أبحاث

التربية المدنية : دراسة في المفهوم بين العالمية والخصوصية : كيف نتعامل مع العالم المفاهيم الوافدة (2)

العدد 124

استراتيجية البناء المفاهيمي: إذن نحن أمام ضرورة تأسيس استراتيجية مفاهيمية قادرة على التعامل مع كل مستوى من المستويات المفاهيمية المتعددة(1)،

هذه الاستراتيجية لابد لها أن تترتب على تلك الخطوات السابقة في التعامل مع عالم المفاهيم.

عشوائية العالم المفاهيمي تحتاج منا مزيدًا من التوقف والبحث؛ ذلك أن الخروج من حال العشوائية في الظاهرة المفاهيمية ضرورة، وكذلك الدخول إليها من مدخل “البيــان والبناء” بما يليق بعالم المفاهيم في إطار من مفاهيم نظر واضحة فارقة ومناهج تعامل ناقدة لائقة ومناهج تناول كاشفة فاعلة.

وضمن هذه الرؤية الاستراتيجية لعالم المفاهيم ومنظوماته يمكن التعرض لعناصر مهمة في هذا المقام تعرضنا لبعض منها فيما سبق:

  • الإطار النقدي للبناء المفاهيمي: أنساق المعايير المفاهيمية.
  • عملية إعادة بناء المفهوم ضمن منظومة متطلبات عالم المفاهيم.
  • محـاولات تشـغيل وتفعيل المفهوم: آليات وأدوات.

عناصر مهمة تشكل منظومة من العناصر لابد أن يتطرق إليها كل من يتعرض لعالم المفاهيم سواء استقر أم وفد، سواء كان من مفاهيم تتعلق بذاكرتنا، أو مفاهيم الموقف التي تتعلق بالنمط الحضاري الغالب، أو مفاهيم تشكل عناصر للتفاعل الحضاري.

هذه المنظومة من النماذج التجريبية المشار إليها تنقسم بين جانبين:

الجانب الأول- ويتضمن نماذج للتجريب الناقد الفارق، حيث يتم إعمال ذلك وتشغيل التأصيل السالف على ثلاثة نماذج:

أولاً- تجربة عيانية: حلقة نقاش وورشة عمل حول التربية المدنية

ثانيًا- محاولة تجريبية لتحليل نصوص حول “التربية المدنية”(2).

الجانب الثاني- ويتضمن نماذج ثلاثة للتجارب البيانية والبنائية، والتي تتلمس السعي لتفعيل الرؤية المنهجية الواصلة من النقد والفرقان إلى البناء والبيان، هذه النماذج هي:

أولاً- المشروع الفكري للحكيم البشري والتربية على المواطنة.

ثانيًا- التربية الانتمائية والوعي بالهوية.

ثالثًا- التربية السفنية (الأسرة نموذجًا).

الجانب الأول-  التجريب النقدي والفرقاني

أولاً- تجربة عيانية: حلقة نقاش وورشة عمل حول التربية المدنية:

ليس أفضل من “حلقات النقاش” أو “ورشات العمل” تمثيلاً لحالة تجريبية مهمة تستحق التحليل والفحص والبحث والدراسة. وهي -بحكم التعريف- حلقات غالبًا ما تهدف إلى استكشاف موضوع بعينه، يتسم ببعض الجدة، أو موضوعات ذات طبيعة حساسة تحتاج إلى النقاش المحدود والخروج بنتائج أقرب ما تكون إلى الوضوح والتعيين.

هذا كان حال ورشة العمل التي عقدت مؤخرًا حول: التربية المدنية في التعليم: المفهوم والتطبيق”، والتي عقدت برعاية “الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية قسم التنمية الثقافية مكتب المناهج”، وذلك في يومي 11، 12 يوليو 2005م.

وقراءة في عنوان ورشة العمل والهدف منها، نجد إنه يتعلق بمفهوم ورد إلينا: “التربية المدنية”، ومجال أساس عندنا هو “التعليم”، ودراسة هذه الفكرة تتم على مستويين: “المفهوم” بما يرتبط به من عمليات تنظير و”التطبيق” بما يشير إلى عمليات التنفيذ والإجراء وآلياته وأساليبه.

بين دراسة المفهوم وعمليات التطبيق، والاقتران فيما بينهما، قد يحمل الأمر مصادرات لابد من الإشارة إليها في هذا المقام:

الأولى– أن عملية مناقشة المفهوم ستتم فحسب بغرض إيضاح معناه، والبحث في مبناه، والوعي بعناصره، وليس واردًا تعديله بشكل جوهري أو حتى رفضه ونقده بانتقادات تأسيسية؛ ومن باب أولى ليس واردًا استبعاد “نقضه”.

الثانية– أن التعرف على المفهوم إنما يعني المشروع في ترجمته على أرض الواقع و”تطبيقه”؛ ومن ثم فإنه يكاد يكون من المفروغ منه القيام بعملية التطبيق ومناقشة متطلباتها.

الثالثة- ان الربط بين المفهوم والتطبيق قد يشكل حالة ميكانيكية، أو كونها عملية إجرائية فنية تقوم على قاعدة من التبسيط والاختزال.

هذه بعض “المصادرات” التي اتضحت من مسارات النقاش حول قضايا تنظيرية ومفهومية معينة كانت مجال الحلقة الأولى من النقاش، والذي كان محل الحضور والنقاش من جانب كوكبة من المهتمين بالشأن التربوي عامة (من كليات التربية)، وعدد ليس بالهيِّن من أساتذة المركز القومي للبحوث التربوية والتنمية وباحثيه، فضلا عن بعض الحاضرين من تخصصات أخرى.

ويبدو أن فلسفة الورشة دارت حول أنه “على الرغم مما يبدو عليه مفهوم “التربية المدنية” من أنه شأن يخص الباحثين والمهتمين بقضايا التربية والتعليم،  إلا أنه من الواضح أن المفهوم ذو طبيعة “بينية“؛ بمعنى أنه يقف في منطقة تتقاطع فيها عدد من العلوم والأنساق النظرية؛ فمسألة “التربية المدنية” باتت تهم علماء السياسة وعلماء الاجتماع جنبًا إلى جنب مع علماء التربية والمتخصصين في مجال التعليم”.

هذا كان جمهور ورشة العمل والقائمين بعملية النقاش من اختصاصيين وخبراء وممارسين؛ فلا شك أن الحديث عن بينية المفهوم هو قول حقٍّ للاعتبار الذي تؤكده عموم عمليه التربية وتنوع جوانبها وارتباط هذه الجوانب بالاجتماع والسياسة، وكذلك عموم صفة “المدني” التي تشكل شفرة الحضارة الغربية والفكر الغربي والكود العولمي الذي يشكل مجال عولمة المجالات المختلفة، ونموذجًا معرفيًّا، وعلامة جودة.

بينية المفهوم تفترض استنفار الدارسين للتعامل مع هذا المفهوم الذي يشكل شبكة الأنساق المعرفية والثقافية والفكرية والقيمية والعقدية والمرجعية والسلوكية…

فماذا عن الهدف ؟

الهدف -كما هو مصاغ- هدف استباقي ينظر إلى قيمة هذا المفهوم “الإيجابية الأكيدة والمطلقة”، في إطار “.. مبادرة جديدة للتربية المدنية، تحاول تلمس المفهوم، وسبل تطبيقه في الواقع المدرسي، وكيفية تحقيق الاستدامة بالنسبة له في العملية التعليمية..”.

هذه المبادرة التي تتوافق مع عناصر “المصادرات” التي أشرنا إليها سابقًا لا يشفع لها التأكيد على هدف تحديد المفهوم تحديدًا علميًّا، فالتحديد العلمي لا يمكن لأن يتحقق إلا بممارسة في ظل أنساق نقدية لهذا المفهوم طبيعةً ومحتوى ووجهةً.

أما الهدف الثاني فإنه يكر على الهدف الأول بالإبطال ويجعل الدراسة للمفهوم لا تقع في الإطار الاكاديمي العلمي والتحديد المنهجي الواضح. الهدف الثاني مفاده إدارة النقاش حول سبل ترجمة المفهوم في الواقع التعليمي المصري، كأن التحديد النظري لا علاقة له بعملية التطبيق، وكأن الشروع في عملية التطبيق حتمية أكيدة وطريق لابد من أن نسلكه.

بين عنوان ورشة العمل والهدف منها ونوعية المشاركين، فيها تأتي الجهة الداعية والتي تشكل هيئة دينية (الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية)، وتعمل في مجال “مدني”:التربية المدنية في التعليم المفهوم والتطبيق، وتمارس نشاطًا ثقافيًّا (قسم التنمية الثقافية – مكتب المناهج)، وتمارس نشاطًا مؤثرًا في حقل الخدمات الاجتماعية،… ماذا عن هذه الممارسة ذات التنوع في سياق مؤسسة دينية ذات “مرجعية دينية”.. ؟ ما هو معنى “المدني” في هذا المقام؟ من المعنيّ بـ”المدني” إذن؟ هل المعنيّ بـ”المدني” فئة معينة دون غيرها، وبالتالي يتم استبعاد ممارسة دينية بعينها، الأمر يشير جملة من التساؤلات؟!

وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا المفهوم يقصد من ترويجه القيام بمهمة استبعادية أو ازاحية نـقع فيها في “الفخ المفهومي” في هذا المقام..؟ لا يزال التساؤل حول صفة “المدني” قائما: هل تعني هذه الصفة إزاحة “الديني” أو اقصائه من مجال الفاعليات الدنيوية؟!!(3).

وإذا كان النبي (عليه الصلاة والسلام) أكد على “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، فليس معنى ذلك – من حيث جهة الخطاب- أن يترجم “أنتم” إلى مدلول الحضارة الغربية وأنساقها المفاهيمية والغربية؛ ليصير المعنى: الغرب أعلم بأمور دنياكم. إن معنى “الخصوصية” الدالة عليه ألفاظ الحديث تحرك أصول التعامل الواعي الذي يجعل من “الدين” حركة فاعلية من أجل عمران الدنيا وإصلاح أحوالها،.. إنها القضية المحورية التي تجعل “التربية الدينية الإسلامية” في قفص اتهام: فهي لا تعترف بالآخر ولا تتسامح معه، بل تتعصب ضده أو تمارس العنف بكل أشكاله وتحرض عليه.

هكذا، ومن منظور علم اجتماع المعرفة نستطيع أن نستنبط عناصر مهمة تترك آثارها على تصور “التربية المدنية” مفهومًا وطبيعة وتطبيقًا.

مسار النقاش حول المفهوم لم يختط -إلا نادرًا- الطابع النقدي، وكأن الأمر أقرب إلى مثار التبني والاتباع، بل وصل إلى أدنى أنواع التعامل مع المفاهيم حين نزل إلى حدّ “الابتلاع”، وبدا هذا المسار يتخذ توجهات فرعية:

الأول مفهوم “التربية المدنية” وماصدُقاته (أعيانه في الواقع) آتٍ من الغرب؛ ومن ثم وجب علينا – ومن دون إشكال- أخذ المفهوم بمصادقاته، هذا هو توجه “الابتلاع” الذي لا يمارس أي فعل منهاجي سوى التبني الكامل ، وأفضل ما يقوم به الباحث (الترجمة) للحديث عن المفهوم.

الثاني يجب البحث في عناصر الملاءمة المنهجية للمفهوم من ناحية، واللياقة والمناسبة الواقعية من ناحية أخرى، إلا أن هذا التوجه يجعل من عملية التكييف هي مجرد عملية تأهيل الواقع للقابلية (البحث في ترجمة المفهوم في الواقع التعليمي المصري).

الثالث المفهوم وعناصر التقاطع والتمايز، وهو فحوى ورقة بحثية حول المفهوم، الواقع، الهدف. المفهوم غامض ملتبس ، مطاط متفلّت – بحسب أحد المناقشين- إلا أن ذلك لم يكن مدخلاً للنقد، بل الإيضاح وفك الالتباس والاشتباك فيما بينه وبين نظرائه: “التربية المدنية والتربية السياسية”، و”التربية المدنية والتربية القيمية الأخلاقية”، والتربية المدنية والتربية المواطنية”، و”التربية المدنية والتربية الوطنية والتربية المجتمعية…”. أما “المسكوت عنه” في هذا المقام فمتعلق بـ”التربية المدنية والتربية الدينية”.

إن الاهتمام بالمنظومة المفاهيمية الغربية يجب أن يتخطى كل ذلك، بالنقد والنقض إذا لزم الأمر. “التربية المدنية” – وفق عناصر رؤية علمية منهجية- ليس معطى مناهجيا، بل هو مفهوم يستوجب النقد وممارسة في التفكير النقدي، والخروج عن حد امتلاك الحقيقة المطلقة.

ثانيًامحاولة تجريبية في تحليل نصوص حول “التربية المدنية”: قراءة معرفية حول آليات المواقف في رصد المفهوم واشكالات التعامل معه:

يمكننا في هذا المقام أن نحلل النصوص المفتاحية لندوة مهمة (عقدت عام 2004) حول: “التربية المدنية في مصر: حاضرها ومستقبلها”. والنصوص المفتاحية نقصد بها كلمة المقدمة والمشروع التأسيسي للتربية المدنية والتي قامت عليها الدكتورة علا أبو زيد، والكلمات الافتتاحية لمدير مركز البحوث والدراسات السياسية، وكلمة افتتاحية أخرى لعميد كلية الاقتصاد، وأخيرًا المحاضرة الافتتاحية للأستاذ الدكتور على الدين هلال.

أول كلمة كانت “المقدمة: وهي تحمل عدة عناصر مهمة بصدد مفهوم “التربية المدنية”:

الأول- الصعود والاهتمام بالمفهوم على مستوى الحديث عن “التربية المدنية”.

الثاني- محورية المفهوم لتغيير أنماط التنشئة الاجتماعية بما يقود إلى نشر ثقافة الديموقراطية.

الثالث- التركيز على برامج “التربية المدنية” ودورها في تطبيق أساليب تربوية جديدة.

الرابع- السعي لبناء أجيال مبدعة قادرة على النقد.

الخامس- الاهتمام الواسع ببرامج “التربية المدنية” من مؤسسات متنوعة ما بين القطاع الرسمي والقطاع غير الرسمي وتزايد عدد منظمات المجتمع المدني المهتمة بذلك، واهتمام وزارات كالشباب والتربية والتعليم.

السادس- إشكالية المحتوى المتعلق ببرامج “التربية المدنية” التي تطرحها هذه الجهات ومدى الاتفاق وقدر التنوع في هذا المحتوى، وقدر الاتفاق أو الاختلاف حول مفهوم “التربية المدنية” ذاته، وأخيرًا قدر التنسيق والتعاون بين منظمات المجتمع المدني.

السابع- الدور الذي تقوم به الجماعة العلمية في بناء وتطوير برامج للتربية المدنية… وتفعيل هذا الدور ليساهم بفاعلية في عملية البناء الديمقراطي للمجتمع المصري.

الثامن- محاور الاهتمام بـ”التربية المدنية” (محور الرؤى)، (محور التجارب للمجتمع المدني)، (محور التجارب الحكومية).

