أبحاث

التربية المدنية : دراسة في المفهوم بين العالمية والخصوصية : كيف نتعامل مع العالم المفاهيم الوافدة (1)

العدد 123

مقدمة: بحث وباحث: الخبرة البحثية:

إن منطلق هذا البحث الذي أقدمه حول: “التربية المدنية دراسة في المفهوم بين العالمية والخصوصية: الإصلاح أم الإصلاح معكوسًا؟” إنما ينصرف إلى مجموعة من العناصر الواردة في سياقاته وتكويناته، أهمها:

–  الشبكة، الشبكية، الاشتباك، الشِّباك: حالة بحثية تجريبية

–  البناء التجريبي للمفاهيم: مفهوم التربية المدنية نموذجًا

–  نماذج تجريبية في التفعيل والتشغيل.

ومنطلق الخبرة البحثية يستقي منه الباحث طريقًا منهجيًا نظن ملاءمته لمقام هذا البحث، ألا وهو منظومة من “النظر التجريبـي” لقضية ومفهوم “التربية المدنية”. هذه التجارب المتوالية ولدت بدورها معادلات مهمة وجب علينا وزنها والحفاظ على اتزانها؛ وأهم هذه التجارب:

1- البناء التجريبـي لمفهوم التربية المدنية.

2- التجربة الشبكية (المفهوم على الشبكة).

3- التجربة المتعلقة بالمفاهيم الحضارية وأصول عمليات التحيز البحثي والعلمي والمنهجي، “تجربة الوصف: Civic & Civil”.

4- تجربة التحليل النص: بين:

– النص المتسائل: حقيقة الأسئلة والأسئلة الحقيقية.

– النص التمريري: “المفهوم” دعه يعمل دعه يمر.

– النصوص النقدية.

– النص العولمي وافتراس العولمة.

– إرهاصات النص البديل: بين إعادة البناء وعمليات التفعيل والتشغيل.

5- تجربة “شاهد عيان” في ندوة: عالم المفاهيم بين التهوين والاستهانة.

هذه التجارب كانت تشكل مختبرات معرفية للتعامل مع مفهوم التربية المدنية في إطار:

  • مناهج النظر المتعلقة بالمفهوم.
  • مناهج التعامل.
  • مناهج التناول.

وتعلقت في معظمها بمصادر مختلفة للمعرفة، يعد تنوعها حجة إضافية حول الفحص المعرفي لعالم المفاهيم والتعامل معه:

  • بناء المفهوم معمل التجريبـي.
  • تجربة شبكة المعلومات الدولية.
  • تجربة تحليل النصوص.
  • تجربة المفاهيم الحضارية وعمليات التحيز.
  • تجربة “الندوة” والتعامل مع عالم المفاهيم.

تجارب خمس تتكاتف لتوضح لنا عناصر منهج نظر وتؤسس له، وتعرض في هذا المقام محاولات متكاملة لرؤية بديلة لا يمكن أن نتجاهلها، وتحيلنا إلى إمكانات رؤية بنائية.

* “إعادة بناء المفهوم” و”إعادة بناء الأجندة” تجربة النموذج المعرفي لدى توماس كون.

تكافل التجارب تلك يوضح لنا الأصول التي يجب أن تستند إليها في التعامل البصير مع عالم مفاهيم تتوالى علينا واحدًا تلو الآخر، في صورة “صرعات عالم المفاهيم في سياق عولمي.

أولاً الشبكة، الشبكية، الاشتباك، الشِّباك: حالة بحثية تجريبية

بدا للباحث حينما كُلِّف ببحثٍ حول “التربية المدينة” وحول الأجندة البحثيـة المتعلِّقـة بـها ، في ضوء الخصوصية والعالمية أو إن شئت الدقة: في ضوء “الحالة العولمية”، بدا له – وفق القاعدة التي تشير إلى أصول الملاءمة المنهجية والبحثية- أنه من الضروري البحث حول هذا المفهوم، والتعرف على خريطة اهتماماته وفق أصول تشكيل الأجندة البحثية والإشكالات الأجدر بالتناول، ولكن أين عساه يجد مظانّ ذلك؟! و”المظانّ البحثية” تعني مظنّة الباحث أن يجد من المصادر التي تتيح له الوصول إلى هدفه.

ويتبدَّى المصدر “اللائق” في التعرّف على مفهوم “التربية المدنية” أصلاً وبناءً وتصوّرًا، وتطوّرًا وتطويرًا ومآلاً ليس إلا شبكة المعلومات العالمية. فالمفهوم من طبيعة “عولمية”، وشبكة المعلومات –بالإضافة إلى إمكانياتها العالية- فهي تتيح وتكشف عن عناصر الغلبة العولمية: “من يملك القانون يملك حقَّ عزفه“؛ هذا المعنى إنما يؤصِّل للاعتبارَ المتعلق بالجانب “المعلوماتي” الذي يشكل أحد أهم قسمات “الحالة العولمية” و”العصر العولمي” وإمكاناته “الاكتساحية”(1) و”الافتراسية”! تلك القسمات والإمكانات النابعة من عمليات وأحوالٍ تولِّد سمة “الترويج” وعملياته، وتصل في أقصاها إلى حدّ “احتلال العقول واغتصابها”.

مفهوم “التربية المدنية” حالة نموذجية في هذا المقام!

المفهوم على “الشبكة”:

المفهوم على “الشبكة” تعبير عن حالة انتشارية. إن مجرد كتابة كلمة “Civic education”( 2) على أحد أهم محرِّكات البحث google، يحيلنا إلى أكثر من”سبعة عشر مليونًا” من العناوين في مجموعها؛ سواء أشارت إلى عناوين أصلية، أو عناوين متعلقة بمثل هذه العناوين، أو المواقع الأساسية المختلفة.

هذا الأمر دفعنا إلى القيام بهذه التجربة الافتراضية Virtual experiment في عالم “الشبكة العنكبوتية” “World Wide Wep”، وكانت النتائج الأولية تشير إلى حالة “المفهوم” العولمية، تلك الحالة التي يتحرك فيها المفهوم على الساحة العالمية global والكونية Cosmopolitan؛ فهو يحتل المساحة الجغرافية العالمية، إنه بذلك الاعتبار يمتد ليشمل المعمورة بأسرها.

# حالة المفهوم المفصلية، المفهوم لا يتحرك على الساحة العالمية على شاكلة واحدة، وليس بنفس الزخم، هناك بؤر ومناطق تأثير غاية في الأهمية يتكثف فيها الاهتمام لاعتبارات أو أخرى، إلا أن القانون الحاكم لهذه الحالة “الانتقائية” “المفصلية” هو: “من يملك القانونَ يملك حقَّ عزفه“.

ومن ثم يتشكل هذا الانتشار الشبكي وفقًا لقواعد المصالح، والاهتمام بمناطق التأثير: “منطقة الشرق الأوسط”، “منطقة شرق أوروبا”، “منطقة وسط آسيا”، “منطقة جنوب شرق آسيا”، “بعض مناطق القارة الأفريقية”( 3).

# حالة “المفهوم الاكتساحية”، والتي تؤسَّس على قاعدة أن المفهوم اصطحب “جيوشًا متعددة”:

* مؤسسات ترويج وإعلام بالمفهوم وأهميته المحورية.

* مؤسسات جامعية وحركة بحثية ممتدة: إن معظم الجامعات ذات الطوْل في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية تمتلك مؤسسات بحثية تتوفر على التربية المدنية مفهومًا وعمليات وبرامج.

* مشاريع بحثية ذات اهتمامات متنوعة تتناسب مع تنوع المستويات من الاهتمام التي يمتلكها المفهوم؛ “التربية المدنية”.

* مؤسسات عالمية وعولمية ذات اهتمام يتخطَّى حدود دولها القومية، تردف هذا المفهوم وتسانده.

* مؤسسات تمويل قادرة وفاعلة تموّل برامج “التربية المدنية”، ضمن عناصر سياسة خارجية خارج حدودها، أو سياسات كونية تتناسب مع الدور الكوني لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة.

* مؤسسات رسمية تجعل من هذه الدائرة مجال اهتماماتها في مجال متَّسع اصطُلح على تسميته بـ”التربية المدنية”.

* مؤسسات غير حكومية، ترتبط بما أُسمى بالقطاع الثالث أو القطاع غير الحكومي، أو حتى مؤسسات المجتمع المدني في ظل تكريس مفاهيم مثل “المجتمع المدني العالمي” و”المواطنة العالمية”.

* برامج تدريبية هائلة ترتبط بفئة من المفاهيم بدت تبرز في الآونة الأخيرة يمكن تسميتها بمفاهيم البرامج Programming concepts، أو مفاهيم العمليات Processes concepts، مع ما يتطلبه ذلك من “مجموعات” مهنية Professional groups تجعل من هذه المفاهيم جُلَّ اختصاصها وعملها وبحثها؛ تأصيلاً وتنفيذًا وممارسة، Programming internship.

