مقــدمـة :
في ســـعيهـم الـدائـب وراء المعـرفـة الـراسـخـة شــكّـل الوصــول إلى القطــع واليقيـن هـاجسًــا كبـيراً فى أذهــان علمــاء المسـلميـن, لا سيمــا هـؤلاء المعتنـون بتقـريـر «الأصـول» بشقيهــا :
*الأصــول العقـديــــة أو «أصــول الـديـن», واهتـم بتقـريـرهــا المتكلمـون.
*والأصــول العلميــة أو «أصــول الفقـه», واهتـم بتقـريـرهــا الأصـوليـون.
فهــاهـم المتكلمــون لا يعتمـدون في تقـريـر مســائلهــم إلا على الأدلــة القطعيـة, أمــا الأدلــة الظنيـة فهــى
لا تسـتحق حتـى مسمّـى «الـدليـل» لذلــك سمـوهــا ـــ وتـابعهــم على ذلـك بعـض الأصــولييـن(2)ـــ بـــ في أكثــرهـم في الدليــل الأصــولي أن يكــون قطعيًّـا؛ ولـذا فـالعمـل بالإجمــاع وبخبـر الـواحـد وبالقيـاس, حتى مع الخـلاف في كـل ذلـك, ثــابت عنـدهـم بـأدلــة قطعيـة. وهــا هـو ابـن السمعــاني, صـاحب أجـل كتب الشـافعيـة في الأصــول نقـلاً وحجـاجًـا ـــ على حـد زعــم الـزركشــي(3)ـــ يسمـي كتـابـه هـذا بــ «قـواطــع الأدلـة», بل هــا هـو الشـاطبي «المجـدّد» يقـرر في أول كلمـة من مـوســوعتـه العظيمــة «المـوافقــات» بـأن «أصــول الفقــه فى الـديـن قطعيـة لا ظنيــة»(4)ويقيــم نظـريتــه كلهــا في «الاسـتقـراء» سعيًـا وراء غـايـة واحـدة هـي الوصـول إلى القطـع.
بحــال إبـراهيــم, عليـه الســلام, فس سعيـه وراء ثلج اليقيـن عنـدمـا قـال : }رَبَّ أَرنِي كَيْفَ تُحْيي الْمَـوتَى قَـالَ أَوَلَـمْ تُءْمِنْ قَـالَ بَلَــى وَلَكَـِنْ لِيَطْمَئِــن قَلْبِــي{(البقـرة : 260), أشبـه حـال علمــاء المسلميـن. لكـن ســيـدنـا إبـراهيــم, عليـه الســلام, وجـد مـن خــرق لــه العـادة وأوصـلـه إلى ثـلج اليقيـن, أمــا المتكـلمـون والأصــوليـون فـلا أظـن أن هـذا قـد تيسـر لهـم.
وعلى أيـة حــال مـا سنـراه خـلال هـذا البحث هو عـرض لإشــكـاليـة القطـع عنـد الأصــولييـن خـاصـة, ومحـاولـة لا أكثـر لحـل هـذه الإِشــكـاليـة, وذلـك من خـلال ثـلاثـة مطـالب وخـاتمـة.
المطلب الأول : التعـريف بالقـطع.
المطـلب الثـاني : مـوانـع القطـع.
المطـلب الثـالث : الحـلـول الأصــوليــة لإشكـاليـة القـطع.
وخـاتمـة : في نتـائج البحث.
المطـلب الأول
التعـريف بـ «القـطع»
وســيكـون ذلـك ضمـن المقـاصـد الستـة الآتيـة :
المقصـد الأول : القطــع في المعجــم.
المقصـد الثـاني : القطـع في الاصطـلاح.
المقصـد الثـالث : تـاريخ مصطـلح القطـع عنـد الأصـولييـن.
المقصـد الـرابـع : مـرادفـات القطـع.
المقصـد الخـامس : أضـداد القطـع.
المقصـد السـادس : هـل للقطـع مـراتب ؟
المقصـد الأول : القـطع في المعحــم :
المــادة المعجميـــة «ق ط ع» تـدل في أصـل وضعهـا اللغـوي على «صَـرْمٍ وإبـانــة شـــيء من شـــيء»(5). كمــا يقــول ابـن فــارس. وقــال ابـن منظـور : «القَطْــعُ : إبـانةُ بعـضٍ أجـــزاء الجــرْم مـن بـعض فَضْـلاً … ]تقــول :[قَطَعْتُ الحَبْـل قَطْعًـا فـانْقطَع»(6).
ومـن الـدلالــة على «الإبـانــة الحسّيـة» تطـور معنــى هـذه المـادة إلى الـدلالــة على «الإبـانـة المعنـويـة», ومثـالــه قــولــه تعـالى : }فَتَقَطَّعُــوا أَمْـرَهُـــمْ بَيْنَهُــمْ زُبُـراً{(المـؤمنــون : 53) أي تقَسَّـمُـوه … وقـولــه تعـالى : }وَقَطَّعْنَـــاهُــمْ فِي الأَرْضِ أمَمًــا{(الأعــراف : 168) أي فـرّقنــاهـم فِـرَقًــا, وقـال تعـالى }وَنَقَطَّعَتْ بِهِــمُ الأَسْبَــاب{(البقـرة : 166) أي انْقَطَعَت أسْــبابُهــم ووُصـلُهُــم»(7). «والقطيعـة : الهجـران, يُقــال : تقــاطع الـرّجُـلان إذا تصـارمـا, وبعثّتْ فـلانـةُ إلى فـلانــةَ بـأُقطـوعـةٍ, وهـي شـيء تبعثُــه إليهــا عـلامـةً للصَـريمـة»(8).
وفيمــا يتعلق بـوصف الكـلام خصـوصًـا بكــونـه قـاطعًــا لم نجـد في المعجــم مـا يتعـلق بتفســير ذلـك. أمــا مـا قــالـه ابـن منظـور : «وكــلاٌم قَــاطِـعٌ, على المثـل, كقــولهــم : نــافِأذٌ»(9). فليس ـــ فيمــا هـو ظـاهـر ـــ تفسـيراً لــ «الكــلام القـاطع» بـأنـه «الكـلام النـافــذ», إذ شتــان بينهمـا, وإنمــا يبيـن ابـن منظــور أن وصف الكـلام بكــونـه قـاطعًــا جـاء على سـبيل المثــل والتشـبيـه كمـا هـو الحـال في وصف الكــلام بكـونـه نـافـذاً (أي : منقَّــذاً مطـاعًــا), فـالنفــوذ في الأصـل للسهـم كمــا القـطع في الأصــل للسيف أو السـكين, وإنمــا شُــبَّـه الكــلام بالســهم والسيف تشبيهًـا.
وإذا كـان الأمـر كـذلـك وأردنـا الإدلاء بـدلــونـا في تفســير معنـى وصف الكـلام بكـونـه قـاطعًـا, مســتعينيـن في ذلـك بالسـنَّـة العـامـة في تطـور الألفــاظ من الحسيَّــات إلى المعنـويـات, فيمكننـا القـول بـان القطــع, بعـد اســتعمـالـه في الإبـانــة الحسـية فمـن ثـم المعنـويـة, اسـتُعمـل في المنـع مـن استمـرار الشــيء, وبالتـالي انتهـاؤه, كمــا هو الحـال في قـولـه تعـالى : }فَقُطِـعَ دَابِـرُ الْقَـوْمِ الَّـذيِـن ظَلَمُــوا{(الأنعـــام : 45) أي : «قَطَــعَ خَلَفَهــم من نســلهـم وغـيَّـرهـم فلم تبق لهـم باقيــة»(10). أو «فاســتؤصـل القــوم … عـن آخــرهــم فلــم يُــترك منهــم أحـد إلا أهلـك»(11). ومنــه قــولــه ـــ صّلى الله عليــه وســلم : «إذا قـام أحـدكــم يصـلي فـأنـه يسـتره إذا كـان بين يـديـه مثـل آخـرة الـرحـل, فــإذا ل يكن بيـن يـديـه مثـل آخــر الـرحــل فـإنـه يقطــع صـلاتـه الحمــار والمـرأة والكـلب الأســود»(12), وقــولـه : «مـن أعمــر رجـلاً عمــري(13)لــه ولعقبــه فقـد قطــع قـولُـــه حقَّـه فيهــا وهي لمـن أعمــرى»(14). «مَقْطَــعُ كـل شــــيء ومُنْقَطَعُــه : آخــره حيث يَنْقَطِــعُ, كمَقَــاطِـعِ الـرَّمــال والأوْدِيــة والحـرَّةِ ومــا أشــبههـا. ومقـاطَيــعُ الأوديـة : مـآخيُـرهـا. ومُنقَطِعُ كـلَّ شــيء : حيث يَنْتَهــى إليـــه طَـرَفُــه»(15). والعـلاقـــة بـين القـطع بمعنـى إبـانـة أجـزاء الشــيء, والقطــع بمعنــى منـع اســتمـرار الشـيء وانتهـائـــه واضحـة, وهي عــلاقــة السـبب بالنتيجـة, فـإبانـة أجــزاء الشــيء تـؤدي إلى المنع من اسـتمـراره, والمنع من اســتمـراره يــؤدي إلى انتهـائـه. ووصف الكــلام بكـونـه قـاطعًــا جــاء, والله أعلم, مـن هـذا المعنى. فالكــلام القــاطع, على هـذا, هو المـانع من استمـرار شــئ مـا أو المنهي لـه.
لكـن مـا هــو هـذا الشــيء الذي يمنع الكــلامُ القـاطع مع استمـراره أو ينهيـه ؟ أو بعبـارة أخــرى, مـا هـو تقـديـر المفعـول بـه المحـذوف المتعلق باســم الفـاعـل «قـاطـع»؛ لأن «قَطَـعَ» فعــل متعـدي في الأصــل لازم ؟
يمكننــا هنــا أن نلجــأ إلى تقــديـر مفعــولات متعـددة لهـذا الفعـل كلهــا تـؤدي إلى الغــرض نفســه بحيث تـدل على المعنـى الـدقيق الذي نظنــه للكـلام القـاطع, ومـن هـذه المفعــولات فيمــا نــرى : الجـدل أو النقــاش أو الخـلاف أو النـزاع ومـا إلى ذلـك. وعلى هـذا يكـون الكـلام القـاطع, لغــة, هـو الكـلام ينهي الجـدل أو النقــاش أو الخـلاف أو الحـوار في مـوضــوع مــا, ويـدلــك على هـذا المعنـى القــول المشــهـور عنـد العـرب : «قطعت جهيـزة قــول كـل خطيب»؛ وذلـك لأنهــا لمــا تكلمت بمـا تكلمت أنهـت النقــاش والجـدال في المـوضــوع الذي تكلمت فيـه(16).
وسـبب إنهــاء الكــلام لمـا ذكـرنـا من المفعــولات المقـدَّرة, قـد يعــود لواحـد أو لأكثــر من الأســباب, كـكـونــه اشــتمـل على معـلومـات مستجـدة لم تكـن معلـومـة من بـل, كمـا هو الحـال في كـلام جهيزة, أو ككـون قـائـلــه وضع يـده على مَعْقِـد الخــلاف وحـرَّر محـل النـزاع أو كشف عن زيفــه … الخ.
هــذا هـو التخمــين الذي يبــدو لنــا في أصــل وصف الكــلام بكــونـه قـاطعـاً.
وثمـة تخميـن آخــر يمكننـا عـرضــه هنــا, هو بــرغــم الــترادف بيـن الكـلام القــاطع, والكــلام الفــاصـل, فقـد جــاء في صفــة كـلامـــه ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ بــأنــه «فصـــلٌ لا نـزْرٌ ولا هَــذَر»(17)قــال ابــن الأثــير : «أي بـين ظـاهـر, يفصـل بيـن الحق والبــاطـل, ومنـه قــولــه تعــالى : }إنَّـهُ لَقَـــوْلٌ فَصْـل{(الطـارق : 13) أي فـاصـل قـاطع»(18). والتفصــيل, كمـا يقــول ابـن منظــور, هو «التبيـين»(19), ومنـه قـولــه تعــالى : }وَكُــلَّ شَــيْء فَضَّلْنَــاهُ تَفْصِيـلا{(الإسـراء : 12) أي : «بيَّنــه بيـانًـا شــافيًـا»(20). وعلى هـذا التقـديـر يكــون معنــى الكـلام القـاطع هـو : البيَّن الـواضــح, ويكـون اســم الفـاعـل هنـا بمعنــى اسـم المفعــول, فالقـاطع يعني المقطَّـع المفصَّـل وبالتـالي المبيَّن, أو يكـون الكـلام القــاطع بمعنــى الفــارق الممـيز بـين الحق والبـاطـل.
وعليــه يكـون الفـرق بين هـذا التخميـن والتخميـن الســابق هـو أن القطـع في هـذا التخميـن كـان بمعنــى التبييـن والتفـريق, أمـا في التخميـن الســابق فالقـاطـع كـان بمعنـى الإنهــاء, والإنهــاء قـد يكــون بسبب كـون الكـلام بيّنـا أو مفـرّقًــا بين الحق والبـاطـل, وقـد كــون لغــير ذلـك من الإســباب, وبالتـالي يكـون القطـع بمعنـى الإنهـاء أعـم من القطـع بمعنـى الفصـل.
والذي نـرجّحــه هو التخميـن الأول لسـببين :
أحـدهمـا : أنـه لا يُحتــاج فيـه إلى تـأويـل اســم الفـاعـل بـاســم المفعــول, والأصـل عتدم التـأويـل.
والثــاني : أن ثمــة فـرقًــا جـوهـريًّـا بين «فَصَـلَ» و «قَطَــعَ» ينفي الـترادف بينهمـا, فالقـطع فيـه أصـله الحسي يكـون بســرعـة, ويمنـع التـواصـل بيـن أجـزاء الشــيء نفســه, بينمـا الفصــل ـــ في الغــالب ـــ يكـون ببطء أكثــر ويمنـع التـواصـل بين الأشيــاء المختلفـة المتخلطـة والمتمـيزة في نفسهــا لا بيـن أجـزاء الشــيء نفســه, تقــول : فصــلت القمـح عن الشـــعير, ولا تقــول : قطعت, وتقــول : قطعـت الحبــل, ولا تقـول فصــلت. ومن هنــا كـان التفصيـل بمعنــى التبييـن, لأنـه يمنـع من الاختـلاط ويــوضــح الأشــياء بفصــل بعضهــا عـن بعــض بعـد أن كــانت جملــة واحـدة مختلطًــا بعضهــا ببـعض, أمـا القطـع فـلا يصـلح لـه هـذا المعنـى.
ومحصَّـلة القــول هي ـن : الكــلام القـاطع لغــة, فيمــا نـرى, هو الكـلام المنهـي للجـدال والنقــاش والخــلاف في مـوضـوع مـا لأي سـبب كـان هــذا الإنهـاء. والله أعـلم.
المقصـــد الثــاني : القطــع في الاصطـلاح :
استعمــل الأصــوليــون لفـظ «القطــع», ومشــتقـاتـه : «القـاطـع», و «القطعـي» و «المقطــوع بــه», و «القطعيــة» في مجـاليـن من المجـالات المتعلقـة بالنص :
أحـدهمــا : مجــال ثبــوت النص. فثمـة من النصــوص مـا هـو قطعـي الثبـوت كـالقـرآن الكـريـم, والسنــة المتـواتـرة, ومنهــا مـا هـو ظنى الثبـوت كخبـر الواحـد.
والآخــر : مجــال دلالــة النص, فثمــة ألفــاظ تـدل على معنـاهــا قطعًــا كـألفــاظ الأعــداد مثـلاً, وأخــرى تـدل عليــه ظنًّـا كـاللفـظ العـام في دلالتـه على الاســتغـراق مثـلاً.
والقـطع في كـلا المجـاليـن يعنـي ـــ عنـد جمهــور الأصـولييـن ــ: العـلم الـذي ينتفـى معــه الاحتمــال مطـلقًــا. فالنـص المقطــوع بثـبوتـه, هو النص الثـابت عـن الشــارع بعلــم ويقــين ودون أدنــى احتمــال لكـونــه مكـذوبًــا, أو أخطــأ في نقـله الـرواة. والنص المقـطـوع بـدلالتـه هو النص الذي نعلــم أنـه دال على معنــاه الواحـد فقــط دون أدنى احتمــال للـدلالـة على أي معنـى آخــر.
والعـلاقـة بيـن هـذا المعنـى الاصطـلاحي للقـطع والمعنـى اللغـوي الذي فصَّلنــاه آنفًــا, تحتمـل وجهـين :
أحـدهمــا : تخصـيص معنـى الإنهــاء, أي أن القطـع لغـة كـان يـدل على إنهـاء الشيء والمنع من استمـراره, وفي الاصطـلاح صـار يـدل على نـوع خـاص من الإنهــاء وهو إنهـاء الاحتمـال.
والـوجــه الآخـر : تخصيص سـبب القطع. أي أن الكـلام القـاطع, لغـة, قـد يكــون لسـبب أو أكثــر من الأسبــاب ككـونـه بليغًـا أو واضحًــا أو مفـرقًــا بين الحـق والبـاطـل … الخ, وفي الاصطـلاح صـار يـدل على الكـلام الذي يكـون قـاطعًـا لسـبب واحـد فقـط, وهـو الوضـوح المطـلق الذي ينتفي فيــه احتمــال الـدلالـة على أي معنـى آخـر غيـر المعنـى المـراد.
ولعـل الوجـه الأول أصـح؛ لأنـه يصـدق على اصطـلاح القطـع في كـلا مجـالي النص : الثبــوت والـدلالــة, أمــا الـوجــه الثـاني فـلا يصـدق إلا على مجــال الـدلالــو فقـط؛ لأن النص المقطــوع بثبـوتـه لا يُشـترط فيــه كـونـه واضحًــا بل قـد يكـون غـامضًــا كـالمتشـابـه مـن آيـات الكتـاب الكــريـم.
وهـذا الاصطـلاح, أي إطـلاق لقطعـي على «غــير المحتمـل», هو «الاستعمــال المشــهـور» للقطـع, على حــدّ تعـبــير الشـاطبي (21), وثمـة استعمــال آخــر للقـطع اختـص بـه الحنيفــة حيث يصـفـون دلالــة بعـض الألفـاظ بكـونهـا قطعيـة : كصيـغ العمـوم المجـردة عن القـرينــة المتخصصـة, والمطلقــات المجـردة عن القـرينــة المخصصـة, والمطلقــات المجـردة عـن القـرينــة المقيـدة, والحقـائق المجـردة عن قـرينــة المجــاز, مـع إقـرارهـم بـأنهــا ألفــاظ محتملــة في الأصـل, أي من حيث الـوضــع اللغـوي, لكـن لمـا لم يقــترن بهــا دليـل يصـرفهــا إلى معنـاهــا المـؤوّل, وكـان عنـدهــم لا يجــوز لــ «بيـان التغـييـر» أن يتـأخـر عن وقت الخطـاب(22), وبالتــالي لا يجــوز للقـرينــة المخصصة أو المقيـدة أو الصـارفــة للمجـاز أن تتـراخى عـن اللفـظ, صــار انعــدام وجــود دليــل التــأويـل المقــارن دليـلاً على أن المتكـلم أراد من تلـك الألفــاظ ظـواهـرهــا علـى وجــه القطـع, أي أن الاحتمــال الكـامـن في تلـك الألفـاظ من حيث الـوضـع اللغـوي تـلاشـى وانتهـى بسـبب عــدم قـرن المتكلــم بهـذه الألفـاظ مـا يـدعــم هـذا الاحتمـال(23).
وبهـذا نجـد أن الحنفيــة لا يختلــفـون مع الجمهـور في أن «القطــع الـدلالــة» ينـافي احتمــال التـأويـل, ولكـن يختلفـون معهــم في الـسبب الذي أدى إلى نفـي احتمــال التـأويـل, فبينمـا يقصـر الجمهــور سبب نفي الاحتمــال على الـوضـع اللغـوي, أي أن الألفــاظ القـاطعـة عنـدهــم عي الألفـاظ التي وُضعت لمعنـى واحـد فقـط ولا تحتمـل غيـره مطلقًــا كـألفــاظ الأعـداد وأسمــاء الأشخــاص, يقــول الحنيفــة بـأن ثمــة سـببًـا آخـر غــير الـوضـع اللغـوي ينفي الاحتمـال, وهـو حصــول الــتراخـي الزمـني مـن غــير أن يقــرن المتكـلم كـلامــه المحتمـل من حيث الوضــع اللغــوي بـدليــل يـدعــم هــذا الاحتمـال. وســنـأتي إلى مـزيـد كـلام في هـذه النقطــة في مـوضـع لاحق مـن هـذا البحث إن شــاء الله تعـالى.
هــذا, ويستخــدم الأصــوليـون مصطـلح «القــطع» كثــيراً, ويـريـدون بــه الجــزم النـاجـم عن العـلم النـافي للاحتمــال لا مجـرد العلــم, ومـن هنــا تجـدهــم يكــثـرون من القــول : «نقطــع بكــذا», و «ينبغــي القطـع بكـذا», و «فــلان قطـع بكـذا», و«هـذا ممـا يقطـع بصحتـه», و«هـذا مقطــوع بـه», وغــير ذلـك من العبــارات الـتي تـدل على الجـزم بالمســألة محـل البحث جـزمًـا نـاجمًـا عن علـم ويقيـن.
وقــد يســتخـدمـون القـطع لا ســيمـا بصيغـة اســم الفـاعـل «قـاطع» في مجـرد الجــزم بغض النظـر عـن كـون هـذا الجـزم نتج عن علـم أم نتج عـن تقليـد, ومـن هنـا فـال الإنســوي : «القطــع أعـم من العـلم, إذ المقـلـد قـاطع وليس بعـالم, وكـل عـالم قـاطع ولا ينعكـس»(24).
وإطـلاق القطــع على «الجــزم» هـو مـن بـاب إطـلاق السـبب على مسببَّه؛ لأن الجـزم ينجـم لا محـالـة عن العلـم, فكـل عـالـم قـاطع كمــا قـال الإسنـوي آنفًـا.
وخــلاصــة القــول في هـذا المقصـد : أن الأصـولييـن يســتعملـون مصطـلح القطـع ومشتقـاتـه في استعمـالات ثـلاثـة :
أحـدهــا : في العلــم النــاجـم عـن نفــي الاحتمـال مطـلقًــا, وهــو اصطـلاح الجمهـور.
والاستعمــال الثـاني : في العـلم النـاجـم عـن نفــي الاحتمـال إمــا مطـلقًــا, وإمــا لعــدم الـوقـوف على القـرينــة الـداعمـة للاحتمـال, وهـو اصطـلاح الحنفيـة.