التاسع- تصور المركز (مركز البحوث) لخطة مستقبلية يكون فيها المركز بؤرة لتفعيل إسهام الجماعة العلمية في بناء وتطوير برامج مصرية للتربية المدنية.

هذه الكلمة التي تشكل مقدمة الندوة (الاهتمام/الأهمية/ البرامج/ الهدف/مؤسسات العمل/ المحتوى/ التنسيق/دور الجماعة العلمية/ محاور وزوايا الاهتمام/ الخطة المستقبلية ودور المركز).

ويتضح من مسار هذه المداخلة:(4)

–  المعنى الإيجابي الذي يدور حوله مفهوم “التربية المدنية”.

–  ضرورة الحديث عن عمليات التفعيل في الاهتمام والبرامج والمؤسسات والجماعة العلمية.

– شيوع اللهجة الترويجية للمفهوم (الصعود – محورية “التربية المدنية” – تطبيق أساليب تربوية جديدة – بناء أجيال مبدعة قادرة على النقد – تفعيل الدور في عملية البناء الديمقراطي المصري…). إن مجرد ربط المفهوم بهذه الكلمات الإيجابية لجدير بأن يؤدي إلى عملية تمرير، دون الوقوف على المفهوم “طبيعة ومحتوى وغاية وأهدافًا”.

– ومن عموم هذه اللهجة الترويجية تتأتى الطبيعة الاحتكارية للمفهوم لكافة القيم الإيجابية بما يفرض ضرورة إشاعتها: إن من يقف بالتالي في وجه هذا المفهوم بالنقد أو بالتعقيب إنما يقف بوجه هذه العمليات والقيم الإيجابية.

– تهميش الاهتمام بالقضية المفاهيمية التي تتعلق بـ”التربية المدنية” والاهتمام بالعمليات البرامجية والإجرائية الفنية، وهو أمر قد يتعلق بحالة اختزالية من المهم الوقوف على مخاطرها في عمليات التفكير والتدبير، والتغيير والتسيير والتأثير.

هكذا يكشف الشكل التالي: عبارات مرجعية تشير إلى التعامل المفهومي من مداخل الترويج، والحديث عن الإبداع وبناء أجيال مبدعة ونحن لا نمارس الإبداع ولكن نقل المفهوم عن الغرب، ولا نمارس النقد وندعو لبناء أجيال قادرة على النقد، وجماعة علمية أقرب الى التبني منها إلى ممارسة كل أصول النقد المعرفي والعلمي، هذه الرسالة الاتصالية التي تقدمها هذه المقدمة تحاول رسم وصناعة صورة إيجابية للمفهوم والتعامل معه وترجمته إلى برامج واقعية.

تعذر تحميل باقي الأشكال

ثانيًا- الكلمة الافتتاحية لمدير المركز(5): وهي كلمة تستحق بهذا الاعتبار رسم خريطة الموضوع والقضايا التابعة ضمن “خريطة” القضايا و”خريطة ” المحاور، و”خريطة” المدخلات والمخرجات، و”خريطة” الإشكاليات والتساؤلات.

تشكل هذه الكلمة الافتتاحية:

إحساسا عميقا بضرورة التوقف النقدي حيال المفهوم، وحالة الغموض التي تعتريه مما يدفع إلى التوقف عند الكلمة ووضعها: “التربية المدنية”.

كمّ الأسئلة الذي يفوق أي عنصر من عناصر هذه المداخلة يؤشر على “استراتيجية السؤال” واستخدامها في التعامل المفهومي؛ ومنها التساؤلات حول البرامج والمؤسسات القائمة على هذا المشروع.

بينما سارت المداخلة السابقة (المقدمة) مسارًا ترويجيًّا، فإن هذه المداخلة الافتتاحية شكلت محاولة لوضع المفهوم ضمن سياقاته العامة، والتساؤل حول نقاط مفصلية ومحورية يجب توضيحها حتى يمكن التعامل معها ضمن مفاهيم الموقف، التي تشير – ومن طرف خفي- إلى حجم “المحجوب” حول هذا المفهوم، وضرورة التعرف عليه لاتخاذ موقف واع.

أن هذه المداخلة رغم ذلك أرادت أن تترجم ذلك الاهتمام بنوع من المقترحات لتفعيل هذا المفهوم، فإن واقع الأمر أن الإجابة السلبية حول هذه التساؤلات والإشكالات المطروحة يمكن أن تجعل من تصحيح محتوى المفهوم وإعادة بنائه عملاً تأسيسيًّا يقوم على قاعدة مكينة من الوعي والسعي، والتفعيل والتشغيل.

إن هذه المداخلة قد تدرجت من الأسئلة ذات الطبيعة الكلية إلى تلك البرامجية والمؤسسية، وانتهت بالأسئلة الجزئية التي تتعلق بالتمويل والإجراءات .. ونظن أن هذه التساؤلات تمثل في منظوماتها، مشروعًا مهمًّا للإجابة عن هذه التساؤلات، نرجو أن تشكل هذه الدراسة مدخلا متكاملا مع هذه الأطروحات والتساؤلات، نحو الإجابات المنهجية المنشودة.

أن هذه المداخلة حملت عبارات مرجعية مهمة تحيل وتشير الى إشكالية المفاهيم الحضارية وعلاقتها ببعضها البعض، وإلى بعض التصورات الإقصائية، والتنبيه عليها ولو من خلال التساؤلات، وهو أمر أسميناه “استراتيجية السؤال”، كما سبق القول.

هكذا يكشف الشكل التالي: عبارات مرجعية تشكل قدرا مهمـا من ضرورات التوقف النقدي حيال المفهوم نظريا وعلى أرض الواقع، استحضار هذا المنهج النقدي عملية لازمة في التعامل والتناول لهذه النوعية من المفاهيم.

ثالثا الكلمة الافتتاحية(6) الثانية: وتستحق هذه المداخلة أن تشكل مدخلا لتأسيس مفهوم “التربية المدنية” على الأرض ، ذلك في إطار اهتمام صاحبها بقضايا التحول الديموقراطي والثقافة السياسية والتنشئة السياسية… عناصر هذه المداخلة التي تتراوح بين الطابع العملياتي، والطابع المؤسسي.

وكما يكشف الشكل التالي، ضمن هذه الرؤية لمفهوم “التربية المدنية” يمكن التعامل مع هذه المداخلة وأهم الخصائص التي تتميز بها كالتالي:

  • أن هذه المداخلة معنية بالطابع المؤسسي الإجرائي في هذا المقام.
  • أنها لم تعن بقضية المفهوم، بل أنها كانت الأقل استخداما لكلمة “التربية المدنية”.
  • أنها أشارت – ومن طرف خفي- إلى الممارسات السلبية للمؤسسات الدينية على “التربية المدنية”، وخصت المساجد بهذه الممارسة، بينما اعتذرت بعدم العلم بالنسبة للمؤسسات الكنسية.
  • أن هذه المداخلة كذلك اهتمت بالطابع العملياتي للمفهوم وعملية بنائه على الأرض، واستخدمت من الكلمات الدالة على ذلك من مثل: (التربية الديموقراطية – الدور الإعلامي- التحول الديموقراطي – النشاط الطلابي).
  • ممارسة النقد للبيئة المحيطة، بينما لم تمارس  المداخلة نقدا للمفهوم على أي مستوى من مستوياته، أو رؤية المفهوم في سياق بيئته ومحيطه، وكأن الأمر يتعلق بالأساس بضرورة جاهزية البيئة المستعمِلة لهذا المفهوم الوافد بكل عناصر التأهيل والتمهيد والقابلية.
  • اشتملت المداخلة على مقطوعة من العبارات المرجعية كلها تدور حول عملية التحول الديموقراطي والتربية الديموقراطية والحضارة الديموقراطية والقيم الديموقراطية، والثقافة الديموقراطية… وهو ما يوضح مدى الإدراك لـ”حقيقة النموذج” التي تكمن خلف “التربية المدنية” والديموقراطية، وارتباط ذلك بجملة من المفاهيم الحضارية، مستبطنة في ذلك “المثل الأعلى الديموقراطي” في طبعته الغربية.

تعذر تحميل الأشكال

منظومة من العبارات المرجعية –يوضحها الشكل السابق-  تمكن لذلك النموذج، من دون البحث في أصول الملاءمة الحضارية (للنموذج) وفعالياته في الواقع المصري وخصوصياته، وحديث “الخصوصية” يجب ألا ينصرف عن الإشكالات والمشاكل الموجودة في الواقع السياسي المتعين، بل من الأهمية بمكان التعرف على عناصر خصوصية المدخل لتلك الاشكالات وحلولها ومدى ملاءمتها.

رابعا: المحاضرة الافتتاحية(7): في إطار قاعدة التبني للمفهوم ومحـاولة تشييعه كانت أركان هذه المداخلة. وفي هذا السياق جمعت هذه المداخلة منظومة من الحجج، تحاول من خلالها التعامل الإجرائي والعملياتي مع المفهوم. ومن أهم عناصر هذه المداخلة والحجج التي استندت إليها:

  1. أن التعليم المدني لا يرتبط فحسب بالدول حديثة الانتقال إلى الديمقراطية، ولكن هذا نشاط مستمر حتى في الدول التي بها تحول ديمقراطي مثل ألمانيا والولايات المتحدة.
  2. أن نشاط “التربية المدنية” لا يبدأ الآن من فراغ فهناك تراث كبير يعود على الأقل إلى عشر أو خمسة عشرة سنة في مصر والبلاد العربية (كتب منشورة وتدريبات عملية).
  3. موقع موضوع “التربية المدنية” من التطور السياسي والديموقراطي.

 

تعذر تحميل الأشكال

4.  الفكرة الجديدة تُتبنى ثم يفرغ مضمونها تارة باسم “الخصوصية”، وتارة أخرى تحت اسم “الدين”، وثالثة بحجة أن هناك “أوضاعًا خاصة”، وينتهي الأمر بالعودة إلى نقطة الصفر مرة أخرى.

هذه المداخلة تتسم بقدر كبير من التماسك(8)، وهي لا تترك الكثير لفهم المستمع أو القارئ، بل تؤدي له تلك الرؤية في شكل شبه متكامل، وأهم ما تتميز به:

  • ذلك الطابع الذي يصادر على الموقف النقدي من المفهوم، ويجعل تقبل المفهوم وصفته عملية من ضرورات التناول. كما تدرك المداخلة أن الإشكال قد يقع في هذا المقام في “الصفة” التي تشكل مدخلاً لغموض المفهوم ومراوغته؛ ومن هنا فإن أي تعامل مع المفهوم والوعي بمكوناته ومفرداته هو من قبيل المماحكة أمام الألفاظ .. وأنه في مسار هذه المداخلة وتوجهها أنها لا تنشغل بهذا الكلام أيًا كانت اليافطة .. وهي كذلك تؤكد المعنى الذي يشير إلى “المضمون”؛ بتخطي الحديث والمماحكة اللفظية حول المفهوم: فلنركز على المضمون، وهي أي تلك المداخلة – إذ تذكر طوفان غموض الترجمات- إلا أنها تعتبر ذلك جميعه من قبيل إنهاك لطاقة الجماعة الأكاديمية فيما لا يفيد.

وضمن هذا التصور المتجاوز لمناقشة المفهوم مناقشة نقدية، فإن التوصية هنا أن نتكلم في المضمون،.. إنها محاولة للتعامل النقلي مع المفهوم. وبعد ذلك يتحدثون عن العقل العربي أو الإسلامي بأنه عقل نقلي، وأن العقول المصرية عقولاً تلقينية اجترارية تكرارية، ويتحدثون عن التفكير التأملي والنقدي ثم يصادرون على ممارسته، ويملأون الدنيا بالحديث عن الإبداع فيصير الإبداع في النهاية نقلاً عن الغرب. إن المدرسة النقلية الغربية أو التغريبية في عالم المفاهيم هي أعتى وأشد خطرًا من تلك التي ينقدونها ويتحدثون فيها عن حضارة النقل، ولا يتورعون في كل هذا عن “نقل” ما أسموه “حضارة” ويسمون ذلك إبداعًا، فإن نقدناه سُمى ذلك مماحكة، وإن استدركنا عليه وأتـينا بأسانيد من المنهج والطرائق العلمية، ونقضنا المفهوم عروة عروة قالوا: إن هذا إنهاك لطاقة الجماعة الأكاديمية فيما لا يفيد. إنها تربية التلقي نفسها التي يتنقدون، وعقلية النقل والتلقين التي عليها يتندرون.

إن عملية الابتلاع المفاهيمي لا توشي بأي عمل منهجي أو فحص ودرس، وعالم المفاهيم التدقيق به واجب؛ لأنه عالم “النقد” في سوق العلم؛ به يحدث التبادل؛ ومن ثم وجب تمييز زيفه عن صحيحه، والصالح منه عن الفاسد.

  • دعوى الجانب الثقافي والمعنوي في التطور السياسي ووجهة الحديث عنه: وتملك هذه الدعوى حجية لا مراء فيها؛ من أن الجانب الثقافي يعتبر الشرط المسبق لإحداث أي تطور سياسي، إلا أن ذلك الشرط – ضمن هذه المداخلة – تحول من شرط فاعلية – يبحث في الجانب الثقافي الذي يمثل مشروعية المجتمع وشرعيته، وأصول مرجعيته ومسيرته- إلى تزكية تنضاف إلى المنهج النقلي. الجانب الثقافي الذي يتحدثون عنه ليس إلا شرط تهيئة وتوطنة وتأهيل للبيئة الثقافية لتقبل هذه المفاهيم، وإحسان وفادتها واستقبالها، وهذا لأن جزءًا من أزمة التطور في المجتمع (المصري) و(العربي) و(الإسلامي) -لاحظ الـمُخاطب- أننا نريد أن نأخذ الشكل دون أن نتبنى القيم والمفاهيم! مرة أخرى: إنه منهج التبني والنقل لا منهج التأني والنقد… وهذه الحجة تترافق مع حجج أخرى: نحن لا نطالب أحدًا بأن يقتبس ضد دينه و…” ولكن .. ليس في ديني ما يمنع التطور والتقدم، فما الذي يعوق التقدم إذن والأخذ عن الغرب والنقل عنه؟ “.. كثير من الأفكار السائدة باسم الدين هي معادية للتطور والتقدم…”!! إنها ترسانة من الحجج تمنع الناقد من نقده، والباحث عن الصحة والصلاحية من بحثه.. و”من أراد التقدم نقله – أي نقل التقدم”. ومن أسف أن أصحاب هذا التوجه هم أول من يعرِف أن الشروط الثقافية لا تكون بالنقل، وإنما هي قرينة العقل وملاءمة ولياقة المصدر، ومناسبة المرجع، وفاعليات ذلك وقابلياته في نفوس البشر.
  • أما الدعوى الثالثة فإن حجية التربية المدنية تتأتى من أنه موضوع عام: لسنا أول من يواجه هذا الموضوع“؛ فقد واجهته “جميع الدول في مراحل زمنية مختلفة”؛ ومن هنا فإن حجة مستصحبة في هذا المقام تستوجب التنبيه – في عرف هذه المداخلة-: “لا نريد أن نقع في منـزلق..”!!

