تمهيد:
هذا البحث هو القسم الثالث من دراسة بعنوان: “من السيرة النبوية إلى فقه الحياة، الطفولة نموذجًا”.
وكان عماد هذا المشروع هو التأمل في السيرة النبوية الشريفة باعتبارها مصدرًا من المصادر الإسلامية الأصيلة التي لا تزال تنبئ بالكثير من الإمكانات التنظيرية والتأصيلية، وذلك في محاولة لاستشراف ملامح رؤية اجتهادية تتخذ من السيرة النبوية مرتكزًا أساسيًّا لها، وتجتهد للوصول إلى بعض القواعد والآليات التي كانت وراء تطبيق النص المطلق (القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة) على الحياة اليومية للرسول الكريم r.
ولقد تم اختيار موضوع الطفولة كموضوع تطبيقي لاستنباط هذه الرؤية الاجتهادية باعتباره مجالاً لا يثير في حد ذاته إشكالات كثيرة في التناول، وبذلك لا يكون موضوع الدراسة عبئًا على الهدف الأصلي من البحث.
ويتناول هذا البحث الاستخلاصات المنهجية التي تم التوصل إليها من خلال القسمين الأول والثاني.
فقد تناول القسم الأول، الذي قام به الأستاذ مدحت ماهر، الرؤية القرآنية لعالم الطفولة، وقد تمت صياغتها على محورين:
المحور الأول: يتضمن التصور القرآني للطفل وعالمه.
المحور الثاني: يتضمن تفاعلات الفطرة والعقيدة والتشريع في بناء علاقات الأبوة والبنوة.
وتناول القسم الثاني، الذي قام به الأستاذ شريف عبد الرحمن، السيرة النبوية (من خلال صحيحي البخاري ومسلم أساسًا) لاستخراج الأحاديث التي انطوت على أحكام أو إشارات أو مشاهد حياتية ذات صلة بموضوع الطفولة.
مقدمة:
إذن فقد جاء هذا المشروع البحثي محاولة لاستنباط معالم منهج اجتهاد من واقع دراسة سيرة رسول الله r، والتعرف على كيفية إنزاله r النصوص المطلقة الموحَى بها على الواقع النسبي المتغير. وقد كان السعي من خلال ذلك إلى هدفين رئيسيين:
الهدف الأول- وضع السيرة النبوية المشرفة في بؤرة الاهتمام البحثى باعتبارها كنـزًا نابضًا يمكن أن يضخ مزيدًا من الحيوية في منهج الاجتهاد المعاصر. فالواقع المسدَّد بالوحي مجال يحتاج إلى نظر اجتهادي لاستنباط أصول حركته وقواعد عمله.
الهدف الثاني- متابعة الكيفية التي واجه بها رسول الله r المواقف المختلفة في هذا الموضوع المحدد (الأطفال في الاسلام)، وكيفية تعامله r مع جزئيات الحياة اليومية. وكان تصورنا المبدئي أن دراسة هذا المِفصل المهم الذي لا ينطوي بالضرورة على تشريعات وأحكام فقهية، سيلقي الضوء على رؤية مهمة قد تُعِين على بلورة “منهج اجتهاد” أو مدخل اجتهاد، قد يصل بنا لفقه غير قضائي ولا نزاعي سُمّيَ بفقه الحياة(*)؛ وهو مفهوم أصبح يتردد كثيرًا هذه الأيام دون اتفاق حقيقي حول مضمونه, ولعل هذه الدراسة تكون خطوة متواضعة في طريق رسم ملامح هذا الموضوع.
وفى استعانتنا بالسيرة النبوية الشريفة حاولنا أن نبدأ من النص نفسه، وأن ننطلق من استنطاق دلالاته الممكنة ونتابعها، وألا نفرض عليه معاني أو دلالات مسبقة حتى لو بدت متعارفًا عليها، وألا ننقل الروايات مفصولة عن سياقاتها وظروفها قدر الإمكان، حتى تؤسِّس النصوصُ بذاتها وبتراكم دلالاتها معالمَ الرؤية التي تكونت تدريجيًّا لموضوعنا؛ وبالتالي نتمكن من أن نجرد منهجًا للاجتهاد كما أراده لنا رسول الله r. وقد توصلنا – بعد شهور من البحث المتأني- إلى تصور لمكانة الطفل في المجتمع المسلم من خلال مشاهد نابضة بالحياة في القرآن المجيد وسيرة رسول الله r.
وننتقل – في هذا المقام- إلى مرحلة استخلاص منهج حاكم وقابل للتطبيق في مجالات حياتية أخرى: منهج لفقه الحياة كما رسمه لنا رسول الله r للسعى والحركة والقيام بواجب الاستخلاف.
لقد نتج عن هذا التجريد للدلالات والمراكمة للملاحظات منظومة مكونة من خمسة عناصر مترابطة ومؤثرة في بعضها البعض، تشكل في مجموعها رؤية لما أسميناه “فقه الحياة”؛ هذه العناصر الخمسة هي: المقاصد، والقيم، والسنن، والغيب، والأحكام الشرعية.
وسوف نحاول هنا النظرَ في هذه العناصر على مستويين: أولهما- التعريف بهذه العناصر كلٍّ على حدة, وثانيهما- بيان الكيان المتشابك الذي تكونه هذه العناصر وعطائها في حركة تشغيلها، وفق رؤية تكاملية تبعد تمامًا عن الاقترابات التفتيتية والتجزيئية للموضوع محل البحث.
أولاً- عناصر منظومة فقه الحياة:
قبل الدخول إلى توصيف أوضح لهذه العناصر تجدر الإشارة إلى بعض النقاط المهمة التي يجب استصحابها خلال اقترابنا من هذا الموضوع:
أولاً- إن هذه العناصر الخمسة ليست بالأمر المبتدع في الرؤية الاجتهادية الإسلامية، بل إننا نؤكد أنها كانت دائمًا مستبطنة في وجدان الأمة وفي عقلية المجتهد المسلم، وكانت حركة المسلم محكومة بها غالبًا من دون حاجة إلى تدوين أو تصريح في كل مقام. ولكن الذي وصَلَنا بإسهاب وتفصيل رائع هو فقه الأحكام (أو قل: فقه القضاء) الذي عكف الفقهاء على إبرازه والتوسع فيه، وبدا كأنه قد تم فصله وتغليبه على حساب الفقه الحياتي المقاصدي المستبطن (والذي بدوره أُدرج غالبًا تحت أبواب الآداب والرقائق وفضائل الأعمال)؛ وذلك لما في فقه القضاء من أحكام منضبطة تحفظ حقوق الله تعالى وحقوق العباد.
إلا أن العصر الحديث قد شهد اختراقًا واضحًا لوجدان المسلم وعقليته أدى إلى تشوه في رؤيته الكلية؛ الأمر الذي أثر سلبًا على تفاعل المسلم مع فقه الأحكام نفسه مما نتج عنه تعامل المسلمين اليوم مع ما يسمى بمنطقة العفو والإباحة الشرعية بدون التزام بضوابطها العامة المقررة، فأضحت ظلاً للكثير من عناصر الرؤى غير الإسلامية، مثال ذلك ما نراه في الواقع الإسلامي اليوم من سفه وبغي في الإنفاق من قبل بعض الفئات الاجتماعية، دون اعتبار لمعاني الاستخلاف في المال وحمل أمانة الإعمار التي هي من أسس الرؤية الإسلامية. ولا شك أن هذا قد أدى إلى تفكيكٍ وخلخلة لحياة المسلم.
أما من أدرك هذا الاختراق وسعى إلى التمسك بالرؤية الإسلامية الكاملة للحياة فقد اضُطر إلى الاستعانة بفقه الأحكام نفسه في هذه المحنة، فقام بسحبه على كافة مناحي الحياة لكي يحلّلها أو يحرِّمها، فتحول الكثير من علاقات التراحم التي تتسق مع أصول الإسلام وقيمه ومقاصده إلى علاقات تعاقدٍ وتقاضٍ جافة مرهِقة لا روحَ فيها ولا وجدان، كما تم التركيز على جزئيات الحياة اليومية خارج إطار الرؤية الكلية فبرزت العقليات المتعلقة بالشكليات وصغائر الأمور بينما أهملت قضايا الأمة الكبرى وحقائق العلاقات الإنسانية.
ثانيًا- إن فقه الحياة –كما تبين لنا- ليس قاصرًا على مجرد العلاقة الخطية البسيطة بين عناصر المنظومة، فليس أمرُ الشرع مجرد ثنائيةٍ مكونة من “الفعل” و”حكمه”، ولكنها حركة متكاملة بين مجموعة المفردات المكونة للمنظومة والتي تؤدي إلى تبني مواقف نابعة من مَعين الرؤية الإسلامية الشاملة، ليس على أساس الاكتفاء بمعرفة الحكم أو الفتوى فقط، ولكن على أساسٍ من استلهام النموذج ومعرفة المقصد وتشرُّب القيم، التي عبَّرت وتعبر عنها شريعة الإسلام بكل ما تحمله من اتساق وكمال ورحمة بالعالمين.
ثالثًا- كما تجدر الإشارة إلى أن مجال تفاعل هذه المنظومة وتحريكها يتم في واقع بعينه، يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند الاجتهاد، فمجال الحركة ليس فضاءً بلا ملامح، بل هو واقع متغير يجب استيعابه وتفهمه لكي يتم الاجتهاد منه وإليه. فحاجة الواقع إلى الفقه ليضبط سيره ويضمن له مشروعيته أمر لا نقاش فيه، إلا أن حاجة فقه الحياة إلى الواقع هي حاجة ماسة لكي يغنيه وينميه ويسدده، فالفقه ينمو بنمو الواقع ويتطور بتطوره. ويظهر الاحتياج إلى الاجتهاد في حياة متحركة ومتطورة ومتجددة، حياة تثير الإشكالات وتولد المستجدات وتضع العلماء والاجتهاد أمام التحديات. وإذا كان فقه الواقع –كما شاع أخيرًا- هو حسن فهم الواقع المعيش بملابساته المختلفة، فإن فقه الحياة يختلف عنه نوعيًّا في أنه يُعنَى بالضوابط القيمية والمقاصدية والشرعية التي تسيَّر هذا الواقع وتوجِّهه.
ننتقل الآن إلى عرض العناصر الخمسة لمنظومة فقه الحياة على التوالي:
1) المقاصد:
وهي الأهداف المعتبرة شرعًا المراد تحقيقها في كل مجال من مجالات الحياة المعيشة. وهي تلتقي مع المقاصد (أو الكليات) الخمسة المتعارف عليها: وهى حفظ الدين والعقل والنفس والعرض والمال. ويلاحظ في تناولنا لهذه المقاصد أنها تُحمل على المعنى الفردي كما تحمل على المعنى المجتمعي أو الجماعي. وقد أكدت دراستنا أن مقصد حفظ الأمة -وإن لم يكن من جنس المقاصد الأخرى- فهو بمثابة المظلة التي تحتوي هذه المقاصد، وقد تعرض للإغفال كثيرًا بما يوجب التشديد على ضرورة إبرازه وتفعيله.
إن معرفة مقاصد الشريعة وتحريها مقدمة لازمة لأي عملية اجتهاد؛ فهى تحقق المقصود الأسمى بربط الاجتهاد بالتوحيد وتحقيق مطلق العبودية لله. فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الكون والإنسان عبثًا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ {23/115} فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ {23/116})؛ وبالتالى جاءت الشريعة الإسلامية لتحقق مقاصده سبحانه وتعالى لخلقه، وتحكم استخلاف الإنسان وعمارته للأرض دائمًا بمنظور مقاصدى يستوعب مجمل حركته الحضارية ويحدد مسيرة فعله الحضاري.
إن المقصد الأساسي من أي فعل حضاري يسعى إلى أحد أمرين: إما دفع الضرر (المستوى السلبى من الرؤية والحركة)، أو جلب المصلحة (المستوى البنائي). بالتالى فالحفظ ليس فقط عملية محافظة استاتيكية ولكنه عملية عمرانية خلاقة بعيدة المدى تتحرك في ضوء وضوح الرؤية والالتزام في الحركة. والوعى بالمقاصد ينقل العقل المسلم المجتهد من الاكتفاء بالجزئيات إلى اصطحاب الكليات، ومن التوقف عند الأشكال إلى التوجه نحو الحقائق والمعانى.
والقاعدة الأولى هنا في فقه الحياة أنه إذا رجع الحكم الفقهي بالإبطال على مقصد من المقاصد المعتبرة فإن هذا يستدعي ضرورة مراجعة هذا الحكم الجزئي بما يتسق والمقصد الشرعي الكلي.
وفي هذا الإطار يجب الالتفات والانتباه إلى دعاوى منتشرة تستخدم مقاصد أو كليات متوهمة، وترمي إلى إبطال منظومة الفقه الإسلامي وقواعد اجتهاده الراسخة باسم روح النص أو روح الإسلام أو كلياته.
وفي منظومة فقه الحياة التي نعرض لها تقع المقاصد موقعًا متقدمًا؛ بحيث إن باقي عناصر فقه الحياة تتحرك دائمًا نحو تحقيق هذه المقاصد، فالمقاصد الشرعية هي الأفق والوجهة التي ينبغي استحضارها في الاجتهاد من منظور فقه الحياة، وهي المعيار الاختباري لمدى سلامة السعى لتحقيق فعل العمران والاستخلاف.
وتتجلى المقاصد في المجالات الحياتية تجليات متنوعة. فإذا أخذنا المجال المحدد لبحثنا هذا -وهو الأطفال في الإسلام- نجد أن المقصد من تربية الطفل هو الوصول به إلى الصورة المثلى في دينه وعقله ونفسه وحفظ ماله وكرامته لإعداد إنسان متكامل وبناء جيل جديد قادر على استلام عبء الاستخلاف من جيل سابق له. فنجد مثلاً أن الرسول r سمح لهند امرأة أبي سفيان أن تأخذ من مال زوجها دون علمه؛ تحقيقًا لمقصد حفظ نفسها ونفوس أطفالها وحفظ كرامتهم، ومنعًا لإهدار هذه المقاصد نتيجة شحّ الزوج: (خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف). فهذا الموقف وغيره مما استعرضناه يبيّن كيف أنَّ خلفَ كلِّ فعل أو قول وَرَد في السيرة النبوية الشريفة ويتعلق بالأطفال يقف مقصد أو أكثر من المقاصد الشرعية الحافظة.
2) القيم:
ونعني بها مجموعة من المعانى الإنسانية العليا السارية في كل فعل أو قول صدر عن رسول الله r؛ مصداقا لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {6/161}). ونزْع القيم من الفعل الإنساني يخرجه بالضرورة من المنهج القرآني النبوي الصحيح.
وإذا كانت المقاصد أمرًا يحتاج إلى استنباط عند دراسة سيرة رسول الله r، فإن القيم في سيرته r واضحة لا تخطؤها العين ولا تستلزم عناء في استنباطها. والتغافل عن القيم في سيرة رسول الله r يحولها إلى جسد بلا روح، فالقيم هي الروح السارية في كل فعل أو قول لرسول الله r. وقد توصلنا من هذه الدراسة إلى أن القيم ليست ترفًا يمكن الاستغناء عنه، وليست بالأمر التحسيني الذي يسعى المرء إليه بعد أن يفرغ مما هو ضروري وحاجي، وإنما هي عنصر فعال في منظومة فقه الحياة، وإغفال هذا العنصر يُخرج المجتهد من إطار الاجتهاد المتوازن، الواعى بالرؤية الإسلامية الكلية .
وفى هذا المقام يمكننا الإشارة إلى بعض النقاط المهمة:
أولاً- إن القيم في الإسلام ليست قيمًا نسبية مصدرها الإنسان المحدود، ولكنها قيم مطلقة متجاوزة؛ ومن ثم فهي ليست قيمًا مرتبطة بمرحلة من المراحل التاريخية فتتقادم بتقادم الزمن وتحل محلها قيم أخرى معاصرة، ولكنها قيم لكل زمان ومكان. وهذه الإطلاقية هي التي يمكن أن تحقق قاعدة المشترك الإنساني النابع من الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها.
ثانيا- تظهر القيم الإسلامية في التطبيق على شكل تراتبي وتصاعدي تختلف قمته تبعا لاختلاف المجال محل الدراسة أو الاجتهاد. فلكل مجال حياتي شبكة قيمية مختلفة الأولويات عن المجال الآخر. فعلى سبيل المثال: إذا كانت “الرحمة” على رأس الأولويات القيمية في مجال “الطفولة” -كما خلصت دراستنا- دون إغفال القيم الأخرى التي تأتي في مرتبة تالية كالعدل والمساواة وغيرها, إلا أننا إذا أخذنا مجال الاقتصاد – مثلاً- فإننا نجد أن قيمة الرحمة قد تتراجع عن قمة الهرم لتفسح المجال لقيم أخرى كالحق والصدق والأمانة وغيرها, وفى مجال نظام القيم السياسية قد نجد أن “العدالة” هي التي تحتل قمة الهرم القيمي, وفى مجال العبادات قد نجد أن قيمًا كـ”الالتزام” و”التيسير” هي القيم الفاعلة.
وللترتيب القيمى في كل مجال دراسي أهميته الكبيرة، ليس على سبيل الأمر الشكلي ولكن لما للقيم المتصدرة في الهرم القيمى من دور بالغ الأهمية في مجال الاجتهاد, فالقيم العليا في كل مجال من مجالات الحياة تكون أحيانًا حاكمة على الحكم الفقهي نفسه, وسيتضح هذا عند تشغيل العلاقات البينية بين عناصر هذه المنظومة الاجتهادية لفقه الحياة. ويمكن أن نشير هنا إلى حديث أَبِى قَتَادَةَ عَنِ النبي r قَالَ: « إِنِّى لأَقُومُ في الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ، فَأَتَجَوَّزُ في صَلاَتِى كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ »، وكذلك الحديث الشريف:” كان رسول الله r يصلي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا منعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره، فقال: من أحبني فليحب هذين. وغير ذلك من مواقفه الشريفة التي سبق التعرض لها”.
وإذا كان بحثنا قد خلص إلى أن القيمة الأساسية والمحورية في مجال الطفولة هي قيمة “الرحمة”، فبالرحمة كانت علاقة رسول الله r بالأطفال، في ملاعباتهم وتوجيههم وزجرهم وتربيتهم. فقد اتضح من دراستنا أن تدريب الأطفال على العبادات في مرحلة التمييز يؤكد على محورية اجتماع قيمتي الرحمة والالتزام معًا؛ ذلك لتداخل مجالي الطفولة والعبادة في نفس المقام؛ فمبدأ التحبيب والترغيب يندرج تحت قيمة الرحمة، كما يندرج التمهيد لمرحلة التكليف بالتدريب تحت بناء معنى الالتزام. لقد لمسنا هذا المعنى في السيرة، منه على سبيل المثال ما مرَّ في الحديث عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: “أرسل رسول الله r غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من كان أصبح صائمًا فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، فكنا بعد ذلك نصومه ونصوّم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناهم إياه عند الإفطار”.
وفي منظومة “فقه الحياة” تسري القيم في العناصر الأربعة الأخرى؛ فتغذي المقاصد والسنن والأحكام وتتصل بالغيب والمطلق، وتدلل على مدى اتساق الفعل البشري مع جوهر العقيدة والشرعة أو عدم اتساقه؛ وبالتالي تلتقي مع المقاصد في القيام بدور المعيار الحاكم على الاجتهاد من جهة وعلى أفعال المكلفين من جهة أخرى.
3) السنن:
ونعني بها تلك القوانين الإلهية المطردة الحاكمة للفعل الإنسانى بكافة مجالاته، والتى يؤدي الوعي بها للوصول إلى النتائج المرجوة من السعي.
إن الاجتهاد في الأمور الحياتية يستلزم استكشاف القوانين الربانية الفاعلة في كافة المجالات الحضارية. فالسنَّة هي قانون الله العادل في الخلق، المؤثر في حياة الإنسان، لا يتبدل ولا يتحول ولا يحابي أحدا، فبمقدار وعي الإنسان بالسنن وتفاعله معها وتفعيله لها في حياته، بمقدار ما تعطيه السنن من نتائج.
ويمكننا تصنيف السنن إلى قسمين :
- · القسم الأول- ويشمل تلك السنن القاضية التي تجرى على كل البشر بدون تدخل إرادي للإنسان، مثل الموت والحياة والسنن الكونية، والسنن الحياتية من قبيل سنن الميل الغريزي بين والد وما ولد، كما تجلت مثلا في حالة نوح وابنه، وسنن أطوار النمو التي يخضع لها كل إنسان: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ {30/54}).
- القسم الثاني– ويشمل تلك السنن الشرطية المرتبطة بالفعل البشري على سبيل السبب والنتيجة، والتي يؤثر وعي الإنسان وإرادته في تفعيلها مثل سنة التدافع المانع من فساد الأرض: (..وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {2/251}). وهذه المجموعة من السنن نجدها مبثوثة في كافة مجالات الحياة، فنجد سننًا نفسية واجتماعية وتاريخية وغيرها. وهذا القسم من السنن هو الفاعل في منظومة فقه الحياة، ويتم التعرف عليه من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، كما يمكن استنباط سنن عديدة من التجربة البشرية والحكمة التي يؤتيها الله تعالى من يشاء.
وينقسم هذا القسم من السنن الشرطية إلى سنن عامة وسنن خاصة:
– السنن العامة: وهي تلك السنن الموضوعية المتاحة لكل إنسان غير مرتبطة بعقيدته، (مؤمنًا كان أو ملحدًا)، أو بجنسه أو عرقه أو بأي فروق بشرية أخرى، وهي بذلك حقيقة موضوعية ثابتة لا تؤثر فيها عناصر تمييز خارجة عن الفعل الإرادي البشري؛ ومن ثم فهي تسقط أي مزاعم تحاول ربط سنن التغيير أو التقدم بالعرق أو اللون . يقول تعالى: (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا {17/20}).
– السنن الخاصة: وهي تلك المرتبطة بجماعة أو مجال حضاري معين، فهناك سنن للمؤمنين وأخرى للكافرين، وهناك سنن اقتصادية وسياسية ونفسية وغيرها، وهناك سنن حضارية وعمرانية ترتبط بمراحل تاريخية معينة وهي من أهم أنواع السنن الخاصة التي ينبغي للمجتهد أن يكون على وعي بها من باب فقه الواقع – فبناء على استحضار النبي r لهذه السنة امتنع عن تغيير قواعد الكعبة وقتل بعض المنافقين وغيرها من النماذج.
والاجتهاد في فقه الحياة يفسح المجال أمام تفعيل هذه القوانين الربانية بما يحرك كل عناصر التفكير المنهجي ويستبعد ويسقط المناهج المعطِّلة او الهادمة للتفكير والاجتهاد القويم, من قبيل العبثية والعدمية والفوضوية ومقولة الصدفة والخرافة والحتميات الجبرية، وغيرها من محاولات التفسير والفهم الخارجة من دائرة الرؤية الإسلامية.
تجب الاشارة هنا إلى أننا -مع ايماننا بأن هذه السنن جميعها، القاضية والاختيارية، العامة والخاصة، كلها بيد خالقها، وبالتالي فالمؤمن في أخذه بالسنن يعي تماما مساحة المشيئة الإلهية الحاكمة- إلا أننا لا نقبل بمعاني الجبرية والحتمية الفلسفية، بل نؤمن بضرورة تفعيل هذه السُّنن بما يحقق فعالية السعي القائم على حقيقة التكليف والاختيار والمرتبط بمعنى السببية وتواصل النتائج بالمقدمات.. فاعتبار السنن في منظومة فقه الحياة يدفع إلى نهج التفكير السببـي من غير إهمال لدائرة الغيب بما يؤثر في العطاء الإيجابى للسُّنن.
وهنا يأتي العنصر التالي في منظومة فقه الحياة وهو: الغيب.
4) الغيب :
نتناول الغيب في هذه المنظومة بمعنى محدد؛ وهو المساحة غير المدركة بمجرد العقل والحواس، والموازية للواقع المشاهَد. وهذا الغيب يدخل أيضًا فيما بين الفعل الإنساني ونتائج هذا الفعل، ويتضمن هذا المجال العديد من المفاهيم الإسلامية التي هي جزء من الحياة اليومية للإنسان مثل البركة والرزق والتوفيق الإلهي والاحتراز من الشيطان وغيرها، هذه المفاهيم التي يطلق عليها غير المؤمن تعبيرات كالصدفة والحظ والتشاؤم وغيرها من المفاهيم غير المنضبطة، ولكن المؤمن يفهمها في إطار القدرة والحكمة الإلهية. وبذلك يعمل الغيب على إشعار الإنسان بمحدودية قدرته وعلمه، وبحجمه الحقيقى في هذا الكون.
يعتبر الغيب –إذًا- جزءًا أساسيًّا من الوجود الكوني والإنساني؛ ومن ثم تتشكل لدينا رؤية مركبة تجمع بين الإيمان بالواقع وقوانينه وسببيته، والإيمان بالغيب وأثره في الواقع.
وينقسم الغيب إلى قسمين رئيسييْن:
- الغيب المطلق : وهو ما لا يدركه الإنسان ابتداءً لا بالعقل ولا بالحسّ ولكن يدركه من خلال الوحي الإلهي. فالعقل الإنسانى بطبيعة تكوينه يعجز عن إدراك حقائق غيبية كبرى مثل: ذات الله سبحانه وتعالى (ليس كمثله شيء) وصفاته وطبيعة الملائكة والروح وعلم الساعة،.. وغير ذلك. والإيمان بهذا الغيب المطلق يفرز في العقلية الاجتهادية توجهًا يؤمن بالمصدر المطلق للمعرفة والعلم؛ وهو الله سبحانه، ومن ثم اعتماد كل من الوحي والواقع مصدرين أصليين للمعرفة والأخلاق والسلوك.
- · الغيب النسبى: وهو ما لا يدركه الإنسان بالحواس المجردة ولكنه يسعى دائما من خلال البحث والاستكشاف إلى تقليل مساحة هذا المجهول ونقله إلى مجال المعرفة الإنسانية، وقد أمد الله سبحانه وتعالى الإنسان بالامكانيات الذهنية والحسية لتطوير أدواته للقيام بذلك: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) {16/78}.
وفي هذا ما يؤكد على أن المستقبل ودراسات المستقبل تقع في هذه المساحة المهمة؛ ومن ثم فإن عنصر الغيب في منظومة فقه الحياة يدفع المجتهد إلى محاولة استشراف المستقبل في اجتهاده، ومراعاة السنن الإلهية وطبائع العمران والأمم.
وتنبه منظومة فقه الحياة إلى أن هناك واقعًا لا يمكن فهمه إلا في إطار الإيمان بهذا الغيب، إذ إن هناك تداخلاً وتفاعلاً بين الإنسان وبين هذا المجال الغيبـي، فنجد العديد من الأمور الفاعلة في حياة الإنسان لا سلطان للإنسان نفسه عليها، كالبركة والتوفيق والرزق و… . وهذه الأمور قد وضع الله –تعالى- لها طرق تعامل منضبطة، يجب على الإنسان أن يتلمسها للوصول إلى النتائج الإيجابية المرجوة منها، فالتقوى والعمل الصالح مثلاً يؤديان إلى تحقق البركة والتوفيق: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {7/96})، كما نجد في القرآن الكريم وفي سيرة الرسول r استدعاءً واستحضارًا دائمين للغيب في صورة الدعاء بالبركة والرزق، والتعوذ والاستحفاظ من المكاره، كما في دعاء أم مريم (وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {3/36} فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا …{3/37})، وحديث رسول الله r عندما كان يعوّذ الحسن والحسين وَيَقُولُ « إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ».
هذه المفاهيم الغيبية الفاعلة في حياة الإنسان هي من المعاني الأساسية في عملية الاجتهاد في فقه الحياة الذي نحن بصدده. فهناك سعي وعمل من أجل تحقيق مقاصد بعينها في إطار من التوكل وإدراك محدودية علم الإنسان مما يحول دون تجبر الإنسان بقوته أو بنجاحه؛ إذ أنه يدرك دائمًا في حركته استحالة التحكم الكامل في الحياة.
فالغيب الماثل دائمًا في هذه المنظومة يقدم أبعادًا وإمكانيات تفتقر لها المنظومات المادية، كما أنه –باعتبار اشتماله على الوحي الإلهي- يؤسس لتقبل باقي عناصر المنظومة من المقاصد والقيم والسنن والأحكام الشرعية.
5) الأحكام الشرعية:
وهي الإطار التشريعي الحاكم لفعل المسلم. وقد قامت المذاهب الإسلامية المختلفة بالاجتهاد المثمر في هذا المجال فأسست علم الفقه الذي اعتنى بوصف الأفعال وفقًا لحقيقة التكليف: (افعل ولا تفعل) ضمن نسق من الأحكام الجزئية لهذه الأفعال: (الحلال, الحرام, المندوب , المكروه, المباح). ولا يزال الاجتهاد فيه مستمرًا إلى قيام الساعة لمواجهة ما يستجد من أحداث وما يطرأ من تطورات في الظروف المحيطة بالفعل الإنساني.
ويشتمل فقه الأحكام على أحكام تضبط حياة الإنسان, وهذه الأحكام منها ما هو منصوص عليه في الوحي (قرآنًا وسُنة), نصا مباشرًا, والأمثلة في مجال بحثنا عديدة من مثل: (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا {4/6})، وكذلك قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ {2/228})، وغيرها كثير، وبعضها الآخر مستنبط عبر قواعد فقهية يسهل تسكين الأمور الجزئية فيها, ويسهل الاجتهاد في إطارها عند اختلاف الوقائع والأزمنة والأمكنة (من قبيل قواعد المصلحة والمفسدة والنفع والضرر…), وهذا ما يضفي على الشريعة صفة الصلاحية باعتبارها ممتدة عبر الزمان والمكان بهدف العمران وإقامة الحضارة.
ويتميز فقه الأحكام بميزتين أساسيتين هما الثبات والملاءمة, بما يحقق له طبيعة توازنية تتلاءم مع بنية الشريعة, ويقرر هذا ابن القيم في إعلام الموقعين حينما يميز بين نوعين من الأحكام : ” .. نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الائمة, كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقررة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك, فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالاً .. فإن الشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة .. وهذا باب واسع اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير , بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودا وعدما .. “.
وإذا كان الفقه – في تعريفه المشهور- هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة التفصيلية، وقد انصب على القضايا العملية الجزئية (مع تقعيده لقواعد كلية تخدم الاجتهاد في الأحكام الجزئية)، الأمر الذي يعني اختصاصه بمساحة محددة أشبه بدور القانون في العصر الراهن، إلا أن الملاحظ من تاريخنا أنه شهد انسحاب هذا الفقه الحكمي على كافة مساحة الحياة الإسلامية ومجالاتها، فتحولت – مع توظيفاته غير الواعية – علاقاتُ التراحم التي هي جوهر فقه الحياة إلى علاقات تقاضٍ جافة أضعفت من قدرات الاجتهاد المساير لقضايا الواقع المتغير على المستوى الجزئي نفسه وعلى المستوى الكلي والحضاري بالأخص.
وهنا يأتي دور واضح لفقه الحياة باعتباره فقهًا مكملاً – على سبيل الضرورة- للفقه الحكمي السائد، وليس بديلاً عنه، حيث يسهم فقه الحياة في إبراز أبعادٍ؛ منها:
– أنه يعالج الجزئيات ويحكم عليها من خلال كليات منظومة فقه الحياة، وإن كان من خلال الحكم بـ: الاتساق أو عدم الاتساق مع القيم والمقاصد والسنن، وليس من خلال الحكم بالحلال والحرام.
– أنه يدخل القيمة باعتبارها أصلاً في بناء الحكم الشرعي العملي مقابل اكتفاء فقه الأحكام بالعلة الظاهرة المنضبطة.
– أنه يسمح باختيارات فقهية عند اختلاف الفقهاء في القضية الواحدة بين أكثر من قولٍ، بالأخذ في الاعتبار موجبات المقاصد والقيم والسنن، وربما كان هذا أوْلى من قاعدة: “قلد من أجاز”، خاصة في مواجهة المجتهد لا المقلد.
– أنه يمتد على القضايا الكلية المتعلقة بالكيانات العامة من الأمة والجماعة، ولا يقصر الاجتهاد على قضايا الأفراد الجزئية.
– أنه يقدم إمكانات للتعامل مع ما يستجد من قضايا ليست لها سوابق قريبة يقاس عليها وفق علل واضحة.
ولفهم طبيعة العلاقة بين الفقه القضائي وفقه الحياة، ولرفع أي التباس يمكن أن يطرأ على فكر المجتهد، تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين هذين النوعين من الفقه هي أشبه بالعلاقة بين الزكاة الواجبة والصدقة التطوعية, فكلاهما منصوص عليه شرعًا، إلا أن الزكاة الواجبة ركن من أركان الإسلام لا يقوم إسلام المرء إلا بالقيام بها، وقد أفردت كتب الفقه مجلدات لدراسة أحكامها ومقاديرها. أما الصدقة التطوعية فلا قيام لحياة المجتمع المسلم بدونها، بل هي سمة أساسية من سمات هذا المجتمع, ورغم ذكرها الواضح في القرآن الكريم وأحاديث رسول الله r، إلا أنه لا مكان حقيقيًّا لها في كتب الفقه. فالطبيعة القانونية للفقه الحكمي جعلته مرتكزًا على فكرة “الحقوق” سواء حقوق الله تبارك وتعالى أو حقوق العباد، محركًا لفكرة الواجبات “التراحمية والأبعاد المجتمعية التكافلية” جانبًا.
ومن هنا تتضح العلاقة القائمة بين فقه الحياة وفقه الأحكام, فهى بمثابة العلاقة القائمة بين ما هو واجب وتعاقدي يحدد بضوابط ومقادير صارمة من جهة، وبين ما هو واجب ولكنه تراحمي عماده القيمة والمقصد الشرعي من جهة أخرى.
هذا، وتعتبر الأحكام الشرعية (وهي العنصر الأخير من عناصر منظومة فقه الحياة) السياج الواقى للاجتهاد والسعى في ظلال فقه الحياة.
ثانيا- تشغيل منظومة فقه الحياة
ويشتمل على عنصرين:
أ) منهجية إعمال فقه الحياة
هذه هي عناصر فقه الحياة كما تتصوره هذه الدراسة، وهذه العناصر يمكن أن تُفعَّل فرادى فتؤتي آثارًا، إلا أن هذا لا يصنع فقهًا يرشد الحياة المسلمة على مستوى الفرد والجماعة. فالضابط الأول والأساس لإعمال هذا الفقه في الفهم والبحث وفي السلوك، هو الالتزام بمعنى المنظومية الرابطة بين عناصره، وأن تؤخذ معًا بلا تجزيئ أو انتقاء عشوائي. فهي كلٌّ متكامل متسق يشد بعضه بعضًا: عطاءً وضبطًا متبادلاً. ويعد هذا هو الشرط والمحدد الأساس لتشغيل هذه المنظومة.
وإذا كان يمكن القول إن معظم العناصر المكونة لمنظومة فقه الحياة تتمتع بقدر كبير من الضبط عند دراستنا لها كل على حدة, فنجد أن المقاصد والسنن والأحكام بطبيعتها أكثر قبولاً للضبط (ولذلك تمت دراستها وإدراجها ضمن عناصر الاجتهاد الفقهي بصورة واضحة), فإن القيم والغيب يتميزان بطبيعتهما التي تتأبى على الضبط، فلم يحصلا على نفس القدر من الاهتمام والدراسة. ولذا يثار تساؤل أولى وهو: كيف يمكن الاستعانة بهذه المفردات في مجال الاجتهاد مع ضمان عدم السقوط في أخطاء منهجية ناتجة عن عدم القدرة على ضبط هذه العناصر؟ وهنا نجد أن العلاقة الداخلية بين عناصر المنظومة هي -بالأساس- القادرة على ضبط كل من “الغيب” و”القيم” وتعظيم دورهما في الاجتهاد.
ومثالاً على ذلك: في مجال تربية الطفل نجد من سنن الله تعالى في خلقه أنه بالرحمة والحنان ينمو الطفل النمو الجسدي والنفسي السليم, فما مقدار الأخذ بهذه القيمة الأساسية؟ هل هناك ضوابط للقيم تحول دون تحولها من عنصر بنَّــاء لشخصية الطفل إلى عنصر هدم لها إذا ما تمت المبالغة في ممارسة هذه القيمة سلبًا أو إيجابًا؟ ففى هذه الحالة قد تفسد الرحمة الزائدة الطفل وتجعله مدللاً وضعيفًا نفسيًّا غير قادر على تحمل أية مسئولية, كما أن الرحمة الناقصة قد تحول دون نمو الطفل النمو المتوازن الصحي. إذن كيف يمكن تقدير هذا الأمر بقدره؟
هنا نجد أن تحريك قيمة الرحمة نحو مقصد بناء الطفل بصفته عنصرًا فاعلاً في الأمة، قادرًا على أن يكون جزءًا من جيل ناضج – جسمانيًّا ونفسيًّا- مستعد لحمل الرسالة, وإعمال هذه القيمة في ظل استحضار السنن الإلهية في النفس البشرية وتزكيتها ومع الوعي بالحدود التي تمثلها الأحكام الشرعية، هذا التكامل بين عناصر المنظومة هو الأجدر بأن يحقق الضابط لعنصر القيمة.
هذا من ناحية شرط المنظومية والكلية في تشغيل عناصر فقه الحياة، لكن من ناحية أخرى لاحظت هذه الدراسة أن ثمة مراحل في تشغيل هذه العناصر تمثل نظامًا منهجيًّا لتناول المسائل العلمية والعملية؛ وهي مراحل يسلم بعضها إلى بعض ويؤكد اللاحق منها على السابق، ولكن هذا لا يمنع من ديناميكية الانتقال بين هذه المراحل تبعا لحاجة الحالة والاجتهاد فيها.
ويمكن عرض هذه المراحل كالتالي:
أولاً: فقه الواقعة أو المسألة: وذلك بضرورة تحليل عناصرها الداخلية والوعي بالسياق الخارجي المتصل بها والمؤثر فيها. ويستفيد المسلم والمجتهد في هذا بكافة الأدوات والوسائل المباحة والمتاحة، سواء من الخبرات الذاتية أو من خبرات الآخرين. ويخرج الباحث من هذه الخطوة ببدائل نظر وحركة واسعة يُجري ترشيحها من خلال الخطوات التالية.
ثانيًا: تحديد الحكم الفقهي المتعلق بهذه المسألة أو بمجالها: سواء اتفق فيه على قول أو تعددت فيه الأقوال؛ وبحيث يتضح للمجتهد اتجاه عمله بين التوسعة على القديم أو الحد منه والتضييق، وبين إعادة الاجتهاد من الأصل أو ما شاكل ذلك.
ثالثًا: تحديد المقصد الشرعي: الأكثر ارتباطا بالمسألة أو مجالها، وموازنة هذا المقصد مع سائر المقاصد المكملة على سبيل النظم بينها. وجعل المقصد أو مجموعة المقاصد المحددة أفقًا يقوم بوظيفتين: “الوجهة” و”الحدّ”، فينبغي الاتجاه لحفظ المقصد بتحقيقه ولا يجوز تجاوزه أو إهداره. وبإدخال المقصد على الحكم الفقهي فإنه يزيد دائرة الاجتهاد تحديدًا؛ فيتم الاختيار بين الأقوال، أو إعادة النظر في الأقرب منها إلى حفظ المقصد الشرعي وعدم خرقه، حتى لو كان ذلك بالجمع أو التقريب بين قولين أو أكثر أو إعادة الاجتهاد من الأصل.
رابعًا: تحديد القيمة العليا الحاكمة في المجال الذي تنتمي إليه المسألة: والقيم المحيطة بها، وإدراج هذه القيمة (القيم) في المسألة، من خلال كشف الحكم أو الرأي الأقرب من تحقيق القيمة ورفض القول الذي يهدر قيمة إسلامية معلومة محددة، مع الاحتفاظ بما سبق من ضوابط.
خامسًا: استحضار السنن الإلهية المتعلقة بالمسألة: وسمات المرحلة الحضارية ومراعاتها في الاجتهاد (العلمي والعملي)، بالتجريب على احتمالات مآلات المسألة لتجنب المآلات السلبية. بحيث إنه إذا وجد أن حكما موافقا لضوابط الفقه المستقرة ومحققا لمقاصد مجاله وقيمه، ثم إن عادة الناس في الأخذ بمثله تؤول إلى إهدارٍ لسنن نفسية أو اجتماعية؛ فيجب للاجتهاد – في صياغته أو في ممارسته- أن يتحصن من مضاداة هذه السنن.
سادسًا: استحضار الغيب: باعتباره العنصر الفاعل الحقيقي في الاجتهاد ونتائجه؛ بحيث يبرز استشراف الغيب النسبي (المستقبل)، ويؤكد على تفويض الأمر كله لله تعالى، وذلك في الاجتهاد النظري بين أهل العلم بما يكرس التواضع ويؤكد الاستماع المتبادل والتناصح من جهة، أو في العيش والممارسة بما ينبه الوعي بالمستقبل ويدفع للجرأة عليه بلا تردد وبلا غفلة وبلا استكبار.
باتباع هذه الخطوات والتدرُّب عليها بالنسبة للمجتهد وللمسلم العادي (العامي)، تتكون العقلية المرتبطة بالشرعة المستقرة من جهة، وبالحياة الجارية من جهة أخرى. فتعليم المسلم العادي مقاصد شرعته وقيمها والسنن الإلهية، ورعايةُ طالب العلم والفقيه المجتهد لهذه العناصر، لا يُنتظر أن تنتج فقط حكمًا صحيحًا، ولكن أن تنتج أيضًا فتوى سديدة، ودعوة صالحة وعقلية واعية تعمل لتسيير الحياة لأنْ تكون أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد؛ وهذا هو عين السياسة الشرعية.
قد يبدو في هذه المنهجية انسيابية وسيولة في نظر كثيرين، غير أنها لا تخلو من ضوابط مهمة، أدرجنا عددًا منها في الأسطر السابقة، ونذكر أهمها هنا؛ وهي:
1- الضابط الأول: والذي سبق تأكيده من قبل؛ هو ضرورة الأخذ الكلي الجامع بين عناصر هذه المنظومة؛ فلا يعتمد – مثلا- على القيم دون المقاصد، ولا يتم التعليل بالغيب دون استحضار السنن الشرطية القاضية.
2- الضابط الثاني: والذي شُدد عليه كثيرًا هو ألا يكر فقه الحياة هذا، على فقه الأحكام المستقر بالإبطال أو التعطيل، بل يمكِّن له ويمهد لتفعيله،كما أن فقه الأحكام ينبغي عليه ألا يرجع على عناصر فقه الحياة بإغفال.
3- الضابط الثالث: التأصيل من مرجعية إسلامية صافية: فمدلولات عناصر فقه الحياة وتعيناتها يجب أن تستنبط من المرجعية الإسلامية وألا تختلط بفهومات مخالفة، وأن الانتباه لابد أن يكون عاليا لأثر اشتباك المفاهيم والمصطلحات في هذا المقام مع مرجعيات أخرى.
4- الضابط الرابع: التناول بمنهجية علمية تتجنب الاستعمالات الجائرة والشائعة لعناصر “المقاصد والقيم والسنن” وإن كان من قِبَل ذوي المرجعية الإسلامية، والتي تقوم على تجزئة المنظومة وعلى إغفال العلل الظاهرة المنضبطة التي اعتمد عليها فقه الأحكام، وذلك بالاعتماد على مدلولات هلامية لمفاهيم مثل المصلحة والحكمة والقيم والمقاصد.
ب) ثمار إعمال فقه الحياة:
إن إعمال هذه المنظومة الخماسية لفقه الحياة يقدم عددا من الفوائد العلمية والعملية، حيث تؤسس للعملية الاجتهادية في نواح ومجالات مختلفة من أهمها:
1- تفعيل مساحة “الفضائل النبوية”:
ففقه الحياة يعيد الاعتبار لما تم تصنيفه باعتباره فضائل نبوية ومستحبات مثالية وتفعيلها في مساحات التكليف، ليس من باب التكليف الفقهي المستند إلى حضور العلة، بل من باب “المطلوب” باسم المقصد والقيمة، ويعد هذا هو الوجه البنائي التجديدي في فقه الحياة. فأغلب أفعال رسول الله r التي تعرضنا لها في مبحث السيرة تقع في هذا الباب؛ ومن ثم يعد إغفالها إهدارا لمساحة تشريعية مهمة تحكمها المقاصد والقيم النبوية. فكثير من هذه الأفعال النبوية r التي أدرجت في باب الفضائل إنما هي “مطلوبات تأسيسية”، ومن ثم فتهميشها على أساس أنه لا يأثم تاركها، يغفل ما يتضمنه ذلك من إهدار القيمة نفسها التي هي أصل المسألة. يتجلى ذلك في مواقف عديدة لرسول الله r منها تأسيسه لقيمة الرحمة في معاملة الأطفال تأسيسًا مطردًا، ثم إنكاره إنكارا شديدا على من لا يعامل أبناءه على أساس منها، وتأسيسه لقيمة “الحق” في معاملة الصغار والخادمين، كما تبدى في إنكاره على أبي ذر وأمر بمشاركة خادمه في الطعام والكسوة وإعانته في العمل، وتأسيسه لقيمة “المشاركة” في حرصه على حضور الصغار في المواقف الجماعية المختلفة كما في طلبه أم خالد ومعاملته لابن عباس وأنس ورفعه الحسن على المنبر وقت الخطبة، وغير ذلك.
2- فقه الحياة أداة تفسيرية:
إن تفعيل عناصر المنظومة الخمسة بصورة متكاملة قد يساعد على فهم العديد من الأحاديث والمواقف النبوية التي قد لا يسهل تفسيرها إذا اخذنا منطق التفسير الخطى البسيط.
فإذا أردنا – مثلا- فهم حديث رسول الله r الذي رواه البخاري عن أبي قتادة قال: “خرج علينا النبي r وأمامة بنت أبى العاص على عاتقه, فصلى فإذا ركع وضعها, واذا رفع رفعها”، وكذلك حديث البخاري عن أم كلثوم بنت عقبة انها سمعت النبي r يقول: “ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين فيقول خيرا أو ينمى خيرا, زاد مسلم في رواية: ولم اسمعه يرخص في شئ مما يقول الناس الا في ثلاث ( الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل زوجته وحديث المرأة زوجها)”.
لفهم هذه الأحاديث الصحيحة ومثيلاتها التي تبتعد قليلا عن الحكم الشرعى المعتاد، يجب أن نعمل على تفعيل عناصر منظومة فقه الحياة, فنجد أن إدخال القيم والمقاصد على الحكم الشرعى يؤثر في هذا الحكم. فإدخال قيمة الرحمة في الحديث الأول باعتبارها قيمة عليا في مجال الطفولة أدى إلى التخفيف من أحكام هيئة الصلاة في صلاة جماعة؛ وذلك في ظل مقصد هام هو تعليم الأمة هذه القيمة العليا وخاصة بالنسبة لطفلة صغيرة كان مثلها إلى عهد قريب غير مرغوب فيه عند الولادة.
كما أن إدخال مقصد حفظ الأمة ووحداتها الفرعية أدى في الحديث الثاني إلى تحويل الكذب -وهو قيمة سلبية محرمة شرعا- إلى قيمة ايجابية؛ وذلك بحفظ كيان الأسرة وهى نواة المجتمع الاولى, وحفظ كيان المجتمع من خلال رأب الصدع بين المؤمنين وحفظ كيان الامة من كيد الاعداء.
إلا ان تأثير دخول القيمة والمقصد على الحكم الشرعى لا يتم بدون ضوابط كما سبق أن أكدنا، بل ان الضابط الاساسى الذي يجب مراعاته في هذا الامر هو ألا يكر المقصد او القيمة على الحكم الشرعى بالبطلان, اى لا ايقاف للحكم الشرعى ولا إسقاط له وإنما هو التخفيف في تناوله.
إن اعتبار القيمة والمقصد في إطار منظومة فقه الحياة يسمح بادخال الأحاديث التي تبدو أحاديث استثناء في مضمار الرؤية الإسلامية الناضجة النابضة بالحياة كما ارادها لنا الله سبحانه وتعالى وكما طبقها رسول الله r, فهذه الاحاديث لم تأت في سيرته r على سبيل الاستثناء ولكنها جزء من رؤية متكاملة تعين على الفهم الكامل لهذا الدين السمح الصالح لكل زمان ومكان. وادخال هذه الاحاديث في بؤرة الرؤية الإسلامية وعدم تركها ضمن ما هو مسكوت عنه يقطع الطريق على من يريد اجتزاءها لخدمة رأيه الشخصى المخالف للتوجه الاسلامى الصحيح.
3- فقه الحياة أداة اجتهاد:
يقدم فقه الحياة أداةً للاجتهاد الحياتي والنظري؛ بحيث لا يقف المسلم عند سؤال الحلال والحرام الفقهي والورقي فقط، بينما مساحة كبيرة من الحياة تجري في الفواصل بين هذين المعنيين أي في المشتبهات (التي لا يعلمهن كثير من الناس) ولا يملك الكثير من الناس إمكانية اتقائها والاستبراء منها؛ حيث دخلت في حاجياتهم وأحيانا فيما اعتبروه ضروريات.
وكما سبقت الإشارة، يقدم فقه الحياة إمكانيات للاجتهاد في المستجدات بالإسهام في تفهم معضلات تواجه المجتهد وتضطره أحيانًا إلى استعمال القياسات الضعيفة. كما يقدم إمكانية الترجيح بين المختلف فيه من أقوال العلماء؛ بحيث يترجح القول المتسق مع مقاصد الشريعة وقيمها والأكثر مناسبة للظرف الواقعي المعيش.
3- فقه الحياة أداة تجديد معرفي:
وذلك بما يقدمه من إمكانيات لقراءات جديدة للتراث والمعاصر؛ قراءات بأدوات من جوهر الإسلام نفسه، متسقة مع معدن التراث، وذات قابليات عالية لاستيعاب المستجدات، وإخراج المسلم والأمة من حال الحرج إلى حال السعة. بل هذه القراءات المنطلقة من هذه المنظومة – وبمحدداتها وضوابطها المذكورة أعلاه- جديرة بأن تكشف عوار القراءات التبديدية الشائعة اليوم. كما تتوفر من فقه الحياة أداة تجديد معرفي بمعنى الإبداع في مجالات المعرفة الحديثة بالوقوف على نظريات ومداخل جديدة في العلوم الاجتماعية والإنسانية مصدرها المرجعية الإسلامية، وتجيب عن مطالب الواقع الحال.
خاتمة:
في ختام هذا القسم المنهجى يمكننا أن نشير إلى بعض النتائج الهامة التي تم استنباطها من خلال تطور العمل في هذا البحث ومن خلال المناقشات المستفيضة التي دارت حول هذا الفصل بالخصوص. هذه النتائج هي في حقيقة الأمر خطوط عريضة لموضوعات تحتاج لكثير من التدقيق والاختبار, ولأهميتها وجدنا أنها خير ما يمكن أن نختم به هذا الفصل:
أولا:
فقه الحياة باعتباره واصلا بين الفكر وفقه الأحكام: ونقترح في هذا المقام إمكانية تحويل المرجعيات الكلية للفكر (كالقيم والمقاصد والسنن..) إلى أصول شبه منضبطة, من خلال تأصيل معرفي جاد لها، يستلهم أصول الفقه, بحيث يمكن لهذه الكليات أن تسوغ الحكم الفكري كما تسوغ الأصول الفقهية الثابتة الحكمَ الفقهي. ذلك أن الاختلاف النوعي في تكييف القضايا وطبيعة سؤال كل من المجال الفقهى والمجال البحثى والمعرفى يؤدي كل منهما إلى إجابات مختلفة نوعيا: هي ما يظهر في منتوج فقه الحياة: “متسق أو غير متسق”، “أقرب أو أبعد”, مقابل الحكم الفقهى المنضبط من: حلال وحرام ومندوب ومكروه ومباح. ومن هنا قد نجد علاقة وصل تقرب الرؤية بين الفقه المنضبط وبين الفكر الذي يوصف دائمًا بعدم الانضباط وبالتالى بسيولته غير القابلة للحكم عليها.
ومن هنا يتضح أن فقه الحياة – وإن اشترك مع ما أضحى يسمى بالفقه الحضاري في الصعود إلى الكليات والمجردات- إلا أنه أيضا يتميز عنه من جهة ويتوافق مع فقه الأحكام في أمرين مهمين: معالجة الجزئيات والتعاطى معها من ناحية, والحاكمية على الجزئي من ناحية أخرى، وإن كانت هذه الحاكمية من خلال الحكم بالاتساق وعدم الاتساق مع منظومة القيم والمقاصد والسنن وليس من خلال الحكم بالحلال والحرام. وهنا نرى فقه الحياة واصلاً بين مجالين اعتبرا دائمًا متابينين تمامًا مما كان يشكل عائقًا صعب التجاوز لكل من كان يجتهد في مجالات المعرفة المختلفة على أساس دخول مجالات بحثهم في كلا المساحتين من الاجتهاد: الفقهية والفكرية. وهذا يجعلنا في حاجة حقيقية لتمحيص وتطوير أدوات فقه الحياة لتتوائم مع الحاجة المتسارعة والماسة للاجتهاد في المجال الفكري والحضاري.
ثانيًا:
فقه الحياة مدخل إلى خطاب إسلامي جديد: إذا كان الهدف الرئيسي من هذا الجزء المنهجي هو إيجاد رؤية اجتهادية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الواقع المعيش وتتصدى بالاجتهاد في مستجدات العصر وتسعى إلى تقديم طرح مركَّب للحياة مستنبط من النموذج النبوى الشريف, فإننا نزعم أن اعتبار هذه الرؤية سيؤثر بالضرورة على الخطاب الإسلامي من حيث مضمون هذا الخطاب الذي يواجه أخيرًا الكثير من الهجوم لأسباب حقيقية أحيانًا ولأسباب مغرضة في كثير من الأحيان.
ثالثًا:
وهذا يصب في سؤالنا الرئيسي حول مدى إمكانية إدخال عناصر منظومة فقه الحياة في أصول الفقه الإجمالية كأن تكون القيم الشرعية المستقرة المتفق عليها في باب الأدلة المختلف فيها. وينفتح الباب أمام جهود ضبط تعريفات وإمكانات هذه الأصول الثلاثة: القيم والمقاصد والسنن.
المراجع
(1) ابن القيم – إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق وتعليق: عصام الدين الصبابطي، القاهرة: دار الحديث،1422هـ/2002م.
(2) أحمد الريسوني – نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي – المعهد العالمي للفكر الإسلامي – سلسلة الرسائل الجامعية – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – 1992 .
(3) سيف الدين عبد الفتاح – مدخل القيم – إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام – المعهد العالمي للفكر الإسلامي – مشروع العلاقات الدولية في الإسلام – 1999.
(4) طه جابر العلواني – نحو التجديد والاجتهاد – مراجعات في المنظومة المعرفية الإسلامية دار التنوير للنشر والتوزيع – 2008.
(5) طه جابر العلواني – الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون – دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع – 1995.
(6) علي جمعة محمد – الطريق إلى التراث الإسلامي – مقدمات معرفية ومداخل منهجية – دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع – 2004.