والاستعمـال الثـالث : في الجــزم, ســواء نجــم هـذا الجـزم عـن علـم أو تقليـد.
المقصـد الثـالث : تـاريخ مصطـلح القطـع عنـد الأصـولييـن :
القطـع ليس هو الاصطـلاح الوحيـد أو الأقـدم في بـابـه عنـد الأصـولييـن, إذ لا نجـده عنـد الإمــام الشـافعـي (ت 204) مثـلاً, بل نجـد بـدلاً منــه مصطـلح «الإحـاطـة», أو «علـم الإحـاطـة», ولعلــه اســتمـده مـن كتـاب الله تعـالى في مثـل قـولـه : }وَأَنَّ اللهَ قَــدْ أَحَـاطَ بِكُــلَّ شَــيْء عِلْمًــا{(الطـلاق : 12) وقـولــه : }بَــلْ كَــذَّبُــوا بمَــا لَـمْ يُحِيطُـوا بِعِلْمِــهِ وَلَمَّــا يَـأْتِهــمْ تَـأْوِيلُـــه{(يـونس : 39). قـال, رحمة الله تعــالى :
«العــلم مـن وجــوه : منــه إحــاطــة في الظـاهـر والبــاطـن, ومنـه حـق في الظـاهـر. فالإحـاطـة منـه مـا كـان نص حكـم الله أو سنــة لـرسـول الله نقلهــا العـامـة عن العـامـة. فهــذان السـبيـلان اللذان يُشهـد بهمــا فيمــا أحـل أنـه حـلال وفيمــا حُــرمَّ أنــه حــرام. وهـذا الـذي لا يســع أحـداً عنـدنــا جهـلُــه ولاشــك فيــه. وعلـم الخـاصـة : سنـة من خـبر الخـاصـة يعـرفهــا العلمـاء ولم يكلفهــا غيـرهـم وهى مـوجـودة فيهــم أو في بعضهـم بصـدق الخــاص المخـبر عن رســوال الله بهــا. وهـذا اللازم لأهــل العـلم أن يصيـروا إليــه, وهـوالحق فى الظـاهـر, كمـا نقتـل بشـاهـديـن, وذلـك حق فى الظـاهـر, وقـد يمكـن في الشــاهـديـن الغـلط»(25). وقــال أيضًـا : «فـأمــا مـا كـان مـن سنـة من خبر الخـاصــة الذي يختلف الخــبر فيــه فيكــون الخبـر محتمـلاً للتـأويـل, وجـاء الخبـر فيــه من طــريق الانفــراد, فالحجــة فيــه عنـدي أن يـلـزم العــالميـن حتى لا يكـون لهــم ردُّ مــا كــان منصـوصَـا منــه, كمــا يلـزمهــا أن يقبـلـوا شهــادة العـدول لا أن ذلـك إحـاطـة, كمــا يكــون نص الكتـاب وخبـر العـامـة عـن رســول الله, ولو شــك في هـذا شــاك لم نثـل لـه : تب, وقلنــا : ليس لـك, إن كنت عـالمًـا, أن تشـك كمــا ليس لـك إلا أن تقضـى بشــهـادة الشــهـود العـدول, وإن أمكـن فيهــم الغـلط, ولكـن تقضـى بذلـك على الظـاهـر مـن صـدقهـم, والله ولـى مــا غـاب عنـك منهـم»(26).
والمـلاحـظ أن الشــافعـي اســتعمـل مصطــلح «الإحـاطـة» أو «علـم الإحـاطـة» في مجــال ثبــوت النص, أمــا في مجــال دلالـة النص فلــم يكـن قـد تبلـور على عهـد مصطـلح خـاص باللفـظ قطعـي الدلالـة, بل كـان الشـافعـي يستخـدم مصطـلح «النص» في الـدلالـــة على اللفـظ قـوي الظهـور وواضـح الـدلالـة, ســواء دل على معنـاه قطعًـا أو في غـالب الظـن. قــال الغـزالي, رحمـه الله تعـالـى : «النص : اســم مشــترك يُطـلق فــى تعــارف العلمــاء علـى ثـلاثــة أوجـه : الأول : مـا أطلقـه الشـافعـى, رحمـه الله, فـإنـه سمـى الظـاهــر نصًّــا, وهـو منطبق على اللغــة, ولا مــانـع منــه فى الشــرع, والنـص في اللغــة بمعنـى الظهـور, تقــول العـرب : نصت الظبيـة رأسهــا, إذا رفعتـه وأظهـرتـه. وسُــمي الكـرسـى منصــة إذ تظهــر عليــه العــروس ..»(27).
وفي الفقهيــات يســتخـدم الشــافعـي مصطـلحًــا آخــر يـدل علـى القطــع, وهـو «اليقيـن»(28).
وإذا انتقلنــا مـن الشـافعـى إلى غيـره مـن الأصـولييـن وجـدنـــا أن الصــير في (ت 330هـ) ثــم الجصــاص (ت370هـ)(29)همــا أقـدم مـن اســتعمـل مصطـلح القطـع على حـد علمنــا. قـال الصيـرفي, رحمـه الله تعــالى : «القــاتـل بـأن خـبر الواحـد يفيـد العلـم, إن أراد العـلم الظـاهـر فقـد أصـاب, وإن أراد القطـع حتى يتســاوى مع التـواتـر فبـاطـل»(30).
المقصــد الـرابــع : مـرادفــات القــطع عنـد الأصـولييـن :
لم يكــن القطــع ـــ كمـا قلنــا ـــ هـو المصطـلح الوحيـد في بـابـه عنـد الأصـوليين, وإن كـان هـو الأدق, والأكثــر بعـداً عـن الاشــتراك في الـدلالـة على معنـاه. وقـد اســتعمـل الأصــوليـون مصطـلحـات أو مفـاهيـم متعـددة للـدلالـة على القطـع بمعنـى عـدم الاحتمـال, نـذكــر منهـا مـا يـأتي :
«العـلم» :
أفــاض الأصـوليــون في الحـديث عـن «العـلم» وأقســامـه في مقـدمــات كتبهـم الأصـوليــة تـأثـراً بالكتب الكـلاميـة, أمـا في مجـال النص فقـد اسـتعملـوه أكثــر مـا يكـون في مجــال ثبــوت النص عنـدمــا تحـدثــوا عن إفـادة الخـبر متـواتـر العلـم, وعـن إفــادة خير الواحـد العلـم أو الظـن. وهــم يعنــون بـــ «العـلم» القطــع, وبعضهــم عنى بــه الظـن الغـالب. قـال الآمـدي : «اختلفــوا فى الـواحـد العــدل إذا أخــبر بخيــر هـل يفيــد خــبره العــلم ؟ فـذهب قـوم إلى أنــه يفيـد العلـم, ثـم اختلف هــؤلاء فمنهــم من قـال : إنـه يفيـد العـلم بمعنـى الظـن لا بمعنـى اليقيـن, فــإن العـلم قـد يطـلق ويـراد بــه الظـن»(31).
ويــأتى هــذا الإطـلاق انسـجـامـاً مع اللغـة القــرآنيـة التي يُستعمــل فيهــا العلـم بالمعنييـن كـذلـك. قــال الجصــاص : «العلـم على ضـربيـن : علـم حقيقي وعلـم ظـاهـر. والذي تُعُبَّـدنــا بــه من ذلـك هو العـلم الظـاهـر, ألا تـرى إلى قـولــه تعـالى : }فَـإنْ عَلِمْتُمُــوهُــنَّ مُؤْمِنَــاتٍ فَـلاَ تَـرْجِعُــوهُــنَّ إِلَى الْكُفَّــار{(الممتحنــة : 10), وإنمــا هـو العـلم الظـاهـر لا معـرفـة مغيب ضمـائـرهـن, وقــال إخـوة يـوسـف : }وَمَــا شَهِـدْنَـا إلاَّ بِمَــا عَـِلمنْـا وَمَــا كُنَّــا لِلْغَيْبِ حَـافِظِين{(يـوسـف : 81) فـأخــبروا أنهــم شــهـدوا بــالعـلم الظـاهــر»(32)وقـال الغـزالي : «العـلم اســم مشــترك : قـد يطـلق علـى الإبصــار والإحســاس ولـه حـد بحسـبه, ويطـلق على التخيل ولـه حـد بحسبـه, ويطـلق على الظـن ولــه حـد آخــر, ويطــلق على علــم الله تعــالى على وجــه آخــر أعلـى وأشــرف … وقــد يطـلق علــى إدراك العقــل»(33). ولأجــل هـذا الاشــتراك والتعـدد في مفهــوم «العلـم», لا ســيمــا بيـن العلـم بمعنـى القطـع, والعلـم بمعنـى علـم الظـاهـر أو الظـن الغـالب, صــار يعمـد البعض إلى تقييـد العلــم المـراد بــه القـطع بـأوصـاف زائـدة, فقــال بعضهــم : «علــم الإحـاطـة», كمـا أوردنــاه في كــلام الشــافعـي آنفًــا, وقــال آخـرون : «علـم الظـاهـر والبــاطن», وقـال فـريق ثـالث : «علـم اليقيـن», وقــال آخــرون : «علـــم الطمــأنينــة», وقــال بعضهــم : «العلــم القــاطع» أو «العلــم القطعــي».
«الصـدق» :
اسـتعمـل الأصـوليـون هـذا المصطـلح في مجـال ثبــوت النص تحـديـداً, فالخـبر المتـواتـر يفيـد «الصـدق», أي القطــع بكـون نقلتــه صــادقيـن في نسبتـه إلى الشــارع. والـواقـع هـو أنـه ثمـة حـذف في قـولهــم : «الخـبر المتـواتـر يفيــد الصــدق», وتقــديــره : يفيــد العلــم بالصـدق, أو القطــع بالصـدق.
«النصيـة» :
النـــص ـــ في اختيــار أكثــر الأصـوليـين(34)ـــ هـو اللفظ القـاطع في الـدلالــة على معنـاه, ومنــه اشــتقت «النصَّيــة», فهــي على هـذا : القطعيـة في دلالـة اللفظ على معنـاه, ومـن الأمـثلـة على ذلـك قــول صــاحب كتــاب التقـريـر والتحبـير(35): احتمــال اللفظ للنســخ «لا يخـرجـه عـن النصيــة». والنصيــة, كمــا يُـلاحــظ, هـي مـرادف للقـطع في مجـال دلالـة النص فقـط ولا محـل لهــا في مجـال ثبـوتـه.
«الصَّـراحــة» :
يســتعمــل البعــض مصطـلح «اللفـظ الصـريح» بمعنـى اللفظ القـاطع في معنـاه, كمــا في قــول إمــام الحـرميـن, وهـو بصـدد بيـان أن سبب الـورود لا يجــوز إخــراجــه عن مقتضــى اللفـظ العــام : «لا يجــوز إخــراج ســبب اللفـظ ]العـام[بطــريق التخصيص عن مقتضى اللفـظ. فهـو إذًا صــريحٌ فى سببـه, ظـاهـر في غيـره, على مـا ارتضينــاه»(36), وفي قــول أبن السمعـاني’ وهـو بصـدد بيـان أن المطـلق يُحمـل على المقيـد : «الأمــر المقيـد صـريح فى وصف التقييـد … وأمــا المطـلق فظــاهـر .. وليس بصــريح .. فكــان الاعتــراض بالصــريح على الظـاهـر, وبالنص على العـام, والصـريح مـرجــح على الظــاهـر(37). وفي قــول الغـزالي, وهـو بصـدد رفض الإجمـاع الســكـوتي : «إن فتــواه ]أي المجتهـد[إنمــا تُعلــم بقــولــه الصـريح الذي لا يتطـرق إليــه احتمــالٌ وتـردّد, والســكـوت متـردد, فقــد يسكـت مـن غــير إضمــار الـرضـا, وفي قـول الســيوطي : «الصــريح : اللفـظ المـوضـوع لمعنـى ولا يفهــم منــه غــيره عنـد الإطـلاق»(38).
«اليقيـن» :
وهـو أكثــر المصطـلحــات قـربًــا مـن مصطـلح القطع؛ ولـذا يقـرنهمـا الأصـوليـون معًـا في كثــير مـن الأحيــان(39). لكـن يُســتعمـل اليقيـن أحيـانًـا, لغـة واصطـلاحًـا, ولا يـراد بــه القطــع بـل الظـن القـوي الذي لا ينتفي معـه الاحتمـال. قـال ابـن منظـور : «وربمــا عــبروا بالظـن عن اليقيـن, وباليقيـن عن الظـن, قــال أبـو سِـــدْرَة الأســدي, ويقـال الهُجَيْمِيّ :
تَحسَّـبَ هَـوَّاسٌ وأيْقَنَ أنَّنى
بهـا مُفْتَدٍ مـن واحـدٍ لا أُغـامِـرُه
يقــول : تَشَــمَّمَ الأســدُ تاقتى يظـن أنني أفتـدي بهــا منـه وأستحمـى نفسـي فـأتركهـا لـه ولا أقتحـم المهـالك بمقـاتلتـه»(40). وقـال القـرطبي : «ربمــا عــبروا بـاليقيـن عـن الظـن, ومنـه قــول علمــائنــا في اليمـن اللغـو : هـو أن يحلف الله على أمـر يـوقنــه ثــم يتبيـن لــه خــلاف ذلـك فـلا شــيء عليــه»(41). وفي تفســير قـول الشــافعـي في بـاب الإقـرار : «إنـى ألـزم النــاس أبـدًا اليـقيـن وأطــرح عنهــم الشــك ولا أســتعمـل عليهــم الأغـلب»(42), قــال السـبكـي : «لـو قــال ]المقـرُّ بــأن عليـه دراهــم[أردتُ بقــولــي : دراهــم, درهميـن, لـم يُقبــل … وكـون الإقــرار مبنيًّــا على اليقيـن لا يقـدح في هـذا؛ لأن هـذا يقيـن, فــإنــه مـوضـوع اللفــظ لغــة, وليس المـراد باليقيـن القطـع»(43). وكـذا قـال الـزركشـي في مســألـة أخــرى : «إن الشــافعـى, رضـي الله عنــه, لـم يـرد باليقيـن القطـع»(44).
المقصــد الخـامس : أضـداد القطــع :
أضـداد القطـع هـى مـراتب الإدراك التي دونــه, والتـى تــدأ بـــ «الشــك» ثـم «الظـن», ولتـوضيحهـا بـإيجـاز (45)نقــول :
عـلاقــة الـذهـن بالشــيء القـابـل للإدراك أو الشـيء المـدرك على مـراتب تتـدرج مـن الأدنـى إلى الأعلـى على النحـو التـالي :
1. عــلاقــة تـوصف بـ «الجهـل» : وهـو عـدم إدراك الشــيء أي أن نسـبة الإدراك للشــي تســاوي باللغـة الـريـاضيـة 0%.
2. عـلاقـة تـوصف بــ «الـوهــم» : وهـو إدراك مـرجــوح للشــيء, أى أن نســبة الإدراك للشــيء تتـراوح مـا بيـن 1% إلى 49%.
3. عـلاقـة تـوصف بــ «الشــك» : وهـو تـردد الاعتقــاد بين طـرفيـن لا مـرجـوحيــة لأحـدهمــا على الآخــر, أي أن نســبة الإدراك لأحـد الطـرفيـن تسـاوي 50%.
4. عـلاقـة تـوصف بــ «الظـن», وهـو إدراك راجح للشــيء, أي أن نســبة الإدراك للشـيء تـتراوح مــا بيـن 51% و99%.
ولا يفصّــل الأصـوليــون في مـراتب الظـن عــادة, الأصـح في نظـري أن يُفصَّــل في مـراتب الظـن على النحـو الآتي :
أ. الظـن الضعيف, وتتــراوح نســبة الإدراك فيه بين 51% و74%.
ب. الظـن الغـالب, وتتـراوح نسبــة الإدراك فيـه بيـن 75% و 95%.
ج. الظـن القـوي, وهـو يكـاد يقـارب القطـع, وتتـرواح نســبة الإدراك فيـه بيـن 96% و 99%.
ولهـذا التفـريق فـوائـد عمليــة في أكثــر من مجــال في أصــول الفقــه, وســتظهـر واحـدة منهــا في مجــال بحثنـا هـذا كمــا سـنـرى لاحقًـا إن شــاء الله تعـالى.
د. عـلاقـة تـوصف بـــ «العلـم» أو «القطــع» : وهـو إدراك كـامـل للشـيء, أي أن نسبـة الإدراك للشــيء تســـاوي 100%.
هـذا وممـا يلتبس كثـيـراً بــ «العلـم» و «القطــع» الاعتقـادُ الجـازم المطـابق للـواقع النـاشئ عن تقليـد لا عـن دليـل, وقـد جــلّى الغـزالي الفـرق بينهمـا بقـولـه :
«وجـه امـيز العـلم عن الاعتقـاد هـو أن الاعتقـاد معنـاه السـبق إلى أحـد معتقـدي الشــاك مع الـوقـوف عليــه من غيــر إخطــار نقيضــه بالبـال, ومـن غيـر تمكـين نقيضـه مـن الحــلول في النفـس؛ فــإن الشــك يقــول : العـالـم حــادث أم ليس بحـادث ؟ والمعتقـد يقــول : حـادث, ويسـتمـر عليـه, ولا يتسـع صـدره لتجـويـز القِــدمِ, والجــاهـل يقـول : قـديـم, ويســتمـر عليـه. والاعتقـاد, وإن وافق المتقـد, فهـو جنس من الجهـل في نفسـه, وإن خـالفـة بالإضـافـة, معتقـد كـون زيـد في الـدار لـو قـد اســتمـراره عليــه حتـى خــرج زيـد مـن الـدار بقــى اعتقـاده كمــا كـان لم يتغـير في نفسـه, وإنمــا تغـيرت إضـافتـه, فـإنــه طـابق المعتقـد فى حـالــة وخـالفـه فى حـلـة, وأمــا العلـم فيسـتحيـل تقـديـر بقـائـه مع تغيـر المعـلوم, فـإنــه كشف وانشــراح, والاعتقــاد عُقْـدة على القلب, والعــلم عبــارة عن انحـلال العُقَــد, فهمــا مختلفــان, ولـذلـك لـو أضغـى المعتقـد إلى المشكَّـك لـوجـد لنقيض معتَقَـدِه مجـالاً فى نفســه, والعــالم لا يجـد ذلــك أصـلاً وإن أصغـى إلى الشُّبــه المشكّكـة, ولكـن إذا سمـع شــبهـة : فـإمــا أن يعــرف حلهــا وإن لـم تســاعـده العبــارة فى الحــال, وإمــا أن تســاعـده العبـارة أيضًــا على حلهـا, وعلى كـل حـال فـلا يشـك فى بطـلان الشبهـة بخـلاف المقلَّـد»(46).
المقصـــد الســادس : هـل للقـطع مـراتب ؟
هـل لــ «العلــم» أو «القطـع», الذي يمثــل الـرتبــة الأخــيرة في مـراتب الإدراك, مـراتب ؟
هـذه قضيـة شـائكــة, وفيهــا مـذهبـان : أحـدهمـا : أن العـلـو تتفـاوت.
والمـذهب الآخـر : أنهــا لا تتفــاوت, واختـاره إمــام الحـرميـن قـائـلاً : «مـن أحـاط بحقيقـة العلـم واعتقـد العـلوم واعتقـد العـلوم كلهــا ضـروريـة لم يتخيــل فيهــا تقـديمًــا ولا تـأخـيرًا. نعــم, الطــرق إليهــا قـد يتخيـل أن فيهـا تـرتيبًـا في تعـرضهــا للـزلل, فـأمـا العـلوم فى نفسهــا إذا حصلت على حقيقتهـا فيستحيـل اعتقـاد تـرتيبهـا»(47).
والـذي أميــل إليــه في هـذا الصـدد هـو أن العـلم أو القطـع بمعنـى الإدراك التــام الـذي لا يبقـى فيــه أدنى احتمــال جـزءًا من مليــون حـزء, لا ينطبق إلا على أوليــات العقـل, ككـون الكـل أكـبر من الجـزء, وكــون الشــي ونقيضــه لا يجتمعـان ولا يـرتفعـان, وأن لكـل حـادث علـة أحـدثتـه. وهـذا النـوع مـن القطـع لا تفـاوت فيــه أصـلاً, وهـو «القطــع» الـذي يصـدق عليـه قـول الغـزالي :
هـو مـا تتيقنـه النفس «وتقطـع بــه, وينضـاف إليــه قطـع ثـان, وهـو أن تقطـع بـان قطعهـا لـه صحيح, وتتيقن بـأن يقينهـا فيــه لا يمكـن أن يكـون بـه سهـو ولا غلـط ولا التبــاس, فـلا يجـوز الغلـط في يقينهـا الأول ولا فى يقينهـا الثــاني, ويكـون صحـة يقينهـا الثـاني كصحـة يقينهـا الأول, بـل تكـون مطمئنـة آمنـة من الخطـأ بحيث لـو حُكـي لهــا عـن نبي مـن الأنبيـاء أنـه أقـام معجـزة وادعـى مـا ينـاقضهـا, فلا تتـوقف في تكـذيب النـاقـل, بـل تقـطع بـأنه كـاذب, أو تقـطع بـأن القـائـل ليس بنبي, وأن مــا ظـن من معجـزة فهـي مخـرقـة, وبالجمـلـة فـلا يـؤثـر هـذا في تشــكيكهــا, بل تضحـك من قـائـلـه ونـاقـلـه. وإن خطـر ببـالهـا إمكـان أن يكـون الله قـد أطـلع نبيًّـا على ســر بـه انكشــف لــه نقيض اعتقـادهــا فليس اعتقـادهـا يقينًـا. مثـالـه : قـولنـا : الثـلاثـة أقـل من الســتـة, وشــخص واحـد لا يكــون في مكـانيـن, والشـيء الـواحـد لا يكـون قـديمًـا حـادثًـا مـوجـودًا معـدومًــا ســاكنًــا متحـركًــا فى حـالـة واحـدة»(48).