* برامج نوعية في إطار تقسيم مناطق الاهتمام التأسيسية، والتي تكونها عناصر “منظومة”. فالمفهوم المتعلق بالتربية المدنية “مفهوم منظومة” System concept.

* برامج متعلقة بالتربية المدنية المتعلقة بمجالات نوعية:-

–  حقوق الإنسان Human rights.

–  المواطنة Citizenship.

–  التعصب والتسامح intolerance & tolerance.

–  العنف  violence.

–  ثقافة السلام peace culture.

–  بالإضافة إلى مجالات أخرى تتعلق بعمليات التحول الديمقراطي والعملية السياسية كما ترى في منظوراتها الغربية، كسلسلة وحزمة سياسية وتربوية( 4).

وفقًا لهذه “الأدوات” و”الأداتية” يبرز مفهوم “التربية المدنية” في هذا المقام كنموذج لمفهوم عملياتي يتحرك “على الأرض” ويؤصَّل ويزرَع، وتطبَّع العلاقة به وبتكويناته ووَسَطِه وبيئته. هذا المفهوم من جملة المفاهيم العولمية والتي تسوغ بدورها لهذه الحالة (العولمية) ضمن عمليات تكرّس لها “على الأرض”.

المفاهيم صارت تُبنى على الأرض“، ولم تعد تُبنى في الكتابات البحثية والعلمية، وهنا تصير القضية الأساسية هي: إجرائية المفهوم على الأرض Operationalism building concept( 5).

المفهوم والحالة الشبكية

اصطحاب الجيوش لم يكن ليقتصر على عالم الأدوات بل تأسس من قبل في عالم الأفكار، وهو وإن تمكَّن – من خلال تنوع المجالات- من الصياغة المنظومية للمفهوم، فإن الصياغة المنظومية امتدت لتشمل كامل “حياض” المفاهيم الحضارية الكبرى( 6).

إن التجربة التي أجريناها في هذا المقام – على الشبكة الدولية للمعلومات- أحالتنا ومن أقرب طريق إلى أن هذا المفهوم الذي تعلَّق بالتربية المدنية، وبالاعتبار الذي يشير إلى مفهوم “التربية المتخللة“، والتي تتخلل كافة البنيات والسياسات والمجالات، أفاض علينا بتلك “الصفة السحرية”، والتي حولت الصفة من مجرد صفة ووصف Description إلى أكثر من وَصْفة prescription ناجعة تستصحب عناصر كثيرة، وضمن هذا الشأن الافتراسي والترويجي لهذا المفهوم الذي أُريد له أن يكون عولميًّا global، وجدنا أن مجموع هذه العناوين عن “التربية المدنية” وحدها فاق (17 مليون) عنوان كما سبقت الإشارة، بينما العناوين الأخرى التي وُصفت بنفس الوصف: “المدني”، ومع افتراض التقاطعات المختلفة بلغت ما يزيد عن (المئة مليون) عنوان، وهو ما يشكل حالة “اكتساحية” عالمية شملت كثيرًا من المناطق في قارات الدنيا(7).

ولقد لوحظ أن البرامج التي تتعلق بالتربية المدنية في المنطقة العربية ركزت على: مصر وفلسطين ولبنان والأردن، والمغرب وتونس واليمن، فضلاً عن العراق، ضمن عملية “تأهيل” في حقل التربية المدنية(8).

ومن المهم كذلك أن نشير إلى أن هذا المفهوم ارتبط بما يمكن تسميته “رؤية للعالم مدنيًّا” Civic worldview، أكثر من ذلك فإن المفهوم -وفق طابعه العولمي- حمل كذلك ما يمكن تسميته “قواعد التنميط العالمي” فيما أسمى بـ (ISO) Civic Education ISO( 9).

هكذا تدلُّنا الشبكة على معلومات نظنّها مهمة عند التعامل مع هذا المفهوم وتأسيس “منهج النظر” إليه.

المفهوم والحالة التركيبية:

ضمن الحالة المفاهيمية تأتي عملية التصنيف لعالم المفاهيم ما بين المفاهيم البسيطة والمفاهيم المركَّبة، وبدا للبعض أن هذا الوصف قد ينصرف إلى تركيب المفهوم لأكثر من كلمة، حيث يُعد المفهوم “مُركبًّا” ما تركب من أكثر من كلمة واحدة، أما “البسيط” فهو ما يشير إلى كلمة واحدة.

هذا المعيار قد يمتلك وجاهة في عوالم وعلومٍ ترتبط بأصل الظواهر “البسيطة”، أما في علوم ترتبط طبيعتها بجملة من الظواهر المركَّبة مثل علوم “السياسة” و”الاجتماع” و”التربية”، فإن الأمر قد يختلف، فإن من المفاهيم ما يُشار إليه بكلمة واحدة ويشكل مفهومًا شديد التركيب وذلك لارتباطه بقلب وصميم المنطقة والمجال موضع بحثه، وقد يكون أشد تعقيدًا وتركيبًا في داخله من مفهوم يتكون من كلمتين أو أكثر. لعل مفهوم “الشرعية” من المفاهيم النموذج في هذا المقام!(10).

فماذا عن مفهوم “التربية المدنية”؟

المفهوم -في مفرداته- يشير أولاً إلى مصطلح استقرَّ ألا وهو “التربية”، وهو من المفاهيم الشاملة والتي ارتبطت بعناصر في غاية التنوع(11). مفهوم “التربية” أنتج صنوفًا من التربية: تربية بدنية، وتربية فنية، وتربية موسيقية، وتربية دينية، وتربية أخلاقية وسلوكية، تربية فكرية، تربية عسكرية ..إلخ، ويبدو أن تركيب كلمة “التربية” مع “الوصف” المتعلق بها قد يشير إلى صنف من التربية.

المفهوم وحالة التشابك:

هذا بصدد “الصفات المعتادة” حينما تنضم لمفهوم “التربية”، إلا أن وصف “المدنيّة”(12) لم يكن بنفس القدر من “الاعتياد”، بل شكَّل هذا الوصف حالة من التشابك والتداخل بين الموصوف والوصف، وصارت الصفة تمييزًا للموصوف عن كل ما عداها من صنوف. إن “المدنيّ” كما انصرفت معانيه وتجلت في أبرز صورها كان يشير إلى:

– أنه غير العسكري: (أي في مواجهة العسكري).

– وأنه غير الديني: (في قبالة الديني).

– وأنه غير الرسمي: (في مقابل السلطة الرسمية).

ومن ثم شكلت هذه “الصفة” جملة من الاستبعادات على مستوى وصف “التربية” “بالمدنية”، وإذا كانت هذه الصفة لم تنجح في “تحييد” العسكري ضمن عناصر التربية المباشرة وغير المباشرة خاصة في خبرات الدول ذات الصفة الاستبدادية، حيث برز “العسكريّ” و”البوليسيّ” ليشكِّلا عناصر تربية “يومية” للمجتمع وأفراده ومواطنيه، وإذا كانت كذلك لم تستطع أن تستبعد “اليد الثقيلة” للسلطة على معظم القطاعات الأهلية سواء باحتكارها للتشريع أو لعناصر القوة والضبط، حيث بدا القطاع المدني في قبالة تغوّل السلطة أمرًا لا يقارن في سياق العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، فإن الاستبعاد الذي تعلق بالدين شمل محاولة لإقصاء فعالياته بل أكثر من ذلك امتدت إلى حياضه ومجالاته، فطفقت تؤمِّم كلَّ فعالياته، وتسيّس مؤسساته لمصلحتها، وزاد كل ذلك الأمر تشابكًا ملحوظًا فيما أسمى “بالظاهرة المدنية“.

المفهوم وحالة الاشتباك:

ومن حال التركيب اللفظي بين كلمتين، ومن حال التشابك العيني بين ظواهر متعددة (الظاهرة المدنية، والظاهرة العسكرية، والظاهرة الدينية، والظاهرة السياسية)، وفي ظل “الظاهرة الاستبدادية” شديدة التأثير فقد جمعت “التربية المدنية” بين هذه الظواهر الأخرى جميعًا، ليس في حال “تشابك”، وإنما تحوَّل ذلك إلى حال “اشتباك”، فبين ظواهر كلها اعتبرت تخصُّ المجتمع الداخلي وعلاقاته، برزت “التربية المدنية” كمفهوم اقتحم المجتمع، مفهوم يتعلق بالحضارة الغربية وأحد منتوجاتها( 13).

الاشتباك السياسي كان أقرب إلى “المناوشات” منه إلى الاشتباك الحقيقي، لا يتحرك صوب مفاصل النظام السياسي وشبكته الاستبدادية التي تتمثل في التربية البيروقراطية الإذعانية، وهو أمر لو انطلقنا إليه بعمق فإن رؤية الكواكبي حول شبكة الاستبداد أكثر عمقًا لفهم المجتمع ومفاصله الاستبدادية من مفهوم “التربية المدنية”( 14).