ما هو هذا المنـزلق..؟

المنـزلق أن نفكر ونقدم رؤية مبتكرة أو إبداعية .. هكذا هو الإبداع، الإبداع في النقل! “إننا إزاء مشكلة لم يسبقنا إليها أحد..”، أو التفكير في مسار أن “العالم لم يتوصل إلى حلول لها”، أو أننا “.. مطالبون بابتكار أساليب جديدة ونظم جديدة للتعامل مع هذا الموضوع”. هذا هو الرأي لدى التوجه الذي لا يفتأ ينقد العقل العربي الإسلامي، فإذا ما جرؤ على الابتكار أو صَدَع بضرورة مراعاة “الخصوصية” فإن هذا ليس إلا مأزقًا!! إن هذه المداخلة تذكرنا بأن .. العجلة قد اخترعت وليس مطلوبًا  من أحد أن يعيد اكتشاف العجلة..“، فإن كان ذلك ليس اختراعًا للعجلة أو إعادة اكتشاف، فإن علينا -وفق هذه المداخلة- ألا نتصور أنفسنا نتوءًا تاريخيًا؛ أي لا يجب أن تصدع بخصوصية، الأمر غاية في البساطة، وإن شئت الدقة: التبسيط والاختزال، ..إن المشاكل التي تواجهنا تواجه في نفس الوقت عشرات من الدول أو واجهتها هذه الدول في مداخل مختلفة..

فإذن فما هو “المطلوب”؟

هذه المطلوبات تفتتح بفاتحة: إذا وفقنا الله سبحانه وتعالى.. إن أي مسير أو اختيار نكون غير موفقين إن لم يرد الله بنا خيرًا ، أن نرى كيف توصلت الدول الأخرى لحل هذه المشاكل...

والاطلاع على خبرات الدول مما يحسن في هذا المقام، ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك كمصدر للفكرة والعبرة والخبرة، إلا أن ذلك وفي سياق المنهج النقلي يتمثل في أن “نتعلم من خبرات من سبقونا أن لا نبدأ من نقطة الصفر.. ونأتي  بهذه الحلول ونبدأ في فحصها.. ونختار منها أفضل الحلول التي تنطبق على واقعنا..”، كلمات تذيل بها عملية الاختيار بين نماذج داخل حضارة الغرب.. ولا ندري هل تنطبق على واقعنا، أم تُطبق عليه؟!

  • أما أهم ما تميز به هذه المداخلة؛ إذ نتحدث عن محتوى “التربية المدنية” ضمن عملية احتكارية من الحضارة الغربية للقيم التأسيسية من (المواطنة، والمشاركة، والحرية)، وكأن الخبرات الحضارية الأخرى لا تعرف تراثًا في هذه الظواهر أو لا تملك رصيدًا منها… الغرب هو المعلم، والعالم مجرد تلامذة فاشلين يستحقون “التربية” والنهوض بهم وترقية أخلاقهم وقيمهم “المدنية”، هذا التصور الوصائى يناسب الحالة النقلية التي نحن فيها، وهي ليست إلا استمرارية لمقولات “عبء الرجل الأبيض”، و”الغرب والبقية” The West and The Rest و”في البدء كان الغرب”: (حضارة ونهوضًا) وفي المنتهى كان الغرب (نهاية التاريخ)(8).

إنها إشكالية الثقافة العربية والإسلامية والمرجعيات المستعارة ضمن تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة، هذا ما يحدده بعمق د. عبد الله إبراهيم، وهو يسند هذه النظرة إلى طه حسين:

“.. إذا كنا قد أخذنا في هذا العصر الحديث نسلك سبيل الأوروبيين لا في حياتنا العقلية وحدها، بل في حياتنا العملية على اختلاف فروعها أيضًا، فليس لنا بدُّ من أن نسلك سبيل الأوروبيين في هذه الحياة التي استعرناها.. ما أحسب أننا نكتفي من هذه الحياة بتقليد القردة، وإنما أعلم أننا نريد أن نتخذها حياة لنا عن فهم وبصيرة، وإذن فلنفهمها قبل كل شيء..”(9).

إن هذا النص وغيره يكشف كيف يعتبر الغرب أصلاً من أصوله؛ فهو يقصي أحداثًا جوهرية ويستبعد نتائج محققة.. وهو في الوقت نفسه يسكت عما هو أساس، ويتحدث عما هو هامشي، ويخلع على مسار التاريخ بُعدا لا يأخذ في الاعتبار محركاته ومحدداته وموجهاته.. وكل ذلك ليصوغ رسالة أخلاقية خالدة، كان الغرب وما زال ينهض بها.. إن الغرب ذو طابع كوني برسالته الأخلاقية منذ الإسكندر، فلمَ لا يكون الآن كذلك؟! إنه بحسب هذا التصور يمضي بمشروع الإسكندر، ليس في هذه المرة في الشرق، إنما في العالم بأجمعه، يحطم الكيانات السياسية ويهدم التشكيلات الاجتماعية، ويقوض الأنساق الثقافية؛ لأن وجود تلك الكيانات والتشكيلات والأنساق يحول دون حضور الفكر الغربي الخالد الذي يستمد شرعيته من اليونان. فالغرب ذو مشروع إنساني شامل من البداية. هذه باختصار شديد “رسالة الرجل الأبيض”. إنه رافع شعار الكونية، يستأثر بكل شيء.

إن قراءة طه حسين المشبعة بالتوجِّه الغربي المتمركز حول ذاته تسوِّغ نشر الفكر بقوة السلاح، وتجعل منه “أيديولوجيا” مرتبطة بغايات وأهداف معينة. فحسب هذا المنظور، لا يمكن لفلسفة هادفة إلى “توحيد العقل الإنساني”، وساعية إلى إيجاد “نوع إنساني متحد الغاية، متشابه الوسائل”، أن تنشر بـ”الدعوة” في ذلك المشرق الغارق في خموله وسكونه، فلابد -والحال هذه- من “إزالة الفروق السياسية والاجتماعية والاقتصادية”؛ أي القضاء على الكيانات والتشكيلات القائمة(10) .

هنا يظهر الإسكندر بوصفه بطلاً أدرك معنى الرسالة التي ينبغي عليه القيام بها،.. فإذا كان الأمر كذلك، فلا يعدُّ فاتحا، ينبغي استبعاد هذه الكلمة، فقد كان قائدًا فكريًا غايته دمج الأجناس في ظل ثقافة خالدة؛ وبهذه الكيفية تعمم الكونية نموذج الثقافة الغربية.

هكذا كما يرى – د. إبراهيم- وبعمق: “انتظمت كثير من جهود طه حسين الفكرية.. فمن إطار الموجه الثقافي الغربي الذي تدخل في ترتيب آرائه، لأنه امتثل لسياقاته العامة، دون أن يقف منه موقفًا نقديًا حواريًا. واقتباساته الكثيرة التي حاول أن يكيفها لتوافق موضوعاته.. وتدخل مبدأ “المقايسة” معيارًا في معالجة الظواهر الفكرية.. لأن “القراءة الخاصة” لموضوعات محددة، تنصاع لشروط”قراءة عامة” أنتجها سياق ثقافي مغاير.. ويصار إلى تقديم حلول جاهزة تطبق.. على موضوعاتها باعتبارها حلولاً ناجحة، بحيث يبدو ضمور الموضوع واضحًا، أمام حضور الحل البرّاق المحتفى به … والضرر يقع، حينما يتم اللجوء إلى تطبيق حلول جهّزها الآخرون لتوافق حالات خاصة، على حالات لا تحتوي على الشروط نفسها، وانجذابه إلى نموذج يراه قارًّا، إنما هو في حقيقة الأمر تجريد ذلك النموذج من سياقاته واعتباره نموذجًا كونيًا متفردًا، متجاوزًا فاعلية شروط الزمان والمكان.. كل ذلك قد يجد له من سند أو حجة إلا أن طه حسين لم يتمكن الوعي النقدي عنده من الالتفات إلى نقد المرجعية التي يصدر عنها، فالثقافة الغربية متعالية على النقد؛ وهذا يفضي إلى الأخذ بمقولاته وحلولها وتصوراتها.

ومع أن “إشكالية” الغرب بوصفه غربًا “كونيًا” يمثل المركز الفاعل في العالم، والمعيار السليم في الثقافة والسلوك وكل المظاهر السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية، لم تكن مثارة لدى طه حسين بصورة نقدية.. فإن أعمال من هذا الصنف تندرج في إطار التبشير .. بثقافة الغرب، وخاصة بُعدها الإنساني، دون التدقيق في ما سيؤدي إليه ذلك التبشير.. إنه يحاول في إيمان أن يدخل (الثقافة الأوروبية) في مجرى تفكيرنا.. وبما أن أهل تلك الحضارة أقوياء ومتقدمون، فالدعوة لها بُعد آخر، وهو الأخذ بتلك الحضارة والاندراج فيها، وتجريد الغرب من بعده الواقعي، والارتفاع به إلى مصافّ النموذج المجرد الذي يجب أن يقتدى به، والدفع باتجاه تقليده ومحاكاته.. هو نوع من “التغريب: الذي يقوم على اعتبار مد المؤثر الغربي إلى كل مجالات الحياة باعتباره مؤثرًا إنسانيًا خالدًا.. إن طه حسين .. وبصفته الريادية، كان من أوائل الذين دشنوا للإشكاليات الفكرية – المنهجية التي ستتعاظم مع مرور الزمن، وهي إخضاع الذات، بجوانبها المتعددة، ومظاهرها المختلفة، لمعيار غربي، والنظر إليها بمنظور “الآخر”، والبحث فيها تكونًا  وماهية من خلال رؤية غربية، وبوسائل غربية، فالتجديد والتحديث لا تقوم لهما قائمة، إلا باحتذاء الآخر رؤية ومنهجًا، والأخذ بالأسباب التي أخذ بها، دون التحسب للملابسات الناتجة عن ذلك، والتعارضات الناشئة بسبب الاختلافات النسبية في الشروط التاريخية بين الثقافة الغربية والثقافة العربية (والإسلامية)(11) .

لقد اضطررنا للحديث عن طه حسين بهذا الكلام المطول لأنه يشكل نموذجًا معرفيًا أنتج كثير من الباحثين والعلماء، وتتوارد الكلمات فإذا بها تتشابه أو تتقاطع، وتتوسـل المناهج فإذا بها تتوارد من نفس المورد، وتُستجدى الحجج فإذا بها تستند إلى ذات المصادر أو تكاد؛ فتشكل رؤيته رؤية مرجعية متكاملة ومستعارة، وفي هذا المقام تبدو الكلمات المرجعية لمداخلة المحاضرة الافتتاحية.

تعذر تحميل الأشكال

إن النظر إلى منظومة العبارات المرجعية تحيلنا ومن أقصر طريق أين تقع المرجعية؟!!

الجانب الثاني-

التجريب البياني والبنائي

النموذج الأول-  المشروع الفكري للحكيم البشري(12): المواطنة والجماعة الوطنية ووحدات الانتماء الفرعية: التربية على المواطنة عبر الوطن:

خبرات التراث الإنساني بين الخصوصية والعالمية عند البشري: إنها خبرات التراث الإنساني في صفحته الكلية العامة في تضميناته التاريخية، وتجلياته المعاصرة، بل ومحاولة إبداع نماذج ابتكارية تتوافق مع كيان الجماعة وحركتها وأطوارها وأهدافها المرحلية، وتنوع قدراتها وإمكاناتها.

فلقد عرفت مجتمعاتنا أنواعًا شديدة التعقيد من التنوع مع التداخل والتشابك؛ لأنه تنوع يقوم على تعدد معايير التصنيف الاجتماعي، فالوحدات السياسية كبيرة ممتدة، وتنشأ بداخلها الوحدات الاجتماعية بمعايير شتى، منها ما يقوم على التصنيف القرابى أو الأسرى كالقبائل والعشائر، ومنها ما يقوم على التصنيف الإقليمي كالقرية والناحية والحي؛ مما يفيد قدرًا من التميز دون إمكانية الانفصال، ومنها ما يقوم على التصنيف الحرفي والمهني وعلى التصنيف المذهبي أو الملي أو الطُرقي…إلخ.

ومن هنا فإن الإسلام استوعب خبرات القبيلة، فالقوى التي تمثل أصولاً قبلية وعرقية معينة كالقبائل العربية وحَّدها الإسلام، وصارت من الوحدات العاملة في المجتمع، صبت في صحته وعافيته وعملت على إفناء كل ما يؤدي إلى مرض المجتمع والفت في عضده وفي كيانه أو في قدراته وفعالياته. واستوعب كل أسلوب تنظيمي في البلاد المفتوحة طالما صب في عمران الكيان وترسيخ عناصر فعاليته، وبما يتناسب مع الأطوار الحضارية لكيان الجماعة الإسلامية.

وكل هذه الوحدات أو التنظيمات وما تمثله من خبرة تعتمد على تصنيفات متعددة…

وليس في هذه الوحدات ما يقوم به أساس للمواجهات بين بعضها البعض، ولا ما يقوم به كل منها مستقلاً بنفسه..وإن تزاوج هذه الوحدات الاجتماعية مع التكوينات الفكرية الدينية سواء الوحدات الملّية أو الطائفية أو الطريقة الصوفية كان يمنحها يسرًا في شعور ذويها بالانتماء لها. وإدراكًا للجانب المعنوي لنشاطهم وجماعتهم، أي نوع من القداسة يُصبغ به العمل العام والشأن الجماعي، ويُسوغ به فناء الفرد في الجماعة… ولا يعني ذلك أن تجارب كل مجتمع تنفي تجارب الآخر.

ولكل مجتمع في الظروف التاريخية التي تجد عليه وتستدعى تغييرًا أو تطويرًا لأنظمته، أن يعيد بناء نماذجه التنظيمية ويعيد تشكيل العلاقات بين بعضها البعض، ويمكن أن يضيف إليها وأن يطور نماذجها وأن يستفيد من النماذج التنظيمية الموجودة لدى الآخرين في المجتمعات الأخرى، وأن يجري تطعيمًا وتهجينًا لهذه النماذج مع غيرها من خارج تجربته التاريخية، ولكن كل ذلك لا يعني الهدم والإزالة لكل ما هو موجود، ولا النقل والإحلال لأصل النظم السياسية التي تفتقت عنها البيئة الخارجية ونماذجها وأجهزتها، فإن ذلك فيه من التدمير والتشويه ما لا يعوضه قيام الأبنية الجديدة على صورة ما حدث في خارج التجربة الاجتماعية.

لابد أن نستفيد من خبرات الآخرين والعاقل من اتعظ بغيره، والموعظة تأتي بالأخذ والترك لا بأحدهما فقط.. ووجه الدلالة أن النظم الغربية صممت فكرًا ومؤسسات وأجهزة في عصور أمنٍ تامًّ من أي خطر خارجي، وقد صار إعمالها في المجتمعات العربية الإسلامية في عهد المخاطر، وفي عصر السيطرة الأجنبية على هذه المجتمعات. فصار ما صمم للترتيب الداخلي لبيت آمن مطلوبًا إعماله هو ذاته في ظروف تجييش اجتماعي يبلغ أقصى حدود الإدراك للخطر المهدد لأمن الجماعة. نظام ظهر واستتب في مجتمعات العمق الآمن في غرب أوروبا انتقل إلى مجتمعات مواجهة، بل أكثر من ذلك مجتمعات مغزوة أو مهددة بغزو وشيك؛ لذلك اختلفت الصورة واختلفت الوظائف واختلفت النسب والأحجام النسبية للأجهزة المختلفة التي يتركب منها التصميم في هيكله العام.

وهذا الازدواج الذي حدث بين المؤسسات القديمة والحديثة لم يكن من شأنه وحده أن يقلل من عافية الجماعة أو البيئة الاجتماعية أو الهياكل الفكرية، فلو أن الأمور جرت على سجيتها؛ كان الأرجح أن يتفاعل الطرفان ويتبادلان التغذية على المدى الزماني الأطول. ولكن الذي حدث أنه ما إن ظهر هذا الازدواج حتى بدأ يتسرب إلينا النفوذ الأوروبي في الكثير من المجالات والأنشطة، ووجد هذا النفوذ – فيما وفد علينا من مؤسسات غربية، ومن فكر وعقائد – بيئة خصبة، فسرعان ما احتُلت هذه الأبنية المؤسسية الحديثة وصُرفت عن هدفها الأصلي الخادم لحركة المقاومة الحديثة ضد مخاطر الغزو الغربي، ووُجهت وجهة التلقي والتابعية والتثبيت للنفوذ الغربي بعامة(13).

وقد كان الخطر الخارجي الحال ذو الوقائع الممتدة عبر سنى القرن التاسع عشر، هو ما به توقفت حركة الإصلاح الفكري والفقهي، لأن مجال التجديد في الفكر والفقه كان يجري مكافحة بالمؤسسات الحافظة، ولأن قيام الخطر الخارجي المهدد لأمن الجماعة كلها من شأنه أن ينحي المشاكل الداخلية ويبعدها عن بؤرة الاهتمام، ومن شأنه أن يلقي على سلطات الحكم والمؤسسات الحاكمة مهام الدفاع عن الجماعة وحماية الحوزة؛ مما يستدعي من الكافة المساندة والالتفاف، وإرجاء خلافات الداخل، وهذا ما حدث منذ أن اشتعلت المخاطر الخارجية في بدايات القرن التاسع عشر؛ إذ ذوت معها حركة الإصلاح الفكري على مدى النصف أو الثلثين من بداية ذلك القرن.

وهو ذاته الخطر الخارجي، الذي استدعى أسلوبًا عاجلاً سريعًا عمليّا للإصلاح، اعتمد على بناء مؤسسات جديدة موازية للقديم بدلاً من أن تتطور هي من داخلها، ودون أن يصاحب هذا الإصلاح حركة فكرية، أو حركة إحياء للقديم تواكبها، وتنتقل بالمجتمع كله من حال قديم إلى حال جديد ناهض؛ تنسجم هياكله وأبنيته وتتكامل في أداء وظيفي واحد. وهو ذاته الخطر الخارجي الذي احتل بنفوذه سائر المؤسسات المستحدثة وغيَّر من وظائفها ليجعلها باسم الحداثة قواعد تثبيت التبعية له في المجتمعات المغزوة(14).

لذلك كان من نتائج هذه الفترة حدوث نوع من الانفصام بين حركة الإصلاح المؤسسي وحركة الإصلاح الفكري، ونوع من الازدواج بين الأبنية التقليدية نظمًا وفكرًا، وبين الأبنية الحديثة نظمًا وفكرًا، فصار القديم أبتر مقطوعًا؛ لم يفض إلى جديد من نوعه أو من مادته ومائه، وصار الجديد أجنبيّا لقيطًا، وفد من نسق عقيدي آخر ومن أوضاع اجتماعية وتاريخية مختلفة، وما إن حل القرن العشرين حتى كانت البيئة الاجتماعية والفكرية قد انصدعت بين قرن أبتر وقرن لقيط أعقبه. وهذا ما ورثناه حتى اليوم فيما تواجهه مجتمعاتنا في نظمها السياسية والاجتماعية من مجتمع مصدوع عليها أن تلأم صدعه، وأن تجدد قديمه وتؤصل حديثه.

خامسا ـ دوائر الانتماء ووحدات التحليل(15):

يحسن في هذا المقام أن نشير إلى أن البشري- الحكيم، جعل من المنهج معنى متسعًا يستغرق كل المعاني التي يؤديها الجذر اللغوي “نهج”، ومن أهم تعلقات ذلك أن يكون المنهج هو الطريق الموصل، ومن ثَمّ كان ارتباطه بالواقع والقصد معًا.

المنهج بهذا المعنى ليس مجرد عمل نظري أو تنظيري، ولكن المنهج تعبير عن رؤية كلية ووسائط بحثية وأدوات وأساليب، وهي في كل الأحوال توضح الطريق وكيفية سلوكه وبلوغ الغاية والهدف. ومن هنا كان من أهم معاني المنهج لدى المستشار البشري أن المنهج للواقع، ومن هنا كان حديثه عن وحدات الانتماء مدخلاً للحديث عن وحدات التحليل المنهجي في معظم دراساته وفي جل بحوثه.

فهو إن جعل من الأمة وحدة تحليله التأسيسية، ومن الجماعة الوطنية وحدة تحليله الواقعية، فإنما أراد أن يبحث عن معنى الأمة في الجماعة الوطنية، وهو عمل لا يفقد الأمة كوحدة تحليل مرجعية ولكنه في ذات الوقت لا يفقد الواقع، ولا يتركه نهبًا لوحدات تحليل تضر بالظاهرة وإمكانات فهمها والتعامل معها وتقويمها.

وهو من أجل هذا يذكر أن علم السياسة وعلم الاجتماع لا يكتفي أحدهما بالنظر الذي يركز على وحدة الانتماء العامة أو وحدة الانتماء الاساسية التي تقوم عليها الدولة، ويتعلق بها نظام الحكم أو السلطات الثلاث، لا يكتفي بذلك لفهم أوضاع نظم الحكم وطبيعتها، وهو ينفتح على العديد من الهيئات والجماعات والتكوينات، ولا يرى المواطنين محض أفراد تجمعهم الأحزاب ومؤسسات الدولة فقط.

ذلك أن علوم السياسة والمجتمع لا تكتفي برسم الأطر وتحديد القنوات، إنما يتسع نظرها وبحثها ويصل إلى الجماعات الفرعية التي يتجمع فيها الأفراد، وكذلك إلى المؤسسات والأبنية التي تقوم على هذه الجماعات. إن أول الخطوات في طريق الخطأ تتمثل في نظرنا إلى المواطنين كأفراد، وفي عدم إدراكنا ما يجمعهم من الجماعات الفرعية ووحدات الانتماء الفرعية المتداخلة في المجتمع، وما تشخص به هذه الجماعات والوحدات من هيئات ومؤسسات.

إن المجتمع يتكون من وحدات انتماء لا حصر لها، وهي تتنوع من حيث معيار التصنيف: فيكون أساسها الدين أو المذهب أو الطريقة الصوفية أو الملة أو المشرب الثقافي أو الطائفية، أو يكون أساسها اللغة أو اللهجة، أو يكون أساسها نوع التعليم أو المهنة أو الحرفة، أو يكون أساسها وحدة العمل الوظيفي لجيش أو جامعة أو شركة كبرى أو وسط عمل معين، أو يكون أساسها الإقليم أو الحي أو القرية أو الحارة، أو يكون أساسها القبيلة أو العشيرة أو الأسرة، أو غير ذلك مما لا يقع تحت حصر من حيث العدد أو من حيث النوع أو من حيث معيار التصنيف. وبسبب تنوع معيار التصنيف فهي تعتبر وحدات انتماء جامعة ولكنها ليست بالضرورة وحدات مانعة، والفرد الذي ينتمي لإحداها قد يمتنع عليه الانتماء لغيرها من جنسها وبذات معيار التصنيف، ولكن لا يمتنع عليه الانتماء لغيرها وفقًا لمعيار آخر للتصنيف، فالمنتمي لأهل السُّنة يمتنع عليه الانتماء للشيعة لوحدة معيار التصنيف الفارق بين الوحدتين، ولكن لا يمتنع عليه الانتماء لأهل الطريق أو لقبيلة أو لإقليم أو غير ذلك لاختلاف معيار التصنيف، ومن هنا فالوحدات متداخلة ومتشابكة ودوائرها تشكل حلقات ليست منفصلة، وبسبب تعدد هذه الوحدات وتنوع معايير التصنيف لها فهي لا تقف على قدم المساواة في علاقاتها بعضها البعض، ولا تختلف اختلاف تعدد وتنوع فقط، إنما أيضًا اختلاف عموم وخصوص، أو اختلاف أجناس وأنواع من كل جنس منها، أو اختلاف أصل وفروع، وهكذا نرى بين وحدة الدين وحدة المذاهب الدينية، ووحدة السُّنة ووحدة مذاهبها، ووحدة الصوفية وأنواع الطرق، وهكذا نرى بين الوحدات الصلات الإقليمية أو الصلات المهنية أو روابط الدم وغير ذلك.

من هذه الوحدات تظهر في كل مرحلة تاريخية وحدة الانتماء العامة التي تعتبر الحلقة الكبرى والأساسية التي يتشكل المجتمع وفقًا لها، والتي تعتبر الحلقة الحاكمة لغيرها أو الوحدة الحاكمة لغيرها، وما بعدها يمكن الإشارة إليه بحسبانه وحدات الانتماء الفرعية. وتتبلور وحدة الانتماء العامة وفقًا لعاملين أساسيين:

الأوضاع التاريخية والأوضاع الاجتماعية التي ترشحها لأن تقوم بالوظيفة الأساسية، وأن تستجيب للتحديات الأساسية التي تواجه الجماعة بوحداتها كافة في مرحلة تاريخية معينة.

ومن الجلي أن وحدة الانتماء العامة يكون لها قدر من الثبات النسبي، ولكنها تقبل التأثر والتأثير من داخلها بواسطة الوحدات النوعية، ومن خارجها بواسطة الأوضاع العامة المحيطة. ومن الجلى أن كل مجتمع حي يتضمن صيغة ما من صيغ الوحدة مع التعدد، أي وحدة الانتماء العامة التي يكون لها الغلبة في المجتمع وفي وعي الناس في هذا المجتمع، وتستجيب لما يلاقي من تحديات، وتحقق الحد الأقصى من الصوالح، وترعى القاسم المشترك الأعظم منها بالنسبة للجماعات المختلفة في المجتمع. أما وحدات الانتماء الفرعية فهي تتعدد بتعدد الجماعات وبتعدد معايير التصنيف القائمة في المجتمع؛ وهي بالضرورة متداخلة ومتشابكة، وهي تلتف حول الوحدة العامة بقدر إدراكها أن هذه الوحدة العامة تكفل لها الحد الأدنى من تحقيق الوجود ومن البقاء ومن المصالح المرجوة. وبكفالة هذا الحد الأدنى تقوم علاقات الدعم المتبادلة والتغذية المتبادلة بين العام والفرعي، فإذا لم ينكفل هذا الحد الأدنى قام نوع من الصراع ينحسم بالغلبة لصالح الوحدة العامة من أي من الوحدات الفرعية أو لصالح الوحدات الفرعية إذا تكاثرت واتحدت ضد ما يعتبر وحدة عامة في مرحلة معينة..

وأتصور أن حجم التحدي الذي يواجهه المجتمع ونوع هذا التحدي، إنما يؤثر في وجود الانتماء وفي غلبة وحدات الانتماء بعضها على بعض في فترات تاريخية معينة، يحدث ذلك بالسلب أو بالإيجاب. وقد حدث في مثل بلادنا أن تناثرت أشلاء بسبب اقتسام القوى الغربية لها واحتلالها إياها وسقوط الخلافة كمشخص لوحدة الانتماء العامة بينها جميعًا.

وفي مثل هذه الأوضاع فإن القطر المجتزأ يُنشئ من داخله ويهيء من أشلائه التشكيلات التي يستطيع بها أن يسيطر على وضعه، إنه عضو حي، وحياته تكسبه هذه القدرة على التهيؤ والتشكيل، ومن ثم تنشأ له ذاتية خاصة على التعامل بمحيطه المضروب عليه كوحدة سياسية اجتماعية وكوحدة انتماء عام.

وهذه الوحدة المتخلقة تنشىء لذاتها الأهداف والرؤى والتصورات التي تستطيع أن تواجه أوضاع الحياة السياسية والاجتماعية.

وهي فيما تصنع تعيد ترتيب وحدات الانتماء الأخرى على أساس أن تلحق هذه الوحدات بها كوحدة حاكمة، وهذا ما جرى في مصر مثلاً منذ 1919 عندما علت الجامعة المصرية على غيرها وألحقت بها غيرها.

ومن جهة أخرى فإن الخطر  الخارجي تحشد له قوى المواجهة وتنشط معه وحدات الانتماء القادرة على مواجهته بحجم الشمول والعموم المطلوب، وفي الأزمات الداخلية مثلاً تحشد القوى القادرة على التصدي لهذه الأزمات بما هو خليق بمعالجة المخاطر الحادثة، وفي هذا الحشد تبدو بعض الوحدات بوصفها الخليقة بقيادة غيرها في ظروف الأزمات الراهنة لما تتصف به من عموم وشمول يتناسب حجمه مع خطورة المواجهة القائمة، كما اتحد المسلمون ضد الصليبيين، أو ما تتصف به هذه الوحدة نوعيًّا من مواصفات تكفل لها مكانة خاصة في مواجهة نوع الخطر الحاصل كهيمنة المؤسسة العسكرية على أوضاع المجتمع في ظروف مخاطر الحرب؛ مثلما حدث في بلادنا بعد ظهور الخطر الصهيوني وإنشاء دولة إسرائيل.

وكما يشير البشري فإنه يحاول توضيح الأهمية الاجتماعية والحضارية القصوى لوجود هذه الوحدات جميعًا، لأن وجود الوحدات الفرعية يغذي الوحدات العامة ويتغذى منها.

ونحن نخطئ إن تصورنا أن وجودها يشكل انتقاصًا من الوحدات الأعم، إن الإنسان مدني بطبعه، ولا يوجد فرد بغير جماعة. وإن وجوده بغير جماعة هو أقرب إلى التصورات الصورية الافتراضية.. إن الفرد دائمًا هو داخل في وحدة أو أكثر من هذه الوحدات الجمعية، والنظام يكتسب حيويته من قيام هذه الوحدات ونشاطها وتفاعلها.