أمــا مــا يُـذكــر مـن الأمـور الأخـرى التي تفيــد العلــم والقطـع, كــالحس, والعـادة, والتـواتـر, فهـذه عنـد التـدقيـق لا ينتفـي معهــا بمجـردهــا أصــل الاحتمـال, وإن كـان ورود الاحتمــال عليهــا مـن النــدور بمكــان بحيث لا يتجـاوز الـواحــد بـــالمليــون أو حتـى الواحـد بالمليــار. وعليــه فــالقطــه فيهــا يتفـاوت, إذ علمنــا بالشــيء المشــاهـد يتقــوى شيئــاً مـا بسمعنــا لـه أو لمسنـا إيـاه؛ لأنــه بالســمع واللمس ينتفـى احتمـال الخـداع البصـري. وعلمنــا ـــ مـن خـلال العـادة ـــ بـأن هـذه النـار مثـلاً؛ لأنــه ينتفـي معـه احتمــال خــرق العــادة الذي يطــرأ علـى العـاديــات جميعهــا. وعلمنــا بـوجـود الصــيـن ـــ مـن خـلال التـواتـر ـــ يـرتفـع ولـو بـدرجـة واحـد بـالمليـون بـزيـارتنـا للصيـن ومشـاهـدتهـا.
هـذا فيمــا يتعلــق بمــا يُســـمّى بالضـروريــات, وأمــا إذا انتقلنــا إلى النظـريـات : كـالكـون حــادث ولكـل حـادث محـدث, فالكـون لـه محـدث, فمثــل هـذه الأمــور لا منــاص مـن الاعتـراف بتفـاوت القطـع فيهــا. ومـن أكبــر الـدليـل على ذلـك قــول إبـراهيـم, عليــه الســلام : }بَلَى وَلَكِــنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِــي{(البقــرة : 260), فقـد كـان إبـراهيــم, عليــه وعلـى نبينـا الصـلاة والسـلام, قـاطعًــا مـن النـاحيـة النظـريــة بقــدرة الله تعـالى علـى إحيـاء المـوتى, لكنــه طلب تـأكيـد هـذا القطـع عـن طـريق المعـاينــة الحســية. ومـن هنــا قـال المصطفـى ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ : «ليس الخـبر كـالمعـاينــة»(49).
إذن القطـع نـوعـان :
أحـدهـمـا : قطع بلـغ الـذروة, واطمــأنت لــه النفس اطمئنـانـًـا تـامًّـا لا مجــال لـلزيـادة فيـه, فهـذا لا يقبـل التفـاوت.
والآخـر : قطــع قــارب بلــوغ الـذروة, واطمــأنت لـه النفس لكـن لا بذلـك القـدر الــذي يمنــع مـن الـزيــادة فيـه, فهــذا يقبــل التفــاوت. وإذا شئت أن تُخـرج هـذا النـوع مـن القطع لتضعــه فى حـيز الظـن القـوي, أو قــل «القــوي جــدًّا», فهــذا مجــرد اصطــلاح لا ينبغــي الـنـزاع فيــه. لكـن مــا نـود بالتــأكيـد عليــه هـو أن مثــل هـذا الظـن «الذي لا يخطــر معــه احتمــال النقيض بالبــال حكمــه حكــم اليقيـن» كمــا قـال الجـرجــاني(50). وهنــا تـأتي أهميــة التفـريق بيـن أنـواع الظـن مـا بيـن ضعيف وغـالب وقــوي كمــا أسـلفنـا, فالظـن القــوي لـه حكــم اليقيـن والقطـع في الاعتقـاديــات بخـلاف غـيره مـن درجـات الظـن. لـذلـك يســوغ إدراجــه مــع القطــع وإطــلاق اســم اليقيـن عليـه, فيمـا نـرى. والله أعلـم.
المطـلب الثـاني
مـوانـع القـطع
مـوانــع القطــع هـي الاحتمـالات الـواردة على النـص في كـلا مجـاليــه : الثبــوت والـدلالـة, فالاحتمـالات المـانعـة مـن قطعيـة الثبـوت تبطـل القطـع بصـدق نســبة النص إلى الشــارع, الاحتمـالات المـانعـة من قطعيــة الـدلالـة تبطـل القطـع بـأن مـا يـدل عليـه النص هـو مـراد الشـارع حتمًـا.
وســنتنـاول هـذه الاحتمــالات في مقصـديـن :
المقصـد الأول : الاحتمـالات المـانعـة مـن قطعيـة ثبـوت النص.
المقصـد الثـاني : الاحتمـالات المـانعـة من قطعيـة دلالـة النص.
المقــد الأول : الاحتمـالات المـانعـة مـن قطعيـة ثبـوت النص :
عنـدمــا يسمـع الصحـابي الآيـة القـرآنيـة أو الحـديث مـن النبي ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ مبـاشـرة, فــإن النص (الآيــة أو الحـديث) يثبت عنـده قطعًـا؛ وذلـك لأن نسبـة النص إلى الشــارع كــانت بطـريق الحس في هـذه الحـلــة, والحس يفيــد القطـع كمـا كنــا قـد ذكـرنــا, لكـن عنـدمــا ينقـل النص نـاقـل أو مجمـوعـة من النقـلــة, ويتحـول النص من «نص مبـاشـر عـن الشــارع» إلى مجـرد «خبـر عـن الشــارع» ففـي هــذه يتســرب الاحتمــال إلى نســبتـه إلى الشــارع والـواسطـة, وهـي النَّقَلَـة, هي سبب هـذه الاحتمـاليـة.
فالـواســطـة : إمــا أن تصـدق في ادعـائهــا بـأن مــا نقلتـه صــادر عن الشــارع, وإمـا لا.
وفي حـالـة عـدم الصـدق : إمــا أن يكــون عـدم صـدقهــا هـذا عن قصـد, فهــذا هـو الكـذب, وإمــا عـن غيــر قصــد فهــذا هـو الخطأ.
وربمــا أن هــذه القســمة عي قســمـة حـاصـرة, فالاحتمــالان اللذان قـد يتســربـان إلى الخبـر المنقـول هـمـا اثنان لا ثـالث لهمـا :
أحـدهمـا : احتمـال الكــذب.
والآخــر : احتمــال الخطــأ.
ومـدى قــوة ورود هـذيـن الاحتمـاليـن على الخبـر يتـوقف على أربعـة عـوامـل :
أولهـا : عـدد النقـلــة.
والثـاني : عـدالـة النقلـة.
والثـالث : ضبط النقـلـة.
والـرابـع : قـرائـن الصـدق والكـذب.
فـأمــا عـدد النقـلـة فهـو يـؤثـر في درجـة صــدق الخبـر بطـريقتيـن متعـاكستيـن, وذلـك لأن ازديـاد عـدد النقلـة.
ـــ إمــا أن يكـون بــ «طـريقـة عمـوديـة» بـأن يتكـاثـر عـدد النقلــة بتطــاول السـلسـلة النـاقـلـة للخبـر لا بـازديـاد عـدد النقـلـة في كـل طبقـة مـن طبقـات سلســلـة النقـل, أي بـأن يسمـع الخبـر مـن مصـدره شـخص ثـم ينقـلـه لآخـر, ثــم ينقلــه هـذا الثـانــي إلى ثـالث, والثـالث إلى رابـع, وهكــذا …, فكلمــا طـالت هـذه السـلسـلة, أو السنـد, قـلت درجــة صـدق الخبـر وتقــوى احتمـالات الكـذب والخطــأ, ولأجـل هـذا المعنـى احتفـال علمــاء الحـديث بــ «الأســانيـد العـاليـة» قصــيرة السـلسلـة, فكلمــا كـان الإســنـاد أعلى كـان أقـرب إلى الصـدق, وكمــا كـان أسـفل كـان أبعـد عنـه.
ـــ وإمــا أن يكـون ازديـاد عـدد النقـلـة بـ «طـريقــة أفقيــة» بــأن يتكـاثـر الســامعـون للخبـر مـن مصـدره, أو في كـل طبقـة مـن طبقــات سـنـده, ففـي هـذه الحـالــة كلمــا ازداد عـدد النقـلــة زادت درجــة صـدق الخــبر وقـلت احتمـالات الكـذب والخطــأ. وتظــل درجــة صـدق الخبــر في ازديــاد واحتمـالات الكـذب والخطــأ في انخفـاض بازديـاد عــدد النقـلـة واحـدًا إلى أن تصــل درجــه الصـدق إلى الـذروة وتضمحــل احتمـالات الكــذب والخطــأ تمـامًـا أو قـريبًــا من التمــام فهـذا هـو القطـع, والعـدد الذي يسببـه هـو عـدد التـواتـر.
ـــ وأمــا عـدالـة النقـلـة, فهـي التقـوي, أو الــوازع الدينـي الـذي يحجــز صـاحبـه عن الكـذب أو التســاهـل المـؤدي إلى الخطـآ. وربمــا أن هـذه العـدالـة أمــر باطني فـإنـه يتعـذر التحقيق مـن تـوافـرهــا في النـاقـل بشــكـل مبـاشـر, ومـن هنـا لجــأ علمـاء الحـديث إلى قيــاس العـدالــة بالعـلامـات الظـاهـرة من الإســلام والعقــل والبـلـوغ والخـلــو من المفسّقـات وخـوارم المـروءة.
لكـن مهمــا بـلغ علمــاء الجــرح والتعـديــل مـن الكفـاءة في التحقيق مـن الـرواة وتتبعهـم فـإنــه لا يمكـنهـم, مـع ذلـك, القطـع بعـدالـة راو مـا ـــ لم يشــهـد لـه الشــارع بذلـك قطعًـا ـــ وإنمــا هـي غلبــة الظـن, كيف لا والمصطفـى ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ, ويقــول : «إن الـرجـل ليعمـل عمــل أهـل الجنـة فيمــا يبـدو للنـاس وهـو مـن أهـل النــار, وإن الـرجـال ليعمــل أهـل النــار فيمـا يبـدو للنــاس وهـو مـن أهــم الجنـة»(51).
وأمــا ضبط النقـلــة, فهــو يحـدد درجــة الـدقــة في نقــل الخـبر, وبالنسـبـة للحـديث الشــريف فقـد كـان الضبـط يعتمـد عنـد أوائــل الـرواة على قـوة الحفــظ أو «ضبـط الصـدر»؛ لأن كتـابــة الحـديث لـم تبـدأ إلا مع نهــايــة القــرن الهجـري الأول. وآفـــة الحفـظ النســيـان, وخطــر النسيــان يكمـن فيمــا ينجــم عنــه مـن التخليـط والـزيـادة والنقص والتبـديـل. وبمـرور الوقت دخـلت الكتـابـة ومـورس بالإضــافــة إلى ضبــط الصـدر «ضبـط الســـطـر» أو «ضبـط الكتـاب», وآفــة هـذا النــوع مـن الضبـط «التصحيف» وهـو الخطــأ في القـراءة مـن الكتـاب. والضبـط بتـوعيــه الســابقيـن هـو معيــار البعــد عـن الخطــأ في الـروايــة. لكـن مهمــا بلـغ الـراوي مـن الضبط فهـذا لا يمنـع مـن ورود احتمــال النسيـان عليــه إن كـان حـافظًــا واحتمــال التصحيف إن كـان كـاتبًـا. وعليــه لا يمكننـا أن نقطـع بضبـط راو بإطـلاق.
وأمــا قـرائـن الصـدق والكـذب, فهـي دلائـل تقتــرن بالخــبر المنقــول فتقــوَّي مـن درجـة صـدقــه أو العكس.
وعليــه فلهـذه القـرائـن أثـران في النص : إمــا التقـويـة وإمــا التضعيف.
فـأمــا قـرائـن التقـويـة : فهـي لا تخـلـو :
1. إمــا أن تبــلغ بـالنص إلى درجــة القطـع بثبـوتـه عن النبـي ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ.
2. وإمــا أن تبـلغ بـه درجـة غلبــة الظـن بثـبوتـه عنـه.
وكـذلـك قـرائـن التضعيف :
1. إمــا أن تبــاغ بـالنص إلى درجــة القطــع بانتفــاء ثبـوتـه عن النبي ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ.
2. وإمــا أن تبــلغ بـه درجــة غلبـة الظـن بانتفـاء ثبـوتـه عنـه.
ولكـل نـوع مـن هــذه القــرائـن أمثـلــة يمكـن الوقـوف عليهــا في كتب الأصـول, وقـد فصّلنــا فيهــا بعض الشــيء في كتـابنـا «القـرائـن المحتفـة بالنص وأثـرهـا في دلالتــه», ونكتفـي هنــا بذكــر بعـض أمثلتهــا.
فممـا ذكــر الأصـوليـون مـن القـرائـن المقـويـة للخبـر حتى تكـاد تبـلغ بـه القطـع :
ـــ الـقـرائـن الحـاليــة التي تصحب خـبـراً مـا, وذلـك مثــل مـا قــال إمـام الحـرميـن : «إذا وجـدنــا رجـلاً مـرمـوقًــا, عظيــم الشــأن, معـروفًــا بالمحـافظـة على رعـايـة المــروءات, حـاسـراً رأســه, شــاقًّـا جيبـه, حـافيًـا, وهـو يصيح بالثبـور والـويـل, ويـذكــر أنـه أصيب بـوالـده أو لـدع, وشُهــدت الجنـازة, ورُئى الغسّــال مشــمَّـراً يـدخــل ويخــرج, فهـذه القـرائـن وأمثـالهـا, إذا اقتـرنت بـإخبـاره ـــ مـع القطــع بـأنــه لـم يطــرأ عليــه خبـلٌ وجِنّــة ـــ تضمنت العلـم بصـدقـه»(52).
ـــ وقـرينــة إجمــاع الأمــة على صـدق ـــ وقـرينــة إجمــاع الفقهــاء على قبـولــه والعمـل بـه كـأحـاديث البخـاري ومســلم.
ـــ وقـرينـة إجمـاعهــم على العمـل على وفقـه.
ـــ وقـرينــة أن يكـون الخــبر قـد قيــب حضـرة النبي ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ فـأقـره.
ـــ وقـرينــة أن يكــون قـد قيــل بحضــرة جمــع يســتحيـل تـواطـؤهــم على الكـذب فـأقـروه.
وكــل هــذه القـرائـن في محـل الأخـذ ةالـرد عنـد علمــاء الأصـول, وعلى مـريـد الاطـلاع على تفصيــل أقــوالهـم فيهــا أن يـرجـع إلى كتـاب الأخبــار مـن كتب الأصـول(53).
وممـا ذكـروا مـن القـرائـن المـضعَّفـة للخبـر بحيث قـد يـؤدي بعضهــا إلى القـطع بانتفـاء ثـبوتــه وبعضهــا يـؤدي إلى غلبــة الظـن بذلـك(54):
ـــ أن يكـون الخبــر من المحـال العقـلى : إمــا ضـرورة, كـالإخبــار باجتمــاع النقيضيـن, أو نظـراً, كـالخـبر الذي يتضمـن القــول بقـدم العـالم.
ـــ أن يكـون الخــبر في حـالــة بحيث تتـوافــر الـدواعـي على نقـلــه متـواتـراً لأجــل تلك الحـالــة, إمــا لكـونــه مــن أصـول الشــريعـة, وإمــا لكـونـه غـريبًــا كســقـوط الخطيب عـن المنبـر وقت الخطبـة.
ـــ أن لا يتـوقف على الخــبر بعــد التفتيش عنــه في بطــون الكتب أو صـدور الـرواة.
ـــ أن يُعـارض الخبــر, قـاطعًــا شــرعيًّــا, مع عـدم قبــول هـذا الخبــر للتـأويـل ــ غــير المتكلَّـف ـــ أو النســخ.
ـــ أن يُعــارض الخبـر, قـاطعًـا واقعيًّـا, مـع عــدم قبــولــه للتـأويـل ـــ غيــر المتكـلف ـــ أو النسـخ. كــأن يفيــد الخبر وقـوع شــيء في وقت مــا ثــم يــأتي هـذا الـوقت ولا يقـع المخبـر عنـه, أو كـأن يـدل الخبـر على قضيـة مـا كـانت غـائبـة وقت صـدور الخبـر إلا أنـه وبمضــى الـزمــن أمكــن الكشــف عـن هـذه القضيــة فـوجـدت على خـلاف الخبـر.
ـــ كـون الخبـر مخـالفًــا للإجمــاع.
ـــ كــون الخـــبر مخـالفًــا للقيــاس أو القــواعـد العـامـة, مع عــدم فقـه راويـه. وقـال بذلـك الحنفيـة.
ـــ كـون الخــبر فيمــا تعــم بـه البـلـوى. وقـال بـذلـك الحتفيـة أيضًـا.
ـــ كــون الخــبر مخــالفًــا لعمــل أهــل المـدينـة. وقـال بذلـك المـالكيـة.
ـــ كــون الخــبر مخـالفًــا لعمــل روايــه مـن الصحـابـة أو مـن بعـدهـم.
ـــ كـون الخــبر مخـالفًــا لعمــل الســلف, وطعـن بـه بعضهــم.
وكيفمــا كـان حــال هـذه القـرائـن أو بعضهــا من حيث صحـة الاعتمـاد عليهــا أم لا فـإنـــه يمكننــا أن نقــرر من حيث الجمـلـة بـأن مـدى ثبـوت الخبـر عن الشــارع يتـأثر سلبًـا وإيجـابًـا بالقـرائــن.
وحــاصأل القـول في العـوامــل الأربعــة المـؤثـرة في مــدى صـدق نســبة النص إلى الشــارع, أن الاعتمـاد على عـامـلي العـدالـة والضبــط بمجـردهمــا لا يـوصــل أبــدًا إلى القـطع, أمــا عــامـلا العـدد والقــرائـن فقــد يـوصــلان إلى القطـع فيمــا إذا بـلغ العـدد حـد التـواتـر أو كـانت القـرائـن مـن القـوة أو الكثــرة بحيث تنفـي الاحتمـاليــة عـن الخـبر. لكـن التـواتـر عــزيــز في مــا نُقــل عـن النبي ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ عــدا القـرآن, وكـذا القـرائـن المعتبـرة التي تبـلغ بالخبــر درجــة القطـع, ومـن هنــا كــان الـرأي السـائـد لـدى الأصــولييـن هـو قطعيـة القـرآن ثبـوتًـا, أمــا السنــة فهـي في السـواد الأعظــم منهــا ظنيـة.
المقصـد الثـاني
الاحتمـالات المـانعــة مـن قطعيـة دلالــة النــص
وســـنبحث هـذا المقصـد في الفــروع الخمســة الآتيـة :
الفــرع الأول : تـوطئـــة في الألفـاظ الـواضحـة والألفـاظ الغـامضـة.
الفـرع الثــاني : الاحتمـالات الـواردة على الألفـاظ.
الفــرع الثـالث : الـدعــوات التي انبنت على التســـليـم بــورود الاحتمـالات المـذكـورة على الألفـاظ الشـرعيـة.
الفــرع الــرابـع : تقييـم ورود الاحتمـالات المـذكــورة على الألفـاظ الشـرعيـة.
الفــرع الخــامس : العــوامــل المـؤثــرة في قطعيــة النص وظنيتــه مـن وجـهـة نظـر البـاحث.
الفــرع الأول : تـوطئـــة في الألفــاظ الـواضحـة والألفـاظ الغـامضـة :
مـا مـن ريب في أن الألفـاظ الـتي تتضمنهــا النصــوص الشــرعيـة تتفـاوت درجــة وضــوح دلالتهــا على المعنـى الذي يقصـده الشــارع منهــا, وبحسب درجـة وضـوح هــذه الألفـاظ أو غمـوضهــا تتحـدد قـتوة دلالتهــا ومــدى ورود الاحتمــال عليهــا. بعبــارة أخــرى يتحـدد مـن هـذه الألفــاظ مـا هـو «قطعـي الـدلالــة», ومـا هــو «ظــني الـدلالــة», ومـا لـم يــرق حتــى إلى إفـادة الظـن.
وفي هـذا المجـال يمكننـا أن نقسّــم هـذه الألفـاظ إلى قســميـن رئيسـيين :
أحـدهمــا : ألفــاظ غــامضــة, وهـي الألفــاظ الـتي لا تســتقل بنفســهـا في الإفصــاح عـن مـراد المتكـلم منهـا.
والقســم الآخــر : ألفــاظ واضحــة, وهـي التي تستقــل بنفسهــا في الإفصــاح عـن مــراد المتكـلم منهـا.
فــأمــا الألفــاظ الغـامضــة فتنقســم, بـدورهـا, إلى قسـميـن :
القســم الأول : ألفــاظ جعــل لهـا الشــارع معـاني خـاصـة غير تلك التي تعــارف عليهــا العـرب قبــل ورود الشـرع. وهـذا القســم يضـم نـوعيـن مـن الألفـاظ :
أحـدهمـا : لفـظ لم يبيــن الشــارع مـراده منــه, وإنمــا استـأثـر الله تعـالى بعلــم معنــاه, وأورده اختبـاراً وامتحـانًـا. وهــذا القســم هـو«المتشــابـه» في اصـطـلاح كثــير مـن الأصـولييـن(55), وهـو مــا سنسـير عليــه في هـذا البحث. ومثـالـه : الحـروف المقطعـة في فـواتح السـور.
والنــوع الثــاني : لفـظ بيَّـن الشــارع مـراده منــه, كـــ «الصـلاة» و «الـزكــاة» و «الإيمــان» و «الإســلام», وغـير ذلـك ممـا ينـدرج تحت مسمـى الألفـاظ الشـرعيـة أو الدينيــة, فمثــل هــذه الألفـاظ كـانت مستعملـة عنـد العـرب في معـان أخـرى, وبيّن هـذه المعـاني بالقــول أو الفعـل أو بهمــا معـا, مثــل الصـلاة والـزكــاة والإيمــان والإســلام والكفــر وغـير ذلـك مـن الألفـاظ الشـرعيـة والدينيـة. وينــدرج هـذا النـوع مـن الألفـاظ تحت مـا يُســمى عنــد الأصــولييـن بـــ «المجمـل»(56), عنــد الأصـولًيين, يضــم أنـواعًــا عـدة لكنـا في هـذا البحث ســنقصـره على هـذا القســم مـن الألفـاظ المجمـاة إجمـالاً كليًّـا. ومـن المفــروغ منـه أن غمــوض هـذا النـوع مـن الألفــاظ إنمــا هـو قبــل البيــان, أمــا بعـد البيــان فـإنهــا تنتقـل إلى أحـد الأقســام الآتيـة مـن الألفـاظ.