أما الاشتباك مع العسكري فإنه لم يُهتم به كثيرًا، بل ربما لم تحدث اشتباكات تذكر.

الاشتباك الحقيقي ظل يتعلق بالدين، وكأنه سبب للتعصب ورفض الآخر وعدم التسامح، وقاعدة للاستبداد وانتهاكًا للمواطنة، فبدا هذا المفهوم يقدم نفسه على قاعدة علمانية من جانب، أو في جانب ما أسماه الغرب بـ”الأقليات”، في استعداء واضح واستعداد لإحداث انقسام مجتمعي أكثر مما يُحدِث التئامًا في هذا المقام(15).

المفهوم وضرب الشباك ونصب الفخاخ:

يبدو في هذا المقام مجموعة من الشِّراك المنهجية والواقعية التي يتركها التعامل مع مفهوم “التربية المدنية”(16).

  • مفهوم “التربية المدنية” يقدِّم في سُلَّم الأولويات قضايا معينة، ويهمش قضايا ذات أولوية، وذات طبيعة جوهرية. “إن لكل مجتمع احتياجاته وقدراته، وذاكرته وشبكة علاقاته”: (فخ الأولوية).
  • مفهوم “التربية المدنية” يحدد مرجعيته، بالاعتبار الذي يؤكّد وفوده من حضارة أخرى، فتأتي عملية الإغراءات في بنائه ضمن المرجعية وشبكة الإسنادات المرجعية الغربية. “إن المفهوم يفرض مصدره، والمصدر يفرض منهجه، والمنهج يفرض أبجدياته، والمفهوم في ابتدائه يحرك الباحثَ صوب نوعية معينة من المصادر تكون أميل للتبعية العلمية والمرجعية”: (فخ المرجعية).
  • مفهوم “التربية المدنية” يحمل رؤية كلية للعالم، ونموذجًا معرفيًّا يستند إليه، وربما يكون كامنًا فيه أنساق قيم مدنية؛ ومن ثم يقوم على استبدال كل ذلك -من خلال الرؤية المدنية- مقصيًا أي رؤى كلية أخرى: (فخ الاستبدال).
  • هذه التربية المدنية ذات طبيعة عولمية: (فخ تنميط العالم والنماذج المختلفة).
  • مفهوم التربية المدنية يحمل رؤية مقابلة أو سلبية وفي بعض الأحوال مضادّة للدين، وفي هذا المقام فإنه يجعل من إقصاء الدين كفاعلية في مجالات متعددة واحدًا من أهم أهدافه، بينما حينما يتعامل مع “الأقليات الدينية” قد يرسِّخ عناصر تميزها أو إسهامها في انقسام المجتمع، وهو أمر يحمل تناقضًا غاية في الغرابة، ويتحرك ذلك صوب (فخ الإقصاء والاستبعاد).
  • مفهوم “التربية المدنية” يحمل في طياته مدلولا يُفهم بالمخالفة كما فهمناه بالموافقة، فإن تصدير مفهوم التربية من الغرب إلى مجتمعاتنا، يعني بالضرورة أن مجتمعاتنا “تنقصها التربية”؛ إنها مجتمعات متخلفة، أو كليلة أو عليلة، أو غير مهذّبة… فتحتاج إلى وصفة المجتمعات المتقدمة، وإلى صيدليتها التي فيها لكل داء دواء.. هذا الغرب يتقدم إلينا ليربينا ويهذبنا استكمالاً لرسالته وعبئه “عبء الرجل المريض” الذي دشن به استعماره القديم، ويواصل به أعلى مراحل الاستعمار (العولمة): إنه (فخ الوصائية).

إن الوصي الذي يحجر علينا، وينيب نفسه عنا قائدًا راشدًا، ومعلمًا مربيًا، هو نفسه يمارس سياسات سفاهة حولاء: ازدواجية في المعايير، وعنصرية في السلوك، إنه “المدرس الفاشل” حين يصرّ على التمسك بمكانة “المدرس” ومكانه، ليعلمنا درسه الوحيد: الفشل!!(17).

نماذج التحيز ومفهوم ““التربية المدنية””: رؤية نقدية من خلال التحيز:

في إطار دراسة سابقة حول التحيز في التحليل السياسي من منظور معرفي تطبيقي، كان الحديث عن جملة المفاهيم التي أسميناها بالمفاهيـم الحضاريـة الكبرى التي تشكل في مجموعها منظومة معرفية ليست إلا نسيجًا لرؤية العالم التحليلية ، وقد أسميناها “مفاهيم المظلة” لما يمكن أن تمثله من تظليل بقية المفاهيم الأخرى الفرعية والمشتقة في كافة المجالات المعرفية المختلفة، وقد كان هذا التحيز بمناسبة تصنيف ما يسمى بالتحيز الأكبر الحادث في المفاهيم الحضارية الكبرى(18) ، والتحيز الأصغر. التحيز الأكبر يكمن في هذه المفاهيم الحضارية الكبرى، أما الأصغر فهو مشتق منه وفرع عليه.

وضمن إشارة سابقة فإن معظم المفاهيم الحضارية الكبرى استولت عليها صفة “المدني” من أقرب طريق؛ لتحدد بذلك طريقة للنظر إلى العالم وتشييعها وفق أدوات ووسائل العولمة الطاغية، في محاولة للتمكين لهذه الرؤية والمفاهيم التي تمثلها ضمن عجلة تنميط كبرى. وبدا التصور حول ما أسمي بالموضوعية تكِئة مهمة للتهيئة لتقبل عالم المفاهيم الوافد دون عناء كبير، فجعلت الموضوعية قرينة لما أسمى “بالصفحة البيضاء” و”للحياد التعلمي” و”الوضعية العلمية”، وبدت هذه الأساطير المختلفة تمد الطريق لمكيدة الموضوعية أكثر من وضعها شروطًا إجرائية تحقق عناصر الأمانة والقدرة التحليلية والتفسيرية الأكبر(19).

في هذا السياق، كيف يمكن النظر إلى مفهوم مثل “التربية المدنية” وذلك ضمن مفاهيم أخرى تدثَّرت باللباس المدني بكونها صفحة بيضاء، وكأن المفهوم لا يمثل سياقات فكرية وأطرا مرجعية ورؤي فلسفية فيما خلفها، ومفاهيم وظواهر تتعلق بالحياد العلمي يمكن ممارسة هذا الحياد في كل صورة لصناعة التقبل من غير نقد أو فحص.

هذه العناصر جميعا تجعلنا نزكي هذه الدراسة المنهجية النقدية لعالم المفاهيم خاصة تلك التي شكلت حزمة مفاهيمية، كلها تقريبا تنتمي إلى منظومة قيمية غربية المرجعية والتوجه مثل الديموقراطية والليبرالية، والمجتمع المدني و”التربية المدنية”، وحكومة الإنسان، والحكم الجيد أو الصالح والمحاسبة والمساءلة، والشفافية، وكان أكثر هذه المفاهيم شيوعا “العولمة” والتي ظللت تلك الشبكة المفاهيمية جميعا، مفاهيم متعددة أشبه بالطوفان دارت على الألسنة وعقدت لها الندوات والمؤتمرات وحلقات النقاش، وبدت هذه المفاهيم أو بعضها ضمن لغة اكتساحية وترويجية تقتلع الكثير مما يقف بوجهها فهي لا تخرج عن إطار “نهاية التاريخ” المعلقة للانتصار المؤزر لحضارة بعينها والتلويح بالصدام أيا كانت اشكاله (20).

التجريب الشبكي وشبكة المفهوم:

إذا كان ما ذكرنا ينتمي إلى التجربة الأولى على “الشبكة”، والحالة المفهومية التي يمثلها مفهوم “التربية المدنية” Civic Education، فإن التجربة الثانية التي خضنا غمارها على “الشبكة” تتعلق بخطوط “الشبكة” الأساسية وخطوطها العرضية، والتي تشير إلى مفهوم استقر حاله في العلم والمجالات المعرفية وهو في نفس الوقت أحد المفاهيم الحضارية الكبرى؛ ألا وهو مفهوم “التربية“. أما الخطوط الشبكية العرضية فقد تمثلت في الصفة: “المدنية” civic & civil، يحيلنا إلى ذلك أن صفة “المدني” قد أطلقت فيما قبل ضمن مفاهيم وردت إلينا من كل مكان، ومعها جمع عظيم من مفاهيمنا الحياتية والحضارية المهمة، أشرنا إلى أهمها: “الثقافة” ووصفها بالمدنية، و”المجتمع” وإلحاقه بوصف “المدني”(21)، و”التربية” ونعتها بالمدنية، والفكر، وشبكة العلاقات، وأنماط التربية والسلوك.. إلخ، وبدا لي أن أتساءل: ما القاسم المشترك بين الكلمات الموصوفة: “الثقافة” و”المجتمع” و”التربية”؟ ولماذا -من بعدُ- وصفت بالمدني؟!

