مقدمة:
يجب الإشارة أولا إلى عدة إشكاليات نظرية و منهجية وتطبيقية:
فنحن امام بعض الإشكاليات النظرية التي ترتبط بالمدخل إلى هذا الموضوع والغطار المنهجي والنظري، فضلا عن الاإشكالية التي ترتبط بإمكانية تطبيق ذلك (نظري) في إبراز رؤية متكاملة لهذا الموضوع شديد الخطورة والذي يتعلق برسم صورة كلية “لرؤية العالم”،
وفي إطار ذلك نتحدث عن واقع دراسة الاستاذ الإمام من ناحية وواقع دراسات رؤى العالم في السياقات العربية من ناحية أخرى ،عن دراسات الاستاذ الإمام فقد غلب على بعضها بعد سردي وترجمة لسيرته من غير الغوص في افكاره، كما كانت هناك دراسات اهتمت بفكرة هنا أو هناك عن الاستاذ الإمام ومن ثم فقد كانت الكتابات عنه جزئية وتتبعية لمسيرة حياته، ولكن ياتي هذا البحث ليكون الخريطة المعرفية الكلية للأستاذ الإمام وشبكة العلاقات البينية فيما بين مفرداته وأنساقه المفاهيمية ، أما عن رؤية العالم في الدراسات العربية من المهم أن نشير إلى هذه الدراسات في الغرب وكيف انها وصلت الي مرحلة متقدمة من التطور النظري والميداني في حين ان الدراسات العربية ظلت عالة على الدراسا الربية في هذا المقام .
في إطار هذه الرؤيه الموجزة على عجل لحال الدراسات في موضوعنا هذا يأتي الأهتمام بحل إشكالات ومصادر النقض فيها من خلال إطار تنظيري ومدخل مناهجي ومحاولة اولية. ومن هنا لابد أن نستعرض بعض القضايا التي تتعلق بإشكالات المنهج من ناحية ثم إشكالات التنظير من ناحية ثانية ثم إشكالات التطبيق من ناحية ثالثة.
أولا- إشكالات المنهج
صعوبه استباط وإعادة وترتيب ما يسى برؤية العالم من خلال كتابات متناثرة قدمها الأستاذ الإمام وأن كان ابرزها ما اخرجه د. محمد عمارة والذي اسماه بالاعمال الكاملة إلا انها تبقى بمثابة مادة خام في حاجة إلى تشكيلها وإعداد مقترحات بخصوصها. ومن هذه المقترحات نقدم في هذا الإطار ما يسمى بالنص المترابط hyper text والذي يكون من نصوص الامام المتناثرة نصا جديدا حول رؤية العالم ينظم ما بين خطوطه وخيوطه ويؤكد عناصر تفاعلاته وشبكيته.
ثانيا- الاشكالات التي تتعلق بالإطار النظري:
تتبع هذه الشكاليات التي تتعلق بالإطار النظري من ان مفهوم رؤية العالم يرتبط بجمله من النساق الحضارية في تطورها وانعكساتها المعرفية ومن هنا فإن أشكاليه رؤية العالم تثير اكثر من إشكال فرعي مثل ما هي رؤية العالم، ما هي مصادرها، ما هي الاية الكلية التي ترتبط بتأصيل رؤى العالم.
ثالثا- الإشكالات التي تتعلق بالتطبيق:
في هذا الإطار لأبد وأن نشير الى أن بحثا من هذا النوع يتطلب منا قراءة متقصية وقراءة متانية لكتابات الشيخ الأمام وأبعد من ذلك قراءة ما كتب عنه ومحاولة توظيف هذه الرؤى ضمن سياقات واطر تتعلق ببيان رؤية الاستاذ الإمام لما نحن فيه من رؤى العالم.
( النص وعالم الأفكار) المفاهيم الاساسية بين المدخل المنهجي في النص المترابط وأصول رؤية العالم.
كما ذكرنا آنفا فإن هذا المفهوم اهتم به الغرب ولم تهت به الدراسات الإسلامية بصورة كلية
وإن كانت قد اهتمت به على مستوى المفردات والعناصر التي تكون رؤية العالم و من ثم سوف نعمد الى تقديم بعض الافكار الاولية حول ما يسى برؤية العالم ثم نقدم تطورا لتلك الرؤية بما يناسب و تلك الافكار التتي قدمها محمد عبده وتكون هذه الرؤية بلك الاعتبار مدخلا لتجميع افكار محمد عبده الكلية والفرعية في نسق واحد يمكننا من الربط بين مفرداتها ضمن تلك الآليات المتعارف عليها فيما اسمى “بالنص المترابط”
ومصطلح النص المترابط هو ترجمة لما يطلق علية hyper text حيث ان hyperتعني الربط ومن ثم فهي تستخدم في العديد من المجالات .
وهناك العديد ن المفاهيم و التعريفات التي تتناول النص المترابط وان كان من ابرزها انه هو الربط الديناميكي بين الأفكار أو أجزاء وفيرة ن المعلومات ووثائق اخرى.
كما ان هناك تريفات للهيبر تكست تكشف بأنه يحاكي طريقة عمل الذاكرة لدى الإنسان.
وهناك العديد من العناصر للهايبر تكست ابرازها قاعدة بيانات النص، وشبكة الدلالات اللفظية، وادوات الايجاد وتصفح و دمج النص كما هناك العديد من استراتيجيات الأستخدام.
رؤية العالم عناصرها التأسيسية ومنظومتها المعرفية والمفاهيمية:
هناك لعديد من آليات الأستدعاء ومنها “جامعية الفكرة”إذ تشكل الفكرة الاساس وهي تتمثل فيما يمكن تسميته “رؤية العالم”.
اننا لا نتصور بأي حال من الأحوال أي مشروع إصلاحي من دون رؤية العالم، تلك الرؤية التي تمثل الكان خلف والكامن فيها تلك الرؤية وتحكم عناصر بنائها الحججي والمعرفي ، كما انها تحدث تأثيراتها الفكرية و الثقافية و الحضارية بقصد رؤية للعالم ترتكز على الفهم و ليس الرصد او الوصف فهى تغوص وراء الظواهر المختلفة بقصد الكشف عن انماط التفكير والمبادئ التي وراء هذه المظاهر.
كما ان رؤى العالم و تصورات الزمان المكان ومقولات الفكر و أنساق التفكير قد تأصلت في المجتمع ذاته.
عاصر رؤى العالم تشمل على الذات، وغير الذات بشر/غير بشر، والزمان، والمكان ومن ثم فرؤى العالم هي الفهم العقلى للواقع بما يتضمنه من معرفة معتقدات عن الطبيعة و الإنسان. كما يقرب تصور رؤية العالم عن الصورة المكانية، والصورة الزمانية، والصورة العلاقية، والصورة الشخصية، وصورة القية، والصورة الوجدانية، والصورة الشعورية، …الخ.
أما عن المستويات التي تؤلف رؤى العالم لدى تلك الجماعة فهى متعددة منها المسلمات المقدسة المطلقة، والفتراضات الكونية، والقواعد الأخلاقية والشروط المادية، والمعرفة اليومية.
وكما قال استفيستر فإن علاقاتنا بالعال كما هي قائمة في يقين إرادتنا للحياه حينما تحاول هذه الإرادة ان تدمج نفسها في الفكر ومن ثم فإن الأهمية الكبرى لرؤى العالم تنبع من ان كل شخص وربما كل جماعة تعمل على ضوء رؤيتها للكون أى ان الصورة المنعكسة في أذهاننا عن الوجود لها تأثير مباشر في عملنا، وفي عقيدتنا وسلوكنا، وفي حياتنا الفردية و الاجتماعية بحيث ان كل شخص يعيش وفق رؤيته للكون.
معمار رؤية العالم لدى الأستاذ الإمام:
بادئ ذي بدء في إطار حديثنا عن لعاصر المكونه لمعمار رؤية العالم وهندستها نبدأ بالتأسيس التوحيدي والذي يشكل “صبغة الله” التي تجمع بين عناصر الرؤية الكلية، فلا ترى الثلاثية الواصله( الاستخلاف والتزكية والعمران) وتؤسس عناصر الكليات السبع التي تخرج جميعا من مشكاه واحده موحده “مشكاه التوحيد” التوحيد بين هذه الكليان السبع هي من المحكما التي تتفاعل مع بعضها البعض .
1- العقيدة
أولى تلك الكليات والبينيات التي يحيويها الكتاب وتؤصل قواعد الفعل والميزان انها تتوجه الى تلك العلاقة الجوهرية بين عالم الخالق و عالم المخلوقيين وبما تتيحه عناصر الرسالة.
العقيدة تشير في البدء إلى حقيقة الالوهية وتشير الى العناصر الاخرى التي تتفرع عن تلك الرؤية فتقدم عناصر الرؤية ومنظومة تؤصل توجها وموقفا حول الانسان (كفاعل حضاري) والكون (كساحة حضارية) والحياه (التي تشكل كل عناصر الفاعليات والتفاعل بين الإنسان و الكون…)
ثم تتاتي الشريعه تترجم خصائصها التكوينية وسماتها الكلية الى قيم اساسية تتحرك وتسرى في كيان الشريعة وجزيئاتها فتتجمع ما بينها و تصل بين عناصرها.
وتعتبر القيم الحاكمة ضمن منظومة كلية تحرك قيما ناظمة وتؤكد قيا تخص مجالا بحثيا يتعلق بكيان من الظواهر تتعلق به.
وتاتى الامة لتشكل قيمة في ذاتها تعبر عن نسق المة هي أمة القيم حاملة لرسالة حضارية ضمن وظائفتها الحضارية والمعنوية، الامة الجامعة قيمة تشكل عناصر الفاعلية والخيرية والوسطية و الشهود.
الحضارة كباناء حضاري يحقق أقصى كمالات العمارة الإنسانية ويجعل من العمران قيمة حاكمة تضفى على الرؤية و الفعل و النظم قية بما تؤدي أليه أو تؤثر في العمران.
وتأتي السنن كأهم قيم التحريك والسعي فتضي على حوهرية الفقه والفعل قيمة من خلال منهج النظر السنني، والسنن هي التي تعطي وتضفي عناصر القيمة في الرؤية الكونية. وهي تجعل من عمران النفس و الإجتماع والتاريخ و الكون مدخلا هما لعمران المستقبل وغضفاء القيمة على التفكير في المآلات وتدبر حركة المستقبل وفاعلياته.
واخيرا تاتي المنظومة المقاصدية كأهم القيم المقاصدية في الرؤية والفعل، والوعي و السعي، لا تاتي القيم المرتبطة بها إلا بأرتباطها بمقصد كلي “الأمور بمقاصدها” .
(1)التوحيد : رؤية كلية للعالم وقيمة لا تقبل التصاعد. التوحيد عند الإمام هو المبتدي و المنته
وهو قيمة كلية و معرفية لا تقبل التصاعد فهو يحول كل عناصر الرؤية للعالم، تسري فيها الحياة. وعلى تعبير الإمام في مقدمة كتابه”رساله التوحيد” فعلم التوحيد هو “ركن العلم الشديد”.
وفي إطار أستعراضه لذلك العلم يعرض الإمام مجملا من تاريخ هذا العلم وما آل اليه من جراء ما اسماه “بالفوضى العقلية”بين المسلمين تحت حمايه الجهله من ساستهم، فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم فوضعوا ما لم يعد للإسلام قبل بأحتماله غير انهم وجدوا من نقص المعارف انصارا ومن البعد عن ينابيع الدين اعوانا، فشردوا بالعقول عن واطنها وتحكموا في التضليل والتكفير، وغلوا في ذلك حتى قلدوا من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم و الدين . وبذلك فقد خرجوا عن حقيقة التوحيد في جامعية الأمة وتماسكها اللذين يشكل التوحيد المناط الواصل بينهما.
فمن أصل العلم يحدث الوصل بينه وبين غايته وصلا يوثق العرى”عروة وثقى لا انفصام لها” والذي علينا اعتقاده أن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد لا دين تفريق في القواعد، العقل من أشد أعوانه والنقل من اقوى أركانه وما وراء ذلك فنزعات الشياطين .
وإذا كان هو الأصل فما الغاية من هذا العلم إلا “.. القيام بفرض مجع عليه وهو معرفة الله(تعالى) بصفاته الواجب ثبوتها له…..”
ومن هنا كان من الخطورة ثبات قلوب الجمهور من الخاصه “بمرض التقليد” فهم يعتقدون المر ثم يطلبون الدليل عليه ولا يريدونه إلا موافقا لما يعتقدون فإن جاءهم أحد بما يخالف ما أعتقدوا نبذوه ولجوا في مقاوته وإن أدى ذلك إلى جحد العقل برمته.