والقســم الثـاني مـن الألفــاظ الغـامضــة : ألفـاظ لهــا أكثــر مـن معنـى عنـد العـرب, فاسـتعملهــا الشــارع في غـير مـا هـو راجح الاســتعمـال مـن معـانيهــا. وهـذا القســم يضـم نـوعيـن مـن الألفـاظ :
أحـدهمــا : لفـظ لــه أكثــر من معنـى, لكنـه كـان يســتعمـل عنـد العـرب في أحـد هــذه المعـانى بكثــرة وفي البــاقي بقلــة, فاســـتعمـلـه الشــارع في المعنـى الذي اســتعمـال فيــه بقلــة. كـلفـظ «الجَمَـل» في قـولــه تعـالى : }وَلاَ يَدْخُلُـونَ الْجَنَّــةَ حَتَّى يَلِـــجَ الْجَمَـــلُ فِي سَــمَّ الْخِيَـاط{(الأعــراف : 40) على رأي من ذهب إلى أن المقصــود بــه هـو الحبـل الغليــظ, وهـو معنـى مـوجـود عنــد العـرب(57). ويُســمّى مثــل هـذا النـوع مـن الألفـاظ بالنسـبة إلى «المـؤول». وهـو على مـراتب في الغمـوض بحسب درجـة شــيوع اســتعمـال النـاس للفـظ في معنـاه المـؤول.
والنــوع الثــانى : لفــظ لــه أكثــر مـن معنـى, وكـان يستعمـل عنـد العـرب في كـل هـذه المعــاني على الســواء, وبـدرجـة واحـدة أو متقـاربـة, فاســتعملـه الشـارع في أحـد هـذه المعـاني, كلفـظ «القـرء» الـذي كـان يُستعمـل بمعنـى الحيض وبمعنـى الطهـر كليهمـا, ومـؤكـدًا أن الشــارع لمـا استعملـه في الآيــة : }وَالْمُطَلَّـقَـاتُ يَــتَـرَبَّصْــنَ بِـأَنْفُسِهِــنَّ ثَـلاَثَـة قُـرُوءٍ{(البقــرة : 228) قَصـد أحـد هـذين المعنيين. وهـذا مـا يُسمّى عنـد الأصـوليين وغيـرهـم بـ «المشـترك».
وأمــا الألفــاظ الـواضحــة فهــي تضـم بـدورهــا نـوعيـن مـن الألفـاظ :
أحـدهمــا : لفـظ لـه أكثــر من معنـى, لكنـه كـان يســتعمـل عنـد العـرب في أحـد هـذه المعـاني بكثـرة وفي البــاقي بقلـة, فاســتُعمـل فيــه بكثـرة, كلفـظ «الَجمَـل» في الآيــة السـابقـة وهي قـولــه تعـالى : }وَلاَ يَـدْخُلُــونَ الْجَنَّـةَ حَتَّـى يَلِــجَ الْجَمَــلُ فِي سَــمَّ الْخِيَــاط{(الأعــراف : 40) على رأي مـن ذهب إلى أن المقصــود بــه هـو الحيــوان المعــروف لا الحبـل الغليـظ. وهـذا مـا يُســـمّى عنـد الأصــولييـن بــ «الظـاهـر». وهـو, بحسب كـثـرة اســتعمـال النـاس للفـظ في المعنـى, وعلى مـراتب, فكلمــا ازداد الاستعمــال زاد الظهـور.
والنــوع الثـاني : لفـظ ليس لـه إلا معنـى واحـد, واســتعملـه الشــارع في هـذا المعنـى الــواحـد, كلفــظ «الثمـانيــن» في قـولــه تعــالى : }فَاجْلِـدُوهُــمْ ثَمَــانِينَ جَلْـدَة{(النــور : 4), وكلفـظ «محمـد» في قـولــه تعـالى : }مُحَمَّــدٌ رَسٌــولُ اللهِ» (الفتـح : 29). وهـذا مـا يُسمـى عنـد الأصــولييـن ـــ فيمــا استقـروا عليـه ــ بــ «النص».
وبالـرســم تكــون القسمــة المـذكـورة كمـا يلي :
إذن اللفـظ يتـدرج مـن الأشـد غمـوضًـا إلى الأكثــر وضـوحًــا على التـرتيب التـالي :
1. المتشـابـه, ودرجــة دلالتــه على المعنـى باللغـة الـريـاضيـة تســاوي 0%.
2. المجمــل (قبــل البيــان), ودرجـــة دلالتــه على المعنـى تســاوي أيضـًا 0%.
3. المـؤول, ودرجـة دلالتـه على المعنـى تتـراوح مـا بيـن 1% و 49%.
4. المشــترك, ودرجــة دلالتــه على المعنـى تســاوي 50%.
5. الظــاهـر, ودرجــة دلالتــه على المعنـى تتـراوح مـا بيـن 51% و 99%.
6. النص, ودرجــة دلالتـه على المعنـى تســاوي 100%(58).
ومع التســليـم باحتمـاليــة دلالـة الألفـاظ الغـامضـة ـــ غــير المبينـة بيـانًـا قـاطعًـا ـــ على المعـاني المـرادة منهــا, ومـع التســليـم, أيضًـا, باحتمـاليــة النــوع الأدنــى مـن الألفــاظ الـواضحــة, وهـو الظـاهـر, في دلالتــه على المعنـى, فثمــة مـن يـزعــم بـأنـه حتى «النص» محتمـل, أو بعبـارة أخــرى, لا وجـود لـه فى خطــاب الشــارع بالمعنــى الــذي ذكــره الجمهــور, وذلــك لكثــرة الاحتمـالات التى تَـرد على الألفـاظ, وهـي الاحتمـالات التي سنبينهــا في الفــرع الآتي :
هــي عشــرة أنــواع من الاحتمــالات, تـرد ـــ كمــا قـالــوا(59) ـــ على أي لفـظ مهمـا كـانت درجــة وضــوح دلالتـه :
الأول : احتمــال الكــذب أو الخطــأ فى نقــل معـانى «المـواد اللغـويـة»(60)للنص :
أي أنــه ربمــا يكــون نقــلـة اللغــة عـن العــرب بمعجمهــا وصـرفهــا ونحـوهـا كـالأصمعـي والخليل وغــيرهــم قـد كـذب بعضهــم, أو أخطــأ في نــل المعـاني المعجميـة أو الصـرفيـة أو النحـويـة للألفـاظ التي يضمهـا النص.
والثـاني : احتمــال الاشتـراك :
أى أنـه ربمـا تكـون بـعض ألفـاظ النص وضعت لمعنـى آخــر غيـر الذي بـدا لنــا, ولـم نقف على هـذا المعنـى.
والثــالث : احتمــال النقــل الشــرعي أو العـرفي :
أي أنـه ربمـا يكـون الشــارع أو العـرف المقـارن للنص قـد تصــرف ببـعض الألفـاظ التي اشتمـل عليهـا النص فنقلهــا إلى معنـى آخــر غــير المعنــى اللغـوي الــذي بــدا لنــا وحملنــا معـاني هـذه الألفـاظ عليـه.
والـرابــع : احتمــال المجـاز :
أي أنــه ربمــا يكـون الشــارع قـد أراد معنـى مجـازيًّــا للفـظ غيـر المعنــى الحقيقـي الذي بـدا لنـا مـن النص.
والخـامس : احتمـال الحـذف :
أي أنـه يكـون الشـارع حـذق مـن النص بعــض الألفـاظ بحيث لـو ذكــرت لتغـير معنـى النص عمـا بـدا لنـا.
والســادس : احتمـال التقـديــم والتـأخيـر :
أي أنــه ربمــا يكـون الشــارع قـد قـدّم وأخّـر في ألفـاظ النص بحيث لـو ردت هـذه الألفـاظ إلى تـرتيبهـا لتغير معنـى النص عمـا بـدا لنـا.
والســابع : احتمـال التخصـيص :
أي أنـه ربمـا يكـون الشــارع قـد أراد مـن الألفـاظ العـامــة بعـض أفـرادهــا لا كمــا يـدل عليــه ظـاهـر العمــوم مـن إرادة الاســتغـراق.
والثــامـن : احتمــال النســخ :
أي أنــه ربمـا يكــون الشــارع قـد أورد نصًّــا متـأخـراً عن النص محـل النظـر يـرفـع حكــم هــذا النص, وبالتــالي يبطـل دلالتــه, ولــم نقف نحن على هـذا النص.
والتـاســع : احتمــال المعــارض الشــرعي :
أي أنــه قــد يـوجــد نص عـن الشــارع معــارض للنص محـل البحث ولم نقف عليـه.
والعـاشــر : احتمــال المعـارض العقـلى :
أى أنــه قــد يـوجـد دليــل عقـلي قـاطع يـدل على خـلاف مـا دل عليــه النص ولـم نقف عليـه.
الفــرع الثـالث : الـدعــاوى التي انبنت على التســليـم بــورود الاحتمـالات المـذكــورة على الألفـاظ :
نتـج عـن التســليـم بـورود الاحتمـالات الســابقـة ـــ أو أكثــرهـا ــ على الألفــاظ دعـوتـان :
إحـداهمــا : دعـوى «انتفــاء النصــوص», أي أنــه لا يـوجـد في كـلام الشــارع لفـظ واحـد يــدل على معنــاه قطعًــا, وأن الألفـاظ والنصــوص الشـرعيـة كلهــا ظنيـة ومحتمـلـة, وبنــاء عليــه أطـلق القـوم عبـارتهــم المشــهـورة بــأن : «الـدلائــل النقليــة لا تفيــد القطــع واليقيـن»(61). وممـا تستلـزمـه هـذه الـدعــوى أن النص في مســائل الاعتقـاد إن أيـده العقــل فهــو مقبـول, وإن لـم يـؤيــده فـلا يعــول عليــه وحـده مـن غيــر دليـل عقـلي يـدعمـه؛ لأن غـايـة النص الظـن, وهـو غيـر مقبــول في مســائـل الاعتقـاد. وينسب الجـرجــاني هــذه الـدعــوى إلى المعتـزلـــة وجمهــور الأشـاعـرة(62), ولا نظـن أن هـذه النســبـة دقيقــة خصـوصًـا فيمــا يتعـلق بالأشــاعـرة. وممـا قـد يشــكك فيهــا أن اأصفهــاني (ت653), وهـو متقـدم على الجـرجـاني (ت 816هــ), جعـل المعتـزلــة وأكثــر الأشــاعـرة مـن أنصـار المـذهب المعـاكس, وهــو القــول بــأن الـدلائـل النقليــة قـد تفيـد اليقيـن(63).
ومــا أراه هـو أن القــول بـــ «انتفــاء النصــوص» قـد يتمشـى مع مـذهب العتـزلـة لكنــة يبعــد تمشــيـه مـع مـذهب الأشــاعـرة؛ لأن المعــتـزلـة هـم الـذيـن يجعــلون النقــل تـابعًـا للعقــل, بينمــا يجعــل الأشــاعـرة العقـل تـابعًــا للنقـل غـالبًــا, ويســـتحيـل على مـن جعـل العقــل خـادمًــا للنقــل أن يجعــل مـن هـذا الأخــير دلـيلاً في أحسـن أحـوالـه ظنيًّــا لا يـرقـى إلى افــادة القطــع, ثــم إن رؤوس الأشـاعـرة كـالجـويني والغـزالي وتبنـوا القــول بــ «كثــرة النصــوص» لا «انتفـائهــا» كمــا سيجـيء معنـا لاحقًــا. أمــا مـن تبنى دعــوى «انتفــاء النصــوص» مـن الأشــاعـرة فـلا نظنـه انتبـه إلى غــوْر هـذه الـدعــوى ولـوازمهــا, لا سيمــا أن هـذه المســألـة عُــرضت في كثـير مـن الأحيـان عـرضًـا أصــوليًّــا لغـويًّـا بحتًـا مـن غيـر بيـان مـا تستلـزمـه ومـا ينبني عليهــا.
ومـن هـؤلاء الـذيــن تبنــوا «انتفــاء النصــوص» القـرافـى, وذلـك حـين اعـترض على تعـريف الـرازي لــ «النص» بـأنـه : «مـا لا يحتمـل» فـأبطــل ذلـك بـأربعـة أمـور :
«أحـدهـا : أن أقـوى ألفـاظ النصــوص لفــظ العـدد كـالعشــرة مثـلاً, والعقــل يجـوز بالضـرورة أن تكــون العـرب وضعتهــا لمعنـى آخــر مـن الجمـاد, والنبـات والحيـوان, وأن ذلـك المسـمى الآخـر هـو مـراد المتكـلم. وهـذا الاحتمــال لا يبطــل تجـويـزه أبـدًا … ويــرد مـع احتمــال الاشـــتراك : التقـديـم والتـأخــير والنقــل والمعـارض العقـلي والإضمــار, وهـذه الاحتمـالات لا يبطـلهــا لفـظ العـدد.
وثـانيهــا : أن مـذهب أهــل الحق جــواز النســخ قبـل الفعــل, فـإذا أمـرنـا بعـدد جـاز أن يكــون الله تعــالى علـم نســخـه قبــل وقـوعـه, فلا يكــون مـراده بالنص الأول الإيقــاع, بـل إظهـار الطـواعيـة من المـأمـور, كمــا اتفق في قصــة إبـراهيــم وإسـحـاق, عليهمــا الســلام, فـإن لفـظ إسحــاق نص, ومـع ذلـــك, لـم يكـن المــراد بالنص الأول الـذبح بل إظهــار طـواعيتهمــا وحســن إقبـالهمـا على أوامر الله تعـالى.
وثـالثهــا : أن صيـغ الأعـداد تقبــل المجــاز بـدليل قــولــه تعــالى : }ثُـمَّ فِــي سِلْسـِـلَــةٍ ذَرْعُهَــا سَبْعُــونَ ذِرَاعًـــا فَـاسْلُكُــوه{(الحـافـة : 32), وكـذلـك قـولـه تعـالى : }إن تَسْــتَغْفِـرْ لَهُــمْ مَّـرَّةً فَلَــن يَغْفِــرَ الله لَهُــمْ{(التــوبـــة : 80) … قــالـوا : المـراد الكثـرة لا خصــوص السبعيـن … وإذا كـان هـذا في لفـظ العــدد فكيــف غــيره. ولا يتصــور لفــظ يتعــذر فيــه أمثــال هـذه الاحتمــالات إلا لفــظ الجـلالـة, وهـو قـولنـا : الله, فــإن هـذا اللفـظ علـم بالضــرورة لا يقبــل كثــيراً مـن هـذه الأســئلـة مـع أنـه جـاء في الكتب القـديمــة في التــوراة : ’’جــاء الله مـن سينـاء. وأشــرق مـن ســاعيـر. واستعلى من جبـال فــارانʻʻ … ومــراد هــذا اللفـظ مجـيء هـدى الله تعــالى وكتبــه وآيـاتــه الكـرام وبـراهينــه. وفي القـرآن الكــريـم قـال تعــالى : }وَجَــاءَ رَبَـكَ وَالْمَلَـكُ صَفَّــا صَفَّــا{(الفجــر : 23), والمــراد المجـاز على مـا تقــرر في مـوضعــه … فبطــل أن لنــا لفظًــا لا يقبـل المجـاز, والنص بتفســير عـدم القبــول ]للاحتمــال[لا حقيقـة لـه.
ورابعهــا : أن الاستثنــاء يـدخــل في صيـغ العـدد والاستثنــاء عبــارة عـن إخــراج مــا لـم يـرد باللفـظ … وذلـك غيـر المجـاز»(64).
وســـيـأتي تقييمنــا لهــذه الحجـج التي ذكــرهــا القـرافي لنفـي النـص في الفــرع القـادم إن شــاء الله تعـالى.
الدعــوى الثـانيــة : التـي نتجت عـن التســليـم بـورود الاحتمــالات آنفـة الذكــر, وهـي أقـل تطـرفًـا مـن الـدعــوى السـابقـة : هي «عـــزة النصـوص», أي النصــوص, بمعـنــى الألفــاظ القطعيّـة التي لا تحتمـل, مـن النـدرة بمكــان, ولا تنطبق إلا على ألفـاظ محـدودة محصـورة في الشـرع واللغـة. قـال أبـو علي الطبري : «يعــز وجـود «النــص» إلا أن يكــون كقــولــه تعـالى : }يَـا أَيُّهَــا النَّبــي … {(الأنفــال : 64) و }قُــلْ هُــوَ اللهُ أَحَــد» (الأخـلاص : 1)»(65). وقـال إمـام الحـرميـن : «اعتقـد كثيٌــر مـن الخـائضـين فــى الأصــول «عــزة النصــوص», وحتـى قــالـوا : إن النـص فى الكتـاب قـولــه عــز وجـل : }قَـلْ هَـوَ اللهُ أَحَــد{(الإخــلاص : 1), وقــولــه تعـالى :, }مُحَمَّــدٌ رَسُــولُ اللَّــه{(الفتـح : 21), ومــا يظهــر ظهـورهمــا. ولا يكــاد هـؤلاء يسمحــون بالاعتـراف بنص فى كتـاب الله تعـالى هـو مـرتبـط بحكـــم شــرعي. وقضــوْا بنــدور النصــوص في الســنـة, حتـى عـدُّوا أمثــلـــة معــدودة محـدودة. منهــا : قــولــه ـــ صّلى الله عليــه وســلـم ـــ لأبي بُــردة بن نيــار الأســلمي في الأضحيــة, لمـا ضحـى, ولـم يكـن على النعت المشــروع : «تجــزئـك ولا تجــزئ أحــدًا بعــدك»(66). وقــولــه, عليــه الســلام : «اغــد يا أنيس إلى امــرأة هـذا فـإن اعـترفت فـارجمهــا(67)».(68).
الفـــرع الـرابــع : تقــديــم ورود الاحتمــالات المـذكــورة علـى الألفـاظ الشـرعيـة :
لا متســع للحـديث عـن الاحتمـالات المـذكــورة بـأفـرادهــا شــرحًــا وتمـثيلاً وتقييمًـا(69), وإنمــا سنــود كـلامًـا مجمـلاً في «تقيـيـم»(70)ـــ هـذه الاحتمــالات مـن حيث تـأثيرهــا في قطعيـة دلالــة النص, لا سيمــا النص القـرآني, فنقــول :
أولاً : بعـض هـذه الاحتمــالات لا يـرد على جميــع النصــوص بــل علـى بعضهــا, وبنــاء على ذلـك لا يصـح إطــلاق القــول بـأن الـدلائــل النقليـة ككـل لا تفيـد اليقيـن.
ومـن هـذه الاحتمـالات الخـاصـة :
1. احتمــال الكـذب أو الخطــأ في نقــل معـاني «المــواد اللغـويــة» للنـص؛ لأن هـذا لا يـرد إلا على مـا كـان طـريق معـرفتـه خـبر الـواحــد, وهـو الأقــل مـن معــانى الألفــاظ القـرآنيــة حيث إن جمهـورهــا نُقــل بالتــواتـر أو تُوصَّـل إليــه بالاستقـراء المفيـد للقطـع أو قـريبًـا منــه(71). قــال الـرازى بعـد أن قسّــم «المـواد اللفظيـة» المنقّـولـة إلى قسـميـن :
«أحـدهمــا : المـتـداول المشـهــور, والعلـم الضــروري حــاصـل بـأنهــا في الأزمنــة المـاضيـة كـانت مـوضـوعــة لهـذه المعـاني فـإننـا نجــد أنفسنـا جـازمـة بـأن لفظتي «السمــاء» و «الأرض» كـانتـا مســتعملتيـن في زمـان الـرســول ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ, فـى هـذيـن المســمييـن. وثـانيهمـا : الألفـاظ الغـربيـة والطــريق إلى معـرفتهــا الآحـاد».
قــال : «إذا عــرفـت هـذا فنقــول : أكثــر ألفــاظ القــرآن ونحـوه وتصـريفــه مـن القســم الأول, فـلا جــرَمَ قــامت الحجـة بــه. وأمــا القســم الثــانى فقـليــل جـدًّا, ومــا كـان كـذلـك فـإنـا لا نتمســك بــه في المســائـل القطعيــة وتنمســك بـه في الظنيـات»(72).
2. واحتمــال التخصيـص؛ لأنـه لا يـرد إلا علـى صيــغ العمــوم, وهـي محـدودة محصــورة, والجمهــور مســلَّـم بظنيتهــا أصـلاً.
3. واحتمــال النســخ؛ لأنـه لا يـرد إلا علـى نصــوص الأحكــام, أي الأوامــر والنـواهـي, أمــا الأخبــار فـلا نســخ فيهــا, وحتـى الأوامــر والنـواهـي ليس كلهــا قـابلاً للنســخ, فــالأمـر بمحــاسن الأخـلاق والنهـي عـن مفـاسـدهــا غير قـابـل للنسـخ.
4. واحتمـال المعــارض العقلي؛ لأنـه لا مـدخــل لــه في الأوامــر والنـواهــي, فطــريق وحتى المثبتيـن لتحســين العقــل وتقبيحــه كـالمعتـزلـة والحنفيـة يعتـرفـون بمحـدوديـة دور العقــل في تقـريـر الأحكــام.
ثـانيًــا : بعــض الاحتمــالات المـذكــورة كــالمجــاز والاشـــتراك والنقــل والحـذف والتقــديــم والتـأخــير, وحتـى النســخ والمعــارضيـن الشــرعي والعقــلي, إنمــا يتـوجــه على النص عنـد القـول بعـدم الـوقـوف على القــرينـــة الـدالــة على كـل واحـد منهــا(73). وعـدم وقـوفنــا على هـذه القــرائـن يحتمـل واحـدًا فــروض ثـلاثـة :
الفــرض الأول : أن يكـون الشـارع قـد أغفـل ذكــر القـرينــة, أي أنــه أراد المجــاز أو الحـذف أو النقــل … الخ ولـم يقــرن النص بقـرينــة تـدل على المـراد.
وهــذا الفــرض لا يصــح؛ لأنــه إلغــاز يتعـالى مقــام الشــارع عنـه؛ ولأن المقصـود بالنصــوص هـو الإفهــام والبيــان لإقـامــة الحجـة وللعمـل بمقتضــاهـا, وهـذا يتنـافى مـع الإلغــاز فكــان باطـلاً.
والفـرض الثـاني : أن لا يكــون الشــارع قـد أغفــل ذكــر القـرينــة, وإنمــا اعتمـد على قـرينــة حـاليّــة كسـبب النـزول أو حـال المخـاطب وغير ذلـك, فنُقــل النــص فيمــا بعـد ولن تنقــل مطـلقًـا.
وهـذا الفــرض لا يصــح أيضًـا؛ لأنــه يتنــافى مـع أصــل «حفــظ القــرآن», فـالنصــوص القـرآنيــة محفـوظـة بـألفـاظهــا وكــذا بمعـانيهــا؛ إذ لا فــائـدة في حفـظ الألفــاظ دون حفـظ المعــاني, والقــول بفقــدان القـرائـن الـدالـة على مـراد الشــارع مـن النص بالكليــة, بـؤدي بالأمــة جمعــاء إلى الاعتقـاد بالمعنـى الظـاهـر للنص لم يـرده الشــارع, وهــذا يـؤدي إلى ضيــاع المعنـى المــراد مـن النـص, وهـو يتنـافى مـع مـا قلنــاه مـن أصــل حفـظ القــرآن ولـذا كـان باطـلاً.
