للدكتور عبد الوهاب المسيري حضور إنساني وفكري متعدد الأوجه والأبعاد، حتى أن الباحث في إنتاجه الفكري لا يملك إلا أن يلحظ هذا الثراء والتنوع في إنتاجه الذي لا يمكن حصره في تخصص أو وضعه تحت عنوان واحد.
عبد الوهاب المسيري عقل توليدي ملهِم، والفارق بين العقل المبدع والعقل الوظيفي أو الأداتي، كما علمنا المسيري، هو الفارق بين عقل يوظف المؤسسة والأطر العلمية في الوصول إلى الحكمة والمعرفة، ولخدمة الإنسانية، والدفاع عن حقوق الناس، وتوفير حياة طيبة لهم؛ فيكون العلم بذلك علماً نافعاً .. وبين عقل آخر يختفي فيه المنظور النقدي وتتلاشى أسئلة الوجود والهوية، ويصبح فيه العلم حرفة وتحصيله أداة لتحصيل الثروة، والإنتاج العلمي وسيلة للترقي في كادر المهنة أو الكادر السياسي، ويزيد الكم دون زيادة كيفية، ودون أي أمل في نقلة معرفية حقيقية تصنع مستقبلاً أفضل للوطن، بين جدران الجامعة .. وآفاق العلم.
لذا فإن الوعي بدور العاِلم في مجتمعه، الذي كان حاضراً في وعي المسيري، لا يصح التأريخ له ببدء عمله في السلك الأكاديمي، بل في عام 1990 حين استقال د. عبد الوهاب المسيري من جامعة عين شمس ليتفرغ لإنهاء موسوعة عن اليهود واليهودية والصهيونية، هذا العمل الذي عكف عليه 25 سنة وأنفق عليه الوقت والجهد والمال، ليخرج عملاً موسوعياً فذاً. فالعلم بالنسبة لعبد الوهاب المسيري ليس وظيفة يتكسب منها، بل هو رسالة يحملها على كاهله وأمانة يؤديها لأمته؛ لذا فقد كان يدرك الدور الرسالي للبحث يدور معه أينما دار، ولذلك كان عبد الوهاب المسيري- كما كان جمال حمدان- عقلاً عربياً موسوعياً يصبو للمعرفة والحكمة، والنفع والخدمة لقضايا أمته .
بيد أن هناك فارق جوهري بين المسيري وجمال حمدان، فالثاني اختار العزلة (أو ربما فرضتها عليه الظروف) كي ينتج أعماله، في حين اختار الأول الانخراط في الواقع المحيط والتفاعل معه كي يثري جهده الفكري من ناحية، ويستجيب لاحتياجات مجتمعه الفكرية والاجتماعية والسياسية من منظور كفاحي من ناحية أخرى، كما أكد د. حامد ربيع في حديثه عن الدور الكفاحي للعلم.
كيف يمكن إذاً رسم معالم للخريطة الثرية والغنية لعالم عبد الوهاب المسيري في تقديم لملف هام ضم أربع أوراق كل منها بمثابة نافذة على هذا العالم من اقترابات مختلفة؟
أعتقد أن هناك ثلاث مداخل رئيسية لعالم عبد الوهاب المسيري:
أولاً:مدخل العقل الموسوعي العابر للتخصصات والمتجاوز للأطر الحضاري في مجال البحث والمقارنة:
ولعل هذا ما سعت ورقة جواد الشقوري التركيز عليه بتحرير صورة المسيري في ذهن الغالبية بأنه المتخصص في الصهيونية واليهودية بما غمطه حقه كمفكر حضاري، وكذا ورقة عبد القادر بخوش في مقارنة المسيري بمالك بن نبي، وهي مقارنة يمكن أن تمتد لآخرين من علي شريعتي إلى روجيه جارودي وعلي عزت بيجوفيتش وغيرهم من المفكرين أصحاب الرؤية المركبة والمقارَنة في آن.
وبذلك فقد أثمرت رؤيته الموسوعية هذه عدة إسهامات في المجال الفكري :
1-الإسهام في دراسات الصهيونية ومراجعة منظوماتها الأيديولوجية والمفاهيمية، والاحتفاء بالمقابل بنموذج المقاومة الفلسطينية.