فأكثرهم يعتقد فيستدل وقلما تجد بينهم من يستدل ليعتقد . ومن مقتضيا التوحيد أنه يشكل منظومة توحيدية تفيض بالعقل والمصلحة والحكمة والقيمة والعلم و المعرفة وحرك حضارية في الحياة ترتبط بنظام العمران البشري وعزة الأمم وذلتها، إنه التوحيد الموح بين أصول العقيدة الدافعة والشريعة الرافعة والقيم التاسيسية الحاكمة والمة الجامعة و الحضارة الشاهدة الفاعلة و السنن الشرطية القاضية والمقاصد الحافظة جملة يجمع فيها الإمام هذه الرؤية حينما يعقب على حكمة الله في أفعال من مقتضيات توحيده ومعرفة العقل البشري لما يحسن و يقبح وتاثير ذلك على علاقة الغنسان وفعله واختباره بتوحيد الله ووحدانيته.
صار الإنسان بالتوحيد عبدا لله خاصة،حرا من العبودية لكل ما سواه، له من الحق ما للحر على الحر، لا على في الحق لا وضيع ولا سافل ولا رفيع ولا تفاوت بين الناس إلا بتفاوت اعمالهم ولا تفاضل إلا بتفاضلهم في عقولهم ومعارفهم،..طالب الإسلام بالعمل كا قادر عليه، وقرر ان لكل نفس ما كسبت وعليها ا اكتسبت.
أنحى الإسلام على التقليد وحمل عليه حملة لم يردها عنه القدر فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس واقتلعت أصوله الراسخة في المدارك ونسفت ما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم.
صرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء وما توارثه عنهم البناء وسجل الحمق و السفاهة على الآخذين بأقوال السابقين؛ واطلق بهذا سلطان العقل من كل ما كان قيده، وحلصه من كل تقليد كان استعبده ورده إلى مملكته يقضي فيها بحكمه وحكمته مع الخضوع في ذلك لله وحده والوقوف عند شرعيته. ولا حد للعمل في منطقه حدودها ولا نهاية للنظر يمتد تحت بنودها.
وبهذا و ما سبقه تم للإنسان بمقتضى دينه أمران عظيمان طالما حرم منهما وهما: استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر، وبهما كملت له إنسانيته واستعد لأن يبلغ السعادة ماهيأه الله له بحكم الفطرة التي فطر الناس عليها، نص الكتاب على ان دين الله في جميع الأزمان هو إفراده بالربونية و الاستسلام له وحده بالعبودية وطاعته فيما أمر به ونهى عنه مما هو مصلحة للبشر وعماد لسعادتهم في الدنيا و الآخرة.
هذا كان شأنهم في السجايا والأعمال: نسوا طهارته، وباعوا نزاهته اما في العقائد فتفرقوا شيعاواحدثوا بدعا ولم يستمسكوا من اصولهإلا بما ظنوه من أشد أركانها وتوهموه من أقوى دعائمها وهو حرمان العقول من النظر فيه بل و في غيره من دقائق الأكوان والخطر على الأفكار ان تنفذ إلى شئ من سرائر الخلقة، فصرحوا أن لا وفاق بين الدين و العقل وأن الدين من أشد اعداء العلم، وأفضى الغلو في ذلك بالأنفس إلى نزعه من أشأم النزاعات على العالم الإنساني وهي نزعه الحرب بين أهل الدين للإلزام ببعض قضايا الدين فتقوض الأصل وتخرمت العلائق بين الأهل وحلت القطيعه محل التراحم، والتخاصم مكان التعاون، والحرب محل السلام وكان الناس على ذلك إلا أن جاء الإسلام.
كانت سنن الغجتماع البشري قد بلغت الإنسان أشده وأعادته الحوادث الماضيه إلى رشده فجاء الإسلام يخاطب العقل ويستصرخ الفهم واللب ويشركه مع العواطف والإحساس في إرشاد الإنسان إلى سعادته الدنيويه والأخروية، وبين للناس ما أختلفوا فيهوكشف لهم عن وجه ما أختصموا عليه وبرهن على أن دين الله في جميع الأجيال واحد و مشيئته في إصلاح شؤونهم وتطهير قلوبهم واحدة… وجعل روح العبادة الإخلاص … رفع الإسلام كل امتياز بين الأجناس البشرية وقرر لكل فطرة شرف النسبة إلى الله في الخلق وشرف اندراجها في النوع الإنساني في الجنس والفصل والخاصة وشرف استعدادها بذلك لبلوغ أعلى درجات الكمال الذي أعده الله لنوعها… هذه عبادات الإسلام على ما في الكتاب وصحيح السنن تتفق على ما يليق بجلاله الله وسمو وجوده عن الأشباه وتلتئم مع المعروف عند العقول السليمة.
كشف الإسلام عن النقل غمه من الوهم فيما يعرض ن حوادث الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان) فقرر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية وفيها التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد لا يقتضي فيه إلا العناية الأزلية على السنن التي اقامته عليها ثم اماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الامم والمصائب التي يرزءون بها، ففصل بين المرين فصلا لا مجال معه للخلط بينهما، لم يدع اللإسلام اصلا من اصول الفضائل إلا أتى عليه ولا أما من امهات الصالحات إلا احياها ولا قاعدة من قواعد النظام إلا قررها فاستجمع للإنسان عند بلوغ رشده حريه الفكر واستقلال العقل في النظر وما به من صلاح السجايا واستقاله الطبع وماضيه من إنهاض العزائم إلى العمل وسوقها في سبل السعى…
2) الإنسان والكون و الحياة وعناصر الساحة الحضارية:
لا يقدم الغمام محمد عبده رؤيته للعالم بلغه فلسفية مجردة بل هو دائما يربط بين تلك الرؤية ومشروعه الإصلاحي ومن ثم يتحرك صوب الساحة الحضارية للعقل الإصلاحي ضمن محاولاته التجديديه للفكر الديني الإسلامي.
وذلك بفرض كسر التقليد في اسلوب التفكير وتوسيع المجال للخلف لإعمال العقل الذي سيأتي بعد في فهم القرآن والفكر الغسلامي للنهوض به في معترك الصراع الحضاري الثقافي والفلسفي القائم بين المسلمين وأعدائهم، ومن هنا كان لابد له ان يتصدى لهم معضلة فلسفية عانى و يعاني منها الفكر الإنساني منذ بداية وعيه وحتى اليوم و هذه المعضله.. هي قصة الخليقة ووجودها على الرض والتي تبدأ بآدم.
إنها عناصر الساحة الحضارية التي تتشكل في : الإنسان الفاعل ، والمعمار الكوني،وفعل وتفاعل في ميدان الحياة… صاغ كل ذلك شعور الأستاذ الإمام وغيره بالتحدي … إذ لمح في المجتمعات الإسلامية تخلفا لا يعود الى طبيعه تلك المجتمعات ولا الى الوحي الهادي للبشرية وطرح على نفسه ذات التساؤل الذي يشير إلى أسباب التخلف وحدد مثل آخرون ان ذلك يعود لسببن : أحدهما خارجي يتعلق بطغيان الثقافة الغربية والاخر داخلي يعود إلى تخلف بعض الذين نصبوا أنفسهم قادة وأوصياء على فكرة الإسلام وحالوا دون تداوله والاجتهاد فيه والتجديد له.
فواجه عبده مشكله”تحدي الحضارة الغربية للإسلام والمسلمين” بتجديد الفكر الديني في فترة من اشد فترات ضعفه؛ بمنهج يقوم على إحياء الدين و تنقيته مما لحق به من تفسيرات جامدة، والعودة إلى جوهر العقيده كما كان الحال في عهد السلف الصالح والأستناد إلى العقل في فهم مصادرها فشكل ذلك قسمات في مشروعه الإصلاحي استندت إلى عناصر رؤية كلية للعالم.
الرؤيه للإنسان : الفاعلية والمسئولية:
ضمن هذه الرؤية الكلية ياتي الإنسانبفاعليته وفعله كأحد اهم عناصر النص الحضاري.والإنسان بهذا الاعتبار يرتبط بأصول معرفية تتعلق بعلوم الإنسان، “فعلوم الإنسان هي عبارة عن الحدود التي بها الفوائد النافعة، يضبط بها طرق الاعمال الموصلهة إلى تلك الفوائد حتى لا يتخبط في سيره ولا يختلط عليه النافع بالضار…
والإنسان وفق هذه الرؤيه يستمد معاني الفاعلية من اختياره، ويتولد عن اختياره مسئووليه ويترتب هلى هذا و ذاك مساءلته.
“إن للوجود الإنساني في هذه الحياه الدنيا ثلاثة أدوار متتاليه، يأخذ بعضها بأطراف بعض، الول دور الفطرة وهو الوجود الطبيعي، والثاني دور الأجتياح وهو الحالة المدنية، والثالث دور السياسه.
“… إذ لا ينال الإنسان “…الشرف الإنساني و السعادة الحقيقية والثروة الدائمه والنعيم الثابت إلا إذا صلح حال وطنه فتقدم أبناؤه وتحلت نفوسهم بالمعارف وصفات الكمال، فأخذ كل واحد حقه وأدى الواجب عليه وخدم العموم بجد ونشاط وسعى في مصالح الجميع بصدق و امانة.. ولما كان من لوازم حفظ النوع الإنساني، المعرض للفناء والزوال، التناسل و التوالد أودع الحق (سبحانه) في طبيعه الإنسان قوة شهوية تدعوه إلى الاقتران وتحمله على طلب الازدواج كسائر انواع الحيوانات، غير ان الإنسان يمتاز على الحيوانات بقوة ذاكرة يستحضر بها ما شهده في الماضي، فيطلبه استحصالا إن كان لذيذا ويدافع عنه ما أستطاع، والإنسان يلازم الحرص في جميع احواله خوفا من المستقبل، كما أن الإنسان في حاجة إلى التعاون بالضرورة وهو بفطرته لا ينظر للتعاون بجميع أفراد الإنسان فلابد له من تعلق خاص يوجب عقد التعاون الخاص …
فيتبين من ذلك أن الشهوة الحيوية المغروسه في الإنسان لم تكن مقصودة لذاتها بل هي آله لنيل الإنسان مآربه التي لا يستطيع المقام بدونها كبقائه في عالم الوجود يتعاون عل جلب المنافع ودفع المكروه بزوجته واولاده وأخيه وعمه ونحو ذلك ممن أرتبط معهم بالروابط المعروفة بصله النسب والقرابه التي تعد من أقرب الروابط الإنسانية التي لولاها لاختل نظام الوجود الإنساني بالمرة.
والإنسان الفاعل خلق في أحسن تقويم كما خلق في نصب وكدح وتعب، كدح دائب و عمل مستمر.. ويقول (سبحانه) أنه فطر الإنسان احسن فطرة نفسيا وبدنيا وكرمه بالعقل الذي ساد به على العوالم الارضيه واطلع على ما شاء م العوالم السماوية.
والكدح عمل الإنسان لنفسه من خير أو شر… ووصل الوصف (بالله) إذ قال كادح إلى ربك.. ليدل على أنه اراد من الكدح معنى فيه سير وانتهاء، فهذا النداء الرباني يحوله الأستاذ الامام إلى نداء حركه كأنه يقول-والله اعلم- يا أيها الإنسان السادر في غلواته الصادر في عمله عن اهوائه الغافل عن مصيره الحائر عن جادة الحق في مسيرة لا تظن أنك خالد…”.
من جملة النظرة للإنسان، النظر النوعي الذي كان موضوع اهتمام الأستاذ الإمام مؤكدا على رؤية الإسلام القرآنية من “..أن الذكر والأنثى متساويان عند الله (تعالى) في الجزاء متى تساويا في العمل حتى لا يفتر الرجل بقوته ورياسته على المرأة فيظن أنه أقرب إلى الله منها ولا تسئ
المرأة الظن بنفسها فتتوهم ان جعل الرجل رئيسا عليها يقتضى ان يكون أرفع منزلة عند الله (تعالى) منها، كانت هذه الرؤية التأسيسية للإنسان مدخلا للشيخ الإمام جعلته يهتم اهتماما خاصا بقضية المرأة والأسرة وتركيزه على إصلاحها وإقامتها على أسس سليمه باعتبارها الضمان لتكوين المجتع والامة، إنها الرؤية الواصله بين الإنسان والأمة تتوسطها الأسرة لتعبر عن مجال تدريبي في شأن العلاقات والتفاعلات بحيث تؤصل بعد التفاعل الإجتماعي للإنسان.
هذه الرؤية للإنسان طبيعة وفعلا، دورا ووظيفة، قدرة وأختيارا، مكنة وأهلية، عقلا ومسئولية، والتي تتبدى في علاقاته وتكويناتهالاجتماعية و الجمعية إنما تشكل منظومة كليةمترتبة فاعلة وهي منظومة متواصلة بالكون الأكبر إذ كشف الإسلام عند النقل عنه من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير”العالم” والكون الصغير”الإنسان”
الرؤية الكونية: عالم الوجود ساحة النقل الحضاري
يستهل الإمام محمد عبده من ان العالم مخلوق لله”سبحانه” هذا الخلق الأول الذي خرج به العالممن العدم، أما الخلق الثاني فإنما يتعلق بالبعث والنشور في إشارة إلى خلق يتغلق بقدرة الله على إعادة الخلق، أما الخلق الثالث فهو عبارة عن تجدد العالم واستمراره لأن تأثير الله في الكون لا يقف عند خلقه في ستة أيام بل أن مظاهر هذا الخلق تتجدد وتستمر يوميا كما هو مشاهد لنا.
والإنسان- عند محمد عبده- لا ينفصل عن” العالم” فالإنسان يفكر والعالم مادة التفكير، الإنسانذات والعالم موضوع، الإنسان يعرف اللهويفكر في قدرته وآياته والعالم محل هذه القدراتوتلك الآيات، كما يرى ان العالم الطبيعي محكوم بالتغير والحركة وها من أقوى أدلة وجود الخالق، وتشير إلى العديد من الآيات التي تؤكد على حركه العالم و تغيره كما ان الغمام رأى من بعض جوانب “نطرية النشوء والارتقاء” مالا يتعارض مع الدين، فهو يفرق بين نظرية الأرتقاء
في مجموعها وبين إحدى نتائجها فيما يتعلق بأصل الإنسان، كما يرى أن “تنازع البقاء” و”البقاء للأصلح” ن سنن الله في الكون وفي تاريخ الإنسان.وتحدث عن سنن الاكوان وكذا سنن الإنسان، والسنن الحاكمة للطبيعة والخرى المحاكمة للنفس والثالثه التي تحكم الجماعات. وتحدث في مسائل فلسفية من الكون وحدوث العالم ومسائل دينية تتعلق بنسق الغيب من بعث وحشر.
هذه الرؤية الكلية للعالم والكون أسفرت عن نفسها في متوالية كونية منتظمة تأثرت فيها بالنظريات العلميةالتي حققتها البشرية، فهو يربط بين أبحاث العلماء التي تهتم بقصة خلق الأرض وبين آيات القرآن. وقد اتدت هذه النظرية عن الإمام من مجرد الحديث عن خلق العالم إلى الحديث عن مختلف النساق الفكرية للإنسان والكون والمجتمع بما يمنج الحياه قيمة ومعنى بأعتبار أن السلوك الإنساني لا ينطبق ضمن أسس نفسية وظروف مادية فحسب بل يستند أيضا إلى الإرادة الإنسانية والهداية العقلية. ومن ثم فهذه النظرة تنج الوجود معنى كما تعمق عناصر المسؤولية الإنسانية ومن ثم تصل بين الكون و الإنسان والحياة جميعا في مسيرة تربوية حول المعمار الكوني والأرتقاء التفاعلي معه.
وعلاقة الإنسان بالكون علاقة اكيدة يحددها العديد من الآيات ومنها الآية من سورة البقرة:}هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا{.
إن أزمة الرؤية الكونية التي يلحظها الأستاذ الإمام هي أزمة حركية لأنها تترك كثيرا من الآثار والمآلات السلبية على القيمة التوحيدية وأنساق المعارف وأنساق القيم وكذلك أنساق السلوك وقبل كل هذا أنساق المصالح والمقاصد ومن هنا اعتبر الأستاذ الإمام ذلك أكبر خذلان للدين.
كما يرى الإمام أن الكون هو كتاب الإبداع الإلهي المفصح عن وجود الله وكماله وجلاله وجماله. ومن ثم يقول أن لله كتابين: كتابا خلوقا وهو الكون وكتابا منزلا وهو القرآن.
إنها إشارة مباشرة للجمع بين القراءين: بين قراءة آيات القرىن وقراءة آيات الكون التي تؤسس نظاما معرفيا توحيديا يؤصل لمعاني قراءة الفاعلية في الكون، إن المعرفة الكونية والوعي الكوني اساسان بل شرطان للفاعلية الاستخلافية والعمرانية في هذا الكون.
النظرة للحياة وانساق السلوك والوصل المتفاعل : الأستخلاف والتزكية و العمران.
الحياة-وفق رؤية الأستاذ الإمام- هي أصل من أصول الإسلام يتحرك صوب الجمع بين مصالح الدنيا و الآخرة، وان الدنيا مزرعة للآخرة، الكون مجال الحركة العمرانية والإنسان محل التزكية و الحياة حركة تفاعل واستخلاف للإنسان في الكون.
وكان الأستاذ الإمام يشير إلى المقاصد العامة الكلية للشريعةوهي حافظة للحياة وحاضنة لفعاليات حركتها( من نفس ونسل وعقل ومال) وكانت تلك الرؤية موصولة بالنهى عن القلق في الدين.
وفي أصول فاعلية المسلمين في حياتهم وفي طلبهم والتوسل من كل طريق بالعلم الرافع والنافع للحياة، فهو يرى العلم مسرح نظر العقل والعمل قوة من أفضل القوى الإنسانية بل هي أفضلها على الحقيقة.
في أصول وأصلة بين التوحيد والإنسان والكون والحياة تقع عمليات ثلاث : أولها- الأستخلاف، وثانيها-التزكية، وثالثها- العمران، وغايات الحياة والفاعلية فيها.
3) الاستخلاف والتزكية والعمران: الأصول الواصلة برؤية توحيدية الإنسان والكون والحياة، ثلاثية مهمة
في العناصر الكلية لرؤية العالم تشكل كما أكدنا الساحة الحضارية والفاعلية فيها، إلا أن هذه الثلاثية المتعلقة بالساحة الحضاريةرترتيط بثلاثية اخرى : أستخلاف تقتضيه الرؤية التوحيدية، وتزكية ترتبط بالإنسان الفاعل ، وعمران يتعلق بالأديان والأكوان والحياة في عمومها وكافة مجالاتها الحضارية.
الأستخلاف :رؤية قرآنية:
ناقش الأستاذ الإمام بعض القصص التي تشير إلى ان ىدم ليس أول الأحياء العاقلة التي سكنت الأرض ،وعد ذلك مذهبا أول في تفسير الخليقة وإن كانوا يفتقدون لسند في الإسلام . وقد مال الأستاذ الإمام بالمراد}إني جاعل في الأرض خليفة{فهو خليفة عن الله تعالى ، وفي هذا الإطار ظهرت آثار الإنسان في هذه الخلافة على الأرض ونحن نشاهد عجائب صنعه، فهو يتفنن ويبدع ويكتشف ويخترع ويجد ويعمل ..أليس من حكمة الله الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ان جعل الإنسان بهذه المواهب خليفة في الأرض يقييم سننه ويظهر عجائب صنعه وأسرار خليقته وبدائع حكمه ومنافع أحكامه؟ وهل وجدت آيه على كمال الله (تعالى) وسعه علمه أظهر من هذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم؟
التزكية : عملية تربوية:
يقول الأستاذ الإمام في تفسير آية }قد أفلح من زكاها{أي من ربح وفاز من زكى نفسه ونماها واعلاها حتى بلغ بها ما هي مستعدة له من كمال القوى العقلية و العملية وأثمرت بذلك ثمراتها الطيبة له ولمن حوله من الناس .
ومثلما أرتبطت عملية التزكية بعمليات تعلم الكتاب والحكمة كأنها تشكل مصادرها ومقاصدها وكأن عملية التزكية تتعلق بأنساق العقائد وانساق القيم على حد سواء وهي كذلك ترتبط بأنساق السلوك، فيتحدث الإمام عن التزكية كتهذيب للانساق الأخلاقية والقيمية، ووردت التزكية على سبيل المثال في مجالات وأفعال كثيرة بحيث تظهر أنساق السلوك وترقيها ومنها ما يتعلق بتزكية الاموال وتطهيرها بالصدقة مما يحفظ بركتها ونماءها.
إن ما جاء به القرآن من الاحكام لإصلاح حال البيوت بحسن معاملة النساء لم تعمل به الأمة على وجه الكمال بل نسيت معظمه في هذا الزمان وعادت الى جاهلة الجاهلية.
العمران من الدين عمارة الإنسان والأكوان والحياة:
ويؤكد الأستاذ الإمام كما جاء في رؤيته للحياه على أهمية الدارين وانهما ليسا بديلين ولكنهما مكملان أو أن الدنيا مزرعة الآخرة، ويؤكد على أن الإسلام هاد ومرشد غلى توسيع دائرة الفكر واستعمال العقل في مصلحة الدارين، وقدم الدنيا في الذكر لأنها مقدمة في الوجود، ولذلك قال علماؤنا إن جميع الفنون و الصناعات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم من الفروض الدينية إذا أهملت الأمة شيئا منها فلم يقم به من أفرادها من يكفيها أمر الحاجة اليه كانت كلها عاصية لله (تعالى) مخالفة لدينه إلا من كان عاجزا عن دفع ضرر الحاجة وعن الأمر به للقادر عليه فاولئك هم المعذورون بالتقصير.
من رحم هذه الرؤية الكليه لمعاني الحياة و البيان الفكري والأمة الوسط ومصالح الدنيا كفروض دينية ولدت العملية العمرانية والواصلة التي تتعلق بالعمران بين الإنسان و الكون والحياة.
هذة هي الرؤية التي جعلت العمران – ومن أقرب الطريق- من الدين لتاسيس ذلك شعارا علميا حياتيا وكونيا، جعلت من أوجب الواجبات أن يؤصل معاني العمران في مواجهة الطغيان و الخراب .
فماذا حدث من انقطاع هذه الرؤيه العمرانية أو اختلال بعض أركانها وفقدان بعض عناصرها وشروطها ؟ ويجيب الأستاذ في بصر نقدي حاد بأنه الغلو في الدين وإهمال الشرعية….
إنها الوصلة العمرانية التي تقطعت خيوطها وانزوت عناصر فعلها وفعاليتها ، هذه الرؤي وتفقد الستاذ الإمام لها وافتقادها مع ضرورتها أنتجت خطتة الإصلاحيه .
4- المنظومة السباعية وتشكيل رؤيه العالم لدى الأستاذ الإمام : المنظومة السباعية تقوم على مفردات وكليات السبع ، إن عقيدة لا تدفع ليست من عقيدة الإسلام في شىء ، وإن الشرعية لا ترفع ليست من شرعة الإسلام في شىء ، وإن قيما لا تحكم ليست من قيم و من منظومة الإسلام في شىء، وإن أمه لا تجمع ليست من أمة إسلامية في شىء ، وإن حضارة لا تفعل ولا تشهد ليست من الحضارة الإسلام في شىء، وإن سننا لا تقضى ليست من منظومة سنن الإسلام في شىء ، وإن مقاصد لا تحفظ ليست من المنظومة المقاصديه للشريعه في شىء.منظومة سباعية لا يمكن ان تكون في بنيتها وعلاقتها إلا عنوانا للفعل و التفعيل والفاعلية.
أ) العقيدة الدافعية:
عن جملة ما اعتقده الاستاذ الإمام عقيدة دافعة إلى الفعل و الفعاله والتفعيل في واقع الحياة، الإنسان الصالح المصلح لا يكون كذابا إلا بعقيدة حية دافعة، الأعتقاد بالقضاء و القدر إذ تجرد من شناعة الجبر يتبعه صفة الجرأة والأقدام ويخلق الشجاعة و البساله ويبحثت عن اقتحام المهالك …..هذا العتقاد يطبع النفس على ثبات و مقارعة الأهوال،وقد أثبت القرآن الكسب و الأختيار في نحو من أربع وستين آيه، وقد جاء القدر في تقرير السنن الإلهية المعروفة بنواميس الكون في القرآن الكريم ….
الشريعة الرافعة:
(الشريعة الرافعة)
(حكمة كلها- العدل كله- الرحمة كلها- المصلحة كلها)
(نسق المعرفة- نسق القيم- نسق السلوك-نسق القاصد)
كان الشيخ الإمام يجعل من الشرعية قاعدة لرؤية العالم، الشرعية حكمة في أنساق معرفتها، عدل في تظام قيمها، رحمة في تجليات سلوكياتها، ملحة في مقاصدها وعموم كلياتها وغاياتها….
فالإمام ينطلق في تصوره للشريعة من معنيين: المعنى الأول ثابت غير متغير وهو ما يتعلق باحكام الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم؛ أى الاصول الإسلامية، والمعنى الثاني هو تفسير قاعد الدين كما انتهى إليه عمل الفقهاء و المجتهدين في الإسلام عموما، وبهذا تكون الشرعية مفهوما خاضعا للاجتهاد وبما يتفق مع مصلحة الجماعة؛ وذلك بتفسير أصول الدين استنادا الى العقل ،فالشريعه من خلال فقهائها ” أصبحت …جامدة، وغن الجمود في احكامها جر إلى عسر حمل الناس على إهمالها” .