فــإن قيــل : لمــاذا جعــلت حفـظ القــرآن أصـلاً قـاطعًــا حتى كــان مــا يـؤدي إلى خـرمـه باطـلاً ؟
فالجــواب هـو أن ذلـك لسـببين :
أحـدهمــا : النصــوص المتكـاثـرة الـدالــة نصًّــا أو دلالـــه على حفـظ القــرآن مـن الـزيـادة والنقص }إنَّـا نَحْـنُ نَـزَّلْنَــا الـذَّكْــرَ وَإنَّـا لَـهُ لَحَـافِظُــون{(الحجــر : 9), و }وَلَـوْ تَقَـوَّلَ عَلَيْنَــا بَعْـضَ الأَقَــاوِيـلِ(44) لأَخَـدْنَـا مِنْـــهُ بــالْيَمِين{(الحــاقـة : 44, 45), و }وَإنْ كَــادُوا لَيَفْتِنُـونَـكَ عَنِ الَّـذِي أَوْحَيْنَــا إلَيْــكَ لِتَفْتَـرِيَ عَلَيْنَــا غَيْـرَةُ وَإِذًا لاتَّخَــدُوكَ خَلِيــلا{(الإســراء : 73), و }لاَ يَـأْتِيـهِ الْبَــاطِـلُ مِـنْ بَيْـنِ يَـدَيْــهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِــهِ تَـــنْـزِيلٌ مِـنْ حَكِيـــمٍ حَمِيـد{(فصــلت : 42), والـزيــادة والنقــص همــا مـن الباطـل, و }وَمَــا أَرْسَلْنَــا مِـنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُـــولٍ وَلاَ نَبــي إلاَّ إذَا تَمَنَّــى أَلْقَـى الشَّيْطَــانٌ فِي أُمْنِيَّتِــهِ فَيَنْسَــخُ اللهُ مَــا يُلْقِـي الشَّـيْطَـانُ ثُــمَّ يُحْكِــمُ اللهُ ءَايَـاتِــه وَاللَّــهُ عَلِيــمٌ حَكِيــم{(الحـج : 52), وغير ذلـك مـن الآيــات التي يفيــد مجمـوعهــا القطــع بحفـظ القـرآن.
والسـبب الثـاني : أن كــون النبي ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ, خــاتـم النبييـن, وكـون القــرآن معجــزة يُخــاطب بهــا النــاس إلى يــوم القيـامـة ـــ وهــذان أمــران معــلومــان مـن الديـن بالضـرورة ـــ يقتضيـان هـذا الحفـظ, فـإنـه لـو لـم يكـن محفـوظًــا لمـا قـامـت بـه الحجـة على الخلق إلى يـوم القيـامـة, وهــذا بــاطـل, فكــذلـك مـا يـؤدي إليــه, فثبت أن القــرآن محفـوظ.
والفــرض الثـالث : أن تكــون القـرينــة الـدالــة على المــراد مـن النـص مـذكــورة أو منقــولـــة, ولكـن لمــا لم يكـن في إمكــان المجتهـد ـــ بالغًــا مــا بلــغ ـــ أن يطــلع على جميـع مـا روي عـن الشــارع, وحتى لـو أنـه اطــلع فلـربمــا لم يتنبــه إلى هـذه القـرينــة, لا سيمــا أن بعـض القـرائـن قـد يكـون خفيًّــا أو منفصـلاً متـراخيًّـا عـن النص ـــ أقـول : لمــا كــان الأمـر كـذلـك لـم يكـن لمجتهـد مـا أن يجــزم بـأن مــا فهمــه مـن النص, مهمــا كــانت درجــو وضـوحــه, هـو مـدلــول الشــارع قطعًــا, حتى لــو أنفق عمــره في البحث عـن القـرينــة ولـم يجـدهــا؛ لأن عـدم الـوقـوف على الشــيء ليس دليلاً قـاطعًـا على انتفــاء وجـوده كمــا هـو معـلــوم.
وهـذا الفــرض هـو أقــوى الفــروض, لكنـه يضعف لثـلاثــة أسبـاب :
أحـدهــا : إنــا إذا قلنــا بعـدم جـواز تـأخـر البيـان عـن وقت الخطـاب, كمـا هـو رأي المعتـزلــة والحنفيـة, كـان لابـد في القـرينــة الـدالـــة علي المـراد مـن النص أن تكــون متصـلـة بـه, وإذا كـانت متصـلـة بالنص كـان احتمــال عــدم انتبــاه المجتهـد إليهــا بعــد التحـري والتــأمـل مـن الضعف بمكـان.
والســبب الثــاني : أنـا وعلــى فــرض القــول بجــواز تــأخـر البيــان عـن وقت الخطــاب, كمــا هـو رأي الجمهــور, لا نســلم بـأن «عـدم الـوقـوف على الشــيء ليس دليلاً قـاطعًـا على انتفـاء وجـوده» في كــل الأحــوال؛ لأن ظــن انتفــاء الـوجـود يـزداد بـزيـادة أمــريـن :
أحـدهمــا : التحـري والبحث.
والثــاني : عـدد المتحـريـن والبـاحثيـن.
فكلمــا كثـر التحـري والبحث, أو أكثــر المتحـرون والبـاحثــون ولـم يجـدوا شيئًـا ازداد الظـن بانتفــاء الـوجـود إلى أن يصــل الأمــر إلى مـا يقــرب مـن القطــع بعـدم الـوجـود.
وفي واقــع الأمــر فــإن أي مجتهـد في النص لا يـدلي بـدلـوه في هـذا النـص إلا بعــد أن يطــلع على جهــود الســابقيـن من فقهــاء ومفسـريـن ولغـويين, ومــا أداروا حــول النـص مـن كـلام, فعنــدمــا يجـد أن أحـدًا منهــم لـم يطــلع على قـرينــة منفصــلـة أثّـرت في مـدلــول النص محـل النظـر, وعنـدمــا يضــم هـو خبـرتــه واطـلاعـــه على منقــولات الشــريعــة فـلا يجـد قـرينــة مـؤثـرة كـذلـك, يتـولـد لـديــه ظـن قــوي يـدنـو مـع القطــع بـأن هـذا النص يُــراد بــه مـا هــو ظـاهـر منــه لا غيــر؛ لأنــه لـو كــان ثمــة قـرينــة لـوجـدهــا واحـد مـن هـؤلاء العشــرات بل المئــات مـن الذيـن خـاضـوا في مـدلـول هـذا النص.
والسبب الثـالث : أن المجتهـد قـد يطــلع على قــرائـن متصــلـة أو منفصـلــة تـؤكــد ظـاهـر النص, بحيث تجعـلــه قـاطعًــا بمـدلـولـه جـازمًــا بنفـي وجـود قـرينــة تعــارض هـذه القـرائـن المـؤكـدة.
وخــلاصـــة القــول هــي أن هـذه الاحتمـالات التي قيــل بـورودهــا على كـل افــظ كثيـرة الصـور ضعيفــة الآثـر, ويتـوهـم مـن يسمــع بـأن النص لا يـدل على معنـاه حتى تنتفي عنـه عشــرة احتمـالات أن هـذه الاحتمـالات تـؤثـر في مـدلــول النص تـأثيـرًا بالغًــا. والصـواب ـــ كمــا قلنــا ـــ هـو أن تـأثيـر هـذه الاحتمــالات محـدود وضعيف جـدًّا في كثــير مـن الأحيـان, وقـد يكـون في بعـض أنـواع مـن النصــوص دون أخـرى. ولا يعنـى انتقـادنــا هــذه الاحتمــالات أنــا نقــول بـأن نصــوص القـرآن كلهــا قطعيـة الـدلالـة, وغيـر محتمـلـة, كمــا يستشف مـن كــلام ابــن القيــم عنــد نقــده لهــذه الاحتمـالات(74), بل نقــول : إن القــرآن في عـدد لا يستهــان بـه مـن آيـاتـه محتمـل لأكثــر من معنـى, ويشهـد لهـذا خـلاف الصـابـة ومـن بعـدهــم في نفســير عـدد جــم مـن الآيـات, ومـن هنــا قـال أبـو الـدرداء, رضي الله عنـه : «لا تفقــه كـل الفقـه حتى تـرى للقـرآن وجـوهًــا كثـيرة»(75), وقــال علي لابـن عبــاس, رضـي الله عنهــم : «اذهب إليهــم ]يعنـي الخــوارج[ولا تخــاصمهــم بالقـرآن فـإنـه ذو وجـوه, ولكـن خـاصمهـم بالسـنـة, فقــال لـه : أنـا أعــلم بكتـاب الله منهـم, فقــال : صـدقت ولكـن القـرآن حمّـال ذو وجـوه»(76).
أمــا الحجج الأربعــة التي أوردهــا القـرافي كـدليـل علـى «انتفــاء النصـوص» فيمكـن مناقشتـه فيهــا على النحـو الآتي :
أولاً : قــولــه بــأن ألفـــاظ العـــدد تحتمــل ـــ عقـلاً ـــ الاشـــتراك والتقــديــم والتـأخــير والمعــارض العقلي والإضمــار. فهـذه الاحتمـالات التي ذكـرهــا هـي طـرف مـن الاحتمـالات العشـرة الـتي تـرد على كـل لفـظ, وقـد أجبنــا عنهــا.
ثـانيًـا : قــولــه بـأن القــول بجـواز النســخ قبــل الفعــل هـو مـذهب أهـل الحـق, وهـو يقتضـي أنـه قـد يكــون المـراد للشــارع ليس هـو المفهــوم مـن اللفـظ, بــل هــو إظهــار الطـواعيــة. فالجــواب عليــه هـو أن جـواز النســخ قبـل الفعــل مختـلف فيــه بين الأصـولييـن, فــإذا أجــازه الأشــاعـرة فــإن المعتـزلــة والحنفيـة والحنـابلــة وغــيرهــم لا يجـيزونــه(77). ثــم على فــرض الجـواز فــإن احتمــال النســخ لا يــرد على جميــع النصــوص بـل على الأوامـر والنـواهـي فقـط فـلا يجــوز نفــى النصــوص القــواطـع ككـل بالاســتنـاد إلى احتمـال لا يــرد إلا على نـوع محـدد منهــا, ثــم إن النســخ قبــل الفعــل خـاص بالمكلفيـن في عهـد الـرسـالـة أمـا بعـد انقطــاع الـوحـي فهــذا الاحتمـال ارتفـع قطعًــا.
ثـالثًــا : قــولــه بــأن صيـغ الأعـداد تحتمـل المجـاز مســلّـم لكنــه في ألفــاظ محـدودة منهــا كــالســبعيـن والسـبعـمـائـة, وقبــول بعـض ألفـاظ العـدد للمجـاز لا يعنـي قبـولهـا جميعًـا لـه. وقــولـه بــأن لفـظ الجـلالـة يحتمـل المجـاز كمـا هـو في }وَجَــاءَ رَبُّـكَ وَالْمَلَـكُ صَفًّـا صَفًّـا{(الفجـر : 22), فالجــواب عليـه أن كثيـريـن لا يسـلمـون بـأنـه مجــاز, وإن سـلمنـا بـأنــه مجــاز فالمجـاز هنــا ليس في لفـظ الجـلالـة نفسـه, وإنمــا فى نسبـة الفعـل إليـه لذلـك هـو مجــاز بالحـذف, وشـــتان بين التجـوز في اللفـظ نفســه والتجـوز في نسبــة شــيء مــا إلى هـذا اللفـظ.
رابعــا : قـولــه بــأن الاســتثنـاء يـرد على العـدد, والاستثنــاء إخـراج مـا لـم يُـرد باللفـظ وذلــك عيـن المجـاز, فالجــواب عليــه هـو أن المتكلــم إذا تلفـظ بــالعـدد فلهـذا اللفـظ حـالتـان :
إحـداهمــا : حـالـة في زمـن التكـلم, وهـو في هـذا الـزمـن لا يكـون ذا دلالــة قطعيـة؛ لأن احتمــال الاستثنـاء يـرد عليــه, فيحق للمتكلــم أن يستثني مـن العـدد بعـد التلفــظ بـــه بشــر
أن لا يطــول الفصــل بين الاستثنـاء والعـدد.
والأخــرى : حــالــة بعـد زمـن التكلــم, ولفـظ العـدد في هـذه الحـالـة يكــون قطعًّيـا ولا يـرد عليــه احتمــال الاستثنــاء عنـد الجمـاهيـر. وهـذه الحــالــة هــي الأصــل في ألفــاظ الأعـداد؛ لأنهــا هـي الحـال الـدائمــة, أمــا الحـالـة الأولى فهـي حـالــة لحظيـة تـزامـن التكلـم باللفـظ ثــم تضمحــل عـن قـريب. ومـا قــالـه القـرافـي محمــول على الحـالـة الأولـى, وهـي لا تتـأتى في كـلام الشــارع؛ لأنـه اسـتقـر وانتهـى.
وبغــض النظــر عمـا سبق كلــه فمـن وجهــة نظـرنـا أن مـدى احتمـاليـة النص أو قــل : وضـوح النـص يتـوقف علـى عــدة عـوامـل غــير الاحتمـالات الـتي ذكـرهــا أصحــاب دعــوى «انتفــاء النصـوص», وهـذه العـوامــل هي مـا سـنتكـلم عنـه في الفـرع الآتي :
الفــرع الخــامـس : العــوامـل المـؤثـرة في قطعيـة النص وظنيتـه مـن وجهـة نظـر البـاحث :
تتـوقف داتلــه النص مـن حيث الظنيـة والقطعيـة على عـامليـن أسـاسييـن :
أحـدهمــا : المـادة اللغـويــة للنص.
والآخــر : الســيـاق (المقــالي والحـالـي) الذي ورد فيـه النـص.
فـأمــا المــادة اللغـويـة للنص فهـي جملــة المـواد المعجميـة والصـرفيـة والنحـويـة التي يتكـون منهـا هـذا النص. ودرجـة قـوة هـذه المــادة في الـدلالـة على مـراد المتكــلم مـن النص يتـوقف بـدوره على ثـلاثـة عـوامـل :
أحـدهمــا : قــوة القــالب الصـرفي ـــ النحـوي الذي صـاغ المتكـلم فيـه كلمـاتـه.
والعـامـل الثـاني : قـوة المـادة المعجميـة للكلمـات التي حشـا بهـا هـذا القـالب.
والعـامـل الثـالث : الــترابـط المعنـوي بين هـذه الكلمـات.
فمـثـلاً القــالب الصـرفي ـــ الــتركيبى المكـون مـن : (اســم + فعــل مضــارع + فـاعـل + مفعــول بــه), كـالمـوجــود في قـولـه تعــالى : }وَالْوَالِــدَاتُ يُـرْضِعْــنَ أَوْلاَدَهُــنَّ حَـوْلَيْــنِ كَــامِلَيْـن{(البقـرة : 233) والمـوجـود في قـولنــا : «الأولاد يلبســون اللبـاس الأبيض», قـالبٌ تــتردد دلالـتـه بين الإخبــار وبيـن الأمــر, فيُحتمــل أن يكــون المقصـود في المثـال الأول الإخبـار عـن مـدة الـرضـاعــة أو إلـزام الـوالـدات بهــذه المـدة, وفي المثــال الثـاني قـد يكـون المقصــود الإخبــار عمــا يلبســه الأولاد, أو قـد يكــون بيـانًا لنـوع اللبـاس الذي يجب على الأولاد أن يلبســوه, كمــا في قــول المعلــم لتـلاميـذه قبــل حفـــل التخــرج : «الأولاد يلبســون اللبــاس الأبيض. والبنـات يلبسـن اللبـاس الأحمـر», أى : يجب عليهــم أن يفعـلـوا ذلـك. وعليـه, كـان هـذا القـالب, بمجـرده, غيــر قـاطع في الـدلالــة على المعنـى المقصـود للمتكـلم؛ لأنـه يـولـد تـردداً لـدى المتلقي في فهــم المـراد. أمــا القـالب المكــون مـن (مــا + الصيغــة الصـرفيـة أفعــل + اســم منصـوب + نغمـة التعجب), كقــول القـائـل : «مـا أجمــل الســمـاء», فهـو قـاطع في إفــادة معنـى التعجب؛ لأنــه لا يحتمـل غــير هـذا المعنـى بخـلاف القـالب الأول.
أمــا فيمــا يتعـلق بـالمــواد المعجميــة للكلمــات التي يُحشــى بهــا القـالب الصـرفي ـــ النحـوي فهـي, أيضًـا, تتبـايـن في قــوة الـدلالـة على المعنى : فمنهــا : المتشـابـه والمجمـل والمـؤول والمشـترك, وهـي كلمــات ذات مـواد معجميــة غـامضــة كمــا ذكـرنـا في بـدايــة هــذا المقصــد, ومنهــا : الظـاهـر والنـص, وهـي كلمــات ذات مــواد معجميــة واضحـة, لكـن الظـاهـر غيـر قـاطــع بخــلاف النـص. ولا شــك بــأن النص المشتمــل على بعـض الكلمــات ذات المـواد المعجميــة غيــر القطعيــة ـــ حتـى لـو كــان قطعـي القـالب ـــ فـإنـه سيكــون بشــكـل عـام مـن قبيــل غيــر القـاطـع إلا إذا أخـذنــا بعيـن الاعتبـارات العــامـل الثـالث مـن العــوامــل التي تتـوقف عليهــا قـوة دلالــة النص على مـراد المتكـلم مـن النـص, وهــو الــترابـط المعنــوي بين الكلمــات, فـإن هــذا العــامـل قـد يجعــل الكلمــة غــير القطعيـة في نفســهـا قطعيـة بالنظــر إليهــا مقـترنــة ببــاقي الكلمــات في النــص. مثــال ذلـك : العبــارة : «نـزلت إلى العيـن فشــربت منهــا», تشتمــل على «العــين», وهـي كلمــة غــير قـاطعـة إذا أخـذنـاهــا مجــردة ـــ إذ العيـن, كمــا هـو معــلوم, لفـظ مشــترك يُــراد بـه العـديـد مـن المعـانى ـــ لكـن لمــا اقـترنت بالكـلمتين : «نــزلت», و «شــربت», اتضـح أن المـراد بهــا هـو عيـن المـاء قطعًــا, فصــار الخطـاب ككـل مـن قبيـل القطعـي.
أمــا الســياق الذي ورد فيــه النص فهـو بشــقيـه المقــالي والحـالي ذو تـأثيــر كبيــر في مــدى وضــوح النص, فـرب نص إذا نظـرنـا إليــه معـزولاً عـن السيــاق وجـدنـاه محتمـلاً, لكـن إذا نظـرنـا إليــه مـن خـلال سيـاقـه المقـالي أو الحـالي أو همـا معًــا وجـدنــاه قطعيًّــا في المعنــى الذي كنــا نجـده فيــه محتمـلاً, فمثـلاً قــولــه تعــالى : }يَاأَيُّهَــا الَّذيِنَ ءَامَنُـوا إذَا لَقِيتُــمُ الَّذِيِـنَ كَفَــرُوا زَحْفًــا فَــلاَ تُـوَلُّـوهُــمُ الأَدْبَــارَ{(الأنفـــال : 15), يــدل على حــرمــة التــوالي عنــد القتــال دلالــة ظنيــة محتمـلـة؛ لأن صيغــة النهـى «لا تـولـوهــم» ظـاهـرة في التحـريـم مـؤولــة في غيـره كمــا هـو رأي الجمهـور. لكـن لمــا اقــترن هـذا النص بــالنـص التـالي لــه القــائـل : }وَمَـنْ يُوَلّهِــمْ يَوْمَئِـذٍ دُبُـرَهُ إِلاَّ مُتَحَـرَّفًــا لِقِتَــالٍ أَوْ مُتَحَـيَّزًا إلَـى فِئَـةٍ فَقَـدْ بَـاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَـأْوَاهُ جَهَنَّــمُ وَبِئْــــسَ الْمَصِــير{(الأنفــال : 16), دل, بــواســطـة هـذا السيــاق المقـالي, على تحـريـم التــولي, لغيــر التحـرُّف والتحيـز, قطعًـا.
وعـادة مـا يعبــر الأصــوليــون عـن السيـاق بشـقيـه المقـالي والحـالي بــ «القـرائـن», قـال ابــن القيــم : «للظهــور مـراتب تنتهــى إلى اليقـين والقطـع بمــراد المتكــلم, ]وذلــك[بحسب الكـلام في نفســه, ومـا يقــترن بـه مـن القــرائــن الحـاليــة واللفظيــة, وحــال المتكــلم بــه, وغــير ذلــك»(78). وقــال الغـزالي : «إن القـرائـن قـد تجعــل العـام ]وهـو مـن الظـواهــر[نصًّــا يمتنــع تخصيصــه. مثـالـه : أن المـريض إذا قـال لغـلامـه : لا تـدخـل علي النــاس, وقــرينــة الحــال تشــهـد لتـأذيــه بلقيــانهــم, فــأدخــل عليـه العبـد جمـاعـة مـن الثقـلاء, وزعـم أنــى خصّصت لفـظـك بمـن عـداهــم, اســتوجب التعـزيـر»(79).
المطـلب الثـالث
الحــلـول الأصـوليــة لإشـكـاليـة القـطع
وســـنتعــرض فيــه للحــلول والنظـريـات التي قـدمهــا الأصـوليــون لكـي يتـوصـلــوا مـن خـلالهــا إلى القــول بقطعيــة أكثــر النصــوص الشـرعيــة أو الكثير منهــا.
وسيكــون هـذا في مقصــديـن :
الأول : الحـلول الأصــوليــة لإشــكـاليــة القطــع في مجـال الثبـوت.
والثـاني : الحـلول الأصـوليــة لإشــكـاليـة القطـع في مجــال الدلالـه.
المقصـد الأول : الحــلول الأصــوليــة لإشكـاليــة القطــع في مجـال الثبـوت :
لـم يلـــق صــدى لــدى الأصــوليــون تشـكيكُ النظـام وغيــره في قطعيــة الخــبر المـتواتـر, ومـن هنــا فقــد اســتقـروا على قطعيتــه, متهمــين النظــام بمحـالفـــة الضـروريـات(80), لكـن بقيت المشكـلـة في خـبر الـواحــد, والـذي بـواســطتـه ثبت الســواد الأعظــم من السنـة.
وفيمــا يـأتي عـرض لأهـم الحـلول التي عُولجـت بهــا قضيــة الظنيـة التي يتصف بهـا خــبر الـواحــد, وهــذه الحــلول تتمـثــل في ثـلاث نظـريـات : نظـريــة «قطعيــة وجـوب العمــل», «القــرائــن», ونظــريــة «الحفــظ الإلهـي».
أولاً : نظـــريـــة «قطعيـــة وجــوب العمــل» :
وهـي النظـريــة القـائـلــة بالتســليــم بظنيــة خــبر الـواحـد لكـن مــع القــول بقطعيــة وجــوب الأخــذ بـخ حتـى مع كـونـه ظنيًّــا.
أي أن وجــوب الأخــذ بخــبر الـواحـد, أو «وجــوب العمــل» بمــا تضمنــه, ليس مـأخــوذًا مـن الخــبر نفســـخ, وإنمــا مـن أدلــة أخــرى يفيــد مجمـوعهــا القطــع بــأن خــبر الـواحـد حجــة يجب العمــل بهــا. وفي تقـريـر هــذه الأدلــة المفيـدة للقطــع قــال إمــام الحـرميـن :
«قــد أكـــثر الأصـوليــون وطـوّلــوا أنفـاســـهم فى طــرق الـرد على المنكـريـن ]لحجـية خـبر الـواحـد[.
والمختـار عنـدنــا مسلكــان :
أحـدهمــا : يســتنـد إلى أمــر متـواتـر لا يتمــارى فيــه إلا جــاحـد ولا يـدرؤه إلا معــانـد, وذلــك أنــا نعلــم بــاضطــرار مـن عقــولنــا أن الـرســول, عليــه الســلام, كـان يـرســل ويحملهــم تبليــغ الأحكــام وتفــاصيـل الحـلال والحـرام, وربمــا كــان يصحبهــم الكتب, وكــان نقلهــم أوامــر رســول الله, عليــه الســلام, على سبيـل الآحــاد ولـم تكـن العصمــة لازمــة لهــم, فكــان خبـرهــم فى مظنـة الظنـون, وجـرى هـذا مقطـوعًــا بــه متـواتـراً لا انـدفــاع لـه إلا بـدفـــع التـواتــر, ولا يــدفــع المتـواتــر إلا مبـاهت. فهـذا أحـد المسلكيـن.
والمســلك الثــاني : مســتنـد إلى إجمــاع الصحـابـة, وإجمــاعهـم على العمـل بـأخبـار الآحـاد منقــول متـواتـراُ … فهـذا هـو المعتمـد في إثبـات «العــلم» بخيـر الـواحـد»(81).
وبهــذا تمكــن الأصـوليـون مـن الانفصــال عـن الحجـة التي أوردهــا منكـرو الاحتجـاج بخبـر الـواحـد, وهـي أنــه يفيــد الظـن, وأنّـا قـد نُهينــا عـن اتبـاع الظـن وأمـرنـا باتبـاع العلــم, قــال ابـن الســمعـاني : «وأمــا تعلقهــم ]أي منكــري الاحتجـاج بخــير الـواحـد[بقـولــه تعـالى : }وَلاَ تَقْفُ مَــا لَيْسَ لَكَ بـهِ عِلْــم{(الإســراء : 36), وبقــولــه تعـالى : }وَأَنْ تَقُـولُـوا عَلَـى اللهِ مَـا لاَ تَعْلَمُــون{(البقـرة : 169) ومـا يشبـه هــذا مـن الآيــات, قلنــا : ليس في العمـل بخــبر الـواحـد شــىء ممـا ذكــروه؛ لأن وجــوب العمــل بخــبر الـواحـد ليـس بـإيجـاب لــه على ظـن وتخميـن, وهـو إيجـاب لــه على علــم اليقيـن؛ لأن بـالـدلائـل القطعيـة علمنـا وجـوب العمــل بخبـر الـواحـد, فهـو اقتفـاء واتبـاع لمـا كنــا بـه عـالميـن»(82).
وعلــى هــذا النهــج في الجــواب جـرى جمهــور الأصــوليــين(83), وعليــه فقـد أقــروا بـأن خــبر الـواحـد لا يفيــد العلـم والقطــع وإنمــا الظــن, لكـننـا مــأمـورون باتبــاع الظـن قطعًـا.
وهــذه النظــريـة, على الـرغــم مـن واقعيتهــا, إلا أنهــا قصــرت الاحتجـاج بخيـر الـواحـد على مجـال الفــروع العلميــة, أمــا «الأصــول» العقـديــة أو الفقهيــة المطـلوب فيهــا القطــع, فلا يُســتطـاع إثبـاتهــا بخــير الـواحــد, وهــذا بالفعــل مــا ســـلّــم بــه الجمهــور.
ثـانيًـا : نظـريـة القـرائـن :
النظَّــام هـو أول مـن نبّــه إلى دور القــرائـن في الارتقــاء بخبــر الـواحـد مـن إفـادة الظـن إلى إفـادة القــطع, وارتضــى رأيـه هـذا الكثـيرون(84).
لكـن كـلام النظَّــام وغــيره عـن القــرائـن كـان كـلامًــا نظـريًّـا عـامًّـا, غيــر منـزّل على النصــوص الشـرعيــة خـاضّــة, ومـن هنــا فقـد درجــوا علـى التمثيــل للقــرائـن بمــا «إذا وجـدنـا رجـلاً مـرمـوقًــا, عظــيم الشـأن, معـروفًــا بالمحـافظــة على رعـايـة المـروءات, حــاسـراً رأســه, شـاقًّـا جيبـه, حـافيًـا, وهـو يصيح بالثبــور والـويـل, ويـذكــر أنـه أصيب بـوالـده أو ولـده, وشُـهـدت الجنـازة, ورُئي الغسّــال مشـــمّـراً يـدخــل ويخــرج, فهـذه القــرائـن وأمثــالهــا, إذا اقتـرنت بـإخبـاره ـــ مـع القطــع بـأنــه لـم يطــرأ عليــه خبــل وجِنّــة ـــ تضمنت العلـم بصـدقـه»(85).
فلمــا جــاء الأمــر إلى نصــوص السـنة بـالـذات, اعتمـد البعـض على القـول بتـأثير القـرائـن في درجــة ثبـوت الخـبر, فـزعــم أن كـل حـديث اقتـرن بتلقـي الأئمــة بالقبــول يفيـد القطـع. ولعـل مـن أوائـل الذيـن ذكــروا هـذه القـرينــة الفقيـه الأصـولي الشـافعـي ابـن فـورك (ت 406), رحمــه الله تعــالى, ففــرق بيـن نـوعيـن من التلقــي بــالقــبـول : التلقــي بـــالقبــول عمـلاً, وهـو لا يفيــد القطــع, والتلقـي بالقبــول قـولاً وهـو يفيـد القطـع(86).
واعتمــادًا على هـذه القـرينــة ذهب غيــر واحــد إلى أن أحاديث البخــاري ومســلم علـى وجــه خــاص تفيـد القطــع؛ لأنهــا ممـا تلقــاه العلمــاء بالقـبوب(87).
ويبـدو أن مــا يقصـد ابـن فـورك وغيـره بــ «التلقـي بالقبــول قـولاً» هـو اتفـاق أهـل الاختصـاص بالحـديث على صحـة الخبـر, وتصـريحهـم بذلــك, ومـن هنــا فقــد قـال القـاضــي البــاقـلاني رادًّا على ابـن فـورك : «لا يحكــم بصــدقــه, وإن تلقــوه بالقـبول قـولاً ونطقًـا, فــإن تصحيح الأئمــة للخبـر مُجــرى على حكــم الظـاهـر, فـإذا اسـتجمــع خــبر مـن ظـاهـره عـدالــة الـراوي وثبــوت الثقــة بـه وغيـرهــا ممـا يرعـاه المحـدثــون فـإنهــم يطلقــون فيـه الصحـة, ولا وجـه إذًا للقطــع بالصـدق والحـالـة هـذه»(88).
فكــأن القــاضــي يقــول بــأن التصــحيح بحـد ذاتــه حكــم ظنـي؛ لأنــه يعتمــد على التحقيق مـن شــروط الصّـة التي هـي مجـرد عـلامـات ظـاهـريـة فحسب, والاتفـاق على الصحـة لا يضيف شـيئًـا؛ لأنـه اتفــاق على أن الخــبر مقطــوع بثبـوتــه, وإذا كــان الأمــر كـذلـك فمـن أيـن تكتسب القطعيـة ؟ّ!
وبالإضــافــة إلى مـا ذكــره القـاضـي فــإن مبنــى قـرينــة «التلقـي بالقبــول قـولاً» على الإجمــاع الصـريح, والإجمــاع بشــكـل عـام محــل جـدل في البحث الأصـولي, ومـن نشـد الإنصـاف والتحقيق فـلا منــاص لـه مـن الاعتـراف بـأن الإجمــاع يتطـرف إليــه الظـن مـن جهتيـن : إحـداهمــا : ثبــوت حجيتـه؛ إذ ثمــة جـدل كـبيـر حـول الأدلـة التي يـوردهـا الأصـوليــون كمســتنـد لحجيـة الإجمــاع هـل هـي دالــة بالفعـل أم لا ؟ وإذا كــانت دالـة فهــل دلالتهـا قطعيـة أم ظنيـة ؟ والجهــة الأخـرى : على فــرض التســليـم بقطعيــة حجيــة الإجمــاع ـــ التحقيق من حصــول الإجمــاع, فهــل يمكننـا التحقيق مـن أن العلمـاء كلهـم أجمعــوا على المســألـة الفـلانيــة أم لا ؟ وهــل هـذا التحقيق, إذا سلمنـا بـإمكـانـه, قطعـي أم ظنـي ؟ ولعـل هـذا مــا حــدا بالإمـام أحمـد إلى القــول : «مـا يدّعي فيــه الـرجــل الإجمــاع فهــو كـذب, ومـن ادعــى الإجمــاع فهــو كــاذب, لعــل النــاس اختلفــوا, مــا يـدريــه ولـم ينتــه إليــه, فليقـــل : لا تعــلــم النــاس اختلفـوا. هــذه دعـوى بشــر المـريسـي والأصـم, ولكنـه يقــول : لا نعــلم النــاس اختلفــوا, أو لـم يبلغنـي ذلـك»(89).
ثالثـاً : نظـريـة الحفــظ الإلهـي :
خـالف فـريق مـن العلمــاء رأي الجمهــور القـائليـن بـأن خـبر الـواحـد لا يفيـد إلا الظـن فقــالـوا : بــل يفيـد العلــم. ومـن هــؤلاء مـن كـان يعنـي : بــ «العــلم» : «العــلم الظـاهـر», وهـو نفس الظـن الذي قصــده الجمهــور؛ ولـذا فـلا خـلاف حقيقـيّ بينهــم وبيـن الجمهــور. ومنهــم مـن كـان يعنــى بـــ «العــلم» : القـطع, وهـؤلاء, الأخــيريـن, لـم يــأتـوا على مـا ادعــوه بـدليـل معـتبر, ومـن هنــا فقـد أغلــظ الجمهــور الــرد عليهــم, نـاسبين إيـاهـم إلى المكـابرة وإنكــار الحقـائق المعـلومـة بالضــرورة حتــى قــال إمــام الحـرميـن :
«ذهــب الحشــويـة مـن الحنـابلــة وكتبــة الحـديث إلى أن خــبر الـواحــد العــدل يـوجب العــلم, وهـذا خــزيّ لا يخفـى مـدركــه على ذي لب. فنقـــول لهـؤلاء : أتجـوّزون أن يزل العــدل الذي وصفتمــوه ويخطـئ ؟ فــإن قــالـوا : لا, كـان ذلـك بهتًـا وهتكًــا وخـرقًــا لحجـاب الهيبـة ولا حـاجـة إلى مـزيـد البيـان فيــه. والـقـول القـريب فيـه أن قـد زل مـن الــرواة والأثبــات جمـع لا يعـدّون كثــرة, ولـو لـم يكـن الغـلط متصـورًا لمــا رجــع راو عـن روايتـه, والأمــر بخـلاف مــا تخيـلــو. فــإذا تبيـن إمكــان الخطــأ, فالقــطع بالصـدق مـع ذلـك محــال, ثـم هـذا في العــدل فى علـم الله, تعـالى, ونحـن لا نقطـع بعـدالـة واحـد بل يجـوز أن يضمـر خـلاف مـا يظهـر»(90).
وبقــي هـذا الـرأي على هـذه الحـال من التهــويــن والاستهجــان لـدى الأصـولييـن, فيمــا صــوره ابـن دقيق العيــد بقـولــه : «إن كثــيرًا من الفقهـاء والأصـوليين يعتقـدون أن مـذهبهــم ]أي القــائلين بقطعيــة خــبر الـواحـد[خــارج عن ضـروب العقـل»(91), إلى أن نصـره ابن حـزم بحجـة لم يذكـرهــا أحـد من قبلـه. قـال رحمـة الله تعـالى :
«أمـا احتجـاج من احتج بـأن صفـة كـل خبـر واحـد هـي أنـه يجــوز عليـه الكـذب والـوهــم فهــو كمـا قـالـوا», أي أنـه يعتـرف بــأن خـبر الـواحــد بشــكل عـام ظني يحتمـل الكـذب والـوهـم كمـا قـال الجمهـور, لكنـه اســتثنى بعـد ذلـك قـائـلاً : «إلا أن يــأتي برهــان حسـى ضـروري أو بـرهـان منقــول نقلاً يـوجب العلـم مـن نص ضـروري على أن اله تعــالى قـد أبـرأ بعــض الأخبــار مـن ذلـك فيخــرج بـدليلـــه عـن أن يجــوز فيــه الكـذب والـوهــم»(92).
إذن يعــترف ابــن حــزم بظنيــة خـبر الـواحـد بشــكل عـام, لكنــه يستثني منــه الأخبــار التي قـام دليـل على كـونهــا قطعيـة, ومنهــا ـــ على رأيــه ـــ الأخبــار التي رواهــا الثقـات عن النبي ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ. فيهـا تـرى مـا هـو هـذا الدليــل الذي جعــل نصــوص السنـة المنقـولــة بـروايــة الثقـات تخــرج عـن أصــل الظنيـة إلى القطعيـة ؟ يتـابع ابـن حـزم قـائـلاً :
«قــال الله عــز وجــل عـن نبيـــه ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ : }وَمَـــا يَنْطِـقُ عَـنِ الْهَـوىَ (3) إِنْ هُـوَ إِلاَّ وَحْــيٌ يُـوحَــى{(النجــم : 3, 4), وقــال تعــالى, آمــرًا لنبيــه ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ, أن يقــول }قُــاْ مَـا كُنْـتُ بـدْعًــا مِـنَ الـرُّسُــل وَمَــا أَدْرِي مَــا يُفْعَـلُ بِـي وَلاَ بكُــمْ إنْ أَتَّبِــعُ إلاَّ مَــا يُـوحَــى إِلـيَّ وَمَــا أَنَــا إلَاَّ نَـذِيـرٌ مُبيـن{(الأحقــاف : 9), وقــال تعــالى : }إنَّـا نَحْنُ نَـزَّلْنَــا الذّكْــرَ وَإنَّــا لَـــهُ لَحَــافِظُــون{(الحجـر : 9) … فصــح أن كـلام رســول الله ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ, كلـه فى الـديــن وحــي مـن عنـد الله عــز وجــل لا شــك في ذلـك ولا خــلاف بين أحـد مـن أهـل اللغـة ةالشــريعــة في أن كــل وحـى نـزل مـن عنــد الله تعــالى فهــو ذكــر مــنزل, فالــوحـى كلــه محفـوظ بحفـظ الله تعـالى لـه بيقيــن, وكـل مــا تكفــل الله بحفظــه فمضـمـون ألا يضيـع منــه وألا يحـرف منــه شــيء أبـدًا تحـريفـًا لا يـأتي البيـان ببطـلانـه, إذ لـو جـاز غــير ذلـك لكــان كـلام الله تعــالى كـذبًــا وضمـانـه خـائسًــا, وهـذا لا يخطـر ببــال ذي مســكة عقــل, فـوجب أن الذي أتـانـا بـه محمــد ـــ صّلى الله عليــه وسـلم ـــ محفــوظ بتـولى الله تعـالى حفــظـه, مبــلغ كمــا هـو إلى كـل مـن طلبــه ممـن يـأتي أبـداً إلى انقضـاء الدنيــا»(93).
وحــاصــل هـذا الاســتـدلال يقــوم على المقـدمــات الآتيـة :
1. السنـة مـن الـوحـي.
2. الـوحـي محفـوظ.
3. كـل محفـوظ ينتفـي عنــه احتمـالا الكـذب والـوهـم.
4. مـا ينتفــي عنــه احتمـالا الكـذب والـوهــم فهـو قطعـي.
والنتيجـة هـي : أن السـنـة قطعيـة, وهـي منقــولــة بـروايــة الآحــاد, فـروايــة الآحــاد للسنـة إذن قطعيـة.
وعلى الـرغــم ممـا قـد يبـدو من متـانـة هـذا الاســتدلال إلا أنــه ينطـوى على جملـة من نقـــاط الضعف تقعـده عــن النهــوض بتـأسيس نظـريـة في قطعيـة خبر الـواحـد.
وواحــدة مـن هــذه النقــاط نـذكــرهــا كفيلـة بتقـويض اسـتدلال ابـن حـزم كلـه.
فنقــول : على فـرض التســليـم بأن السنـة محفـوظـة كـالقـرآن(94), فــإن هـذا التقـريـر لا يلـزم منــه إلا القــول بـأن كـل مـا ثبت ثبـوتًــا قطعيًّــا كـونــه من السنـة فهــو محفــوظ, أمـا مـا لم يثبت قطعًــا كـونــه من الســنـة فلا دليــل على أنــه من الـوحـي المحفــوظ. وكــون الكـلام نُقــل بـروايــة خبر الـواحــد العــدل عـن رســول الله ـــ صّلى الله عليــه وســلم, لا يكفـي لإثبــات كـونـه من السنـة قطعًـا؛ إذ كــم مـن أخبــار للثقـات تكلــم فيهــا علمــاء الحـديث بالتضعيف والتـوهــين, بل مــا يسـمونـه بالشــاذ والمعـلل مـن الأحـاديث إنمــا يختص بـروايــو الثقـات والـروايــات التي ظـاهـرهـا الصحـة. وعليــه فمــا قــرره ابــن حـزم مـن كــون الســـنة محفــوظـة لا يسـتلزم بالضــرورة أن كــل خبـر واحــد عـدل هو مـن الســنة قطعًـا, وحتى لـو اســتجمع خبر الـواحــد جميــع شــرائط الصحــة التي ذكــرهــا علمـاء الحديث فهـذا لا يجعلنــا نحكــم بكــونـه من الســنة قطعًـا؛ لأن انطــواء الخبـر على هـذه الشــرائـط نفسـه مظنـون فيــه, فكــم من حـديث صححـه قـوم فجــاء من بعـدهــم آخـرون فاطلعــوا على عيب خفـي فيــه فضعفــوه. ثــم إن شــرائـط الصحـة نفسهـا اجتهـاديتة ومظنـونـة ومختلف في بعضهــا بـين أهـل الحـديث, فمثـلاً الحـديث الذي لا يثبت اللقـاء بين رواتــه الثقـات لا يصح على شــرط الإمـام البخـاري وغيـره, بينمــا هو صحيح على رأي الإمـام مســلم وغــيره بمجــرد المعـاصـرة. وابــن حــزم نفســـه ضعف أحــاديث صححهـا غيره, وصحح أحـاديث ضعفهــا غــيره. وإذن فمــا دام الحكــم على كــون حـديث مـا مستجمعًـا لشــرائط الصحـة ظنيًّـا فهـذا يعنــي أن كـونـه من السـنة ظني أيضًـا؛ لأن مــا ينبني علـى الظنـي فهــو ظنـي, ومـا دام كـونـه من السنـة ظنيًّـا, فلا يستطيع القطــع بـأنـه محفــوظ؛ لأن الحفـظ خـاص بمـا ثبت كـونـه من السنـة قطعًـا لا بمـا ســوى ذلـك.
وفي رأيي أن أصــل حفـظ السنـة ـــ إذا سُـــلم بــه ـــ لا يقتضـي أكثــر مـن أنـه لا تُجمِــع الأمــة على مـر العصـور على صحـة حـديث وقبـولــه وهـو مكـذوب أو خطــأ؛ لأن هـذا ينـافي الحفـظ, أمــا الأحـاديث غيـر المجمــع علـى صحتهــا فــأنّى لنــا القــول بقطعيتهــا ؟! وهـذا الإجمــاع الذي نشــرطـه هنـا ليس هـو الإجمــاع الألإصـولي المعـروف بل هـو إجمــاع خــاص لم يجئ اشتـراطـه مـن الأدلـــة التي يـذكـرهــا الأصـوليــون على حجيـة الإجمــاع بل مـن أصــل حفـظ السنـة نفسـه, لأنـا لـو افتـرضنـا أن حـديثًـا ضعيفًــا انطلـى على جـل علمـاء الأمــة فحكمــوا بصحتــه إلا أن البعض العلمــاء تمكــن مـن الاطـلاع على عيب فيــه فحكــم بضعفــه, فمثــل هــذا الفــرض لا ينــافي أصــل الحفـظ, وربمــا تـوجـد أحــاديث مـن هـذا القبيـل, لكـن أن تحكــم الأمــة جمعـاء على الحـديث بكــونـه صحيحـاً وهـو في الـواقــع ضعيف, فهــذا ينـافي أصــل الحفــظ؛ إذ كيف تكـون السـنة محفـوظــة وواحـد مـن الأمــة على الأقــل لم يعــرف بكــون هـذا الحـديث ليس من السنـة ؟!
ومثــل هـذه النظــريـة القـائمــة على المـزاوجـة بيـن أصــل حفـظ السنـة والإجمــاع لا تعـد حـلاًّ مـن وجهــة نظــري لمشــكلـة الظنيـة في أخبــار الآحــاد لسببين :
أحــدهمــا : أن أصــل حفــظ الســنة متنــازع فيــه ولا تقــوى الأدلــة المـذكــورة على القطــع بهـذا الأصــل, فهـو أصــل أكثــر مـا فيــه أنـه مظنـون, ومـا انبنـى على المظنـون فهـو كـذلـك مظنـون ..
والآخــر : أن التحقيق مـن الإجمــاع لا ســبيل إليــه على وجـه القـطع بل على وجـه الظـن, ومـا دام الأمـر كـذلـك فمــا بُنـى على هـذا الأصــل مظنـون مثـله.
خـلاصــة القـول :
يتضــح لنــا مـن خـلال مـا سبق أن رأي الجمهــور القــائـل بظنيــة خــبر الـواحــد مـع إيجــاب الشــارع للأخــذ بـه قطعًــا هـو الـرأي الأصــوب فيمــا يتعلــق بالتعــامـل مع مشكـلـة الظنيـة التي ينطـوي عليهــا خبـر الـواحـد.
أمــا كــون هــذا الـرأي لا يـؤهــل خــبر الواحــد لأن يكــون أسـاسًــا في إثبــات الأصــول الاعتقـاديــة أو الفقهيـة فيمكـن معـالجتـه من وجهـة نظـرنـا بـأربعــة طـرق :
الأولـى : عـن طـريق التفـريق بين قسـميـن مـن أخبــار الآحـاد : الأول : الأخبــار التي ينفــرد بنقلهــا الـواحـد والاثنـان في أي طبقـة من طبقـات ســندهــا. والقســم الثـاني : الأخبــار التي ينقلهــا ثـلاثـة فـأكثــر في كــل طبقـة مـن طبقـات رواتهـا, وهـي الأخبـار التي يسميهــا المحـدثون بــ «المـشهـورة», فمــع التســليـم بــأن مثــل هـذه الأخبــار لا تفيـد القطــع الذي يفيـدة الخـبر المتـواتـر فـإنهــا تفيـد مــا أسمينـاه ســابقًـا بــ «المشـهـورة», فمــع التســليم بــأن مثــل هـذه الأخبــار لا تفيـد مــا أسمينـاه ســابقًـا بــ «الظـن القـوي» الـــذي يـدنـــو مـن القطــع, أو «علــم الطمـأنينــة» على حـد تعبــير أصـوليي الحنفيــة(95), وعليــه فيجب أن ا يســاوى في التـعـامــل بين هـذه الأخبــار وغـيرهــا من أخبـار الآحـاد, بل العكــس يجب أن يُســاوى بينهــا وبيـن الأخبــار المتـواتـرة لأنهــا إليهــا أقـرب, وبالتـالي يمكـن إثبــات الأصـول بهــا سـواء أكـانت عقـديـة أو فقهيـة.
والطـريق الثـانيـة : القــول بــأن كـل خبـر آحــاد اتفـق العلمــاء كلهــم متقـدمهــم ومتــأخـرهـم على اسـتجمـاعـه لشــرائـط الصحــة فهـو كـذلك يفيــد «ظنًّــا قـويًّــا» يـدنـو مـن القطــع, لا مـن بـاب التســليـم بقطعيـة أصــل حفـظ السنـة ولا أن الإجمــاع يمكـن التحقيق منــه قطعًـا, وإنمــا مـن بـاب آخـر أدنـى إلى العقــل وأيسـر على الإثبـات, وهــو أن الحـديث الذي تنـاولـه العلمـاء بشتى مـذاهبهـم على مـر العصـور مسلميـن بصحتـه, غــير مطلعـين على قـادح يطعـن فيـه, مـع شــدة تحـريهــم وتنقــيرهــم, يثــير «ظنًّــا قـويًّــا» بـأنــه ثـابت فعـلاً؛ لأنــه لـو لـم يكـن كـذلـك لانتبــه إلى ضعفــه واحـد على الأقــل مـن هـؤلاء الكثــيريـن الذيــن نظـروا فيـه.
والطــريق الثـالثــة : اســتغـلال مــا أسمــاه علمــاء مصطـلح الحـديث بــ «التصحـيح بالشــواهـد»؛ حيث يصححـون الحـديث الضعيـف إذا ورد حـديث آخــر بمعنــاه, وبالإمكــان تطـويـر هــذا الأســلـوب مـن «التصـحيح بالشـــواهـد» إلى مــا يمكــن تسـميتـه بــ «التـأكيـد بالشــواهـد», حيت يمكننـا جـريًــا على نفس المنـوال أن نقــول بـأن الحـديث الصحيـح إذا ورد بمعنـاه يضـع أحــاديث صحيحــة فهــو يثــير ظنًّــا قــويًّــا بالثــبوت يكــاد يقتــرب مـن القـطع, حتى لـو لم يصــل التــأكيـد الشــواهـد إلى درجـة مـا يسمـى في علـم المصطــلح بـــ «التـواتــر المعنــوي».
والطـريق الـرابــع : عـدم التســليـم بـأن خبـر الـواحـد ليـس حجـــة في الأصــول, إذ لا دليــل صـريح على عـدم جــواز الاعتمــاد على الظـن الغـالب في قضـايــا الأصــول, وإنمــا يســتدل الجمهــور على ذلـك بالآيــات الطـالبــة لاتبــاع العلـم والنـاهيـة عـن اتبـاع الظـن من قبيــل قـولـه تعــالى : }وَلاَ تَقْفُ مَــا لَيْسَ لَكَ بــهِ عِلْــم{(الإســراء : 36), وقــولـه تعــالى : }وَمَــا لَهُـمْ بــهِ مِـنْ عِلْــمٍ إنْ يَتَّبعُــونَ إلاَّ الظَّــنَّ لاَ يُغْنِــي مِـنَ الْحَقَّ شَــيْئًـا{(النجــم : 28), وهـي نفس الآيـات التى اسـتدل بهــا منكـرو الاحتجــاج بخــبر الـواحـد مطـلقًــا, فمــا رد بــه الجمهــور على هـؤلاء يُـرد بـه على الجمهــور.
فــإن قـالـوا : نحـن نخـصص هــذه الآيـات بــالنهــي عـن الظـن الذي يكــون في مجــال الأصــول, أمـا مــا كــان في مجـال الفـروع فيخــرج عـن عمــوم الآيـات بالأدلــة الكثــيرة التي جـاءت تـؤكـد قبــول خــبر الـواحـد في الفـروع.
فـالجــواب عليهــم : هـو أن الأدلــة التي دلت على قبــول خبـر الـواحـد لم تفـرق بين كـونــه قـد جــاء في مجــال الأصــول أو في مجــال الفــروع, وقبــول الصحـابـة لأخبــار الآحـاد, وهـو عمــدة أدلــة القــائليــن بحجيـة خــبر الـواحـد, كـان مطلقًــا, ولـم يُؤثـر أن صحـابيًّـا رد حـديثًـا لأنــه في مجــال الأصــول وقبــل آخــر لأنــه في مجـال الفــروع. أمــا الآيـات المـذكــورة فنحـن نفسّـــرهــا على وجـه آخـر, وهـو أن الظـن كمــا أوردت معــاجـم اللغــة كـان يُطــلق على الشــك وعلى الظـــن الغــالب وحتـى على اليقيــن(96), فهــو مشــترك لغــوي, أو علـى الأقــل «ظـاهـر» في الظـن الغـالب «مـؤول» في الشــك, ونحـن نحمــل الـراد في الآيــة على الظـن بمعنـى الشــك, وهـو مـا يشهـد بــه ســياق الآيـات التي جـاءت في النهـي عن اتبـاعــه, حيث إنهــا نـزلت في العـرب الذيـن لم يبنــوا اعتقـاداتهــم على علــم أو ظـن غـالب, وإنمــا على الـوهــم والشــك والخـرافــة والتقليــد الأعمــى؛ لذلــك قــال سبحـانـه : }إنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَــاءٌ سَمَّيْتُمُـوهَــا أًنْتُــمْ وءَابَـاؤَكُــمْ مَــا أَنْـــزَلَ اللَّــهُ بِهَــا مِـنْ سُــلْطَـان إِنْ يَتَّبِعُــونَ إلاَّ الظَّـنَّ وَمَــا تَهْــوَى الأَنْفُــس{(النجــم : 23), وقــال تعــالى : }اِئْتُونِي بكِتَــابٍ مِـنْ قَبْــلِ هَذَا أَوْ أَثَــارَةٍ مِنْ عِلْــمٍ إنْ كُنْتُــمْ صَــادِقِيـنَ{(الأحقــاب : 4) ممـا يـدل على أن العـرب لـم تكـن تملـك أدنى دليــل على معتقـداتهــا البـاطلـة.
لكـن في حــال القــول بقبــول مـا يفيــد الظــن في مســائـل الأصــول, ينبغـي, أن نفــرق بين نـوعــين من مســائـل الأصـول : المســائـل القطعيـة ثيـوتًــا ودلالــة, وهـذه لا نقبــل فيهــا الاجتهـاد والاختـلاف, والأصــول الظنيــة ثيــوتًــا أو دلالــة, وهـذه نقبــل فيهــا الاجتهــاد والاختـلاف, كمــا نقبلـه في مســائـل الفـروع, وهـذا مهـم.
المقصـد الثــاني : الحـلـول الأصــوليــة لإشكــاليــة القطــع في مجــال الـدلالـة :
قلنــا ســابقًــا : إن دعــوتين تتعلقــان بقطعيــة الـدلالـة راجتـا في الأوسـاط الأصـوليـة :
إحـداهمــا : دعــوى «انتفــاء النصــوص». والأخــرى : دعـوى «عــزة النصـوص».
ومـن خـلال رد الأصـولييـن ـــ صـراحـة أو صمنًــا ـــ على هــاتيـن الـدعــوتـين, ومـن خــلال كـلامهــم في دلالات الألفــاظ, يمكننـا اســتخـلاص جملــة مـن الأفكــار والحــلـول لمشــكلـة الظنيـة التي تتســم بهــا دلالــة النصـوص. ونصــوغ هـذه الحـلول في نظـريـات خمس :
أولاَ : نظـريـة عــدم جـواز تـأخيــر بيــان الظـواهــر عـن وقت الخطـاب.
ثـانيـا : نظـريـة القــرائـن.
ثـالثـا : نظـريـة الاسـتقـراء.
رابعــاً : نظـريــة اللفـظ الصـريح.
خـامســا : نظـريـة القطــع النسبـي.
أولاً : نظــريــة عـدم جـواز تـأخــير بيـان الظـواهـر عـن وقت الخطـاب :
ذهب الحنفيــة إلى عـدم جــواز تـأخيــر بيــان الظــواهـر عن وقت ورود الخطــاب, وذهب الجمهــور إلى الجـواز. وهـي مســألـة معـروفــة مشــهـورة في كتب الأصـول, لكنهــا غـالبًــا مــا تعـرض, ســواء في القـديـم أو الحـديث, معــزولــة عن الثمــار الأصــوليـة المتـرتبــة عليهــا. ومـن هـذه الثمـار القــول بقطعيــة الألفـاظ الظـاهـرة ـــ إذا لم ننصـل بهــا القـرينــة المبينـة عنـد الجمهـور.
فالحنفيــة يقـولـون بـأن كــل لفــظ ظـاهـر في معنـاه (يـدل على معنـاه دلالــة راجحـة مـع احتمــال دلالتــه على معنـى آخــر احتمـالاً مـرجـوحًـا, كظهـور اللفـظ العـام في دلالتــه على الاســتغـراق مـع أنـه محتمــل للتخصيص) فـإنــه لا يجــوز للمتكــلم أن يــريـد بـه معنــاه المـرجـوح مـن غــير أن يقـرن بـه فـورًا قـرينــة تبيـن أن المـراد بــه هـو المعنـى المـرجــوح (= المـؤول) دون المعنـى الـراجح (= الظـاهـر). ويتفق معهــم الجمهـور في لـزوم تـوافــر القـرينــة المبينــة, لكنهــم لا يشـــترطـون فيهــا أن تقترن بالنص المبيـن فـوراً, وإنمــا مـن الممكـن أن تتـراخـى عنـه لأي فتـرة زمنيــة قصـرت أو طـالت.
إذن ينحصــر الخـلاف بيـن الفـريقيـن في «الـــتراخــي», و«الاقــتران», أو قــل : «الاتصــال», و«الانفصــال», فبينمــا يقـول الحنفيـــة : لا بــد مـن «الاقـــتران» و«الاتصــال» ولا يجــوز «الــتراخــي» و «الانفصــال», يقــول الجمهــور : يجــوز ذلـك كـلـه.
وحجــة الحنفيــة الجـوهــريــة في هـذه المســألـة هـي أن الشــارع إذا أورد اللفـظ من غــير أن يبــين فـورًا أن معنــاه الظـاهــر غــير مـراد فســيظـن السـامع بـأنــه مـراد, ويعمـل على ذلــك, فيكــون هــذا إلغــازًا وإلبـاسًــا عليــه وتجهيـلاً لــه, وهـذا مــا يُـنـزه مقــام الشــارع عنــه. أمــا الجمهــور فقــالـوا : هـذا الاســتـدلال إنمـا يصـح عنـد القـائليـن بتقبيح العقــل وتحســينـه ونحـن لا نقــول بهمــا, ثـم إنـه إذا بيّـن الشــارع مـراده مـن اللفـظ, ولــو بعــد حيـن, فســير تفــع اللبـس, والســامع معـذور في فهمــه الســابق قبـل وقـوفــه على القـرينـة المبينـة(97).
وبغــض النظــر عـن الــرأي الـراجـح في هـذه المســألـة ـــ وهـي لا تـزال تحتــاج إلى مـزيـد مـن البحـث العمـيق ـــ فـإنــه قـد انبثق عنهــا رأيــان عنـد الحنفيـــة همــا مـن أكثـر الآراء التي مـيـزت الفكـر الأصـولي الحنفـي :
أحـدهمــا : القــول بقطعيــة العـام.
والآخــر : القــول بـأن الـزيـادة على النـص نســخ.
فيــا تـرى كيف بنـى الحنفيــة على هـذه المســألـة هـذيـن الـرأيين ؟
قــال الحنفيـــة : إن العــام مـن حيث الأصــل ظـاهـر في الاســـغـراق, مـؤول في الخـصوص, لكـن لمــا أورد الشــارع اللفـظ العـام مـن غيـر أن يقــرن بـه قـرينـة تــدل على إرادة الخصـوص, كــان المــراد بــه هــو الاســتغـراق قطعًــا؛ لأنـه لا يجــوز للقـرينــة أن تتـراخـى عن النص فلــم يبق إلا أن الشــارع أراد المعنـى الظـاهـر الذي هو الاســتغـراق, ولا احتمــال بعـد للتخصيص, وهـذا كمــا هـو الحـال في لفـظ العـدد, كــالعشــرة مثـلاً, فــإنــه من حيث الأصــل يحتمــل الـدلال على غيـر العشــرة إذا اقتـرن بـه اسـتثنـاء, كقـولـك : أعطيتـه عشــرة دراهــم إلا واحـداً, لكـن إذا نطــق بـه المتكـلــم ولـم يســتثن في الحــال فـإن احتمــال الاستثنــاء يتــلاشــى؛ لأنـه لا يجــوز الاســتثنـاء متـراخيًــا, وتبقــى العشــرة دالـــة على معنــاهــا الظـاهـر قطعًــا(98).
فــإن قيــل : لـو افتــرضنــا نصًّــا عـامًّــا ورد مــن غــير قـرينــة متصـلـة تــدل على الخصــوص, كقــولــه تعــالى بعــد ذكـر المحـرمـات مـن النســاء : }وَأُحِــلَّ لَـكُــمْ مَــا وَرَاءَ ذَلِكُــم{(النسـاء : 24) ثـم ورد نصٌّ آخــر يـدل على الخصــوص, كقـولــه ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ : «لا تنكــح المـرأة على عمتهــا ولا علـى خـالتهـا»(99) فمــا العمــل؟
فيجيب الحنفيــة بــأنــه هــا هنــا تظهــر مســألـة الـزـادة على النـص نســخ, فيكــون الـدليـل المتـأخـر, وهــو الحـديث, ناســخًـا, نسخًــا جـزئيًّـا, للـدليــل المتقـدم, وهـو عمــوم الآيــة, بـأن رفــع حكــم إبـاحـة الـزواج بامـرأة وعمتهــا أو خـالتهـا.
فــإن قيــل : ومــا الفــرق بيــن هـذا الذي أسميتمــوه بـــ «النســـخ الجـزئي», والتخصيص, مـع أن محصلتهمــا واحـدة, وهـي الحكــم على البعــض بحكـم يخــالف حكــم العمـوم؟
فالجــواب : أن الفــرق مـن جهتيــن : مـن جهـة الحقيقـة ومـن جهـة النتيجــة :
فـأمــا مـن جهــة الحقيقـــة, فالنســخ إضـراب عـن المـراد بــالنـص النـاســخ, أمــا التخصـيص فليس هـو إضـرابًــا عن الإرادة الســابقــة واسـتئنـافًــا لإرادة جـديـدة, وإنمــا هـو مجــرد بيــان وتـوضيــح للمـراد الأول. وعليــه ففـي حـالـة النســخ الجـزئي يكـون الشــارع قـد أراد الاستغــراق أولاً ثــم رفــع هـذه الإرادة عن البعض ثـانيًـا, أمـا في حـالـة التخصـيص, فالشــارع لـم يـرد الاســتغـراق ابتـداء وإنمــا أراد الخصـوص هـو دليــل كـاشـف عـن هـذه الإرادة.
وأمــا مـن جهــو النتيجــة, فالنســخ يشــترط فيــه التكـافـؤ في قـوة الثبـوت بيـن النـاسـخ والمنســوخ, فمجــرد خـبر الـواحـد, الـذي هـو ظنـي الثبــوت, لا يعتــرف بــه كنــاســخ لعمـوم آيـات القـرآن التـي هـي قطعيـة الثبـوت, وإنمـا حقـه التـأويـل أو الـرد, وـذا مــا فعلـه الحنفيـة بالفعـل في عـدد ليس قليـلاً مـن الأحـاديث, إلا أن يبـلغ الحـديث النهـى عن الجمــع بـين المـرأة وعمتهــا أو خـالتهـا آنــف الـذكــر(100) فيقــوى على النســخ. أمـا التخصــيص فيجــوز متن غــير اشـتراط التكـافـؤ في قـوة الثبـوت بين الـدليـل المخـصص واللفـظ العـام.
والحــاصــل هـو أن الحنفيــة يقــولـون, وبالبنــاء على نظـريتهـم في عـدم جـواز تـأخـر بيـان الظـواهـر عن وقـت الخطـاب, بقطعيـة جميــع الظــواهـر الـتي لم يتصــل بهــا مـا يـدل على التــأويـل. ومـن هنــا كــان للقطعـي عنـدهــم ـــ كمــا يــقـول صـدر الشــريعـة ـــ معنيـان : «أحـدهمــا : مــا يقــطع الاحتمــال أصـلاً كــالمحكــم والمتـواتـر, والثـانى مـا يقطــع الاحتمـال النـاشــئ عن الـدليــل كـالظـاهـر, والنـص, والخبـر المشــهور»(101). فالحكــم ـــ وهـو تقـريبًـا يقـابــل النـص عنـد الجمهــور ـــ لا يحتمـل التـأويـل أصـلاً بـدليــل أو بغـير دليــل, }مُحَمَّــدٌ رَسُــولُ اللَّــه{(الفتـح : 29). أمــا الظـاهـر والنص ـــ وهمــا يقـابـلان الظـاهـر عنـد الجمهـور ـــ فهمــا يحتمـلان التــأويـل بـدليــل, لكـن لمـا لم يقتـرنــا بـدليــل يـدعــم الاحتمــال, وكــان لا يجــوز في الـدليــل المــؤول أن يكــون متـراخيًــا كـانـا قطعييـن أيضًــا, كمــا هـو الحـال في اللفـظ العـام إذا لـم يقتــرن بــه دليــل التخصيـص, والمطــلق إذا لــم يقــترن بـه دليــل التقييـد, والحقيقـة إذا لـم يقتــرن بهــا دليـل المجـاز.
وبهــذا كـانت الألفــاظ قطعيــة الـدلالـة كثــيرة عنـد الحنفيــة؛ لأنهــا تشــمـل جميـع الظـواهــر الـتي تجـردت عـن الـدليــل المقتــرن الـداعــم لمـا فى بنيتهــا اللغـويـة من احتمـال.
ولأجــل مـا يضعـه هـذا الحـل الحنفـي مـن حـد لمشكـلـة القطعيـة في دلالـة الألفـاظ فقـد تبنــاه إمــام الحـرميـن في مـواجهتــه دعــوى «عــزة النصــوص», فقــال فيمــا علقــه عنـه الغـزالي في المنخــول : «أمــا النص فقيــل فى حــده : إنــه اللفـظ الــذي لا يتطــرق إليــه احتمــال … ثـم قـال الأصـوليـون : لا يـوجــد على مــذاق هـذا الحــد في نـصــوص الكتــاب والســـنـة إلا ألفـــاظ معـدودة, كقــولـــه تعــالى : }قُـلْ هُـوَ اللَّــه أَحَــد{(الإخــلاص : 1). وقــولــه تعـالـى : }مُحَمَّــدٌ رَسُــولُ اللَّــه{(الفتـح : 29)(102), ولـذا فقــد أعــرض عـن تعـريف النــص بــالحـد المـذكــور قـائـلاً : «والمختــار عنـدنـا أن يكــون النص : مـا لا يتطــرق إليــه التــأويـل على مــا ســيـأتى شـرط التـأويـل»(103). وكـن شــروط التـــأويـل, كمــا تعــلم, احتمــال اللفـظ ووجــود الـدليــل الـداعــم لهـذا الاحتمــال, ومـن هنــا كــان النــص (= القطعـي) في التعــريف المختــار لإمــام الحـرميـن شـاملاً لنـوعيـن مـن الألفــاظ : مـا لا يحتمــل أصـلاً, ومـا يحتمــل لكــن لـم يـرد دليــل يعضــد هـذا الاحتمـال .. قـال رحمـة الله : «ولـو شُــرط في النـص انحســام الاحتمـالات البعيـدة كمـا قــال بــعض أصحـابنــا فـلا يتصــور لفـظ صــريح … فالــوجــــه تحـديـده بمــا ذكــرنـاه»(104). أي أنــه لا ينبغـي أن نعــرف النص بمــا لا يتطــرق إليــه الاحتمـال كمـا ذكـر البعــض, بـل بمــا لا يتطــرق إليــه التـأويـل, وحينئـذ ســيـدخــل في التعـريف كــل لفـظ لم يتطــرق إليــه تـأويـل حتى لـو كــان محتمـلاً مـن حيث الأصـل, وبهــذا تكــثر «النصــوص». وعنــد تعـــداد الغــزالـي للاصطـلاحــات التي قيلـت في النـص ذكــر هــذا التعــريف الـذي ارتضــاه إمـام الحـرميـن لكـن بصيغــة أكثـتر تفصيلاً قـائـلاً : يطـلق النص علـى «مــا لا يتطـرق إليــه احتمــال مقبــول يعضـده دليـل, أمـا الاحتمــال الذي لا يعضــده دليـل فـلا يُخــرِج اللفــظ عـن كـونــه نصَّــا, فكــان شــرط النص .. ]بهــذا الاصطــلاح[… أن لا يتطــرق إليــه احتمــال مخصــوص, وهـو المعتضـد بـدليـل»(105).