أهمية إسهامات المسيري في الدراسات الصهيونية أنه نظر لها من منظور مركب تجاوز السياسي إلى الفلسفي والنماذجي، ثم ضم تلك الدراسات لنقد الفكر الإمبريالي بربْط الصهيونية بالمنظومة العلمانية والتوظيفية للإنسان، إي رَبَطَ مبكراً بين نقده للغرب والمجتمع الرأسمالي ونقده للأسطورة الصهيونية ومعاداتها للإنسان، وفي المقابل يركز على البعد الإنساني والمركب في المقاومة الفلسطينية، فلا تقل كتابات المسيري عن القضية الفلسطينية أهمية عن كتاباته في الصهيونية، ومن أهمها كتاباته عن الانتفاضة والأدب الفلسطيني. والرؤية التي طورها المسيري في كتابه “الانتفاضة: دراسة في الإدراك والكرامة” تقدم فلسطين لا كحالة أو قضية وحسب، بل كنموذج إنساني فريد للمقاومة له ملامحه وسماته النابعة من العقيدة والخصائص الحضارية فيما أسماه بالنموذج الانتفاضي، ولأن الانتفاضة ليست مجرد ثورة ضد الاحتلال فهي لا تموت بل تتجدد ( وهكذا نشهد-كما توقع المسيري-تجدد الانتفاضة) والنموذج الانتفاضي ليس لصيقاً بفلسطين وحسب بل هو نموذج إنساني ضد القوة الاستيطانية يمكن تطويره ليصبح نموذجاً إنسانياً يتحدى حسابات القوة المادية وعقلية الهزيمة والاستسلام.
وتمتلئ المكتبة العربية بدراسات كثيرة، وكتب ومقالات حول: “القضية الفلسطينية”، ويدور معظمها حول التاريخ المعاصر ونشأة الصراع العربي/الإسرائيلي وتطوره والكفاح الفلسطيني وقوى المقاومة الفلسطينية، والدوائر المختلفة للقضية داخليًا وإقليميًا/عربيًا، ودوليًا، ومسارات التسوية والتوازنات الدولية. ومنذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى صدر العديد من الأبحاث حول يوميات الانتفاضة، وأثرها في الكيان الصهيوني. كما برز اهتمام متزايد بالأوضاع في ظل السلطة الفلسطينية وتوازنات القوى الفلسطينية ومستقبل مفاوضات السلام وأزمة التسوية الراهنة.
غالبية هذه الأدبيات ركزت على “القضية” و”الشعب”، وهي وحدات تحليلية هامة لكنها من ناحية لا تعبر بدقة عن الإنساني/الشخصي/الفردي، ولا ترتفع إلى الفلسفي/ النظري/ المعرفي.
يخدم المسيري هذا التصور للطبيعة الإنسانية للنضال الفلسطيني بالإسهام في دراسة الشعر الفلسطيني، ويترجمه للإنجليزية في إصدارات متتالية يمزج فيها رؤى النقد الأدبي بأفكار النقد الحضاري، ويدرس جماليات المقاومة في المراثي – حب فلسطين – الصمود والمقاومة – الأمل في الانتصار. ويبرز جماليات المقاومة التي تدور حول إشكالية شاعر يبغي تغيير المجتمع وتحطيم الظلم ولكنه في الوقت ذاته يعبر عن نفسه من خلال شكل جمالي إبداعي متسق مع مكنون ذاته.
فيقرأ المسيري ويحلل شعر توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم.. ويرصد هذه الصور والرؤى التي تعبر عن مقاومة وصمود الإنسان الفلسطيني.
ولأن هذه التجارب الإبداعية بالدرجة الأولى تجارب إنسانية تتجاوز الخصوصية الفلسطينية فإن المسيري يحرص على نقلها ويترجمها للإنجليزية كي تصل بلسان آخر إلى بشر آخرين، وتصبح تعبيراً انسانياً عن الإنسان الفلسطيني ليتواصل به مع معاناة الشعوب في أي مكان.
وهناك له أيضاً مختارات في القصص القصيرة الفلسطينية ترجمها الدكتور المسيري مع ابنته الدكتورة نور المسيري، والقصص التي تضمها المختارات ليست بالضرورة قصص مقاومة، فبعضها يتناول إشكاليات إنسانية عامة. وتدور المختارات حول الموضوعات التالية: ظلال الفردوس المفقود – منفيون في الأرض – لاجئون في أرض معادية – بابل – الموت في الحياة والحياة في الموت – أحلام الفردوس والعودة له. وهذه الكتابات في الشعر والقصص الفلسطيني تشكل مع كتاباته عن الأدب الصهيوني والأدب المكتوب بالعبرية وآداب الجماعات اليهودية نسقاً متكاملاً يقارن بين نسقين في إدراك الإنسان والوجود.
وحين تندلع الانتفاضة الفلسطينية يجد المسيري نفسه مستوعَبًا تمامًا في أحداثها، ومستوعِبًا تمامًا لأهمية هذه اللحظة التاريخية في الجهاد الفلسطيني، مما يدعوه إلى ترك مشروعه البحثي الأساسي وهو “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية” ليكتب دراسة فريدة عن الانتفاضة هي في تقديري من أهم كتاباته على الإطلاق، وبدلاً من أن يرصد يومياتها بشكل معلوماتي أخرس، يستنطق المسيري المعلومات والبيانات والتفاصيل اليومية الصغيرة لتتحدث بلسان إنساني متألق، ثم يجرد منها رؤية معرفية تكمن وراء كل تفاصيلها هي رؤية للكون والحياة. لذا كانت الانتفاضة بالنسبة للمسيري لحظة تاريخية نادرة كدارس للظاهرة الإنسانية في العالم العربي، ورأى فيها النموذج المعرفي الذي يبلوره وقد تحول إلى حدث يومي.حدث يجسد كيف يمكن للإنسان الفلسطيني أن يتحرر من رؤى الحداثة النفعية و”رشدها” المحسوب ليستلهم التراث ويولد منه حداثته الجديدة ونظمه في إدارة المقاومة وتفعيل الفرد وتحريك الكتلة البشرية بأسرها.
حتى النموذج الانتفاضي في المقاومة وجده المسيري مختلفاً عن نموذج الثورة الحداثي القائم على النمو المستمر والمتصاعد وتعظيم متراكمة الطاقة حتى يصل النموذج إلى الذروة، وهي نقطة الاشتعال (نهاية التاريخ). فالتصعيد الثوري لا بد أن يأخذ شكل تصعيد رأسي، بمعنى حتمية أن يكون هناك تزايد دائم في احتدام التناقضات.
أما نموذج الانتفاضة فيحتاج إلى قدر من الطاقة ولكنه لا يتجه نحو تعظيم متراكماتها، بل يركز على استخدامها مع الحفاظ عليها وعلى مصادرها (كما هو الحال في المجتمعات التقليدية). وهو نموذج يفضل التوازن على الصراع. ولذا فهو يجمع بين الطاقة الإنسانية (التقاط الحجر وإلقاؤه) والطاقة الطبيعية (الحجر نفسه).ولأن النموذج الانتفاضي لا يتجه نحو النمو المستمر فهو لا يحاول أن يصل إلى الذروة، ولذا فهو يتوهج أحيانًا ويخبو أحيانًا أخرى. ولكنه لا يشتعل أبدًا.. ولا ينطفئ أبدًا.
2-الغرب والعالم : لا نهاية للتاريخ
انشغل المسيري مبكراً بمجال النقد الحضاري للحضارة الغربية ومقوماتها، ورأى في المدنية الأمريكية تجلياً للحضارة الغربية في مراحل الرأسمالية المتأخرة، وكتب كتابه “الفردوس الأرضي: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية 1979” ليقدم رؤية تحليلية لعلاقة الغرب بالعالم انطلاقاً من فهم الرؤية الحداثية للعالم والاحتمالات المعادية للإنسان الكامنة فيها والمتجلية في تاريخها وخبرتها ضد الأقليات وتصوراتها للآخر .
مبكراً كتب في مراجعة النظرة لأمريكا باعتبارها “الفردوس الأرضي”، ومؤخراً أضاف وطور في كتاب “الغرب والعالم”، وكان اهتمامه دائماً يتجاوز السياسة إلى الحضارة ومن العمارة إلى إدراك قواعد العمران ذاته، ولم يكن في ذلك يمارس نزعة شوفينية تحيزاً لعروبته، بل نظرة وموقف إنساني يتفاعل مع الآخر في سبيل الدفاع عن الإنسان ضد المادية الشرسة، لذلك كان رمزاً محترماً وصوتاً مسموعاً في الدوائر الأكاديمية الغربية، وظل عبر مسيرته قادراً على إقامة جسور إنسانية مع الجميع، مخالفين في الرأي في داخل ثقافته ومناقضيه في الرؤية خارجها .
وفي كتاباته ينتقد الدكتور المسيري الرؤية الحداثية للعالم، لكنه لا يقف على أرضية من يرفضون الغرب ويريدون العودة في التاريخ للوراء، ولم يقبل أن يقف على أرضية تلفيقية محايدة تهاجم الغلو والردة الحضارية وتزعم الاستفادة من مكتسبات الحضارة الغربية دون نقد حكيم، بل هو يقوم عبر نموذجه الواضح لعلاقة الإنسان بالكون ونقده للحلولية والعلمانية المادية بنقد الحداثة تجاوزاً لها لا عداءاً معها أو حرصاً على موقف المناقض لها، وبذلك يقدم خطاباً تجديدياً إنسانياً من فوق أرضية الحضارة العربية الإسلامية، يمكن بحق وصفه بأنه خطاب إسلامي جديد يرتفع للمقاصد ولا يفرق في تفاصيل الفقه، وبذا يكون خطاباً إنسانياً صالحاً للتواصل والتفاعل مع العالم والقوى والتيارات الإنسانية المختلفة المعادية للمادية والمعلوماتية الصلبة.وقد كتب المسيري ضد فكرة نهاية التاريخ التي تجددت مع كتابات فوكوياما، ونشر منذ السبعينات رؤيته لتلك الفكرة باعتبارها ضد الإنسان، وربط مبكراً بين هذه الفكرة ورؤى الصهيونية لانطلاقهما من رؤية امبريالية، فكتاب “نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة الفكر الصهيوني” صدر للمسيري عام 1972 كدراسة في فلسفة التاريخ الصهيوني، تذهب إلى أن الفلسفات المادية تحاول دائمًا أن تضع نهاية للتاريخ (الزمان والمكان)، وأن تبدأ من نقطة الصفر. وهذا ما يصنعه الصهاينة بالنسبة لكل من الفلسطينيين ويهود العالم، إذ تتحول فلسطين العربية إلى “إرتس يسرائيل” أو صهيون، أي أرض بلا شعب؛ أما يهود العالم فهم أشخاص مقتلعون لا وطن لهم فهم شعب بلا أرض. ويتوقف تاريخ فلسطين (التي تنتظر أصحابها الأصليون، أي اليهود)، كما يتوقف تاريخ يهود العالم (فهم يعيشون في المنفى يتوقون للعودة لوطنهم القومي الأصلي) وحين يضع الصهاينة نهاية للتاريخ فهم لا يختلفون كثيرًا في هذا عن النازيين الذين أوقفوا تاريخ كل العناصر التي قرروا أنها تعوق تطور الشعب العضوي.
