يجيء هذا الكتاب في إطار إعادة الاهتمام بالأستاذ الإمام محمد عبده وإلقاء الضوء على ما كتبه وما أهتم به الإمام، ويأتي هذا الكتاب والذي صمم بين دفتيه العديد من الموضوعات أبرز ما من اخطر مع شانوتو- وزير خارجية فرنسا – وكذلك العلاقة بين السلطة الدينية والسلالة المدنية في الإسلام ومقارنتها بالديانة المسيحية، وقد تحدث كذلك عن أصول الإسلام، وعن أثر هذه الأصول على الديانة الإسلامية وما فعلته في أهله، وكذلك تحدث عن وسطية الإسلام وقد قال عنها: ” ظهر الإسلام لا روحياً مجرداً ولا جسدانياً جامداً بل إنسانياً وسطياً بين ذلك، ولذلك سمي بدين الفطرة”.
وبين مدى اهتمام الإسلام بالعلم وتفضيله لرجالة، ثم تعرض الجمود الذي أصاب العالم الإسلامي – وليس الدين – نبينا الأسباب وإن كان قد ركز على سبب وحيد وهو السياسة، وقد قال فيها قولته المشهورة: “أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة ومن معنى السياسية ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة ومن كل أرض تذكر فيها السياسة ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة ومن ساس ويسوس وسائس ومسموس”، وبين مظاهر الجمود ونتائجه وعرض لكيفية الخروج منه، وقد جاء الموضوع الأخير حول الإسلام ومدنية أوربا.
بدأ الإمام كتابته بالحديث عن الإنسان وقد ذكر بصفة عامة أن الإنسان مخلوق ليعمل فالطبيعة لن تعمليه بدون عمل، وتحدث عن الأديان في حياة الإنسان وكيف أن الدين سلطان الروح ومرشدها، وركز على الديانتين المسيحية والإسلامية.
وذكر كيف أن المسيحية وكما جاء في الإنجيل: “من ضربك على خدك الأيمن فادر له الأيسر” رغم هذا النص فإن أصحاب هذه الديانة – زمن الإمام وما يزالون – يتباهون بغزو الممالك والسيطرة والغلبة والتفنن في صناعة الأسلحة التربية، وقارنها بالديانة الإسلامية التي أساسها طلب الغلبة وأنها أمة حربية إلا أن أصحابها الآن يتهاونون في طلب القوة ولوازمها”، ويحاول الإمام تفسير هذه المواقف المتناقضة ويتساءل هل تبدلت سنة الله في الملتين وقد اعتبر أن نقص التعليم هومن أسباب علة المسلمين.
وفي إطار ذلك استكمل الحديث عن العلاقات بين الديانتين فترض للمناظرة التي جرت بين الأستاذ الإمام والسيد هانوتو- وزير خارجية فرنسا – وقد تحدث الأخير في مقالين وحوار مع صاحبا جريدة الأهرام، وقد رد الإمام عليه في المؤيد.
وقد جاء حديث هانوتو عن الغلبة التي تحققها أوربا على العالم الإسلامي حربيا، وذكر أن فرنسا فتحت أراضيه وأخضعت شعوبه، وتحدث كذلك في الأديان، وفي التاريخ، وكذلك عن العبادات في الدين الإسلامي، وكذلك تحدث عن قضية القدر “الجبر والاختيار”، فقد اتهم الإسلام بأنه قدري وقارنه بالمسيحية التي لا يوجد فيها هذا المبدأ، وتساءل: هل للإنسان إرادة خاصة أم أن إرادته تذوب ويعمل مقتضى إرادة الله السرمدية؟ وذكر أن من خصائص الديانة المسيحية ترقية شأن الإنسان بتقريبه من الحضارة الإلهية في حين أن الديانة الإسلامية تحط بالإنسان إلى أسفل الدرك وترفع الإله عنه في علاء لا نهاية له، وقد عرض لبعض الآراء الغربية حول الإسلام منها المتشدد ومنها المعتدل، ورغم عدم إعلانه لانتمائه لأي من الاتحادين إلا أن السياق يدل – وكما رأي الإمام بعد ذلك – أنه أقرب للرأي المتشدد والذي يقول إن الإسلام جذام ويدعو للكسل والخمول، وكان هانوتو حريصاً غاية الحرص على إظهار الديانة المسيحية على أنها الأكثر مدنية وحضارة وعدلاً وكمالاً.
وقد فند الإمام ما قاله هانوتو وتناوله بالتفصيل، وبين سطحية فهم هانوتو العلم التاريخ والأديان وبين الاختلافات بين الديانة الإسلامية والديانة المسيحية وأبرزها غياب الوساطة بين العبد وربه في الدين الإسلامي، وتحدث في ذلك عن وسطية الإسلام وكذلك من تشجيع الإسلام لقيمة العمل، وبين أن ما أصاب المسلمين ليس من الإسلام ولكن بسبب خطأ أهله في فهمه، وتناول كذلك العلاقة بين السلطتين المدنية والدينية في كل ديانة وبين الفرق بينهما، ثم تناول الأستاذ عدة موضوعات تتعلق بالدين الإسلامي، مثل أصوله، وقد ذكر ثمانية أصول يقوم عليها الدين الإسلامي بدأها :
- بالنظر العقلي لتحصيل الإيمان، ورأي الإمام أن النظر هو وسيلة الإيمان الصحيحة.
- تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، وبين أن هذا الأصل قائم على أساس الكتاب وصحيح السنة.
- البعد عن (التكفير).
وقد رأى إذا صادر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وبته ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان.
- الاعتبار بسنن الله في الخلق، ويصرح القرآن أن لله في الأمم والأكوان سننا لا تتبدل، والسنن عمي الطرائق الثابتة التي تجرى عليها الشؤون وعلى حسبها تكون الآثار.
- قلب السلطة الدينية، والإتيان عليها من أساسها، فقد هدم الإسلام هذه السلطة ومما أثرها فلم يدع الإسلام الأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة ولا سيطرة على إيمان.
وبناء على هذا الأصل ذكر الإمام أن الإسلام دين وشرع والخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم ولا هو مهبط الوحي، ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة.
- حماية الدعوة لمنع الفتنة، وقد قالوا عن الدين الإسلامي إنه دين جهادي شرع فيه القتال ولم يكن قد شرع في الدين المسيحي، والقتال في الإسلام إنما شرع لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم.
- مودة المخالفين في العقيدة وتكون بالمصاهرة.
- الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة فإن صاحب هذا الدين ÷ لم يقل “بع ما تملك واتبعني” ولكنه قال لمن استشاره فيما يتصدق به من مال : الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس” بالإضافة لوجود الرخص في العبادات من صوم وصلاة.الخ.
وفي إطار حديثه عن النتائج التي ترتبت على هذه الأصول تحديث الإمام على أنها آخت ما بين المسلم وغير المسلم على أساس العقل، وذكر العديد من الأمثلة وكذلك شهادات غربية كدليل مؤيد له.
وتناول أيضا الاهتمام الإسلامي بالعلوم وكيف كان هذا الاهتمام كيفيا وكميا، وقد بدأ هذا الاهتمام على أيدي الخلفاء وخاصة بصورة واضحة مع الخليفة “علي بن أبي طالب” ثم طال أمده واستمر أثره مع الدولة الأموية وعظم قدره مع الدولة العباسية، وقد تنوع الاهتمام بالعلوم طوال هذه العصور، وقد أورد الإمام بعض الشهادات الفلاسفة غربيين :
فقد قال الفيلسوف “جوستاف ليون”: ” إن العرب أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين”، ويقول آخر: “لا أدري كيف أعطانا الإسلام في مدة قرنين عددا من الفلكيين يطول سرد أفراده، وإن الكنيسة تسللت على العالم المسيحي اثني عشر قرنا في أوربا لم تمنحنا فلكيا واحداً”.
وقد ذكر الإمام العديد من الأمثلة التي تدل على تقدير العالم الإسلامي للعلم ولدور العلماء ما يدل على مدى احترام الإسلام لمكانة العلم والعلماء – ولكن لم يذكر الإمام الأمثلة وهي عديدة التي كانت من خلفاء وقادة إسلاميين ضد العلماء المسلمين، وتجاهل الإمام ما لا يعني أنها غير موجودة أو أنها تقلل من قيمة دفاعه، مثل محنة الإمام أحمد بن حنبل، ومقتل الحاج، وكذلك محنة ابن تيمية والعديد من الأمثلة الأخرى.
- الموضوع قبل الأخير الذي شغل اهتمام الإمام كان عن الجمود الذي أصاب العالم الإسلامي، فعرض للجمود وأسبابه ومظاهره ونتائجه، وقد رأى أن من أهم أسباب الجمود هو السياسة فهي التي جعلت خليفة عباسياً يستعين بجند أجنبي ثم تغلب هؤلاء الجند على الخليفة واستبدوا بالأمر منه، وهنا ضعف الاهتمام بالعلم بل سعوا لإفساده، وقد بين الإمام أثر المحمود على اللغة وعلى الشريعة وعلى العقيدة وعلى النظام والاجتماع، وكذلك على التعليم.
وفي الموضوع الأخير تحدث عن إسهام الإسلام في المدنية الأوربية وكيف تم ذلك من خلال الجمعيات والضغط الديني والثورة، وكذلك ترك المسيحية من قبل رجال الدولة، ثم ختم كتابه بالدعوة للعودة إلى سماحة الإسلام والبعد عن التكفير والتنسيق، والعمل على الاهتمام بآثار السلف وتنقيتها والعمل على ملاءمتها لعصورهم الحالية وكذلك الاهتمام بالعلم.
خاتمة :
لقد حاول الأستاذ الإمام من خلال استخدامه عددا من المفاهيم استجلاء الفكرة، وبين مدى مدنية الإسلام ومقارنته بالديانة المسيحية والتعرض الطبيعة الإسلام المختلفة عن المسيحية، وفي ذلك استخدم عددا من المفاهيم أبرزها الدين الإسلام، المسيحية، الإنسان، مدنية الإسلام، مدنية المسيحية، العلم، العقل.
وقد استعرض نظرة كل دين للإنسان وتعامله وتفعيله لدوره المنوط به في إطار المنظومة الحضارية التي هو فيها مبينا أثر التزام أو عدم التزام هذا الإنسان بتعاليم وأصول دينه من عدمه وتأثير هذا الالتزام على فعالية الإنسان والذي بدوره يؤثر على فعالية الدين، ويتم اتهام الدين بما ليس فيه بسبب خطأ الإنسان المنتمي له، كما استعرض من خلال مفهوم المدنية مدنية الإسلام ومدنية المسيحية وارتباطهما بالعلم، فقد ربط الإمام بين العلم والمدنية والعقل وأوضح طبيعة العلاقة فيما بين هذه المفاهيم الثلاثة مع كل من الدين الإسلامي والدين المسيحي معتمداً على الأصول في كل دين داعياً المسلمين للتمسك بأصول دينهم والالتزام بها، وقد بين أصول الإسلام وأوضح أن هناك ثمانية أصول الإسلام، الداعي منها لإعمال العقل أكثر من الربع، مما يدل على مقدار احترام الإسلام للعقل والتشجيع على إعماله وتفعيله من أجل فعالية المسلم.
واعتمد الإمام من خلال مفاهيم المدنية وبطرها مرة بالعقل ومرة بالعلم كيف أن طبيعة الإسلام تختلف عن طبيعة المسيحية في الحض على إعمال العقل والاعتماد على العلم، وأورد العديد من الدلائل على ذلك سواء من القرآن والسنة أو بشهادات من رجال علم شربين يشيدون بعظمة الإسلام ودوره في خدمة الإنسانية في مختلف المجالات العلية.
وقد قارن بين نصوص الإسلام وحاله – زمن الإمام وحتى الآن – وبين نصوص المسيحية وحالما الآن – زمن الإمام وما تزال – وتساءل عن المغزى وراء ذلك فتبين له أن للإنسان دوراً فعالاً في الاستفادة من الدين ونصوصه والالتزام به من عدمه وبين الاختلاف في معنى المدنية بين كل من الدينين لاختلاف طبيعتهما، فالمسيحية بها ما يسمى بالسلطة الدينية وقد عانت الشعوب الأوربية فيما يسمى بالعصور الوسطى – الظلام – من تسلط الكنيسة على الحياة العامة والاجتماع واستبدادها بالسلطتين الدينية والمدنية مما تطلب ضرورة فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية في نفس الوقت الذي لا تجد هذه السيطرة أو حتى هذه السلطة التي تسمي بالدينية في الإسلام، فالإسلام دين عالي ولا يوجد وسيط بين الإنسان والله، وفي ذلك أكد الإمام على ما أسماه وسطية الإسلام والتي يرى من خلالها أن الإسلام دين لا روحي فقط ولا جسدي فقط، ومن ثم فقد استطاع الإمام من خلال منظومته المفاهيمية توضيح فكرته والتأثير على أن مسألة مدنية الإسلام هي من طبيعته، ومن ثم فهولا يحتاج إلى إصلاح ديني مثلما في المسيحية ولكن يحتاج الإصلاح نصوصه وتفعيلها وإصلاح أخطاء الإنسان المنتمي إليه والعمل بأصوله والالتزام بشريعته ومراعاة إعمال العقل من أجل خدمة الدين وتفعيل دوره في الحياة العامة.
([i]) محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، سلسلة المواجهة (التنوير) القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، ۱۹۹۳م نشر في جزئين.
([ii]) بصيغة (بين) جاءت طبعة الهيئة العامة للكتاب وقد اعتمد عليها في العرض أما “صيغة” “دين” – وهي الأكثر شهرة – فقده جاءت في تحقيق جديد لهذا الكتاب قام به د. عاطف العراقي (تحقيق)، محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدينة دار سينا للنشر، القاهرة 1987م.