علاقة الفقهاء و عموم الناس بالشريعة هو الفيصل في قيام الشريعة بدورها كرافعة للنشاط والفاعلية لدى الانسان، فيحمل الامام على فقهاء أكتفوا بالشكل دون المضمون،الأمر الذي أدى بهم الى الأبتعاد عن الدين وأوامره.
مفهوم الشريعة و الدين في متوالية ترتبط بالشريعة من النبوات والتبليغ ووظيفة الدين ودوره:
يفتتح عبده فهمه وإدراكه للشريعة من بعثة الرسل لتبليغ شىء من العقائد والأحكام عن الله خالق الانسان وموفيه. بما لا غنى عنه .. والأعتقاد ببعثه الرسل ركن من أركان الإيمان فيجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعتقد ان الله أرسل رسلا من البشر مبشرين بثوابته ومنذرين بعقابه ،قاموا بتبليغ أممهم ما أمرهم بتبليغ من تنزيهه لذاتيه وأقرار بسلطانه القاهر على عباده، وتفصيل الحكام من فضائل اعمال و صفات يطالبهم بها، ومن مثالب أفعال وأخلاق ينهاهم عنها… الخ.
النبوات ومنزلتها من الاجتماع:
كما أن منزلة النبوات من الجتماع هي منزلة العقل من الشخص، أن منزلة العلم منصوب على الطريق المسلوك، بل نصعد الى ما فوق و نقول : كمنزلة السمع و البصر.
مفهوم الدين:
الدين أشبه بالبواعث الفطرية الإلهامية منه بالدواعي الأختيارية.وهو قوة من أعظم البشر وإنما قد يعرض عليها من العلل ما يعرض لغيرها من القوى.فالدين حاسة عامة لكشف ما يشتبه على العقل من وسائل السعادات ، والعقل هو صاحب السلطان في معرفة تلك الحاسة وتصريفها فيمافتحت لأجله والأذعان لما تكشف من معتقات وحدود أعمال.
الدين والشرعية والتوحيد:
جاء الدين الإسلامي بتوحيد الله (تعالى) في ذاته وأفعاله وتنزيهه عن مشابهة المخلوقيين ، فأقام الأدله على أن للكون خالقا واحدا متصفا بما دلت عليه آثار صنعه من الصفات العلية كالعلم والقدرة والأرادة. وصار الإنسان بالتوحيد عبدا لله خاصة، حرا من العبودية لكل ما سواه، فكان له من الحق ما للحر على الحر، لا على في الحق ولا وضيع.ومن هنا فرض الإسلام على كل ذي دين ان يأخذ بحظه من علم ما اودع الله في كتبه وما قرر من شرعه.
وسطية الشرعية وأهم خصائصها البنيانية:
ظهر الإسلام لا روحيا مجردا ولا جسديا جامدا، بل انسانيا وسطيا بين ذلك آخذا من كل القبيلتين بنصيب، فتوفر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوفر لغيره ، ولذلك سمي نفسه دين الفطرة ، وعرف له ذلك خصومه اليوم، وعدوه المدرسة الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية .ثم لم يكن من أصوله “ان يدع ما لقيصر لقيصر” بل كان من شأنه ان يحاسب قيصر على ماله ويأخذ على يده في عمله.
الشريعة الرافعة للفعل لدى الإنسان المسلم:
وهكذا كان الإسلام مهمازا للمسلمين يحثهم على جلائل الأعمال، مصاحبا لبصائرهم يسترشدون به في استعراف الأحوال وتقويم الأفكار، وعاطفا يعطف قلوبهم على الأمم بالعفو والرحمة وحسن العاملة، حتى رضيتهم الرض سادة لها وقادة لسكانها،وكان من أرهم وأمره ما هو معلوم.
اخطأ المسلم في فهم معنى “التوكل” و “القدر” فمال إلى الكسل وقعد عن العمل ووكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها، ويظن أنه بذلك يرض ربه ويوافي رغائب دينه.
الحكام وارتباطهم بالشريعة:
أما الحكام- وقد كانوا أقدر الناس على انتشال الأمة مما سقطت فيه- فأصابهم من الجهل بما فرض عليهم من اداء وظائفهم ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة ، ولم يفهموا من معنى العلم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم وإذلال النفوس لخشونه سلطانهم وابتزاز الأموال لإنفاقها وإرضاء شهواتهم لا يرعون في ذلك عدلا ولا يستشيرون كتابا ولا يتبعون سنة، حتى أفسدوا اخلاق الكافة بما حملوها على النفاق والكذب والغش والأقتداء بهم في الظلم وما يتبع ذلك من الخصال التي ما فشت في امة إلا حل بها العذاب.
هذا ما أصاب المسلمين في عقولهم وعزائمهم وأعمالهم بسبب ابتداعهم في دينهم وخطئهم في أصوله وجهلهم بادنى أبوابه وفصوله.
الرجوع إلى الدين والاستمساك بالشريعة:
وإذا كان الدين كافلا بتهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال وحمل النفوس على طلب السعادة من ابوابها ، ولأهله من الثقة به ما هو كذلك، وهو حاضر لديهم، كان العناء في إرجلعهم إليه اخف من إحداث ما لا إلمام لهم به . لم يخطر ببال أحد ممن يدعون إلي الرجعة إلى الدين أن يثير فتنة على الأوربيين.
القائمون على الشرعية: الفقهاء ودورهم في جود الشريعة وافتقادها حالة الرفع والرافعية:
إن السلمين ضيعوا دينهم ، وأستغلوا بلألفاظ وخدمتها وتركوا كل ما فيه من المحاسن والفضائل.
وقد جعل (الفقهاء) كتبهم هذه- على علاتها- أساس الدين ولم يخجلوا من قولهم: أنه يحب العمل بما فيها وإن عارض الكتاب و السنة، فانصرفت الأذهان عن القرآن والحديث وأنحصرت انظارهم في كتب الفقهاء على ما فيها من الاختلاف و الركاكة.
ثم إن االناس تحدث لهم باختلاف الزمان امور ووقائع لم ينص عليها في هذه الكتب ، فه نوقف سير العالم لأجل كتبهم ؟! هذا لا يستطاع ، ولذلك اضطر العوام و الحكام إلى ترك الحكام الشرعية ولجئوا إلى غيرها .
تعلم ما وصل إليه الناس من فساد في الأخلاق والنحراف عن حدود الشريعة، لو سألت عن سببه في القرى وصغار المدن لوجدته أحد أمرين إما فقد العارف بالشريعه والدين و سقوط القرية او المدينة في جاهلية جهلاء ، يرجع بعض اهلها إلى بعض في معرفة الحلال والحرام وليس المسؤول بأعلم من السائل وكلهم جاهلون، وإما عجز العارف عن تفهيم من يسأله لأعتقال لسانه عن حسن التعبير لطريقة تفهمها العامة .
شؤم ذلك الجمود فقد فصل بين العامة ومن يرجى فيه تقوم ما أعوج منها، ووكلت إلى ناس منها لا علم لها بالدين ولا بالأدب ، وقد غرسوا في أذهان الدهماء شر الغرس ، ولا تجني الأمم منه إلا أخبث الثمر . فلو قام العالم بالدين فأراد ان يبين حكم الله المصرح به في كتابه و سنة نبيه صلى الله عليه وسلم المجمع عليه عند السلف قاطبة وانتصب له ناعر من العامة يصيحوا في وجه : ( ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) ، يريد من آبائه الأولين: من رآهم بعد ولاته او ذكرت له أسمائهم بلسان مضليه ، حتى صار إرشاد العامة اليوم من أصعب الأمور وأشكلها على طالبه.
القيم الحاكمة والفضائل الفاعلة:
ونتناولها في نقطتين :
ج/1- أثر القيم في حياه المسلمين:
لقد أتبع المسلمون سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى سقطوا في مساقطهم، وطارحوا الأوهام حتى إنجروا إلى مطارحتهم وباءوا بما كان لهم وما عليهم وقد حدثت في الدين بدع أكلت الفضائل و حصدت العقائد.
أما لو رجع المسلمون إلى كتابهم و أسترجعوا باتباعه ما فقدوه من آدابهم لسلمت نفوسهم من العيب وطلبوا من اسباب السعادة ما هداهم إليه في تنزيله وعلى لسان نبيه ومهده لهم وخطه لهم اهل الصلاح منهم وأستجمعت لهم القوة ودبت فيهم روح الفتوة.
من دلائل المدنية أن يعرف الرجل بالصفات الفاضلة وسعة المعلومات وبذل الجهد فيم يعود على البلاد بالخير والفائدة وهذا هو الذي يبعث كل فرد من أفراد الأمة على الجد وكسب الفضائل الحقيقية واستكمال العقل الإنساني فيما خلق لأجله من إصلاح أحوال المعيشة،….. الخ.
ومن الفضائل التي دونها العلماء والحكماء طلب النفع الخاص عن طريق الفائدة العامة والنفع لعموم نوع الإنسان وأن لا يجلب ضررا على أحد المجتمعين لا في العاجل ولا الآجل، إلا ان يتوقف عليه نفع جميعهم، ويتبع هذهالفضيلة الكليه عدة فضائل هي أصناف وأنواع، كل واحد منها هي أصل لفضائل لا تنحصر إلا بالذوق الطاهر والفكر الدقيق.
وهذا بخلاف ما يوجد في كثير من البلاد التي لا عناية لها بشأن الفضائل، فلا ينظر فيها إلى الشخص من حيث خليته الباطنة وزينته العقلية ولكن أهالينا ينظرون إلى الرونق الظاهر والحلية الصورية.
ويلزم لذلك تمكن الاستبداد و الظلم في نفوس الطبقات العليا وثبوت جرثومة العبودية والل في قلوب الطبقات السفلى. والاستبداج يقال على معنيين:
الأول- تصرف الواحد في الكل على وجه الإطلاق في الإرادة، إن شاء وافق الشرع والقانون وإن شاء خالفهما وهذا هو الأستبداد المطلق.
الثاني – أستقلال الحاكم في تنفيذ القانون المرسوم والشرع المسنون بعد التحقق من موافقتهما على قدر الإمكان، وهذا في الحقيقة لا يسمى استبدادا إلا على ضرب التساهل وإنما يسمى في عرف السياسيين “توحيد السلطة المنفذة”.
ومن الواجبات الإنسانية على كل شخص ان يحفظ حقوق غيره كحفظه لحقوق نفسه فلا ياتي عند من يساويه في السن والفضل بما يوهم تهاونا بشأنه، ولا يتكلم بما يشير إلى الازدراء بقدره، بل لابد أن يكون في أعماله وأقواله حافظا لناموس جيله المساوى له، فإن كان أكبر منه سنا أو أرفع قدرا وجب عليه أن يؤدي تلك الواجبات بعينها كما كما على الجليس أن يعترف لمن إليه تلك الحقوق حقه أيضا.
“إن حياة كل امة تقوم بأستعدادها لكل زمان بما يناسبه، ومن غالب الزمان غلبه الزمان”.
ج/2- الحرية و اختيار الإنسان:
فرزق الله هذه البلاد بأناس خالطوا المم المتمدنة وطالعوا احوالها ورأوا ما عليه احوالها من إطلاق الإرادة وحرية الاختيار،فطالبوا لبلادنا أن تكون في احوال اهاليها الشخصية على مثال سكان تلك البلاد المتمدنة.
لكنهم أول ما بدأوا به أن أباحوا لكل شخص أن يعمل فيما يخص نفسه بإرادته، ويتكلم فيما هو مقصور على ذاتهبمقتضى فكره، وشرطوا في ذلك أن تكون تلك الأعمال والأقوال غير متعلقة بارتباطاته مع حاكمه، وسموا تلك الإجابه الإباحة”حرية”. ونادوا بها على الألسن الظالمة فكان حاصل تلك الحرية أنه لا جناح على من ارتكب أي جريمة، فقد قلدوا الأمم المتدينة في الأحوال الجزئية الشخصية مع علمهم بأن البلاد غير معتادة على مثل هذه الحرية فيها.
فلذلك اندفع الناس إلى انتهاب الشهوات ، ووسعت إلى أوسع مدى لها،وكلما طلبت لذلك منعا قال المولع هذه حرية.وأما نتاج حرية الفكر فكانت خاصة بالأعتقادات والمشارب الدينية فأخذ كثير من الناس يجهر بين ، العامة بألفاظ تناقض دينه الذي ولد فيه، فإن قيل له أخفض صوتك قال إننا في زمن الحرية، رغم أن هذه الأفكار التي تيشدق بها ليست مبنية على قواعد أو بادئ بل هي ألفاظ حفظها من معاشريه ورمى من يخاطبه بالجهل والخشونة.
فهذه الحرية البتراء لم تدع لها أثرا يحمد وإن كان الأورباويون يحرصون عليها، فإن استعداد بلادنا لم يكن في ملائما لمثل هذا على الإطلاق الذي هو في الحقيقة عين الرق والأستعباد.
فتلك الحرية التي سموها إطلاق فكر قد اعتقت صاحبها من قيد العقل واسلمته إلى الجهل الاعمى.
من مميزات الإنسان حتى يكون غير سائر الحيوانات أن يكون مفكرا مختارا في عمله على مقتضى فكره. كما أن الأفعال الإنسانية الاختيارية لا تخرج عن أن تكون من الكوان الواقعة تحت مداركنا وما تنفعل به نفوسنا عند الاحساس بها أو استحضار صورها يشابه كل المشابهة ما تنفصل به عند وقوع بعض الكائنات تحت حواسنا أو حضورها في مخليتنا.
ومن الأفعال الاختيارية ما يحسن باعتبار ما يجلب من النفع وما يقبح بما يجر إليه من الضرر.
ما يتعلق بسنة الله في كسب الخير والترقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك فإن الله تعالى قد وهبنا من العقل البشري ومن القوى ما يكفينا من توفير أسباب سعادتنا و البعد عن مقاسط الشقاء.
القيم والأخلاق والمعرفة:
العادالة والعلم متلازمان في عالم الوجود وينبئنا التاريخ كيف تمتعت دول بالنورين وطارت إلى أوج السعادة بهذين الجناحين حتى إذا أتت حوادث الدهر على أحد الأساسين فهدمه فسقط الآخر باسرع وقت وانحطت الدولة المصابة بفقده إلى أسفل الدراكات.
وسر ذلك أن العلم إذا انتشر في قوم أضاء لهم السبل واتضحت المسالك وميزوا الخير من الشر والضار من النافع، فرسخ في عقولهم أن المساواه والعدالة هما العلة الأولى لدوام السعادة.
وإذا رسخت قيم العادلة في أمة تمهدت لها طرق الراحة وعرف كل ما له وما عليه، فتلهبت فيهم الأفكار وتلطفت الإحساس وقويت قلوبهم على جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، فيدركون لأول وهله أن لا دوام لما وصلوا اليه ولا ثبات لما تحصلوا عليه إلا إذا تأيد بينهم ِشأن المعارف الحقيقية و عمت التربية سائر أفرادها فيقدمون بكليتهم على الأخذ بالأسباب المؤدية لانتشار العلوم و تعميقها في سائر الأنحاء.
المعرفة في المجتمع:
البعض من الناس لا تميل نفوسهم إلى سماع نصيحة تنفعهم لو دعوها، ينفرون من الأقوال المنبهة على بعض صفحات ألفوها، الحادثة على اعتناق فضله باعدوها.
ولئن زعموا أن مصدر النصيحة دونهم في القدر أو لا يصل إليهم في الكمال حتى يليق لإرشادهم، فعلى فرض تسليمه لهم فإن ذلك لا يوجب نبذ أقواله ومعاداتها متى كان فيها نفع وصلاح ،وليس بعار أن يسلم بالقول الحق والرأي الصواب . فالحق حق مهما كانت مصادره والصواب صوابا أيا كانت مظاهره، والفضيلة على حالها لا تتغير حقيقتها ولا تتبدل صفاتها باختلاف مصادر النبهين إليها.
الدين هدى و عقل من أحسن في استعماله والخذ بما ارشد إليه نال من السعادة ما وعد الله أتباعه؛ ومن ثم فإن الدين الإسلامي ليس روحيا مجردا ولا جسدانيا جامدا بل إنسانيا وسطا بين ذلك، أخذ من كل القبيلين بنصيب فتوفر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره ولذلك سمى نفسه دين الفطرة(كما سبق أن اشرنا).
د) الأمة الجامعة:
إن الأمة لا تجتمع ليست من الإسلام في شىء، ذلك ان جامعية المة هي اهم صفة لها وناط خيريتها ووسطيتها.
تعريف الأمة- هي الجماعة المؤلفة بين أفرادهالهم رابطة تضمهم ووحدة يكونون بها كالعضاء في بنية الشخص . ومعنى الأمة يدخل فيه معنى الرتباط والوحدة التي تجعل أفرادها على اختلاف وظائفهم واعمالهم حتى في إقامة(الدعوة للإسلام في غير بلاده أو إقامة بعض الفرائض والشعائر أو إزالة بعض المنكرات من بلد آخر من بلاد المسلمين عند تشعب الأعمال فيها) كأنهم شخص واحد.
المقومات:
1- العلم التام با يدعون إليه، وأنه يجب العلم بالقرآن والعلم بالسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وسلف الأمة الصالح وبالقدر الكافي من الحكام.
2- العلم بمجال الآخر(من توجه إليهم الدعوة)، في شؤونهم واستعادهم وطبائع بلادهم وأخلاقهم أو ما يسمى حديثا باحوالهم الاجتماعية.
3- مناشئ علم التاريخ، ليعرف الفساد في العقائد والأخلاق والعادات فيبثون الدعوة على أصل صحيح ويعرفون كيف تنهض الحجة ويبلغ الكلام غايته من التأثير، وكيف يمكن نقل هؤلاء المدعويين من حال إلى حال.
4- علم تقويم البلدان، ليعد الدعاه لكل بلاد منها عدتها إذا أرادوا السفر إليها وهذا ما يسمى تقوي البلدان وجغرافيتها.
5- علم النفس، وهو العلم الباحث عن قوى النفس وتصريفها في علومها وتأثير علومها في أعمالها الإرادية.
6- علم الأخلاق، وهو العلم الذي يبحث فيه عن الفضائل وكيفية تربية المرء عليها وعن الرذائل وطرق توقيه منها.
7- علم الإجتماع، وهو العلم الذي يبحث فيه أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها وتدنيها وترقيها.
8- علم السياسه، وهو العلم بحال دول العصر وما بينها من الحقوق والمعاهدات وما لها من طرق الاستعمار. فالأمة التي تؤلف للدعوة في بلاد غير المسلمين المستقلة لا يتيسر لها ذلك إذا لم تكن عارفة بسياسة حكومة تلك البلاد.
9- العلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها.
10- العلم بالفنون والعلوم المتداولة في الأمم التي توجه إليها الدعوة، ولو بقدر ما يفهم به الدعاة ما يرد على الدين من شبهات تلك العلوم والجواب عنها بما يليق بمعارف المخالطبين بالدعوة.
11- معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم ليتيسر للدعاة بيان ما فيها من الباطن.
الأركان :
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
المرتبة الأولى- إذا اجتمعت الأمة على تحقيق هذين الركنين فهى تكون مسيطرة على الأمم كلها ومربية لها ومهذبة لنفوسها فلا شك أن جميع الأهواء الشخصية تتلاشى من بينهم. ولا يهتمون إلا بالعاون والإجتماع.
المرتبة الثانية- في العوة والأمر والنهي: دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى الخير وتآمرهم فيما بينهم بالمعروف وتنهاهيهم عن المنكر و العموم فيها ظاهر وله طريقان:
– أحدهما: الدعوة العامة الكلية ويقوم على هذا الطريق خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام (المقاصد الشرعية) وحكمة الدين وففهه.
– الطريق الثاني- الدعوة الجزئية الخاصة وهي ما يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض ويستوي فيه العالم والجاهل، فإن أفراد الأمة إذا قام كل واحد منهم بنصيحة الآخر دعوة وأمرا ونهيا، اتنع فشوً الشر والمنكر فيهم واستقر أمر الخير و المعروف بينهم.
الأوصاف والأنواع للأمة (خيرية-وسطية):
خيرية الأمة وفضلها كما جاء في القرآن الكريم تكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما تركتهما رغبة عنهما أو تهاونا بأمر الله (تعالى) بإقامتهما، بل مكرهة باستبداد الملوك والمراء من بني أمية ومن سار على طريقتهم ومن بعدهم.
وسطية الامة }وكذلك جعلناكم أمة وسطا{:
الوسط هو العدل والخيار وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط والنقص عنه تفريط وتقصير وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة فهو شر ومذموم فالخيار هو الوسط بين طرفى الأمر أي المتوسط بينهما.
الأمة بين الخاصة والعامة:
أمة الخاصة: وهي المنتخبة من المة العامة يقتضي أن تكون للعامة رقابة وسيطرة على الخاصة تحاسبها على تفريطها ولا تعيد انتخاب من يقصر في عمله لمثله. فالأمة الصغرى المنتخبة (بفتح الخاء) تكون مسيطرة على أفراد الأمة الكبرى المنتخبة(بكسر الخاء) وبهذا يكون المسلمون في تكافل وتضامن.
الأمة الدور والوظيفة:
وهذة المة يدخل في عملها المور العامة التي من شأن الحكام وامور العلم وطرق إفادته ونشره وتقرير الأحكام وأمور العامة الشخصية ويشترط فيها العلم بذلك، ولذلك جعلت أمة.
كما يناط بهذه الامة، وهو أصل كل معروف: النظر في تعليم الجاهلين . كما أن كل فرد من أفاد المسلمين مكلف بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وان يختاروا امة منهم تقوم بهذا العمل لأجل أن تفقهه وتقدر على تنفيذه. ولابد للمرء في حفظ نفسه ومن معه من المر بالمعروف و النهي عن المنكر كما أن على كل فرد من جماعة (أمة) المؤمنين أن يكون له إرادة وعمل في إيجادها (الأمة) وإسعادها ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافا أرجعوها إلى الصواب….
الحكومة:
العلاقة لأمة و الحكومة هي أن الأمة هي التي تقوم عوج الحكومة، والمعروف أن الحكومة الإسلامية مبنية على أصل الشورى ، ومن ثم فعلى الناس المر بالمعروف و النهي عن المنكر وهو عام في الحكام والمحكومين ولا معروف أعرف من العدل ولا منكر انكر من الظلم.
التماسك:
وهو يكون بأن القائمين بالأمر والنهي امة يستلزم أن يكون لها رياسة تدبرها لأن أمر الجماعة بغير رياسة يكون مختلا معتلا.
وأن يكون أمة تدعو ألى الخير وتأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر وان ذلك يقيم الدين ويحفظه وبه تتحقق الوحدة المقصودة منه في حين ان التعرض والاختلاف يذهب بتلك الوحدة، ويتقدم القيام بالدعوة الصالحة وهي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ومن ثم يجعل (يساعد) المة في القيام بدورها وبدونه تنتهى الامة ويذهب ريحها.
العمران:
يرى العلماء أن جميع الفنون والصناعات التي يجتاح اليها الناس في معايشتهم من الفروض الدينية إذا اهملت الأمة شيئا منها فلم يقم به من أفرادها من يكفيها أمر الحاجة إليه كانت كلها عاصية لله(تعالى) مخالفة لدينه إلا من كان عاجزا عن دفع ضرر الحاجة وعن الأمر به للقادر عليه وعلى ذلك يتوقف التوسع في العمران .
السياسة والأمة:
لقد افسدت السياسة روابط الأمة فصار الأخ يطمع في مال أخيه ويحفر له من المهاوى ما لعله هو يقع فيه.
ه) التمدن والحضارة والعمران (الحضارة الفاعلة):
الحضارة الإسلامية حضارة المدنية:
العقيدة الإسلامية هي العقيدة السامية أو المدنية الإسلامية ، فهي قد ارتقت بأربابها وهم من أهل البداوة في قاصية الأرض رغم أنهم لم يتلمظوا (يتذوقوا بأطراف ألسنتهم) بشئ من نعيم الحضر، ولم يتذوقوا طعم العلم والصنعة، حتى بلغت بهم ما بلغت وأستوت بهم على عروش العزة و السلطان، ثم ما بلغوا به من رقة الوجدان وصفاء العقل مبلغاً مكنهم من التلطف بالأمم حتى وقفوا على ما كان خفياً لديها، وكشفوا ما كانوا مستوراً عندها، واستخرجوا من كنور معارفها ما ظهر قبله على الأوروبيين بعد عدة قرون من البعثة النبوية.
العمران و التمدن الزائف :
لعمر الحق، إن المفترش للحصى، المتوسِد لحجر الصخر، المستكن في منازل الحيوانات، المتكلف في معيشته، خير من هؤلاء الناس الذين لا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم بال، ومما يسوؤنا أن نراهم أكثر من الكثير في بلادنا ، وهذا ما حسبوه تمدناً وزعموه نعيماً مقيماً؟ بل أنه هو الشقاء الأبدي الجالب للفقر المدقع والعذاب الأليم.
إن بداية التقدم الأوروبي في الحقيقة كان في نفوس الأهالي وأفراد الرعايا، علمتهم الحروب الصليبية سير البر والبحر، وخالطوا فيها الأمم الشرقية أجيالاً، وطمعت أنظارهم لمتابعتهم، فدققوا في سبب قوة الشرقيين التي كانت لهم إذ ذاك، وبحثوا في أحوالهم فرأوا لهم عادات جميله، وفيما بينهم أفكار سامية، ورأوا في دوائر أعمالهم اتساعاً، وأيدي الصناعة والأكتساب مطلقة الحرية؛ ولذلك كان الغنى والعز مستو (مستعر) أقطارهم.
فأخذ أهالي أوروبا عند ذلك تقليدهم ، ولكن لا في البهارج و الزخارف، ولكن في أسبابها و الموصلات إاليها؛ وهي توسيع نطاق الصناعة و التجارة و نحوهما من وجوه الكسب، وكان ذلك اساساً للعمل وقر في النفوس وثبت في العقول و بنوا عليها ما شاءوا.
كما يمكن لنا إرجاع أسباب التقدم الغربي لسبب واحد؛ هو إحساس نفوس الأهالي بالآم صعبة الأحتمال من ظلم الأشراف (النبلاء)، وغدر الملوك، وضيق وجوه الأكتساب، ونفرة دينية على المسلمين الذين استولوا على حرمهم المقدس، وقد طلبوا لذلك أسباباً متنوعة أقواها التعاضد والتفاوت والتعاون على ترويج وسائل الكسب وافتتاح أبواب الرزق، فكانت تعقد لذلك المحالفات والمعاهدات، وتتآلف له الجمعيات، وكانت جرثومة تقدمهم امراً منبثاً في غالب الأفراد ومحرزاً في أغلب العقول؛ وهو نشاط الأهالي في اجتلاب الثورة وطلبهم لحرية العمل لينالوها، ورفضهم لتلك التقييدات التي كانت تمنعهم من طلب حقوقهم الطبيعية .
· التمدن عند العرب (المصريين ):
أما عقلاؤنا فقد وجهوا نظرهم إلى حالة التمدن الحاضرة والأهالي علي غير علم منها بأنفسهم، فاستلفتهم العقلاء إليها ولكن لتحريك غيرتهم على العمل اختيارًا لا بتسهيل الطرق لهم ولا بالاهتمام بالبحث عن الأسباب، ولكن جلبوا إليهم كثيرًا من أبناء تلك البلاد تظهر عليهم الرفاهية وترى عليهم آثار النعمة يتكلمون بما لا يفهم ويتفكرون فيما لا يعقل فشادوا بيننا أبنية وزينوها بما لم نكن نعهده من أنواع الزينة، وجلبوا إلينا من مصنوعاتهم ما راق منظره وطاب مخبره، لكننا لم نشهد مصنعه ولم نر منبعه..فأعجبنا حالهم هذا. ثم قال لنا العقلاء: كونوا مثلهم والحقوا بهم في هذه السعادة، ثم صاروا أئمةً لنا في العمل؛ فأخذنا نتشبه بهم ولكن فيما رأيناه؛ وهو الزينة والبهرجة غير باحثين عن كون ذلك هو الذي يلحقنا بهم في الحقيقه أم لا. ومن ذلك ترى أفكار الغالب منا دائما- عندما يجد فرصةالأقتدار- موجهة إلى تشييد الأبنية، وتجويد وضعها، وإتقان ترتيبها، وتزيين بواطنها وظواهرها، والتوسع في لوازم المآكل والمشارب وآلاتها وأوانيها… الخ.
التمدن والحضارة (طرح محمد عبده للتمدن والحضارة):
كل هذا نشأ من جلب تلك الفوائد الترفيهية إلى بلادنا وطلب التحلي بها بدون أن نحوز ما يوصلنا إليها من أنفسنا، وليتنا قبل أن نشيد بيوتنا بالارتفاع الشاهق والترتيب المحكّم ونزينها بأنواع النقوش على بس ورتبنا في مداركنا جميع الوسائل والمعدات التي تحفظ علينا ما وجدنا وتجذب إلينا ما فقدنا، وزينا نفوسنا بالفضائل الإنسانية والشرعية من رحمة بالضعفاء ورفق بالملهوفين وغيرة على البلاد وأنفة عن الصغار.
و) السنن الحاكمة القاضية:
نستطيع القول أن تفسير الشيخ الإمام للقرآن حقيق به أن يسمى بالتفسير السنني والتربوي، الذي يعكس منظومة مفاهيمية ومعرفية وسلوكية وقيمية قادرة على أن تزكي وعي الإنسان وفعاليته. وفي هذا السياق لم يترك الإمام فرصة للتأكيد على السنن أو الإشارة إلى فعلها أو التنبيه على الاستمساك بها إلا وأفاض فيها وأشار إلى أنواع من سنن أو طاقات من فاعلية تتولد عنها وتترتب على وعي وسعي بها ولها. حتى إنه أفرد عنوان “السنن الاجتماعية في القرآن والأمم – الاستقلال”، وراح بعدد السنن وينوعها في إطار جامع ينظم فيما بينها ليؤكد على منظومة سننية متكاملة.
السنّة الأولى:
إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها تنتبه مشاعرها لدفع الضيم، وتفكر في سبيله فتعلم أنها “الوحدة” التي يمثلها الزعيم العادل، والقائد الباسل،فتوجه إلى طلبه حتى تجده. فهذه سنّة النهوض والدفع لمواجهة العدو ورفع الضيم وتوسل أهم أدوات ذلك.
السنّة الثانية:
ويكمل السنّة السابقة أخرى تتعلق بشعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها وصيانة استقلالها إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصّها، فمتى كثر هؤلاء الذين يطلبون الرئيس الذي يملك عليه. وهي سنة تحرك إقامة فروض الكفايات في الأمة وعناصر تكافلها في فروضها التضامنية.
السنّة الثالثة:
وتتكامل عناصر المنظومة السُّننية في استقلال الأمة وتماسكها، بحالة استطراق الوعي بالاستقلال: “فمتى عظم الشعور في نفوس خواصّ الأمة بوجوب حفظ استقلالها ودفع ضيم الأعداء عنها فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النصرة والحمية للأمة ما عند الكامل.
الاختلاف – وإن كان سنة كونية إلهية ماضية وقائمة- فعلينا أن نتدبر معنى الخلاف المذموم المفضي لتفرق وتنازع وفشل ولذهاب الريح والأثر، واختلاف التكامل والتنوع الذي يفضي إلى الائتلاف في الكلمة والاتفاق على شأن الزعامة بوسائل الاختيار المرعية؛ من شورى وبيعة، وبالاعتبار الذي يؤكده فقهاء الأحكام السلطانية بأن الإمامة عقد مراضاة واختيار.
ومن كمال الوعي بالسنن ومنظومة معوقات فاعليتها التعرف على (وهم السُّنن) وعملية تزييفها في الإدراك والوعي، أو انحرافها في السعي. إن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة وأصحاب الأنساب الشريفة، فهذا الاعتقاد من السُّنن العامة في الأمم الجاهلة خاصة، فإنها هي التي تخضع لأصحاب العظمة الوهمية وهي ليست صفة لنفس صاحبها كالمال والانتساب إلى بعض العظماء في عرفهم.
ومن هنا كانت أصول الاختيار تتمثل في شروط إعمال السُّنن، وما يتعلق ذلك بإعمال منظومة السُّنن عامة، والسُّنن الخاصة بمحال بعينه: إن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي في الآية من قوله تعالى: “إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم” (البقرة: 247)، ومن جميل ما نظر : 247)، ومن جميل ما نظر إليه الشيخ الإمام تفسيره لهذه الآيات التي تحقق أصول الاصطفاء والاختيار.
السُّنة الرابعة:
مشيئة الله (تعالى) إنما تنفذ بمقتضى سُّننه العامة في تسيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين.
السُّنة الخامسة:
إن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر. وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول.
وبين الفساد والإصلاح، والبحث في المصلحة بالاعتبار الذي يؤكد على نظومة “الصلاح” كمرجعية، و”الإصلاح” كعملية و”المصلحة” كمقصد في مواجهة “الفساد والإفساد والمفسدة” أو “المضرة” إن هذا التفكير المنظومي السننيكان حريًا بالأستاذ الإمام، الذي اهتم مبكرًا بهذا المبحث الذي أهمل من قبله ومن بعده، على اهميته وخطورته وكانه اراد ان ينبهنا إلى ضرورات تأسيس “علم السنن”، وضمن هذا السياق جعل السنن الشرطية القاضية جزءًا أصيلًا من بيان رؤية للعالم، مقومًا من أهم مقومات البنائية في سنن الفطرة المعتدلة.
من هنا كانت السنن ضمن منظومة شرطية تحرك الأسباب والمسببات غير منافية لمنظومة الإيمان وقتضايتها بل هي في القلب فيها من منظومة الحكمة الإلهية والعدل الإلهي.
وظلت ساحة السنن قائمة يفتقر إليها الإنسان المسلم، يطلبها افتقارًا لا استظهارا يحرك كل ما ينفع الخلق والناس، يتدربون عليه، ويربون على قاعدة منه، فجعل حركة الشورى ملازمة لحركة العمران وتحدياته ومستلزماته، فكانت “سنة المشاورة”.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضع قاعدة للشورى، وإن كنا قد وضع الشورى نفسها؛ وذلك فدراكه اختلاف أحوال الأمة في الزمان والمكان، وأنها لن تظل هكذا، كما انه- عليه الصلاة والسلام- لو وضع قواعد مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمان لاتخاذها المسلمين دينًا وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان وما هي من امور الدين.
ز) المقاصد والمصالح :
المقاصد العامة الكلية : إنها المقاصد الحافظة والحاضنة للفعل الحضاري القاصد إلى المصالح، مقتضية “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” . وقد عبر عن المقاصد في أكثر الكلام المنسوب للشيخ بالمصالح العامة، وقد حملت مدلولين غالبين:
· المصالح العامة: بمعنى الحكم والمنافع التي راعتها الشريعة واعتبرتها، ومن باب الصول الواجب توخيها والمتوزعة على سائر الإنسان : بينه وبين ربه وبين نفسه وعقله وكرامته (عرضه ونسله) وماله.
· والمصالح العامة بمعنى الهيئات والمؤسسات الراعية والمراعية لهذه العلل والحكم؛ من الجمعيات الخيرية التي تحفظ على الناس اموالهم وكفايتهم، والدول والولايات التي تحفظ النفوس والكرامات وترفع المصائب عن الأمة، وهيئات الدعوة والتعليم والتربية التي مقامها حفظ الدين والعقل من سائر مفسداتهما على الناس.
فالإسلام هاد ومرشد إلى توسيع دائرة الفكرة، واستعمال العقل في مصالح الدارين وكل ما امرنا الله (تعالى) به وهدانا إليه، هو من امور ديننا.
· المقاصد وغايتها المصالح:
إقامة صرح مجد الإسلام على تحقيق المقاصد( المصالح):
وقد قام صرح مجد الإسلام عدة قرون، كان المسلمون كلما عرض لهم شئ بسبب التوسع في العمران يتوقف عليه حفظ الأمر وتعميم دعوته النافعة قاموا به حق القيام وعدوا القيام به من الدين.
ومضوا على ذلك قرونًا كانوا فيها أبسط الأمم وأعلاها حضارةً وعمرانُا وبرًا وإحسانًا، إلى أن غلا أقوام في الدين واتبعوا سنن من قبلهم في إهمال مصالح الدنيا… وكان من أثر ذلك أن أهملت الشريعة؛ فلا توجد حكومة إسلامية على وجه الأرض تقيمها؛ لأنه لا يوجد من أهلها من يصلح لحكم الناس في هذه العصور التي اتسعت فيها الأمم والحكومات بالتوسع في العلوم والصناعات وارتباط العالم بعضه ببعض. “العمران من الدين”.. شعار يطلقه الأستاذ الإمام لتحريك فعاليات المسلم والوعي بمصالحه والوعي بسُنننه ومقاصده.
السعي نحو المصالح والاجتهاد المقاصدي أصل بنياني من الشريعة وفطرة الخلق:
مضت حكمة الله أن تكون شريعته جامعة لمصالح عباده، جارية على سنن الفطرة المعتدلة التي فطرهم عليها ولله العزة بمنع الناس من بعض الشهوات وبتكليفهم الإنفاق من فضول أموالهم، وبتكليفهم تحري الإصلاح. ومن حكمته أنه منعهم ما يضرهم من ذلك، وأن كلفهم ما فيه مصلحتهم، وأن هداهم إلى وجه منفعة النافع ومضرة الضار.
قضت حكمة الله أن يبين هذا في الأحكام المتعلقة بمصالح الناس ومنافعهم؛ بأن يوجه عقولهم إلى ما في الأشياء من المضار والمنافع، “فيظهر لكم الضار منها أو الراجح ضرره؛ فتعلموا أنه جدير بالترك فتتركوه على بصيرة واقتناع بأنكم فعلتم ما فيه المصلحة، كما يظهر لك النافع فتطلبوه”.
(5) رؤية العالم بين النوذج المعرفي وبنيه المشروع الإصلاحي:
يحوط هذه الرؤى السابقة نموذجاً معرفيًا بمفرداته وعناصره، ومشروعًا إرشاديًا” إومنظومة من المفاهيم الحضارية الكبرى ” مفاهيم المظلة” وبعض منظومتها الفرعية من مفاهيم مشتقة، وهل تولد مثل هذه الرؤية الكلية ضمن ما تولد “منظومة إصلاحية” متكاملة الجوانب متنوعة المجالات متماسكة الأركان؟
إن ما قدمناه من رؤية كلية لعناصر ساحة حضارية تتعلق بأصول التوحيد الذي شكل مرجعية ضامة لتوحيد أنساق هذه الرؤية على تنوعها، ومن رؤية للإنسان والكون والحياة، أو للتراب والإنسان والوقف على معادلة مالك بن نبي، هذه الرؤية للساحة الحضارية وعناصر الفعل الحضاري وتفاعلاته إنما تترابط بمنظومة سباعية شكلت رؤية للعالم واضحة المعالم والمصادر والمرجعية تتشابك خيوطها من عقيدة دافعة، وشريعة رافعة، وقيم تأسيسية حاكمة، وحضارة فاعلة وشاهدة، وأمة جامعة، وسنة شرطية قاضية، ومقاصد حاضنة حافظة، سباعية تتحرك في رؤية الأستاذ الإمام فتصل خيوطها بعناصر رحمها من نموذج معرفي إرشادي ومنظومة مفاهيمية حضارية، وبرنامج إصلاحي متكامل. وكان نسيج هذه المنظومات فضلا عن شبكيتها، أمراً أتاحه فعل هذه الدارسة توضح البنيان المعماري في هندسة رؤية العالم وتحريكها في الوعي وتفعيلها في السعي.
ويشكل من خلال تلك المفاهيم الحضارية العامة منظومة دافعة لتأويل هذه المفاهيم في مرجعية ضافية: العقيدة والاجتهاد والسنة والمقاصد، مرجعية توحيدية تجعل من هذه المفاهيم ذات ارتباط وثيق بعروة وثقى لا انفصام لها تحقق مضمون الاستقامة أصول الحركة والفاعلية العمرانية، ومن هنا فإنها تكون مفاهيم وشيكة قد تتخذ شكل شجرة المفاهيم من مفاهيم الجذور ومفاهيم الساق الواصلة، ومفاهيم الفروع المتوالدة، ومفاهيم الثمار النافعة، عمليات موصولة ومتواصلة تحقق للمنظومة المفاهيمية فاعليتها الأكيدة في هندسة العمران للإنسان والكون والحياة. وولد كل ذلك شبكة لدى الأستاذ الإمام حملت عناصر أجدر بالتناول لديه وفي أجندته حددتها عناصر “المشروع الفكري”.
للأستاذ الإمام برنامج ومشروع إسلامي “ليؤسس في ذلك منظومة إصلاحية متكاملة، حاول قدر طاقته أن يحسن معمارها وهندستها إلا أنه من شأن مفكري الإصلاح وتصورهم أن يحاولوا استيعاب فكرة الإصلاح كشأن عام شامل في وجهته وأدواته، إلا أن عملية التوقيع والتنزيل الإصلاحي تترك من الإشكالات الضاغطة وهذا ما سنقف عليه على عقل المصلح خاصة لو كان فيلسوفا على حد وصف العقاج للأستاذ الإمام ألا يحسن الكلام في كل شئ وكل متطلبات مشروعه الإسلامي خاصة حينما يكون تحت الوطأة.
هل لو كان الأستاذ الإمام حيًا بيننا أن يتعرف على مآلات مشروعه الإصلاحي الذي كان أحد المواد المفضلة للسجال بين فرقاء تنازعته الاتجاهات وحاولت ان تختص به التوجهات واختطف مشروعه الإسلامي أو يكاد وتبقى منه من كثرة الشد والجذب تشرذمات وتمزقات، وبدا لكل فريق يقتنص كلمة من هنا أو من هناك يلزمه ما لا يلزم، ويقوًله ما لم يقل، أو يؤوًل ما كتب ما لم يرد فصار مشروعًا للسجال والحروب الأهلية الفكرية أكثر من كونه مشروعًا إصلاحيًا حمل بذور مشروع قابل للتكامل وربما الاكتمال والتكميل. وبدا الشيخ الإمام يتفرق مشروعه بين القبائل الفكرية.
البحث في المشروع الفكري والإصلاحي للشيخ الإمام يحمل عناصر أجندة بحثية تستحق الدرس والفحص والبحث، فهل لنا ان نتلقف خيط الإصلاح من الأستاذ الإمام نصوب ونسدد ونقارب ما أمكننا ذلك ضمن حركة وعي منهجي من غير إلزام بنتائج توصل إليها بحكم السياقات التاريخية التي أحاطت به، أو شغلت تفكيره وشخصيته إلا ان الثابت في مشروعها الإسلامي ليس بالشيء اليسير، وهو امر يجب ان نفتح فيه ملف ذاكرة مشروعا الإصلاح والنهوض.
5/ب) المشروع الإصلاحي وبرنامج الإصلاح التعليمي والتربوي:
في إطار رؤية الأستاذ الإمام الموصولة بأصل رؤيته الكليه للعالم، تأتي كمحصلة رؤيته في مشروعه الإصلاحي، والذي أسسه على قاعدة من التربية فإن “…من يريد خير البلاد فلا يسعى إلا في إتقان التربية، وبعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه…بدون إتعاب فكر ولا إجهاد نفس..”
ويستدرك على نفسه حتى يوضح موقفه على أرض الواقع في فكرتين أولهما قبل الاحتلال وثانيهما من بعده.
وفي سياق معايشة محمد عبده ظروفًا اجتماعية وسياسية وحضارية متردية تمثلت في ضعف السلطة وتدخل الأجانب وجمود المجتمع وركوده، تحرك الأستاذ الإمام لينظم أفكاره حول مشروعه الإصلاحي بدءًا من المفهوم ومرجعية (الإصلاح والتغيير الاجتماعي)، ودور الفرد في إصلاح المجتمع، والتأسيس المعرفي والمنهجي للمشروع الإصلاحي، وآليات الإصلاح والتغيير الاجتماعي، وأهداف المشروع الإصلاحي ومقاصده.
جمود المسلمين وعملية الإصلاح:
أول اساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح فقد إقامك منه على سبيل الحجة و قاضاك إلى العقل ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته فكيف يمكنه بعد ذلك ان يجور أو يثور عليه؟
ومن الناس من إذا ذاكرته في المنافع العامة والمصالح الكلية أخذ يشرح غوامضها ويبين الواجب فيها والطرق الموصلة إلى جلب المنافع ورفع المضار والوسائل المؤدية إلى تقويم حال الأمم وارتفاع شأنها من رفع منار العدالة وبث روح العلم وتقرير المساواة وما شاكل ذلك ثم إذا فوض إليه إمرة تلك المصالح رأيته أبعد الناس عن الخير وأقربهم إلى الشر واستنكف عن المساواة واستهجن معنى العدالة وإن كان يعبر عن نفسه بلفظها وسار مع أغراضه وألفاظه وجعلها قانونا يتبع…
كان الإسلام دينا عربيا ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيا بعد أن كان يونانياُ ثم أخظأخليغة في فهم السياسة فاتخذ من أعداء الإسلام سبيلًا إلى ما كان يظنه خيرًا له، ظن أن الجيش العربي قد لا يكون عونًا فخليته علوى، لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتخذ له جيشا أجنبيًا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستبعدها بسلطانه ويصطفها بإحسانه فلا يساعد الخارج عليه ولا تعين طالب مكانه من الملك وفي شق أحكام الإسلام وسهولته ما يتيح له ذلك، هناك استعجم الإسلام وانقلب عجميًا.
وقد اكثر من ذلك الجند وأقام عليه الرؤساء منه فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء و استبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم.
وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضللين وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف واتخذوا من عقيدة القدر مثبطا للعزائم وغلا للأيدي عن العمل .
هذه السياسة – سياسة الظلمة وأهل الأثرة- هي التي روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه وسلبت من المسلم أملًا كان يخترق به أطباق السموات وأخلدت به إلى يأس يجاور به… فجل ما تراه الآن مما تسميه العامة إسلامًا فهو ليس بإسلام وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج.
ومن ثم لنستطيع أن نقول أن علة عرضنا للمسلمين عندما دخلت على قلوبهم عقائد أخرى ما كانت عقيدة الإسلام في افئدتهم وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من عقولهم هو السياسة كذلك تلك الشجرة الملعونه في القرآن : عبادة الهوى واتباع خطوات الشياطين هوى السياسة.
إن حال الأمم التي تعودت على أن يكون زمامها بيد ملك أو أمير أو وزير يدير أعمالها دون ان يكون لها دخل في رؤية لصالحها لا يمكن أن يطلب منها الدخول في أعمالها العامة إلا فسدت.
ومن يريد خير البلاد فعليه أن يسعى لها في إتقان التربية وبعد ذلك ياتي له جميع ما يطلبه إن كان طالبًا حقا.
إن أول ما يجب ان يبدأ به: التربية والتعليم لتكوين رجال يقومون باعمال الحكومة النيابية على بصيرة مؤيدة بالضريحة وحمل الحكومة على العدل والإصلاح ومنه تعويدها الأهالي على البحث في المصالح العامة واستشارتهم إياهم في الأمر بجالس خاصة تنشأ في المديريات والمحافظات وليس من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له فذلك بمثابة تمكين القاصر من التصرف بماله قبل بلوغه سن الرشد وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتعرف المفيد.
إن إصلاح البلاد ماديا وأدبيا لا يكون إلا بحفظ الشرائع والقوانين وتوسيع نطاق المعارف وإطلاق الحرية السياسية التي يعتبرونها حياة للأمة.
وحدد الإمام ضمن مشروعه الإصلاحي مجالات حاول نظمها في ذلك المشروع، منها ما يتعلق بالجانب السياسي، ومنها ما يتعلق بالقضائي والمالي و الأقتصادي ومنها ما يتعلق بالمسألة الاجتماعية والمرأة والأسرة، ومنها ما يتعلق بالجانب اللغوي والقيمي والثقافي فضلًا عما أكده من عمليات الإصلاح الديني و المؤسسي( الأزهر) التي كانت موضع أهتمامه وهمه، أبدى كل ذلك ضمن مشروع إصلاحي تدريجي تربوي قد يبني الأمة وربما يهادن الاحتلال وفي كل الأحوال ظل مشروع عبده مشروعًا إشكاليًا لأنه نظر إلى الغرب نظرة مركبة حيث كان موضع التحدي.
رؤية العالم ومشروع الإصلاح:
في هذا السياق الذي يؤكد على مضمون الرؤية العالم عند الأستاذ الإمام فإنه من خلال ذلك البحث نستطيع ان نقول إنه لا يمكن فهم المشروع الإصلاحي للأستاذ الإمام إلا بفهم الرؤية الكاملة والكافية لرؤية العالم عنده، وربما يؤصل هذا المعنى الذي يؤكد أن تلك الرؤى الإصلاحية ستثير في كل آن عدة إشكاليات وجب على المصلح أن يجيب عنها:
الإشكال الأول- يتعلق بثنائية الداخل والخارج.
الإشكال الثاني- يتعلف ب: هل يتم الإصلاح من أسفل أم من أعلى.
الإشكال الثالث- يتعلق بهل يتم الإصلاح من داخل النظام أم من خارجه.
الإشكال الرابع- هل يتم الإصلاج تدريجيًا ام جدريًا .
الإشكال الخامس- هل يتم الإصلاح عنيفًا إنقلابيًا أم تربويًا سلميًا.
الإشكال السادس- هل يتم الإصلاح دفعة واحدة بكافة مجالاته أم أنه يمكن تجزئته، وإن كان من الممكن تجزئته فها يمكن الحديث عن ميزان الأولويات على التوالي أم من الأفضل أن يكون على التوازي.
الإشكال السابع- الذي على المصلح أن يقف عنده هو الإشكالية المتعلقة بأدوات وآليات الإصلاح، وماذا عن آليات الإصلاح وإن فسدت، ووسائله إن عقمت؟!
وكذلك فإنه يجب على المصلح ان يتبصر مليًا حول غاياته الإصلاحية ومقاصده الكلية من عمليات الإصلاح؛ فيصل بين المقاصد والوسائل وصلا جميلًا يحقق المقصود ويستثمر كافة الوسائل المتاحة أداءً وفاعلية.
كما أنه كذلك يجب ان يقف عند ما يمكن تسميته بقابليات الإصلاح داخل المجتمعات، وكيف تتكون وتتراكم وتتفاعل وتتحول من قابليات إلى مكنات، ومن مكنات إلى فاعليات؟!!
كما أنه يجب على المصلح أن ينعم النظر فيو تعوقه أنواع اخرى تتسمى بما لو كان هذا النمط من الإصلاح تحاربه أو تعوقه أنواع أخرى تتسمى بالإصلاح وهي تفسد، فتكون لديه من العقلية الفارقة الكاشفة بين الإصلاح الضال والإصلاح الأصيل، بين الزائف منه والمكين فيه.
أبعد من ذلك عليه ألا يهمل كيف يتحرك وينطلق بمشروعه الإصلاحي – في سياق عملية اتصالية كبرى- بحيث تشكل له القاعدة التي تستند إليها وتحميه وتحصنه، كيف تولد عملية الإصلاح عناصر التصحيح الذاتي وقواعد التجديد الذاتي؛ بحيث تحدث تراكمًا إصلاحيًا يمنع ذلك المشروع من الانحراف في أي مرحلة من مراحله.
ضمن هذا السياق لابد ان ننظر إلى أن المشروع الإصلاحي للأستاذ الإمام يرتكن إلى قواعد نظرته للإنسان، وان المشروع الإصلاحي يجب ألا يقترن بأي عمليةتقليد تترجم في النهاية إلى عقلية عوام أو نفسية عبيد أو تفكير قطيع.
ومن هنا بدا له في مشروعه الإصلاحي ان يحرر العقول كمقدمة لتحرير الإنسان، إلا انه- وهو يؤدي ذلك- اداه، بنوع من المهادنه للاحتلال الإنجليزي الذي أحدث إشكالًا في رؤيته الإصلاحية، بل في رؤية من عاصروة ومن لحقوا به.
والأسئلة لا زالت تسأل حتى يومنا هذا. يعني ذلك ان المصطلح في شأنه لابد أن ينظر إلى أن عملية الإصلاح ليست عملا فرديا؛ ومن هنا تثار ثنائية اخرى: ثنائية الفرد أم الجماعة والمجتمع، وأين نحن من كل ذلك؟
إنها إشكاليات لازلنا في أتونها حتى هذا اليوم وكأن الزمان قد دار دورته، ولا زالت الإشكالات تدور هنا وهناك في العراق، وفي مشروع الشرق الأوسط الكبير وفي مشروعات (مبادرات) “إصلاح” تقدمها السلطات والأنظمة، وفي مشروعات تقدمها قوى سياسية مختلفة واتجاهات فكرية وأيدلوجية متنوعة، وفي مشروعات إصلاحية غابت عن الأمة فغابت عنها الأمة!!
ربما يكون ذلك هو السبب الأساسي أو الرئيسي في تهاوى كثير من مشروعاتنا الإصلاحية. إن الأمر هنا قد يتعلق برؤية النبي شعيب- عليه السلام- لبرنامجه الإصلاحي: }إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب{(هود: 88).
الإصلاح وفق دعوة النبي شعيب:
(إرادة)، (واستطاعة)، (وآليات ووسائل وطاقات وإمكانات وقدرات)، (وتوفيق ن خلال العمل بسنن الإصلاح وقوانينه الجوهرية) التي تتحكم به وفيه، وهو نوع من قدرات في العمل تؤكد أن حسن من التوكل الأخذ بأسباب الإصلاح، ثم تأتي بعد ذلك (حالة المراجعة والإنابة) التي تؤكد على عناصر التصحيح الذاتي والتجديد الذاتي….عمليات بعضها ن بعض تشكل رؤية إصلاحية لابد أن نتبصر كل إشكالياتها، فإن المصلح ليس هو ذلك الفرد الذي ينتج “أفكار إصلاح” أو ينطلق إلى جزء يصلح فيه، ولكنه لابد أن يؤسس قاعدة للإصلاح تستطيع ان تصمد في وجة تلك الإشكالات وتتفاعل معها بميزان الإصلاح حتى لا يسرق المشروع الإصلاحي كل مرة، ولا يركب من صنوف فاسدة قد تدعي الإصلاح، ولا يرتكن إل أدوات قاصر وربما فاسدة.
إنها السنن التي علمنا إياها الإمام محمد عبده، وذكرنا باهميتها، فإن للتفكير سُننًا، وإن للتدبير سُننًا، وإن للتيسير سُننًا، وإن للتغيير سُننًا، وإن للتأثير سُننًا.
}إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم{( الرعد: 11)، هل يمكننا ان نفهم في النهاية ان الإصلاح ليس إلا عملية إنسانية تقوم على: كيف يفكر افنسان في عقيدته، وشرعته، وانساق قيمه، ورؤى حضارته، وجامعية أمته، كيف يتعلم على سنن عمليات التغيير وبلوغ المقاصد الكلية من أقصر طريق واعمقه وأفعله.
هاجس الغرب: رؤية العالم ورؤيته للاحتلال:
هاجس الغرب عند الأستاذ الإمام دفعه أو ضغط عليه ضغطًا دافعًا تارة، وتارة أخرى ضغط عليه ضغطًا مانعا.
في الأولى رأى حال المسلمين وجمودهم وضعفهم ورأى حال الغرب فقرر- وفق مسيرة اجتهادية وجهادية وتجديدية- أن يصدع بتحرير الفكر والخروج عن ربقة التقليد وعقلية القطيع وحال العوام، وجعل من تحرير الفكر مقدمة لتحرير الإرادة واستقلالها، فخاض في مجالات التجديد على تنوعها ليؤكد على منظومة تجديدية فكرية و مؤسسية تتحرك وتفعل بجامع التربية وأصول التعليم، كان هذا هو التحدي الدافع الذي قد وبحق استجابة فاعلة في أقصى صورها.
إلا أن الغرب كذلك توالى في تأثيره فضغط على الأستاذ الإمام ضغطًا مانعٌا تمثل في موقفه من الاحتلال البريطاني بعد عودته من المنفى، فمن ناقلة القول أن نؤكد مع من ذهب أ الأمر الذي لم يختلف من حوله موقف الأستاذ الإمام هو عداؤه لاحتلال الإنجليز مصر، وكراهية هذا الاحتلال، وثقته في زوالهن وعمله من أجل حرية البلاد….
إلا ان الأمر المختلف عليه وفيه قد يتعلق “بالأسلوب” الذي يتبعه لبلوغ الغاية وتحرير البلاد من هذا الاحتلال.. فبعد العودة من المنفى سلك طريق التربية و التعليم، وتكوين القيادات الفكرية المتحررة والمستنيرة، ظنا منه أن هذا الطريق- تحقيق حرية البلاد عندما تنمو شخصيتها فتصبح اعظم وأقوى من قدرات الاحتلال. ضمن هذه الرؤية برزت مقولات بدت تبريرية لموقفه، ومراسلاته مع “بلنت” وعلاقاته مع “كرومر” دالة على هذا المقامن وبدت رؤاه شبه متناقضة يتحدث فيها عن الأثر السلبي للاحتلال والأثر الإيجابي له في آن واحد.
فبعد عودة الأستاذ الإمام إلى مصر في سنة 1889 م ابتعد .. عن الاشتغال بأمور السياسة العليا والمباشرة، والتعرض لعلاقة الحاكم بالمحكوم ومنها الموقف من سلطة الاحتلال.. فما كان ذلك غلا مقدمة لانغماسه في السياسة وتوليه المناصب. وقد جعل الإمام موقفه هذا مذهبا يعتنقه وينصح به الآخرون لا في مصر وحدها، بل وفي غير مصر، ولا إزاء الإنجليز فقط بل وإزاء غيرهم من المحتلين الأوروبيين، فهذا موقفه الناصح لعلماء الجزائر يدور في ذات الدائرة (الجد في تحصيل العلوم الدينية والدنيوية)، (والجد في الكسب وعمران البلاد من الطرق المشروعة الشريفة)، يترافق مع ذلك (مسالمة الحكومة وترك الاشتغال بالسياسة، وبهذا يتم لهم ما يرجون ن مساعدة الحكومة الفرنسية لهم على ما قبله، فإن الحكومات في جميع الأرض يضيقون على البلاد التي يستعمرونها ماداموا يعتقدون ان أهلها ساخطن عليهم، أو لهم ضلع مع حكومة أخرى.. وهذا الإعراض عن السياسة لا ينافي مخاطبة الحكومة فيما يرونه ضارًا بهم من القوانين والمعاملات…)
وفي حوار له مع بعض أنصار الاحتلال الإنجليزي في سنة 1898 يحدد رأيه في القضية، فيرفض مبدأ الاستسلام للاحتلال، والتسليم بأبديته، ولكنه يرفض أيضًا طريق العمل السياسي المباشر، والتهييج الوطني كطريق للتحرير من الاحتلال فيقول”إن العمل لإخراج الإنجليز من مصر عمل كبير جدًا، لابد في الوصول إلى الغاية من السير في الجهاد على منهاج الحكمة، والدأب على العمل الطويل ولو لعدة قرونن لا أنه عمل صغير يكفي فيه الكلام في المجالس والكتابة في الجرائد…”.
واقتضاه ذلك أيضًا رفضه للموقف الانعزالي الذي يرى مقاطعة الأجنبي لدوافع وطنية، وافتى بالاستعانة بالأجانب المخالفين لنا في الدين والجنس، ولقد اعتقد كذلك أن التربية و التعليم وهي مطلبه الأساس لن تكون محل المعارضة من سلطات الاحتلال.. ورأى انه “إذا كان أمر يصح أن يلاقى فيه الطرفان، ويكون قاعدة للاتحاد فأنما هو التعليم العام؛ غذ لا يمكن أن يوجد تناقض بين مصلحة الإنجليز ومصلحة المصريين في هذا المقصد…”،.. ومد له في هذا الرأي رؤية للأمة الإنجليزية التي هى ” من بين الأمم الأوروبية.. تعرف كيف تحكم من ليس على دينها وتعرف كيف تحترم عقائد من تسوسهم وعوائدهم.. فهى واحدها المة المسيحية التي تقدر التسامح حق قدره”.
وهكذا اجتمع العديد من العوامل الذاتية والموضوعية لتجعل للرجل هذا الموقف من سلطات الاحتلال ، واشتبك مع الأمور وتشابكت لديه فاختلت شبكية رؤيته فلم تبصر غاية الإبصار، ولم تتضح الصورة غاية الوضوح.
وكما حدث هذا الأشتباك في المواقف حيال الحضارة الغربية، حدث حال اشتباك آخر فى استخدامه المفاهيم، فتارة يستخدم المفهوم بمعانية الغربية وتأويله بمعانيه الإسلامية المختلفة في العبارة الواحدة، وهو أمر يوهم بالمعاني ويغيم من المواقف حيال بعض ما قال وبعض ما أدى.
واشتبكت وتشابكت رؤاه تارة مع أستاذه الأفغاني وتارة مع تلاميذه على تنوعهم، فتطورت آراؤه وألزمت المعاني ورتبت المواقف في حال اشتباك أثر على النظر الكاشف والفارق. وإذا اتسمت الرؤية الكلية للعالم عن الإمام بالصفاء فإن اشتباكها مع الواقع وتنزيلها الإصلاحي أصابه ما أصابه.
وفي إطار تفاعل عالم الأشخاص مع عالم الأحداث مع عالم الأفكار يأتي نموذج الأستاذ الإمام، الحدث الكاشف والفارق الذي يمثل اللحظة الكاشفة الفارقة هو “الاحتلال والنفي”، هذا الحدث ترك تأثيرات لا يمكن تجاهلها أو غض الطرف عنها في شخصية الأستاذ الإمام.
وكان لواقعة الاحتلال شخوصها ( الإنجليز، الثورة العرابية، الخديوي) مثلث الاحتلال، والثورة، والسلطة، و الأمة وتشابكت الأطراف، فأثر كل ذلك – وتحت الوطأة- على عالم أفكار الأستاذ الإمام:
شكل يصعبه رفعه على الموقع
ضغوط الاحتلال وضغوط الفشل وضغوط الضعف وضغوط الجمود، ومع تشابك هذه الضغوط ، تشابكت الخيوط واهتزت الشبكية واضطربت الرؤية، فأدى مع هذه الضغوطات غلى جملة من الاستبعادات شكلت أطاء جوهرية في مشروعه الإصلاحي والتفكير بوسائله وآلياته، وتنزيل هذا المشروع على واقعه، ومن هنا يمكننا تفسير التباس رؤية الباحثين حول الأستاذ الإمام، وبمطالعة سيرته والتوقف عند مآلات مشروعه فإننا نجد أن هذا الاشتباك خرج منه الأستاذ الإمام ولم يكسب إلى صفه أيًا من هذه القوى ، فأدى ذلك إلى ضعف أثر مشروعه الإصلاحي في واقع الأمة، وبقى من مشروعه أجندته الفكرية التي ذكرت بموضوعات أهملت، ودعوته التجديدية التي بثت روحًا جديدة ، ومشروعه الإصلاحي والتربوي الذي وجب الألتفات إليه.
شكل يصعب رفعه على الموقع
هوامش البحث:
*هذه الورقة مختصرة لبحث مطول قدمه الأستاذ الدكتور سيف الدين عبد الفتاح في احتفال مكتبة الأسكندرية بالإمام محمد عبده في الفترة 4-5 ديسمبر 2005م.
** أستاذ بكلية الأقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.