إن حيوية المجتمع وقدرته على تنويع حركته وعلى تغيير أوضاعه مع الظروف المتغيرة  وقدرته على تكوين استجاباته وفقًا لوجوه المواجهة وألوانها التي تفرض عليه، كل ذلك يتوقف على مدى فاعلية وحدات الانتماء التي تربط أفراده في كل هذه الأنواع والأجناس من الجماعات المتداخلة التي تبني للمجتمع عروته الوثقي، لو كانت المصرية ضعيفه لما استطاعت أن تقاوم الإنجليزية عندما انكسر الوعاء الإسلامي الأشمل، أي لما استطاعت أن تشكل وعاءً أخص يكون قادرًا على الحياة والمواجهة. ولوكانت الإسلامية والعروبة غائبتين لما استطعنا أن نستمد ما نستهدفه الآن من مواجهات عالمية كبرى تثبت تجربتنا أننانقدم مثالاًباقيًا من أمثلة الصمود والمقاومة على مدى عشرات السنين من التاريخ المعاصر، وأن ليونة التحول من وضع مواجهة إلى وضع آخر تتوقف على مدى حيوية هذه الوحدات وفاعليتها، وكل ما هو مطلوب ألا نضعف أيًّا من هذه الوحدات لحساب الوحدات الأخرى ولكن أن نضعها كلها ونعيد ترتيبها؛ بما يجعلها يقوي بعضها البعض، ويغذي بعضها البعض، ويدعم بعضها البعض.

الجماعات الفرعية هي مولدات الحركة للجماعة كلها في صورها الشاملة، ونحن نخطئ أيما خطأ – ولقد أخطأنا- عندما نظرنا إلى وحدات الانتماء العامة بوصفها نوعًا من أنواع أجولة الحبوب تحمل حبات منفصلا كل منها عن الأخرى، وتضم وحدات متماثلة على غير تنوع ولا تدرج ولا تفاعل بين بعضها البعض.

إن القومية لا تضم أفرادًا، وإن الوحدة الإسلامية لا تضم أفرادًا، وإن المصرية أو العراقية أو المغربية لا تضم أيضًا أفرادًا، إنما تضم جماعات تمثل وحدات انتماء تقدر كل منها على الانبعاث الذاتي وتدفق الحركة من داخلها وبالمولدات الذاتية الخاصة بها.

ونحن نخطئ.. عندما ننظر إلى مجتمعاتنا بذات الرؤية والتصور الذي ساد لدينا عن مجتمعات الغرب عمومًا(16) .

وفي إطار هذا الفقه من أستاذنا البشري لدوائر الانتماء كوحدات تحليل دراسية ضمن سياق ظواهرنا المختلفة التي نعيشها أكد على نقطتين:

الأولى: أن الكثير من مؤسسات وحدات الانتماء الفرعي قد دمرت، إما لأن الهيمنة الغربية اقتضت تدميرها، أو لأننا نحن ضربنا فيها معاول الهدم لأننا نظرنا إليها من منظور التقلد للغرب، ومن منظور ما فهمناه عن المجتمع الغربي، فرأينا في مؤسسات وحدات انتمائنا الفرعية لا كوتها موضوعًا للإصلاح والتجديد ولكنها عقبات في وجه الإصلاح والتجديد، فهدمنا “تجديدًا” ودمرنا “إصلاحًا”.

والثانية: أننا نظرنا في النظام الغربي وفي صياغاته الفلسفية التي تبدأ بالفرد ثم تقفز إلى التصور الكلي العام، حيث جرى في الغرب إعلاء القيمة الفردية لتحرير الفرد من بعض المؤسسات الضاغطة والمانعة من انتقاله إلى مؤسسات جمعية أخرى تولدت في المجتمع نفسه، إطلاق حريته في الاقتراب من وحدات الانتماء التي ولدت من رحم المجتمع نفسه في المدن والمصانع والجمعيات والنقابات. فكان التركيز على الفردية لا لكي يتناثر الناس أفرادًا ولكن لكي تنفتح أمامهم مسالك الانجذاب والانضمام إلى ما يرون من وحدات أخرى.

أما نحن فقد تصورنا المجتمع من خلال علاقة الفرد المنفرد بالجماعة القومية وبالدولة وبالحزب، هكذا مباشرة، دون اهتمام بالحلقات الوسيطة والوحدات المتداخلة المتشابكة في شتى المجالات.

ومتى صار الشعب أفرادًا فقد صار الحاكم فردا لزوال التكوينات الضاغطة، ولأنه لا توجد وقتها إلا وحدة الانتماء الأعم التي تشخص فيه بذاته منفردًا عما(17) عداه.

التربية على المواطنة عبر تحديد هذا المفهوم كان هَمّ الحكيم البشري واهتمامه(18)، وهو مشروع يمكن أن تنبني قواعده وسننه فيما لو أردنا أن نُفعِّل حركة أنساقنا التربوية. التربية على المواطنة لدى البشري ليست مواطنة التربية المدنية التي تسعى إلى تشكيل ما أسمي بـ”المواطن العالمي(19) “، في محاولة فك ارتباطه بوطنه، المواطنة – لدى البشري- لا تتم إلا عبر الوطن، وهي صد العوادي والاستبداد، ومقاومة لكل صنوف العدوان من الخارج.

النموذج الثاني- التربية الإنمائية والوعي بالهوية: تربية الهوية:

إن “نزيف الحوار حول الهوية” بدا لي من الصعب إيقافه أو توقفه، في حوار استمر طيلة قرن أو يزيد. واستقر أمري على أن أتعرض لدرسين من دروس الهوية والبحث فيه، وبرزت أمامي فكرتان: إحداهما تتعلق بوعي الهوية، والأخرى تتعلق بالتربية على الهوية. أما الوعي بالهوية فهو يشمل عناصر ثلاثة:

الأول– منها يتعلق بأسئلة الهوية الحقيقية لا الزائفة، وقال الحكماء: إن السؤال الصحيح نصف الإجابة أو الاستجابة. من نحن؟، ماذا نملك؟، ماذا نأخذ أو نرفض: (الميزان)؟ على أي أرض نقف؟

أسئلة بعضها من بعض تشكل الإجابة الواعية الفاعلة لها(20).

الثاني- ضرورة توفير العناصر الأساسية لما أسماه الحكيم البشري “التيار الأساس” القادر على الإمساك بوعي بالنواة الصلبة لقضية الهوية، وتحديد الأصول الحوارية في القضايا المصيرية والحضارية الكبرى(21) .

الثالث- ثقافة السفينة التي تقوم على قاعدة من الوطن المشترك والمصير المشترك والبحث في خروقات سفينة الهوية التي تكاثرت وتراكمت بما يؤدي إلى عاقبة الغرق والهلاك: إن أصغر خرق في سفينة الهوية لا يعني إلا أوسع قبر للجماعة بأسرها، فالأمر أمر جد لا هزل(22).

كل ذلك يوفر البيئة الأساسية الحافظة للهوية القاعدية، وهو مفضٍ لتأسيس عناصر  الوعي بالهوية (وعي بالذات، وعي بالغير والآخر، وعي بالموقف)، في تفاعل بين منظومة الوعي وشبكته التي تسهم في بناء المجتمع والحفاظ على شبكة نسيجه الاجتماعي والحضاري.

هذا الوعي بدوره يترجم الهوية إلى حركة فعل وفاعلية يحفظ القيمة الذاتية للهوية، من عناصر ووظيفة وأدوار، كما يستثمر القيمة المضافة للهوية المفضية إلى التفكير بوسائل ترسيخ الهوية والوعي بها وترجمتها إلى مفهوم تفاعلي وتبادلي، يحدد المصالح والمنافع المشتركة، من مفهوم “جامع” للهوية “غير مانع” لمساهمات أطراف هذا التيار الأساس في ظل ثقافة السفينة: (الوطن الواحد والمصير المشترك).

وهذا بدوره يجب أن يؤسس استراتيجية هوية واستراتيجية للخطاب حولها ومصادر الوعي بها (مرجعية وذاكرة واتصالاً وتواصلاً)، بل عروة وثقي لا تنفصم تشكل القدرة الاتصالية والتواصلية والتفاعلية، وشبكة العلاقات الاجتماعية (أصول النسيج الاجتماعي) والعمليات الحوارية، بنية أساسية لبناء هذه الاستراتيجية على مسار استراتيجية الهوية، ومسار تأسيس استراتيجية للخطاب في الهوية وحولها.

هذه الرؤية تملك حجة وحجية في آن واحد: حجة أصلية (بالوعي بمفهوم الهوية وتركبيه ومنظومته وشبكة علاقاته)، وحجة تاريخية (تحدد النماذج التاريخية الدالة على وحدة الأمن القومي العربي)، وحجة واقعية (ترتبط بحجم التحديات المشتركة)، وحجة مصلحية (تعبر عن القدرة على ترجمة البنية الفكرية إلى قواعد للنفع العام المشترك)، وحجة تفاعلية (تشير إلى أصل كل العمليات التفاعلية الدافعة والجامعة والرافعة والفاعلة) لقضية الهوية.

هذا الأمر الذي يتعلق بالوعي لابد أن تسنده عمليات تربية وتنشئة لا عمليات تعبئة من مثل ما نشاهده في كتب تُسمى التربية الوطنية، تسهم في تأزيم الهوية لا رسوخها.

التربية على الهوية وبها ولها؛ بحيث تحدد صبغة الهوية وصيغتها وقواعدها، وصياغتها تفعيلاً وتشغيلاً في الواقع وعلى الأرض. وهي عمليات تؤسس بالوعي وتبدأ به، وتنتهي بتمكين الهوية، ومرورًا باستثمار الإمكانات وفق تحويلها إلى قدرات ومكنات، والوعي بالعقبات والتحديات ووسائل التغلب عليها.

علينا أن نتعلم الدروس من حوارات الهوية لنرى كيف تطلق الشرارات الحوارية التي تحدث حرائق كبيرة لا تبقى ولا تذر، تطلق باستهانة، ويتحكم فيها ضعف النفوس وعدم قدرتها على وزن الأمور وتقديرها حق قدرها، ورؤية مآلاتها واستشراف آثارها المستقبلية(23).

فلنتعلم درس المكان وعبقريته من جمال حمدان حينما يتحدث عن فلسفة المكان والفرق بين الموضع والموقع، لنتعلم درس الزمان من الحكيم البشري حينما يؤكد على ميزان الزمان وقيمته بمقدار ما يملأه البشر بفعلهم وفاعلياتهم، ولنتعلم درس اللغة وأهميتها في صياغة الوعي بالهوية من ربيع، ولنتعلم درس الرسالة والدور من مؤنس،… هذه كتب التربية الوطنية التي نريدها لا ترويجًا لسلطة أو نظام أو زعيم.

سيقول الناس: أنت حالم، فأقول: إن من حقي أن أحلم  وأن أفعل … أعرف أن بعض الناس ممن سيقرأون هذا أو يسمعونه، سيقولون: دعه يحلم دعه يمر، ولكني في كل مرة عليّ أن أحلم الحلم الصحيح.

قد نرى كل دولة هويتها التاريخية المتراكمة ليست إلا فترات منغلقة يختارها صاحب الهَوَى لا الهوية، وهو أمر خطير أن تُحدث كل دولة لها تاريخًا خاصًا يميزها، وتصنع ذلك التاريخ حتى تحرك عناصر الحدود المصطنعة فتجعلها على الأرض: في المكان وفي التاريخ في الزمان. خصخصة التاريخ أو الشعوبية التاريخية حالة تناقضية واستبعادية تصل – مع ذلك التنافي الحاد- إلى حد مطالبة نفر بالقطيعة الإبستمولوجية والمعرفية مع التاريخ والنظر إلى مركزية تاريخ الآخر الغربي بدعوى كونيته.

إن “الخطاب المطفِّف” الذي  يبدو في بعض الكتابات الغربية والاستشراقية ومَن لفَّ لفَّهم من المتغربين الذين يجعلون من هوية الآخر هوية لهم، هو خطاب يحفز عناصر هوية جامعة داخل الحضارة الغربية بينما يهدف إلى تصدير الوهم لنا من “أوهام الهوية” أو مقام الأسطورة فيها، ويخرب كل عناصر معنى هوية جامعية ودافعية داخل بلاد العرب والمسلمين، إنما يهدف إلى “اختفاء كل قواعد فاعلية الهوية” إلى حالة من هلامية التفكير والتدبير والتغيير، ضمن قابليات لا تعرف إلا معاني القبلية الفكرية والحروب الأهلية الثقافية الطائفية.

تفتيت الهوية وتهويم عناصرها وطمس جوهرها هو في الحقيقة محاولة لقطع الطريق على عملية ممانعة ضرورية ومقاومة مشروعة. إن الهوية ليست قناعات ترتدى ضمن حفلات تنكرية.

وقد وصل الأمر إلى حروب معلنة وغير معلنة لم تحمل إلا شعارًا فجًا وخطيرًا: “القتل على الهويـة”. رغم حديثنا ليل نهار عن عالم لم يعد إلا قرية كونية، دلالةً على عمق الاتصال وكثافته، وأننا جيران في عالم مشترك، هذه الأقنعة التي تشكل زيفًا وربما تزييفًا حضاريًا لا يجد قابلياته إلا في “الهوية المتقاعسة” عن كل عناصر الدافعية والفاعلية والتجدد، وحفز هذه العناصر في ترسيخ عناصر الهوية الجامعة.

فإذا كانت الحروب السابقة أبرزت حوارًا حول الهوية بما أفرزته من أزمات متتالية حركت معاني الاقتتال على الهوية، فإن حربًا حضارية شاملة تلوح في الأفق للقتل على الهوية.

بين سندان الاقتتال على الهوية ومطرقة القتل على الهوية، يبدو الأمر جدًّا وما هو بالهزل، وهو ما جعل الحكيم البشري يكتب: “العرب في مواجهة العدوان”.

تعذر تحميل الأشكال

بين أنواع من القطعية: تارة مع التاريخ، وتارة مع التراث، وتارة مع

أنفسنا، وبين خطاب مطفف يهوم الهوية ويوهمها (أي يجعلها وهمية)، وبين حروب الاقتتال على الهوية في الداخل، إما أن نكون على حافة الوعي بالهوية أو على حافة الهاوية(24).

النموذج الثالث- التربية السفنية: تأسيس شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية والنسيج الاجتماعي والجماعي (الأسرة والتربية السفنية نموذجًا):

إن تحريك الدراسات الفقهية إلى النطـاق التربوي وتحريك الأصـول التربوية إلى المجال الفقهي، عملية إذا ما أُحسن تطبيقها وتفعيلها وتشغيلها لَحَرَّيةُُ أن تُحدِث أنماطًا من البحوث والتفكير يمكن أن تشكل رؤية متجددة لقضايا قديمة لم يعد يحسُن فيها الاجترار، ولم يعد يفيد فيها الإقصاء أو الاستبعاد(25) .

 

ثقافة الخرق والتربية عليه: الخروقات في الكيان الأسري المؤثرة على أنماط حفظه (حفظ الابتداء- حفظ البناء- حفظ البقاء – حفظ النماء والارتقاء – حفظ التسيير والأداء – حفظ الابتلاء – حفظ الانتهاء ..)

