تحديات كبيرة واستجابات عليلة في عالم العرب والمسلمين : فأين نحن من سنن التغيير والمدافعة والمقاومة ؟
العدد 131
تأملات حول مفهوم التحدي:
هل التحديات تعني القضايا الثائرة الحالّة التى تتطلب موقفا أو تعاملا ؟ أم أن التحدي أوسع وأكثر امتداداً من الحدث العابر أو المؤقت أو الآنى؟
وواقع الأمر أن عملية التمييز بين الثابت والمتغير فى التحديات، والمستمر والآنى، والآنى فى المستمر، والمستمر فى الآنى، هى عمليات مهمة.
ومن هنا فإن الظاهرة الاستعمارية قد شكلت تحديا جامعا للدول العربية والإسلامية وغيرها من دول العالم الثالث.
ومثَّل الاستقلال السياسى تحديا من نوع آخر. وأبرزت الدولة القومية تحديات من نوع مختلف على عالم العرب والمسلمين والعلاقات بينه وبين بعضه، وبينه وبين غيره. وفى خط التحديات بدا التحديث تحديا سيطر على عمليتى (البناء والنماء) والذى يصب فى التحدى الأصلى المتعلق بالبقاء. ومع تغير وسيولة الأحداث برز إطار أطلق عليه النظام العالمى الجديد كشعار سياسى شكَّل بيئة مستحدثة، إلا أن هذا الشعار أسند بعد ذلك بمفهوم وعمليات سميت (العولمة) التى كان لها من التأثيرات الفكرية والذهنية والثقافية، بحيث أضافت تحديات جديدة، وأبرزت التحديات القديمة فى أشكال وأقنية جديدة، وبدا الأمر أنه نتيجة تراكمات شديدة الأهمية فى المجال السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى والفكرى والتقنى والاتصالى والمعلوماتى والاعلامى. (العولمة) حركت أثاراً غاية فى الأهمية ضمن إدراكات ليس فقط بالعلاقة بالخارج ولكن فى رؤية الداخل وانطلاقاته نحو علاقات بينية وإقليمية وخارجية ودولية.
وتتطلب التحديات بدورها ضرورة النظر إلى مستقبلها وتطورها، طبيعة ومسارا، وما يفيد ذلك من آثار على مناهج التعامل والتناول للتحديات فضلا عن مناهج النظر.
التحدى وفق هذا الاعتبار (حالة) و(وضع) و(موقف) و(علاقة) و(اختبار) و(ابتلاء) و(وعى وإدراك) و(استجابة وسعى) على كل المستويات.
وهو بهذا الاعتبار إن كان يرتبط (بقضايا) أو (إشكالات) أو (أزمات)، فإن جوهر التحدى ليس فى التعرض لمثل هذه الحالات، ولكنه يقع فى قدرة البشر على إدراكها، والوعى بها، والتعرف على سنة التعامل معها، وإمكانية تحويل السلبى منها إلى طاقة إيجابية، وتعظيم الإيجابى منها، وكذلك يتمثل ذلك فى أنماط الاستجابات النابعة لا التابعة، الفاعلة والواعية.
إذا كانت هذه هى المعانى المختلفة التى أردنا أن نشير إليها ضمن معانى التحديات، فإن الأمر بصدد تصنيف التحديات لا يقل صعوبة أو غموضا عن معنى التحديات ذاته.
ومن المهم فى هذا المقام أن نحرك المؤشرات الكلية لمعنى التحدى :
– التحدى هو حالة تتطلب الاستجابة على تنوع ما بين نمط الاستجابة.
– إن التحدى تعبير عن حالة متراكمة، وهو بهذا الاعتبار يختلف عن طبيعة المشكلة العابرة التى قد تكشف عن التحدى وأهمية مواجهته.
– إن التحدى يعبر عن حالة من الاستمرار النسبى.
– إن التحدى يشكل منظومة قطاعية، ومن ثم فإن التحدى يمكن تسميته قطاعيا أفقيا أو رأسيا حسب طرائق المعالجة والتصنيف.
– إن التحدى قد يعبر عن إشكالات هيكلية، كما قد يعبر عن حالات سلبية، إلا أنه ليس كذلك فى كل الأحوال، فالتحدى قد يكون من طبيعة الأمم لمواصلة رقيها، ومن هنا فإنها تجعل من وجود التحدى أمرا وظيفيا يحرك البواعث والدوافع للعمل المستمر فى الترقية والإنماء.
– إن التحدى عملية مستمرة، وهو عمل إيجابى وسلبى، وهو يعنى حالة من التنبه الدائم والحفز الدائم ضمن معادلات متشابكة ومستطرقة لا يمكن الفصل الكامل بين عناصرها. إن التحديات موصولة ومولدة من بعضها البعض فإن تحدى البقاء يؤكد تحدى البناء، وتحدى البناء يؤكد تحدى الإنماء، وكل هذه التحديات بدورها تؤكد تحدى الأداء والسياسات بالنسبة لكل منها، وهذه التحديات الكلية تؤكد بصددها تحديات نوعية أو مشتقة.
قد يكون من الصواب أن تحدد خريطة التحديات نظريا، وقد يكون من الأصوب أن نؤكد أن التحديات بالنسبة لعالم المسلمين قد (لا تختلف) أو (تختلف) بالنسبة لغيرهم، فمنها العام ومنها الخاص. إلا أن الأمر المتيقن أن العالم الإسلامى يواجه حزمة من التحديات من المهم القيام على تصنيفها .
ومن أهم تصنيفات تلك التحديات هى ما تحرك الأهداف القريبة والبعيدة، وفى هذا المقام فإننا أمام ثلاث تحديات على الأقل وتحد رابع يجمع بينها:
تحدى البقاء.
وتحدى البناء.
وتحدى النماء.
ويجمع بين هذه التحديات جميعا تحدى الأداء .