الكلمات الثلاث التي وردت بشكل مبكِّر عن مفهوم “التربية المدنية”، و”الثقافة”، و”المجتمع”، إنما هي ضمن الكلمات والمفاهيم شديدة العموم، ومن ثم هي ضمن ما أسميناه بالمفاهيم التأسيسية، أو المفاهيم الحضارية الكبرى، أو مفاهيم المظلة.

وقد أوعز لي هذا إلى البحث “على الشبكة” عن المفاهيم الحضارية الكبرى الأخرى، وأن أضيف لها وصف “المدني”، فكانت النتائج شديدة الإبهار في هذا المقام!! إن وصف “المدني” هو وصف شامل لكافة المفاهيم الحضارية تقريبًا ومنظومتها التأسيسية، ومن هنا ألحقنا وصف “المدني” بكلمات كثيرة مثل: المعرفة، والعلم، والفكر، والمنهج، والوعي، والتجديد والحضارة، والثقافة، والتربية، والدين، والتراث، والقيم، والفضائل…إلخ، وما يخطر على بالنا من مفاهيم تأسيس أو مفاهيم حضارية كبرى.

ووجدت تحت هذه العناوين أثناء البحث على الشبكة ملايين العناوين، فكانت صفة “المدني” هي الصفة الناظمة لها؛ ومن هنا وجدت “المعرفة المدنية” و”العلم المدني”، و”الفكر المدني”، بل قد تعجب حين تلم أنك ستجد “المنهج” method ملحقًا كذلك بصفة المدني (Civic method)، وزد على ذلك: “الدين المدني”، و”التراث المدني”، و”القيم والفضائل المدنية”، وغير ذلك مما يتوارد من مفاهيم أخرى(22).

ومن هنا تصورت أن صفة “المدني” يمكن أن تعدّ واحدًا من أهم (الأكواد)codes  والشفرات المهمّة في الحضارة الغربية، إنها حالة تستحق التوقف ولا يمكن بحال إغفالها!! إن المفاهيم الحضارية الكبرى ألحقت بصفة “المدني” – أو العكس- في عملية إلحاق ليست بالهيّنة، وإن صفة “المدني” احتلت فعلاً هذه المفاهيم الحضارية الكبرى واستولت عليها من خلال وصف “المدني”؛ تمييزًا لها عن أي صفة أخرى، فبدت صفة “المدني” –بهذا- تشير إلى رؤية هذه الحضارة الغربية للأمور والأشياء وكليات الحياة، ولكن ضمن أنساقها المعرفية العلمانية Secular paradigms الخاصة بها.

وبدت هذه المفاهيم المحلاّة بتلك الصفة “مدني” وكأنها تشكل قسيمًا

لأصول هذه المفاهيم جميعًا؛ لأنها هي الرابطة الشبكية الجامعة بينها في وضعيتها العولمية، وتظل المفاهيم الفرعية في المجالات المعرفية المختلفة مشتقة منها ومرتبطة بها بحبل سُرّيّ تتغذى منه. إن الصفة الثابتة في عالم المفاهيم حوَّلت أصولَ تلك المفاهيم إلى “المفاهيم الحاوية”  Container concepts(23) .

لقدأُدرجت تلك المفاهيم جميعًا ضمن هذه الصفة، وهي صفة لا تزال تعاني من الغموض وعدم التحديد، ربما سنشير إلى ذلك عند الحديث عن العمليات المفهومية، خاصة “عملية الوضع” التي قد تحاط بمزيد من الالتباس.

ثانيًا- البناء التجريبي للمفاهيم: مفهوم “التربية المدنية” نموذجًا

في إطار البناء التجريبي للمفاهيم قد نهتم بأصول وقواعد تهدف لبلوغ تعريفات “لمفهومٍ” أو مصطلح بعينه، أو نحاول تعريفه إجرائيًا رغبة من أصحاب هذا الاتجاه إلى الضبط وتحويل المفهوم إلى “مؤشرات” متعينة في الواقع. هذا أو ذاك ربما يكون الطريق الأفضل في حال التعامل مع مفاهيم استقرَّ أمرها، أو اتُّفِقَ على تداولها في الجماعة العلمية، أو صارت محلّ إجماع تلك الجماعة إن لم يكن على تعريفها، فربما اتفقوا على أهميتها ضمن المنظومة المعرفية التي يتداولونها بالتبنيّ أو بالاستعمال.

إلا أنه في ظل مفاهيم تتوارد علينا من كل حدب وصوب، وتنتشر في أوساط معرفية كبيرة ومجالات معرفية متعددة، فقد أورثنا ذلك حالة من السيولة المفاهيمية وعمليات انتقال مفاهيمي من مفاهيم إلى أخرى للدلالة على ظاهرة تكاد تكون واحدة.

مثال ذلك مفهوم “المجتمع المدني”، و”المنظمات غير الحكومية”، و”القطاع الثالث”، و”قطاع المواطنة”.. ومفاهيم أخرى جاءت إلينا لتعبر عن حالة من تلقي المفاهيم داخل دولنا والتعامل معها بالتبنيّ دون أدنى فحص أو بحث، وهو أمر أسميناه من أجل ذلك: “مفاهيم الموضة” أو “الصرْعات المفاهيميةً” على ما يعرِّبها الشُّوَّام فيطلقون على الموضات “الصرْعات”؛ لبيان الحالة المرضية وحال الولع والانبهار، والتبني بلا حساب، وارتداء المفاهيم والتدثُّر بها بدون مناقشة عمليات ملاءمتها أو مناسبتها أو فاعليتها أو كفايتها أو استجابتها لاحتياجات مجتمعية حالَّة وأكيدة(24) .

البناء التجريـبي – إذن- فعل متكامل يُرى كعملية ممتدّة ومؤثرة تحاول رؤية “المفهوم” ضمن سياقاته الكلية، وفحص منظوماته، وتبصُّر عناصره ومستوياته، وتقديم محاولة نقدية لعالم المفاهيم في بنائه الذاتي، أو في استخدامه الفعلي والواقعي، أو استشراف واعتبار مآلات هذا المفهوم وقدراته وإمكاناته، فضلاً عن التطرق إلى إمكانات “العملية البنائية”: (بناء أو إعادة بناء المفهوم) وتوابعها من إمكانات التفعيل والتشغيل(25).

1- الحالة المفهومية:

الحالة المفهومية من القضايا الشديدة الأهمية، وهي تنصرف إلى البحث في اتجاهات عدة:

* حالة المفهوم ومكانته في البيئة المعرفية: (الوصف).

* حالة المفهوم ومكانته لدى الجماعة العلمية: (المتعاملون).

* حالة المفهوم والواقع الذي يتعامل معه: (السياق).

* حالة المفهوم ودرجة عولميته: (سياقات العولمة).

إن هذه الحالات المفرَدة التي أشرنا إليها في تلك المستويات، إنما تشير إلى عناصر التقسيم الموضوعي لتيسير الدراسة العلمية فحسب، إلا أن هذا لا يمنع من التطرق إلى حال التفاعل بينها جميعًا، فيما يمكن أن نسميه: “جدل الحالة المفهومية الجامعة“.

2- دواعي بناء المفهوم:

أما الخطوة الثانية فهي تتعلق بالدواعي التي تدفعنا للبحث في هذا المفهوم، والتعامل معه بما يليق من أسس علمية وقواعد منهجية:

– الداعي المعرفي والعلمي.

– الداعي الفكري والثقافي.

– الداعي الحضاري والتفاعل الحضاري.

– الداعي المنهجي.

– الداعي المتعلق بمتطلبات الواقع.

– الداعي العولمي.

– أما الداعي الجامع للتفاعل بين جملة الدواعي المختلفة فإنما ينصرف إلى إعمال القاعدة الكلية: “لا يؤخَّر البيان عن وقت الحاجة”.

* فالبيان حالة مطلوبة وحالّة.

* والبيان له وقت، والتأخير فيه تقصير علمي وبحثي وَجَبَ تلافيه أو تداركه من غير إبطاء.

* والحاجة تمثل عناصر “الداعي” الذي يصل في أقصى صوره إلى الضرورات، وقد يمثل عناصر “الحاجة” الدافعة إلى التناول.

3- توجهات البناء المفاهيمي:

“المفهوم لا لزوم لبنائه أو محاولة المناقشة حوله”(26)؛ هكذا ادعى البعض، وضمّوا على هذه الدعوى النتيجة دعاوى كالمقدمات الظاهرة والكامنة، الظاهرة ظهور التبجّح أحيانًا أو ظهور الغفلة أحيانًا أخرى، والكامنة كمون المكر أحيانًا أو كمون الغفلة أيضًا في أحيان أخرى:

– ادعاء الوضوح.

– ادعاء الطابع العملياتي.

– ادعاء الطابع العولمي.

– ادعاء الطابع الإنساني.

– ادعاء “مَنْ يملك المفهوم، يملك حق تصديره”: (التفوق الحضاري).

– ادعاء النقل الأمين: “حق نقله”.

– ادعاء الفائدة المطلقة للمفهوم لواقعنا: (حُجية المفهوم).

– ادعاء إضاعة الوقت بالتعامل مع المفهوم.

– ادعاء أن كل إنفاق للجهد الذي يتعلق بالفحص المعرفي المفاهيمي إنما هو مماحكات لفظية(27)؛ إذ  “لا مشاحّة في الاصطلاح”.. مغفلين أن ذلك يصح فقط عند الاصطلاح بمعنى الاتفاق والإجماع، ولكن المقصود: (لا مشاحة في فرض الاصطلاح والترويج له): (إنه صنيع التمهيد والتعبيد لسبل المفهوم ونقله واستعماله واستفحاله، والتهديد لكل من يخرج عن نصّه وعن حدوده..).

– عمليات التعليب المفاهيمي (التبليع).

يمكننا أن نرصد بعض التوجهات المختلفة لبناء المفهوم فيما يلي:

أ)- محاولات البناء الإجرائي للمفاهيم:

مفهوم التربية المدنية للاعتبارات التي تتعلق بطابعه العملياتي هو من جملة المفاهيم التي تُبنى إجرائيًا(28)، بل هو من خلال تعلقه وارتباطه بقضايا معينة ضمن تعريف هذا المفهوم، صارت هذه التعلقات “مشروع مؤشرات” في البناء الإجرائي لمثل هذا المفهوم. وتبدو هذه القضايا المختلفة (التسامح، العنف، التعصب، ثقافة السلام، قبول الآخر، حقوق الإنسان المشاركة، التصويب، الانتخابات)، وغير ذلك مما استقر الأمر على دخوله في اهتمامات هذا المفهوم.

وتعد إجرائية المفهوم ومصدريته ومرجعيته تحدد منظومة المؤشرات في هذا المقام، ويعد الترويج للطابع العولمي ليس إلا ترويجًا لمنظومة المؤشرات، وهذه التعريفات تعد جزءًا من تمكين مفهوم التربية المدنية في كثير من مناطق العالم.

وتبدو للطبيعة البرامجية كذلك دخلاً في العملية الإجرائية المفاهيمية على الرغم من الطبيعة الانتقائية لبعض المؤشرات وفق اعتبارات الهيئات الممولة ومصالحها المباشرة في هذه المناطق، وفي هذا المقام يمكن النظر إلى فلسطين بحيث يتركز الأمر على قضايا العنف والتعصب والتسامح بما يتوافق مع ما سمى ثقافة السلام في إطار عمليات تطبيع ممتدة، وذلك على الرغم من عناصر التربية العنصرية الطافحة في إسرائيل، وهي واحدة من الأمور التي تجعلنا ننظر بعين الارتياب لبرامج التربية المدنية وأهدافها(29) .

ب)- محاولات التنميط المفاهيمي المفاهيم ISO:

وضمن هذا السياق العولمي تتحرك المفاهيم صوب عمليات التنميط المفاهيمي وقواعدها، التربية المدنية تمثل حالة تجريبية في هذا المقام، إذ وجدنا على الانترنت عناوين واهتمامات تشير إلى ISO لتلك المفاهيم وهي في الواقع ليست بعيدة عن محاولة البناء الإجرائي، وهو عملية تشكل استمرارية في تنميط المفاهيم في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، ضمن عملية تشكيل واسعة، ومشروعات بحثية تقوم عليها هيئات ومن ضمنها هيئة اليونسكو في مشروعها حول intercocta (30) وضمن خريطة التوجهات العامة يمكن تصنيف توجهات البناء ضمن المستويات الآتية:

ج) – التوجهات المعرفية:

التي ترى في المفهوم نموذجًا معرفيًا يمتلك نظرية معرفة ورؤية للعالم، وفلسفة المفهوم، واستناداته المعرفية والثقافية والحضارية، فضلاً عن الارتباط الذي لا ينضم بين جملة المفاهيم الحضارية واستيلاء المدني عليها.

د)- التوجه التربوي والتعليمي:

والذي يرى المفهوم ضمن حياضه ومجاله الذي يرتبط بالعمليات التعليمية والتربوية، والنظام التعليمي والتربوي، والأداب المختلفة، وغالبًا ما يضمن هذا التوجه تلك الأدوات وعناصر فاعلياتها (المعلم، والطالب، والمساق المقرر، والنشاط الطلابي، والأدوات التعليمية) ناظمًا بين كل ذلك وموضوعات وقضايا التربية المدنية مؤكدًا على عمليات البرامج والتدريب والتطبيق.

هـ) – التوجه السياسي والممارسة الأيديولوجية:

والذي يؤكد على الطابع العولمي الذي يحمله مفهوم التربية المدنية، ضمن عمليات التطويع والتطبيع والتأهيل التربوي لمناطق تمثل المصالح المختلفة لقوى سياسية وعالمية ذات سياسات تتعدى حدودها وربما تشمل المعمورة، من مثل السياسات الأمريكية ومشروعاتها فيما يسمى بالمشروعات الإصلاحية من مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير ومبادرات الإصلاح، ويرتبط بذلك بالضرورة توجه يقع تحت هذه الفئة في مفهوم التربية المدنية. وهو توجه التحويل العقيدي وتطويع الطابع العام “تطبيع التربية المدنية” أيديولوجيا المفهوم ومفهوم الأيديولوجيا.

و)- التوجه المصلحي في بناء المفهوم وعناصر السياسة الكونية.. تمهيد الأرض للسيطرة الكونية من خلال النسق القيمي والتربوي والثقافي.

4)- الوسط المفهومي ومنهج النظر السياقي للمفهوم

من أهم النقاط التي تتعلق بالبناء التجريبي للمفهوم هو بالبحث في الوسط المصدر للمفهوم وسياقاته المختلفة، كما أنه قد يهتم كذلك بالوسط المستقبل ضمن دراسة حالات بعينها، ومفهوم الوسط أو بيئة المفهوم لا تقتصر فحسب على مجرد الإشارة إلى البيئة المادية ولكنها تمتد كذلك لتتعامل مع الوسط الفكري للمفهوم، المفهوم بهذا الاعتبار عملية اتصالية لا يمكن فهمها إلا في سياق وسط هذه الرسالة والبيئة المتحكمة فيها.

وفي السياق التجريبي المفاهيمي على الشبكة الدولية مثلت كذلك عناصر الوسط كمحاولة تجريبية في البحث، وقد تكاملت تلك العناصر ما بين فلسفة المفهوم وعلم اجتماعه وعلم سياسته وكذا علم النفس الذي يرتبط به، وكذلك علم إعلام المفهوم وعمليات ترويجه، وقبل هذا كله علم تاريخ المفهوم وتطوره. المفهوم بهذا الاعتبار سيرة ومسيرة وسيرورة(31) .

5)- مستويات بناء المفهوم: عملية التشريح

أما عن مستويات المفهوم وما تركه ذلك على عمليات استعماله فإن دراسة ذلك من الأهمية بمكان، وهو أمر يدخل في عملية تشريح المفهوم تارة من حيث عناصره ومكوناته، وتارة أخرى من حيث مستوياته.

عملية التشريح المفاهيمي تحث على تتبع تفعيل “المفهوم” على مستويات عدة، ومن ثم فإن مفهوم “التربية المدنية” له مستويات متعددة تجدر الإشارة إليها:

(1) هذا المفهوم الذي برز ضمن الكتابات الغربية، برز أول أمره ذا ارتباط بعالم مفاهيم “التربية” داخل مجتمعات الغرب(32) ، وخاصة بالمجال الذي يُعنى بإقامة وتقويم الديمقراطيات في داخلها. “التربية المدنية” – إذن- هي الرابطة بين حقل “التربية” والمثل الأعلى الديمقراطي، وذلك في سياق أن “الديمقراطية” -بحكم التعريف- هي طريقة حياة Way of life.

(2) ثم في المستوى الثاني بدا المفهـوم يخرج عن حدود “الدولة -القومية” إلى سائر النمط الحضاري الواحد (الغرب)، بل إلى خارج النمط الحضاري الغربي، وفي ذلك إشارة إلى ما قامت به الدول الغربية المنتصِرة في الحرب العالمية الأولى والثانية إزاء الدول المهزومة(33) في إطار شامل لتأهيل هذه الدول، حيث بدت “التربية المدنية” – في هذا الإطار- مدخلاً لتطويع نمط الشخصية والطابع القومي. تبدو ألمانيا واليابان مثليْن لا يمكن التغافل عنهما في هذا المقام.

بل ذلك النموذج الترويضي من خلال “التربية المدنية” وإعادة تطويع الطابع القومي للدول والأمم، ظل مثالاً يُضرب لرغبة الدول الكبرى في “إعادة تأهيل” بعض المناطق حتى تجلّى النموذج أخيرًا في مشروع “الشرق الأوسط الكبير” وغيره..

(3) أما المستوى الثالث فهو يتفاعل بين الداخل والخارج في إطار ما أحدثته قضية “الهجرة” من آثار على الداخل، خاصة بعد توارد موجات الهجرة الشرعية وغير الشرعية من أنماط حضارية مختلفة ومتنوعة. لقد كان ذلك أمرًا شديد الخصوصية في الحالة الأمريكية التي تكونت من مجموعة من العرقيات والثقافات والتكوينات الحضارية المختلفة. وفي هذا المقام برز مفهوم “التربية المدنية” لإحداث حالة من التوافق الداخلي وأصول التعايش المدني، في ظل عملية تربوية ممتدة تتوسّل ما يمكن تسميته بالتعليم المدني(34) .

عملية التأهيل التربوي في سياق “التربية المدنية” ليست إلا عملية إعادة تأهيل وتربية مدنيًّا، وذلك لتيسير اندماج المهاجرين أو الوافدين في مجتمعاتهم الجديدة، وفق نظمها العامة واتساق قيمها. لا يمكننا أن نغفل رؤية قضية “الحجاب” في فرنسا ثم سائر أوروبا في هذا السياق.

(4) أما المستوى الرابع فهو مستوى عالمي وعولمي، برز ضمن سياقات تطورت مقولاتها في شكل تكاملي لا يمكن أن تخطئه عين. برز هذا التوجه ضمن مسارات ثلاثة مهمة:

الأول– “الثقافة المدنية”،(35) والذي برز وشاع مع كتابات “التنمية السياسية” و”الثقافة السياسية” وعمليات “التنشئة السياسية”، ليعبر بذلك عن التأسيس الثقافي الفكري للمنظومة العولمية (صياغة عالم الثقافة والأفكار).

والثاني– مفهوم “المجتمع المدني”(36)، والذي هَدِفَ إلى صياغة متميزة لشبكة العلاقات الجمعية والاجتماعية والمجتمعية. مفهوم “المجتمع المدني” وتحريكه صوب “العالمية” مع صياغة مفهوم “المجتمع المدني العالمي”، أتاح مسارًا مهمًّا واضحًا.

أما الثالث فيرتبط بمفهوم “التربية المدنية” الهادف إلى صياغة أنماط التربية والتعليم وما تنتجه من أنماط سلوك. وبدا المفهوم في سياق العولمة كإحدى أدوات بناء مفهوم “العولمة” نفسه كعملية globalization لها مجالاتها، وأهم مجالاتها تتمثل في: “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”السلام” كصياغات فكرية وأيديولوجية، بدت العولمة تغطي هذه “العمليات” والمجالات لتكوّن الغطاء الفكري الأيديولوجي globalism(37).

مفهوم “التربية المدنية” حينما يتخطى مجرد البعد الخارجي ليصير بعدًا عالميًّا وعولميًّا إنما يتحرك في صورة برامج عالمية وعولمية، غالبًا ما احتلت كافة أرجاء المعمورة على اختلاف مناطق الاهتمام وزوايا التركيز.

(5) المستوى الخامس هو محاولة الولايات المتحدة، في إطار سياسة “الامبراطورية الكونية”، إعادةَ تأهيل العالم ليناسب هذه السياسة،  خاصة مع بروز مفهوم “الدول الفاشلة” Failing states؛ حيث ترافق مع بروز هذا المفهوم ضرورة مواجهة هذه الدول في سياق “عملية التأهيل”(38).

عملية “التأهيل” و”إعادة التأهيل” في هذا المقام، وصلت في إحدى صورها إلى عمليات الصدام العضوي و”العمليات الجراحية العسكرية” كما يحلو للبعض أن يسميها، كما اتخذت “عملية التأهيل” أساليب مثل الحصار الاقتصادي و”العقوبات الذكية”، وبدت تواجه دولاً قد تهتم بعمليات التسلح مثل العراق في إطار فزّاعة “أسلحة الدمار الشامل في العراق”، أو الدول التي تأوي الإرهاب مثل أفغانستان، وبدت هذه العمليات الجراحية تُشيع حالة من “تخويف الدول الأخرى أو التخويف منها أو بها..”، وذلك في إطار صياغة مشروع يقوم على قاعدة من الفكّ والتركيب، مشروع يصل بين تلك المقامات والعناصر من خلال “عمليات تأهيل”.

وظلت من الأدوات – غير أداة “الحرب” على “الدول المارقة” أو دول “محور الشر” أو أداة التهديد بها، أو مشروعات إعادة الفك والتركيب في منطقة تشكل قلب العالم: “الشرق الأوسط الكبير”- وترافقت مع هذه السياقات والمشروعات وربما سبقتها، برامجُ “التربية المدنية” المتعلقة بنظام التعليم والخطاب الديني، وكذلك عمليات “التحول الديمقراطي” والتبشير بها، ومحاولة تكديس هذه النماذج وفق ما أسمته في الآونة الأخيرة: الإصلاح “Reform”، وربما أضيف لها كالعادة صفة “المدني”: Civil Reform!(39).

6)- العلاقات المفاهيمية:

بدت كافة المفاهيم العولمية كمفاهيم منظومة وحزمة، إلا أن المنظومية التي كانت في تلك المفاهيم لا تستند إلى مجرد أسس معرفية، ولكن تستند بالأساس إلى عمليات الترويج والتسويق التي ترتبط بمثل هذه المفاهيم. وكمثال لتلك المفاهيم يمكن التمثيل بالصفة: “المدني“، التي تربط بين مفاهيم تأسيسية كما سبقت الإشارة.

وهذه المنظومات المفاهيمية تعبر عن جملة من العلاقات شديدة التنوع

يمكن صياغتها من خلال:

الاستعارة المفاهيمية، والمفاهيم الرحّالة، والحراك المفاهيمي، والمشترك والمختلف المفاهيمي، والأدوار المفاهيمية، والمفاهيم الوظيفية، وتأثيرات المفاهيم الحضارية .. وفي النهاية تأتي عناصر”المفاهيـم المنظومـة” التي تشير إلى عناصر “الشبكة”، أو أسرة المفاهيم، أو شجرة المفاهيم، بما توحي بها هذه الاستفسارات من معانٍ نظمية يجب ملاحظتها والتوقَّف عندها وعليها(40).

أسرة المفاهيم وعملية التـنسيب المفاهيمي (شجرة العائلة)(42)

7)_ القدرات والإمكانات المفاهيمية:

دائمًا هذه المفاهيم التي تشكل عالم “الصرعات المفاهيمية” أو “الموضات” غالبًا عند دخولها ما تستصحب عناصر وآليات(43) لا يمكن أن تخطئها عين:

1) فريق يتبنى هذا المفهوم محاولاً تشييعه وترويجه: هذا الفريق الذي يتبنى هو الفريق الناقل، وهو لا يسوغ فحسب نقل المفهوم، بل عليه كذلك أن يسوغ عملية النقل المفاهيمي ذاتها.

2) حركة ترجمة وتعريب لكتابات تتعلق بهذا المفهوم بل وترجمة أدلة للمعلم والطالب، وفي استهانة ومهانة في هذا المقام يتم رفع اسم البلد الذي تم فيه التأليف، ووضع اسم البلد الأخرى.

3) حراس بوابات للمفهوم ينتقلون من ريادة نقل المفهوم، إلى حراسته من كل دخيل عليه، بل هو دائمًا ضمن عقلية صائبة يحرص على أن يعلِّم من تأخر في الإطلاع على المفهوم “ما يدخل فيه” و”ما يخرج منه” وفق نقل خبرة المفهوم الحضارية في بلد المنشأ أو حضارة ميلاده إن صح هذا التعبير.

الاستعارة وعالم المفاهيم: مفهوم التربية المدنية:

“الاستعارة” و”الارتحال المفاهيمي”، و”الهجين في عالم المفاهيم”.. كلها مسائل تشير إلى علاقات في ذلك العالم، ولكنها عمليات تفيد الحركة، كما تفيد إدخال شيء على شيء أو مفهوم على آخر، أو من مجال معرفي لآخر أو من نمط حضاري إلى آخر.. كلها عمليات تشير إلى عمليات من التفاعل الحضاري.

وفي حقيقة الأمر نحن أمام أمر، يجب أن نتوقف عنده؛ وهو حال “تأميم عالم المفاهيم الكبرى” لمصلحة صفة “المدني” في حال “مصادرة” كبرى وعملية استيلاء على معظم المفاهيم الحضارية الكبرى، في إطار عملية “إلحاق” كبرى لتلك المفاهيم بتلك الصفة، وهو أمر يمكننا أن نلحظه بيسر في إطار تصويرنا لباب العلاقات المفاهيمية (مفاهيم الحضارة والثقافة والدين والفكر والعلم والمنهج والتجديد والوعي والمعرفة والمجتمع والقيم وغير ذلك من مفاهيم) إنها الخبرة الحضارية الغربية حينما جعلت صفة المدني هي مجال شفرتها الحضارية والكود الحضاري الذي يمثلها ومفتاحًا ليس لتميز هذه الحضارة فقط وإنما كذلك لنشرها.

فآثرت تلك الحضارة -في عملية استيلاء كبرى- أن تتحرك صوب تلك المفاهيم الأساسية والتي تمثل “حياض الأمم” وربما مجال تميز هذه الأمم وحضاراتها وامتيازها فألحقتها بعالمها ومصالحها ورؤاها. فلكى تعبّر عن أي “ثقافة” لابد أن تكون  “مدنية” حتى تملك تقدُّمها من ناحية وفاعليتها من ناحية أخرى، وأي ثقافة أخرى غير “مدنية” فهي قد تُنعَت بكل الأوصاف السلبية بدءًا من التخلف ومرورًا بالتسلط وانتهاءً بالإضرار بالعالم وسلامه وانسجامه! كذلك الأمر في كافة المفاهيم الحضارية الأخرى.

وكأن صفة “المدني” لعبت دور المصادرة لتعبر عن مقولة شديدة الخطورة، في قيمٍ لها ذاكرةٌ تاريخية من مثل التسامح، وحقوق الإنسان، والتفكير النقدي، والحوار الفعّال.. فلا يعقل أن الحضارات لم تعرف مثل هذه القيم أو تجلياتٍ لمثل تلك المفاهيم.

إلا أن إصرار الحضارة الغربية في عملية إعادة كتابة التاريخ العالمي وفق قواعد تحقيب فرضتها نفس هذه الحضارة الغالبة في هذا المقام، وكأن التاريخ لم يبدأ إلا بنهضة الغرب، وكأن هذه القيم لم تولَد إلا مع “تنويره”… في البدء كان الغرب، و”الغرب في المنتهى”.. الغرب المنتهي لم يكن إلا حالة نموذجية لإبراز فكرة “نهاية التاريخ” والانتصار المؤزَّر لليبرالية الغربية.. وأن “إسدال الستار” و”القيامة الحضارية” لن تكون إلا على صورة حضارة الغرب الغالب والمنتصر(44) .

مرة أخرى تبرز فكرة المدني لتعبر عن جوهر ما يسميه الغرب بعالميته أو عولمته في إطار منظومة من المفاهيم والأفكار أُلحقت بـ”المدني” من دون معقِّب، وعلى من أراد الالتحاق التحقَ، وفي رواية أخرى: “أُلحق”؛ ألحق شاء أم أبى؛ لأنه يهدد قيم الحضارة، وقيم “المدنية”(45).

وفي هذا المقام سيجدون -ومن كل باب وفي كل طريق وفي كل مكان- من يضفي صفة “العالمية” على تلك القيم، أو العولمية، أو بتعبير آخر: معنى “الإنسانية”.

وغاية الأمر في ذلك، أن نرى كيف أن هذه “المنظومة الإلحاقية” مارست سياسات واقترفت مساراتٍ هي في غاية الإهدار لما أسمته “القيم الإنسانية”، حينما احتكرت تفسير مدلولات هذه القيم، واحتكرت أدواتها، واحتكرت اضفاء المعنى عليها، ومارست إعطاء “براءات الذمة”، ووزعت “أدلة الاتهام”، ونصبت من نفسها حارسًا وقاضيًا على الدنيا، وأصرت على من شذَّ عن سياستها أن يدخل “بيت الطاعة”، فأما من تاب وأناب، وامتثل وخضع وأذعن (هذه التعبيرات التي استخدمت في الخطاب الدولي)، فإنه قد يظفر بصكوك الغفران ضمن محاكمات لكافة أرجاء المعمورة، وغطاء لجملة من التشوّهات الفادحة في النظام الدولي(46).

وفي الحقيقة فإن “المدرس الفاشل” الذي يدّعي بقوته أنه يمتلك الحُجية والمصداقية، ويجعل من نفسه معيارًا للحق والحقيقة، ويمارس كل عمل مضادّ لمعاني الحرية والعدالة، ويمارس العدوان باسم التحرير في تعدًّ سافر على “المفاهيم”، وكأنه أسر كل تلك المفاهيم في سجن جوانتانامو من جملة من أسر، وأخرجها حيث أراد وكيفما رغب. فهل تكون “التربية المدنية” واحدًا من من أهم أدوات صياغة العالم صياغة غربية على طريقة “واصطَنَعْتُك لنَفسي”، و”على أعيننا”، هل تكون التربية المدنية لها صلة من الصلات بهذه المشروعات والبرامج التي ترى هنا أو هناك؟.

فإذا كانت “التربية المدنية” هي استبدال للتربية “الوطنية” التي أصَّرت أن تؤسس لشروط استمرارية “الشبكة الاستبدادية” من خلال “ثقافة التعبئة” و”التدريب على المهارات الثقافية للجماهير”، وتكريس وتأهيل “المواطن” ضمن حركة إذعانية يومية أو تكاد –فأنتجت هذه “التربية الوطنية” عناصر مواطنة شائهة تخرج من ذراريها “المواطن-العبد“، فإن “التربية المدنية” أصرت -وبنفس الأطر التعبوية (برامجيًّا وتمويليًّا وغير ذلك)- لتؤصل معاني “القابلية لاستبداد عولمي”، وإن لبست ثوبًا ظاهره الرحمة وباطنه من قِبَله العذاب.

8)- التجريب المفاهيمي: من خلال نموذج توماس كون المعرفي

ولا يمكننا في هذا المقام أن نسرد من الشواهد والحجج التي تؤكد ذلك. ولكن من الممكن أن نحيل إلى أكثر من مسارٍ للحجج التي تؤكد على معاني الهيمنة من خلال الصياغة لأنماط السلوك والممارسة.

وفقًا لما أشرنا إليه من الإمكانات والقدرات، فإن الأمر جدير بالتجريب وفق أصول “توماس كون” حينما أشار إلى فكرة “النموذج المعرفي” paradigm(47).

هذه الأصول التي جعلت من فكرة “النموذج المعرفي” حجر الزاوية في كتاب “كون”؛ وذلك من خلال اشتمال هذا النموذج على عناصر خمسة(48):

في هذا السياق يمكن التفاعل التجريبي وفقًا لهذا “النموذج المعرفي” لدى “كون” مع نقطتين أساسيتين:

الأولىالجماعة العلمية والسياقات المرجعية: وفي هذا، يؤكد أستاذنا الدكتور “عليّ الدين هلال” أن علم السياسة – وصحبة من علوم اجتماعية وإنسانية- يعاني من أزمة مركَّبة، تتفرع لأزمات(49) ثلاث:

* أزمة توجّه واتجاه.

*وأزمة أصالة.

* وأزمة وظيفة.

علاقة الجماعة العلمية بهذه الأزمات من جهة وعالم المفاهيم من جهة أخرى يحيلنا إلى “أزمة الاستهلاك المفاهيمي” والتي تتحرك صوب الأزمات الثلاث:

* الاستهلاك المفاهيمي يعني التعامل مع “الجاهز المفاهيمي(50) في سياق ربما تلخصه في معظمه الكلمات: “اكتب ما يُملى عليك“‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! جاهزية المفهوم من حيث الإعداد لا تعني بحال صلاحيته أو ملاءمته، إن قاعدة الاستهلاك التي تتعلق بالمعاني الإعلامية والترويجية لا يمكن بحال أن تشكل القاعدة الصواب في “عالم المفاهيم”، فالمفاهيم عالم علم لا عالم سوق!!

والمفاهيم المعلَّبة لا يمكن – بحالٍ- أن تحقق المقصود على أرض الواقع. الاستهلاك المفاهيمي يحيلنا إلى أزمة التوجُّه والاتجاه، فإذا كانت الوجهة هي استهلاك المفاهيم الغربية أو العولمية أو الأمريكية، فإن ذلك لا يمكن أن يؤدي بنا إلى عمل بحثي أو منهجي رصين، ولا يمكن أن يؤتي أُكله إلا في ظل “علاقة تبعية” بين المستهِلك والمنتِج، تصل إلى حالة من “السلوك الاستهلاكي في عالم المفاهيم”.

واستهلاك “مفاهيم الآخر” تحيلنا كذلك إلى “أزمة الأصالة”، والتي تتعلق بشروط فاعلية عالم المفاهيم على أرض الواقع، وفي نفوس الناس، وفي صياغة الشبكة المفاهيمية المتعلقة بصياغة شبكة العلاقات الاجتماعية وشبكة أنماط السلوك.. إنها عملية تربوية كاملة لا يمكن بحال أن نتغاضى عنها.

و”الأصيل” المستجيب لحاجات الناس والمحفِّز لتوليد فاعليات البشر هو الذي يصل إلى المقصود ويؤدي دوره الوظيفي بإحسان، فتقترن “أزمة الأصالة” بأزمة “الوظيفة” التي تقترن بدورها بمدى الفاعلية والملاءمة والكفاءة والكفاية، .. مسائل بعضها من بعض، تتواقف على بعضها وتتفاعل.. إنها القضايا التي تتعلق بعناصر الصحة والصلاحية على قول “مالك بن نبي”، أو “جغرافية الكلمة” على ما أشار إليه “علي شريعتي”(51).

لسنا هنا أمام مجرد ثنائية غالبًا اختُرعت على نحو متناقض تؤكد على “الأصالة والمعاصرة”، وكأنهما متنافيتان، وكذلك دعوى “الخصوصية والعالمية” وكأنهما إذا حلَّت إحداهما ارتفعت الأخرى، لاستحالة الجمع بين المتناقضين.

وواقع الأمر أن البحث في هذه القضايا -ونحن بصدد دراسة مفهوم “التربية المدنية”- يدفعنا إلى أن نتعرف على محتوى هذه الثنائيات، ومقام الافتعال في بنائها، ومقام استجداء النتائج المترتبة عليها. إنها في الحقيقة “أصول منهج النظر” التي يجب أن تشيع في الأمة؛ تحدد فيها وبها عناصر قبلتها واتجاه بوصلتها، والمنهج الذي تختطّه والهدف الذي تتغيّاه..

قبول المفهوم وقابلياته لابد أن يحمل الشروط الحاكمة لتوجهه وأصالته ووظيفته، ومن دون البحث في هذه القضايا بما تستحقه من أدوات لازمة للقيام بذلك لا يمكننا إلا التعامل استهلاكيًّا أو إلحاقيًّا في عالم المفاهيم، بغضِّ النظر عن ضررها ونفعها.

المرجعية(52) -في عرفنا- ليست تلك المسائل التي تشكل التأسيس القاعدي من أفكار في ذهن وتفكير وعمل الجماعة العلمية، بل هي أبعد من ذلك، وتتعلق بنقاط ثلاث:

الأولى– كيف تتحول الجماعة العلمية إلى جماعة مرجعية ذات حُجية ومقبولية ومعقولية وفعالية؟

الثانية– شبكة “الإسنادات المرجعية” التي تشكل مصادر التأسيس والتفعيل والتشغيل، وعمليات البناء. قضية المصادر ليست مجرد قضية شكلانية خاصة في عالم المفاهيم والمصطلحات.

الثالثة– أصول الواقع وخريطته كمرجعية، إن أي جماعة علمية تفقد صفتها الجمعية كما تفقد عناصر الحجية إذا انفصلت عن واقعها واغتربت عن جهازها المفاهيمي، وأصول مرجعيات الواقع هنا كأصل من قواعد المرجعية يعني أن للواقع مشكلات وتحديات، كما له متطلبات واحتياجات وضرورات، ومن الواجب أن نتعرف على ما يفرزه الواقع ويؤديه من قضايا “حالّة” واجبة التناول والتعامل الفوري، وأخرى استراتيجية تحرك أصول تفكير منهجي ممتد وعميق وفعّال.

إن هذا -في أبسط صوره- ليس إلا إشارة إلى ما يمكن تسميته “بالإشكالات الأجدر بالتناول” أو “وضع الأجندة البحثية”.

الجماعة العلمية وفقًا لهذا التصور الرابط بينها وبين المرجعية إنما تترك آثارًا مهمة على المفهوم الذي نحن بصدد التعامل معه وهو التربية المدنية.

هذه الجماعة غالبًا ما تضفي على نفسها صفات الريادة في استخدام المفهوم والتبشير به، وقد يرتبط ذلك ليس فقط بمجرد أفراد داخل الجماعة العلمية، بل ربما يختص بذلك مؤسسة أو أكثر، وتشكل هذه الجماعة مع امتدادها وتعرفها “جماعة مصلحة” في هذا المقام، ومن هنا سنرى في كثير من الأحوال من ينبع اسمه بصفة الخبير، أو الباحث في هذا الشأن.

وغالبًا ما تشكل تلك الجماعة مجالها الحيوي وتؤصل عناصر ارتباط مع مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بهذا المفهوم. وغالبًا ما تقدم الخبرات وبرامج التدريب، وتحاول هذه الجماعة أن تظهر قدرًا من التماسك في الدفاع عن مصالحها المعرفية والعلمية والمادية. وتستخدم آليات إقناع لجماعات بحثية في تشييع الفكرة، بشرط أن تتبعها.

وقد ترتبط هذه الجماعة بمؤسسات تمويلية في الداخل أو الخارج وفق اهتمامات هذه المؤسسات بموضوعات وقضايا التربية المدنية، وضمن شبكة الاتصال التي تحرك ما يمكن تسميته بالمجتمع المدني العالمي، ضمن مؤسساته المستحدثة وفقًا لمقتضيات وشروط الطبعة الغربية في هذا المقام.

نأتي إذا إلى النقطة الثانية والتي يجب التوقف عندها والبحث في مكامنها وتعلقاتها، ألا وهي المتعلقة بعناصر النموذج المعرفي، ومع الاعتبار الذي نتجاوز فيه عن المسوغات والقواعد والمداخل التي تجعلنا نعتبر “مفهوم التربية المدنية” نموذجًا معرفيًّا مهمًا في هذا المقام Civic Education Paradigm””.

وضمن سياقات التجريب الذي جعلناه مسارًا للتعامل التجريبـي مع المفاهيم يعتبر نموذج توماس كون دالاً في هذا المقام، إذ مع الممارسة البحثية للأطر الخمسة للنموذج المعرفي فإن مفهوم التربية المدنية والبحث عن أطره الخمس أعطى نتائج مهمة تؤكد ذلك الأمر، فضلاً عن إشارات صريحة من غير تأويل لعناوين ومقالات حول النموذج المعرفي للتربية المدنية.

إن رؤية العالم لمفهوم التربية المدنية أشار ومن أقرب طريق إلى ما يمكن تسميته بالنموذج المعرفي المدني  Civic & Civil Paradigm(53).

وهي صياغة تؤسس على النموذج العلماني والقانون الطبيعي، وتحاكي رؤية لتهميش الدين وتنتج أنساقًا معرفية وقيمية وسلوكية خاصة بها. فضلاً عن ذلك فإن أنساق التربية تشكل قواعد لرؤية للعالم وفقًا لأسس حضارية ومعايير غربية لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن رؤية العالم للتربية المدنية.

وللتربية المدنية إطارًا مفاهيميا تحدثنا عنه وعن منظومتها، وهي  تشكل حزمة كلية وتصورًا منظوميًا مفاهيميًا.

كذلك فإن التربية المدنية ملكت إطارها التحليلي وسياقاتها التحليلية، وملكت مستويات تحليل ووحدات تحليل تهتم بها وفقًا لمقتضيات العملية التربوية وعناصر تفاعلها في المنظومة التربوية وفاعليتها.

وكذلك فإن التربية المدنية تملك قواعد تفسيرها المستقاة من معايير المدني Civic & Civil والمقتضيات للحكم على الظواهر والمواقف والأشياء وأنماط السلوك، فمن المهم أن نشير إلى وجود الظاهرة المدنية، والمواقف المدنية والوعي المدني والسلوك المدني.

وضمن هذا السياق لا يمكن بحال أن نتغافل عن علاقة التربية المدنية بأجندة كاملة ومتكاملة، إلا أنها في ذات الوقت انتقائية وفق قواعد المصالح وعناصر الاهتمام ولا يمكن بحال فك ارتباط هذه الأجندة بدول المنشأ بالاعتبار الذي يشير إلى طبيعة مفهوم التربية المدنية وتطويره ليكون مفهومًا عولميًا قابل للتوظيف والتوطين لتحقيق أهداف سياسية ومصلحية.

وفي هذا المقام لابد وأن تثار عملية وضع الأجندة التي قد تشير إلى عملية صناعة واسعة، في إطار تابع لا نابع، فتظهر فجوة أكيدة بين صناعة الأجندة والإشكالات الأجدر بالتناول والأكثر مناسبة ولياقة بالواقع الذي تُمارس فيه.

كما أكدنا فيما سبق فإن مفهوم التربية المدنية يبدو مفهومًا برامجيًا إجرائيًا ذا طابع عملياتي وهو بهذا الاعتبار، ولمقتضيات تطبيقية خارج حدود الدول ذ%

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر