ترجمة الإمام محمد عبده:
“العلماء ورثة الأنبياء”[1] هذا التقرير النبوي الصريح يعبر عن مكانة العلماء في الأمة الإسلامية ودورهم الرائد في قيادتها علميًا وفكريًا، وإذا تكلمنا عن تاريخنا المعاصر ومن برز فيه من العلماء العالمين لدين الله، فإننا لا نستطيع أن نغفل الإمام محمد عبده رحمه الله.
ساهم محمد عبده بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود، وشارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.
فعندما نتحدث عن الإمام محمد عبده، فإننا لا نتحدث عن فيلسوف عبقري، ولا نتحدث عن مصلح مكافح، ولا عالم بارع، ولا عن مفتٍ واعنٍ بل نتحدث عن كل هؤلاء في شخص ذلك الإمام العالم المجدد، ولنتعرف على جانب من حياته ونشأته.
مولده ونسبه:
وُلد الإمام محمد عبده في عام (1266هـ = 1849م) لأب تركماني الأصل، وأم مصرية تنتمي إلى قبيلة “بني عدي” العربية، ونشأ في قرية صغيرة من ريف مصر هي قرية “محلة نصر” بمحافظة البحيرة.
نشأته وطلبه للعلم:
أرسله أبوه إلى الكُتَّاب، حيث تلقى دروسه الأولى علي يد شيخ القرية، وعندما شبَّ الابن أرسله أبوه إلى “الجامع الأحمدي” -جامع السيد البدوي- بطنطا، لقربه من بلدته؛ ليجود القرآن بعد أن حفظه، ويدرس شيئًا من علوم الفقه واللغة العربية، إلا أنه لم يستطيع أن يتجاوب مع المقررات الدراسية أو نظم الدراسة بسبب صعوبة بعض المتون العلمية عليه، فقرر أن يترك الدراسة ويتجه إلى الزراعة، ولكن أباه أصر على تعليمه، فلما تأكد من إصرار أبيه على موقفه، هرب إلى بلدة قريبة فيها بعض أخوال أبيه، وهناك التقى بالشيخ الصوفي “درويش خضر” -خال أبيه- الذي كان له أكبر الأثر في تغيير مجرى حياته.
استطاع الشيخ “درويش” أن يعيد الثقة إلى محمد عبده، بعد أن شرح له بأسلوب لطيف ما استعصى عليه من تلك المتون المغلقة، فأزال طلاسم تلك المتون وتعقيداتها، وقَرَّبها إلى عقله بسهولة ويسر.
وعاد محمد عبده إلى الجامع الأحمدي، وقد أصبح أكثر ثقة بنفسه، وأكثر فهمًا للدروس التي يتلقاها هناك، بل وقد صار شيخًا ومعلمًا لزملائه يشرح لهم ما غمض عليهم قبل موعد شرح الأستاذ.
انتقل محمد عبده من الجامع الحمدي إلى الجامع الأزهر عام (1282 هـ = 1865م)، وقد كان الأزهر غاية كل مُتَعَلِم وهدف كل دارس، فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة، وغير ذلك من العلوم الشرعية واللغوية.
جهاده الفكري والفلسفي:
رأى محمد عبده توجه العديد من المثقفين لتبني آراء الفيلسوف الفرنسي “كونت” التي كانت تتوجه لــــ ” هدم النظام اللاهوتي”، فواجه هذا الاقتحام التحديثي الأوروبي -الذي انتشر في كل مكان: في المدارس العصرية، وفي الصحافة والفنون ووضع المرأة الخ…- بتحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه.
وكان بارعًا في مناظراته قوي الحجة سهل الأسلوب، ويتضح ذلك في مناقشته مع “هانوتو” قنصل فرنسا في مصر والتي تعد مظهرًا يجسد وعي محمد عبده، وذلك من خلال رده على حديث أجرته صحيفة الأهرام سنه 1900، مع هذا القنصل؛ حيث كانت فرنسا تزعم أنها قَدَّمت للبلدان الإسلامية التي استعمرتها شروطًا اجتماعية وثقافية أكثر تطورًا وقَرَبَتْهَا من الحداثة، فيما اعتبرت الاستعمار البريطاني مُصَعِّداً للشبكات الدينية المحافظة.
وفي حديث القنصل الجملة الهامة التالية: “فكلما تقدمت أوروبا تأخر الشرق، لأن الواقف يتأخر بقدر ما يسير الماشي وإن كل حكومة انفصلت عن الشرق وسارت على النظام الأوروبي علمًا ومدنيًة فإنها نجحت، بل كل ما يود التنبيه إليه أن أوروبا تقدمت، إنما مرجع تقدمها محاربة السلطة الدينية مدة ثلاثة قرون وذلك لكي تفصلها عن السلطة المدنية”. ويردُ محمد عبده بذكاء على آراء السياسي الفرنسي مذكرًا بأن فرنسا اعتبرت نفسها حاميًة للكاثوليك في الشرق، وملكةُ إنجلترا تلقب بحامية البروتستانت، فأين العلمانية؟
ويحدد محمد عبده العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية بالشكل التالي: “إن الخليفة عند السلمين ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة”، “إن الإسلام لم يجعل للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام وكل سلطة تناولها هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يجوز لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره”.
هذه نماذج من رؤيته الفلسفية، وقبضته الفكرية، ودفاعه عن الإسلام، ولننظر إلى جانب آخر من حياته وهو الحياة العلمية والدعوية.
حياته العلمية والدعوية:
استمر “محمد عبده” اثني عشر عامًا، حتى نال شهادة العالمية سنة (1294هـ =1877م)، ثم انطلق ليبدأ رحلة كفاحه من أجل العلم والتنوير، فلم يكتف بالتدريس في الأزهر، وإنما دَرَّس في “دار العلوم” وفي “مدرسة الألسن”، كما اتصل بالحياة العامة. وكانت دروسه في الأزهر في المنطق والفلسفة والتوحيد، وكان يُدَّرِس في دار العلوم مقدمة ابن خلدون، كما ألَّف كتابًا في علم الاجتماع والعمران.
وحينما تولى الخديوي “توفيق” العرش، تقلد “رياض باشا” رئاسة النظار، فاتجه إلى إصلاح “الوقائع المصرية”، واختار الشيخ محمد عبده ليقوم بهذه المهمة، فضم “محمد عبده” إليه “سعد زغلول”، وإبراهيم الهلباوي”، والشيخ “محمد خليل”، وغيرهم، وأنشأ في الوقائع قسمًا غير رسمي إلى جانب الأخبار الرسمية، فكانت تحرر فيه مقالات إصلاحية أدبية، واجتماعية، وكان الشيخ “محمد عبده” هو محررها الأول. وظل الشيخ “محمد عبده” في هذا العمل نحو سنة ونصف السنة، استطاع خلالها أن يجعل ” الوقائع” منبرًا للدعوة إلى الإصلاح.
كما اتصل محمد عبده بعدد من الجرائد، فكان يكتب في “الأهرام” مقالات في الإصلاح الخلقي والاجتماعي، فكتب مقالًا في “الكتابة والقلم”، وآخر في “المدبر الإنساني والمدبر العقلي والروحاني”، وثالثًا في “العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية”.
الإمام محمد عبده مفتيًا للديار المصرية:
نستطيع أن ننظر للإمام محمد عبده من أكثر من جهة، فيمكن أن ننظر إليه باعتباره مصلحًا، ويمكن أن ننظر إليه باعتباره مقاومًا للاستعمار، وغير ذلك إلا أن أفضل ما نلقبه به هو مفتي الديار المصري؛ إذ يعني ذلك كونه حجة ومرجعية في ربط الدين بالحياة، وهو ما توج مسيرته الطاهرة.
بعد وفاه الخديوي توفيق سنة (1310هـ = 1892م)، ولي الخديوي عباس، الذي كان متحمسًا لمناهضة الاحتلال، سعى الشيخ ” محمد عبده” إلى توثيق صلته به، واستطاع إقناعه بخطته الإصلاحية التي تقوم على إصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وصدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ “حسونة النواوي”، وكان الشيخ محمد عبده عضوًا فيه، وهكذا أتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لتحقيق حلمه بإصلاح الأزهر، وهو الحل الذي تمناه منذ أن وطئت قدماه ساحته لأول مرة.
وفي عام (1317هـ = 1899م) تم تعيينه مفتيًا للبلاد، وجاء الأمر العالي من المعية السنية بتاريخ 24 محرم 1317 الموافق 3 يونية 1899 نمرة 2 سايرة صورته:
فضيلتلو حضرة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بناء على ما هو معهود في حضرتكم من العالمية وكمال الدراية قد وجهنا لعهدتكم وظيفة إفتاء الديار المصرية وأصدرنا أمرنا هذا لفضيلتكم للمعلومية والقيام بمهام هذه الوظيفة عطوفتلو الباشا رئيس مجلس النظار بذلك.
الختم
عباس حلمي
ونص هذا الأمر العالي الموجود في المجلد الثاني من مجلدات دار الإفتاء المصرية وهو المجلد الأول من فتاوى الشيخ محمد عبده رحمه الله، وكان أول تسجيل للشيخ في هذا الدفتر يوم 2 صفر 1371هـ -أي بعد أسبوع من صدور الأمر العالي- وبالدفتر 487 فتوى آخرها في 23 صفر 1320هـ، ويبدأ الدفتر الثالث بالنسبة لدار الإفتاء، وهو الثاني بالنسبة للشيخ محمد عبده من 27 صفر 1320، وفي صفحة 160 من الدفتر تنتهي فتاوي الشيخ محمد عبده وعددها في هذا الدفتر 457 وآخرها في تاريخ 4 ربيع الثاني سنة 1323هـ وبذلك يكون مجموع فتاوى الشيخ 944 مسجلة في 360 صفحة تقريبًا، في المجلد الثاني والثالث من مجلدات دار الإفتاء، ثم أكمل الدفتر الثالث الشيخ بكري الصدفي بعد توليه منصب مفتي الديار المصرية.
وفاته:
كانت علاقته بالخديوي عباس يشوبها شيء من الفتور، الذي ظل يزداد على مر الأيام، خاصة بعدما اعترض على ما أراده الخديوي من استبدال أرض من الأوقاف بأخرى له إلا إذا دفع الخديوي للوقف عشرين ألف فرقًا بين الصفقتين.
وتحول الموقف إلى عداء سافر من الخديوي، فبدأت المؤامرات والدسائس تُحاك ضد الإمام الشيخ، وبدأت الصحف تشن هجومًا قاسيًا عليه لتحقيره والنيل منه، ولجأ خصومه إلى العديد من الطرق الرخيصة والأساليب المبتذلة لتجريحه وتشويه صورته أمام العامة؛ حتى اضطر إلى الاستقالة من الأزهر في سنة (1323هـ = 1905م).
وإثر ذلك شعر الشيخ بالمرض، واشتدت عليه وطأة المرض، الذي تبيَّن أنه السرطان، وما لبث أن تُوفي بالإسكندرية في (8 من جمادى الأولى 1323هـ = 11 من يوليو 1905م) عن عمر بلغ ستة وخمسين عامًا رحمه الله تعالى، ورزقنا الاستفادة من علمه وفكره وجهاده. آمين.
سمات الإمام محمد عبده وأثرها في نتاجه الإفتائي:
تميز الإمام محمد عبده بسمات نبيلة أصيلة أثرت في منهجه العلمي وتراثه الإفتائي؛ وهذه الصفات واضحة جلية تتيح لكل من طالع تراثه الإفتائي أن يقرأ تلك السمات بوضوح، ولتعدد تلك السمات نتخير أهمها ونمثل لكل سمة منها بفتوى.
- بعد النظر واعتبار المآلات:
كان -رحمه الله- فقيهًا بارعًا ينظر إلى العواقب والمآلات وإلى المفاسد والمصالح، وهناك أمثلة كثيرة تؤكد تلك السمة الأساسية في فكر الإمام محمد عبده نتخير منها تلك الفتوى، حيث سئل: عن زوجة ارتدت عن الإسلام بقصد فسخ النكاح وعادت إلى الإسلام فورًا فهل يفسخ النكاح ردًا لقصدها أو لا يفسخ ولا ينفذ قصدها؟ وإذا فسخ فما حكم الصداق؟ هل يقرر على الزوج بالدخول أو يلزمها حيث إن الفسخ من جهتها وأن الزوج تركها من مدة ثلاثة شهور ولم يسأل عنها إلى الآن؟
فأجاب: قال في الفتح قد أفتى الدبوسي والصفار وبعض أهل سمرقند بعدم وقوع الفرقة بالردة ردًا عليها. وغيرهم مشوا على الظاهر. ولكن حكموا بجبرها على تجديد النكاح مع الزوج. ولما كان الإجبار على النكاح غير متيسر ولا نفاذ له وكان كثير من الزوجات قد اتخذن دينهن لعبة يخلعنه كلما أردن التخلص من أزواجهن، وهي وسيلة من أقبح الوسائل وجب لذلك إقفال هذا الباب في وجوههن خصوصًا مع تعذر إجراء أحكام الردة عليهن كما هو معلوم فلهذا لا ينفسخ النكاح ولا تقع الفرقة بمجرد ردة الزوجة بل تبقى الزوجة في عصمة زوجها والمهر واجب عليه بالدخول لا يسقط بردتها كما هو ظاهر والله أعلم.
ويؤكد تلك السمة كذلك إجابته عن هذا السؤال؛ حيث سئل عن: رجل أقر أنه كان من طائفة الدروز ويريد الآن أن يترك ما كان عليه من الاعتقادات الدرزية ويعتنق الدين الإسلامي الحنيف المبين. فهل والحالة هذه إذا أتى بالشهادتين مع عبارة التبري من جميع ما يخالف دين الإسلام يعتبر بنظر الشرع مسلمًا ويعامل معاملة المسلمين فورًا ولا يعد منافقًا، وإذا صح إسلامه بتلك الصيغة فما حكم من لم يقبل إسلامه من المسلمين، وهل لقبول إسلامه أن يكون رسميًّا؟ أرجو الجواب.
فأجاب: الذي قالوه إنه متى جاء الدرزي ونحوه طائعًا معلنًا بأنه كان على عقيدته وأنه رجع عنها متبرئًا من كل دين يخالف دين الإسلام وجب قبول قوله واعتبر مسلمًا. وقالوا كذلك إن من لم يقبل رجوع من يريد الأوبة إلى الإسلام يكون راضيًا ببقائه على الكفر.
وقالوا إن أقل ما في ذلك أن يكون آثمًا مسيئًا ثم إنه ليست لنا سنة نتبعها في اعتبار المتحول إلى الإسلام مسلمًا منّا، له مالنا وعليه ما علينا في أخوة الدين إلا سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان عليه السلام يقبل الرجعة إلى الإسلام بعد الردة والإخلاص بعد النفاق ولم يكن ينظر إلى من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأن القرآن حق والآخرة حق وأن جميع ما فرضه الله في كتابه واجب الأداء وما منعه يجب عليه الانتهاء إلا نظرة المسلم للمسلم ولم يكن يفرق بين المسلمين في الإسلام إلا أن يطلعه الله على مكان شخص من نفاق أو قامت له على ذلك شواهد قاطعة. وكتب السنة شاهدة بذلك فكيف لا نقنع من الناس ما قنع منهم وكيف نطالبهم بأكثر مما طالبهم به وهو صاحب الشريعة وإليه المرد عند النزاع.
فهذا الدرزي الذي اعترف بما كان عليه وجاء الآن طائعًا من نفسه يشهد أنه على الدين الحق وأنه ينبذ كل دين يخالفه. يعد مسلمًا حقًا. ومن لم يقبل منه ذلك يخشى أن يبوء بها فنعوذ بالله فليتق الله المسلمون وليرجعوا إلى حكم الله وحكم رسوله ولا يكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم والله ينقذهم مما صاروا إليه وهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
أما اعتبار الراجع إلى العقيدة الصحيحة مسلمًا فلا يحتاج إلى أن يكون ذلك من طريق رسمية بل يكفي أن يعلم الله عنه ذلك ثم في جريان أحكام المسلمين عليه لا يحتاج إلا أن يعرف الناس منه ذلك وتبين أمره بين من يعرفونه. والله تعالى أعلم.
- إحاطته بالقوانين والنظم في بلده وبلاد العالم:
ينبغي أن يكون العَالِم على دراية كاملة بقوانين بلاده، وكذلك البلاد الأخرى كلما أمكن، ويعكس ذلك انخراطه في مجتمعه ومحاولة تأثيره فيه وإصلاحه له، لأن العَالِم وخاصة المفتي لابد أن يفتي بما لا يضع السائل في حرج ولا حيرة وهذا لا يتأتى إلا بالاطلاع على قوانين البلاد. وكان الإمام محمد عبده كذلك، فكان يحيط بالقوانين والأعراف الدولية، ويعلم التوصيف الشرعي لها، ويتجلى هذا في تلك الفتوى التي سئل فيها: عن المسلم إذا دخل بمملكة إسلامية. هل يعد من رعيتها. له ما لهم وعليه ما عليهم على الوجه المطلق. وهل يكون تحت شرعها فيما له وعليه عمومًا وخصوصًا. وما هي الجنسية عندنا. وهل حقوق الامتيازات المعبر عنها عند غير المسلمين بالكبيتولاسيون موجود بين ممالك الإسلام مع بعضهم بعضًا؟
فأجاب: “من المعلوم أن الشريعة الإسلامية قامت على أصل واحد، وهو وجوب الانقياد لها على كل مسلم في أي محل حل وإلى أي بلد ارتحل، فإذا نزل ببلد إسلامي جرت عليه أحكام الشريعة الإسلامية في ذلك البلد، وصار له من الحق ما لأهله، وعليه من الحق ما عليهم، لا يميزه عنهم مميز ولا أثر لاختلاف البلاد في اختلاف الأحكام.
نعم قد يكون الحاكم في بعض الأقطار حنفيًا وفي بعضها مالكيًّا مثلاً، ولكن هذا لا أثر له في الحق للشخص أو عليه. فمتى قضى له أو عليه فله ما قضى له به وعليه أداء ما قضى به عليه على أي مذهب كان متى كان القاضي مولى من طرف الحاكم العام إذ حكم الحاكم يرفع الخلاف.
ولا ذكر لاختلاف الأوطان في الشريعة الإسلامية إلا فيما يتعلق باحكام العبادات من قصر الصلاة للمسافر أو جواز الفطر في رمضان مثلًا، وقد يتبع ذلك شيء في اختصاص المحاكم من حيث تعيين الجهة التي يكون لقاضيها الحق في أن يحكم في الدعوى التي ترفع إليه من شخص على آخر، هل هي محل المدعي أو محل المدعى عليه غير أن شيئاً من ذلك لا يغير من حق للمدعي أو المدعى عليه.
فالشريعة واحدة والحقوق واحدة يستوي فيها الجميع في أي مكان كانوا من البلاد الإسلامية، فوطن المسلم في البلاد الإسلامية هو المحل الذي ينوي الإقامة فيه ويتخذ فيه طريق كسبه لعيشه، ويقر فيه مع أهله إن كان له أهل، ولا ينظر إلى مولده ولا إلى البلد الذي نشأ فيه، ولا يلتفت إلى عادات أهل بلده الأول، ولا إلى ما يتعارفون عليه في الأحكام والمعاملات. وإنما بلده ووطنه الذي يجري عليه عرفه وينفذ فيه حكمه هو البلد الذي انتقل إليه واستقر فيه. فهو رعية الحاكم الذي يقيم تحت ولايته دون سواه من سائر الحكام، وله من حقوق رعية ذلك الحاكم وعليه ما عليهم لا يميزه عنهم شيء لا خاص ولا عام. أما الجنسية فليست معروفة عند المسلمين، ولا لها أحكام تجري عليهم لا في خاصتهم ولا عامتهم. وإنما الجنسية عند الأمم الأوروبية تشبه ما كان يسمى عند العرب عصبية. وهو ارتباط أهل قبيلة واحدة أو عدة قبائل بنسب أو حلف يكون من حق ذلك الارتباط أن ينصر كل منتسب إليه من يشاركه فيه.
وقد كان لأهل العصبية ذات القوة والشوكة حقوق يمتازون بها على من سواهم. جاء الإسلام فألغى تلك العصبية ومحا آثارها وسوى بين الناس في الحقوق فلم يبق للنسب ولا لما يتصل به أثر في الحقوق ولا في الأحكام.
فالجنسية لا أثر لها عند المسلمين قاطبة. فقد قال صلى الله عليه وسلم إن الله أذهب عنكم عُبِّيَة (بضم العين وكسر الباء المشدد وفتح الياء أي – عظمة) الجاهلية عظمتها وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، وروي كذلك عنه ليس منا من دعا إلى عصبية وبالجملة فالاختلاف في الأصناف البشرية كالعربي والهندي والرومي والشامي والمصري والتونسي والمراكشي مما لا دخل له في اختلاف الأحكام والمعاملات بوجه من الوجوه. ومن كان مصريًا وسكن بلاد المغرب وأقام بها جرب عليه أحكام بلاد المغرب، ولا ينظر إلى أصله المصري بوجه من الوجوه.
وأما حقوق الامتيازات المعبر عنها بالكابيتولاسيون فلا يوجد شيء منها بين الحكومات الإسلامية قاطبة. فهذه بلاد مراكش وبلاد أفغانستان لكل من البلدين حكومة مستقلة عن الأخرى. وكلا الحكومتين مستقل عن الدولة العثمانية، ولا يوجد شيء من حقوق الامتيازات بين حكومة من هذه الحكومات وأخرى منها.
وما نراه من الوكلاء لحكومة مراكش مثلًا من الممالك العثمانية لا يعتبرون سفراء مثل سفراء الدول الأجنبية، وإنما هم وكلاء لشخص الحاكم ورجال دولته لقضاء بعض المصالح الخاصة ولمساعدة مواطنيهم فيما يعرض لهم من الحاجات، ولا أثر لهم فيما يدخل في الشرائع والأحكام، وما يوجد من أثر الامتياز في الحقوق لرعية شاه العجم أو سلطان مراكش في بعض الممالك الإسلامية كمصر فإن الإيرانيين والمغاربه قد نالوا ضربًا من الامتياز بالتقاضي إلى المحاكم المختلطة من عدة سنوات. ذلك الذي تراه من أثر الامتياز يناقض أصول الشريعة الإسلامية كافة.
فلا أهل السنة يجيزونه ولا مجتهدو الشيعة يسمحون به، وإنما هو شيء جر إليه فسوق بعض الرعايا وميل المحاكم المختلطة إلى التوسع في الاختصاص. وما قضت به بعض القوانين المصرية من أن سائر العثمانيين لا ينالون حق التوظيف في مصالح الحكومة المصرية، ولا حق الانتخاب في مجالس شوراها إلا بقيود مخصوصة يشبه تقرير الحقوق في انتخاب مجالس البلدية فمجلس بلدية الإسكندرية مثلًا لا يدخل في انتخاب أعضائه المقيم بالقاهرة. فهو من باب تفضيل سكان المكان على سكان غيرهم، وإيثارهم أولئك بالنظر في المنافع على هؤلاء لقربهم مع استواء الكل في الانتساب إلى شريعة واحدة، واشتراكهم في الحقوق التي قررتها الشريعة بلا امتياز. هذا ما تقضي به الشريعة الإسلامية على اختلاف مذاهبها. لا جنسية في الإسلام ولا امتياز في الحقوق بين مسلم ومسلم. والبلد الذي يقيم فيه المسلم من بلاد المسلمين هو بلده ولأحكامه عليه السلطان دون أحكام غيره، والله أعلم.
- إحاطته بأعراف غير المسلمين:
كلما زادت سعة اطلاع العَالِم بأعراف غير المسلمين وعرف مصطلحاتهم، كلما مكنه ذلك من فهم الواقع وإدراكه بالشكل السليم، مما يتيح له القدرة على الإفتاء السليم، ومما يجلي تلك السمة التي كان يتميز بها الإمام هذا السؤال، سٌئل: عن رجل تعهد لابنته بمبلغ من النقود بصفة دوطة حسب العوايد المسيحية في الزواج يدفعه لها عند زواجها لتشتري به عقارًا لها على شرط أنه إذا مات قبلها يخصم من نصيبها في تركته وقد تزوجت قبل أن تهتدي على العقار اللازم شراؤه فاتفق الطرفان على بقاء مبلغ الدوطة تحت يد الوالد إلى وقت الطلب لشراء العقار وقد استثمر الوالد هذا المبلغ ودفع لابنته ما استحق لها من ثمرته مدة، ثم ماتت البنت عن زوجها وولدها منه قبل أداء هذا المبلغ من والدها، فهل للزوج والولد أن يطالبا والدها بما يخصهما في المبلغ المذكور أو يجوز للوالد أن يدعي أن ابنته لم تملكه لعدم القبض قبل وفاتها؟
فأجاب فضيلة الإمام بقوله: “حيث إن مبالغ الدوطة في عرف المسيحين هي كمبالغ المهور عند المسلمين فكما يلزم مبلغ المهر في ذمة والد الزوج إذا ألزم نفسه به فكذلك يلزم مبلغ الدوطة في ذمة والد الزوجة متى ألزم به نفسه كما في حادثتنا فالمبلغ الذي ألزم نفسه الوالد في واقعتنا يعتبر دينًا لازمًا لذمته كسائر الديون التي تلزم الذمة ولا يعتبر من قبيل الهبة التي لا تتم إلا بالقبض خصوصًا وقد شرع الوالد في استثمار المال باسم ابنته وقد قبضت مبلغًا من ثمرته فلا ريب أن المبلغ يعتبر تركه لتلك البنت، ولزوجها وولدها حق المطالبة بنصيبهما منه وليس للوالد حق الامتناع من تأديته لهما والله أعلم”.
- تكريم المرأة وإعطائها حقوقها:
سبق الإمام محمد عبده المجتمع الغربي، كما سبق الإسلام كل الحضارات في قضيه تكريم الإنسان بنوعيه الذكر والأنثى، ولما كان الإمام محمد عبده يسير على نهج العلماء العاملين المدركين لحقيقة الإسلام، ظهر ذلك في فكره وتراثه، فكان يرى أن للمرأة حقوق لا يجوز للرجل أن يمنعها عنها، وتتجلى هذه السمة في تلك الفتوى، سئل: شخص تزوج بامرأة، وكلما أرادت أن تزور أبويها يمنعها زوجها ويَدَّعِي أن ذلك لا يجوز شرعًا، فما الحكم؟
فأجاب فضيلة الإمام محمد عبده بقوله: “صرحوا بأنه لا يمنعها من الخروج إلى الوالدين في كل جمعة إن لم يقدرا على إتيانها على ما اختاره في الاختيار. ولا يمنعهما من الدخول عليها في كل جمعة. كذا في التنوير وشرحه. وهو ما اختاره في فتح القدير حيث قال وعن أبي يوسف في النوادر تقييد خروجها بأن لا يقدرا على إتيانها فإن قدرا لا تذهب وهو حسن. وصرح بأن الأخذ بقول أبي يوسف هو الحق إذا كان الأبوان بالصفة التي ذكرت، وإلا ينبغي أن يأذن لها في زيارتهما في الحين بعد الحين على قدر متعارف.
أما في كل جمعة فبعيد. فإن في كثرة الخروج فتح باب الفتنة خصوصًا إذا كانت شابة والزوج من ذوي الهيئات بخلاف خروج الأبوين فإنه أيسر. وهذا ترجيح منه لخلاف ما ذكر في البحر أنه الصحيح المفتى به من أنها تخرج للوالدين في كل جمعة بإذنه وبدون إذنه، وللمحارم في كل سنة مرة بإذنه وبغير إذنه كذا في رد المحتار وصرح في البحر بأن الخروج للأهل زائدًا على ذلك يكون لها بإذنه.
وعلى ذلك يجوز لهذه المرأة أن تخرج إلى أبويها في كل جمعة أذن لها الزوج أو لم يأذن، ولها أن تخرج إلى المحارم كذلك كل سنة مرة بإذنه وبغير إذنه كما أن لها أن تخرج إلى الأهل كذلك كل سنة مرة بالإذن وبدونه. أما خروجها زائدًا على ذلك للأهل فيسوغ لها بإذنه.
والله أعلم.
- تمسكه بالحقوق وعدم ضياعها بالتقادم:
كان الإمام محمد عبده مجاهدًا وطنيًا اشترك في ثورات ضد الاحتلال ونفي خارج البلاد، وكان يترسخ في فكره ثبات الحقوق لأهلها وأنها لا تضيع بالتقادم، وكان ذلك بسبب العقلية الفقهية، وأثر في الفتاوى في المسائل الخاصة الفرعية، فقد سئل: عن رجل صدر له حكم من مجلس بني سويف الملغي بتاريخ 20 ذو القعدة سنة 302 بإلزام محمد عبد الهادي بأن يدفع له مبلغ 4940.016 وقد بقي هذا الحكم بلا تنفيذ حتى ألغي المجلس لإفلاس المحكوم عليه ثم افتتحت المحاكم الأهلية بالوجه القبلي وفي 5 ربيع الأول سنة 319 أعلن هذا الحكم للمحكوم عليه لأجل تنفيذه فعارض المحكوم عليه بسقوط حكم المجلس الملغي لمرور مدة تزيد عن خمس عشرة سنة وبأن منع القاضي من سماع الدعوي بعد مرور الزمن نتيجة سقوط الحق وبأن القول بعدم سقوطه بتقادم الزمان هو أن صاحبه لو تمكن من الحصول عليه بدون واسطة القضاء لحل له أخذه ديانة. فهل يوجد بأحكام الشريعة نص يسقط الحكم بمرور الزمن وهل ما قيل موافق للشريعة. أفتونا في هذه الحادثة.
فأجاب: من هذا السؤال يظهر أن المحكوم عليه لا يزال مقرًا بهذا المبلغ الذي حكم به عليه، غاية الأمر أنه يعارض بسقوط الحكم بالنظر لما ذكر والذي يقتضيه الحكم الشرعي أنه مع الإقرار به يلزمه، لأن الإقرار حجة معتبرة يعامل به المقر ولو طال الزمن مادام لم يأخذ صاحب الحق حقه، لأن الحق لا يسقط بتقادم الزمان ولا بعدم أخذه مع التمكن فلا عبرة با عارض به المحكوم عليه. والله تعالى أعلم.
- وحدة المجتمع وعدم انفصال المسلم عن مجتمعه:
كان الإمام محمد عبده يحب أن يظهر المسلمين في كل مكان في مظهر حضاري، يندمجون في المجتمع مع الاحتفاظ بهويتهم، ويؤَثِّرون فيه بالصلاح والخير، ويتأثرون منه فيما لا يعارض عقيدتهم ودينهم، لذلك كان يوضح للمسلمين الأمور في القضايا التي قد تختلط فيها تلك المعاني عليهم، فقد سئل في فتوى في عدة أشياء:
أولًا: يوجد أفراد في بلاد الترنسفال تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم وعودة الفوائد عليهم فهل يجوز ذلك؟
ثانيًا: إن ذبحهم مخالف لأنهم يضربون البقر بالبلط وبعد ذلك يذبحون بغير تسمية، والغنم يذبحونها من غير تسميه فهل يجوز ذلك؟
فأجاب -رحمه الله-: أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفرًا. وإذا كان اللبس لحاجة من حجب شمس أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة لم يكره كذلك لزوال معنى التشبه بالمرة. وأما الذبائح فالذي أراه أن يأخذ المسلمون في تلك الأطراف بنص كتاب الله تعالى في قوله: {وَطَعَامُ الَّذِيْنَ أُوْتُوا الْكِتَابَ حِلٌ لَكُم{ (المائدة: 5)، وأن يعولوا على ما قاله الإمام الجليل أبو بكر بن العربي المالكي من أن المدار على أن يكون ما يذبح مأكول أهل الكتاب قسيسهم وعامتهم ويعد طعامًا لهم كافة. فمتى كانت العادة عندهم إزهاق روح الحيوان بأي طريقة كانت وكان يأكل منه بعد الذبح رؤساء دينهم ساغ للمسلم أكله لأنه يقال له طعام أهل الكتاب ولقد كان النصارى في زمن الني صلى الله عليه وسلم على مثل حالهم اليوم، خصوصًا ونصارى الترنسفال من أشد النصارى تعصًبا في دينهم وتمسكهم بكتبهم الدينية، فكل ما يكون من الذبيحة يعد طعام أهل الكتاب متى كان الذبح جاريًا على عادتهم المسلمة عند رؤساء دينهم ومجئ الآية الكريمة }اليَومَ أُحِلَ لَكُمْ الطَّيِبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} بعد آية تحريم الميتة وما أهل لغير الله به بمنزلة دفع ما يتوهم من تحريم طعام أهل الكتاب؛ لأنهم يعتقدون بألوهية عيسى وكانوا كذلك كافة في عهده صلى الله عليه وسلم إلا من أسلم منهم.
ولفظ أهل الكتاب مطلق لا يصح أن يحمل على هذا القليل النادر. فإذن تكون الآية كالصريحة في حل طعامهم مطلقًا، متى كانوا يعتقدونه حلًا في دينهم دفعًا للحرج في معاشرتهم ومعاملتهم. والله أعلم.
- التيسير على المسلمين:
الإسلام دين يسر، قال تعالى: }فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{ ( البقرة: 185). وقال سبحانه: } يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28)، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20). من أجل انطباع تلك الصورة في قلوب العلماء العاملين قال سفيان الثوري -رحمه الله- إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشدد فيحسنه كل أحد، وكان الإمام محمد عبده خير من عبر عن ذلك التيسير في منهجه العلمي والفكري، ولعلنا نرى ذلك التيسير في فتوى سئل فيها عن بداية الشهر العربي هل بالهلال أو بالحساب؟
فأجاب: المقرر شرعًا أن أول الشهر إنما يعرف برؤية الهلال ويثبت ذلك بالشهادة المعروفة عند أهل الشرع، لا فرق في ذلك بين رمضان وشوال وغيرهما.
أما العمل بالحساب ففيه خلاف بين علماء بعض المذاهب والمعول عليه أنه لا يلتفت إلى الحساب لأن أحكام الدين الإسلامي مبنية على الأسهل والأيسر للناس في أي قطر كانوا وأي بقعة وجدوا. وأما مظان وجود هذا الحكم فهي أبواب الصوم في جميع كتب الفقه المعتبرة والله أعلم.
- اجتماع علماء المسلمين وعدم الاستقلال بالفتوى، درء المفاسد وجلب المصالح للمسلمين، التيسير على المسلمين في حياتهم وتمكينهم من نصر دينهم:
كل هذه المبادئ تتضح وتتجلى في تلك الفتوى الطويلة التي وجهت إليه من الهند، حيث قام بإعداد فتوى جماعية من كبار العلماء وكتبها وأرسلها وأخبر عن ذلك، ولحفظها كوثيقة يطلع عليها الناس نذكرها بنصها كما جاءت في المجلد الثاني من فتاوى دار الإفتاء نمرة 264 في 9 محرم 1322هـ، وكان نصها:
“بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد فقد ألقى إلى أستاذ من أساتذة الجامع الأزهر -وهو موظف كبير في المحاكم الشرعية- سؤالًا ورد من الهند الى بعض أبنائه[2] يطلب الجواب عليه، والسؤال موجه إلى العلماء، لا إلى عالم واحد، كما هو مذكور في نصه، فرأيت أن يكون الجواب عليه محتويًا على كثير من أفاضل العلماء. وقد انتدب حضرة حامل السؤال إلى كتابة ما يجده من الكتاب والسنة وأقوال علماء الحنفية في موضوعه. وأرسلت بنسخة من السؤال إلى حضرة الأستاذ شيخ الحنابلة في الجامع الأزهر، فورد منه ما رأى أن يجيب به. وكلفت جماعة من أساتذة الشافعية والمالكية أن يكتبوا ما يعتقدون أنه الحق في جواب السؤال، فكتبوا وأشبعوا جزاهم الله خيرًا.
وإني ابتدئ بما أجاب به أفاضل الشافعية والمالكية بعد ذكر السؤال، ثم أثني بجواب شيخ الحنابلة، واختم بمقال الأستاذ الحنفي، ثم بما يعن لي أن أضم إلى أقوال جميعهم. والله الموفق إلى الصواب، وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.
السؤال: ما يقول السادة العلماء في جماعة من المسلمين يقرون أنهم على عقيدة أهل السنة والجماعة ومن تابعي فقهاء الأئمة الأربعة، ويسعون في تحصيل الألفة والاتفاق بين أهل الإسلام، ويدعون أهل الثروة واليسار إلى تربية أيتام المسلمين، وإلى إشاعة الإسلام في مقابلة حملات الكتابيين وصولات الوثنيين. إلا أنهم مع ذلك يستعينون بالكفار وأهل البدع والأهواء لنصرة الملة الإسلامية وحفظ حوزة الأمة المحمدية، وجمع شملهم واتحاد كلمتهم. فهل مثل هذه الاستعانة تجوز شرعًا، وهل لها نظير في القرون الثلاثة الفاضلة المشهود لها بالخير. وهل يجوز لأحد من المسلمين أن يعارضهم في هذه الأعمال الجليله والمقاصد الحسنة، ويسعى في تثبيط الهمم عن معاونتهم والتنفير من صحبتهم نظرًا إلى أنهم يستعينون فيها بالكفار وأهل البدع والأهواء ويدخلون مجالسهم ويخالطونهم لمثل هذه المصالح العامة. وما حكم من يرميهم بمجرد هذه الأعمال بالكفر والتضليل وسوء الاعتقاد والخروج عن أهل السنة والجماعة، أفيدوا الجواب ولكم الثواب.
ما كتبه جماعة من أفاضل المالكية والشافعية: أما السعي في تحصيل الألفة والاتفاق بين أهل الإسلام فلا نزاع في أنه أفضل الأعمال الدينية وأعظمها عند الله تعالى، فإن التآلف والتودد بين المسلمين هو مدار الإيمان وأساس الإسلام والسبب الوحيد لنظام المدنية وقوام المجتمع الإنساني ومدار سعادته في الأولى والآخرة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الأخذ به وبيان فوائده في كثير من الأحاديث فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا”. وقوله: “لا يؤمن عبد حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير”. وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ولا يؤمن جاره شره”[3]. وقوله صلى الله عليه وسلم: “نظر المؤمن إلى أخيه حبًا له وشوقًا إليه خير من اعتكاف سنة في مسجدي هذا”. وقوله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورًا أو تقضي عنه دينًا”. وقوله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك”. وقوله صلى الله عليه وسلم: “من أصلح فيما بينه وبين الله أصلح الله فيما بينه وبين الله أصلح الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه”. ومن تأمل في قوله تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10). وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46)، مع قوله صلى الله عليه وسلم: “ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تنافسوا، وكونوا عباد الله إخوانًا”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “دب فيكم داء الأمم قبلكم ألا وهي البغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة، ولا أقول حالقة الشعر وإنما هي حالقة الدين”.
من نظر في ذلك كله عرف ما للسعي في تحصيل الألفة والمحبة بين الناس من المكانة في الدين، وأنه من أعظم الأعمال وأفضل الأعمال وأفضل الخصال، وعرف وجه حث الشرع عليه والتنويه بشأنه وتعظيم قدره. وأما تربية أيتام المسلمين ودعوة المثرين إليها فمن الأمر المعروف في الدين ومن أفضل أعمال البر وأحبها عند الله تعالى، والسنة مملوءة بطلب الرفق بالأيتام والضعفاء والمساكين، ففى الحديث: “من أحسن إلى يتيم أو يتيمة كنت أنا وهو في الجنة كهاتين”. وفيه: “خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذا – وقال بأصبعين السبابة والوسطى”.
وفيه: “أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك، ارحم اليتيم وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك”. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى[4] قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالناس، وكان لليتيم كالوالد، وكان للمرأة كالزوج الكريم، وكان أشجع الناس قلبًا، وأوضحهم وجهًا وأطيبهم ريحًا، وأكرمهم حسبًا، فلم يكن له مثل في الأولين والآخرين.
إلى غير ذلك من الأحاديث. أما القرآن فكثيرًا ما قرن بين اليتامى وذي القربى والمساكين وابن السبيل في مقام الأمر بالإحسان والعبادة، قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء: 36)، وقال:{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177) إلى غير ذلك من الآيات.
وأما إشاعة الإسلام في مقابلة حملات الأجانب والدعوة إليها فهي أول مسألة من مسائل الدين وأساس وجوده وعليها حفظ كيانه وبقائه، بل هي النوع الميسور الآن من أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة: 67)، وقال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94)، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122)، وقال تعالى: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 214، 215)، {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} (الحجر: 89) إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الحديث عن طارق قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز فمر وعليه جبة حمراء وهو ينادي بأعلى صوته: “يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا” ورجل يتبعه بالحجارة وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه”. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المؤمنين[5] ]وعامتهم [[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: “لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شِراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم” والآيات والأحاديث في هذا الباب ]أكثر[[7] من أن تحصر، وليست هذه المسائل الثلاثة من محل الخلاف بين العلماء، بل هي مما أجمع الكل عليه. وأما الاستعانة بالكفار وأهل البدع والأهواء مصالح [ ][8]، فإن كانت بأموالهم وكانت لمصلحة دينية أو منفعة دينوية ولم يشتمل على معنى الإذلال والولاية المنهي عنها، فلا نزاع في جوازها وخصوصًا إذا نظرنا للكفار [ ][9] من جهة أنهم نقضوا العهود وتمردوا على الأحكام، فإنه لا بأس بتناول أموالهم والانتفاع بها متى أمنت الفتنة والرذيلة، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم [ ][10]، ففي صحيح البخاري قال أبو حميد: أهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بُردًا وكتب له بخبرهم. وعن أنس: أن أكيدر دومه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أنس بن مالك: أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجئ بها فقال[11]: ألا نقتلها؟ قال: لا. فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل مع أحد منكم طعام؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “بيعًا أم عطية”؟ أو قال: “أم هبة”. قال: بل بيع. فاشترى منه شاة فصنعت، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسواد بطن أن يشوى، وأيم الله ما في الثلاثين والمائة إلا وقد حز النبي صلى الله عليه وسلم حُزة من سواد بطنها: إن كان شاهداً أعطاه، وإن كان غائباً خبأ له. وطلب صلى الله عليه وسلم من يهودي له دين على صحابي مات وترك أيتاماً أن يبرئهم من الدين فما قبل. وقصته في البخاري.
وفي الألوسي عند قوله تعالى: {… وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: 51) ما نصه: وأما الاستعانة بهم في أمور الدنيا فالذي يظهر أنه لا بأس بها، سواء في أمر ممتهن كنزح الكنائف أو في غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها. اهـ.
وكتب على قوله: { لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً …} (آل عمران: 28) ما نصه: قال ابن عباس: نزلت في طائفة من اليهود كانوا يباطنون نفرًا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقيل لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم. فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم، فأنزل الله هذه الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم. وحُكي في سبب نزول الآية غير ذلك. ثم أفاد أن المنهي عنه من الموالاة ما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما؛ لما قالوا: إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار. وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض. ومذهب الحنفية وما عليه الجمهور أنه يجوز ويرضح له.
وما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرج رسول الله عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة، ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “ارجع فلن استعين بمشرك” فمنسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضح لهم. واستعان بصفوان بن أمية في هوازن. وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوف أما بدونها فلا تجوز، وعلى ذلك يحمل خبر عائشة. وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب نزول الآية وبه يحصل الجمع وأدلة الجواز.
ومما أشار إليه من أدلة المنع والجواز ما رواه أحمد ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي تبعه: “ارجع فلن استعين بمشرك”. ثم تبعه فقال له: “تؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم قال: نعم. فقال له: “انطلق”. وعن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في خيبر وأسهم لهم. وأن قزمان خرج مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين، حتى قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر”. كما ثبت عند أهل السير. وخرجت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح. وقد تصدى أئمة الحديث والفقهاء إلى الجمع بين هذه الآثار بأوجه منها ما تقدم، ومنها ما ذكره البيهقي عن نص الشافعي (أن النبي صلى الله عليه وسلم تفرس الرغبة في الذين ردهم، فردهم رجاء أن يسلموا. ومنها أن الأمر في ذلك إلى رأي الإمام. ومنها أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها، قال الحافظ في التلخيص: وهذا أقربها وعليه نص الشافعي. وحكى في البحر عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه أنه تجوز الاستعانة بالكفار والفساق حيث يستقيمون على أوامره ونواهيه، واستدلوا باستعانته صلى الله عليه وسلم بناس من اليهود وبصفوان بن أمية يوم حنين.
قال في البحر: وتجوز الاستعانة بالمنافق إجماعًا؛ لاستعانته بابن أبي وأصحابه. انظر نيل الأوطار. وفي الألوسي عند قوله تعالى: {… إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً …} (آل عمران: 28) ما مفاده: وفي الآية دليل على مشروعية التقية، وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء، سواء كانت عداوتهم مبنية على اختلاف الدين كالكفر والإسلام، أو على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة. إلى أن قال: وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم والانبساط لهم وإعطاءهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض، ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها، بل هي سنة وأمر مشروع. وقد روى الديلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض” وفي رواية: “بعثت بالمداراة”. وفي الجامع: ” سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا جاءوكم فرحبوا بهم”. وروى ابن أبي الدنيا: “رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس، وفي رواية البيهقي: رأس العقل المداراة”. وأخرج الطبراني: “مداراة الناس صدقة”. وأخرج بن عدي وابن عساكر: “من عاش مداريا مات شهيداً، قوا بأموالكم أعراضكم، وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه”. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بئس ابن العشيرة وأخو العشيرة” ثم أذن له، فألان له القول. فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟! فقال: يا عائشة إن من شر الناس من يتركه الناس -أو يدعه الناس- اتقاء فحشه”، وفي البخاري عن ابن أبي الدرداء[12]: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم. وأخرج ابن أبي شيبة عن شعيب قال: كنت مع على بن عبد الله فمر علينا يهودي أو نصراني، فسلم عليه قال شعيب: فقلت: إنه يهودي أو نصراني. فقرأ علية آخر سورة الزحرف {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[13]، وقيل لعمر ابن عبد العزيز: كيف تبتدئ أهل الذمة بالسلام؟ فقال: ما أرى بأسًا أن نبتدئهم: قلت: لم؟ قال لقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ …}[14]، وروى البيهقي: “ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لابد له من معاشرته حتى يجعل الله له في ذلك مخرجًا”. على غير ذلك من الأحاديث، غاية الأمر: لا تنبغي المدارة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون. إذا علمت فالاستعانة بالكفار وأهل البدع والأهواء المشار إليها في السؤال متى خلت عما أومأنا إليه فلا بأس بها، بل هي من الأمر المشروع كما تقدم -وقد علمت نظيرها في القرون الفاضلة المشهود لها بالخير- متى كانت الاستعانة من هؤلاء لنصرة وحفظ حوزة الملة، وحينئذ لا يجوز لأحد من الناس أن يعارضهم في هذه الأعمال الجليلة ويسعى في تثبيط الهمم على معاونتهم، بل الواجب على كل واحد من أفراد الأمة أن يشاركهم في هذا العمل؛ لأنه في البر والخير وقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: 2).
والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضًا، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. وأما حكم من يرميهم بالكفر والتضليل وسوء الاعتقاد فإن كان يعتقد أنهم كفار حقيقة بمثل هذا العمل وأنهم خرجوا عن الإسلام بمجرد ذلك فحديث: “إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما” ظاهر في تكفير هؤلاء المضللين، وقد نص شراح الحديث وعلماء الأمة على الأخذ بظاهر هذا الحديث بالقيد المذكور. وإن قصدوا أن هؤلاء بولايتهم للكفار واستعانتهم بهم يفعلون فعل الكفار وليسوا بكفار حقيقة، فمع افترائهم وجهلهم بالدين قد أثموا وارتكبوا جريمة تقرب من الكفر بهذه الكلمة الشنيعة التي لا تصدر من مسلم فضلًا عن عَالِم، وفي الحديث: “أبغض عباد الله إلى الله طعان لعان” وإن من أخلاق المؤمن أن لا يحيف على من يبغض ولا يلم فيمن يحب، ولا يضيع ما استودع، ولا يحسد ولا يطغى ولا يلغى، ويعترف بالحق، وإن لم يشهد عليه، ولا يتنابز بالألقاب، في الصلاة متخشعًا، إلى الزكاه مسرعًا، وفي الزلازل وقورًا، وفي الرخاء شكورًا، قانعًا بالذي له، لا يدعى ما ليس له، ولا يجمع في الغيظ، ولا يغلبه الشح عن معروف يريده، يخالط الناس كي يعلم، ويناطق الناس كي يفهم، وإن ظلم وبغي عليه صبر حتى يكون الرحمن هو الذي ينتصر له. هذه هي أخلاق المؤمنين، حتى إذا خرجوا منها فسدت أخلاقهم، وانطفأ نور إيمانهم، ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة حتى لا يبقى منه شيء. نسأله السلامة.
وفي الفروق القرافية: اعلم أن النهي يعتمد المفاسد كما أن الأوامر تعتمد المصالح، فأعلى رتب المفاسد الكفر، وأدناها الصغائر، والكبائر متوسطة بينهما، وأكثر التباس الكفر إنما هو بالكبائر، فأعلى رتب الكبائر يليها أدنى رتب الكفر، وأدنى رتب الكبائر يليها أعلى رتب الصغائر، وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية إما بالجهل بوجود الصانع وصفاته العلى أو جحد ما علم من الدين بالضرورة.
قال ابن رشد: لا يحكم على أحد بالكفر إلا من ثلاثة أوجه، وجهان متفق عليهما والثالث مختلف فيه، فأما المتفق عليهما فأحدهما أن يقر على نفسه بالكفر بالله تعالى، والثاني: أن يقول قولًا قد ورد السماع وانعقد الإجماع أن ذلك لا يقع إلا من كافر. وإن لم يكن ذلك في نفسه كفرًا على الحقيقة، وذلك نحو استحلال شرب الخمر وغصب الأموال وترك فرائض الدين والقتل والزنا وعبادة الأوثان والاستخفاف بالرسل وجحد سورة من القرآن وأشباه ذلك مما يكون علامة على الكفر وإن لم يكن كفرًا على الحقيقة، والثالث المختلف فيه: أن يقول قولًا يعلم أن قائله لا يمكنه مع اعتقاده والتمسك به معرفة الله تعالى والتصديق به وإن كان يزعم أنه يعرف الله تعالى ويصدق به. وبهذا الوجه حكم بالكفر على أهل البدع من كفرهم وعليه يدل قول مالك في العتبية: ما آية أشد على أهل الهواء من هذه الآية {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ …} (آل عمران: 106) انظر فتاوى أبي عبد الله. والحاصل أن هؤلاء المضللين المكفرين قد ارتكبوا بهذه الكلمة كبيرة من الكبائر التي تفضي إلى الكفر إن لم يكونوا معتقدين كفر هؤلاء الجماعة المتمسكين بعقائد أهل السنة وأعمال الإسلام والمسلمين، ولعلهم إن شاء الله يكونون كذلك غير معتقدين كفر هؤلاء وإنما نطقوا بهذه الكلمة نقصًا وعنادًا ظاهريًا، فإن باب التكفير باب خطر ينبغي الاحتراز عنه ما وجد إليه سبيل، ولا يعدل بالسلامة شيء وإن كان قولهم بالكفر من الجهل العظيم والإقحام على شريعة الله تعالى وأحكامه بالجهالة وعلى عباده بالفساد والظلم والعدوان، وأما إن كانوا يكفرون أولئك الساعين في الخير وهم يعتقدون أنهم كفار حقيقة فيكونون هم الكافرون كما سبق في أول الكلام للحديث، ومع ذلك نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح حالهم وينقذهم من هذه الضلالة ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
ما كتبه الأستاذ شيخ الحنابلة [ ][15] عندنا معاشر الحنابلة أن الشرع الشريف ألزمنا أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة إلا إذ عرض نفسه للكفر، وكفر بمخالفة ما شرعه لهذه الأمة سيد البشر صلى الله عليه وسلم وكان المخالف فيه مجمعا عليه وعلماء أهل السنة [ ][16]، والجماعة المتصفون بهذه الصفات الممدوحة شرعًا من تحصيل الاتفاق والائتلاف بين فرق أهل الإسلام من غير اختلاف وشقاق وغير ذلك من بقية الصفات التي حث عليها الشارع ليسوا كذلك، وأن ]استعانتهم[[17] بالكفار في تحصيل مصالح المسلمين العامة كالصنائع والجهاد وغيرها، فإن الصنائع مأمور بها شرعًا، وقد اتصف بها آدم ومن بعده من الأنبياء والمرسلين كما نص عليه ابن عباس، وقد نقل المروّذي عن الإمام أحمد أنه قال في قوم لا يعملون ويقولون نحن متوكلون: هؤلاء مبتدعة. واستعانة المسلمين بالكفار جائزة في الجهاد للضرورة كضعف المسلمين، ولو كان العدو من بغاه المسلمين، لما روى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم. رواه سعيد. وإذا جازت الاستعانة بالكفار في الجهاد فتجوز من المسلمين بهم في غيره مما فيه مصلحة لعموم المسلمين بجامع أن كلًا من المصالح العامة.
وتكفير علماء أهل السنة والجماعة بالاستعانة بأهل البدع والأهواء ودخولهم في مجالسهم واختلاطهم معهم في هذه المصالح العامة لا يجوز شرعًا، وإن قال ابن مفلح في الفروع أن الـ [استعانة][18] بهم في مختلف فيها، قيل، بالجواز، وقيل بالمنع، بل مكفروا هؤلاء العلماء هم الكفار. قال في منتهي الإرادات وشرحه للبهوتي: وعن الإمام أحمد أن الذين كفروا أهل الحق والصحابة كفار. قال المنقح: وهو أظهر [من القول][19] بأنهم فسقة خوارج بغاة. وقال في الإنصاف: والقول بتكفيرهم هو الصواب وهو الذي ندين الله به، وقال ابن مفلح في الفروع وعن الإمام أحمد أنهم كفار. وقال في الترغيب والرعاية إنه الأشهر. وذكر ابن [ ][20] لا خلاف فيه وفي الحديث الشريف الصحيح أن من كفر أحد بلا تأويل فقد كفر. وقال الشيخ برهان الدين الحلبي: ومن كفر أخاه المسلم بغير تأويل فهو كافر يجب عليه تجديد الإسلام والتوبة من ذلك وتجديد نكاحه إن لم يدخل بزو[جته][21] وكذا إن دخل بها عند أبي حنيفة، وأما عندنا فالعصمة باقية إن عاد إلى الإسلام بالتوبة قبل انقضاء العدة فيجب على المسلم أن يصون[22] من التكفير بغير موجب قطعي كل فرد من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومرتكب ذلك لغرض نفسه لا ريب هو من الضالين المحقوقين، والله ولي التوفيق.
وقد روى أبو داود بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه عن الإسلام بعمل، والجهاد منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار” والله أعلم.
ما كتبه الأستاذ الفاضل الحنفي: قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: 2)، وقال عز من قائل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103)، وقال مخاطبا لصفوته من خلقه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125)، وقال في محكم آياته: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) وهي آية محكمة لم تنسخ على ما عليه أكثر أهل التأويل. وقال صلى الله عليه وسلم: “المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ويؤلف”، وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر” وهو في الصحيحين. إذا تمهد هذا فنقول: أما تكفير المؤمن فإن مذهب أهل الحق عدم جوازه بارتكاب ذنب ليس من المكفرات، صغيرًا كان الذنب أو كبيرًا، عَالِمًا كان مرتكبه أو جاهلًا، وسواء كان من أهل البدع والأهواء أو لا. نص عليه عبد السلام شارح الجوهرة عند قول الصنف: “فلا نكفر مؤمنًا بالوزر”، وقال في الدر “من باب المرتد”: لا يفتى بالكفر بشئ من ألفاظه إلا فيما اتفق المشايخ عليه. وقال في جامع الفصولين: لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه وما يشك في أنه ردة لا يحكم به إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك مع أن الإسلام يعلو، وينبغي للعَالِم إذا رُفِعَ إليه هذا ألا يبادر بتكفير أهل الإسلام اهـ.
وقال في الفتاوى الصغرى: الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرًا متى وجدت رواية أنه لا يكفر اهـ. وقال في الخلاصة وغيرها: إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير ووجد واحد يمنعه فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينًا للظن بالمسلم. وقال في التتارخانية: لا يكفر بالمحتمل؛ لأن الكفر نهاية فيستدعي نهاية الجناية ومع الاحتمال لا نهاية. وفي رد المحتار “من باب البغاة” ما يفيد إجماع الفقهاء المجتهدين على عدم تكفير أهل البدع. قال: وإن ما يقع من تكفير أهل مذهب لمن خالفهم ليس من كلام الفقهاء الذي هم المجتهدون، بل من غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء. وفي الدر وحواشيه “من باب الإمامة”: من كان من قِبْلَتَنَا لا يكفر بالبدعة حتى الخوارج الذين يستحلون دماءنا وأموالنا وسب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم غير الشيخين وينكرون صفاته تعالى وجواز رؤيته؛ لكونه عن تأويل وشبهة، والمراد بالخوارج من خرج عن معتقد أهل الحق لا خصوص الفرقة التي خرجت على عليّ، فيشمل المعتزلة والشيعة.
وأما الاستعانة بالكفار وبأهل البدع والأهواء على نصرة الملة الإسلامية فهذا مما لا شك في جوازه وعدم خطره، يرشد إلى ذلك الحديث الصحيح المار ذكره: “إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر” وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله”. وقال في الدر المختار -من كتاب الغنائم عند قول المصنف “أو دله الذمي على الطريق”- ومفاد[23] جواز الاستعانة بالكافر عند الحاجة، وقد استعان عليه الصلاة والسلام باليهود على اليهود ورضخ لهم. وفي شرح العيني على البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية في هوازن، واستعار منه مائة درع وهو شرك اهـ.
وفي المحيط “من كتاب الكسب”: ذكر محمد في السير الكبير: لا بأس للمسلم أن يعطي كافرًا حربيًّا أو ذميًّا وأن يقبل بالهدية منه كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خمسمائة دينار إلى مكة حين قحطوا أو أمر بدفعها إلى أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ليفرقاها على فقراء أهل مكة؛ ولأن صله الرحم محمودة في كل دين، والإهداء إلى الغير من مكارم الأخلاق.
وفي شرح السير الكبير للسرخسي: لا بأس أن يصل الرجل المسلم المشرك قريبًا كان أو بعيدًا، محاربًا كان أو ذميًّا. وفي الدر المختار “من كتاب الوصايا”: أوصى[24] حربي أو مستأمن لا وارث له بكل ماله صح، وكذا لو أوصى له مسلم أو ذمي جاز. ثم قال: وصاحب الهوى إذا كان لا يكفر فهو بمنزلة المسلم في الوصية. وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} )الممتحنة: 9)، قال أهل التأويل: هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين و المسلمين و إن كانت الموالاة منقطعة. وفي البخاري ما يدل على وصية عمر رضي الله عنه بالقتال عن أهل الذمة ولا يكلفوا إلا طاقتهم هــ[25] هذه هي نصوص الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل التفسير في وجهي السؤال، وبها تندفع كل شبهة في عمل هؤلاء الموفقين لخير أهل الملة الحنيفية السمحاء العاملين في تحصيل الائتلاف والاتفاق بين فرق أهل الإسلام الداخلين بتربية أيتام المسلمين في قوله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري-: “أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا -وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى” المجاهدين بعملهم هذا لإعلاء كلمة الله ونصرة الموحدين، ولا يمنع من صحة عملهم دخولهم في مجالس أهل البدع واختلاطهم معهم في هذه المصالح العامة متى كانت نيتهم تحصيل ذلك الخير العام فإن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى. والله أعلم.
هذا ما ذكره هؤلاء الأفاضل، ثم تقول: المطلع على ما نقله حضرات الأساتذة من علماء الجامع الأزهر من نصوص الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء من أهل المذاهب الأربعة يعلم حق العلم أن ما يفعله أولئك الأفاضل دعاة الخير هو الإسلام ومن أجل مظاهر الإيمان، وأن الذين يكفرونهم أو يضللونهم هم الذين تعدوا حدود الله وخرجوا عن أحكام دينه القويم. أولئك الدعاة إالى الخير قاموا بأمر الله في قوله: { لْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)، أما خصومهم فقد خالفوا نهي الله سبحانه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (آل عمران: 156). وإن كانوا يعتقدون كفر أولئك المؤمنون حقيقة فالمُفتى به عند الحنفية لاعتدادهم الإيمان وأعماله كفرًا وهو جحود لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وإن كانوا يقولون ذلك نبزًا بألسنتهم، فأخف حالهم أن يدخلوا في الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وقد قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور: 19)؛ لأنهم يضللون من يؤمن بالله واليوم الآخر وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويرمونهم بالفسق في أعمالهم، وهو إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وما أعظم الوعيد في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور: 19)، فهو من فظائع الكبائر. بقى أن بعض الجهلة المتشدقين ربما تعرض لهم الشبهة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) إلى آخر الآيات، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (المجادلة: 14)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} ( المجادلة: 20)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (الممتحنة: 1).
وما لم أتذكره مما قد يكون فاتني من الآيات التي تصرح أو تشير إلى المنع من موادة المؤمنين لغير المؤمنين، على أنه لا شبهة لهؤلاء الجهلة في مثل هذه الآيات تسوغ لهم تفسيق إخوانهم أو تكفيرهم بعد ما جاء في الآيه المحكمة من قوله تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ( الممتحنة: 8، 9)، وبعد ما جاء في القصص الذي قصه الله علينا لتكون لنا فيه أسوة إذ قال: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 15)، وبعد ما أباح الله لنا في آخر ما أنزل على نبيه نكاح الكتابيات، ولا يكون نكاح في قوم حتى تكون فيهم قرابة المصاهرة، ولا تكون تلك القرابة حتى تكون المودة. وحقيقة ما جاء في الآيات الدالة على النهي عن مولاة غير المؤمنين أو مودة الفاسقين والمحادين لله تعالى أنه نهي عن المولاة في الدين ونصرة غير المؤمن على المؤمن فيما هو من دينه وإمداد الفاسق بالمعونة على فسقه، وعن اتخاذ بطانة من غير المؤمنين يكون من صفتها أنها تبذل وسعها في خذلانهم وإيصال الضرر إليهم فيكون إدلاء المؤمنين إليها بأسرارهم واتخاذها عضدًا لهم في أعمالهم إعانة لها على الإيقاع بهم.
أما إذا أمن الضرر وغلب الظن بالمنفعة ولم يكن في الموادة معونة على تعدي حدود الله ومخالفة شرعه، فلا خطر في الاستعانة بمن لم يكن من المسلمين أو لم يكن من الموفقين الصالحين ممن يسمونهم أهل الأهواء، فإن طالب الخير يباح له، بل ينبغي له أن يتوسل إليه بأية وسيلة توصل إليه لم يخالطها ضرر للدين والدنيا، وقد بينت السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم ما صرح به الكتاب في قوله: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ}، إلخ. ولقد كانت لنا أسوة حسنة في استعانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية في حرب هوازن وفي غيرها في الوقائع كما هو معروف في السنة. ثم كان في سيرة الخلفاء الراشدين من لدن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى علي كرم الله وجهه ما فيه الكفاية لمسترشد إذا استرشد فقد أنشأ عمر رضي الله عنه الديوان و نصب الأعمال، واحتاج المسلمون إلى من يقوم في العمل في حساب الخراج وما ينفق من بيت المال، واحتاجوا إلى كتاب المراسلات والقوم أميون لا يستطيعون القيام بما كان يطلبه العمل من العمال، فوضعوا ذلك كله في أيدي أهل الكتاب من الروم وفي أيدي الفرس، ولم يزل العمل على ذلك في خلافة بني أمية بعد الراشدين إلى زمن عبد الملك بن روان، ولا شك في أن هذا استعانة بغير المسلمين على أعمال هي من أهم أعمالهم، فكيف ينكر هؤلاء الجهال جواز تلك الاستعانة، بل قد استعان كثير من ملوك المسلمين بغير المسلمين في حروبهم.
وإنا نذكر ما قال ابن خلدون في ذلك كله، قال “في باب ديوان الأعمال والجبايات”: وأما ديوان الخراج والجبايات فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل، ديوان العراق بالفارسية، وديوان الشام بالرومية، وكتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين. ولما جاء عبد الملك بن مروان واستحال الأمر وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة، ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة، وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتاب والحسبان، فأمر عبد الله سليمان بن سعد والي الأردن لعهده أن ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة ]من[[26] يوم ابتدائه، ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكتاب الروم: اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم. وأما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن وكان يكتب [ ][27] ولقن ذلك عن زادان فروخ كاتب الحجاج قبله. ولما قُتِلَ زادان في حرب ابن الأشعث استخلف الحجاج صالحًا هذا مكانه، وأمره أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية ففعل [ ][28] في الكلام على الوزارة وأما حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عندهم برتبة؛ لأن القوم كانوا عربًا أميين لا يحسنون الكتاب والحساب، فكانوا يستعملون في الحساب ] [[29] قليلًا فيهم. وأما أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه؛ لأن الأمية كانت صفتهم التي امتازوا بها، وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم يكن عندهم رتبة خاصة [ ][30] ديته[31] ولم تخرج السياسة إلى اختياره؛ لأن الخلافة إنما هي دين ليست من السياسة الكلية في شيء، وأيضًا فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد للخليفة [ ][32] لم يبق إلا الخط فكان الخليفة يستنيب في كتابته من عماله من يحسنه اهـ. وقال في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها “فصل [ ][33] الكر و الفر صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الإفرنج في جندهم واختصوا بذلك؛ لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر [ ][34] مامه فلابد وأن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف وهم الإفرنج، ويرتبون مصافهم [ ][35] ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان، والإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك؛ لأن عاداتهم [ ][36] سلطانية لقاضي القضاة ابن الحسن[37] علي بن محمد بن حبيب البصري البغداي في الكلام على وزارة التنفيذ وهذا الوزير وسط بين الإمام وبين الرعايا والولاة، يؤدي عنه ما أمر، وينفذ عنه ما ذكر، ويمضي ما حكم ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد من مهم، وتجدد في حديث ملم، ليعمل فيه ما يؤمر به، فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلدًا لها، فإن شورك في الرأي كان باسم الوزارة أخص.
ثم قال: ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم. واستعانة الخلفاء من بني أمية وبني العباس بأرباب العلوم والفنون من الملل المختلفة فيما هو من فنونهم مما لا يمكن لصبي يعرف شيئًا من تاريخ الأمة إنكاره، وقد كانوا يستعينون بهم على أعين الأئمة والعلماء والفقهاء والمُحَدَّثِين بدون نكير، فقد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين. وإن الذين يعمدون إلى هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أيتامهم وما فيه من خير لهم لم يفعلوا إلا ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن من كّفَّرَهُم أو فَسَّقَهُم فهو بين أحد الأمرين: إما كافر أو فاسق. فعلى دعاة الخير أن يجدوا في دعوتهم، وأن يمضوا على طريقتهم، ولا يحزنهم شتم الشاتمين، ولا يغيظهم لوم اللائمين، فالله كفيل له بالنصر إذا اعتصموا بالحق والصبر. والله أعلم.” انتهت الفتوى نصًّا.
ولعلنا في تلك الورقات القليلة نكون أبرزنا دور الإمام محمد عبده باعتباره مفتيًا، قام بالتطبيق العملي للدين، وأسقط أحكام الدين على واقع الناس المعيش، نسأل الله أن ينفعنا بعلمائنا الكرام، وأن يرحمهم رحمة واسعة آمين.
* البحث منشور بالعدد 119- 120 من مجلة المسلم المعاصر (2006). ص ص. 109 – 141.
** مفتي الديار المصرية السابق.
[1] حديث شريف أخرجه البخاري في صحيحه، ج. 1، ص. 37، وابن حبان في صحيحه، ج. 1، ص. 101.
[2] كذا بالأصل ولعلها أبنائه.
[3] كذا بالأصل والحديث في مسلم. ج. 1، ص. 68 بلفظ: “لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه”.
[4] كذا ليس فيه حرف عطف.
[5] كذا بالأصل.
[6] قطع بالأصل.
[7] قطع بالأصل.
[8] قطع بالأصل بمقدار كلمة.
[9] قطع بالأصل بمقدار كلمة أو كلمتين.
[10] قطع بالأصل بمقدار كلمة أو كلمتين.
[11] كذا بالتذكير.
[12] كذا بالأصل والصواب عن أبي الدرداء.
[13] كذا بالأصل والصواب عن أبي الدرداء.
[14] كذا بالأصل والصواب عن أبي الدرداء.
[15] قطع بالأصل بمقدار كلمة.
[16] قطع بالأصل بمقدار كلمة.
[17] قطع بالأصل.
[18] قطع بالأصل بمقدار كلمة.
[19] قطع بالأصل بمقدار كلمة.
[20] قطع بالأصل بمقدار كلتين على الأكثر.
[21] قطع بالأصل.
[22] كذا بالأصل، ولعل هناك سقط بمقدار كلمة فتكون يصون نفسه.
[23] كذا بالأصل والصحيح مفاده.
[24] كذا بدون أداة شرط.
[25] كذا بالأصل ولعلها اهـ.
[26] قطع بالأصل.
[27] قطع بالأصل.
[28] قطع بالأصل.
[29] قطع بالأصل.
[30] قطع بالأصل.
[31] لعلها تابعة لكلمة سابقة.
[32] قطع بالأصل.
[33] قطع بالأصل.
[34] قطع بالأصل.
[35] قطع بالأصل.
[36] قطع بالأصل.
[37] كذا بالأصل ولعلها أبي الحسن.