تحدى البناء ينصرف لعمليتين مهمتين (بناء الدولة ومؤسساتها) (وبناء الأمة وعلاقاتها)، أما تحدى البقاء فهو يعنى الحفاظ على أصل الوجود الفعال والقدرة على التمكين له، ولا شك أن هذا التحدى ينصرف لعمليات تتعلق بالشروط الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكفيلة بإحداث واستمرار القدرة على فن البقاء الفعال. أما تحدى النماء، فإنه نتاج للتفاعل بين القدرة على البناء والقدرة على البقاء معا، بما يحقق أطرا لتعظيم الفاعلية والقدرة والتمكين، وما يتطلبه ذلك من إمكانيات لإعادة البناء، والقدرة على التصحيح الذاتى، والقدرة على إحداث حالة من التنظيم والتعظيم .
إن هذه التحديات جميعا تتطلب تعظيما وتقويما لمناهج (التعامل والتناول)
الإمكانات }مناهج التفكير ¬سياقات الوعى — البناء الفكرى
القدرات}ومناهج التسيير
الفاعليات}ومناهج التدبير
ومناهج التغيير
ومناهج التأثير
ومناهج التمكين ¬سياقات السعى — البناء المتعلق بالممارسة.
إن هذه الأطر وتفاعلها (تحدى البقاء) (وتحدى البناء) (وتحدى النماء) يجمع بينها تحديا مهما فى كل مجال وهو تحدى (الأداء)، والذى يعنى تحويل جملة التحديات إلى (سياسات) و(إجراءات) و(عمليات) و(أولويات) فى إطار من تحريك المقاصد والغايات.
الأداء : فاعلية وإنجاز وكفاءة
والأداء قد يكون فى بناء المؤسسات، أو فى مواجهة الأزمات، أو فى تسيير السياسات، أو فى بلوغ الغايات.
لكن فى كل الأحوال فإن الأداء عمليات متواصلة ومتراكمة تتطلب ترجمة التحديات إلى سياسات وتعاملات واستجابات.
هذه التحديات جميعا تقع ما بين تحديات (الابتداء) فى إطار التهيؤ لعملية التعامل الحضارى والإقلاع الحضارى وتحديات الصعود والارتقاء الجامعة لتحديات البقاء / والبناء / والنماء.
وفى هذا السياق يمكن النظر إلى حزمة التحديات بهذا المعنى، من خلال رؤية لمعانى الحفظ المتعلقة بالمقاصد الكلية العامة، ذلك أن تعاضد مستويات الحفظ ووسائله وقدراته مع أهدافه وغاياته ومع استمراره وتأسيسه، لهى عمليات مهمة للتعامل مع تلك التحديات أصلية كانت أم فرعية، كلية كانت أو جزئية، سياسية كانت أو غير ذلك.
وواقع الأمر أن هذه التحديات يجب أن نشير بصددها إلي أمور مهمة:
– حقيقة أن كل الحضارات تجابه تحديات تتفاوت فى الوطأة والتأثير، وتتفاوت فى معنى الضغوط الدافعة والمانعة، وفى معنى الفرصة والمخاطر، وهى بهذا المعنى تحدد معنى الاشتراك فى التحدى والتشابه بينها (مع دول العالم الثالث)، والتحديات بمقتضى الاشتراك الإنسانى (الإنسانية والمستقبل المشترك).
– أما الأمر الثانى فيتعرف إلى طبيعة التحديات وأوزانها والأولويات المتعلقة بها، والقدرات التى تحرك استجابات منظمة.
– أما الأمر الثالث، وهو موضع تركيزنا في هذه المقالة، فيرتبط بشكل الاستجابات لمثل هذه التحديات على تنوعها وتعددها في كافة المجالات الحضارية الاجتماعية منها والاقتصادية والثقافية والفكرية والقيمية وغيرها من تحديات.
الاستجابات العليلة للتحديات الكبيرة:
نحن أمام عدة استجابات يجب رصدها فى سياق الاستجابات العليلة والكليلة والسلبية لما يمكن تسميته بالتحديات، أو ما هو فى حكمها، هذه الاستجابات تتمثل فى أربعة أشكال:
الأول: الاستجابة البلاغية والانفعالية، وهى حالة تخرج عن حد المعالجة العلمية والبحثية إلى خطاب مكرور يتسم بالإنشائية وفائض الكلام، من دون البحث فى الأسباب والعوامل الظاهرة والكامنة خلف الظواهر المتعلقة بالتحديات والقدرة على الوعى بها والاستجابة إليها والتعامل معها، وتحديد التحديات تأثيراً وأوزانًا.
الثانى: الاستجابة الإغفالية، وهى التى تغفل عناصر مهمة فى التحديات مثل: إغفال (السـياسـى) وإغفال (الداخلى فى السياسى)، وإغفال كل ما يتعلق (بالسلطة فى الداخلى).
الثالث: الاستجابة الافتعالية، وهى التى تحرك عناصر إدراك للتحدى يحرك عناصر تهويل فى الرؤية بما يورث استجابة تعبر عن الاستسلام لواقع التحديات السلبى وتكريسه وإقراره سكوتاً أو يأساً، وهى استجابة مانعة من بناء الرؤية الحضارية والاستراتيجية القادرة على تأسيس الوعى الإدراكى لها، وفاعلية السعى فى التعامل معها.
ويمكن الإشارة كذلك إلى نمط يمكن تسميته بالاستجابات القاتلة، والتى تشكل الاستجابات الإدراكية مقدمة لها، حرب الخليج الثانية والأولى مثالاً واضحاً فى هذا المقام، تضاؤل فاعلية الأوبك البترولية وانخفاض أسعار النفط لأدنى مستوى لها يعبر عن نمط آخر يمكن تسميته بالاستجابات التى ترتبط بنمط الاستجابات المخذولة، وهى أوصاف من المهم استعارتها من مالك بن نبى فى هذا المقام.
الرابع: أما الشكل الرابع من الاستجابة فيتعلق بالمعنى التآمرى فى تفسير ليس فقط التاريخ وإنما امتداد التاريخ فى المستقبل، وسنفرد له بعض التفصيل ممثلاً فى أحد النماذج فى إشارة واضحة لنمط هذه الاستجابة وتداعياتها على موضوع التحديات.
الخامس: أما الشكل الأخير فيتمثل فى الاستجابة المتوهمة فى إطار منهج تفكير يتعلق بالأمانى لا بالعمل الحقيقى على الأرض، وهو ما سنفرد له أيضاً بعض التعليق المهم والاسناد له، وذلك للتذكير بخطورته ضمن نمط الاستجابات السلبية.
فى إطار البحث عن مستقبل التحديات (الداخلية والخارجية) الحضارية التى تجابه العالم الإسلامى يحسن أن تتصور هذه الرؤى ضمن عنصرين مهمين:
الأول: يشير إلى ضرورة الدراسات المستقبلية عند دراسة موضوع التحديات فى عالم المسلمين، وذلك ضمن اقتراب علمى يقدم بعض نماذج من هذه الدراسة لمستقبل العالم الإسلامى وخرائط تحدياته المختلفة .
الثانى: يشير إلى الاستجابات العليلة والسلبية للتفكير بالمستقبل وتحدياته، يتمثل ذلك فى أكثر من اتجاه نستعرض أهم اتجاهين منها :
الاتجاه الأول: اتجاه التفسير والاستجابة من خلال نظرية المؤامرة، وهو يجد فى التفسير التاريخى الذى يزكى معانى المؤامرة على عالم المسلمين مسوغاً للانطلاق من التاريخ فى المستقبل، ليزكى نفس التقسيم المؤامرتى، ولتسويغ القعود عن الوعى بطبيعة التحديات والقدرة على استشراف مستقبلها فى إطار يربط بين الوعى والسعى المترتب عليه.
الاتجاه الثانى: اتجاه التفسير والاستجابة من خلال الاستجابة المتعلقة بانتظار نهاية التاريخ، والتى لا تختلف من حيث تأثيراتها عن الاتجاه السابق، من القعود عن الفعل والفاعلية والتعامل مع هذه التحديات فى إطار الوعى والإرادة والعدة.
نعالج هذين الاتجاهين بقدر من التفصيل والبيان:
أولاً: الاستجابة ومنطق عقلية المؤامرة : إشكالية منطق “المؤامرة” فى تفسير الأحداث والتاريخ:
لا تكاد تمر أزمة من الأزمات المتلاحقة التى تحل بالمسلمين فى مختلف بقاع الأرض إلا ويظهر منطق فى تفسير تلك الأزمة يؤكد على ان ما يجرى إنما هو “مؤامرة”، سواء كان ذلك متعلقاً بأسباب الأزمة أو وقائعها أو نتائجها العملية. وربما يختلف حجم القناعة بذلك المنطق والإصرار عليه من موقع لآخر ومن جهة لأخرى، لكن المؤكد أن هذا المنطق لا يزال يتحكم فى طريقة تفكير شرائح واسعة من العرب والمسلمين فى قضاياها، خاصة حين يتعلق الأمر بالقضايا السياسية التى تمس وجود المسلمين فى هذه البقعة أو تلك من العالم.
والمشكلة فى هذه العقلية لا تكمن بطبيعة الحال فى ما يمكن أن ندعوه الاجتهاد الخاطىء فى تفسير الأحداث والتاريخ، وإنما هو أعمق من ذلك بكثير لأنه يمثل خطأ فى منهجية وطريقة التفكير والتحليل من الأساس، على عكس الاجتهاد الخاطىء الذى ينبنى على منهجية تفكير سليمة ولكنه ينتج الخطأ بسبب نقص فى المعلومات أو غير ذلك من العوامل . والخطأ فى منهجية التفكير أمر بالغ الخطورة لأنه يضع الأفراد والجماعات على “السكة” الخطأ منذ اللحظة الأولى، بحيث لا يعود هناك بعدها مجال للتصحيح والتصويب، وبحيث يصبح هذا الخطأ الأساسى الخطوة الأولى فى سلسلة متتالية من الأخطاء على صعيد اتخاذ المواقف والقرارات وغيرها من ردود الأفعال النظرية والعملية.
ولكن.. هل يعنى هذا الرفض لاستعمال منطق “المؤامرة” فى تفسير الأحداث والقضايا أن نقع بالمقابل فى فخ السذاجة الفكرية والطفولة السياسية التى تفترض أن تلك القضايا تقع وأن أحداثها تتالى بمحض العفوية الكاملة دون أن يكون وراءها تخطيط وتدبير ؟ لا بالتأكيد .. فمنطق “المقابلة” و”المتعاكسات” و”الثنائيات” هو بحد ذاته خطأ آخر بل وشكل آخر من أشكال الإصابة الفكرية التى يتخبط فيها أحياناً العقل العربى والمسلم فى هذا العصر، هذا المنطق الذى لا يرى إلا وجهين لكل قضية ومسألة، فإذا نفيت له أحد الوجهين قفز إلى استنتاج مؤكد بأنك بالضرورة تثبت الوجه الآخر وتؤكده وتوافق عليه.
ومفرق الطريق للخروج من هذه الإشكالية إنما يتمثل فى تحرير الفرق بين معنى “المؤامرة” بالشكل والتعريف الذى يصاحب استخدام المصطلح عند العقل العربى والمسلم خاصة وعند الإنسان أيا كان، وبين مسألة التخطيط والتدبير كما يمكن فهمها وتعريفها بناء على الرؤية الموضوعية لهذه المسألة.
أما منطق المؤامرة فإنه يمتد على مستويين للتفكير، أحدهما عام كلى والآخر جزئى محدد. فعلى المستوى الأول ينظر المرء إلى الأحداث الكبرى التى تقع من حوله فلا يجد تفسيراً لها إلا أن وراءها مجموعة من العوامل التى تتفاعل وتحرك الاحداث بأشكال عجيبة وطرق معجزة تستعصى على الفهم والإدراك. وبتحليل مثل هذه الرؤية، نجد فى خلفيتها أشخاصاً يتحركون فى الظلام كالأشباح، ونجد جهات خفية مجهولة تمسك بالخيوط وتحركها مباشرة من وراء الستر الكثيفة لتصل إلى غايات لا فكاك ولا مهرب منها وكأنها قدر من الأقدار. من هنا مصطلحات وتعابير من مثل “المخططات الجهنمية” وما إليها … لتختصر وتختزل المعانى السابقة ونعبر عنها فى لفظ أو لفظين، بحيث يصبح من السهل استدعاء تلك المصطلحات من الذاكرة الثقافية واللغوية واستعمالها فى أى وضع تنطبق عليه الرؤية السابقة، الأمر الذى لا يترك أى فرصة لمحاولة التفكير فى الحدث الجديد بغية تحليله بشكل منهجى وموضوعى.
أما على المستوى الثانى، فإن تفسير الحدث المعقد يصبح منصباً على عامل واحد محدد، عنده قدرة هائلة على التأثير فى كل شيء وبالتالى على تفسير كل شىء، ويمكن أن يكون هذا العامل شخصاً (مثل زعيم أو قائد معين) أو جهة (مثل أمريكا أو حلف شمال الأطلسى) أو معنى عاماً (مثل الاستعمار أو الصليبية العالمية أو حتى المال). وبنفس الطريقة، تتواجد فى خلفية هذه الصورة قوة جبارة مخيفة تحرك الأحداث وتتحكم فى الأمور وتسيِّر مصائر البلاد والعباد دونما قدرة منهم على الرفض أو المقاومة. ولكن الفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة أن القوة المسيطرة هنا محددة معروفة، وليست متمثلة فى مجموعة من العوامل المجهولة الخفية.
وفى كلتا الحالتين يتضح لنا أن استخدام منطق “المؤامرة” ليس منبثقاً من فراغ، وإنما يأتى من حاجة إنسانية غريزية لتفسير كل شىء يجرى من حوله فى هذه الحياة، وفى هذه الحالة بالذات يشعر ذلك الإنسان بالحاجة إلى اللجوء لاستخدام هذا المنطق لأنه ينطلق من خلفية إنسان عاجز عن الفعل تماماً.. إنسان يشعر فى اعماقه أن تلك الأحداث خارجة كلياً عن إطار سيطرته وقدراته.. فإذا اضفنا إلى هذه المشاعر إشكاليتى التعميم والتزييف اللتين تحاصران العقل العربى والمسلم فيما يتعلق بمسألة المعلومات، خاصة منها ما يتعلق بدقائق السياسة ودهاليزها، وأضفنا كذلك ضعف – وأحياناً انعدام – قدرة ذلك العقل على ممارسة عمليتي التركيب والتحليل لما لديه من معلومات للوصول إلى رؤية اقرب للصواب لما يجرى من حوله فى هذا العالم.. فإن من الممكن لنا حينذاك رؤية عناصر المزيج الثقافى والنفسى الذى تنتج عنه العقلية التى تعتمد على منطق “المؤامرة” فى تفسيرها للأحداث .
وإضافة إلى هذا، فإن من الممكن لنا أن نلمح الدور الذى تلعبه مسألة تجاوز أهل الاستنباط والتخصص فى مختلف المجالات، عندما يحاول الإنسان تحليل وفهم كل أمر من الأمور من منطلق تجاربه الشخصية ومعرفته المحددة. فإذا قصرت عدته الذهنية والعلمية عن تقديم الجواب، استسهل اللجوء إلى تفسير القضية بمنطق “المؤامرة”، بينما القرآن يعلمنا أن اللجوء إلى أهل الاستنباط هو الواجب فى مثل هذه القضايا بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. إن العلم بالأسباب الكامنة وراء أمر من الأمور يمكِّن الإنسان من الصبر على مقتضياته، بينما الجهل يدفع إلى الظن والتخمين، وبالتالى إلى الثورة العارمة أو الاستسلام الكامل ولذلك قال “الخضر” للنبى “موسى” عليه السلام: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} وفسر ذلك بقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}.
والأمر الذى لا شك فيه أن منطق “المؤامرة” هذا ليس حصراً على العقل العربى والمسلم، فمن طرائف الأمور أن تجد وتسمع فى قنوات المذياع والتلفزة الأمريكية، خلال عمليات “الناتو” فى “صربيا” كثيراً من الصرب ينطلقون فى رؤيتهم وتحليلهم للأحداث من عمق منطق “المؤامرة”، فيؤكدون بكل قناعة واصرار أن من أهداف أمريكا إعادة الامبراطورية العثمانية إلى غابر مجدها فى أوروبا!! رغم ذلك، فإن شيوع استخدام منطق “المؤامرة” بين العرب والمسلمين خلال تلك الأحداث خاصة، وقبل ذلك وبعده بشكل عام، بات يبلغ درجة مرضية أصبح يشكل معها عائعاً أساسياً أمام إمكانية فهم صحى سليم للعالم وتعامل فعال معه.
وفى مقابل منطق “المؤامرة” بل وكرد فعل على المبالغة فى استخدامه، يمكن أن يقع البعض من العرب والمسلمين فى إشكالية التبسيط البالغ، إلى درجة إلغاء كثير مما يقع من التخطيط والتدبير اللذين يحركان الأحداث فى اتجاهات معينة، ويؤثران إلى درجة كبيرة فى صياغة الواقع. والحقيقة أن رفض منطق “المؤامرة” بهذا الشكل المتطرف يمكن أن يؤثر سلبياً فى فهم امتنا للعالم وفى قدرتها على التعامل معه، بنفس الدرجة التى يمكن أن تنتج عن منطق “المؤامرة”، بينما يمكن للرؤية المتوازنة الوسطية أن تعطينا القدرة النفسية والعملية المطلوبة لرؤية أكثر صواباً للواقع، وبالتالى لفعل بشرى إرادى فعال ومؤثر.
فالتخطيط أمر ما برحت المجموعات البشرية تمارسه منذ أزل بعيد، والفارق أن قدرة الإنسان وطاقاته الفكرية والعملية فى هذا العصر بلغت مبلغاً يمكنه من ممارسة هذا الأمر بأشكال وعبر معطيات لم تكن تخطر على بال أجداده فى العصور السابقة. والواضح أن التخطيط ممارسة ذهنية وعلمية معقدة، وأنها أصبحت علماً قائماً له أصوله وقواعده ومقدماته، وأن إطلاق كلمة التخطيط على أمر معين لا يعنى بالضرورة أن يستحق ذلك الأمر صفة التخطيط، فالكلمة يمكن أن تكون فى كثير من الأحيان مجرد كلمة بلا مضمون، ومن أمثلة ذلك أن ترى “تخطيطاً” فى كثير من البلاد تقوم به الحكومات وتقام له الوزارات، ولا تكون نتيجته الوصول إلى الأهداف فى أحسن الأحوال. بل ربما كان هذا العامل نفسه هو ما أفقد الكلمة معناها عند العقل العربى والمسلم، حتى بات عاجزاً عن رؤية ما يمكن للتخطيط أن يفعله فى حياة الناس على جميع المستويات، وبات – بالتالي- عاجزاً عن رد الأحداث إلى ذلك المعنى الخطير، ليكون خياره الوحيد المتبقي متمثلاً فى اللجوء إلى منطق “المؤامرة”.
والأمر الآخر الذى يجب إيضاحه أن التخطيط قد يهدف إلى تحقيق أهداف شريرة وخسيسة، كما أنه قد يهدف إلى تحقيق أهداف خيرة وصالحة. أو قد تكون الأهداف التى يراد الوصول إليها بالتخطيط ضرورية ومفيدة لطرف ما، بينما تكون – فى الوقت نفسه – ضرراً ووبالاً على طرف آخر. وكذلك يمكن أن تكون للتخطيط أهداف قصيرة المدى (ربما تنتج عنها نتائج سيئة) وأهداف بعيدة المدى (تنتج عنها النتائج الجيدة المنتظرة)، والعكس صحيح. من هنا نجد أن مسألة التخطيط – بذاتها – ليست صفة محايدة كلياً، وإنما هى مجرد أداة تتحكم فى أهدافها وفى غاياتها المنطلقات العقدية والفلسفية لمن يستخدمها فى جميع الأحوال.
وإضافة إلى هذا، فإن عملية التخطيط يمكن أن تمارس فى السر كما يمكت أن تمارس فى العلن، وفى كثير من الأحيان فإنها تمارس على المستويين. غير أن من ملامح هذا العصر أن حجم السرية ما انفك يتناقص – لمن يعيش عصره حقاً – مع ثورة المعلومات والاتصالات الانفجارية المعاصرة، بحيث باتت أهداف كثير من الجهات – خاصة على الصعيدين السياسى والاقتصادى – معروفة، وصارت الإمكانات التى تقع تحت سيطرتهم مادياً ومعنوياً معلومة، بل وأصبحت نماذج الطرائق و(السيناريوهات) التى تستخدم للوصول إلى الأهداف معروضة وموثقة فى الكتب والندوات والدورات العلمية.. ولم يبق فى طى الكتمان إلا بعض الأمور التنفيذية والمداخلات الشخصية التى لا تمنع من يفهم عصره من استقراء الملامح الأساسية للخطط والتدابير ومن تحضير الأساليب والوسائل ورسم البدائل الممكنة للتعامل معها إذا كانت تمس وجوده وحاضره ومستقبله .
إلا أن من الطبيعى أن تظهر آثار التخطيط ونتائجه اضخم بكثير من حقيقتها وتأخذ صفتها الإعجازية حين يكون الطرف المقابل غائباً -إلى حد بعيد- عن فهم عقيدته وفلسفته فى الحياة من جانب، وعن فهم العالم والعصر من جانب آخر. فاستشعار الإنسان لنفسه إنما هو الخطوة الأولى فى طريق خوفه من الآخرين ورؤيته لهم أكبر واقوى بكثير مما هم عليه فى الحقيقة. ثم جاء القرآن الكريم ليوضح الخلفية النفسية من وراء العلاقة بين الاستكبار والاستصغار فوصف فرعون بقوله: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) ليكون هذا معلماً من معالم حركة الإنسان المؤمن الواعى على هذه الأرض، يتمثل فى أن رفض الاستخفاف والاستصغار هو المقدمة العملية ليعود الكائدون إلى أحجامهم الحقيقية. ومعلوم أن رفض الاستخفاف والاستكبار ليست كلمة تقال، وإنما هى ممارسة عملية تبدأ وتنتهى بامتلاك الزاد المطلوب من عدة الإيمان والعلم والوعى والعمل.
وغنى عن القول أن التخطيط يشمل فعاليات الحياة الإنسانية المختلفة، فهو موجود وملاحظ على الصعيد الاقتصادى كما على الصعيد السياسى والصعيد الاجتماعى.. والأمثلة فى هذه المجالات أكثر من أن تعد وتحصى.. ربما يعود العقل العربى والمسلم إلى ردها مرة أخرى آنذاك إلى وجود “مؤامرة”.. ناسياً الأسباب المنطقية التى أدت إليها فى المراحل السابقة .
وبنفس الطريقة، يمكن أن نفكر فى التخطيط السياسى في الغرب بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، فأهداف السياسة معلنة ومطروحة كما ذكرنا، تدرس فى الجامعات، وتشرح فى الكتب والمراجع، وتناقش فى الندوات والمؤتمرات وفى وسائل الإعلام . والملاحقة المنهجية لهذه الأمور تمكن المتابع لها أن يفهم بشكل معقول – على سبيل المثال – الدور المنوط فى المرحلة القادمة على الساحة العالمية بمنظمة “حلف الناتو”، وأن يدرك ارتباط هذا الدور بمصالح الغرب المتشابكة وبالمبادئ المعلنة التى تقوم عليها حضارته من جهة ثانية، بحيث يستطيع الإنسان المتابع – بعد ذلك- أن يرسم إطاراً عاماً يفهم ويستقرئ من خلاله الوقائع والأحداث التى تجرى عملياً على أرض الواقع، وأحياناً حتى قبل أن تقع، دون الحاجة إلى اللجوء إلى منطق “المؤامرة” السالف ذكره فى فهم الأحداث .
وباختصار، فإن ما نريد الإشارة إليه هو ضرورة الانتقال فى فهمنا للأحداث من استعمال منطق “المؤامرة” إلى استعمال العقل والعلم والمنهجية بغية البحث عن العلل والأسباب المنطقية الكامنة وراء تلك الأحداث .
وكما أشرنا سابقاً، فإن إشكالية فهم الظاهر والأحداث وفقاً لذلك المنطق ليس مشكلاً بحد ذاته فقط، وإنما هناك إشكاليات أخرى تنبع عنه على مستوى الفعل، وربما تكون أكثر خطورة فى التأثير على مصائر الشعوب، ويتضح هذا أكثر ما يتضح حين يقوم منطق “المؤامرة” باعطاء زخم هائل لمشاعر العجز والاستسلام، باعتبار أن القوى التى تحرك الأحداث أكبر وأقوى بمراحل من مجرد التفكير بكيفية التعامل معها ومواجهتها مواجهة الند للند، بحيث تُدخل العقلية التى تستخدم منطق “المؤامرة” أصحابها فى حلقة مفرغة خائبة، لأنها تصدر – من ناحية – من واقع العجز والكسل والارتخاء والرضى بالدونية، ثم إنها تنتج – من ناحية أخرى – مشاعر فى قلب الإنسان وعقله تؤكد وترسخ واقع العجز والكسل والارتخاء ذاك، ولا تسمح له برؤية طريق منطقى ممكن لتفسير الأحداث، ثم للتعامل معها بشكل إيجابى يوقف متتالية الخذلان والاستسلام والتراجع ويعود بالخير على الأمة وعلى البشرية جمعاء .
ثانيا : الرؤية للمستقبل وواقع التحديات ووهن الاستجابات :
يجب هنا أن نرصد اتجاهاً مهماً فى تصور التحديات وطرائق مواجهتها يتمثل فى كتابات بدأت تبرز مؤخراً وكأنها تمثل طبعة – من بعض الباحثين المسلمين- حول نهاية التاريخ، وهي تصورات باتت تجابه التحديات المتعلقة (بالنظام العالمى الجديد، بالولايات المتحدة، بالصراع العربى الإسرائيلى، بالفتن المتعلقة بعالم المسلمين) بتفسيرات لعامة الأحداث السلبية، بالتبشير ببعض الأحداث الإيجابية، بظهور المهدى أو التهيئة لظهوره، لقرب نهاية العالم وما يعنيه ذلك من بشارات ونبؤات، لمقولات الأصول وما فى حكمها… إلخ) سنجد كتباً ترصد (أحاديث الفتن والملاحم) و(أحاديث النبؤات أو العلامات) كتبًا تبشر بدمار أمريكا القادم وربما الوشيك، كتبًا تبشر بهزيمة اسرائيل ودمارها، كتبًا تبشر بانتصار العرب والمسلمين وما يعنيه ذلك من هزيمة الغرب، كتبًا تتحدث عن عمر أمة الإسلام وما يرتبط بذلك من جدال، وظهور المهدى الذى سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورا وغير ذلك من كتابات. وبدأ هؤلاء يستندون إلى النبوءات وإلى مصادر من كتب الحديث، يفسرونها ويؤولونها .
وتبدو هذه الكتابات تتحرك ضمن مفاهيم أربعة ذات تعلق بالتحديات:
* مفهوم الفتن .
* مفهوم العلامات .
* مفهوم البشارة .
* مفهوم التبنؤ بعالم الأحداث المستقبلى .
يرتبط كل هذا بعالم الأحداث سواء فى شكل التعبير عن إرهاصات المحدث أو توقع حدوثه، وقد يسرق البعض لتحديد الزمان لوقوع مثل هذه الأحداث، إستناداً لأمارات أو علامات يؤول لها أو بها.
والخطير الذى نود أن ننبه إليه ليس فى عملية إثبات صحة النقل، فلهذا رجاله الثقات القادرون على ممارسة هذا المنهج المتميز والذى اختص به العلماء المسلمون، ولكن فى لفت الانتباه إلى مناهج النظر والتفكير والتدبير والتغيير ضمن تأويلات نظن أنها قد أخطأت الطريق هدفاً وتوظيفاً .
وربما يجب أن ننبه، ضمن الخريطة الإدراكية لعالم التحديات وعملية الاستجابات والتعامل معها، إلى خطورة هذا النمط من التفكير ومناهج النظر .
وواقع الأمر أن هذه الاتهامات تقود إلى نتيجة غير مباشرة، إذ تكرس عقلية “الانتظار” و”الإغراء” به، وأن “الوعد” و”البشارة” و”العلامة” قد تحولت فى واقع الأمر إلى عالم الأحداث المعاصر وإمكانات التنبؤ بمساراته، وتحولت الأمور إلى التفكير فى التحديات ومواجهتها من خلال أسلوب “الأمانى” “ليس بأمانيكم و… من يعمل سوء يجزى به”، ونظن أن منهج نظر هذه الكتابات يلقى رواجاً فى أذهان “العامة”.
وتجدر الإشارة هنا إلى ما يلي:
– أن كثيراً من هذه الكتب تلهى الإنسان المسلم عن الفطنة إلى عالم الأحداث الذى يجرى أمامه، وتشير إلى الدخول إلى منطقة خطرة قد تنقل معانى الغيب ووظيفته، وباعتباره من أصل البنية المعرفية الإسلامية فى إشارة إلى القصور البشرى والإنسانى، {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} إن الغيب يقدم النسق المفتوح للعلم وتحصيله، والإحساس المستمر بقصور العقل الإنسانى فى إدراك مساحات كثيرة من الكون وما يحدث فيه.
– أن هذه الكتابات بما تحيل إليه من علامات قد تزكى عناصر ثقافة الانتظار حتى يقع التنبؤ من دون فعل إنسانى، إن النبؤات واقعة لا محالة، وعلينا فقط انتظار وقوعها .
– أن هذه الثقافة الانتظارية تؤدى إلى حالة تخديرية فى حركة البشر وفعلهم الحضارى، ويطلبون بل يعولون على النبؤات لكثير من مشاكلهم التى تفوق طاقتهم، تبريراً لوهنهم وضعفهم، وقد يزينون ذلك الفهم الكسول والمنتظر بأنه {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} وأن هذه الأمور فى وقوعها وانتظارها {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ}.
– أن هذه الكتابات تخطىء فى العناصر الوظيفية لمثل هذه الأحاديث والصحيح منها، إن أحاديث الفتن، وعلامات القيامة، وما يقع فى مقامها هى من مقام الوظيفة الإنذارية للنبوة والرسالة، والأحاديث التى تشير إلى ملء الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً هى مقام وظيفة البشارة {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراًً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}.
إن بتكامل وظائف الرسالة وأدوارها (الشهادة، البشارة، الإنذار، الدعوة إلى الله) تتحدد النتيجة فى أن تكون الأدوار بمثابة السراج المنير، الذى يرى كل هذه المعانى وتحققها فيها. والبدء بالشهادة (وعالم الشهادة) هو عالم الحضور فى قبالة عالم الغيب، ولا ترى وظائف البشارة والإنذار إلا ضمن عالم الشهادة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} إن هذه المعانى تحرك أصول الدافعية والحفز للفعل الحضارى، (الشهادة) والاهتمام بالواقع وعالم أحداثه وسننه والقدرة على التأثير فيه فى مساراته، والحضور والشهود الحضارى القادر على تقديم هذه الرسالة ضمن مجالها الحيوى للبشرية بل للعالمية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، والبشارة معنى تحفيزى لا تقع إلى بتحرك الفعل الحضارى نحوها وبسننها الفاعلة والدافعة، البشارة ليست قعوداً، بل هى معنى يتطلب من المؤمنين عملاً يهيىء البنية والوسط ليس فقط لتقبل البشارة ولكن لتحققها . والإنذار هو الوظيفة التحذيرية للبشر أن يقعوا فى زمان تلك العلامات، ومن ثم على المسلمين أن يتنبهوا ويترقبوا هذه المؤشرات الدالة على فساد الزمان وتتبعها بالمواجهة والإصلاح، إنها حال من التنبه الدائم القادر على البصر بالواقع والبصيرة فى التعرف على تحدياته وطرائق التعامل معها . الدعوة تمثل حالة إصلاحية تتكامل فيها وظائف أدوار “الشهادة” و”البشارة” و”الإنذار” وتبصير الإنسان بهذه الحقائق . هذا كله يحقق الوظيفة فى السراج المنير فى الظلمة أو فى الحلكة أو فى الفتن أو فى كل أمر هو محل التباس أو اختلاط أو عماء .
– يبقى بعد ذلك أن هذه الكتابات وفق هذه التأويلات الصادة عن الفعل، المجهضة للتنبؤ، المشلة للفاعلية، تقصى مناهج التفكير السننى، وتشل فاعلياته وتأثيرها فى تأصيل مناهج التفكير والتدبير والتغيير، وهى بهذا المعنى يجب أن تحتكم إلى قواعد وكليات الوعى بالسنن {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، ومن هنا تبدو لنا عناصر فهم الفعل الحضارى التى لا تتحقق عدته إلا من خلال السنن والعمل لها وبها، فضلاً عن الوعى بأصولها وجوهرها، إن السنن تشير إلى منهج لوصف الواقع الذى نعيشه والبحث عن إمتداداته وحركته وتعلم سنن فقه الحال، وسنن فقه المجال، وسنن فقه المآل لتحرك عناصر تفكير مستقبلي، من المهم أن نقف عند وعيه ومقتضيات سعيه حينما يتحرك وفق جوهر السنن الشرطية .
وفى هذا الإطار يبدو لنا أن التفكير بعالم التحديات (أزمات، فتن، تنبؤات، ابترءات … الخ) وكذلك التفكير بنمط التعاملات والاستجابات معها ولها (الوعى، السعى، الفاعلية) وتواصل مناهج التفكير بالتدبير، بالتسيير، بالتغيير، بالتأثير والتمكين لتعبر بذلك عن هذه الإمكانية الكبرى فى دراسة التحديات، لا انتظار انتهائها أو إنهائها خارج دائرة الفعل البشرى لأن ذلك فى الحقيقة يعنى:
– التأويل الخرافى باسم الغيب .
– التفريط فى قواعد وكليات المنهج السننى .
– امتهان معانى (التكليف) (الأمانة) (الاستخلاف) (المسئولية) (الكرامة الإنسانية) (الشهادة) (الدافعية واقتحام العقبة) (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ).
– تبديد منظومة مناهج التفكير ومناهج التدبير، والتسيير، والتغيير، والتأثير والتمكين .
إن التنحى عن الفعل، وثقافة الانتظار، والاستقالة الحضارية، وتحويل الغيب من دافعية عليه إلى تأويلات خرافية، وتحويل التنبؤات إلى أمنيات، وتحويل الفعل الحضارى إلى أحلام النائمين وخيالات المتوهمين لا تغنى من شىء فى الوعى بالتحديات أو السعى للتعامل معها أو مواجهتها، وإن هذه الأمور جميعاً إنما تكرس عقلية اللامسئولية واللامبالاة والانتظار مخالفة بذلك {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}.
إن هؤلاء الذين روجوا لنهاية التاريخ على الطريقة الغريبة ليبشروا بالانتصار المؤزر للحضارة الغربية وأنساقها الليبرالية ويحذروا كل من يتحدى ذلك مؤكدين أن ما من أحد قادر على التحدى فضلاً عن مواجهة ذلك الانتصار، وأن من يتحدى سيكون مصيره الهزيمة النكراء، إن التاريخ قد انتهى. وعلى خطورة هذا النمط من التفكير الذى يشيع قبول الهيمنة والإذعان خاصة الفكرية والثقافية، ويمنع المتحدين ويحد من إمكاناتهم فى المواجهة، فإن هؤلاء الذين يبشرون أو ينذرون بنهاية التاريخ فى بعض الكتابات الإسلامية التى انتشرت فى الآونة الأخيرة، لا يقلون عن سابقيهم خطرا فى تبرير واقع الوهن فى عالم المسلمين وشل فاعليات الفعل الحضارى، وأى الفريقين لا يؤدى بأفكاره إلا إلى شل الفاعليات والفعل والتفعيل.
غاية الأمر أن توارى الفهم السننى والاستعاضة عنه بالتفكير المتعلق بالتمنيات {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}، {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} تشخيص مصادر التحدى فى إطار نهاية التاريخ على طريقة بعض المسلمين:
* عمر أمة الإسلام.
* التنبؤ بدمار الأعداء وفنائهم من عمل متراكم منا فى المواجهة والمقاومة.
* علامات الضعف والوهن فى إطار الأمة وتصورها على أنها القدر المقدور.
* التصور لقيام المواجهة:
– التأويل الخطأ لأحاديث الفتن وعلامات القيامة.
– الانتظار للحلول فى مواجهة المشكلات والأزمات والتحديات من غير سعى.
– تصورعملية التغييرالنافى للدور الإنسانى فى عمليات التفكير والتدبير والتغيير.
* كيفيات تفسير مثل هذه الأصول:
– التدهور التاريخى المحتوم فى عالم المسلمين وفصله عن التفسير السننى والتفسير الخاطئ لخيرية القرون: خير القرون قرنى هذا ثم الذى يليه.
– جبرية التفسير وحتميته.
– إرجائية التفسير والانتظار الإرجائى.
من الواضح فى هذا المقام خفة تأثير المنهج السننى فى هذا المقام الذى يشير إلى نجاح البعض فى تعيين مصادر التهديد، إلا أن الفجوة بين الحالة الواقعية وحجم التحديات تُغري بتصور الحلول فى سياق المواقف الهروبية فى مواجهة التحديات.
الإطار السنني وتفسير عالم التحديات:
من المهم أن نؤكد الإطار السننى فى تفسير عالم الأحداث والتحديات ويضبط عناصر التصور فى هذا المقام:
– الضغوط الحضارية والتحديات.
– السنن الشرطية.
– الإمكانات بين الإهدار والاستثمار.
السنن تحدد عناصر الفاعلية الحضارية، بما يضفى على الأفعال والرؤى والحركة والتصورات قيمة، وتعنى أن الإنسان يحرك طاقاته ضمن حقائق ومساحات السببية خروجا من أوهام العبثية أو المصادفة ومساحات الخرافة، الاسطورية، السنن تحرك الأفعال ضمن قيم تشكل جوهر الفعل، أو قيمة مضافة إليه، إن القيمة والسنة تبرزان من مشكاة الثبات والكليات والاضطراد وحرص الإنسان عليها ضمن أصول الفعالية والكليات والحاضنة للفعل الحضارى. إن السنن وفق هذا المدخل قيمة فى البنية المعرفية والمنهجية للفعل الحضاري، كما أن السنن فى ذاتها قيمة بما تعبر عنه من إمكانيات تبحث فى قيمة الفعل الحضارى وتأثيراته وتراكمه.
إن السنن تتعلق بتحريك الفعل الحضارى بكل التفاعلات فيها بين الساحة الحضارية الممتدة، وتشمل الآفاق الكونية، والإنسان الفرد بكل دخائله النفسية والسلوك المترتب عليها والاجتماع والجماعة والمجتمع بما يمثله من مواقف ورؤى وممارسات، والتاريخ بما يمثله من ذاكرة للفعل الحضارى وامتداده لتحقيق معانى العبرة بالحدث والاعتبار والعبور نحو عناصر الفاعلية والتمكين.
السنن فى حقيقتها تتماثل مع عناصر الرؤية العقدية لها من مشكاة واحدة، إنها تتعلق برؤى تفسيرية وتحليلية “للكون والإنسان والحياة”، ورؤية العالم تعبر عن أصول المنهج وعيا وسعيا، والسنن هى القاضية والحاكمة بشرطيتها، فتحدد ارتباط الشرعة بالمنهاج (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) وهى من عناصر التكليف الكلى لا الجزئى ومن أصول نظرية الحكم، لا في الفقه الحكمى ولكن فى أصول الفقه الحضاري، وبين كليات القواعد الكلية وكليات السنن تعلق فى إطار محددات الفعل وكذلك مسيرته وسيرورته وتطوره ومآلاته، والسنن فى ذاتها حركة قيم تتعلق بالتوحيد وسنن التزكية وسنن العمران، وهى فى النهاية حركة عدل جزاء وفاقا، وحركة اختيار وإرادة، وحركة مساواة، إذ أنها لا تحابى أحدا، وهى كذلك وعياً وسعيا مناط فاعلية الأمة وخيريتها ومكمن وسطيتها، فلا تتحول إلى كثرة غثائية أو إلى قوم بور، وهى مخ الحضارة ومسيرتها وعمرانها، فللعمران سنن لا تتخلف ولا تتبدل كما انها ترتبط بالمقاصد لزوما وتلازما (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً).
إن ثقافة المقاومة الحضارية الشاملة تعنى ضمن ماتعنى أن تكون الاستجابات للتحديات على مستوى تلك التحديات مستوى التفكير والتدبير والتسيير والتغيير،علينا أن نتعلم سنن تلك الثقافة من خبراتنا التاريخية والمعاصرة، ونتعلم هل نحن على مستوى العدو وتدبيره، ومواجهة كل قابليات العدو فينا، فإن العدو لا يتمكن منا إلا بمقدار مانمكن له بأنماط تفكيرنا وأساليب سعينا وطرائق مواجهتنا وأشكال استعدادنا، فهل تعلمنا الدرس؟!.