3- ربط المادية بالعنصرية بالصهيونية:
برز ذلك في كتابات المسيري حول إعادة صياغة المفاهيم مثل وصف “الجماعة اليهودية” باعتبارها جماعة ثقافية واحدة، وهو ما بيّن المسيري أنه أسطورة صهيونية، وبذلك قام بتفكيك وإعادة تركيب الفكر والتاريخ اليهودي في عدة كتابات حققت تراكماً في هذا المجال وصارت أبرز الأدبيات العربية في موضوعاتها، وقد ربط المسيري هذه الرؤية الكلية بالقضايا السياسية الجارية لفهمها وترشيد إدراكها بشكل يتجاوز المعلوماتية الناقلة الرصدية، فكتب موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية التي صدرت بالقاهرة 1975عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وكانت بداية كتابته في هذا المجال، وسيظل يتابع تأصيل وتطوير أطروحاته بدأب عبر السنوات. ومنذ عام 1976 ربط بين الصهيونية والعنصرية وبين جهاد الشعب الفلسطيني وكفاح شعب جنوب أفريقيا ضد الأبارتهيد، وما أشد الحاجة الآن لاستعادة هذه الأفكار في ظل خطط تحويل الاستيطان الصهيوني فلسطين لمناطق عزل عنصري جديد. وأدرك المسيري عبر البحث الحاجة لكتابة موسوعة ضخمة كمحاولة لتأصيل موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية الأصلية ولتنعكس فيها رؤاه وجهوده في مسارات مختلفة، تعمقها وتستفيد منها وتغذيها، وأبرزها رؤيته للعلمانية كرؤية معرفية وفلسفة حداثية .
وقارن في كتابات موازية للموسوعة صلة النموذج بالأحداث وتطورها على الأرض كما في كتابه “هجرة اليهود السوفيت” ونقده للرصد المعلوماتي للقضية، وليتنبأ بأنها ستفكك المجتمع الصهيوني، ثم كتب حول أهمية فهم إسرائيل من الداخل، وتطوير نموذجنا التحليلي وليس استيراده كي نطور قدرتنا التفسيرية وفهمنا لطبيعة العدو وطبيعة القضية والمعركة، وليس فقط هتافاتنا وجهادنا اللفظي، وإنتقالاً من الوصف والتحليلي والفك والتركيب وصولاً للتنبؤ بمستقبل إسرائيل كما في أخريات كتبه.
ثانياً : مدخل الإنسانية :
قام المسيري بتقديم خطاب إسلامي جديد ينحو نحو استعادة مركزية الإنسان مع استكمال الرؤية الإسلامية لنواقص الإنسانية المادية بوجود الله الذي ليس كمثله شيء ودور النص الديني .
ويمكن تصنيف المسيري على الساحة الإسلامية كما على الساحة العالمية (باعتباره مفكر عالمي وهو ما يجب تأكيده وبيانه من جانب المسلمين) بأنه مفكر إنساني رومانتيكي، أي يصوغ رؤية إنسانية تربط العقل بالروح والعاطفة، كما في المراحل الأولى من الحداثة قبل أن يتوحش البعد المادي ويهيمن على تطورها.
والرومانتيكية هنا ليست طوباوية مفارقة للواقع،بل هي رؤية تحتفي بقدرة الإنسان على تجاوز الواقع، إذ يتميز الفكر الإنساني بالقدرة على التوليد والتحليل والاستشراف، فلا يكون أسير مادية طبيعية ولا معلوماتية صلبة.
وهذه الرومانتيكية هي خيط ناظم في فكر عبد الوهاب المسيري يرصدها المتابع لكتاباته منذ بواكيرها، فقد كانت معه حين كان ماركسياً، والماركسية كانت دوماً تستلهم روحاً من العدل المثالي،ثم حددت موقفه المعرفي/الحضاري الرحب فوق الأرضية الإسلامية ليختلف عن أبناء جيله الذين قاموا بنفس التحول لكنهم وقفوا في مربع الإسلام السياسي أو كانوا أقرب إليه، في حين اختار هو أن يكون اسلامياً .. ورومانتيكياً إنسانياً.
“الرومانتيكية المسيرية” تربط بين دوائر فكر المسيري المختلفة ربطاً مركباً عبر نماذج تحليلية فلا يرى القارىء في الحقيقة غرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية، وفي الشعر، وفي رؤى الحداثة، وفي العلمانية كنموذج معرفي،وفي التحيز الأكاديمي العلمي الغربي، وضد نهاية التاريخ، وفي الخطاب الإسلامي الجديد، وأخيراً يكتب كتباً متميزة للأطفال تنال جوائز قومية.
هذه الرومانتيكية وإطارها الإنساني الإيماني الرحب نبع من عبد الوهاب المسيري في الأصل من خلفية وعيه باللغة والمجاز كأستاذ أدب إنجليزي، فلم يتوقف، رغم انشغاله بالموسوعات والكتابة في شتى الموضوعات، عن الأدب والكتابة النقدية الرفيعة، وآخرها الجوهرة الثمينة وهي تحليله لقصيدة الملاح القديم بشكل فني رفيع ونادر يعكس جماليات الإنسانية الرومانتيكية كما يمكن أن تتجلى في إسلاميتها ورحابتها في عصرنا الراهن.
وقد اتضح منحى الإنسانية الذي تطور من الرومانتيكية التي اختارها عبد الوهاب المسيري لدراسة الماجستير والدكتوراه، فهو متخصص في الأدب الرومانتيكي، يذهب في دراساته لبحث كيف تتجلى من خلال كل قصيدة لحظة تاريخية محددة عبر المعنى وآفاق دلالاته، وحين يدرس القصائد الرومانتيكية الواحدة تلو الأخرى فإن هذا يؤدي إلى الإحساس بالتتالي التاريخي. ومن ثم يحاول أن يحل المشكلة المنهجية الكبرى وهي كيفية الانتقال من النموذج الجمالي (الذي يؤكد استقلال القصيدة) إلى النموذج التاريخي (الذي يؤكد كونها جزءًا لا يتجزأ من عملية التتالي التاريخي). درس قصائد كوليردج و”فسرها” مخالفاً لتفسيرات النقاد الآخرين ومنطلقاتهم الفلسفية، ودرس وردزورث الشاعر البارز، باحثاً الدلالة الميتافيزيقية لما كتب بعد نهاية قصائده من إضافات شعرية هي “إضافات متأخرة”، فيقرأ الشعر الغربي بعيون جديدة ترى عبر أدواتها التحليلية ما لا يراه أهلها.
ويجعل هذا خيطاً في دراساته المتخصصة عبر السنوات، والتي يتابعها أهل النقد والأدب بتقدير وقد لا يطالعها قاريء المسيري المطالع لكتاباته المشهورة عن اليهودية والصهيونية، فيهتم المسيري في دراسات وبحوث عديدة بالأمثال الرومانتيكية منذ لحظة ولادتها حتى لحظة احتضارها وموتها، ويقوده هذا التحليل للغة والمجاز والتجاوز، ومن هنا كان احتفاؤه المبكر بشعر المقاومة الفلسطينية ثم رؤيته للنموذج الانتفاضي باعتباره نموذج مقاومة إنسانية ضد السلاح وقوى البطش باعتبار الفلسطيني إنسان، له ثقافة ولغة وتاريخ وشعر، يمكنه وهو يجاهد لاسترجاع حقوقه أن يوظف لغته في التعبير عن معاناته وحبه للحرية لتصبح لغة عالمية نضالية ضد الظلم، واستمراره هو في كتابة الشعر ونشره حتى آخر وقت.
وإنسانية المسيري لا تقتصر على الفكر والكتابة والمنهج بل كانت سمة من سمات شخصيته، في رعايته لشباب الباحثين، وبولعه بالجمال في المعنى وفي شكل النص، وبالألوان وبالمساحات. فإنسانيته الفكرية فاضت على شخصية المفكر الإنسان الذي كان عبد الوهاب المسيري.
ثالثاً: مدخل “البحث عن المعنى”:
يمكن القول أن المسيري عاش حياته يبحث عن المعنى، المعنى في المصطلح ومراجعته، ونقده، والمعنى الكامن خلف المنظومات الفكرية، والمعنى الكامن خلف المنظومات والمنظورات الحضارية، والمعنى الكامن خلف الحياة وحضور الغيب فيها وما وراءها، وأخيراً معنى الموت حين حدق المسيري في وجهه بشجاعة ثم تجاوزه بيقينه.. ومضى.
حين انتهى الدكتور المسيري من موسوعته، موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد”، وجد أنه قد يكون من المفيد أن يتأمل في إنجازه، وأن يحاول أن يعلق عليه ويستخلص منه النتائج الفلسفية والمنهجية (وكعادته دائمًا مع معظم أعماله) يعكف على ما يقرب من أربعة مجلدات يكشف فيها منهجه وأطروحته الأساسية، وقد لخصها كلها في المجلد الأول من موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية الحالية. ويعمل-رغم مرضه- على تطويرها وإصدارها كاملة كعمل مستقل أو كأعمال مستقلة.
ورأى أن “ما بعد الحداثة” العلمانية لا تشكل انحرافًا عن الحضارة الغربية وإنما هي كامنة في منظومة الحداثة نفسها وما يسميه “نزعتها التفكيكية”، لأنها جعلت من قوانين المادة الطبيعية معيارًا لكل شيء، بما في ذلك الظاهرة الإنسانية. ولكن القانون الطبيعي لا يعترف بأية مطلقات، إذ أنه يقوم بتفكيك كل شيء بما في ذلك الإنسان. ومع تفكيك كل شيء نصل إلى العدمية الكاملة أو إنكار المركز، إلهيًا كان أم إنسانيًا، وإنكار القيمة، بل الحقيقة، ومن ثم المقدرة على الحكم، أي أننا وصلنا إلى مرحلة ما بعد الحداثة واللاعقلانية المادية، مما يستلزم تفرقة حاسمة بين بواكيرالتنوير ومشروع الحداثة.
وهو يطور مفهوم الحلولية أي إنكار المسافة بين الخالق والمخلوق بحيث يصبحان جوهرًا واحدًا، فيحرره من المعنى العقيدي ويكسبه دلالة تحليلية في دراسة العلمانية والحداثة ومحاولات التجاوز في تيارات ما بعد الحداثة وقصورها لكونها عجزت عن التحرر من فكرة الانسان الطبيعي، فحين يتم تهميش الدين تسود الحتميات وتصفى الثنائيات وتصبح الظواهر ذات بعد واحد، أي تسود الواحدية (الروحية والمادية) بدلا من الثنائية والجدل والتدافع.
وننتهي إلى سيادة القانون الطبيعي/المادي على رؤى الإنسان.
والفرق بينها وبين العلمانية الجزئية يكمن في أن العلمانية الجزئية تطالب بفصل الدين عن الدولة وحسب، وتلزم الصمت بخصوص مفهوم القيم المطلقة والحياة الخاصة والمرجعية النهائية للقرارات السياسية. أما العلمانية الشاملة فهي ليست فصل القيم الدينية عن الدولة وإنما فصلها عن حياة الإنسان العامة والخاصة وعن المرجعية النهائية للدولة ولكل قرارات الإنسان، أي أنها فصل القيمة عن الحياة. ونتيجة لهذا يظهر العلم المنفصل عن القيمة، والجسد المنفصل عن القيمة، والحياة المنفصلة عن القيمة، وهذه هي العقلانية المادية الكاملة المستحيلة. وإذا كان من الممكن تقبل العلمانية الجزئية، أي فصل الدين عن السياسة وربما الاقتصاد (بالمعنى المباشر والمحدد للكلمة) فالعلمانية الشاملة –أي فصل الدين عن الحياة وربط الإنسان بقوانين الطبيعة المادية وحسب أمر من العسير تقبله لأنها أيديولوجية كاسحة لا يوجد فيها مجال للإنسان أو للقيم، ومن ثم فهي لا تتصالح مع الدين ولا مع الإنسان، مسلمًا كان أم مسيحيًا أم يهوديًا، وتحاول أن تختزل حياة الإنسان للبعد المادي وحسب!
ومن أبرز إسهامات الدكتور المسيري تطويره لمفاهيم اجتماعية وتوظيفها في دراسته ظواهر جديدة، ولعل أبرز هذه المفاهيم هو مفهوم الجماعات الوظيفية، والذي استخدمه رواد علم الاجتماع في دراسة جماعات داخل نطاق المجتمع بأدوار وظيفية معينة وقد ترتبط بطبقة أو إثنية، والجماعة الوظيفية هي جماعة يستوردها المجتمع أو يجندها من داخله، تُعرَّف في ضوء وظيفتها لا في ضوء إنسانيتها الكاملة، ويوكل المجتمع لهذه الجماعة وظائف لا يضطلع بها عادة أعضاء المجتمع إما لأنها مشينة (البغاء – الربا) أو متميزة وتتطلب خبرة خاصة (الطب والترجمة) أو أمنية وعسكرية، أو لأنها تتطلب الحياد الكامل (التجارة وجمع الضرائب). ويتسم أعضاء الجماعة الوظيفية بالحياد وبأن علاقتهم بالمجتمع علاقة نفعية تعاقدية، وهم عادة عناصر حركية لا ارتباط لها ولا انتماء، تعيش على هامش المجتمع في حالة اغتراب ويقوم هو بعزلها عنه ليحتفظ بمتانة نسيجه المجتمعي.
وقد سحب المسيري هذا المفهوم على الكيان الصهيوني باعتباره كياناً وظيفياً في إطار النسق الرأسمالي العالمي لخدمة أهداف إستراتيجية في المنطقة العربية، معطياً بذلك دلالة عميقة لفلسفة تأسيس الكيان الصهيوني تتجاوز اغتصاب الأرض .
ويطور الدكتور المسيري في كتاباته مفهوم الجماعة الوظيفية ويطبقه على تاريخ الجماعات اليهودية، منطلقاً من رأي ماركس وإنجلز وفيبر وسومبارت في أصول الرأسمالية، ويطوره ليحلل قضية الدولة الصهيونية باعتبارها دولة وظيفية فيقدم مفهوم “الجماعة الوظيفية” باعتباره أداة تحليلية أكثر تفسيرية وتركيبية من مفهوم “الطبقة” التقليدي.
وقد نقل البحث في المصطلح وصولاً لمفهوم العلمانية الذي فصل المسيري أبعاده وخلفيته الفلسفية ومستوياته في كتاب العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، نقله للبحث في أنساق النماذج التفسيرية، لذا كان التحيز كمفهوم هو الإطار الذي لفت نظره فشجع الباحثين عن البحث عن المعنى الخفي المتحيز كما المعنى الغائب المستبعد في النماذج المعرفية، فحرك الماء الراكد في البحث عن المعنى في الساحة الفكرية والأكاديمية العربية منذ 1992 حين عقد مؤتمر التحيز الأول وحتى 2007 حين عقد المؤتمر الثاني للتحيز ومتوازياً معه احتفالية بفكر المسيري والذين عرض فيهما بعض أوراق الملف.
وربما يكون من الغريب في ظل التفوق العلمي والبحثي في الغرب أن يقف عقل عربي مستقل ليذهب إلى أن المناهج الغربية مناهج متحيزة لرؤيتها للعالم ولإدارتها للواقع، وأن لها حدوداً في فهم وتفسير الظاهرة الإنسانية والاجتماعية بل والطبيعية. لكن د. عبد الوهاب المسيري فعل ذلك، وفعله بطريقة رصينة للغاية، ولم يفعله وحده ليرد فضل جهد علمي لنفسه فقط، بل أدرك أن هذه المهمة لا يقوم بها إلا عقول من شتى التخصصات، فقام من خلال ندوتي التحيز عبر خمسة عشر سنة بجمع كتيبة من الباحثين العرب البارزين كل في مجاله من كل فروع المعرفة والعلم تقريباً، ليقدم كل واحد رؤية عربية نقدية في المفاهيم والاقترابات السائدة في علم من العلوم أو فرع من فروع النظرية الاجتماعية والإنسانية، واللغويات، والعمارة، والدراسات الجديدة كالنسوية والألسنيات الحديثة، ويطور رؤى جديدة تتجاوز التفكيك للتركيب ومحاولة تأسيس بديل ليس عربي بل إنساني علمي وفكري في مجالات شتى .
ولعل كتاب “التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد” الذي شارك فيه د.عبد الوهاب المسيري وحرره في جزئين يمثل أحد أهم جوانب تميز المسيري. فرغم أنه قام بأعمال فكرية تستلزم جهد جماعة منفرداً، فإنه أيضاً حاول أن يجمع عقولاً شتى في قضية التجديد المعرفي الأوسع في سعي لتأكيد التواصل عبر التخصصات والأقطار والأجيال. ولذلك فإن كتاب التحيز هو أيضاً تجربة فكرية وبحثية ثرية لها دلالات في فهم دور العقل الموسوعي في التواصل مع الساحة الفكرية والعلمية وإثراءها وعدم الانعزال عنها أو الاكتفاء بالذات أو الانكفاء عليها حتى ولو كانت متميزة، فضلاً عن الدعم العلمي والفكري للأجيال الجديدة لتكتسب الشجاعة والقوة التي تستلزمها العقلية النقدية والحضارية .
ويمكن القول أن البحث عن المعنى كان الدافع وراء رحلته الطويلة بمراحلها وتجلياتها المختلفة، لذا فسيرته الذاتية هي تسجيل لتلك الرحلة الوجودية والمعرفية الثرية.
فعن حياته الفكرية وعن وعيه بضرورة التمييز بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، وعلاقة القرية والمدينة في ظل الحداثة، والصلة بين دراسة الشعر الرومانتيكي ودراسة الصهيونية وتاريخ الأفكار كتب سيرته الذاتية التي تحاول أن تؤرخ لتطوره الفكري، وتجيب في الوقت نفسه على هذه الأسئلة. ولذا فقد أطلق عليها عبارة “سيرة غير ذاتية”، فهي سيرة لا تضم حياة فرد بل هي سيرة مفكر عربي إسلامي. ولكنها في الوقت نفسه تتضمن الحقائق الخاصة بفرد معين له أبعاده الخاصة جدًا، ولذا فهي أيضًا “سيرة غير موضوعية”.
إن كثيراً من العقول الموسوعية قد تقدم للآخرين معرفة وعلم، لكنها لا تزودهم بالتجارب الإنسانية والفكرية والفلسفية التي مرت بها، وبذلك لا تقدم خبرة فكرية وبحثية تحقق نقلة وتثري الدائرة الفكرية وتسجل للأجيال مسيرة العقل الحضاري عبر سيرته، ولعل السير الذاتية الفكرية من أبرز الأعمال التي تقوم بهذه المهمة، وقد أصدر د. عبد الوهاب المسيري سيرته الذاتية بهذا الهدف.
لكن ما الذي يدفع عقل مثل عقل المسيري لكتابة قصص الأطفال؟ ويحصل عنها على جائزة سوزان مبارك لأدب الطفل؟
الدافع هو رسالة العقل الموسوعي الذي يدرك أن الأمة التي تدافع عن فكر حضاري مستقل وفعل حضاري مستقل لابد أن تتزود بهذه المعرفة القوية على كل المستويات، وأن رسالة العقل الموسوعي هي إبراز جوانب تميز حضارته والمساهمة في مواجهة تحديات واقعها، فيكتب قصصاً للأطفال يضمنها رؤاه الفلسفية وتبرز فيها قدرة القصص على تغيير رؤى العالم، فتخرج سندريللا من أسر العقل الغربي لتتواصل مع حاضرها وتركب مترو الأنفاق، وترتدي في حفل الأمير زياً أهدته لها زينب “هانم” خاتون لا الساحرة الطيبة، ثم تسافر بعد الزواج للحصول على شهادة الدكتوراه.
إنها حقاً قصص مسيرية .. جداً.
لقد أراد المسيري أن يرد المعنى الحضاري والمعرفي حتى للشعر ولقصص الأطفال.
وأخيراً قرر المسيري أن يمنح المعنى للفعل السياسي في وطنه، ورغم مرضه فقد قبل أن يكون منسقاً لحركة كفاية ليرد للفعل الديمقراطي معناه الجماهيري، ولدور المثقف بُعده الحركي في الشارع.. بل ويرد المعنى للمقال الصحفي البسيط الذي يتاح لفهم الشخص العادي بما أثمر شعبية لكتابات المسيري لدى القاريء العادي الذي لا يقرأ الموسوعات وكتب النماذج المعرفية.
وكما أشار بحثي سعيد شبار وكمال السعيد حبيب فإن أثر المسيري على الحركة الإسلامية والفكر الإسلامي المعاصر أثر لا ينكر، فقد أعاد صياغة الخطاب وأتاح النقد البنّاء الموضوعي، ومنح الفكر الإسلامي أفقاً إنسانياً رحباً ومسئولية تجاه العالم وليس تجاه أمة المسلمين فحسب.
نعم، غير صحيح ولا دقيق أن يوصف د. عبد الوهاب المسيري بأنه خبير في قضايا اليهود والصهيونية وحسب، أو أستاذ أدب إنجليزي وكاتب موسوعي، لكن المسيري كان مفكرنا الإسلامي الإنساني العالمي بامتياز. وإذا ما نظر المرء للساحة الفكرية في عالمنا العربي برمته وقام بتصنيف المفكرين عبر توجهاتهم ومدارسهم المختلفة فإن المسيري يأتي بجدارة على رأس المفكـرين الذين يؤمنـون بقـدرة الإنسان، وتجاوز أفق العقل الإنساني لقوانين الطبيعة وحدود الجسد.. واستلهام اليقين الديني ورفض اليقين العقلي النفعي المادي الجامد.
وختاماً فقد منح المسيري للموت معنى كما منح للحياة معنى، فحول مرضه للحظات نضال فكري متوهج كما تتوهج الشمعة قبل أن تنطفيء، ولم يمنعه مرضه من السعي لإتمام مشروعات فكرية طموحة ونشر كتب وإعادة نشر أخرى والتجوال في العالم لحضور الندوات ودعم الباحثين الشبان في أرجاء العالم العربي والإسلامي من المغرب لماليزيا ومن الولايات المتحدة لجنوب أفريقيا، فترك ذكرى في كل أرض وعلماً ينتفع الناس به، ويبقى على تلامذته أن يحولوا هذا النور لسراج علم وعمل نحو إصلاح ونهضة ومستقبل أفضل .. للعالم.