرة جدّا.
لقد ساهمت هذه النّظرة “العرجاء” للخطابات التكليفية الشرعية إلى اعتبار الشريعة موجهة للأفراد، وبذلك تحول الفقه إلى فقه أفراد، وسيطرت على الفقيه طابع الفردية في النّظرة للأمور، ولم تسلم من هذا حتى المقاصد التي صاغها العلماء قديما، وهذا بالطبع يأتي على حساب المقاصد التي تهم الأمة؛ إلا أنه بِتنا نسمع كما يقول د/عبد المجيد النجار ود/الريسوني مؤخرا عن محاولات تجديدية مهمة لتوسيع دائرة المقاصد، حتى تشمل باقي المجالات التي هي من الأهمية بمكان، والتي تهم بالدرجة الأولى مقاصد المجتمع والأمة الإسلامية بصفة عامة. وربما كان الأصوليون القدامى ينتحون في ضبط المقاصد وترتيبها منحى أقرب إلى التركيز على المصالح الفردية؛ استجابة للمنحى الفقهي العام الذي تضخم فيه الفقه الفردي على حساب الفقه الاجتماعي، ولو استعرضنا الضروريات الخمس لوجدناها بنيت على الفردية… فليس من بينها مقصد اجتماعي مباشر صريح.
ولقد أجمعت كلمة المقاصديين قديما وحديثا على أن المقصد العام من الإسلام وشريعته يدور حول الإنسان جلبا لمصلحته ودرءًا لمفسدته وإن اختلفت التعابير أحيانا؛ وذلك بحكم كون الإنسان هو المسؤول عن تحقيق مقاصد الدين الثلاث: العبادة والخلافة والعمارة .
ومع ذلك لم تتجه نظرة الفقهاء إلى قضايا الأمة ومن ثم تعطل التنظير والتقعيد في مجال البناء التنظيمي للمجتمع الإسلامي، وهذا ما يظهر جليا في عدم ملاحظة مقاصد الشريعة في كثير من مجالات الفقه(19)، ولم يسلم من ذلك حتى شيخ المقاصديين الإمام الشاطبي، عندما قعّد لحفظ الضرورات الخمس على أساس فردي، لا على أساس ما تحفظ به الأمة كاملة؛ فجميع مقاصد الشريعة لديه فردية(20)؛ وإهمال ما له علاقة بالشأن العام الذي هو كيان الأمة ونظام الدولة يوحي أن هناك مقاصد للشريعة في مجال الأمة مستقلة عن المقاصد الشرعية بالنسبة إلى باقي المجالات مع ضرورة الإقرار بوجود التداخل والتكامل بين هذه المجالات؛ وهو الأمر الذي يدفع إلى تبني مقاصد جديدة أو على الأقل تفعيلها.
فمدار الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد؛ ويدخل في ذلك عدد لا ينحصر من أصول المصالح التي يُؤمر بتحصيلها ومن أمهات المفاسد التي يُنهى عن إتيانها؛ مما تؤدي في النهاية إلى تحقيق غاية مصلحية عليا هي المقصود من إنزال الوحي وتطبيق الشريعة وتكليف الناس بها وهي “عمارة الأرض، بحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها؛ بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة”. عبادته في الأرض واستخلافه في الأرض وعمارة في الأرض وقد برزت حاجة الفقه السياسي الإسلامي لنظرية المقاصد الشرعية لاستحداث أحكام شرعية تتناول الواقع المستجد فضلا عن التأسيس لمشروعية الأخذ الانتقائي من المؤسسات النظامية للحضارة الغربية، وقد بالغ الفقهاء كثيراً في دور المقاصد وأهميتها حيث يكاد كل من يتكلم في المقاصد، يركز على أنها مفتاح التنمية الاجتماعية والسياسية.
المطلب الثاني: أبعاد حفظ النظام العام وموقف الفكر المقاصدي منه
انطلاقا من البعد الإنساني في ظهور فكرة النظام العام فانه يجب أن تكون الحرية والكرامة الإنسانية والمساواة أعلى وأسمى قواعد حفظ النظام العام؛ حيث يجب أن تكون قواعد النظام في أي مجتمع ناظرة لكل شرائح المجتمع نظرة واحدة بلا تمييز ولا اهانة؛ وإلا كان النظام حاملا لبذور فنائه عاجلا أم آجلا.
إن احترام الإنسان للنظام العام مرهون بمدى ما يوفره ذلك النظام للإنسان من خدمات ومصالح عامة؛ وبقدر ما يحس أن هذا النظام محافظ على إنسانيته بقدر ما سيدافع عنه ويزداد تمسكه به؛ ومن ثم فان الشعور باللامبالاة وعدم الاكتراث بالنظام العام سببه غالبا عدم تأمين ذلك النظام للمصالح والخدمات الأساسية؛ ومتى كان النظام مستهينا بكرامة الإنسان فانه سيتحول إلى عدو حقيقي له قد يتسبب في حدوث ردة فعل طبيعية وهي مقاومة الجهات التي تقف وراء النظام؛ وهنا مكمن الخطر حيث يحصل الإخلال بالنظام وينتشر الفساد وتعم الفوضى ويختل نظام الحياة.
وعلى هذا يتقرر وجوب إقامة الدولة لدفع الفوضى وتجنب سفك الدماء ومنع التظالم وحسم الاعتداء على الأموال والأعراض ولإقامة عدل الشريعة المطلق وصون الأمة أفرادا وجماعات، ولاشك أن ذلك ينبئ عن مستوى حضاري إنساني قوامه الحرية والعدل والحق والفضيلة والنظام والمصلحة الإنسانية العليا(21). فالحاكم هو المقيم للنظام العام وهو وان كان جائرا إلا أن ضرورة إيجاده أولى من حياة الفتنة الهرجية والمرجية؛ فلا توجد فرقة ولا ملة عاشوا وبقوا بلا قائم أو رئيس يقاتلون به عدوهم ويقيمون به مصالحهم ويمنع التظالم فيما بينهم(22).
ولهذا فلا غرابة أن يعتبر بعض أئمة الفقه السياسي كالجرجاني إقامة الدولة من أعظم مقاصد الدين فيقول “نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين”، ومن الأقوال البالغة للإمام الماوردي في التعبير عن حقيقة مقاصدية حفظ النظام العام كوسيلة لحراسة الدين “لما في السلطان من حراسة الدين والذب عنه ودفع الأهواء منه؛ وحراسة التبديل فيه وزجر من شذ عنه بارتداد؛ أو بغي فيه بعناد أو سعى فيه بفساد وهذه أمور إن لم تنحسم عن الدين بسلطان قوي؛ ورعاية وافية؛ أسرع فيه تبديل ذوي الأهواء؛ وتحريف ذوي الآراء؛ فليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه وطمست أعلامه؛ وكان لكل زعيم فيه بدعة؛ ولكل عصر في وهيه أثر؛ كما إن السلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب حتى يرى أهله الطاعة فيه فرضا والناصر عليه حتما؛ لم يكن للسلطان لبث ولا لأيامه صفو؛ وكان سلطان قهر ومفسد دهر”. قال الماوردي: وعقدها -الإمامة- لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وهو إجماع الصحابة والتابعين.فقد قال أبو بكر رضي الله عنه في اجتماع السقيفة: “لا بد لهذا الأمر من قائم؛ فانظروا؛ وهاتوا آراءكم” فلما لم ينكر عليه هذا القول كان إجماعا قطعيا، إذ لولا الولاة لكانوا فوضى مهملين؛ وهمجا مضاعين؛ على حد قول الإمام الماوردي(23).
وهو الأمر الذي يجليه الإمام الايـجى(24) بقوله: “فإنهم – الأفراد- مع اختلاف الأهواء و تشتت الآراء و ما بينهم من الشحناء قلما ينقاد بعضهم لبعض فيقضى ذلك إلى التنازع والتواثب، بل ربما أدى إلى هلاكهم جميعا، وتشهد له التجربة والفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب أخر بحيث لو تمادى لعطلت المعايش، وصار كل احد مشغولا بحفظ نفسه و ماله تحت قائم سيفه، وذلك يؤدي إلى رفع الدين وهلاك جميع المسلمين”.
وترتيبا على ذلك فإن الشريعة لم تغفل ضرورة التوسل بالوازع السلطاني، أو هيبة السلطان وقوته من أجل فرض الأمن والسلم و النظام، فإن اللَّه “ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”(25). قال تعالى في هذا الباب: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) والظلم واجب رفعه ودفعه وتلك وظيفة السلطة العامة وقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (26). للإشارة على أهمية استخدام القوة والإكراه في إقامة القسط.
1- قاعدة النظام العام في مصادر التشريع الإسلامي:
على الرغم من انتشار الاستدلال بقاعدة “حفظ النظام” في أكثر من مجال وتلقّي العلماء لها بالقبول والإذعان تلقّي المسلمات والبديهيات من غير برهان، لدرجة يمكن معها اعتبار النظام العام أساس المقاصد؛ أو أصل المقاصد والعلل الغائية كلها؛ وليس مجرد مقصد هام وأساسي من مقاصد الإسلام فحسب؛ رغم كل ذلك إلا أن العلماء لم يخصّوا هذا الموضوع ببحث مستقل يتحدّثون فيه عن مدلول هذه القاعدة وأدلّتها وفروعها ونطاق تطبيقها(27).
وقد أكد ابن خلدون، على أن الإمامة أو الخلافة من القضايا المعقولة ولم تثبت تعيينا بنص شرعي؛ وإذا ما كان نصب الإمام واجباً شرعياً بالإجماع، فإن هذا الإجماع حصل بناءً على حاجة عقلية ولم يكن مبنياً على نص شرعي: “ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم؛ وكذا في كل عصر من بعد ذلك؛ ولم تترك الناس فوضى في عصر من العصور(28). واستقرار ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام. وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه قالوا وإنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض”(29).
وعلى هذا يمكن تقرير الاستقراء الذي نقله ابن عاشور حيث يقول: “أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرفاتها بأن مقصدها أن يكون للأمة ولاة يسوسون مصالحها ويقيمون العدل فيها وينفذون أحكام الشريعة بينها ولهذا تعين إقامة ولاة لأمورها وإقامة قوة تعين أولئك الولاة على تنفيذها”(30).
ومن الإشارات التي يمكن اعتبار حفظ النظام مقصداً من مقاصد الشَّرِيعة المعتبرة بطريقة غير صريحة ما صرح به الإمام العز بن عبد السلام عندما مثَّل لأنواع المصالح باعتبار قوتها من حيث القطع، والظَّن، والوهم؛ فقد أشار إلى الأمن والخوف؛ دون أن يبين تحت أي نوع تندرج فقال: “وأما مصالح الدنيا، ومفاسدها؛ فتنقسم إلى مقطوع، ومظنون، وموهوم ثم ذكر أمثلة منها، الخوف والأمن(31). لقد ذكر الإمام العز الأمن على سبيل التمثيل لأنواع المصالح حسب قوتها، ولا يتوقَّع أن تكون هذه المصلحة إلاَّ من المصالح المقطوع بها، إذ يستَبعد أن يدرجها الإمام العز مثالاً على المصالح المظنونة أو الموهومة؛ فقد تبين مما سبق على وجه القطع أن الأمن مقصد معتبر بالأدلة المتضافرة في الكتاب والسنَّة(32).
مما سبق يلاحظ أن الفقهاء قد اعتبروا حفظ نظام الأمة مقصدا مسلما للشريعة على مستوى الجماعة، دون ان يصرحوا بذلك؛ بل أنهم أعطوه الأولوية في الرعاية والتقديم في اجتهاداتهم، فبحكم ما أفرزه التاريخ الإسلامي من حركات الخروج المسلح على السلطة التي منيت بها الأمة؛ قرر فقهاء عصرهم قاعدة من اشتدت وطئته وجبت طاعته؛ وأن الجمعة مع من غلب للإشارة إلى أهمية الشوكة في حفظ نظام الأمة؛ وقد عبر الإمام أبو حامد الغزالي عن هذا المعنى بوضع مسألة سياسية فرضية تتلخص في أن حاكما وصل إلى قمة السلطة بالشوكة والغلبة ولـم يكن أهلا لتولى منصب الخلافة، فما الحكم في هذه الحالة؟ أيطاع أم تثور عليه الأمة فتخلعه ؟ فيجيب عن هذه المسألة بقوله: “الذي نراه ونقطع به أنه يجب خلعه، إن قدر على أن يستبدل به من هو موصوف بجميع الشروط، من غير إثارة فتنة وتهييج قتال- قلت وذلك عين مسمى حفظ النظام-، وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامته لأن في تقليد غيره تهييج لفتنة لا ندري عاقبتها وربما يـؤدي ذلك إلى هـلاك النفوس و الأموال…” (33).
ومن ثم فهو يمنع فتنة الخروج على السلطة سدا لذريعة حفظ ضروريات الحياة. ومن ثم فإن المحافظة على الكليات الخمسة ما هي إلا جزئيات تتكامل معاً لإرساء مظاهر النظام العام، فمكونات حفظ النظام تتجلى في حفظ الدين، والنَّفس، والعقل،والنَّسل، والمال على المستويين الفردي، والجماعي
3- الإمام الطاهر بن عاشور ومقصد حفظ نظام الأمة:
من الإضافات التي تنسب إلى ابن عاشور عنايته الفائقة بمصالح الأمة والمقاصد الجماعية والمقاصد العامة. فبينما نجد العلماء السابقين عليه، كالغزالي والشاطبي وغيرهما، قد غيبوا فقه الأمة ومقاصد الأمة، إلا أن ابن عاشور، كلما صنف أو كتب شيئا من المقاصد والمصالح والمفاسد، كان اعتبار الأمة ماثلاً ومعيارًا معتمدًا عنده. فحتى حينما أراد تعريف التحسينيات التي هي ألصق شيء بالأفراد وأذواقهم، عرفها بأنها هي المصالح التي تكون بها الأمة ذات منظر وبهجة، تنجذب إليها الأمم والشعوب الأخرى وتحترمها، وتهفو إليها نفوس الناس(34).
ولا شك أن التركيز على مقاصد الشريعة على مستوى الأمة هو الأعلى والأولى باعتبار المقاصد التي تتحقق بحفظه، وهو ما يجب أن يأخذ مكانته اللائقة المستحقة في الاجتهاد المقاصدي؛ فقد لاحظ ابن عاشور أن مصالح الأفراد أخذت كامل العناية والرعاية من الفقهاء والأصوليين والمقاصديين، بخلاف الأمة ومصالحها ومقاصدها، فهي ضامرة عند عامة علمائنا المتقدمين، هذا مع العلم أن المصالح الفردية لا تفضي بالضرورة إلى تحقيق مصالح الأمة إلا بشكل محدود، ولكن مصالح الأمة تفضي بالضرورة إلى مصالح الأفراد، فهي داخلة فيها(35).
ومن هنا يمكن أن نعتبر هذا الفقيه والمفكر المقاصدي المعاصر أول المنظرين – في حدود ما توفر للباحث من مراجع- لفكرة مقاصدية النظام العام في منظومة مقاصد الشريعة على مستوى الدولة بحيث تشكل مقصدا ضروريا في مباحث القانون العام الإسلامي أو فقه الدولة في الشريعة الإسلامية، وهذا ما يستفاد من استقرار ما كتبه في مقاصده؛ وفي أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وحول هذا المعنى يقول فضيلته: “استقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد”؛ ويقول أيضا: “إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقرة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه؛ وهو نوع الإنسان”… ثم يقول بعد استعراض ستة عشرة آية من القرآن: “ومن عموم هذه الأدلة حصل لنا اليقين بأن الشريعة متطلبة لجلب المصالح ودرأ المفاسد معتبرا ذلك قاعدة كلية ومقصدا أعظما(36).
ويرى أيضا أن أهم مقصد للشريعة من التشريع هو: انتظام أمر الأمة وجلب المصالح إليها ودفع الضرر والفساد عنها، وقد استشعر الفقهاء في الدين كلهم هذا المعنى في خصوص صلاح الأفراد، ولم يتطرقوا إلى بيانه وإثباته في صلاح المجموع العام؛ ولكنهم لا ينكر احد منهم انه إذا كان صلاح حال الأفراد وانتظام أمورهم مقصد الشريعة؛ فان صلاح المجموع وانتظام أمر الجامعة أسمى وأعظم… وهل يقصد إصلاح البعض إلا لإصلاح الكل.
ولذلك نجده يذكر الفقهاء بضرورة رعاية مقصد الشريعة من نظام الأمة حتى تكون قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال وفي هذا يقول: “إننا بحاجة إلى علماء أهل نظر سديد في فقه الشريعة وتمكن من معرفة مقاصدها ؛ وخبرة بمواضع الحاجة في الأمة ومقدرة على إمدادها بالمعالجة الشرعية- العقلية المقاصدية- لاستبقاء عظمتها واسترفاء خروقها ووضع الهناء بمواضع النقب من أديمها“(37).
ثم يقول: “وذلك بأن نتخيل الأمة الإسلامية في صورة الفرد الواحد من المسلمين فنعرض أحوالها على الأحكام الشرعية كما تعرض أحوال الفرد”، ويذكر لذلك مثالا يجب الانتباه له عند النظر في الأحوال العامة الاجتماعية للأمة يتمثل في باب الرخصة الشرعية فيذكر إن “الفقهاء إنما فرضوا الرخص في خصوص أحوال الأفراد ؛ ولم يعرجوا على إن مجموع الأمة قد تعتريه مشاق اجتماعية تجعله بحاجة إلى الرخصة كما هو الحال في القول بسد الذرائع ورعي المصالح المرسلة في تعلقها بمجموع الأمة”(38). ثم نجده يعطي أمثلة تطبيقات عن إغفال مراعاة المقاصد الضرورية على مستوى الأمة فيقول: “إن حفظ هذه الكليات معناه حفظها بالنِّسبة لآحاد الأمة، وبالنِّسبة لعموم الأمة بالأولى، فحفظ الدين معناه: حفظ دين كل أحد من المسلمين أن يدخَل عليه ما يفسد اعتقاده وعمله اللاحق بالدين، وحفظ الدين بالنِّسبة لعموم الأمة هو دفْع كل ما من شأنه أن ينقص أصول الدين القطعية؛ ويدخل في ذلك حماية البيضة، والذب عن الحوزة الإِسلاَمِية بإبقاء وسائل تلقيِّ الدين من الأمة حاضرها وآتيها”(39).
وقد خصص رحمة الله عليه كتابا مستقلا لأصول النظام الاجتماعي في الإسلام تحدث فيه بإسهاب عن أصول الإصلاح الاجتماعي؛ حيث أكد على أهمية مقصد حفظ نظام الأمة وأن “مراد الله في الأديان كلها؛ منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد؛ وهو حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله”(40)؛ وبيَّن فضيلته أن أصول نظام سياسة الأمة تقوم على أساس فنين أصليين: فن القوانين الضابطة لتصرفات الناس في معاملاتهم؛ والفن الثاني؛ فن القوانين التي بها رعاية الأمة في مرابع الكمال؛ والذود عنها أسباب الاختلال(41).
يقول د/عبد المجيد النجار(42) مثمنا لنظرة ابن عاشور المقاصدية إلى فكرة النظام العام: “أنها جماع مقاصد الشريعة؛ بل أنها المقصد العام الجامع لكل التكاليف الشرعية؛ والذي ينحل إلى مقاصد كلية تؤدي إليه؛ درج العلماء إلى تقسيمها إلى ثلاثة أنواع: ضرورية لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ وحاجية يفتقر في التوسعة ورفع الضيق؛ وتحسينية يلزم الأخذ بها من باب محاسن العادات؛ وتنحل هذه المقاصد الكلية المتفرعة عن المقصد العام بدورها إلى مقاصد جزئية وفرعية وهي المعروفة بعلل الأحكام التي تنتهي كلها إلى تحقيق المقصد العام كما حدده الإمام الطاهر بن عاشور”.
4- الإمام علال الفاسي ومقصد حفظ نظام الأمة
لقد أولى الإمام علال الفاسي بدوره للمسألة الاجتماعية أهمية كبيرة في تفكيره وتنظيره، فكان مما قرره في هذا الصدد أن المقصد العام للشريعة الإسلامية هو “عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها وصلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع(43)؛ وذلك إنما يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد على حسب ما يتحقق به معنى المصلحة والمفسدة”؛ وهو في ذلك يسير على خطى الإمام ابن عاشور في تقرير مقاصدية النظام العام.
وبهذا يكون علال الفاسي من المقاصديين القلائل الذي تنبهوا لضرورة توسيع دائرة المقاصد لتشمل مقاصد المجتمع التي هي من الأهمية بمكان، فكان مما قرره على الدولة أن تقاوم كل تطاحن قد يؤدي إلى القتل داخل المجتمع، وتقضي على أسباب الفتنة والاضطراب فكان من بين الأمثلة التي ذكرها؛ مما يدخل في باب الأمن وحفظ النظام قوله: “على الدولة أن تقاوم كل الأوبئة الاجتماعية التي تفتك بحياة الإنسان، وبصحّته وبسلالته، وفساد نسله”.
وبذلك يكون كل من ابن عاشور والفاسي قد جعل من فكرة المصالح والمفاسد التي هي عين مقاصد الشريعة على مستوى الإفراد؛ مجرد وسيلة خادمة لتحقيق مقاصد سامية وعليا تبرز في عمارة الأرض وحفظ نظام الأمة فيها بصلاح المستخلفين عليها(44).
في حين صرح د/جمال الدين عطية باعتبار حفظ الأمن من مقاصد الشَّرِيعة العامة التي تختص بالأمة، وقد دعا إلى إعادة النَّظر في تصنيف مقاصد الشَّرِيعة الإِسلاَمِية، والانتقال بها من الكليات الخمس إلى المجالات الأربعة؛ وهي: مجال الفرد، ومجال الأسرة، ومجال الأمة، ومجال الإنسانية؛ وأدرج تحت كلِّ مجال من هذه المجالات المقاصد الملتصقة به والذي يهمنا منها المجال الثالث الذي خصصه لمقاصد الشريعة على مستوى الأمة؛ وسجل المقاصد الشرعية التي تدخل ضمنه على الترتيب، أولا: التنظيم المؤسسي لشؤون الأمة، أي: الشؤون العامة للأمة تصبح منظمة وداخل مؤسسات. ثانيا: مقصد الأمن. ثالثا: مقصد العدل. ثم مقصد حفظ الدين والخلق.ثم التعاون والتضامن والتكافل. ثم نشر العلم وحفظ عقول الأمة. ولِمَ حفظ العقل للأفراد الذي هو مقصد فردي؟ ولكنه قال: حفظ العقل للأمة. ثم في الأخير جعل عمارة الأرض وحفظ ثروة الأمة. أي من مقاصد الشريعة على صعيد الأمة: حفظ ثروتها وعمارة الأرض التي يقيم بها المسلمون(45).
فقد جعل فضيلته حفظ النظام والأمن في الرتبة الثانية مما يختص بمجال الأمة وقدم عليه التنظيم المؤسسي لها. وهذا التصنيف الذي اختاره جمال الدين عطية له من الوجاهة والاعتبار ما يدفع إلى التَّسليم به واختياره منهجاً لتصنيف المقاصد في مجالاتها التي ذكر، ولكن كان من الأجدر أن يكون مقصد حفظ الأمن مقدماً على التَّنظيم المؤسسي للأمة؛ ومن حقه أن يكون كذلك فلا يستقيم أمر الأمة فضلاً عن الدولة، ولن تقوم المؤسسات الرسمية أو الأهلية، ولا يهنأ الناس بالعيش في ظل انعدام الأمن وسيادة الفوضى؛ “فَالأمن والعافية قاعدتا النِّعم كلِّها” كما عبر عن ذلك الإمام الجويني(46).
لقد أبانت كتابات ابن عاشور والفاسي وعطية أن هنالك مقاصد كلية خاصة بمصالح الأمة وعلى رأسها الحرية والمساواة والعدل وحفظ نظام الأمة وتحقيق وحدتها.
وقد استدل البعض في تأصيل أولوية حفظ نظام الأمة على باقي المصالح الضرورية الأخرى بما في ذلك حفظ الدين بقصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل في القرآن الكريم؛ حين ذهب إلى موعده مع ربه؛ وفي هذه الغيبة فتنهم السامري بعجله الذهبي؛ حتى عبده القوم؛_ ونصحهم أخوه هارون؛ فلم ينتصحوا؛ وقالوا: (لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى)(47)؛ وبعد رجوع موسى ورؤيته لهذا المنكر البشع من عبادة العجل؛ اشتد على أخيه في الإنكار؛ وأخذ بلحيته يجره إليه من شدة الغضب لله: (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (48).
يقول الإمام ابن عاشور في التحرير والتنوير عند تفسيره لهذه الآية من سورة طه “وإنما اعتذر هارون عن بقائه بين القوم رغم شركهم بالله بقوله: (إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ)، ظنا منه أن الفرقة واقعة لا محالة؛ ولذلك خشي من أنه إذا أظهر غضبه عليهم؛ فانه سيتبعه طائفة من الثابتين على الإيمان؛ ويخالفهم الجمهور منهم؛ فيقع انشقاق بين القوم وربما اقتتلوا. وفي ذلك فتنة يجب درؤها في ميزان العقلاء من أهل السياسة الحكيمة التي ترى العبرة في مشروعيتها بنتائجها. فرأى “عليه السلام” أنه من المصلحة، أن يظهر الرضا عن فعلهم؛ ليهدأ الجمهور ويصبر المؤمنون اقتداء بهارون عليه السلام؛ كنوع من السلوك السياسي تحقيقا لحقيقة الإصلاح- والانتظام- في وصية موسى له: (وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)؛ وهذا اجتهاد منه في سياسة الأمة إذا تعارضت عنده مصلحتان مصلحة حفظ العقيدة؛ ومصلحة حفظ الجامعة من الهرج؛ وفي أثنائها حفظ الأنفس والأموال والأخوة بين الأمة؛ فرجح الثانية(49). أي أولوية حفظ الجامعة من الانشقاق والفوضى والتهارج على مصلحة حفظ الدين لأنه مستدرك بعودة موسى من ميقات ربه؛ وإنما رجحها كما يقول ابن عاشور لأنه رآها أدوم؛ فإن مصلحة حفظ العقيدة يستدرك فواتها الوقتي برجوع موسى؛ وإبطاله عبادة العجل؛ بخلاف مصلحة حفظ الأنفس والأموال واجتماع الكلمة إذا انثلمت عسر تداركها.
ويقول د/ القرضاوي مفسرا لهذه الآية ” ومعنى هذا أن هارون قدم الحفاظ على وحدة الجماعة في غيبة أخيه الأكبر؛ حتى يحضر؛ ويتفاهما معا كيف يواجهان الموقف الخطير بما يتطلبه من حزم وحكمة(50). ولهذا كان من الأصول المقررة في الشريعة أن لا يؤدي تغيير المنكر إلى ما هو أكبر منه. وترتيبا على ذلك قرر العلماء مشروعية السكوت على المنكر مخافة مما هو أنكر منه وأعظم؛ ارتكابا لأخف الضررين؛ واحتمالا لأهون الشرين؛ ومن هذا القبيل يمكن إدراج ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: “لولا أن قومك حديثو عهد بشرك؛ لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم”(51). ويرى الريسوني أن القرآن الكريم لم يخطّئ هارون في اجتهاده وسياسته، ولا موسى في غضبه واحتجاجه عليه ولومه على اعتبار أن كلا منهما قد فعل ما كان ضروريا في حقه، فهارون حافظ على قومه وجماعته من الاقتتال وتعميق الفرقة والعداوة، بنوع من المهادنة المؤقتة لأهل الباطل “عبدة العجل”، وموسى غضب واحتج وواجه المبطلين، غيرة على الدين وذبا عن التوحيد، تصحيحا وتثبيتا للمبادئ والأصول، خاصة أنه كان الأعلى مكانة والأنفذ كلمة في قومه؛ ومن ثم يرى د/ الريسوني انه لا حاجة بنا إلى ما ذهب إليه الشيخ الجليل- ابن عاشور- وغيره من المفاضلة والترجيح بين الموقفين لأن كلا منهما جاء في وقته وأدى وظيفته، فلولا سياسة هارون لما وجد موسى من يغضب عليه؛ ويحتج ولا ما يستدرك، ولولا سياسة موسى لما أبقى السامري أحدا يعبد الله مع هارون(52).
مما سبق تقرر أن النظام العام قاعدة مقصدية لا غبار عليها تأصيلا وتطبيقا باعتبارها عنصرا رئيسا من عناصر المصلحة العامة المعتبرة شرعا ولكن الإشكال حول محل ترتيب مقصد حفظ نظام الأمة بعد أن ثبت باستقراء تطبيقاته أنها مقصد ضروري على نحو ما قرره الإمام ابن عاشور(53).
وهو ما يدفع إلى البحث عن قيمة ورتبة مقصد حفظ النظام العام ضمن مقاصد الشريعة وتصنيفاتها ؛ حتى يمكن معه توظيفه في الترجيح عند التعارض والتزاحم على نحو ما استدل به الامام الطاهر بن عاشور ود/ القرضاوي ود/ الريسوني في المثال المتقدم.
المبحث الثاني: رتبة مقصد حفظ النظام وتطبيقاته في الاجتهاد المقاصدي
رغم محورية قاعدة الاستدلال بحفظ النظام ودورها الهام في تحديد موارد الاستدلال بها ومركزيتها في منظومة الفقه الإسلامي وأصوله ومقاصده؛ إلا أنها لم تشغل بال الفقهاء وعلماء الأصول والمقاصد كما شغلتهم سائر القواعد الفقهية والأصولية والمقاصدية ـ من حيث تأصيلها ومجالات استثمارها وبيان مستندها ومنـزلتها ضمن المقاصد المعروفة.
فلا يوجد لفقهاء المقاصد – حسب المراجع المتوفرة- بحوثا متخصصة ودراسات مباشرة حول مدى اعتبار حفظ النظام مقصداً مستقلاً من مقاصد الشَّرِيعة وأحد غاياتها الكبرى، سوى إشارات لا تتناسب والأهمية المقررة لهذا المقصد الذي لا تستغني عنه الدول فضلاً عن الأفراد والأسر، ولعل ذلك اعتمادا منهم على وجود مضمونه في الشريعة الإسلامية ومقاصدها العامة كوصف عام لها؛ ذلك أن الأوامر والنواهي في الخطاب الشرعي متجهة كلها إلى اكتساب المصالح أو الوسائل المفضية إليها؛ والى درأ المفاسد أو الوسائل المؤدية إلى درئها، فهذه الشريعة لم تأت عبثا ولمجرد إدخال الناس في الدين؛ وإنما جاءت لرعاية مصالح العباد الدنيوية والأخروية أفرادا وجماعات؛ فالشريعة جاءت لإخراج الناس من أهوائهم إلى مراد الشارع؛ رأفة بهم؛ وتفضلا عليهم؛ ولحفظ النظام العام؛ أو المجتمع من النخر والانهيار(54).
ومن ثم يرى الفكر المقاصدي المعاصر أن حفظ النظام مقصد معتبر من مقاصد الشَّرِيعة الإِسلاَمِية على مستوى الأمة؛ يجب أن يأخذ مكانته في مصادر التشريع كقاعدة مقاصدية ضمن مقاصد الشريعة العامة التي تختص بالأمة وتظهر سماته في كليات الشَّرِيعة المسماة بالضروريات الخمس في متعلقاتها الفردية والجماعية(55)، وله تطبيقات في مختلف العلوم الشرعية.
المطلب الأول: رتبة النظام العام ضمن منظومة مقاصد الشريعة
مما سبق تقريره وترتيبا عليه يرى الباحث أن حفظ نظام الأمة يحتل عدة أوجه من حيث تصنيفه داخل منظومة مقاصد التشريع الإسلامي؛ فهو إما يدور ما بين كونه وصفا عاما للشريعة باعتباره منهاجا ونظاما متناسقا في أحكامه ومنسجما مع واقع الإنسان وحاجاته؛ حيث يتفق الفقه المقاصدي على أن أوصاف الشريعة كالفطرة والسماحة والحرية والعدل والنظام مقاصد عامة للشارع؛ كما تجلي في كثير من تعاريف المعاصرين للمقاصد الشريعة ابتداء بابن عاشور ومرورا بالريسوني وانتهاء بالخادمي الذي يقول في تعريفها: “هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية؛ والمترتبة عليها؛ سواء أكانت تلك المعاني حكما جزئيًا أم مصالح كلية أم سمات إجمالية؛ وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين”(56).
وإما يدور بين كونه له حكم الوسيلة المؤدية لحفظ الدين والنفس وباقي المصالح الضرورية الأخرى؛ فهو شامل لجميع الضروريات الخمس؛ ومن ثم يأخذ حكمها؛ في التقديم والأولوية والأفضلية؛ وفي الديمومة والبقاء.
كما يمكن تكييفه على انه مقصد مستقل بذاته يحتل المرتبة الأولى في الضروريات على مستوى الأمة؛ بحيث يمثل جوهرا للسياسة الشرعية الذي يجب أن تدور معه حفظا وإبقاء؛ وهو ما يميل إليه الباحث؛ في ظل تزايد الكثافة السكانية واتساع المدن وتعقيد الحياة السياسية؛ بما يحفظ الأمن العمومي؛ ويوفر الحياة المنتظمة والمتساوية لجميع الأفراد؛ خاصة أيام الفتن والظروف الاستثنائية رغم ما في هذا الترجيح من مخاطر على ممارسة الحريات العامة.
إن الباحث من منطلق أهمية حفظ النظام العام وشموليته لعناصر المنظومة المقاصدية يرى وجوب تقديم حفظ نظام الأمة على باقي المصالح الضرورية على مستوى مقاصد الدولة متى كانت الدولة في إطار الشريعة ومبادئها السامية؛ فبقاء الدولة واستقرارها أمر لا يجب أن يقارن بمخاطر غير مقصودة قد تلحق بالأفراد؛ نتيجة سوء التقدير البشري الذي قد يعترض الشخص الممارس للسلطة؛ ولا يعني هذا تبرير جميع تدابير الضبط في مجال حفظ نظام الأمة؛ وإنما افتراض مشروعية هذه التدابير ابتداء إلى أن يقرر القضاء العادل خطأ السلطة النظامية وعندها تنعقد مسؤوليتها فضلا عن عدم مشروعية تصرفها عملا بالقاعدة “كل ما ليس عليه أمرنا فهو رد”؛ التي تجد أصلها في الحديث المتفق عليه الذي روته السيدة عائشة -رضي الله عنها- “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”(57).
وهناك رأي مغاير(58) يعتبر أن هذا المقصد يَرِد في آخر مرتبة من مراتب المصالح الضرورية وقد عبر أنه بـ “أصل الإمامة” وهو ما يتعلق بالنظام السياسي الذي يعتبر لازما لحراسة الدين و سياسة الدنيا بإجمال؛ على أساس أن هذا الأصل يقع في منـزلة ما يقصد لغيره بمعنى أنه وسيلة لمقاصد أخرى والوسيلة أخفض منـزلة من المقاصد، يقول العز بن عبد السلام(59) وغيره من علماء المقاصد والفروق “فالمقاصد هي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها؛ والوسائل هي الطرق المفضية إليها؛ والوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل؛ والوسيلة إلى أرذل- أقبح- المقاصد هي أرذل وأقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة، وأنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع في الحكم”.
لكن ثمّة سؤال هام: أيهما أهم في مقصود الشارع عند التعارض والتزاحم، وسائل دفع مفسدة الإخلال بالنظام أم وسائل جلب مصلحة حفظه؛ الأكيد أن تقديم حفظ النظام على سائر الأحكام بما في ذلك تنفيذ بعض الحدود؛ أمر مقرر شرعا لأن قانون باب التعارض والترجيح يقضي بتقديم الأهم على المهم، ولا ريب أن حفظ النظام من أهم الواجبات، فلا يزاحمه حرام إلا صار حلالاً على حدّ تعبير بعض الفقهاء، والوجه في أهميته قد اتضح مما سلف، فإنّ أمراً هدفت النبوات إلى إرسائه وتحقيقه في المجتمع، وشكّل محوراً لكل التشريعات السماوية وغيرها، من الطبيعي أن يكون من الأهمية بمكان لا يوازيه شيء(60).
ولعل الاستشهاد الذي يحضرني في هذه المسألة قضية إسقاط حد الحرابة(61) بالتوبة قبل القبض عليه، بان ألقى المحاربون السلاح وتركوا ما هم عليه من المحاربة وأتوا للخليفة طائعين نادمين تائبين؛ قبل أن يقدر عليهم؛ ففي ذلك إرشاد من الشارع إلى ولاة الأمر أن مقصوده من إسقاط الحد- رغم وجوبه- هو حفظ النظام بوقف مصدر الإخلال والتهديد؛ فمتى توقف بإرادته وتحقق الحفظ دون تدخل الدولة بوسائل القهر والإكراه سقط الحد إرشادا منه إلى أهمية استتباب النظام وعلو مكانته في الاعتبار الشرعي ولو بإسقاط تنفيذ حد الحرابة المتفق عليه؛ فلا يصار إلى إجراءات المتابعة فيها لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
فلا شك أن الحرابة من الجرائم الأكثر مساسا بالنظام العام؛ كونها تشتمل على جرائم قطع الطريق وتخويف المارة وتهديدهم في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم؛ ولذلك تسمى أيضا بالسرقة الكبرى؛ وبجرائم الإرهاب الماسة بأمن الدولة واستقرار الجماعة؛ مما يشكل إخلالاً بالأمن العام، ولهذا اعتبرها الشارع من باب المجاز محاربة لله ورسوله تفخيما وتغليظا لعظم جرمها قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً) (62)؛ فالأكيد كما يقول ابن العربي: “إن الله لا يحارب ولا يغالب ولا يشاق ولا يحاد”؛ وإنما هو مجاز على نحو قوله : (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً)؛ والمعنى فيهما يحاربون عباد الله الآمنين الضعفاء كما في الحديث القدسي: “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب” من باب اللطف بهم؛ والرحمة لهم؛ ومن باب الإكبار لأذيتهم عند الله(63)؛ فقاطع الطريق محارب لله لأن المار أو المسافر معتمد على الله متوكل عليه في تحصيل الأمن والسلامة على النفس والمال والولد؛ فهو الصاحب في السفر كما في دعاء المسافر؛ وكأن الذي يقطع الطريق أمامه؛ محارب لله ومحارب لرسوله باعتباره مكلفًا بتوفير الأمن؛ وحفظ الأنفس والأموال بمقتضى الاستخلاف الإلهي في الأرض(64)؛ قال ابن الهمام وهو على حذف مضاف: “أي يحاربون عباد الله؛ وهو أحسن من تقدير أولياء الله لأن هذا يثبت بالقطع على الكافر الذمي”(65)؛ قلت وربما كان تقدير – يحاربون شريعة الله وتحقيق مقصودها من حفظ النظام- أكثر حسنا، بل إن بعض الفقهاء من ترجم عبارة “الله ورسوله” الواردة في كل آي القرآن وأحاديث السنة بعبارة حق الله أو المصلحة العامة التي هي أساس النظام العام .
ومن الإشكالات التي يطرحها الفكر المقاصدي: هل أنّ وسيلة حفظ النظام محددة وجامدة بالقوانين السماوية؟ فما يُحفظ به النظام يُرجَع به إلى الشارع لأنه قرّر لذلك طرقاً خاصة، كالحدود المقرّرة والعقوبات الخاصة، لا يجوز تعديها أو الإضافة عليها، ولم يترك فراغاً تشريعياً؟ أم أنها تحتوي على منطقة من الفراغ التشريعي تسمح للعقل البشري بالمساهمة فيها وفق مقتضيات المصلحة العامة مما هو متروك لتقديرات العقل المتبصر بالظروف والمحاط بالواقع دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل، وإنما ذلك متروك إلى إمكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر ؟(66).
مبدئيا يمكن تقرير أنه إذا ما ورد نصّ شرعي قطعي الدلالة والثبوت حول وسيلة حفظ النظام بكيفية مخصوصة؛ وطريقة محددة ومتعيّنة كما هي الحال في معظم مسائل الأحوال الشخصية كأحكام النسب والمصاهرة والميراث والحدود وغيرها، فلا مجال حينئذ للتعديل أو التغيير بحجة تغير الزمان والمكان، أمّا إذا لم ينص الشارع على مقررات خاصة لحفظ النظام، كما هي الحال في كيفية الشورى و وطرائق إقامة العدل وتحديد نوع نظام الحكم وشكله وطبيعته؛ فالأمر حينئذ لمقتضيات المصلحة العامة، وكذلك الحال في الموارد التي ملأها التشريع ببعض المقرّرات التدبيرية غير النهائية مما يسمح بتغييرها أو تعديلها وفقاً لمصالح الأمة ومتطلبات المرحلة، كما هي الحال بالنسبة لتحديد مدة حكم الخليفة هل هي محددة بمدة مشروطة كخمس سنوات أو سبع أو أربع أم هي مطلقة لا تنتهي إلا بالوفاة كما كان الحال عليه في التاريخ الإسلامي، فإنّ ذلك ليس تحديداً تعبدياً وإنما هو تدبير اقتضته ظروف تلك المرحلة.
المطلب الثاني: تطبيقات قاعدة حفظ النظام في الاجتهاد المقاصدي:
لما كانت الشريعة كما يقول الإمام علال الفاسي أحكامًا تنطوي على مقاصد؛ ومقاصد تنطوي على أحكام(67). فان لمقصد حفظ النظام أحكام متولدة عنه ؛ قال الريسوني مثمنا ومادحا لهذا القول: “وهذا أحسن تصوير وأوجز تقرير لعلاقة المقاصد بالاجتهاد والاستنباط، فبعبارة هي من جوامع الكَلِمِ في هذا الباب قرر من خلالها الفاسي أن المقاصد تؤخذ من الأحكام، وأن الأحكام تؤخذ من المقاصد؛ بأن ننظر في الأحكام فنستنبط منها المقاصد والغايات، وننظر في المقاصد فنستنبط منها الأحكام والقواعد والوسائل والأوصاف المناسبة لها”(68). ومن هنا يؤكد الامام علال الفاسي حجّية المقاصد فيقول: “وهي في غير ما نص عليه بصراحة تؤخذ من مقاصد الشريعة، التي تنطوي على كل ما يمكن أن يقع من حوادث وأحكام… والمقاصد جزء من المصادر الأساسية للتّشريع الإسلامي، والحكم الذي نأخذه بطريق المصلحة والاستحسان أو غير ذلك من ضروب المآخذ الاجتهادية يعتبر حكما شرعيا، أي خطابا من الله متعلّقا بأفعال المكلّفين لأنّه نتيجة الخطاب الشرعي الذي يتبين من تلك المقاصد التي هي أمارات للأحكام التي أرادها الله”. وقبل معرفة كيفية الاستثمار المقاصدي رأيت أن اخصص عنصرا أراه مهما في التدريب على كيفية تنـزيل مقصد حفظ النظام في الاجتهاد المقاصدي؛ وهو عنصر كيفية الكشف عن مقصد حفظ النظام ومجال تطبيقه وحدوده.
1- نطاق ومجال تطبيق مقصدية قاعدة حفظ النظام:
يظهر مما سبق أن الفقهاء القدامى كانوا يعتبرون حسن حفظ النظام من المدركات القطعية والمقررات العقلية الوجدانية المستغنية عن البرهان مما يجعلها في مصاف القضايا الضرورية التي لا يشكّك أحد في بداهتها ولا يتجشّم عناء الاستدلال عليها، لأن العقل يدرك حُسن حفظ النظام وقبح الإخلال به؛ ولذلك فقد أرسلت إرسال المسلمات، وإطلاق البديهيات؛ وعليه فإذا ثبت اعتبار حفظ النظام العام مقصدا ضروريا من حيث أثره على الحياة فان دليل إثباته مستمد من أدلة إثبات الكليات الخمس التي حكى الشاطبي وغيره الإجماع على رعايتها، فقال: “اتفقت الأمة بل سائر الملل؛ على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس؛ وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري؛ ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين؛ ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه؛ بل علمت ملاءمتها للتشريع بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد”(69). ومن قبله قال الغزالي: “وتحريم تفويت هذه الأصول الخمس والزجر عنها؛ يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل؛ وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، وقد عُلِم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد وأصل معين ، بل بأدلة خارجة عن الحصر”(70).
ومن الآثار التي تدلل على مقاصدية حفظ النظام العام الشرعي مسارعة الصحابة- رضوان الله عليهم- إلى مبايعة أبي بكر الصديق-رضي الله عنه- فقد كان مراعاة لمقصد شرعي ألا وهو حفظ نظام الدولة والحفاظ على هيبتها ووحدتها والعمل على استمرارها والقيام بدورها في الدعوة إلى دين الله.
أ – تطبيقاتها في الفقه الجنائي الاسلامي: ولا شك أن في تشريع الحدود ما يعد دليلا على وجود فكرة النظام العام بكلياته الخمس المعتبرة في استقراء أحكام الشريعة فيما يخص مقاصد الأمة؛ فهي زواجر شرعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر به”؛ مما يجعلها تعزز وتدلل على أن الكليات الخمس مراعى فيها عموم الأمة” ما انتهى إليه الفقهاء من تحديد للأغراض الخمسة حفظ الدين من حد الردة، والنفس من حد القتل والقصاص، والعقل من حد الخمر، والعرض من حد القذف والزنا، والمال من حد السرقة(71).
وهو ما يسهب في شرحه الإمام الغزالي موضحا أن المجتمع الإسلامي يستهدف تحقيق مقاصد الشرع– حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال – كواجب كفائي منوط بسلطان قاهر يقضي على الفوضى ويحقق ويحفظ النظام(72)، على اعتبار أن تلك القواعد تستهدف حماية الأوضاع والقيم الاجتماعية محل اعتبار الشارع الإسلامي والتي لا يجوز انتهاكها في هذا النظام، ولهذا استأهلت الحماية مباشرة قبل غيرها لأنها الأساس الذي لا غنى عنه لحياة أفراد الجماعة معا في نظر الشرع؛ ولهذا عدت حقا لله أي حقا للمجتمع فهو فوق إرادة المتخاصمين لا يجوز لهما أن يسقطاه بالعفو أو التصالح أو التراضي، فإذا أمن الفرد على دينه و نفسه وسلم له عقله وعرضه وحفظ له ماله فقد جمعت أطراف الأمن كلها(73).
فعنصر التجريم يكشف عن المصالح الجوهرية التي يحميها العقاب الجنائي والتي تعد من أوليات المصالح الأساسية التي يتكون من عموميتها النظام العام، و هو ما تحميه السلطة الإدارية بطريقة وقائية. والحق إن الشريعة نفسها جاءت مقررة لوسائل وآليات تحفظ حدودها من أن تنتهك أو تهمش، والوسائل هنا كما يقرر علماء المقاصد الشرعية مثل الإمام الشاطبي، هي غير المقاصد أو الغايات الشرعية، لأنها مجرّد معين في الوصول إلى تلك المقاصد. وفي ضوء ما تقدّم، تتّضح وجاهة التهديد بالعقاب الوارد في الكتاب والسنّة، فإنّ الغرض من العقاب ليس هو التشفي بالتأكيد؛ لأنه سبحانه لا تضرّه معصية من عصاه كما لا تنفعه طاعة من أطاعه، وليس هو مجرّد حفظ العبد عن الوقوع في المفسدة، بل حفظ النظام أيضاً، ويتفرّع على ذلك أنّ استحقاق العقوبة يكون على المعصية نفسها؛ لا على مقدّماتها كالعزم والإرادة؛ لأنّ مجرد العزم على الظلم دون ارتكابه ليس ظلماً ولا مخلاً بالنظام(74).
بل وحتى العقائد فهي دالة على تحقيق مقصد حفظ النظام، فالإيمان باليوم الآخر وبالعقاب يوم القيامة يشكّل رادعاً أساسياً يحول دون تجاوز القانون والإخلال بالنظام، وبهذا يتبيّن أن علاقة الدين والإيمان بالنظام العام هي علاقة وطيدة وبحاجة ماسة إلى تفعيل دور الدين والإيمان في الحياة العامة؛ لأنه عنصر أمن وضمان لحسن تطبيق القانون وإرساء النظام. (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (75). فالعلاقة بين مبدأ العقاب وحفظ النظام أمرٌ معترف به بين الجميع، نظرا لما في الاعتقاد بالمعاد واليوم الأخر من دور تخويفي دافع إلى حفظ نظام المعاش. وفي هذا الإطار يرى ابن عاشور أن الوازع الديني أقوى سلطاناً على الأمة من الوازع السلطاني، وهذا شاهد متواتر في الاجتماع الإسلامي، ولكن متى ضعف الوازع الديني في زمن أو قوم أو أحوال… هنالك يصار إلى الوازع السلطاني، فيناط التنفيذ بالوازع السلطاني، حيث يقول: و«المهم في نظر الشريعة هو الوازع الديني اختيارياً كان أم جبرياً، ولذلك يجب على ولاة الأمور حراسة الوازع الديني من الإهمال، فإن خيف إهماله أو سوء استعماله وجب عليهم تنفيذه بالوازع السلطاني».
إن الشريعة لم تغفل ضرورة التوسل بالوازع السلطاني، أو قل هيبة السلطان وقوته من أجل فرض الأمن والسلم في الداخل، ويندرج في هذا السياق اتخاذ الحرس والجنود ووكالات الأمن بل يمكن اتخاذ المخابرات المختلفة والجواسيس- فقه التخابر-؛ وفي الإطار نفسه أجاز الفقهاء قتل الجاسوس من المسلمين الذي يتجسس على أسرار الدولة أو عورات المسلمين العامة، فضلاً عن الجواسيس الأعداء ونحوهم؛ وفي الجملة فإن اللَّه «ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»(76). يقول الإمام بدر الدين ابن جماعة في كتابه «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» بأن اتخاذ الأجناد وحماية الثغور من أهم المصالح ومن عزم الأمور، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ) وفي الجملة فإن ابن جماعة يعلل من جملة ما يعلل به وجوب تنصيب الإمام على المسلمين، لحفظ البيضة وإقامة الأمن القومي الإسلامي.
ومن بين الإشكالات التي يطرحها بعض الذين وظفوا نظرية المقاصد بطريقة علمانية مصلحية؛ إشكالية مقاصد الحدود، فمن المقرر في الفقه الجنائي الإسلامي أن الجزاء الجنائي على جرائم الحدود والقصاص هو العقوبة البدنية أي اعتماد على العنف الجسدي المحدد شرعا سواء القطع أو الرجم أو الجلد، لكن تساؤلهم هو هل يمكن استبدال هذه العقوبة بما يتناسب وإنسانية الإنسان وكرامته؛ يرى جانب من الفقه المقاصدي أن ذلك ممكن في جرائم التعزير والتأديب فقط، كاعتماد الغرامة المالية بديلاً عن العقوبة الجسدية، انطلاقا من أن حفظ النظام هو الأساس لنظام العقوبات، ولا دليل على أنّ العقوبة الجسدية هي الطريقة الوحيدة والمتعيّنة في جرائم التعازير، وبالتالي لا مانع شرعا من استبدال العقوبات التعزيرية الجسدية بما يحقق الإصلاح ويحفظ النظام كعقوبة العمل للنفع العام أو الغرامة المالية؛ مما سيساهم في اقتصادية العقوبة على المال العام؛ فليس من مقصود الشارع إيجاد السجون وإكثارها، وإنما مقصوده تحقق ردع الجاني بأي وسيلة- ما لم تكن العقوبة محددة عند الشارع كالرجم أو الجلد أو القتل أو القطع.
ب- تطبيقات حفظ النظام العام في المباحث الأصولية والفقهية:
إنّ الاستدلال بقاعدة حفظ النظام في الأصول والفروع الفقهية شائع على ألسنة علماء الأصول وغالبية الفقهاء، وموارده كثيرة ويحتاج إحصاؤها إلى بحث مستقل، وهي منتشرة على مساحة الأبواب الفقهية، والملحوظ أنّ الاستدلال بمسألة حفظ النظام في المدونات الفقهية أنه ينطلق تارةً من الجانب الإيجابي للقاعدة، بمعنى إثبات حكم ما حفظاً للنظام، وأخرى ينطلق من الجانب السلبي منها، بمعنى نفي حكم ما، دفعاً لاختلال النظام.
2- كيفيات مراعاة قاعدة حفظ النظام العام:
وعليه يمكن التمثيل لكيفية رعاية الشريعة الإسلامية لهذا المقصد، قياسا على كيفية رعايتها للمقاصد الخمس على نحو التقسيم الشاطبي؛ بتقسيم قواعد حفظ النظام إلى قواعد حفظه من ناحية الوجود (قواعد التأسيس)، وقواعد حفظه من ناحية العدم وهي القواعد التي تدرأ الخطر الواقع أو المتوقع ( قواعد استبقاء النظام وإعادة استتبابه)
أ- قواعد حفظ النظام من ناحية الوجود: وهي التي يسميها د/ فوزي خليل(77) قواعد التأسيس، وعلى رأسها قاعدة تكليف الأمة بإقامة أولي الأمر فيها؛ وأداء الواجبات الكفائية العامة المنوطة بأصحاب الولايات العامة ومؤسسات الدولة الدستورية، مما يستوجب معه وضع شروط الصلاحية لهذه الولايات بما يحقق رعاية مصالح الأمة قياما بالواجب على أتم وجه، باعتبارها أمانات ينبغي أن تؤخذ بحقها وتوسد إلى أهلها. ومن هنا يشترط فقهاء السياسة الشرعية في كل ولاية عامة شرطين جوهريين: القوة في كل ولاية بحسبها والأمانة.
ب- قواعد حفظ النظام من ناحية العدم: بتشريع أحكام مقاتلة البغاة وقطاع الطرق؛ ومنع إشعال الفتن وايقاظها؛ وتحريم الخروج المسلح على السلطة إلا إذا أمنت الفتنة وكان هناك كفر بواح؛ وبتشريع الجهاد وإعلانه على المحاربين والمحتلين للأوطان والديار؛ وبوضع آليات لحماية الدستور الإسلامي المنظم للعلاقة بين السلطات وتشريع طرق سلمية للوصول إلى السلطة دون حصول حرب أهلية ولا ثورة شعبية. وتنظيم آلية التداول السلمي على السلطة؛ وتمكين المواطنين من ممارسة حرياتهم.
وعلى هذا فإن حفظ دين الأمة؛ وحماية عقول أبنائها وفكرها من الانحراف والحفاظ على حياة الإنسان ماديا ومعنويا؛ وصيانة الأعراض والحرمات من الانتهاك المؤدي إلى اختلاط النسل، وصيانة الأموال عن الإتلاف أو الضياع في أغراض غير مشروعة، والعمل على تنميتها واستثمارها، هذه جميعاً نعم ومصالح يتم بها بناء الحياة وعمارة الدنيا.
وبهذا يتبين أن حفظ مقاصد الشريعة المتمثلة في أصول المصالح ينتهي إلى تحقيق المقصد المحوري والغاية المصلحية العليا، وهي عمارة الأرض وبعمارة الأرض على هذا النحو تتحقق الغاية النهائية من خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، والمسطورة في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)(78).
ولعل من بين التطبيقات الهامة في الفقه السياسي الإسلامي ضرورة نصب الإمام(79) مهما كانت الأحوال تجنبا للفتن السياسية أو ما يعرف في الفقه الدستوري بالفراغ الدستوري؛ وعلى هذا يتفق أهل الملة باستثناء النجدات من الخوارج- على ما نقله ابن حزم- على وجوب إقامة الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة؛ لأن إقامة هذا النظام سيجعل منه أداة لجلب المصالح الشرعية العامة ودفع المفاسد المنهي عنها، وهذا لا يتحقق إلا في ظل مجتمع سياسي منظم تقوده سلطة قائمة على المنعة والقوة التي تمكنها من حفظ كيان الأمة واستقامة أمرها واستتباب الأمن فيها وإقامة العدل الشامل بين أبنائها صونا للنفوس والأموال والأعراض(80).
وهو الأمر الذي دفع بفقهاء السياسة الشرعية، كالماوردي والجويني وابن خلدون، إلى تجويز “إمارة التغلب” ولو من غير بيعة ولا شرعية، وأحيانا من غير مشروعية لتصرفاته حفاظا على مصلحة عليا هي حفظ نظام الأمة من شرور الفتنة النائمة، وقد برروا ذلك بقيام حالة الضرورة وخوف الفتنة، ولذلك فهم مجمعون على التساهل في أمر العدالة صغراها وكبراها، ويجيزون إمامة الفاسق المتغلب للمصلحة المرسلة؛ وفي ذلك يقول النووي: “الإمام لا ينعزل بالفسق على الصحيح”؛ ويقول الزركشي: “لا تبطل ولاية الإمام الأعظم بالفسق لتعلق المصالح الكلية بولايته، بل تجوز تولية الفاسق ابتداء إذا دعت إليها ضرورة “(81).
وإلى ذلك أيضا يذهب بدر الدين بن جماعة حين يرى أن كل من تصدى للإمامة وليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده، بغير بيعة واستخلاف، كان إماما شرعيا لزمت طاعته، ولا يقدح في إمامته كونه فاسقا أو جاهلا. وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد ثم قام آخر فغلب الأول، انعزل الأول وصار الثاني إماما. وهذا النظام مشابه لظاهرة الانقلابات العسكرية والوثوب على السلطة بالشوكة على قاعدة “الإمامة للمتغلب”، وهو ما له أصل لدى الحنابلة بروايتهم على ما ذكر الفراء في مقدمة أحكامه السلطانية “الجمعة مع من غلب”؛ وكذلك الإمام النووي، يقول:”إذا ثبتت الإمامة بالقهر والغلبة فجاء آخر فقهره انعزل الأول وصار الثاني إماما”(82).
وبذلك يظهر أن الفقهاء والمتكلمين وإنْ أطنبوا في تفصيل شرائط الإمامة وصفات الخليفة، قد ألغوا في المجال الواقعي كل تلك الشروط والصفات عندما أقروا إمامة الغلبة والقهر.
إن استقراء أحداث التاريخ الإسلامي، والفتاوى السياسية للفقهاء، يكشف بوضوح أن أساس الحكم واقع عملي وفكر سياسي، وكان لديهم هو الغلبة والقهر، خوفا من فتنة إذا بويع لإمامين فاقتلوا الثاني منهما” وكان في مقدمة من قال بهذا كل من الماوردي والغزالي والتفتازاني وابن حزم؛ ولعل في هذا ما يعد تأصيلا لأهمية حفظ النظام العام في الشريعة الإسلامية وأولويته في منظومة مقاصد الشريعة.
3- استثمار قاعدة حفظ النظام في الرؤية المقاصدية
مما سبق تقرر أن “حفظ النظام” قاعدة مقاصدية يمكن استثمارها في بناء الكثير من النظم المستجدة في المجالات التنظيمية المتعدّدة، فضلاً عن الاستعانة بها لتبرير وتفسير العديد من الاجتهادات الفقهية المتنوّعة(83).
وهكذا فإن حفظ النظام أساس تنبني عليه كل المقاصد الشرعية؛ فإذا كان إهدار مقصد شرعي واحد من تلك المقاصد يرتب الشارع على ارتكابه حدا من الحدود المعروفة، قتلا أو قطعا أو رجما أو جلدا أو نفيا من الأرض، فماذا يكون حكم من يهدر هذه المقاصد جميعا، بل يعطل أصل هذه المقاصد وأساسها الذي تقوم به وتنبني عليه؟
لا شك أن الذين يهدرون ويخلون بنظام الأمة يستحقون أقصى تلك العقوبات بما يتناسب ودرجة الإخلال الواقع على النظام العام على مقتضى نص مشروعية الحرابة والله أعلى وأعلم.
أمّا الفقهاء القدامى والمحدثون فقد أكثروا من الحديث عن حوزة الإسلام وبيضته كمجاز عن أمته، حيث شبهت ببيضة الطائر في حرص وليّها على حفظها، وهو معنى الأمن القومي بلغة العصر، وقد عرفّها العلامة ابن عاشور بقوله: «حدود بلاده (أي الإسلام) ونواحيها لأنها في حوزته وملكه وبيضة الإسلام. فالدفاع عن الحوزة وحماية البيضة هو حفظ الأمة الإسلامية من اعتداء عدّوها عليها، وحفظ بلاد الإسلام من أن ينتزع عدّوها قطعة منها، أو يتسرّب إليها. وهذا الدفاع من أوّل أعمال الحكومة الإسلامية…”(84).
ويدرج ابن عاشور مسألة حفظ البيضة أو الأمن القومي ضمن المقصد العام لحفظ الدين بالنسبة لعموم الأمة، بمعنى دفع كل ما من شأنه أن ينقض أصول الدين القطعية، ويدخل في ذلك حماية البيضة والذب عن الحوزة الإسلامية، بإبقاء وسائل تلقّي الدين من الأمة حاضرها وآتيها.
وفي موطن آخر يقول بأن: “المصلحة العامة لجميع الأمة قليلة الأمثلة، وهي مثل حفظ البيضة، وحفظ الجماعة من التفرّق، وحفظ الدين من الزوال، وحماية الحرمين مكة والمدينة من أن يقعا في أيدي غير المسلمين ونحو ذلك ممّا صلاحه وفساده يتناول جميع الأمة وكل فرد منها…”.
واعتبر الفقهاء أن أوّل حقوق الرعية على إمامهم هو حفظ الأمن الداخلي عبر ردع المفسدين وقطاع الطرق والسرّاق ونحوهم، والأمن الخارجي الذي هو حفظ البيضة وحماية ثغور الإسلام(85). وقد عبّر عن هذه الواجبات أبو المعالي الجويني في كتابه الأشهر “غياث الأمم عند التياث الظلم” بأن من واجبات الإمام تجاه الثغور والحدود من أهم الأمور؛ وذلك بأن يحصنّ أساس الحصون والقلاع ويستذخر لها بذخائر الأطعمة ومستنقعات المياه واحتفار الخنادق وضروب الوثائق وإعداد الأسلحة والعتاد وآلات الصدّ والدفع، ويرتب في كل ثغر من الرجال ما يليق به، ولا ينبغي أن يكثروا فيجوعوا أو يقلوا فيضيعوا”.
أمّا على المستوى الداخلي فإن من واجبات الإمام (أو الدولة بلغة العصر): «أمن أهل الإقامة والأسفار من الأخطار والأغرار فإذا اضطربت الطرق وانقطع الرفاق، وانحصر الناس في البلاد، وظهرت دواعي الفساد، ترتب عليه غلاء الأسعار وخراب الديار وهواجس الخطوب الكبار، فالأمن والعافية قاعدتا النعم كلها، ولا يُهنأ بشيء منها دونها… فلينهض الإمام لهذا المهم»(86).
4- ضوابط استثمار قاعدة حفظ النظام العام في مجال تقييد الحريات العامة:
يقوم النظام العام على أساس مبدأ المصلحة العامة بما يتناسب والمصالح الخاصة بحيث يكون النظام العام هو المعيار المحدد والمرجح والمقدم لأحدهما عند التعارض والتزاحم. فالأوامر والنواهي والتكاليف الشرعية لم تشرع جزافا؛ وإنما هي تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في متعلقاتهما؛ والآيلة إلى مصالح الناس؛ إقامةً وحفظًا، ومن ثم يجب على السلطة المنوط بها حفظ النظام العام مراعاة فقه أولويات المصالح والمفاسد ووسائلهما، بالتفريق بين المقاصد والوسائل من ناحية الثبات والتغير، ففي الوقت الذي ينبغي فيه الثبات على المقاصد والغايات الشرعية، فإن الوسائل قد تتغير من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى أخرى، فهي متطورة بتطور الزمان والمكان فإذا ما نص حكم شرعي على فعل معين بوسيلة معينة فإنما ذلك لبيان الواقع وليس ليقيدنا ويجمدنا عندها(87).
وعلى هذا يرى الباحث أن الحرية مقصد هام من مقاصد الشريعة على ما قرره وأكد عليه الإمام ابن عاشور(88)؛ وبالتالي فعلى السلطة الاعتراف بها وتوفير ضمانات ممارستها للجميع؛ وبالمساواة؛ بما يجعلها أصلا يجب أن يقدم على غيرها من وسائل حفظ النظام العام المقيدة للحرية لأن مثل هذه الوسائل أساسها التغير والتبدل؛ وبالتالي يمكن استبدالها بما هو أرفق بالحرية و أضمن للنظام خاصة في أيام الأزمات والفتن.
فإذا أمكن للسلطة النظامية وضع المشتبه فيهم تحت الرقابة القضائية بالحضور الشخصي أمام مصالحها الأمنية للتوقيع في محاضر خاصة في أوقات مخصوصة؛ فلا يجوز اللجوء عندها إلى القبض والإيداع في الحبس الاحتياطي المؤقت.
وكذلك في ممارسة حرية الاجتماع والتظاهر، أو ما يسميه د/ سيف الدين عبد الفتاح بفقه الاحتجاج، فإنها الأصل فإذا أدت إلى إخلال بالنظام وجب للسلطة فضها بأحسن الوسائل وأرفقها بحرمة الإنسان وكرامته، فلا يلجأ للضرب بالعصي أو التفريق بالعنف مادام أن هناك وسائل أخرى كالماء الساخن أو الغازات المسيلة للدموع؛ وغيرها من الوسائل المتطورة التي تحقق المقصد الشرعي الثابت المتمثل في حفظ كرامة الإنسان. فالسلطة ملزمة باختيار أحسن الوسائل وأفضلها فعالية في تحقيق أهدافها وفرض سيادة نظامها بما لا يعود على الحريات وحق الإنسان في الكرامة بالإبطال لأنه هو الهدف المقصود. فالتمييز بين الوسيلة المتغيرة والمقصد الثابت في النصوص الشرعية يمثل إحدى أهم القواعد الضابطة لفهم قيم العدالة والحرية والمساواة والنظام وهذا ما قرره د/ القرضاوي حيث اعتبره أحد الضوابط التي كانت سببا في حصول أسباب الخلط والزلل.
فالحريات مقاصد عامة، وقيم عليا في المجتمع، يتوجب على السلْطة عدم المساس بها سلباً ومصادرة، ولها أن تعمل جاهدة على تنظيمها وتمكين الناس من الانتفاع بها على قدم المساواة بينهم؛ فلا بد أن تنضبط الوسائل لتحقيق المقاصد لا العكس، وبالتَّالي فيجب على السلْطة أن تتقيد بالحرية كقيمة عليا من قيم المجتمع لا أن تكون السلْطة قيد على الحرية. يقرر ذلك الأستاذ علال الفاسي قائلاً: “وقد جعل الإنسان الحكومة أو الدولة خادمة له، لا ليكون خادماً لها، وبمقتضى ذلك فهي ستكون حارسة لحريته لا محددةً لها، والقانون الذي تشرعه الدولة يجب أن يكون دائماً قانوناً حامياً للحرية ومعمماً لها، ولا يكون قانوناً محدداً للحرية أو غاصباً لها”.
وفي موطنٍ آخر بيّن أن تدخُّل الدولة يكون بمثابة الحِراسة للحريات فقال: “والقوانين يجب أن تكون دائماً ضامِنة للحرية، وتدخل الدولة إذن إنَّما يجب أن يكون بمثابة الحِراسة لهذه الحريات الإنسانية(89)“.
ومن تطبيقات ذلك أن الخليفة عمر بن الخطاب لما حمى الربذة قرب المدينة؛ وأخرج منها أهلها من الأعراب قال: “وأيم الله إنهم ليرون أني ظلمتهم؛ إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام؛ والذي نفسي بيده لولا المال (الإبل) الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا”؛ قال ابن عاشور(90) معلقا على هذه الواقعة: “تأكيده- رضي الله عنه- للكلام بالقسم مؤذن بأن لهم شبهة قوية في ظنهم أنه ظلمهم بما حمى عليهم من أرضهم؛ فكيف بمن قوتلوا دون أرضهم وعرضهم بمجرد جرة قلم مبررها حفظ النظام وإعادة استتبابه دون تثبت وتريث، ومن هذا القبيل ما قرره النبي عليه الصلاة والسلام باعتباره ناظر المظالم في الحكومة النبوية في قضية مقتلة خالد بن الوليد في قبيلة جذيمة بعد أن أعلن أهلها الخضوع لسيادة الدولة النبوية؛ حيث أرسل النبي صلى الله عليه وسلم، باعتباره ناظرا للمظالم، عليا- رضي الله عنه- لرد ورفع هذه المظلمة فدفع دية القتلى على أساس مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها في الظروف الاستثنائية؛ ثم لم يكتف بذلك وإنما رفع يديه إلى السماء ثم قال: “اللهم أبرأ إليك مما صنع خالد”(91) كتعبير عن قيام مسؤولية الدولة .
خاتمة :
مما لاشك فيه أن هناك في كل نظام سياسي قيم عليا وعناصر ثابتة لا يمكن له أن يستمر بدونها؛ وبناء على ذلك تكون فكرة إيجاد مقصد عام للشريعة فيما يخص الأمة؛ فكرة أكثر من ضرورية؛ بحيث تكون فكرة حفظ نظام الأمة قاعدة مقاصدية كلية ومبدأ محوريًا في السياسة الشرعية للدولة الإسلامية؛ مما يمكن القول معه بأن فكرة حفظ النظام العام جوهر تدابير السياسة الشرعية؛ ولب فقه الأحكام السلطانية. ومن هذا القبيل يمكن اعتبار تجاوز السلطة لحدود الحرية ظلما يجب رفعه؛ يقول ابن عاشور: “إن موقف تحديد الحرية موقف صعب وحرج ودقيق على المشرع غير المعصوم، فواجب ولاة الأمور التريث فيه وعدم التعجل لأن ما زاد على ما يقتضيه درء المفاسد من تحديد الحرية يعد ظلما”.
إن الشواهد التي نراها عبر التاريخ في تقييد الحريات العامة، وخاصة السياسية مِنْها إنَّما كانت لحماية الحكومات في الدول والمتنفذين فيها، ولم تكن في غالب الأحيان من أجل مصلحة عامة الشَّعب، فإذا كانت القيود التي ترد في حقيقتها من أجل المصلحة العامة للنَّاس في الدولة فنِعما هي، وأما إن كانت القيود ترد من أجل حماية حكومة وأجهزتها أو تجنيب وزراء فيها للنَّقد والتوجيه؛ فعندئذ لابد أن تُقدم مصلحة الحريات على ذلك؛ لأن الحريات مقصد من المقاصد الضرورية وأجهزة الدولة وسائل لحماية الحريات وصيانتها، وإذا تعارضت الوسائل مع مقاصدها، قُدمت المقاصد عليها بلا شك(92).
وعليه فقد اتضح من خلال ما سبق أن هناك علاقة ضاربة وعميقة بين حفظ النظام العام وبين ممارسة الحرية العامة؛ إذ رغم ثبوت نسبيتهما إلا أن الأولوية في الرعاية عند تعذر الجمع بينهما تكون للنظام باعتباره مرتبطا بالمصلحة العامة التي يجب أن تقدم على المصلحة الخاصة؛ ذلك أن اختلال النظام وانتشار الفوضى مفسدة عامة يجب درؤها على التو؛ ولا تقبل التأخير كونها مصلحة مستمرة ومتعدية النفع إلى الغير؛ ولا يمكن أن توازن أو تقارن في ذلك بمصلحة ممارسة الفرد لكامل حرياته غير منقوصة ولا مقيدة.
غير أن هذه الأولوية في المراعاة والتقديم ليست على إطلاقها، لأن هناك ضوابط ترد على السلطة النظامية بحيث تشكل بدورها قيودا على حفظ النظام.
وعليه يمكن تصوير التناغم بين حفظ النظام وحماية الحرية بصلاة الجماعة، ففيها تأكيد الإسلام للحقوق والحريات في تدريبه للمسلمين على ممارستها في صورة العبادات المقررة في الفرائض التي يشعر ممارسها بحرية الذات فلا خضوع لأحد غير الله؛ وفي أداء صلاة الجماعة تأكيد للمساواة الكاملة والحرية المطلقة في ممارسة الحقوق المشروعة في إطار من النظام العام وقيمه من وحدة الصف وانتظامه. فإذا أقيمت الصلاة انتظم الجميع في صفوف متراصة بعضها خلف بعض؛ كل فرد حر في اختيار مكانه من الصف؛ لا يجوز أن يؤثر عليه غيره مهما كانت منزلته؛ كما لا يحق لأي احد أن يمنعه من ذلك كما لا يجوز لأحد أن يتقدم أحدا أو يؤخر أحدا وإلا أثم. ومن مظاهر المساواة تسوية الصفوف في المناكب والأقدام ولا يسوغ لأحد أن يخل باستقامة الصف بتقديم أو تأخير؛ وإلا كان معتديا على نظام الجماعة. لا فرق بين حاكم ومحكوم؛ ولا بين الصغير والكبير؛ أو الغني و الفقير.لا فرق بين أي من المصلين؛ فبتكبيرة الإمام يكبر المأمومون، وبتسليمه يسلمون كلهم على صف واحد في نظام عجيب. وأعجب ما فيه أنه أثناء أداء الصلاة تمارس صور الرقابة الشعبية على أعمال الإمام “كسلطة” في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإذا أخطأ الإمام ساهيا عن قول أو فعل من أوضاع الصلاة فللمأموم واجب تصحيح الخطأ بتنبيه الإمام إليه(93) وفي ذلك تدريب على تقديم النصح والرقابة.
فرغم أنه مأمور بطاعته في جميع الأحوال ركوعا وسجودا؛ ابتداء وانتهاء؛ إلا انه إذا خرج عن قواعد المشروعية وجب رده برفق ولين، وهو في ذلك كله يمارس ويتدرب على حرية الرأي ويتعلم واجب طاعة الحاكم في غير معصية، فإن خرج الحاكم على قواعد المشروعية وجب نصحه برفق ولين دون الخروج عليه؛ فتتأصل بذلك هذه المبادئ وتغدو جزءا من كيانه لا يستطيع التفريط فيها أو التهوين من شأنها. ومن ثم تكون صلاة الجماعة دليلاً على اعتبار مقصد النظام العام .
والله الموفق
الهوامش
(1) عبد المجيد النجار؛ مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة؛ دار الغرب الإسلامي؛ ط2؛ سنة 2008؛ ص05
(2) عبد المجيد النجار؛ مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة؛ مرجع نفسه؛ ص18.
(3) د/ فوزي خليل؛ المصلحة العامة من منظور إسلامي ويليه تطبيقات المصلحة العامة في عصر الخلفاء الراشدين؛ مؤسسة الرسالة؛ بيروت ط1؛ سنة 2003؛ ص265.
(4) حسين الخشن؛ مدخل إلى فقه النظام العام محاولة تقعيد فقهية جديدة مركز البحوث المعاصرة بيروت على الموقع http://www.nosos.net/main/pages/news.php?nid=108
(5) د/ مصطفى الزلمي؛ المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية؛ ص 08 وعبد المجيد النجار؛ مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة؛ مرجع نفسه؛ ص 08.
(6) الغزالي؛ المرجع نفسه؛ ص99.
(7) الشاطبي؛ الاعتصام؛ ص74.
(8) د/ حمادي العبيدي؛ الشاطبي ومقاصد الشريعة؛ منشورات كلية الدعوة الإسلامية؛ طرابلس؛ ليبيا؛ ط1؛ سنة 1992؛ ص241
(9) ابن عاشور؛ المرجع السابق؛ ص300 .
(10) عبد النور بزا؛ مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية؛ الناشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ط1؛ سنة 2008؛ ص 36.
(11) عبد النور بزا؛ مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية؛ ط1؛ ص 18.
(12) الشيخ زكي الدين شعبان؛ أصول الفقه الإسلامي؛ ص250؛ د/ عبد الحميد متولي؛ مبادئ نظام الحكم في الإسلام؛ ص394
(13) عيسوي احمد عيسوي؛ الفقه الإسلامي؛ مطبعة دار التأليف؛ ص110 ؛ وعبد الرحمن تاج؛ السياسة الشرعية والفقه الإسلامي؛ ص47.
(14) د/ علي جريشة؛ المشروعية الإسلامية العليا؛ ص38.
(15) عبد المجيد النجار؛ مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة؛ دار الغرب الإسلامي؛ ط2؛ سنة 2008؛ ص161.
(16) الإمام ابن جماعة، تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام؛ الدوحة؛ دار الثقافة، 1988- ص94.
(17) الشيخ محمد يونس؛ الأبعاد الإنسانية لحفظ النظام العام؛ ص61.
(18) زكي الدين شعبان؛ أصول الفقه الإسلامي، دار النهضة العربية، 1967-1968، ص391.
(19) محمد مهدي شمس الدين؛ مقاصد الشريعة –حوار مع عبد الجبار الرفاعي-؛ مجلة آفاق التجديد؛ دار الفكر؛ بيروت؛ 2001؛ ص19.
(20) ينظر إلى هذا الرأي عند د/عبد الكريم الحمداوي؛ في النظام السياسي الإسلامي فقه الأحكام السلطانية ؛ – محاولة نقدية للتأصيل والتطوير- ؛ ص43.
(21) الدريني؛ خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم؛ ص343.
(22) الشيخ محمد يزبك؛ النظام العام في الميزان الفقهي؛ ص30.
(23) الماوردي؛ أدب الدنيا والدين؛ ص149.
(24) الإيجي؛ المواقف؛ ج8؛ ص346.
(25) طارق الشامخي؛ الأمن الجماعي الإسلامي: مقاربة مقاصدية http://chamkhi.maktoobblog.com/765398/ 7 –
(26) طارق الشامخي؛ الأمن الجماعي الإسلامي: مقاربة مقاصدية http://chamkhi.maktoobblog.com/765398/ 7 –
(27) حسين الخشن مدخل إلى فقه النظام العام محاولة تقعيد فقهية جديدة مركز البحوث المعاصرة بيروت على موقع http://www.nosos.net/main/pages/news.php?nid=108
(28) ينظر د/ القرضاوي؛ من فقه الدولة في الإسلام؛ ص17؛ وابن عاشور؛ أصول النظام الاجتماعي في الإسلام؛ ص 194؛ حيث يقول فضيلته” فإقامة حكومة عامة وخاصة للمسلمين أصل من أصول التشريع الإسلامي؛ ثبت بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة بلغت مبلغ التواتر المعنوي؛ مما دعا الصحابة بعد وفاة الرسول إلى الإسراع بالتجمع والتفاوض لإقامة خلف عن الرسول في رعاية الأمة الإسلامية”؛ مرجع نفسه؛ ص 194 وما بعدها.
(29) ابن خلدون؛ المقدمة؛ ص193.
(30) ابن عاشور؛ مقاصد الشريعة؛ ص 194.
(31) عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، الفوائد في اختصار المقاصد، 6 ط 1، دار الفكر المعاصر، بيروت، دمشق، 1996 ، ص 41.
(32) حسام إبراهيم حسين أبو الحاج؛ تدابير الأمن الداخلي وقواعده العامة في الدولة في ضوء مقاصد الشريعة ؛ رسالة دكتوراه؛كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية أيار ، 2006 ؛ ص 51.
(33) الإمام الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد؛ ص150 .
(34) ومن الأمثلة التي يتميز بها الفكر المقاصدي لابن عاشور عن غيره ما ذكره الريسوني من أن الشاطبي يقول: المقصد من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد له اضطرارا أما ابن عاشور يأتي فيقول: المقصد العام للشريعة هو حفظ نظام الأمة وبقاء قوتها وهيبتها؛ هذا صحيح وهذا صحيح، ولكن هذا من زاوية وهذا من زاوية.
(35) د/ الريسوني؛ محاضرات في مقاصد الشريعة؛ 101.
(36) الطاهر بن عاشور؛ مقاصد الشريعة؛ ص 190.
(37) الطاهر بن عاشور؛ المرجع نفسه؛ ص294.
(38) الطاهر بن عاشور؛ المرجع السابق؛ ص293.
(39) ابن عاشور، مقاصد الشَّرِيعة ص 302.
(40) الطاهر بن عاشور؛ أصول النظام الاجتماعي في الإسلام؛ دار السلام؛ القاهرة؛ ط2؛ سنة 2006؛ ص08
(41) الطاهر بن عاشور؛ المرجع نفسه ؛ ص114.
(42) د/ عبد المجيد النجار؛ خلافة الانسان بين الوحي والعقل؛ – بحث في جدلية النص والعقل والواقع؛ إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ فرجينيا ؛- أمريكا-؛ ط3؛ سنة 2000؛ ص118 وما بعدها.
(43) علال الفاسي؛ مقاصد الشريعة ومكارمها؛ دار البيضاء؛ مكتبة الوحدة لعربية؛ دون تاريخ نشر؛ ص41 .
(44) د/ جمال الدين عطية؛ نحو تفعيل مقاصد الشريعة؛ المعهد العالمي للفكر الإسلامي دار الفكر – دمشق – ط1 ؛سنة 2001؛ ص119.
(45) د/ الريسوني؛ محاضرات في مقاصد الشريعة؛ مرجع سابق؛ ص32.
(46) حسام إبراهيم حسين أبو الحاج تدابير الأمن الداخلي وقواعده العامة في الدولة في ضوء مقاصد الشريعة؛ رسالة دكتوراه كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية أيار ، 2006 ؛ ص 51.
(47) سورة طه؛ آية 91.
(48) سورة طه؛ آية90 و91.
(49) ورغم ذلك يرى الإمام ابن عاشور أن اجتهاد هارون عليه السلام كان مرجوحا؛ لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه؛ لأن مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع ؛ ولذلك لم يكن موسى خافيا عليه أن هارون كان من واجبه أن يتركهم وضلالهم؛ وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم فإن حرمة الشريعة بحفظ أصولها وعدم التساهل فيها وبحرمة الشريعة يبقى نفوذها في الأمة والعمل بها. ينظر تفسير ابن عاشور في التحرير والتنوير؛ سورة طه الآية 91.
(50) د/ يوسف القرضاوي؛ من فقه الدولة في الإسلام؛ دار الشروق؛ ط3؛ سنة 2001؛ ص128.
(51) د/ يوسف القرضاوي؛ المرجع نفسه؛ ص127.
(52) أحمد الريسوني؛ فقه السياسة وسياسة الفقه , المعرفة الثلاثاء 14/6/1427 هـ – الموافق11/7/2006.
(53) ابن عاشور؛ مقاصد الشريعة والإسلامية؛ تحقيق الطاهر الميساوي؛ ص292 .
(54) د/عبد السلام الرفعي؛ فقه المقاصد في الفكر النوازلي؛ الناشر دار إفريقيا الشرق– المغرب-2004 ؛ ص18.
(55) حسام إبراهيم حسين أبو الحاج، تدابير الأمن الداخلي وقواعده العامة في الدولة في ضوء مقاصد الشريعة؛ رسالة دكتوراه كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية أيار ، 2006؛ ص 51.
(56) الخادمي نورالدين بن مختار؛ الاجتهاد المقاصدي حجيته ضوابطه مجالاته؛ كتاب الأمة؛ قطر؛ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ؛ العدد 65، ص 25.
(57) الإمام مسلم ؛ جامع الصحيح؛ ج3 ؛كتاب الأقضية؛ حديث رقم 1718؛ ص 1343.
(58) د/ فوزي خليل؛ المصلحة من منظور إسلامي؛ ص436.
(59) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج 1، ص43؛ والطاهر بن عاشور؛ مرجع نفسه؛ ص301.
(60) حسين الخشن، مدخل إلى فقه النظام العام محاولة تقعيد فقهية جديدة، مركز البحوث المعاصرة بيروت http://www.nosos.net/main/pages/news.php?nid=108
(61) ينظر عبد القادر جدي؛ الحماية الجنائية للأمن العام في الفقه الإسلامي؛ مجلة المعيار؛ عن جامعة الأمير عبد القادر قسنطينة- الجزائر العدد 15 فيفري 2004؛ ص92.
(62) ينظر عبد القادر جدي؛ الحماية الجنائية للأمن العام في الفقه الإسلامي؛ مرجع سابق ؛ ص 120 .
(63) ينظر عن ابن العربي؛ أحكام القرآن؛ ج 2؛ ص 593.
(64) ينظر عبد القادر جدي؛ الحماية الجنائية للأمن العام في الفقه الإسلامي؛ مرجع نفسه ؛ ص 120 .
(65) ابن الهمام شرح فتح القدير؛ ج5؛ ص 423 ؛ عبد القادر جدي؛ الحماية الجنائية للأمن العام في الفقه الإسلامي؛ مرجع سابق ؛ ص120 .
(66) حسين الخشن؛ مدخل إلى فقه النظام العام محاولة تقعيد فقهية جديدة مركز البحوث المعاصرة بيروت http://www.nosos.net/main/pages/news.php?nid=108
(67) علال الفاسي؛ مقاصد الشريعة ومكارمها؛ ص7
(68) الريسوني؛ محاضرات في مقاصد الشريعة؛ ص103.
(69) الشاطبي؛ الموافقات؛ ج1 37 .
(70) الغزالي؛ المستصفى؛ ج1؛ ص288.
(71) د/ حلمي الدقدوقي؛ المرجع السابق؛ ص652.
(72) الغزالي؛ الاقتصاد في الاعتقاد؛ ص115.
(73) د/ حلمي الدقدوقي؛ مرجع نفسه؛ ص653.
(74) حسين الخشن؛ مدخل إلى فقه النظام العام محاولة تقعيد فقهية جديدة مركز البحوث المعاصرة بيروت http://www.nosos.net/main/pages/news.php?nid=108
(75) طارق الشامخي؛ الأمن الجماعي الإسلامي: مقاربة مقاصدية http://chamkhi.maktoobblog.com/765398/ 7 –
(76) طارق الشامخي؛ الأمن الجماعي الإسلامي: مقاربة مقاصدية http://chamkhi.maktoobblog.com/765398/ 7-
(77) د/ فوزي خليل؛ المصلحة العامة من منظور إسلامي؛ ص265.
(78) د.فوزي خليل ؛ المصلحة العامة بين الشرع والفقه والسياسة؛ مقالة منشروة على الانترنت على موقع إسلام أون لاين- بحوث ودراسات.
(79) معلوم أن مصطلح الإمام يقصد به جهاز الحكم في الدولة بمؤسساته المختلفة بما فيهم الخليفة ؛والأمراء والوزراء وبالتالي فان حكومة الإمام ليست حكومة شخصية على نحو ما هو مقرر في تقسيم نظام الحكم في القانون الدستوري إلى (الحكم الفردي؛ حكومة الأقلية؛ حكومة الأغلبية أو الجمهورية) ينظر تفصيلا في ذلك. د/ ضياء الدين الريس؛ النظريات السياسية الإسلامية؛ ص204.
(80) د/فتحي الدر يني؛ خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم؛مؤسسة الرسالة-بيروت؛ط1؛1982؛ ص329.
(81) عبد الكريم الحمداوي ؛في النظام السياسي الإسلامي فقه الأحكام السلطانية ؛ ص168.
(82) عبد الكريم الحمداوي؛ المرجع السابق؛ ص191.
(83) من ذلك الإمام أحمد – رضي الله عنه سئل – عن رجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما: فاجر قوي والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه؛ وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يغزى مع القوي الفاجر، ويقول ابن تيمية مقررا هذا المعنى في كتابه منهاج السنة: اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة؛ قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضررا فيها فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع؛ وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا.
(84) الإمام ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام تحقيق محمد الطاهر الميساوي عمّان: دار النفائس، 2001 ص337.
(85) طارق الشامخي؛ الأمن الجماعي الإسلامي: مقاربة مقاصدية http://chamkhi.maktoobblog.com/765398/ 7-
(86) أبو المعالي الجويني، غياث الأمم عند التياث الظلم ؛ بيروت؛ دار الكتب العلمية، 1997؛ ص97.
(87) د/ القرضاوي؛ المدخل لدراسة السنة النبوية؛ مؤسسة الرسالة؛ ط1سنة2001؛ ص176.
(88) ابن عاشور؛ مقاصد الشريعة؛ ص280 حيث يقول:” إن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة وذلك هو المراد بالحرية”.
(89) حسام إبراهيم حسين أبو الحاج تدابير الأمن الداخلي وقواعده العامة في الدولة في ضوء مقاصد الشريعة ؛ رسالة دكتوراه كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية، أيار 2006؛ ص 77.
(90) ابن عاشور؛ أصول النظام الاجتماعي في الإسلام؛ ص167؛ وقد نسب تخريج تلك القضية العمرية إلى رواية للإمام مالك في الموطأ.
(91) ينظر الطبري؛ تاريخ الأمم والملوك؛ دار الكتب العلمية؛ ج3؛ ص68؛ ود/ إسماعيل البدوي؛ القضاء الاداري؛ ص128؛ ود/ داوود الباز؛ أصول القضاء الإداري في الإسلام؛ ص37.
(92) حسام إبراهيم حسين أبو الحاج تدابير الأمن الداخلي وقواعده العامة في الدولة في ضوء مقاصد الشريعة ؛ رسالة دكتوراه كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية، ص 77.
(93) د/عبد الحكيم العيلي؛ الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام؛ ص671.