(خروق التفكك وخروق التفكيك)، (خروق الأباء – خروق الأم، خروق الأبناء)، (خروق الأساسات، خروق العلاقات، خروق الوظائف والأدوار، خروق المقاصد والغايات الأسرية) (خروق العمليات: العمليات الاتصالية والتفاعلية – الحالة الحوارية والشورية، مقتضيات العيش المشترك، أصول العمليات التعارفية، حقائق المشاركة والاستلهام)، فقدان الفاعلية الأسرية (خروق أنساق القيم والتفكير والتدبير والتسيير والتغيير ..)

ثقافة النجاة والتربية عليها: الأخذ باليد وعلى اليد، آليات التنبه والرقابة في الحياة الأسرية، معادلات التماسك الأسري، معادلة الأدوار الأسرية (التكافل والتكامل)، معادلة الفاعلية الأسرية، معادلة العاقبة الأسرية، السفينة الأسرية: هوية وإرادة وإدارة ومصلحة ومصير مشترك، القيادة الأسرية: القدوة والرعاية وانتشار السلطة.

 

 

كيف يمكن للأسرة أن تترجم هذه المعاني دورًا ومقصدًا في عمليات التنشئة السياسية؟.

أولاً التربية على الاختلاف كمدخل للائتلاف، واختلاف التنوع المفضي إلى الوحدة والتماسك والتكامل، وخطورة اختلاف التضاد والتنازع على الكيان وجودًا وبقاء واستمرارًا، معادلة التماسك الأسري  تحرك معادلة التماسك في أي اجتماع.

* الاختـلاف[ الائتــلاف

التكامل  [  التكافل  [  التكافؤ  [ العيش المشترك     المصالح والمنافع المتبادلة والمشتركة والعامة [ التماسك (مفهوم وتأسيس وبنية وآليات ومقاصد).

ثانيًا التربية على التفاعل الاتصالي والحواري والشوري:

* الاتصال [ التواصل       الصلة والصلات (شبكة العلاقات والنسيج الاجتماعي) [ الواصلة (الوسائل والأساليب)  [ التوصل (القنوات وانسيابية الاتصال)

ثالثًا– التشارك [ العيش المشترك مقتضياته ومتطلباته وضروراته [  المشاركة       صناعة القرار [ الفروض التضامنية والتكافلية (فروض الكفاية فروض الأمة) [ الفاعلية في المجتمع وعملية عمرانه وإنمائه وترقيته.

رابعًا– التربية والتدريب القيادي       القيادة قدوة [ القوامة مسئولية      حديث الدرجات (القيادة تكليف لا تشريف) [ تمايز الوظائف     اختلاف الأهلية والملكات         تقسيم العمل [ تكامل الأدوار     حالة انتشار السلطة (الرعاية)       حالة الرعاية المتكاملة والسلطة مسئولية  [ (ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته).

ليس عجيبًا أن نرى الحديث يشير في أمثلة الرعاية إلى عناصر ثلاث (الرجل، المرأة، الخادم) لهم علاقة بالتكوين الأسري وعملية توزيع الأدوار وتكافلها، شبكة السلطة وانتشارها والارتباط الذي لا ينفصم بين السلطة والمسئولية (الرعاية) (رعاية ممتدة ومسئوليات محددة متكاملة ومتكافلة).

خامسًا– التربية على ثقافة النجاة وخطورة ثقافة الخرق، وهي مسائل لا تشير إلى مبادرة المشاركة في المجتمع أو التكوين الاجتماعي، ولكن نوعية المشاركة هي الأساس في فاعلية تلك المشاركة حينما تصب في عاقبة الكيان الاجتماعي والسياسي.

الوعي بالمشاركة [ التنبه وخطورة اللامبالاة [ الرقابة والمحاسبة

 

الأسرة ليست بعيدة عن كل ذلك حينما تربي أبناءها على المشاركة والفاعلية، والمشاركة لابد أن تكون واعية هادفة، والمشاركة حالة نشاط وعملية تدريب وتجريب، لابد للأسرة أن تنمي لدى أبنائها التنبه والمسئولية والمساءلة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

ضمن هذه المعادلات التي تشير إلى مفاصل عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية كفعل إيجابي وواعٍ ومقصود يؤسس على قاعدة من “التعلم، والتربية، والتدريب”.، فإن البحث في فاعلية التنشئة تجعل الأسرة لابد أن تتطرق إلى الجانب السلبي في عملية التربية، فإذا كانت المعادلات السابقة تعبر عن حال التحلية في التربية التي تشير إلى ترسيخ السلوك الإيجابي الفعال، فإن حال التخلية في التربية يشير إلى ضرورة تأسيس وعي قادر على التعرف ومواجهة كل ما يؤدي إلى:

* مضادات هذه المعادلات الإيجابية في عمليات التنشئة الأسرية، الاجتماعية منها والسياسية.

* ثقافة وتنشئة الفرقة والتنازع والفشل وعدم الفاعلية ضد ثقافة وتنشئة اختلاف التنوع المفضي إلى الائتلاف.

* ثقافة العزلة والانعزال والانكفاء والاستغناء، ثقافة وتنشئة الاستبداد والاستبعاد وعقلية القطيع والتقليد الأعمى، تنشئة الصوت الواحد (الفرد) ومقتضيات العيش المشترك،                ثقافة العنف، ثقافة وتنشئة الانفصال وتقطيع الأواصر والإضرار بشبكة العلاقات الاجتماعية وتمزيق عناصر النسيج الاجتماعي وقوته وفاعليته.

* تنشئة المشاركة والفاعلية تقابلها تنشئة اللامبالاة والكسل، والانخراط في شئون وهموم المجتمع، خاصة فيما يحسن أو يتأهل له، تنشئة التواكل وفقدان حال “الإرادة والاعتماد على الذات”، والمبادرة على قاعدة من تحقيق النفع الاجتماعي والصالح العام، كل ذلك لابد مع ترسخ عناصر تنشئة تقوم على حال السلبية واللامبالاة، إنها لا تنتج إلا مجتمعًا خاملاً، إنه لا يَنْتُج عنها إلا القوم البور، أو عبدُُ كلُّ على مولاه أينما يوجه لا يأتي بخير.

* التربية على ثقافة “الرعاية” و”المسئولية” يقابلها عناصر لا يتصور فيها أي عنصر من عناصر سفينة الأسرة، أو الأسرة – الدولة، أن السلطة ليست إلا استطالة وسطوة، وطغيانًا وتجبرًا، واستبدادًا وتكبرًا، وتعسفًا في استخدام السلطة وتحيزًا.

إن فقدان معنى المسئولية يفرغ معنى الرعاية من شرطه وجوهره الكامن فيه، وهي تولد شخصية مستخفّة مستبدة، والاستبداد مفضٍ غالبًا إلى الفساد، ويحرك معاني التربح من أي ولاية أو سلطة أو غير ذلك؛ مما يشكل  أوسع أبواب الفساد، وتأسيس شبكته القائمة على الغش الاجتماعي والسياسي وكل عناصر التطفيف الاجتماعي والسياسي.

الرعاية والمسئولية ضد أي ثقافة أو تنشئة تتحرى التزوير؛ لأن ذلك إنما هو تدليس على الجماعة وأي تكوين اجتماعي، وهو يؤصل لبابٍ واسعٍ من أبواب الفساد وترسيخ قواعده.

إن عناصر أي سلطة ضمن منظور الرعاية لا ترى في القيادة إلا مدخلا للقدوة والمسئولية.

حول تمكين الأسرة: أسرة السفينة وسفينة الأسرة: حول معادلات التنشئة الاجتماعية والسياسية في الأسرة في ضوء المنظور السفني

كنا قد افتتحنا هذا البحث بالإشارة إلى الدواعي المفضية إلى دراسة موضوع الأسرة مجددًا، والمقترح الذي يؤشر على أهمية تطبيق مدخل السفينة في النظر والتحليل والتفسير.

وقد أشرنا إلى بعض المسائل التي تصب جميعًا في حال “تفكيك الأسرة”؛ سواء كان هذا التفكيك معرفيًا، أو عمليًا يؤدي إلى التفكك. وكان من المهم أن نشير منذ البداية أن عمليات التفكيك تلك؛ سواء للمفهوم أو التصورات، أو الأدوار والوظائف، أو الأشكال والمقاصد، ليست إلا مناطق إضعاف للأسرة ومحاولة إقصاء فعالياتها، إلا أن هذا الفعل لم يكن ليجد تأثيره إلا في ظل قابليات تفكك أسري في الداخل، مكنت لعمليات التفكيك تلك، والتفكك في الداخل شهد على نفس مستويات التفكيك خلالاً واضحًا.

إن أسرة السفينة وسفينة الأسرة لابد أن تعبر عن:

* معادلة التماسك الأسري المفضية إلى الجامعية والتكاملية والتكافلية.

* ومعادلة الأدوار والوظائف الأسرية إنما تنتج أدوارًا مهمة، تشير إلى عناصر تقسيم العمل، وتعبر عن معنى القوامة (القيادة)، دون إهمال معاني (الرعاية)، و(المسئولية)، و(القدوة).

والحراك داخل الأسرة يعبر عن نماذج رعاية متبادلة ومتكافلة ومتكاملة: (ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته).

* ومعادلة الفاعلية الأسرية لا تمنع -كما لا تحجب- فاعليات أي طرف في الأسرة ما كان ذلك يصب في فاعلية الكيان الأسري وقدراته وإمكاناته، وحفظه وترقيته وتنميته وعمرانه.

إن فحص الأسرة يشكل بيئة سوية وقوية لحفز الفاعليات والوصول بها إلى أقصى مدى، إلا أن فعالية أي طرف فيها ليس إلا تمكينًا لفعالياته وتمكينًا له، تمكينا يكون عبر الأسرة وليس على حسابها أو تهميش فعاليتها، إن تراكم الفعالية الأسرية هو الضامن ليس للكيان واستمراريته، بل القيام بوظائفه الاجتماعية والسياسية في إطار تنشئة فاعلة، وهي تنشئة يتعلم فيها الجميع من الجميع، إنها فروض عينية وتكافلية تعبر عن “ميلاد أسرة” وشبكة علائقها ونسيجها المجتمعي والاجتماعي.

* معادلات ثلاث كلها تصب في معادلة أخيرة، وهي معادلة “العاقبة الأسرية”، ضمن تصور السفينة القائمة على قواعد العيش المشترك، ووحدة المقصد والمصير.

إن فاعليات التماسك وتكافل الأدوار وتكاملها، والفاعلية الأسرية، هي التي تحدد النجاة الأُسْرية العامة، وليس لأحد أن ينقر موضعه من سفينة الأسرة … بفأسه زاعمًا أنه موضعه من الحياة الاجتماعية يصنع فيه ما يشاء، ويتولاه كيف أراد، موجَّها لحماقته وجوهًا من المعاذير والحُجج، …جاهلاً أن القانون في السفينة إنما هو قانون العاقبة دون غيرها … فلا حرية هنا في عمل يفسد خشب السفينة أو يمسه من قُرب أو بُعد، ما دامت ملجّجة في بحرها، سائرةً إلى غايتها، إذ كلمة (الخرق) لا تحمل في السفينة (سفينة الأسرة) معناها الأرضي، وهناك لفظة (أصغر خرق) ليس لها معنى إلا معنى واحدًا وهو (أوسع قبر).

إن كل تفكير أو تدبير أو تسيير، مهما يكن من حريته وانطلاقه، فهو هاهنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد، تفسيرها في -لغة البحر- حدود الحياة والمصلحة، وكما أن لفظة الخرق يكون من معانيها في البحر القبر والغرق والهلاك … فكلمة الحرية (بلا حد) يكون من معانيها الجناية والزيغ والفساد.

إنها أسرة الدافعيـة والجامعيـة والفاعلية، الأسرة الحافظة والحاضنة، إنها أسرة السفينة حينما تمُكّن، فتمكَّن لكل عناصرها (الأب والأم والأبناء)، (الرجل والمرأة والطفل)، تمكينًا ينغرس في السفينة الأسرية لا بقطعه عنها أو بمنعه من فاعلياته(26).

 

في الختام لازلت أتأمل “سفينة نوح” التي لم تكن إلا أداة إنقاذ للبشرية بعد طوفان اجتاح أي شيء وكل شيء. السفينة -في هذا المقام- لم تكن إلا أداة إنقاذ، إلا أن مادتها لم تكن إلا أسرة (من كلٍ زوجين)، لتشير بذلك إلى أهمية هذا الكيان:

﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ (المؤمنون: 27)، وكان هذا استنئافًا لأصل الحياة: ” ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ﴾ (الصافات: 77). سفينة الإنقاذ لا تحتمل إلا الصالحين المصلحين، هذه مهمة لا يقوى عليها إلا الصادقين، فهذا حوار نوح مع ربه ﴿إِنَّ ابنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ (هود:45)، ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ (هود: 46)، إن مَنْ هو مِنَ “الأهل” لابد أن يكون أهلاً لذلك متأهَّلا له.

ولازلت أتأمل الفرعونية حينما فرّقت المجتمع وتماسكه، فاستبدت بالأسرة وعناصرها: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 4).

إن من أهم علاقات استبداد الفرعونية وعَسَفها، أن علوّه في الأرض وطغيانه أوصله لحال استضعاف واستخفاف دمّر فيه الأسرة.

كان هذا الحوار السياسي بين سيدنا موسى وفرعون حينما منّ عليه بتربيته إياه: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ (الشعراء: 18)، ولم يكن احتجاج سيدنا موسى في مواجهة هذا المنّ الفرعوني إلا انتقالا من الخاص (أمر تربيته) و(أمر أسرته) التي خاطرت به بعد أن ألقت أمه به في اليم … إن موسى يصعد من هذا الأمر الخاص إلى حال الرسالة العامة ليلفت إلى استبداد الفرعونية مبلغًا فرعون: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الشعراء:22).

هل يمكننا أن نتعلم درس “سفينة الأسرة” التي تدخلنا من كل طريق إلى “سفينة – البشرية”؟ (27) وهل تعلمنا كيف ارتبطت السفينة بالخَرْق والغَرَق؟ وكيف يرتبط كل ذلك “بالأهل”: بالأسرة: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ (الكهف :71).

فاصلة وخاتمة وواصلة:

وهكذا…

ما انفك همُّ “المفاهيم” بأنواعها وأشكالها يعاركني كل يوم، وكنت من قبل أميّز المفاهيم وأفصلها وأنظمها وأجري عليها ما استطعت من عمليات الفحص والتجريب والفك وإعادة التركيب وأخرج منها بما شاء الله – تعالى- من عبرة وخبرة وفكرة، حتى أتانا حديث العولمة، فإذا بالمفاهيم ترسل علينا تترى متلاحقة متلاصقة، لا تكاد تميز مفهومًا حتى تحيط بك مجموعة جديدة من المفاهيم المتلونة بكل لون، مفاهيم لعوب، يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار.

من هنا اقتربت من مفهوم “التربية المدنية“، فرغم أن المركَّب ليس غريبًا سواء في عنصريه “التربية” و”المدني”، منفردين، أو في اصطفافهما معًا، إلا أن السياق والقوسين المحيطين بالمفهوم، علاوة على ما في اجتماع “التربية” و”المدني/المدنية” من إشكالات.. كل ذلك أضفى على الموضوع فرادته أو جدّته.

ومن ثم رحت أفتش عن الجديد في هذا المركَّب (التربية المدنية)، فكانت رحلتي مع “الشبكة” التي أفرزت حالة من “الاشتباك” مع المفهوم، و”التشابك” بينه وبين أقرانٍ وقرائن، و”شبكية” هي أقرب إلى الشبائك والأحابيل.

ومنذ مطلع القرن وصِفَةُ “المدني” تلاحق أركان حياتنا وأعمدة فكرنا، وتحل محل “العسكري” ثم “الديني” ثم “التقليدي أو القديم” أو “الذاتي” أحيانًا، لتحتل مكانًا ومكانةً وإمكاناتٍ كانت لغيرها، في مسيرةٍ كان الاحتلال الفعلي لبلادنا قائمًا على مسافة غير قصيرة منها. بيد أن اللحظة الراهنة (اللحظة العولمية وفي قمة تأججها أمريكيًّا) راحت تلقي بظلالها وتتسرب بإمكاناتها المهولة إلى فعاليات هذا المفهوم الواصف (المدني) لتمارس عليه عملياتها وتضفي عليه خصائصها. ومن ثم، وجبت الإشارة إلى طبيعة المفاهيم العولمية (ومنها مفهوم المدني، والتربية المدنية) وخصائصها.

“فالمفاهيم العولمية” تتسم بطبائع الافتراس، والاكتساح، واستصحاب أدوات ترويجٍ وتسويقٍ وتزويقٍ، ومكنات تمويلٍ وتعبئةٍ وحشد، إنها مفاهيمُ سوقٍ أو مفاهيمُ سوقية، مفاهيم معبّأة ومغلفة ومعلّبة.. مفاهيم تنـزع إلى اغتصاب كافة المجالات، واختراق كافة الحواجز، لا تراعي حرمات، ولا تأبه بمقدسات.. إنها تحمل روح “المدينة” المادية city الغربية التي تولد عنها civic وcivil وcivility  وcivilization، وcitizenship؛ من هنا، فنحن إزاء مفهومٍ ملتبس في ذاته، مفترس في سياقه، وفي عملياته وآلياته وغاياته ودلالاته، والأخطر أنه –في ظل سياقه وسوقه وتسويقه العولمي- يُصكّ على الأرض، ويبنى من أحجار وإسمنت وحديد، ويحرّك بمالٍ ورجال ومن ورائهم سلاح “حقيقي” لا مجاز فيه.

إن للمفهوم العولمي آلياته التي ينبغي الالتفات إليها، والوعي بها والسعي لمعالجتها بما يكافئها. فثمة آلية “زخرف القول” التي تبرق في الأسماع وتنجذب إليها الأقلام لما بها من زينة فاتنة، ثم ثانيًا- آلية التلبيس؛ فمن ذا الذي يقاوم أخلاقية “التربية” حين تلبّس بها حداثة “المدنية” وتألقها المتمثل في نموذجها الغربي المعاصر؟ وثالثها- آلية الترويج والمدفعية الإعلامية التي تهدم كل محاولات الاحتفاظ بالوعي صامدًا، وتمهد السبيل أمام جيش المفاهيم الغازي. ثم –رابعًا- آلية التوطين والاحتلال والتسكين والاستيطان وبناء المستعمرات والمؤسسات، ثم –خامسًا- آلية البعد العملياتي: فالمفهوم العولمي لم يعد مفهومًا فكريًا خالصًا مجرّدًا من تمثلاته المادية، بل هو آلة حية أو شبه حية يعمل ويعتمل ويفرز عملية إنتاجية مهمة، وأخيرًا تتصل بذلك آلية “الأداتية” فلم يعد المفهوم وحده أداة لغيره، أداة للدلالة وللغايات والنوايا.. بل صار هو يصطنع ويستصنع  لنفسه ولاستواء أدواته وأجهزته الفاعلة.

وعلى ذلك، فإننا نؤكد أن “التربية” – وهي من مفاهيمنا الأصلية الذاتية، حين تغلف بغلاف “المدنية” فنحن أمام إشكال جديد، يتجلى في سياق يجب الوعي به والانتباه إلى مستوياته وتمايزاته.

يتحرك مفهوم “التربية المدنية” على ثلاثة مستويات من الواقع:

أولها- المجتمع الداخلي (المحلّي): وذلك حين يوجه إلى المواطن الأمريكي، أو المواطن الأوروبي أو… وهنا قد يكون سياقه ودلالاته وعملياته متوائمة متسقة مع دور الدولة ووظائفها سيما الوظيفة العقدية التي تضطلع فيها الدولة بـ”تربية المواطن الصالح” وفق المثال أو النموذج الأمثل الذي تفرزه مرجعية الدولة وهويتها، بما تغرسه من قيم واعتقادات وأخلاقيات.

ثانيها- الوافدين المهاجرين إلى المجتمع المحلي: وهنا تتوجه التربية المدنية ضمن خططٍ للإدماج والاستيعاب، في حالة ترمي إلى التطبيع بين المهاجِر وموطن هجرته (المكان الذي يقيم فيه)، ما بين تطبيع متسامح، وما بين تطبيع إنما هو تطويع وتتبيع.

ثالثها- المجتمع الخارجي أو البقية (The Rest):

حيث تتوجه “التربية المدنية” إلى تطبيع الخارج أو الآخر العالمي وفق أهداف كونية خاصة بذلك المتصدِّر لمقام “المربيّ عالميًا” والناصب نفسه رسولاً “للمدنية”؛ حيث تتبدى الدول الأخرى على خلفية “التخلف عن الركب”، و”الاختلاف عن النموذج والنمط والمثال”، فيجب إكسابها “الفضائل المدنية” وتبشيرها بـ” التنوير المدني”.

هذا المستوى الثالث تبدى في الحلقة الأخيرة من مسلسل العلاقة بين الحضارات، متينًا مكينًا، تمثله مؤسسات، وبرامج، ودعوات، ونشاطات مكثفة، وتدريبات واستقطابات ونشرات وإصدارات لا توصف إلا بأنها “نماذج عولمية” لا يصلح فيها العدد إلا مشفوعًا بلفظة “مليون”؛ تعبيرًا عن “الطوفان العولمي” في مثاله “المدني التربوي”.

وهكذا…

حينما يتوقف القلم بعد هذه المحاولة التجريبية ضمن تأسيس منهج نظر لـ”مفهوم التربية المدنية”، وفي إطار هذه الفاصلة في قضية تعامل البعض معها بالتهوين، أو وصفها بالمماحكات اللفظية، أو إضاعة جهد الجماعة العلمية والأكاديمية فيما لا يفيد، أو بعض هؤلاء الذين يقولون: دعنا من التنظير ولننطلق إلى العمل، أو هؤلاء الذين يمثلون نموذجًا ابتلاعيًا للمفهوم بتحديداته وماصدقاته. كان عليَّ أن أوضح – ومن طريق العولمة أو العالمية والخصوصية- أهمية الجهد التجريبي في عملية بناء المفاهيم، حتى نحقق الكشف لهذه الاتجاهات وتأصيل عقلية فارقة ناقدة، بيانية بانية، فاصلة أقرب ما تكون إلى المفاصلة مع هؤلاء الذين لا يهدفون إلا إلى تمرير المفهوم ضمن عمليات “نقل” و”حمل” و”ابتلاع” و”ترويج” و”تسويق” و”اقتلاع” و”تبديد”، وهم في كل ذلك ناقلون يمررون، وإن كان لا بأس عندهم من بعض التجمل والزيين.

إن الفاصلة هي من المفاصلة، والتي فحواها أن ترويج المفهوم والقول بعولميته لا يجعلنا نتلقاه ضمن عقلية تقليد لا تنتج تفكيرًا حرًّا، بل هو فكر الطلاء والزخرف، وإذا كان البعض قد أعلن بكل قوة أن التربية المدنية ليست التربية الوطنية الهادفة على التعبئة، فإنها أرادت ان تستبدل بتلك التربية الوطنية نموذجًا تعبويًا آخر هو التربية المدنية العولمية في إطار تكريس الصبغة والصيغة والصياغة العولمية المدنية، كعملية تأهيل بدلاً من الاستبداد الداخلي، تهيئة المناخ لاستبداد عولمي يؤسس “دليلاً استبداديًا”، فيما يسميه أستاذان تربويان امريكيان “سبيل الحياة خداع”!!، يصلح للآلات لا للإنسان.

ومن قلب الفاصلة تتولد الواصلة، واصلة بحقيقة مجتمعاتنا، واحتياجاتها وضروراتها النابعة؛ فالمجتمع يولد احتياجاته، والوسط ينتج علاقاته، والأطراف تولد تعاملاتها. ومن هنا تكون “الواصلة – الرابطة” هي في تحقيق مجتمع ناهض يؤصل شبكة علاقاته الاجتماعية والسياسية والنسيج الاجتماعي والجماعي عبر الإنسان- المواطن- الوطن (الجماعة الوطنية – التيار الرئيس – رأب الصدع – التربية السفنية – التربية الانتماءية على الهوية)، وهو أمر لو أردنا أن نربي الأمة عليه فعلينا أن نحدد احتياجاتنا بدقة، وتحدياتنا بعمق، وإمكاناتنا لشمول، وعدتنا باكتمالها وكمالها، وإرادتنا في الوعي والسعي بفاعلية.

وفي هذا – ومن معين الواصلة، يبدو لنا أن نؤكد على أن “الإصلاح التربوي متطلب سابق للفعاليات التربوية”:(28)

يبدو لنا ومن خلال التركيب “التربية” “المدنية” أنه قد  أهملت أصل القضايا التي ترتبط بالعملية التربوية، ذلك أن “… من أخطر الآفات الفكرية، التي أصبحت تعتور العديد من الفهوم والأقوال والمواقف.. السائدة حول بعض قضايانا التربوية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، شيوع الكثير من التصورات التفنوية والتبسيطية لهذه القضايا..”.

فتبدو قضايا التربية المدنية مجرد آليات غنية أو أدوات تربوية من دون الاهتمام بأسسها المعرفية ونماذجها الكلية، وتبدو المسألة بالنسبة لهذا التصور مجرد تصورات إمبريقية ضيقة تختزل الواقع المتعدد والمتحول في بعض جوانبه ومكوناته وأبعاده، فتفقد بذلك تلك النظرة الشاملة والكلية للواقع المبحوث، ضمن رؤية استراتيجية كلية لعمليات التربية والإصلاح الشامل والعميق للبني التربوية، سواء كان ذلك على مستوى الخلفية الفكرية الموجهة، أو تشخيص المشكلات والأزمات والأوضاع، أو توصيف البدائل والحلول المقترحة، أو على مستوى التدخل المباشر والممارسة الفعلية، بهدف التطوير أو التغيير أو التجاوز.

والواقع أن الأداء الإمبريقي الضيق في رؤية الواقع والذي قد يشير بدرجة أو بأخرى إلى ضرورة إيلاء الاعتبار للتطبيق العملي إزاء النظرية، والاحتكام للشروط المادية الملموسة للأوضاع المتنفذة، والإصغاء إليها في النظر والتحليل والفعل، حتى لو كان ذلك الواقع مصنوعًا أو مصطنعًا، إن محاولة حصر مفهوم التربية المدنية في الطابع العملياتي أو الأدائي، ليس في رأينا إلا محاولة لما يمكن تسميته باغتصاب التطبيق وتهميش عملية التنظير والإشكالات الفلسفية التي يمكن أن ترتبط بهذه الشاكلة المفاهيمية والمرتبطة عامة بالشاكلة الثقافية، هي من الأمور التي لا يمكن تجاوزها من الناحية المنهجية، ومن أسف أن تضييق بعض الصدور ممن يمارسون في مجالات النظر والبحث العلميين، توجيه الفكر نحو الزواية المنهجية في التحليل والمقاربة، وذلك على الرغم ما للمنهج من تأثير كبير على سيرورة إنتاج المعرفة في أي بحث علمي، نظريًا كان أو تطبيقيًا، وفي كافة الحقول العلمية، وخاصة منها ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، اعتبارًا لما يتميز بها موضوعها (دراسة الإنسان والظواهر الاجتماعية والتربوية المرتبطة به) من خصوصية، وتعقيد في المكونات والأبعاد والدلالات.

إن تحويل الموضوع المتعلق بالتربية المدنية إلى قضايا فنية، أو إجرائية، أو برامجية أدائية، أو عملياتية إنما يغفل أصول الوعي الضروري والتفاعلي بين النظرية والممارسة العينية، وإن التوجيه في هذا المسار له توابع خطيرة لا يمكن تجاهلها على مستوى التعرف الحقيقي على الخرائط المجتمعة في مجتمعاتنا وفهم مشكلاتنا، وبالتالي على مستوى تحديدنا، بالوضوح الكافي، لحاجاتنا وأهدافنا، وإعداد هذه المجتمعات في مشاريع إصلاحية أو تنموية في سياقات تتسم بالعموم والخصوص الحضاريين.

وبدا الأمر وفي مقابل التوجه الذي يركز على الجانب العملياتي للمفهوم، توجه لا يقل تبسيطه عن قرينه، ضمن تحويل المفهوم “التربية المدنية” إلى “شعار” Slogan يهدف فيما يهدف إليه إلى الترويج لأيديولوجية دوجمائية تبسيطية واهمة، وتشير من طرف خفي إلى شعار ملخص هو “التربية المدنية هي الحل”، أو المقولة الخادعة “سبل الحياة في الديمقراطية” وهو أمر أوقع المهتمون بهذا الأمر في تحريفية فجّة وساذجة للواقع طالت النظر والتصور هذه التبسيطية المفضية إلى التحريف أو التلفيق أختراق مجال الممارسة العملية فأقضى إلى تصورات قوقية وصائبة، في إطار دول تشكيل “الَعلم” وأخرى تعتبر “المتعلم” الذي يعاني من أمية في التربية المدنية، وهنا طفقت هذه القوى سواء تعلق الأمر بالبحث العلمي، أو بالميادين المهنية والاجتماعية المتعددة، كما هو واقع الممارسة التربوية.

وبرزت هذه الممارسة، فلم ينتج عن هذه التصورات الفنية التقنوية لا معرفة علمية ولا فهم مطابق للواقع المعنى في ارتباطاته وأبعاده الفكرية والحضارية، ولم تتكشف طروحاتها ومواقفها عن أي برامج أو مشاريع إصلاحية أو تنموية، وإنما أنتجتا كثيرًا من الأوهام والاحباطات والمراوحة اليائسة في المكان، مساهمة بذلك في إعادة إنتاج شروط الوضع المأزوم والمتأزم والتأزيمي. والاكتفاء في أحسن الأحوال بنوع من التدبير التلفيفي وانتقائي متعثر للأزمات، دون امتلاك القدرة على تحقيق الإصلاح التربوي أو الاجتماعي المنشود.

الإصلاح التربوي ومحاولة إبراز أبعاده ودلالاته وارتباطاته المعقدة بمجمل التحولات الفكرية والاجتماعية والحضارية، متطلب غاية في الأهمي، ونحن نتحدث عن التربية المدنية أو أي نوع من أنواع التربيات، هذا التصور لابد أن يستصحب بناء منظور نقدي تكاملي متعدد الأبعاد لأوضاعنا وقضايانا الفكرية والتربوية والحضارية.

إنه الهدف المعرفي الاستراتيجي الذي يتجاوز هذه الطروحات والمنظورات التبسيطية والفنية والإجرائية إلى عمق التعرف على إشكاليات النظام التعليمي، والمساهمة في إنتاج معرفة بالواقع التربوي والاجتماعي من ناحية وممارسة الوعي النقدي الذاتي والكوني متعدد الأبعاد: وعي بالذات، ووعي بالغير وبالآخر، ووعي بالموقف عبر اللحظة الحضارية على تفاعل عميق بين مستويات هذا الوعي جميعًا وأهم عناصره، والذي يُولِّد بدوره المواقف الواعية القادرة على بناء أسئلة التحديات الحقيقية وتقديم الاجابات الفاعلة لها وعليها، وتناول المسألة التربوية من زاوية العلاقة بين واقع الأزمة وشروط الاصلاح، وهكذا يبقى “الهم المنهجي” يشكل الرغبة الواعية في المساهمة في إنتاج خطاب علمي تأسيسي حول بعض قضايانا الفكرية والتربوية والاجتماعية والحضارية، إن الوعي بالتربية وأدوارها الكامنة فيها لابد أن يتعرف على حقيقة أزمة النظام التربوي والذي أفرز منذ مستهل الاستقلال وحتى الطبعة العولمية الأخيرة أنساق من التحكم، لم تستطع أن تُقيم قطيعة جذرية مع رواسب الإرث الاستعماري في ميدان التربية والتعليم والتكوين الاجتماعي والثقافي، بكل ما لهذا الإرث من انعكاسات سلبية على عدة قطاعات اجتماعية وثقافية متباينة.

ومن هنا لم تتمكن “مصر” من أن تبلور مرجعية تربوية بديلة، ذاتية وخاصة، تستند إلى رؤية عميقة باحتياجات الواقع من ناحية، والإمكانات المجتمعية من ناحية أخرى، والتسويغ الثقافي القادر على نظم الطاقات وتفعيلها على أرض الواقع ضمن أنساق من المعرفة والقيم والسلوك والمقاصد، وضمن أنساق من الأدوات والآليات والسياسات والبرامج والأساليب، وفي سياق من الأنساق الفاعلة والتنوع المنتج.

وهكذا فما تزال السياسة التربوية -إذا صح أن يكون لدينا ذلك- لم توضح معالم “الإنسانية” أو “المواطنة” الذي نسعى إلى بنائها عبر أنماط التربية والتعليم، ولا الأهداف التنموية التي نطمح أن نجعل من هذه الأنماط معبرًا لتحقيقها, وظل هذا الحال من عدم الوضوح في المرجعية والمقصد يشكل مجالاً مستمرًا “للاستتباع” تارة للاستعمار، وتارة للسلطة، وتارة أخرى للخارج بما يحمله من برامج وتصورات للمنطقة وفي كل مرة ظل إغفال هذا البعد النوعي للتربية في صلب الأزمة القائمة وتجدد أشكالها.

والأزمة هنا لم تقتصر على أن تكون أزمة “حال” بل امتدت لتكرس “أزمة مآل”، ونقصد بالمآل مختلف الأوضاع التي آل إليها نظامنا التربوي، والتي تتجلى في عدة مظاهر وتجليات ومآزق وتحديات ومشكلات تربوية وثقافية واقتصادية واجتماعية وبالجملة حضارية وكلية.

وهكذا فإن أزمة النظام التربوي(29 ) المعني ليست مجرد أزمة قطاعية معزولة، لأن ذلك مضاد لمفهوم التربية ذاته وشموله وتخلله كافة أنساق الحياة الحضارية وساحاتها، وإنما هي في العمق جزء من كل، من وضع اجتماعي وسياسي وثقافي ومرجعي عام.

وتظل هذه الرؤية الكلية بما تقدمه من نقد تنبه إلى ضرورات تجنب الوقوع في منزلق منظورات فنية إجرائية إختزالية ضيقة، التي تفسر الكل بالجزء، فتقلب بذلك منطق الأشياء وتجعل من هذا الجزء ممتلكًا لقدرة تفسيرية عجيبة للكل المجتمعي، وإذا كان الكل يجب أن يرعى التفسيرات الجزئية ويسكنها في مكانها ومقامها اللائقين، فإن الجزء قد يصادر الكل وعناصره الأخرى، وشبكية علاقاته، واستطراق تأثيرات عناصره وجزئياته.

وعلى العكس من الطروحات الفنية المغرقة في التبسيطية والميكانيكية، والرؤية التي يتحكم بها معاني “المعرض” الذي ينقل صورة انتقائية للواقع، فإن أزمة النظام التربوي أزمة مركبة متشابكة العناصر والمكونات. أنها أزمة بِنْيَات ومؤسسات، وأزمة توجهات وخيارات، وأزمة ثقافية واجتماعية وحضارية شاملة وناظمة للكل المجتمعي بتعدد مجالاته وقطاعاته وتأتي الحالة العولمية لتضيف لهذه الأزمة أبعادًا مركبة ولتمثل حالة كاشفة لحجم مشكلاتنا التي تراكمت وتحدياتنا التي ظلت تتوارد من غير مواجهة فاعلة ولائقة.

وزحفت العولمة بجيوشها التي اكتست هذه المرة هذا الثوب العولمي global civic Education في سياقات ترويجية أقرب إلى “التربية المدنية هي الحل”.

وسنظل نتعامل مع تلك المنظومات الفكرية والتربوية الغربية – من غير البحث في لياقتها ومناسبتها- نتعامل معها بسمة التعامل الشعاري التكتيكي والانتقائي… وتبدو هذه المفاهيم داخلة في منظومة “الترويج” أكثر من دخولها في منظومة “الوعي”، والشروط المسبقة التي تتمثل في الشروط المعرفية والاجتماعية والمعرفة العلمية الدقيقة بشروط نقلها وتوظيفها في سياق تاريخي واجتماعي ومعرفي وتربوي مغاير، فتظل بذلك بعيدة كل البُعد عن هذا الواقع ويتم إقحامها وفق قواعد “الغرس” و”التكريس”، وتقترب لتعود مرة أخرى إلى واقع “المعرض” المفضي إلى حركات “التمثيل” لا الواقع المتحقق أو المتعين وتقتصر عن الإسهام في تجديد أو تطوير أو إصلاح النظـام التربوي المعنى(30 ) .

إن الإصلاح بهذا المنظور هو إذن كل لا يتجزأ، وإن هذه المجتمعات لا يمكن أن تحقق أي إصلاح تربوي أو اجتماعي في المستوى المطلوب، ما دامت خاضعة لإكراهات وشروط وعواقب التبعية مما ينسجم مع مصالح المراكز المهيمنة أكثر مما يتلاءم مع متطلباتها وحاجاتها الداخلية الخاصة (النابعة لا التابعة)، إذ يفرض عليها ذلك نوعًا من التوجيه الفكري والسياسي والأيديولوجي – العلني والضمني- لأنظمة التربية والتعليم، ومن ثم فإن النظرية أو المفهوم يجب أن يتم الاستئناس بها لفهم المبحوث، لا أن يُستخدم هذا الواقع للاعتراف بالنظرية أو المفهوم والخضوع لمقتضياتها.

هوامش الدراسة

1- أ.د. سيف الدين عبد الفتاح، التعليم والهوية: نحو تأسيس جامعات حضارية فى أ.د. سيف الدين عبد الفتاح (تقديم) ، أسامة مجاهد (تحرير)، التعليم العالى فى مصر، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. المجلد الثانى 2006 ص 983 وما بعدها.

2- انظر الندوة التى أقامتها الهيئة القبطية الإنجيلية حول التربية المدنية . الهيئة القبطية الانجيلية للخدمات الاجتماعية، منتدى حوار الثقافات، ورشة عمل “مشروع التربية المدنية، 11-12 يوليو 2005 الإسكندرية. انظر بصفة خاصة الدعوة للورشة فى صناعة القصور حول مفهوم التربية فى سياق تكريس النظرة الايجابية دون التطرق للجوانب النقدية.

3 – انظر في ضرورات المدخل النقدى فى عالم المفاهيم فى على جمعه (محرر) بناء المفاهيم، مرجع سابق.

4- د. علا أبو زيد (محرر)، التربية المدنية فى مصر: حاضرها ومستقبلها، مركز البحوث والدراسات السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2005.

5- المرجع السابق، كلمة مدير المركز أ.د. نادية مصطفى، ص15 وما بعدها.

6- المرجع السابق، (كلمة عميد الكلية آنذاك)، ص21 وما بعدها.

7- المرجع السابق ، المحاضرة الافتتاحية (أ.د. على الدين هلال) ص 27 وما بعدها.

8- المرجع السابق ، نفس الصفحات .

9- انظر فى هذا المقام تلك النظرة حول المركزية الغربية: د.عد الله ابراهيم، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة: تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة، الدار البيضاء: المركز الثقافى العربى، 1999، ص20-23.

10- راجع أيضاً : طه حسين ، قادة الفكر، بيروت دار العلم للملايين، 1989 ص39-50، انظر أيضاً : طه حسين، المؤلفات الكاملة، بيروت : دار الكتاب اللبنانى، 1973، ط9، ص50-51.

11- عبد الله ابراهيم، الثقافة العربية…، مرجع سابق ، ص 20-21.

12- المرجع السابق، ص 49-51.

13- المشروع الفكرى للحكيم طارق البشرى من أهم المشروعات الفكرية التى تؤسس لجماعة وطنية عبر الوطن، وقد أسسه تحت عنوان فى “المسألة الإسلامية المعاصرة” فضلاً عن كتابات أخرى حول مصر والعالم العربى والأمة. هذا المشروع له صله بما نحن فيه فى مسألة التربية والاصلاح التربوى، وتأسيس مناهج النظر. انظر فى هذا المقام تلك الدراسات التى كتبت بمناسبة بلوغ السيد المستشار سن المعاش ضمن مسيرته الوظيفية والفكرية:

إبراهيم البيومى غانم (محرر)، طارق البشرى: القاضى المفكر، الكلمات والبحوث التى ألقيت فى الندوة العلمية الأهلية للاحتفاء بالمستشار طارق البشرى بمناسبة انتهاء ولايته القضائية بمجلس الدولة المصرى، القاهرة : دار الشروق ، 1999، انظر بصفة خاصة القسم الثانى: البحوث)، ص ص 63 وما بعدها.

14- طارق البشرى ، منهج النظر فى النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الاسلامى، القاهرة : دار الشروق ، 2005، ص 7 وما بعدها.

15- طارق البشرى، المرجع السابق.

16- طارق البشرى، انظر ندوة القاضى المفكر ، مرجع سابق ، ص 133 وما بعدها.

17- طارق البشرى، المرجع السابق، ص170 وما بعدها.

18- طارق البشرى، المرجع السابق، ص 164.

19- طارق البشرى ، المرجع السابق، ص 159 وما بعدها.

20- كتاب المواطنة ؛ انظر فى مفهوم المواطنة العالمية، انظر فى هذا السياق أ.د. سيف الدين عبد الفتاح، قراءة فى دفاتر المواطنة المصرية: الزحف غير المقدس ؛ تأميم الدولة للدين، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى ، 2005.

21- انظر فى هذا المقام: سيف الدين عبد الفتاح، الثابت والمتغير فى إشكالية الهوية: أزمة الخطابات المتنافية: دراسة فى خطاب العلاقة بين الهوية المصرية والهوية العربية، ضمن : عمرو حمزاوى ، نقاشات الهوية فى أوربا والعالم العربى: رؤى مقارنة ، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، مركز الدراسات الأوربية، أعمال الحلقة النقاشية 14-15 سبتمبر 2004، ص ص 17 وما بعدها.

22- انظر فى مفهوم التيار الأساسى، المستشار طارق البشرى، ملامح التيار الاساسى فى مصر القادمة، المركز الولى للدراسات: روات نهضة مصر: (9)، 1998. ص 9 وما بعدها.

23- انظر فى ثقافة السفينة مصطفى صادق الرافعى، وحى القلم، القاهرة: د.ن، د. ت، حـ3، انظر المقالة المهمة” السمو الروحى الأعظم والجمال الفنى فى البلاغة النبوية ، ص5-27.

24- انظر نقاشات الهوية ، مرجع سابق ، ص23 وما بعدها انظر : المستشار طارق البشرى، العرب فى مواجهة العدوان، القاهرة :دار الشروق، 2005.

25- انظر فى هذا المقام تلك الكتابات التى تتحدث عن أوهام الهوية وشيوع هذا التعبير : مراد وهبه (المحرر)، الهوية الثقافية فى الزمان ، أبحاث المؤتمر الخامس للمجموعة الأوربية العربية للبحوث الاجتماعية القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1992، يقول عبد القادر الزغل فى كلمة الافتتاح “…ونزع القداسة عن مفهوم الهوية يطربنى، وأنا أود الدفاع عن فكرة أن الهوية هى أولاً وقبل كل شيء أسطورة، أسطورة الواحد…” ص 13-14. انظر وقارب : جان فرنسوا بايار، أوهام الهوية، ترجمة : حليم طوسون، كتاب العالم الثالث ، 1998، انظر بصفة خاصة الجزء الأول ص15 وما بعدها. انظر أيضاً داريو ش شايفان، أوهام الهوية، ترجمة : محمد على مقلد، بيروت: دار الساقى، 1993.

26- انظر فى هذا السياق المنظور السفنى فى دراستنا حول الأسرة ودراسات أخرى: د. سيف الدين عبد الفتاح، المدخل الفنى فى تحليل الأسرة : دراسة فى عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية ، بحث تحت الطبع فيه أعمال مؤتمر الأسرة الذى قام على رعاية مركز الدراسات المعرفية – وقسم الاجتماع بجامعة عين شمس، انظر أيضاً محاضراتنا التى ألقيناها على طلبه الدراسات العليا، فى مادة الفكر السياسي الاسلامى، 2005-2006.

27- انظر فى هذا المقام مصطفى محسن، الخطاب الاصلاحى التربوى: بين أسئلة الأزمة وتحديات التحول الحضارى (رؤية سوسيولوجية نقدية)، الدار البيضاء : المركز الثقافى العربى، 1999. ص 13 وما بعدها.

28- المرجع السابق ، ص 19-25.

29- المرجع السابق، ص 27-88.

وترتكن هذه المسألة إلى قضية العرض وعملية التمثيل كما ورد فى: تيموثى ميتشيل، استعمار مصر ، ترجمة : بشير السباعى وأحمد حسان، القاهرة : سينا للنشر، 1990، ص 19 وما بعدها.

30- المرجع السابق ، مواضع متفرقة.

31- المرجع السابق ، مواضع متفرقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر