يحرص مركز الحضارة للدراسات السياسية من خلال إصدارته الأساسية: حولية “أمتي في العالم” -ومنذ عددها الأول الصادر1998 وحتى الآن- على أن يفتتح أعدادها بقلم القاضي والمفكر المستشار طارق البشري؛ أحد أبرز أعلام الأمة المعاصرين، حفظه الله وأطال بقاءه، بما حقق تراكمًا فكريًّا مهمًّا. هذا التراكم الفكري جعل من هذه الافتتاحيات الموجزة والمتكاملة نصًّا خاصًّا من نصوص منهج النظر إلى قضايا الأمة العربية والإسلامية في مرحلتها الحضارية الراهنة الأمر الذي يستحق وقفة تأملية خاصة. وفي قراءة تلخيصية لهذه الافتتاحيات نحاول نظم مقتطفات من عبارات هذا الحكيم (البِشري) وتقديم عرض ملخِّص لأهم محاورها التي واكبت ملفات قضايا الأمة الإسلامية الكبرى، وتابعت أهم أحداث تفاعلاتها مع العالم وفي العالم من حولها؛ وذلك عبر أكثر من عقد من الزمان.
وتعد حولية (أمتي في العالم) هذه منظارًا راصدًا لأهم مجريات الأمور داخل “الأمة”؛ سواء داخل نطاقها الجغرافي الرئيس أو عبر أقلياتها الموزعة في العالم، فتُتابع الحولية “عوالم واقع الأمة”: عالم الأشخاص، وعالم الأحداث، وعالم الأفكار، وعالم النظم والمؤسسات، وعالم الرموز والقيم، متابعةً حية عبر الأعوام المتتالية عامًا بعام؛ ومن هنا جاء وصفها من “الحول”، قبل أن تتحول إلى كتاب غير دوري.
وتتميز هذه الحولية بسمة علمية موثقة، وتمثل كتابًا استراتيجيًّا من طراز خاص. كما يغلب عليها طابع الرصد والوصف والتصنيف؛ لتقدم مادةً نصف مصنعة وقاعدة معلوماتية، تمهد للباحثين وعموم المعنيين للقيام بعمليات التحليل والتفسير والتقويم والتشغيل. فالمحتوى الأساس هو رصد الأحداث والاتجاهات والتطورات المتعلقة بأبرز مكونات الأمة من دول وحكومات، ومجتمعات ومجموعات، ونظم ومؤسسات، ورموز وأفكار.
وعلى الجانب الآخر تتجلى للناظر في افتتاحيات المستشار طارق البشري معالم رؤية متكاملة ومتماسكة، ومنهجية نظرٍ خاصة إلى مفهوم الأمة وواقع اختلال الوعي بها خاصة من قِبل أبنائها، بينما أعداؤها في صحو متربصون؛ ليصل إلى أن ثمة أزمة تكنف هذا كله: أزمة متراكبة أشد التراكب تملأ على العرب والمسلمين وجودهم الكلي والجزئي. ولكن الملحظ الأكبر على الإطار الفكري للمستشار البشري هو الحضور المستديم لثنائية “الداخل والخارج”، والتي تكاد تستدعي وتظلل سائر قضاياه ومسائله، وتناولاته وتحليلاته؛ وتجعل فكره معبرا بقوة ومتعانقًا مع عنوان الحولية المشار إليها: (أمتي في العالم)؛ حيث يرى البشري أن أعظم معضلات واقع الأمة اليوم أنها أسيرة العلاقات المختلة مع الغرب منذ نحو قرنين من الزمان، وأن تداعيات هذه العلاقة صارت تتخلل مكونات حياتنا برمتها كالسرطان، وتطرق بعنف فوق ثوابتنا ومقدراتنا. لقد آلت هذه الثنائية بذاتها إلى شطر حياتنا إلى خضم من الثنائيات اللامتناهية: بين الفكر والواقع، والثقافي والسياسي، والماضي والحاضر، والأصل والعصر، والإصلاح والمقاومة، والدولة والمجتمع.. الخ.
وفيما يلي تقدم افتتاحيات البشري تشخيصًا تفصيليا وواسعًا لبعض أوجه هذه الأزمة المركبة على محاور أربعة كلها ضمن إطار العلاقة بين الداخل والخارج: إشكالية الوعي على الأمة، ثم تدافع ثنائيات كبرى: كالتي بين الفكر والواقع، وبين الثقافي والسياسي، ثم حيرة ما بين مواجهة العدوان الخارجي وصناعة الإصلاح الداخلي، بالإضافة أخيرًا إلى محنة الدولة-القومية الراهنة (وهي وحدة بناء الأمة) بين واقع الاختراق ومخاوف التفكيك، هذا مع بعض تركيزٍ على الحالة المصرية التي يوليها البشري قدرًا أكبر من همه وقلبه وقلمه.
1- إشكالية الوعي على الأمة:
كما تقدم، تعانقت رؤية المستشار البشري لمفهوم الأمة وواقعها وحالة الوعي الإسلامي بها مع مقومات إصدارة (أمتي في العالم) المشار إليها. فلما كان الهدف الاستراتيجي لهذه الحولية هو تجديد وعي النخب والجماهير بدائرة الأمة وقضاياها المعاصرة، يؤكد المستشار البشري في افتتاحيته للعدد الأول منها أن: “أول خطوات استرداد الوعي بالذات الممتدة هو المتابعة الإخبارية والمعرفية بكل أنحاء هذه الذات، وبهذا الوعي تزكو الأمة إن شاء الله”(1).
كما يؤسس لمقصود عنوان هذه الحولية ضمن رؤيته المنهجية لقضية دوائر الانتماء غير المتنافية، فيقول: “عندما نتكلم عن (أمتي في العالم) ونقصد بها الأمة الإسلامية، إنما نشير إلى الوجود وإلى الانتماء. وهذا الأمر لا يقتضي ولا يفيد، بأي من وجوه الدلالات، استبعاد وجود آخر ولا انتماء آخر. والقول بوجود الجماعة الإسلامية على أي من المستويات الإقليمية أو العالمية لا يستبعد القول بوجود الجماعات الأخرى، في ذات المجال الإقليمي أو العالمي. كما أن وصفًا معينًا لا يستبعد بالضرورة وصفًا آخر، ما دام لا يقوم تضاد ولا تناقض بين الوصفين”. وليس من العلمية في شيء القول بأن إظهار وصف ما يفيد طمس أوصاف أخرى، مادام لم يقم تناقض أو تضاد بينهما. وعلى سبيل المثال، فإن المصريين، هؤلاء الجماعة البشرية، التي تقطن في الركن الشرقي من قارة إفريقيا، هم مصريون من حيث الإقليم، وعرب من حيث اللغة، ومسلمون من حيث الدين، وتَبيُّن كل ذلك يَرِدُ بتعدد معايير التصنيف، وهذا التعدد يفيد في إدراك الخصائص وتداخلها وتراكبها، فليس كل معيار منفصلاً عن الآخر، ولا كل وصف منبت عن غيره، ولا كل دائرة انتماء إلا وهي متداخلة في الدوائر الأخرى. وبالمثل، فالإنجليزي يقبل إنجليزيته وأوروبيته وكونه أنجلوسكسونيًّا أو أطلنطيًّا، وهلم جرّا. والغريب أن من هؤلاء الذين يتقبلون اجتماع الأوصاف وتعددها وأن يكون المصري عربيًّا وإفريقيًّا دون تناقض، إنما يهجرون منطقهم المجمِّع هذا عندما يرد الحديث عن الدائرة الإسلامية، فينكرون وجودها أصلًا، أو يثيرون التناقض بينها وبين غيرها”(2).
إذًا هي مدرسة ذات إطار مرجعي وحضاري واضح لها غاياتها ولها منطلقاتها، والأستاذ البشري أحد أهم أعمدتها وقادتها المرموقين إلى جانب رموز كبرى من أمثال مالك بن نبي، ود.حامد ربيع، ود.منى أبو الفضل، ود.محمد عمارة، والمسيري، ود.نادية مصطفى، ود.سيف الدين عبد الفتاح وغيرهم كثيرون من سابقين ولاحقين. ففي عبارة أشبه بالنداءات الحركية التي نبّه إليها من قبل الدكتور حامد ربيع، يحدد البشري منطلق هذه المدرسة التي تعد الأمة الإسلامية دائرة انتمائها الأصيلة فيقول: “فنحن الذين يرون أن ثمة تصنيفًا سياسيًّا للبشر في العالم يفيد أن المسلمين فيه -حيثما يكونون الغالبية في الجماعة- يشكلون دائرة من دوائر الانتماء السياسي والاجتماعي، بحكم التوحيد العقدي والتراث الثقافي المشترك والتاريخ المتجانس والتكوين النفسي الجمعي المتماثل، نحن الذين نعي بهذا الأمر في المرحلة التاريخية المعيشة، نعتبر أن من أهم ما يواجهنا من تبعات الحاضر أن ننشر هذا الوعي ونعمق ونرسخ ما هو موجود منه. وأظن أن ذلك لا يكتمل إلا إذا توحدت الدائرة الإسلامية في وعي الناس، وأن يشعر المرء بمكانه الثابت في هذه الدائرة، ويتابع شئونها باعتبار أنه يتابع أحد شئونه الذاتية”(3).
إنه وعي يجدل بين الثقافي والسياسي ضمن مفهوم جامع للأمة، يقول: “وقد آن لنا أن نسترد وعينا بهذه الدائرة الإسلامية بوصفها تصنيفًا سياسيًّا نتعامل معه وتتعامل به دولنا وشعوبنا. ونحن نقصد بـ”الأمة” الجماعة أي المجموع من البشر الذي يتحدد في الإدراك الإنساني على وفق تصنيف معين، ويقوم هذا التصنيف على وصف يلحق بهذا المجموع ويصدق عليه ويميزه عن غيره من الجماعات الأخرى، والأمة بهذا النحو تكوين أو تشكيل ثقافي؛ لأنه يقوم على أساس من “الإدراك البشري” لمعيار تصنيف معين، ومن “الشعور بالانتماء” الذي ينبني على وجوه تجانس “يراها” الناس غلاَّبة وحاكمة لغيرها”(4). وسوف يصل البشري هذا الجدل -فيما يلي- بسائر وجوه المسألة: الاقتصادي والاجتماعي والاتصالي والإداري، والداخلي والبيني والخارجي، والتاريخي والحاضر في تطبيق عميق لفكرة “المنظور الحضاري” ورؤيته الكلية.
ولكن لماذا ارتبك لدينا -نحن العرب والمسلمين- هذا المفهوم للأمة في هذا العصر؟ يذكر البشري عدة أسباب وتفسيرات لعل من أهمها(5):
* أننا خرجنا من مفهوم الأمة المعتمد على وحدة الدين الإسلامي، إلى مفهوم الأمة بوصفها الجماعة القومية المستندة إلى اللغة الواحدة. والإسلام دين ودولة وهو منشئ لجماعة سياسية بما يستفاد من أحكامه وتاريخه الاجتماعي، واللغة تصنيف يرتبط بالامتزاج التاريخي أيضًا، وتقوم على أساسه دول الغرب في العصر الحديث. وقد ارتبك لدينا الإدراك الجماعي بين هذين التصنيفين، ولم نجر توفيقًا عميقًا بينهما أو تنسيقًا منهجيًا.
* أن حكوماتنا لم تنشَأ دولها وفقًا لأي من هذين التصنيفين في الغالب الأعم، فلا الحكومات قامت على أساس وحدة الجماعة الدينية لتحقق بها وحدة سياسية وتحرسها (بل إنها زالت بإلغاء الخلافة الإسلامية في عام 1924)، ولا قامت هذه الحكومات على أساس البديل الفكري والثقافي الآخر وهو اللغة والقومية، والأتراك بقوميتهم التركية انسلخوا عن الجماعة الإسلامية، ولكنهم لم يقيموا دولة موحدة على أساس الوحدة الطورانية التي كانوا ينشدونها، والتي تمتد إلى أواسط آسيا، والعرب لم يستطيعوا بدعوتهم القومية العربية توحيد اثنتين وعشرين دولة تقاسمت عروبتها.
* أن حدود الدول القائمة لم تقم على أساس أي من التصنيفات الجماعية الحاكمة، ولكنها قامت على أساس توازن القوى السياسية بين الدول الغربية الكبرى المستعمِرة، كما حدث بالنسبة لاقتسام بلاد الشام بين الإنجليز والفرنسيين في اتفاقية “سايكس-بيكو” أثناء الحرب العالمية الأولى، أو على أساس توازن القوى السياسية بين حركات التحرر الوطني وجبروت الدول الغربية المستعمرة؛ كما حدث بالنسبة لمصر والسودان مثلاً، ولكن هذه الحكومات من بعد صارت ذات وجود ومصالح تدافع بها عن حدودها، وترسخ مفاهيم استقلال جماعتها السياسية عن غيرها. وهذا مما ساهم في إرباك علاقات الانتماء الجماعي ومشاعره.
يخرج البشري من ذلك كله بمفارقة كبرى: “أننا مع إدراكنا الجماعي لما يجمع بيننا نحن الشعوب الإسلامية ذات العقيدة الواحدة والحضارة الشاملة والتاريخ الواحد أو المتماثل والتشكل النفسي المتشابه، ومع إدراكنا أن ثمة مشتركاً عاماً يجمع بيننا، ومع ما يؤكد هذا المشترك العام من وحدة ما نعانيه من قمع عالمي واستبداد بنا من الدول الكبرى، ومن كراهية تجمعنا ضد الاستعمار الغربي وسياساته، وما نشعر به من وحدة المصير، إلا أن هذا المشترك العام لا يتحدد به في وضوح ما هو بالضبط ما يتعين أن نتحاكم به بين بعضنا البعض من وجوه النشاط، وواجبات النهوض للدفاع والمقاومة.
إن ما حدث من تمزيق للعلاقات التي تربط بين شعوبنا وجماعاتنا في مجال الاقتصاد والسياسة، هو ذاته ما حدث في مجال الاتصال والثقافة. ففي علاقتنا التجارية والاقتصادية، نرى الأقل هو ما يجري بالتبادل المباشر بين بلادنا عربًا كنا أو مسلمين أو آسيويين أو أفريقيين، وكذلك في السياسة، وذات الشيء يحدث في التحاور اللغوي. فقد َضمُرت معرفة الفارسية والتركية والعربية والأردية بين غير أبنائها، وصار الحديث بينهم يجرى من خلال الإنجليزية، وغالب معلوماتنا وثقافاتنا ترد من خلال وسائط غربية، ولنقارن ذلك بما كانت عليه مدارسنا العليا في القرن التاسع عشر عندما كانت الفارسية والتركية من لغات تعليم المدارس قبل الإنجليزية والفرنسية”(6).
فالمسلمون قد اقترب عددهم من ملياري نسمة بنسبة تناهز 23% من سكان العالم، وأخطر كثيرًا من عددهم الكبير ونسبتهم غير القليلة: موقعهم؛ لأنهم من ناحية الجغرافيا السياسية يشغلون بقعة أرضية تراها على الخريطة مثل الحزام العريض الذي يمسك بخصر العالم القديم كله ويحكمه ويمتد جنوبًا إلى بحار الجنوب ومحيطاته، ويسيطر على غالب شواطئ البحر الأسود ونحو ثلثي شواطئ البحر الأبيض وكل شواطئ البحر الأحمر والخليج الفارسي. وهي رقعة واحدة ممتدة لا تفصل بينها شعوب أخرى وإن تخللتها. إن أي سياسي من ساسة الغرب في أوروبا وأمريكا، ينظر إلى هذه الخريطة يدرك على الفور أنه يواجه “قوة متحققة”، أو يواجه “قوة ممكنة” تستدعي منه كل أسباب القلق والحذر والحيطة، وأن عليه سياسيًّا أن يفكك هذا الوجود لينقسم إلى دول ودويلات متنافرة، وأن عليه ثقافيًّا أن يجعل هذا الوجود ذاهلًا عن أمر نفسه غافلًا عن ذاته.
والسبيل لاستعادة الأمة -في نظر البشري- هو مرة أخرى الجمع بين الوعي والسعي، واستئناف مسيرة التجدد الحضاري، وتزكية العلاقات الداخلية والبينية في الأمة بالتلاقي والتفاعل المباشر. “فالتعامل المباشر بين الشعوب الإسلامية هو ما يزكو به الوعي المشترك والشعور بالانتماء المشترك، وهو ما تزكو به دائرة الانتماء الإسلامية”. يقول الحكيم البشري: “إن إنعاش الإدراك بالوجود الإسلامي الجماعي، هو أمر يفيد نفعًا محضًا، هو ربح بغير خسارة، وذلك إذا كنا نـزن الأمور بالكسب والخسارة. وهو من وجهة أخرى إنعاش للذات الحضارية وإدراك للمميز الثقافي وإثراء له بالتنوع. ونحن عندما نتجه إلى الجماعة الإسلامية على المستوى العالمي، إنما يتعين علينا أن نبحث في العلاقات الداخلية بين وحدات هذه الجماعة، والعلاقات المتبادلة (البينية)، والمشكلات القائمة، سعيًّا لإدراك المشترك العام، والوصول بالاستقراء إلى ما يعتبر وجوه صالح عام يجمعها ويشكل مع الوقت معيارًا لفض الخلافات، ومجالًا للتقارب”(7).
2- تدافع وتأرجح بين ثنائيات كبرى
إنها ثنائيات الفكر والواقع، والثقافي والسياسي، وفي قلبها: الداخل والخارج، ثنائيات تتكشف في خطاب البشري في كل موضع تقريبا. فتراه يربط مثلاً بين أزمة الانتماء ودوائره من جهة وبين حال الأمن القومي لدول الأمة من جهة أخرى وبين تشابك علاقات الداخل-الخارج من جهة ثالثة في معادلة مركبة؛ منطلقًا من أن قيام الحكومات لدينا على غير أساس تصنيف جامع ومانع للجماعات السياسية، قد أربك لديها إمكانية التقدير بين ما يعتبر من ضرورات “الأمن القومي” الذي يعني حماية الجماعة السياسية وحراستها والذود عنها، (وهذا هو رأس واجبات الدول بالنسبة للجماعة السياسية التي تقوم عليها والمصدر الأساسي لشرعيتها)، يقول:
“ارتبك لديها التقدير بين ضرورات الأمن القومي هذه، وبين موجبات “أمن الدولة”، أي أمن النظام السياسي القائم على رأس هذه الجماعة، والحافظ له ولتشكيلاته المؤسسية والمجتمعية، وصار “أمن الدولة” هو الذي يسيطر ويحكم موجبات “الأمن القومي”، وهذا الخلل والإرباك أصاب سياسات الدول في غالب بلادنا العربية والإسلامية، وهي لا تجد دائماً في الأمن القومي للجماعة السياسية التي تحكمها، لا تجد دائماً في ذلك ما يهدد أمن الدولة، أو ما يزعزع استقرارها. ولعل المؤتمرات التي عُقدت للحكومات العربية بشأن الانتفاضة الفلسطينية، أو المؤتمرات التي عُقدت بعد ذلك للحكومات الإسلامية بشأن غزو أفغانستان، هي أمثلة تشهد بهذا الأمر؛ إذ انعكس في قرارات هذه المؤتمرات الحكومية أن غالب حكوماتنا تستشعر الحرج في علاقتها بالولايات المتحدة بأكثر من شعورها بالقلق على الأمن القومي لبلادها ولجماعتها السياسية في المدى الطويل. وتتعقد المسألة ويزيد الارتباك عندما تقوم الحركات السياسية الشعبية في كل بلد لتنبه إلى المخاطر الآتية من الخارج وتتنادى للذود عن الحياض والدفاع عن الحوزة، فترى الحكومات في ذلك ما يهدد استقرارها الداخلي وتحتشد ضده، وترى خطراً عليها يماثل أو يجاوز الخطر الأجنبي الوافد على الجماعة كلها، وعلى الدولة مما وراء الحدود”(8).
ويلمح البشري إلى عامل خفي لكنه شديد الخطورة في نشوء هذه الأزمة المركبة الممتدة ضمن المسافة بين الداخل والخارج؛ بين ذاتنا وبين سياسة الغرب تجاهنا عبر القرنين الأخيرين؛ إنها صناعة الواقع المأزوم والمؤزم للفكر. “فسياسة الغرب معنا منذ عرفناه في العصر الحديث، أنه يغير واقعنا قبل أن يغير فكرنا وتصوراتنا، ثم يتهم فكرنا وتصوراتنا بالتخلف عن “ملاحقة” الواقع، ويقوم من بيننا من يحذون حذوه بحسبانهم “واقعيين”. فالواقع يتغير بقوة الأمر الواقع أو بالطرح المباشر أو بالمحاكاة من البعض، ثم نبدأ المحاورة حول الجواز والمنع وحول صلاحية الفكر وفساده. وهذا عينه هو ما حدث بالنسبة للأمة الإسلامية كجامعة سياسية ودائرة انتماء شامل للمسلمين. قُطعت وجُزئت إربًا ثم أُلغيت وحُوربت فكرًا… والآن يُضرَب الوعي بها لا بإظهار عدم جديتها أو عدم جدواها، ولكنه يُضرَب بالتجاهل والتعمية عنها. لتذبل في الضمير وتسقط من الوعي”(9).
ثمة عامل آخر من عوامل هذه الأزمة الفكرية-الواقعية، وهو متصل بسابقه لكنه يتجدد في الآونة الأخيرة بقوة؛ إنه تحوير حقيقة المواجهة والخلط بين السياسي والثقافي دون ميزان. فجوهر الصراع القائم بيننا وبين الغرب – وفق رؤية البشري- هو صراع سياسي، وهو صراع متولد عن استعمار استيطاني في فلسطين، وعن سيطرة عسكرية واقتصادية وسياسية في الخليج العربي، وعن احتلال عسكري في أفغانستان، وعن غزوٍ للعراق واحتلالٍ له وتدمير، ثم عن سيطرة سياسية على الكثير من بلادنا العربية وغيرها، يتمثل في استتباع أجهزة الحكم ورجاله لقوى الهيمنة الدولية، وللولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد، ويتمثل في إثارة وجوه التفكيك في الوحدات السياسية القائمة كما يحدث في السودان والعراق والصومال، أو في تهديد الأمن القومي؛ ضغطًا على الإرادة السياسية وإخضاعًا لها. وإذا لم يكن ذلك كله سياسة، فماذا تكون السياسة؟
ولكن أجهزة الفكر والإعلام السياسي الأمريكية على وجه الخصوص، كما ينبه البشري بدقة، تصوّر الأمر على أساس أن الصراع الدائر هو صراع ثقافي يدور في هذا المجال، هكذا أعلنها “هانتجتون” وغيره، وهكذا يجري وصفه وتصويره الآن. والسبب – في تقدير البشري- “يرجع إلى أنه إذا وصفت طبيعة الصراع باعتباره صراعًا سياسيًّا، فإنه يظهر مباشرة أن الولايات المتحدة هي المعتدية ونحن المعتدَى علينا؛ لأن المكافحة تدور على الأرض العربية وأراضي شعوب المسلمين وليس غيرها، وهي تدور بين العرب والمسلمين في بلادهم وبين الأمريكيين ومَن تحالفَ معهم من دول الغرب؛ ولأن حجم الضحايا العرب والمسلمين في بلادهم أضعافَ أضعاف حجم الضحايا من جيوش الغزو والاحتلال؛ ولأن حجم التدمير الهائل يجري في الأراضي المحتلة، كما أن موطن الثروات الطبيعية المطموع فيها هي أرض العرب والمسلمين؛ ولأن الحل الوحيد الحاسم لهذا الصراع هو أن يعود الغريب الأجنبي إلى بلده وأن ترتفع الأيدي عن أرض الغير وشعوبهم”(10).
أما إذا وصفت المسألة -كما هو حادثٌ الآن- وصفًا ثقافيًّا (محضًا)، ووُصف الصراع بأنه صراع فكري وثقافي أو حضاري (فقط)، فإن ذلك معناه – لدى البشري- “أن شعوبًا وأناسًا بسبب ما يدينون به من دين وما يملأ رؤوسهم من عقائد وما يقتنعون به من آراء وأصول فكرية، إنما يُمسكون بالسلاح ويقتلون الآخرين. والعدوان المادي على الآخرين يحتاج إلى صياغات فكرية مواتية، والحديث عن الصراع الثقافي يخدم هذه الصياغة، بل هو هذه الصياغة. ومن يضرب أقوامًا لابد أن يرميهم بالنقص أو بالخيانة أو القسوة وبكل ما هو قبيح. وهذا لا يصدر فقط عن الرغبة في تسويغ العدوان لدى الغير، بل يصدر أيضًا عن التصميم على إشعار المضروب بالنقص المعنوي ليُسلَم زمامه للمعتدِي”(11).
وفي هذا الإطار وانتقالاً من الممارسات والسياسات إلى الخطابات والحوارات، يتأمل البشري الحالة الخطابية والحوارية الراهنة فيما بين قوى الداخل وبين داخل الأمة والخارج، فيقرر أننا بالخطاب الموجَّه للغرب إنما نتحاور معه، والحوار مطلوب طبعًا بين كل من تجمعهم علاقةٌ ما، ولكن المشكلة هي مدى ملاءمة “موضوع” الحوار “لنوعية” العلاقة القائمة، ومَن الطرفُ الذي يحدد الموضوع ويعيّن النوعية. وفي إطار هذه العلاقة يلحظ أن الحوار يدور عن “أنفسنا”، وأن الغرب هو من رسم موضوعه، فهو الأصل ونحن المتغير، وهو مَن يقود الحوار ويسأل ونحن نجيب، وهو من يرتب المسائلَ المسئولَ عنها ونحن نتبعه في ذلك، وهو يصوغ المفاهيم الخاصة بالعلاقة ونحن نستخدم ذات المفاهيم، ثم هو يقرر أن مفاهيمه هي “العلم” بما يفضي إليه ذلك من جبر الآخرين على الانصياع لها لأنها “الحقيقة الموضوعية”، فيصير: هو النظام ونحن الإرهاب وهو الاستقرار ونحن القلاقل وهو السلم ونحن الحرب.
والقاعدة البِشرية في ذلك تقول: إن التبعية والإلحاق في مجال الوعي والإدراك، تفضي بنا إلى أن ننظر إلى أمورنا لا كما هي عندنا، ولكن ننظر إليها كما يراها غيرُنا، وهذا هو عين الاغتراب؛ عين الذهول عن الذات. التبعية والإلحاق في مجال الوعي تجعلنا ننظر إلى ذوينا بعيون غربية، ونصنف مشاكلنا بمثل ما يصنفها الغرب، ونرتب أولوياتنا بالترتيب الذي يصفه، ونحكم على أنفسنا بميزانه، ونسمى أحوالنا بما يطلقه عليها من أوصاف، ونعتمد لشئوننا جدول الأعمال الذي يصفه هو، فتصير حقوق الأفراد أهمَّ من حقوق الشعوب، وتحرُّر المرأة من جبروت الرجل أهمّ من تحرر البلد المحتل من سطوة الاحتلال الاستيطاني وطرد الشعوب من أوطانها.
والنتيجة هي أن ما يصوغه بقوله: “أخطأ ما نقع فيه من خطأ، هو أن نُستدرج إلى مناقشةِ ما يفرضه المعتدي علينا من موضوعات حوار تتعلق بذواتنا الثقافية والحضارية والفكرية، وأن نتصور أن دفاعنا عن أوضاعنا في هذه المجالات وعن عقائدنا وقناعاتنا هو مما يمكن أن يقنعهم بجدارتنا لعدم عدوانهم علينا، فيقتنعون بحقوقنا ويحترموها ويسلموا بها، وأن استدراجهم لنا في هذه الأمور يشغلنا ويصرفنا عما يتعين أن تكون له الأولوية في نشاطنا الفكري، إذا رتبنا احتياجاتنا بما يستجيب لحقيقة مشاكلنا وأوضاعنا. فهو نوع من تبديد الطاقة والإلهاء بالأقل أهمية”(12).
وفي إطار ضرورة أن يتحاور بعضنا مع بعض في شئوننا الذاتية، لنفهم وقائعنا وحقائق أوضاعنا وما نعالج به شئوننا، يرى البشري أننا نحتاج إلى إدراك عدد من الأمور؛ منها:
أ) أن مذهبًا فكريًّا أو مدرسة فكرية لا تظهر في ظرف اجتماعي وتاريخي معين، إلا أن تكون تعبيرًا عن ظاهرة حاضرة في هذا الظرف الاجتماعي التاريخي، قوية كانت هذه الظاهرة الحاضرة أو ضعيفة، وصائبًا كان هذا التعبير أو خاطئًا، فهي تكون معبرة عن رؤية للظاهرة وعن وجهة نظر معينة في تحديد ما ينشأ عنها من أمور، ووجهة نظر معينة في تبين جوانب الاستجابة والحلول لهذه الأمور. وأن كل جماعة ثقافية وهي تتعامل مع ما جدّ في حاضرها من مواجهات، إنما تتعاطى من مخزون ثقافتها وتسحب من رصيدها الفكري المتراكم عبر المراحل التاريخية السابقة، والذي يتكون منه التشكل العقلي والنفسي لهذه الجماعة: عقائد ومواريث وخبرات تاريخية.
ب) إن كل تيار فكري أو سياسي إنما يحتوي على إمكانات غلوّ وإمكانات اعتدال، وأن الواقع المعيشي أو الظرف التاريخي أو موقف جماعة معينة ورؤيتها فيما يتضمنه هذا التيار، إن أيًّا من ذلك هو ما يُنعش أيًّا من إمكانات الغلو أو الاعتدال أو يضمرها. كما أنه في كل من الحركات السياسية تقوم إمكانات لاستخدام العنف وإمكان لاتّباع الأساليب السلمية، وأن الغلو والاعتدال يتعلقان بالأهداف المبتغاة، وهو يقاس بتقدير مدى الفروق بين أوضاع الحاضر في رؤية تيار سياسي محدد، وبين الأهداف المطالب بها أو صورة المستقبل التي يرنو لتتحقق على يديه، وكلما اتسعت الفجوة بين رؤيته للحاضر وبين ما يستهدفه مستقبلاً كان هذا التيار أجنح للغلوّ، وكلما ضاقت هذه الفجوة كان أجنح للاعتدال. كما أن العنف والسلم يتعلقان بالوسائل المتخذة لبلوغ الأهداف، فحيث ترى أي حركة سياسية إمكان تحقيق الأهداف بالتداخلات الاجتماعية والتخلل الاجتماعي والسياسي والأسلوب التدريجي، تتبع الحركة الأساليب السلمية، وحيث ترى حركة سياسية ما -وفق تقديرها- أن الوضع القائم يستعصي على التغيير المطلوب بالسلمية وبالتدرج، لا تجد هذه الحركة مناصًا من استخدام العنف.
كل ذلك تقوم فيه الخيارات والتنوعات على أساس تقدير الواقع وفق رؤية تيارات بعينها أو حركات فكرية وسياسية معينة في الزمان والمكان المعيّنين، والتفكير السياسي والاجتماعي في كل ذلك إنما يظهر من واقع يستدعي “مخزونًا ثقافيًّا”. فثمة تنوع هائل وتعدد في الرؤى السياسية ووجهات النظر الاجتماعية، حسب ظروف الزمان والمكان، وحسب نوعية المشاكل المطروحة ونوع الصراع الذي يقوم وأطرفه الآخرين، وحسب توجه الجماعة السياسية الاجتماعية التي تتبلور على يديها حركة معينة.
وأليس هذا كله ما يتعين أن يدور الحوار بشأنه بين بعضنا البعض، بدلاً من أن نستهلك الجهد والوقت التاريخي المتاح في أن نؤكد ونعيد التأكيد ونـزيده بأن فكرنا الإسلامي متسامح ويقبل التجديد ويتصف بالمرونة ويوصي بالإخاء مع الآخرين، هكذا على وجه الإطلاق المجرد من ظروف الواقع المعيش في كل زمان ومكان؟!
3- من واقع العدوان والإلحاق إلى مخرج المقاومة والإصلاح
يواصل البشري سيره ونظره في واقع الأمة وقضاياها؛ معمقًا النظر إلى الآخر والعدو وسياساته تجاه الأمة وبقاعها؛ ليلحظ وحدة سياسات العدو في مقابل وحدة محلها وموضوعها: الأمة، بينما فعل المقاومة محل سجال وفرقة. فـ”من حقنا أن نعتبر أن حروبهم تجاهنا نحن العرب والمسلمين واحدة، خصوصًا أننا نجد أن المصلحة بين إسرائيل وبين السياسة الأمريكية الثابتة المستقرة ليست مشتركة ولكنها متحدة، فهناك (اثنتا عشرة) حربًا بيننا على مدى ستين سنة؛ أي بمتوسط حرب كل خمس سنوات، مما يعني أنها حرب واحدة ووقائع متسلسلة ومستمرة؛ ولذلك فهناك عدو استراتيجي أمامنا، إذا نظرنا لمعاركه سنجدها تتنقل بين: مصر، وسوريا الذي ما زال جنوبها محتلاً حتى الآن، ثم لبنان ثم العراق والكويت. إذن العدو هنا يوحدنا ونحن نأبى أن نتوحد، بل نجد بعض رجالنا يقول إن العلاقة بيننا وبين أمريكا هي علاقة تحالف استراتيجي”(13)!
ومن هنا يضع البشري قواعد المقاومة ضد العدو الاستراتيجي الذي يأتي في صورة احتلال عسكري ركن وأساس؛ وللشعوب فيها دور ومقام. “فالجيش النظامي يدخل حربًا نظامية تلك التي تقع بين دول متعادلة من ناحية القوة العسكرية، وإلا فشل. هذه نقطة محسومة تاريخيًّا؛ فالوسيلة الأساسية لمقاومة الاحتلال العسكري من دولة كبرى هي المقاومة الشعبية. فالمحتل يدافع عن مصلحة والمقاومة تدافع عن وجود وبقاء، والمصلحة أقصر من الوجود وأقل ضرورة منه، وهذا يجعل المقاوِم نفَسُه أطول لأنه يدافع عن وجوده. المقاومة الشعبية تعتمد علي تقديم تضحيات بشرية ضخمة وتتفادى المعارك الحاسمة وتجعل العدو دائمًا قلق وغير مستقر”(14).
وفيما يتعلق بالمقاومة في فلسطين على سبيل المثال، يشير البشري إلى أنها تأثرت بطبيعة الوضع التاريخي للمجتمع الفلسطيني الذي كان مجتمعًا بشريًا وضعُه مستقر، فيه طوائف وطبقات ودولة وفئات مختلفة، وأيضًا قبائل وأسر وقرى وحواضر، وبدخول الصهاينة -ومع التشتيت والتهجير والضرب والتقتيل- تمزقت البنية الاجتماعية داخل فلسطين، ولم تعد هناك علاقة بين الطبقات فأصبح المجتمع مهلهلاً، وبذلك أصبح المجتمع كالركام يعيش أهله في الملاجئ والمخيمات، وتوزعوا على بلاد الشرق الأوسط، وبعضهم ذهب أمريكا وباقي دول العالم. ثم بدأت التركيبات الضخمة للفلسطينيين في المهجر في التجمع مع بعضهم البعض، وكان يجب أن يمرّ وقتٌ طويل حتى يتجمّع المجتمع من جديد ويستقرّ.
ومن ناحية أخرى ثمة جانب خطير في علاقاتنا مع الغرب يتمثل في محاولات الإلحاق الزماني أي احتلال زماننا بعد مكاننا. ففي معرض تناولات ما يعرف بالحادي عشر من سبتمبر الذي تحول إلى تاريخ عالمي فارق، يقول البشري:
“تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن تجعل تاريخ “11 سبتمبر عام 2001” تاريخاً عالميًّا، وتريد بوجه خاص أن تثبته تاريخاً إسلامياً عربياً؛ أي تاريخاً يحمل علامة طريق في السياق العربي الإسلامي للأحداث، والبعض منا للأسف الشديد قد سقط في هذا الفخ، وطفق يروج في أحداثنا الجماعية والقومية والمحلية، يروج لفكرة “ما قبل 11 سبتمبر” وما بعد “11 سبتمبر”. إن 11 سبتمبر عام 2001 هو حدث أمريكي، يتعلق بالسياسات الأمريكية وبسياق أحداثها ووقائعها، هو عملية تدمير لرموز أمريكية، بدا للأمريكيين ولنا أمراً يشين العزة الأمريكية، المبنية على القوة المادية وحدها، وعلى جبروت المنعة المسلحة. هو حدث بدأ من الأرض الأمريكية وانتهى إليها وقام تأثيره فيها. الأمر هنا ليس فكاهة وليس طرفة تبدى، ولكنه أمر لـه علاقة وثيقة بعملية “الإلحاق” “والاستتباع” الشعوري والإدراكي؛ فهم يرون مثلاً أن اقتحام شارون للقدس الشريف في 28 سبتمبر عام 2000 ليس حدثاً عالمياً، ولا ينبغي أن يكون حدثاً عربياً إسلامياً بمثل ما ينبغي أن يكون ليوم 11 سبتمبر عام 2001 من أهمية واعتبار”(15).
أين القاعدة المنهجية في ذلك؟ تقول منهجية النظر السياسية الحضارية التي يتبعها البشري الذي يبدو فيها أقرب إلى ابن خلدون-العمران الإسلامي المعاصر: إن البلد المتبوع يميل إلى تأكيد أن تكون وقائع تاريخه وحاضره هي وقائع وأحداث البلاد التابعة له، وأن تستلب تلك البلاد من وقائعها وتاريخها وأحداثها. وسيادة أي بلد على بلد تستلزم لدى السيد أن ينمط نظرة التابعين على وفق نظرته ويلحقهم به من زاوية الرؤية الثقافية وطريقة التفكير. “إن الأمر هنا يمس صميم الإدراك والوعي الذي يراد زرعه في الآخرين، أو محوه لدى الآخرين. إن ما يعنينا من 11 سبتمبر عام 2001 هو أثره؛ أي أثر السياسة الأمريكية التي أفصحت عن نفسها بعده، أثر ذلك في أيامنا العربية المعيشة، ومن أهمها الآن 28 سبتمبر عام2000 (تاريخ انتفاضة الأقصى) والسابع من أكتوبر 2001 (تاريخ الغزو الأمريكي لأفغانستان)، والعشرين من مارس 2003 (الغزو الأمريكي للعراق)”(16).
ومن ناحية أخرى يرسخ أستاذنا مبدأ أن قوى الدول والأمم -مهما بلغت- فإنما هي قوى نسبية محدودة ويمكن التغلب عليها. فالولايات المتحدة على سبيل المثال لم تبدأ حربها في أفغانستان إلا بعد أن أجهدت نفسها في كسب دعم الدول الأخرى لها، الأوروبية ثم روسيا ثم دول آسيا المحيطة بأفغانستان، ثم كسب سكوت الصين. “وفي النهاية فإن الولايات المتحدة الأمريكية بمسلكها الدولي في العقد الأخير، هي التي أسقطت مفهوم الشرعية الدولية، وهي لا تترك أي فرصة لصديق لها ولا لعميل أن يقنع ساذجاً منا بأنها ليست خصماً لنا، ولا أنها دون إسرائيل في خصومتها للعرب، في فلسطين وفي غيرها من القضايا المثارة. وهي وإسرائيل لا تتركان فرصة لصديق لهما أن يقنع ساذجاً وطنياً بأنهما تبغيان أي نوع من السلام معنا ولا بأن تعترفا بآدمية هذا الذي نسميه “نحن العرب”. وليس أمامنا إلا الاغتراب الكامل عن المنطق الأمريكي الإسرائيلي”(17).
ولكن كيف للأمة العربية والإسلامية أن تواجه هذا الجبروت والعدوان الغاشم خاصة في ظل ارتهانٍ بسؤال الإصلاح والنهوض؟
في هذا الصدد، يقدم المستشار البشري رؤية مهمة لمقومات هذا الإصلاح والنهوض قوامها أن الإصلاح والتجدد في أمتنا يجب أن يكون صناعة توحيدية محلية وحضارية: “إن أول شروط الإصلاح الحقيقي هو أن يكون صناعة محلية صرفًا في حالة الأوطان القطرية، وصناعة حضارية واعية في حالة الكيان الأشمل: الأمة. ومن ثم يتشكل هذا الإصلاح في ممارساته وإجراءاته ثم في تكوينه من المادة الوطنية والحضارية دون غيرها.
لقد تبين لنا من تجارب الإصلاح ومحاولاته عبر القرنين الأخيرين كيف كانت الفكرة ذاتها –عند نقلها من بيئتها إلينا- تتخذ وضعًا فاسدًا وتكون دعوة لإصلاح ضال يفضي في التطبيق إلى خلاف ما أراد ناقلوها من فائدة، أو تتخذ وضعًا حميدًا وتكون دعوة لإصلاح رشيد يفضي إلى تحقيق النفع لمجتمعاتنا وإلى ما تصير به من أدوات مواجهة التحديات القائمة. فعلى سبيل المثال وجدنا أن أفكارًا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية – وهي من أنبل الأهداف التي تقضي على الاستبداد والاضطهاد، وتمكِّن الجماهير من حكم نفسها بنفسها- حينما ترد في إطار ظروف اجتماعية غير مواتية، أو تستند لدعم الدول الطامعة الساعية للتدخل في الشئون الداخلية، الهادفة إلى تفكيك الدولة واقتسام أشلائها؛ فتصير الديمقراطية بابًا شرعيًا للتدخل الاستعماري في شئونها وتنفيذ المآرب”(18).
يرتبط بذلك عبارتان يلاحظ البشري أنهما تترددان عبر مائة عام مضت، بغير سأم، وبغير شعور بالاصطناع، هاتان العبارتان هما: “في هذه الأيام العصيبة التي تمر ببلادنا”…، و”إنّ سنوات التحول والانتقال التي نحياها”… ويقول: “إننا جميعًا نتفق على أن ما نحياه يمثل شذوذًا واستثناء، أو أنه نتوء تاريخي. ولكن العجيب، أننا – مع هذا الاتفاق- جد مختلفون حول ما هو العادي من الظروف، وأننا متصارعون حول بيان ما لا نحياه من الأوضاع، وحول تبين ما يجب أن تكون عليه أحوالنا. نحن نختلف حول ما كنا فيه وما نصير إليه، وحول تقييم أوضاع الماضي الذي نخرج منه، وتصورنا لأوضاع المستقبل الذي ندخل فيه. نحن نتصارع حول “تقييم” الماضي والمستقبل؛ بمعنى أننا “نتفق” في أن حاضرنا هو مرحلة انتقال من وضع “مختلَف” على تقييمه، إلى وضع “مختلّف” على تصوره. فعلى مدى المائة العام الأخيرة، عشنا مرحلة الانتقال إلى التحرر؛ وقبل أن يتحقق، دخلنا في مرحلة الانتقال إلى نظم التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؛ وقبل أن تتحقق، دخلنا في مرحلة الانتقال إلى التعددية. وهذا بالضبط ما أسميه بالنموّ المعوَّق، فهو نموّ لا يُتكَفَّل له أبدًا بالمجال الزَّمني الذي يهيئ له المناخ الملائم”(19).
ويتصل بهذا حديث البشري عن الإصلاح السياسي وعلاقته بالتجدد الحضاري. “فالإصلاح والتجديد السياسي باعتباره ذروة سنام الأمر، ولكن ليس هو الأمر كله بل لا يخلو من الحاجة الأساسية إلى أعمدة من الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي، بيد أن رأس الأمر هنا يتعلق – في رأيي- بالتجدد الحضاري، بحسبان هذا الأمر يمثل بندًا من بنود “المشروع الحضاري العربي الإسلامي للنهوض”. فالمشكل هنا في أساسه مشكل ثقافي وفكري، وهو يتعلق بالنتاج الفكري في مجالات النشاط البَشَري للجماعة بعامة، سواء بالنسبة للأطر المرجعية التي يصدر عنها الناس، أو التصورات الذهنية النظرية التي ترسم الخطوط العامة لعلاقات البشر بالكون وبالجماعات المتباينة، أو النظم السياسية والاجتماعية التي تشخص تجمعاتهم وتنظم جوانب أنشطتهم الاجتماعية، أو أنماط العلاقات البشرية ووجوه المعاملات بين الناس، أو القيم التي يهتدون بها ويرسمونها في مناحي السلوك المختلفة.
والمشكل أيضًا يتعلق بالتجدد، بما يعني الحركة، حركة النشاط الفكري الثقافي من الماضي إلى الحاضر وإلى المآل المتوقع أو المتصور له في المستقبل، ثم حركة التفاعل بين كل مجال من مجالات هذا النشاط الفكري الثقافي وبين المجالات الأخرى المشار إلى بعضها فيما سبق، أي حركة التأثر والتأثير بين بعضها البعض، وذلك فضلاً عن الحركة الذاتية بين مفردات كل من هذه المجالات وأقسامها وأنواعها، وفضلاً عن الحركة العامة لكل هذه الجموع مع ما هو آت من خارج الجماعة بالوفود أو بالاقتحام أو بالاستجلاب”(20).
والتجدد الحضاري في بلادنا وفي زماننا -في تصور البشري والحديث لا يزال له- “لا يُكتفي فيه بالتصور الغربي والأوروبي الشائع، من أن الشعوب تسير من التخلف إلى التقدم، ومن الأفقر إلى الأغنى، ومن الأشقى إلى الأسعد، ومن الأسفل إلى أعلى، هذا التصور الغربي الذي يرد مطلقًا في إطار التجربة التاريخية للغرب، إنما يرد في حدود الصدق النسبي بالنسبة لنا في إطار تجربتنا التاريخية أيضًا، فنحن أيضًا نواجه مخاطر ونصادف تحديات، ونلقى انعكاسات ونصاب بهزائم ونفقد أهم ما يبغيه الإنسان وهو الأمن الجماعي، وكل ذلك مرتبط بمسيرة تتراوح بين التقدم والتقهقر وبين السعادة والشقاء وبين الارتفاع والهبوط”(21).
إذًا، نحن في نظر البشري أمة في خطر، تعاني عدوانًا حضاريا من جهة، ووهنًا حضاريًّا من جهة أخرى، والوهن دعوة لمزيد من العدوان، ولكن العدوان قمين بتحريك طاقات المقاومة، وتحصين خطى التجديد والإصلاح. إنها جدلية لا فوز فيها إلا بصدق الحرص على الذات، ولا يكون هذا إلا بلأم الشقوق كتلك الماثلة بين الأمة والدولة والمجتمعات والأفراد. وفي هذا الإطار تتجلى محنة الدولة في الخارطة العربية والإسلامية.
4- محنة الدولة بين التفكيك والاختراق
إن خلاصة محنتنا -فيما يبدو للبشري- صارت تتمثل في هذا الصَّدْع الذي يصيب الكثير من بلادنا في العلاقة بين الحكومات والشعوب، أو بين الدولة والأمة؛ حسبما أنتجت الأوضاع السياسية في السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة؛ على وجه الخصوص.
يقول: “ونحن نعرف أنه في صراعات المكافحة الوطنية؛ يواجه الوطنيون قوى العدوان الحديثة ذات التفوق النافذ بما لا يقوم معه مجال للمقارنة بين الطرفين. وإذا واجهت خصمك بما يتفوق به عليك من أدوات وأساليب وإمكانات وقدرات؛ فأنت الخاسر لا محالة، وأنت -فوق كل ذلك- الأقل ذكاء؛ لأنك اخترت غير المناسب من أدوات المكافَحة وأساليبها؛ إنما ما يميزك عنه أنه يدافع عن مصالحه، وأنت تدافع عن وجودك؛ فأنت الأطول نَفَسًا لأن الأمر يتعلق بوجودك، وأنت القادر على إفساد مصلحته وإحالتها إلى خَسَارة، وتحويل النفع المتبقي له إلى إضرار متحقق عليه, كما يميزك أنك أقدر على بذل الأرواح منه؛ لأنك مظلوم يدافع عن حياته وخصائص ذاته وثقافته, وجماعته التي يكسب من حياته فيها معنى هذه الحياة ذاتها، ويميزك أنك خفيف الحركة قليل التكلفة المادية؛ وهو جيش نظامي ثقيل الحركة باهظ التكلفة”(22).
يذكر البشري هذا لبيان أنه “لا تثريب على حكومة أو دولة ألا تستطيع مواجهة قوى العدوان الخارجي من الدول الكبرى الطامعة. والحكومة أو الدولة تعمل من خلال الجيوش النظامية، وهي تضطر للمواجهات الحاسمة وتسقط بهزيمة الجيش في مثل هذه المواجهات الحاسمة, وهي تسقط بالسيطرة على العاصمة أو على أداة الحكم المركزي؛ أي بسقوط بؤرة اتخاذ القرار المركزي. أما المكافحات الشعبية؛ فهي بسيطة التكوين، متكاثرة الخلايا، تتفادى المعارك الحاسمة؛ أو هي بعبارة أدق ليس لها أي إمكانية للاشتباك في مواجهة حاسمة؛ إنما هي تعتمد على إرهاق الطرف الخصم، وعلى العمل الصغير كثير التكرار الذي لا يمكن وقفه. وأدواتها بسيطة متاحة وأساليبها سهلة قريبة المنال، وكل المقصود هو إفساد سعي المعتدي إلى الاستقرار، وإفساد سعيه إلى تحقيق المنافع، والتسبب في النـزيف المادي والبَشَري الذي لا ينتهي، أو لا يعلم متى ينتهي. وهذه المكافحات لا تملك الحكومات المركزية للدول الحديثة إمكاناتها. ومن جهة أخرى؛ فإن الدول وأجهزتها المركزية لا تنظم جيوشًا فقط؛ وإنما تقوم بإدارة مجتمع كامل (بما فيه من مرافق وخدمات)، وتوفير الحدود الدنيا من احتياجات بشر يعيشون حياة يومية جارية في أقاليم شتى, وبيئات متعددة, وأجيال من البشر بأعمار متنوعة، وغير ذلك مما تتوزّع عليه جهودها ومتطلبات الناس منها؛ وذلك بخلاف الحركات الشعبية التي يرد إليها عناصرها بالاختيار والتطوع، قابلين تحمل المخاطر مستعدين للبذل؛ فكل ذلك مقدَّر ومعروف، وتقوم به تجارب من الماضي”(23).
يرى البشري أن كل ذلك معروف ومشتهر ومقدَّر، وتسنده تجارب أمم، وسوابق حركات شعوب؛ ربما لا مجال للإفاضة فيه، وهو مشمول بمعرفة القارئين.. إذًا فأين المشكلة؟ المشكلة المراد بيان ما تشكله من محنة في هذا السياق –وفي نظر البشري- أن “الحكومات صارت تحول دون أن ينهض من شعوبها من يؤدي الوظائف الدفاعية المطلوبة، وأنها صارت تخشى من انتفاضة شعبها على المعتدين من الخارج؛ بأكثر مما تخشى من عدوان الخارج عليها وعلى شعبها، وهي تنظر إلى أمنها الذاتي بحسبانه متناقضًا -في مقتضياته- مع مقتضيات حماية الجماعة السياسية في عمومها، وصارت الشعوب لا تواجه عدوان الخارج عليها فقط، ولكنها تواجه القيود التي تفرضها حكوماتها عليها لئلا تلبي نداء المقاومة.
المشكلة في هذا الانغلاق التام الذي تمَّ؛ فسدَّ منافذ العديد من الحكومات من دون شعوبها، فَتَشَخْصَنَتْ وصارت شأنًا خاصًا. لقد صار أمن الأمة معلقًا على قدرتها على استعادة سيطرتها على دولها، ونظم الحكم فيها”(24).
يلحظ الحكيم البشري أن الدول المعنية هنا ليست فقط غير قادرة على حفظ أمن الجماعة من المخاطر الخارجية؛ ولكنها صارت أيضًا -في العديد من الحالات- تعوق الحركة الشعبية أو الحركات الشعبية التي تنتفض لمقاومة مخاطر الخارج، أو الزود عن سيادة جماعتها الوطنية. إن العديد منها صار أحرص على أمنه الذاتي منه على أمن الجماعة السياسية التي يحكمها ويُفترض أنه يمثلها ويحرسها؛ ومن ثم بدت في السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة مفارقات مهمة؛ وهي لا تفهم إلا بتبين تلك الخصائص التي سبقت الإشارة إليها في هذا الحديث.
نحن – والكلام لا يزال للبشري- “عندما نستعين بالقوى الخارجية على أوضاعنا الداخلية إنما نكون قد أقررنا على أنفسنا بأننا غير قادرين على إدارة شئوننا الذاتية، ولا قادرين على حماية مصالحنا الداخلية في مواجهة من هم منا، فكيف نكون قادرين من ثم على حماية مصالحنا وأوطاننا في مواجهة قوى الخارج؟! وإن المبدأ الساري في السياسات الدولية أن: من لا يقدر لا يستحق. ونحن إذا أقررنا على أنفسنا بعدم القدرة على حماية أوطاننا من المستبدين الداخليين، فإن قوى العدوان الخارجي تفهم من ذلك أننا لسنا مستحقين لهذه الحماية.
نحن نريد أن نقاوم عوامل التفكيك وقواه، وأن تتخذ سياسات مضادة لكل ما يفضي إلى التفكيك لأي من قوانا وهيئاتنا التي بنيت بشق الأنفس على مدى قرنين، وأن نحفظ قوى التماسك لجماعتنا الوطنية ولمؤسساتنا ونستعيدها لصالح الوطن وأمنه وهنائه. وأساس الخشية هنا يرد من أن يكون اكتسب البعض منا شيئًا من ثقافة الشخصنة، فينصرف عن جوهر الحراك الشعبي الإصلاحي العام إلى صراعات الغرف المغلقة، والمفاضلة بين شخص وشخص”(25).
وفي النهاية يرى البشري أن السؤال المهم الذي يجب أن يُطرح علينا، هو كيف يمكن أن يلتئم الصدع، وكيف يمكن أن نعود من جديد أمة واحدة من حيث الإطار الثقافي المرجعي الذي نعبر به عن “وطن فكري” يضمنا جميعًا، مهما اختلفت وجهات نظرنا ومصالح جماعاتنا الفرعية، ومهما تباينت أساليبنا في مواجهة المشاكل وتلمس الحلول؟
لا يقوم “وطن فكري” واحد إلا بمرجعية شرعية واحدة تجمع المجتمع كله؛ لأن المرجعية الشرعية هي ما يفيد قوة التماسك للجماعة، وهي ما يحدد الذات الجماعية ويتشكل بها الضمير “نحن”. من هنا تبدو للبشري خطورة الانقسام المتعلق بأمر المرجعية الشرعية في الجماعة؛ “لأنه انقسام لا أقول يقسم الجماعة فقط، ولكنه يذيبها أو يعرضها للذوبان بما يفقدها من هويتها ومن إحساسها بالذات الجماعية. ومن جهة أخرى، فنحن يتعين أن نميز بين الموقف أو المأخذ الثقافي المتعلق بالإطار المرجعي وبين النظريات الاقتصادية والتوجهات والمواقف السياسية والاجتماعية. لقد جرى خطأ مشترك وقع فيه -في ظني- كل من مؤيدي المرجعية الإسلامية ومعارضيها، ذلك أن المؤيدين للمرجعية الإسلامية -وهم في معرض التأكيد على أن الإسلام دين ودنيا- نظروا إلى الإسلام باعتباره نظامًا سياسيًا واجتماعيًا، نظروا إليه لا بحسبانه مرجعية عامة يمكن أن تتفرع بمبادئه وأصوله وأحكامه نظم متباينة وفقًا لأوضاع الزمان والمكان وطبقًا للمذاهب الفكرية في استخلاص الأحكام، لم ينظروا إليه بهذه السعة ولم يراعوا إمكانات التنوع والتعدد في الأحكام والنظم التي يمكن أن تنبعث عن مبادئه وأحكامه، إنما قالوا عن الإسلام إنه يقيم نظامًا وحيدًا، واختلفوا في هذا النظام الذي تقيمه مبادئ الإسلام وأحكامه، فمنهم من قربه إلى الديمقراطية ومنهم من استقل به عنها وركز جهده على ذكر الفروق بينهما، ومنهم من قربه إلى توجهات العدالة الاجتماعية التي صاغت بها الاشتراكية دعاواها وتصوراتها، ومنهم من ميز نظام الإسلام عنها امتياز تناقض”(26).
فالثابت في هذه الرؤية الحضارية هو – في تصور البشري- “ما أورده هذا الكتاب وما جاء بالسنة مبينًا ومفصلاً. ونصوص الإسلام وردت نصوصًا منـزلة من الله سبحانه فهي ثابتة لا تتعدل، وهي آتية من خارج الزمان فهي باقية رغم تغير الزمان، وثبوت ذلك هو موقف اعتقادي، بحيث إن الإسلام ينتفي بانتقاء الإيمان بهذا الأمر. ومن منطلق هذا الثابت، ومن معين هذا الإطار المرجعي يجب أن تنطلق رؤى الإصلاح وخطواته، وأن يقايس ما يرد من دعوات ونظم للإصلاح من الخارج. فالإصلاح في أمتنا لا يصلح إلا أن يكون منها وبما يتفق مع مرجعيتها الجامعة، ومصالحها الذاتية، ورؤيتها المتسامحة مع العالم من حولها”.
وهكذا ما بين الأمة والعالم، والأمة وعناصرها التكوينية من الدول والمجتمعات، ودوائر الانتماء والأبعاد الثقافية والحضارية لقضاياها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية تتحرك رؤية بشرية ومنهجية نظر ثاقبة، نقر فيها مع البشري أن أمتنا في محنة، وأنها محنة تستدعي -كما يقول البشري- “بحثًا من الباحثين، ومراجعة من المفكرين، ثم هي أولاً وأخيرًا، وهي من قبل ومن بعد؛ تستدعي حركة من الحركيين، الذين يستطيعون بسعيهم العلمي ونشاطهم الفعلي تغيير الواقع. يقول البشري:
“نحن طبعًا نحتاج إلى رؤية وإلى نظر وإلى فكر، وأن يكون ذلك سابقًا للفعل؛ لأنه مرشد له وهادٍ إلى حركته. ولكن ما أقصد أن أقوله إن ما لدينا من رؤى ومن نظر وفكر هو كافٍ الآن لبدء أي حركة فعلية؛ بل أكاد أقول إن رؤانا ونظراتنا وأفكارنا قد بلغت الحد الذي لا تستطيع بعده أن تتطور وتنمو إلا إذا مارست الأعمال التي تستوجبها عليها حصيلة ما بلغته هذه الرؤى والنظرات والأفكار. … ما دُمنا في صدد الفكر والنظر؛ فعلينا أن نحدد ما بلغه علمنا من ذلك، وأن نستشرف ما نقف دونه مما نحتاجه ولم نُحِطْ به خُبرًا بعدُ، ولن نحيط به – في ظني- إلا بالفكر المصاحب للفعل، وإلا بالنظر المواكب لحركة السواعد والأقدام”(27).
والحمد لله
الهوامش
(1) المستشار طارق البشري، الافتتاحية، حولية أمتي في العالم، العدد الأول: الأمة والعولمة، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 1999)، ص 9.
(2) المستشار طارق البشري، تقديم، حولية أمتي في العالم، العدد الثاني: العلاقات البينية داخل الأمة، 2000، ص 7.
(3) المستشار طارق البشري، أمتي في العالم، العدد الأول، ص 7.
(4) المستشار طارق البشري، تقديم: الأمة في عام “السَّـنَة”، أمتي في العالم، العدد الخامس: تداعيات الحادي عشر من سبتمبر على أمة الإسلام، 2002، ص 10.
(5) المرجع السابق، ص 10، 11.
(6) المستشار طارق البشري، أمتي في العالم، العدد الأول، ص 9.
(7) المستشار طارق البشري، تقديم، أمتي في العالم، العدد الثاني، ص 9.
(8) المستشار طارق البشري، تقديم، أمتي في العالم، العدد الخامس، ص 11.
(9) المستشار طارق البشري، أمتي في العالم، العدد الأول، ص 8.
(10) المستشار طارق البشري، أمتي في العالم، العدد الثامن: الأمة ومشروع النهوض الحضاري: حال الأمة2008، 2009، ص 11.
(11) المرجع السابق.
(12) المرجع السابق، ص 12.
(13) المستشار طارق البشري، أمتي في العالم، العدد التاسع: غزة بين الحصار والعدوان: قراءة في الدلالات الحضارية، 2010، ص 10.
(14) المرجع السابق، ص 10، 11.
(15) المستشار طارق البشري، تقديم، أمتي في العالم، العدد الخامس، ص 8.
(16) المرجع السابق، ص 9.
(17) المرجع السابق، ص 13.
(18) المستشار طارق البشري، تقديم: الإصلاح والتجدد في أمتي .. صناعة توحيدية محلية وحضارية، أمتي في العالم، العدد السابع: الإصلاح فى الأمة بين الداخل والخارج، 2007، ص 1.
(19) المرجع السابق، ص 3.
(20) المرجع السابق، ص 5.
(21) المرجع السابق.
(22) المستشار طارق البشري، تقديم، أمتي في العالم، العدد التاسع.
(23) المرجع السابق.
(24) المستشار طارق البشري، أين المحنة التي تواجه الأمة؟، أمتي في العالم، العدد السادس: الحرب على العراق وتداعياتها على أرجاء الأمة الإسلامية، 2005، ص16.
(25) المستشار طارق البشري، تقديم، أمتي في العالم، العدد السابع، ص4.
(26) المرجع السابق، ص 7.
(27) المستشار طارق البشري، تقديم، أمتي في العالم، العدد السادس، ص1.