وفي مـرحــلـة متــأخـرة من نمـو فكــره الأصـولـى يبـدو أن إمــام الحـرميـن انتبـه إلى مــا ينبــني عليــه الحــل الحنفــي لإشـــكـاليـة القطــع مـن القـول بعـدم جـواز تــأخـر البيــان عـن وقت الخطـاب, وهـذا مـا لا يـرنضيـه الإمــام تفســه, ولا أصحــاب المـدرســة الأشــعـريـة التي ينتمـي إليهــا؛ ولــذا فقـد أضــرب عنـه في كتـابـه البـرهــان متبنيًــا نظـريـة أخــرى بـديلـة في مـواجهـة القــول بــ «عـزة النصــوص» هـي : نظـريــة القـرائـن. وهـي مــا سنبحثـه في العنـوان الآتـي.
ثـانيًـا : نظـريـة القــرائــن :
قـال إمــام الحـرميـن :
«اعتقــد كثــير مـن الخــائضيـن في الأصــول «عـزة النصــوص», حتـى قـالـوا : إن النص في الكتـاب قــولــه عـز وجــل : }قُــاْ هُـوَ اللَّـه أَحَــد{(الإخــلاص : 1), وقــولــه تعـالى : }مًحَمَّــدٌ رَسُــولُ الله{(الفتــح : 29), ومــا يظهــر ظهـورهمــا. ولا يكــاد هـؤلاء يسـمحـون بالاعتـراف بنص في كتـاب الله تعـالى هـو مـرتبـط بحكــم شــرعي. وقضــوا بنــدور النصـوص فى الســـنة, حتـى عــدّوا أمثلـــة معــدودة محـدودة .. وهـذا قـول من لا يحيـط بالغـرض مـن ذلــك. والمقصــود مـن النصــوص : الاســتقـلال بـإفـادة المعـانى على قطـع, مـع انحســام جهــات التــأويـلات, وانقطــاع مســالـك الاحتمــالات. وهــذا, إن كـان بعيــداً حصــولــه بـوضــع الصيــغ, ردًّا إلى اللغـة, فمــا أكثــر هـذا الغـرض مـع القــرائـن الحـاليـة والمقـاليـة, وإذا نحـن خضنـا في بـاب التــأويـلات, وإبـانــة بطــلان معــظـم مســالـك المـؤوليـن, استبـان للطـالب لبفَطِن أن جُلّ مـا يحسبـه النــاس ظـواهــر معـرضــة للتـأويـلات فهـي نصـوص, وقــد تكـون القـرينــة إجمــاعًـا أو اقتضــاء عقــل أو مــا في معنـاهمـا»(106).
إذن يعــوّل الجـويــني على القـرائـن في اعتبـار «جـل مـا يحسـبه النـاس ظـواهـر» إنمــا هـي نصـوص قطعيــة, وقـد ذكــر مـن أنــواع القــرائـن المـؤديــة إلى القطــع أربعــة أنــواع : القــرائـن الحـاليــة, والقــرائـن المقـاليــة, والإجمــاع, والعقــل.
هـذا وقـد أفضنــا في كتـابنــا «القــرائـن المحتفــة بــالنـص وأثـرهــا في دلالتــه» في بيــان هــذه القــرائـن وأمثلتهــا مطلقيـن عليهــا مسمــى «قـرائـن التــأكيـد», وقـد ذكــرنـا طـرفًــا مـن أمثلتهــا في منـاســبة ســابقـة مـن هـذا البحث.
والـواقــع أن أثــر هـذه القــرائـن لا يقتصــر على تـأكيــد الظـواهـر, بل حتـى المجمـلات والمشـتركـات, تســتطيع هـذه القــرائـن أن تنقلهــا مـن دائــرة الغمــوض إلى دائـرة الـوضــوح, والعبــارة «نـزلـت إلى العيـن فشــربت منهــا», والتي وقفنـا عنـدهــا ســابقًــا, خــير مثـال على ذلـك, إذ تحــول لفـظ «العـين» بفضــل القـرينتيـن المقـاليتيـن : «نـزلـت», و«شــربت», مـن لفـظ غـامـض في أصــل اللغـــة إلى لفــظ واضــح كــل الـوضـوح في ســياق العبـارة. ومـن هنــا لـم يمتنــع بــعض الأصـولييـن مـن إطــلاق مصطــلح «النــص» علـى النصــوص الغـامضــة نفســـهـا إذا لحقهــا بيــان رفــع الغمــوض عنهــا.
قـال الجصــاص :
كــان أبـو الحســن الكـرخـي يقــول : «في اللفـظ المحتمـل لضــروب مـن التــأويـل : إن مـن قـامـت لـه الـدلالـة على بعــض المعـانى أنـه هـو المـراد جــاز لــه أن يقــول : إن هـذا نـص عنـدي. وكـذلـك إذا رُوي ذلــك التــأويـل عـن رســول الله ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ, فجــائـز أن يقـال : إن ذلـك نص الكتــاب, لبيــان النبـى ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ, مـراد الله تعـالى : }فَقَــدْ جَعَلْنَــا لِوَلِيَّــهِ سُـلْطَـانًـا{(الإســراء : 33) يحتمــل «الســلطـان» المعـاني المختلفـة, فــإذا قــامت الـدلالـة عنـدنـا على أن المـراد بـه القـود جـاز أن يقــول : قـد نصت هـذه الآيــة علـى إيجــاب القــود لــولي المقتــول ظلمًــا»(107).
وقـد التفت الحنفيــة إلى هـذا النـوع مـن القـرائـن الـتي أسمينـاهـا بــ «قـرائـن التــأكيـد» فخصصـوا للحـديث عنهــا نـوعًـا مـن أنـواع البيـان سمـوه بــ «بيـان التقـريـر».
قـال السـرخســي :
«أمــا بيــان التقـريـر : فهـو فى الحقيقــة الــذي يحتمــل المجــاز والعــام المحتمــل للخصــوص, فيكــون البيــان قـاطعًــا للاحتمـال مقـررًا للحكــم على مــا اقتضــاه الظـاهـر, وذلــك نحــو قـولــه تعـالى : }فَسَجَــدَ الْمَـلاَئِكَــــةُ كُلُّهُــمْ أَجْمَعُــون{(الحجــر : 30) فصيغـــة الجمــع تعــم المـلائكــة على احتمــال أن يكــون المـراد بعضهــم, وقــولــه تعــالى : }كُلُّهُــمْ أَجْمَعُــون{, بيــان قــاطع لهـذا الاحتمــال فهـو بيـان التقـريـر. وكـذلـك قـولـه تعــالى : }وَلاَ طَـائِــرٍ يَطِيـرُ بِجَنَـاحَيْــه{(الأنعــام : 38) يحتمــل المجــاز؛ لأن ]ســاعي[البـريـد ]لسـرعتـه[يسمــى طـائـرًا, فـإذا قـال }يَطِيرُ بِجَنَـاحَيْــه{بيـن أنـه أراد الحقيقــة»(108).
وممـن نبــه إلى دور القــرائـن في إيجـاد القطــع, الفخــر الــرازي الــذي علــق على الــرأي القــائـل بــأن الـدلائـل النقليــة لا تفيــد اليقيـن بقـولـه : «واعلــم أن الإنصــاف أنـه لا سـبيل إلى استفـادة اليقين مـن هـذه الـدلائـل اللفظيــة إلا إذا اقـترنت بهــا قـرائـن تفيـد اليقيـن ســواء كـانت تلـك القــرائـن مشــاهـدة أو كــانت منقــولــة إلينـا بالتـواتـر»(109).
وبانتبــاه إمــام الحـرميـن وغــيره مـن الأصــولييـن إلى أثــر القـرائـن في «تكـثــير النصـوص» يكـونـون قـد وقفــوا بشكــل أو بـآخــر على مقتـل الـرأي القـائـل بــ «عـزة النصــوص», حيث تبيـن أن نظـرة أصحـابـه إلى النصــوص كــانت نظــرة تجــزيئيـــة, كمفــردات أو مـركبــات بسـيطـة لا عـلاقـة لبعضهــا بــالبعـض الآخـر, مغفـليــن الأثـر الكبيــر الذي تلعبـه القـرائـن المحيطـة بالنص والأسيقـة الملتفــة حــولـه في إكســابـه مضـامينـه القطعيـة.
لكــن أليس ثمــة نقـد يتـوجـه إلى نظـريـة القـرائـن ودورهــا في تكثيـر النصـوص ؟
بلى, وهـذا مــا وجـدنــاه لـدى الإمــام الشــاطبي عنـد عـرضــه نظـريتــه الجـديـدة في إيجــاد القطــع, ألا وهـي الاسـتقـراء, والتي سنبحثهــا فيمــا يـأتي :
ثالثــاً : نظـريـة الاسـتقـراء :
في المقـدمــات الثــلاث الأولى مـن كتــابـه المـوافقــات مهّــد الشــاطبي لنظــريتــه في الاستقــراء ثــم عـرضهــا :
ففـي المقـدمــة الأولـى بـرهـن على اشـتراط القطــع في الأدلــة الأصــوليــة قـائـلاً : «أصــول الفقــه فى الـديـن قطعيــة لا ظنيــة, والـدليــل على ذلـك أنهــا راجعــة إلى كليــات الشـــريعـة, ومــا كــان كـذلـك فهــو قطعــي…»(110)ثــم أفــاض فـى الاســتـدلال لـذلـك.
وفي المقــدمــة الثـانيــة حصــر الأدلــة القطعيــة المستعملــة في علــم الأصــول في ثــلاثــة أنــواع : الأدلــة العقليــة, والأدلــة العـاديــة, والأدلـة السمعيـة, ثــم حصــر الأدلـة السمعيـة المفيـدة للقطـع في ثـلاثــة أنــواع :
1. الأخبــار المتـواتـرة في اللفــظ بشــرط أن تكــون قطعيـة الـدلالـة.
2. الأخبــار المتـواتـرة في المعنـى.
3. الاستقــراء في مـوارد الشـريعـة(111).
وفي المقـدمــة الثـالثــة بيّــن أن الأدلـة العقليــة لا مجــال لهــا مســتقلـة في إثبــات الأصــول؛ لأن «العقــل ليس بشــارع»(112), وإنمــا المعــوّل عليــه بالـدرجــة الأولى هـو الأدلــة الشــرعيـة. ووجـود القطــع في آحـاد هــذه الأدلـــة «معــدوم أو فــى غــايـــة النـدور»؟ والسـبب : «أنهــا إن كــانت مـن أخبـار الآحــاد فعــدم إفـادتهــا القـطع ظـاهـر, وإن كــانت متــواتــرة فـإفـادتهــا القـطع مـوقـوفــة على مقـدمــات جميعهــا أو غـالبهــا ظنــى, والمـوقـوف على الظنـى لا بـد أن يكــون ظنيًّــا, فـإنهـــا تتـوقف على نقــل اللغـات وآراء النحــو وعــدم الاشــتراك وعــدم المجــاز والنقــل الشــرعى أو العـادي والإضمــار والتخصيص للعمــوم والتقييـد للمطـلق وعـدم النـاســخ والتقـديـم والتـأخير والمعــارض العقـلـي, وإفــادة القطــع مـع اعتبـار هـذه الأمـور متعـذر»(113).
وبهـذا يكــون الشـاطبي قـد اعتمـد على دعـوى «انتفــاء النصـوص» في نفي القطعيـة عـن آحـاد الأدلــة الشــرعيــة. ثــم تطــرق إلى رأي القــائليــن بنظـريــة القـرائـن قـائـلاً : «وقــد اعتصــم مـن قــال بـوجـودهــا ]يعنــي الأدلــة القطعـة[بـأنهــا ظنيــة في أنفسـهـا لكـن إذا اقترنت بهــا قـرائـن مشــاهـدة أو منقــولـة فقـد تفيــد اليقيـن»(114). ثــم هــوّن مـن هـذا الـرأي بقــولـــه معقبًـــا : «وهـذا كلـــه نــادر أو متعـذر»(115). أي أن الشــاطبي يُقــر بـدور القـرائـن في «إيجــاد القطــع», لكنــه يشــكك في دورهــا في «تكـثـــير القطــع», وبذلـك «لأن القــرائـن المفيـدة لليقـين غــير لازمــة لكــل دليـل, وإلا لـزم أن تكــون أدلـة الشــرع كلهــا قطعيــة, وليس كـذلـك باتفــاق. إذا كــانت لا تــلزم ثــم وجـدنـا أكثــر الأدلــة الشــرعيــة ظنيــة الـدلالـة أو المتن والـدلالـة معًــا … دلّ ذلـك على أن اجتمــاع القـرائـن المفيـدة للقطـع واليقيـن نــادر على قـول المقـريـن بذلـك وغــير مـوجـود على قـول الآخـريــن»(116). وقــال في مـوطـن آخــر : «وليــس كـل حــال ينقــل ولا كــل قـرينــة تقــترن بنفــس الكــلام المنقــول, وإذا فـات نقــل بعــض القــرائـن الـدالـة فـات فهــم الكـلام جملـة أو فهــم شــيء منـه»(117).
وبهـذا يكـون الشـاطبي قـد مهـد لنظـريتـه في الاسـتقـراء بـأفكــار أربـع :
إحـداهمـا : اشـــتراط القــطع في الدليــل الأصـولي.
والثــانيــة : المعــوّل عليــه في مســائل الأصـول الأدلــة الشـرعيــة لا العقليــة.
والثــالثــة : آحـاد الأدلــة الشـرعيــة لا تفيـد القطــع بنفسهــا.
والـرابعــة : إفـادة آحـاد الأدلـة للقــطع عـن طــريق القــرائـن نـادر أو متعـذر.
ليقــول بعـد ذلـك : «وإنمـا الأدلــة المعتبـرة هنـا المسـتقـرأة من جملـة أدلـة ظنيــة تضــافـرت على عنـى واحـد حتى أفـادت فيـه القـطـع, فــإن للاجتمــاع مـن القــوة مــا ليــس للافــتراق؛ ولأجلـــه أفــاد التـواتـر القطــع, وهـذا نـوع منــه, فـإذا حصــل مـن اسـتقـراء أدلــة المســألـة مجمــوع يفيـد العلــم فهــو الدليــل المطـلـوب, وهـو شــبيه بــالتـواتـر المعنــوي بـل هـو كـالعلــم بشجـاعـة علي, رضي الله عنــه, وجـود حــاتـم المسـتفاد مـن كثـرة الـوقـائـع المنقـولـة عنهمـا»(118).
وبهـذا يكــون الشـــاطبي يعــوّل على الاستقــراء, ولا شــيء غيــر الاستقـراء, في إثبــات قضـايـا الأصــول ابتـداء, وهـو بالفعــل مـا جـرى عليــه في كتـابـه المـوافقـات.
فيــا تــرى مـا هــو مقصــود الشــاطبي الـدقيق بالأســـتقـراء؟ وهـل هـو نفـس الاسـتقـراء الذي يذكــره المنـاطقـة في كتبهــم والأصـوليــون في قســم الأدلــة المختـلف فيهـا؟ ومـا عـلاقتـه بالتـواتـر؟ ومــا الفــرق بينــه وبيــن التــواتــر المعنــوى؟ ومــا عــلاقتــه بالقيــاس؟ وهــل يفيــد القطــع حقًّــا؟ وهـل تفــرد الشــاطبي بالاعتمـاد عليــه مـن بيـن الأصـولييـن؟ هـذه أسـئـلـة كثيـرة تـرد في هـذا المقـام, ولـم أر مـن شــفى الغليــل في الإجـابـة عنهــا, وهـي تحتــاج منــا إلى بحث مفــرد, ولـذلــك نعــتذر عـن مـزيـد كــلام في هــذا البـاب مكثفيـن بمـا أوردنـاه عن الشـاطبي في عـرض نظـريتـه وتـوضيحهـا. لكـن ممـا تنبغــي الإشــارة إليــه هـو أن الاستقــراء الذي قـرره الشــاطبى ذو أثــر مــزدوج في إفـادة القطـع؛ إذ إنــه يفيــد قطعيــة المعنــى المســتقـر ثبـوتًــا ودلالــة, أى أنـه يـوفـر حـلاًّ لإشكـاليـة القطــع في مجــال الثبــوت وفي مجــال الـدلالــة معًـا, وإنمــا أوردنــاه هنــا ولــم نـذكــره في الحــلول الأصــوليــة لإشــكـاليــة القطــع في محـال الثبــوت؛ لأن المقصــود بالـدرجــة الأولى في القطعيــة هـو الـدلالــة, وقطعيــة الثبــوت إنمــا تـراد كتمهـيد مـن أجــل البحث في الـدلالـة.
رابعًـا : نظــريـة اللفـظ الصــريح :
هـذه النظــريـة لـم تكــن في أصـل نشـوئهــا حـلاًّ أصـوليًّــا لمشــكلـة القطــع بل فقهيًّــا؛ ومـن هنــا اصطبغـت بالصبغـة العلميــة لا التنظيريـــة. وحـاصلهـــا أن الفقهـــاء ـــ والأصـوليـون مـن بعــد ـــ قسّـــمـوا الألفــاظ الصــادرة عـن المكلفيـن ويــترتب عليهــا أثــر شــرعي إلى قســميـن : صــرائـح وكنـايـات. فاللفـظ الصـريح ـــ كمـن قــال لـزوجــه : «أنـت طـالق» مثـلاً ـــ لا يتـوقف وقــوع مقتضــاه, وهـو الطـلاق في المثـال, على التحقيق مـن نيــة المكـلف أو النظــر في القــرائـن الحـاليــة التس احتفت به عنـد تلفظـه, أمــا اللفـظ الكنــائي ـــ كمـن قــال لـزوجـه : «الحقـي بــأهلـك» ـــ لا يقــع مقتضــاه إلا بعــد التحقيق مـن نيــة المكلـف أو الـوقـوف على قــرائــن حـاليــة تـدل على إرادتــه الطــلاق عنــد التــلفـظ, أي لا يُقبـل قــول المكـلف في تــأويــل اللفـظ الصـريح, ويقبــل قـولــه في تـأويـل اللفـظ الكنـائى, فمـن قـال : «أنت طــالق» لا يقبــل قــولـه : إنــي لـم أرد الطــلاق بـل أردت طـالقًـا مـن العقــال أو القيــد, أمــا مـن قــال : «الحقــي بــأهـلك», فيقبــل قـولــه : إنـي لـم أرد الطــلاق بل مجــرد اللحـاق بالأهـل لفتـرة مـرقتـة.
وعلـى هــذا فقــد تعــامــل الفقهــاء مـع اللفـظ الصــريح بـأنــه قطعـي, أو بعبــارة أدق, كــالقطعــي, ولــذا فهــو لا يقبــل التــأويـل, ويــترتب عليــه الحكــم المقــرر لــه قضــاء مـن غيــر نظــر في نيـة المكـلف أو بحث عـن القــرائـن المحتفـة بــه, مـع أن اللفـظ الصــريح من النـاحيـة اللغـويـة المجـردة قـد لا يكـون قطعيًّــا بل ظـاهـرًا محتمـلاً.
لكــن هــل يشمـل الصــريح كـل ظــاهـرا؟ هـذا مــا قـــد يُفهــم مـن كـلام الـزركشــس عنــدمــا عــرّف الصــريـح في اصطــلاح الأصــولييـن بـأنـه «مـا انكـشف المـرادمنـه فى نفســه,فيـدخــل فيــه المبيـن والمحكــم»(119)؛ لأن «المبــين» و «المحكــم» في اصطــلح الجمهـور يشمــلان «النــص» و «الظـاهــر».
والــذي نجـده بعــد التتـبع هــوأن واحـدًا بيـن الأصــولييـن. فبعضهــم يقصـره على اللفـظ قــاطــع الـدلالــة وبالتـالي يخــرج الظـاهـر منــه كمــا كنــا قـد أشــرنـا في مـوضــع ســابق مـن هـذا البحث,وبعضهــم يـدرج اللفـظ الظـاهـر فيــه(120). ومـن جهــة أخـرى فـإن بعــض الأصـولييـن يطلقــه على مـا دل على معنـاه بالمطــابقــة أو التضمـن فقـط بـدون مــا دل بالالتــزام, وذلـك بغـض النظــر عـن قـوة دلالتــه(121).
أمــا «اللفـظ الصــريح» في الاســتعمــال الفقهــي فنجــده يضــم نـوعيــن مـن الألفـاظ: اللفـظ القــاطــع واللفـظ قــوي الظهـور.أي أنــه لا يشمــل كـل ظــاهـر بل الألفــاظ الظـاهـرة التي لايتطـرق إليهــا الاحتمــال إلا نــادرًا حتى أنهــا تكــاد تقــرب مـن القــطع. ويظهــر هــذا بجــلاء مـن خــلال الألفــاظ التي يمثــلون بهــا للفـظ الصــريح, كـــ «أنت طــالق», و«بعـت», و «اشـــتريت»,و«نكحـت», و «أعتقت», وغــيرذلـك. قـال إمــام الحـرمين : «لايُشــترط ]في اللفـظ الصــريح[أن يكــون نصًّــا في وضــع اللســان لا يتطــرق إليــه تــأويـل, فــإن الصــريح مــا يتكــرر على الشــيوع : إمــا في عــرف الشــرع, أو في عـرف اللســان, وإذا حصــل ذلـك لـزم إجــراء اللفـظ على ظــاهـره ولا يقبــل العــدول عـن مـوجب الظــاهـر في الظـاهـر, وأمـر الســر محــال على الأحكــام البـاطنـة, ويـوضحــه أنــه لـو قــال لامـرأتــه : أنت طــالق حكمنــا بالطــلاق, ولا يقبــل مـن الـزوج في الظـاهـر قــولـه : أردت مـن وثـاق, وإن أمكــن ذلـك مـن طــريق الاحتمــال فـإن الصــريح حقــه أن يجــرى على الظـاهـر في ظـواهــر الأحكــام»(122).
وبهــذا نجــد أنالفقهــاء تحـرروا مـن عقــدة الاعتمــاد على القطعــي فقــط, وبالتــالي لـم يكتـرثــوا بالاحتمــال البعيــد إذا اكتنف بــاللفـظ, فعـامـلـوا الألأفـاظ القطعيــة والقـريبــة مـن القطــع معـاملــة واحـدة, حفظًـا لمصــالح النـاس, وضيطًــا للقضــاء.
وممـا تجـدر الإشــارة إليــه هـو أن متقــدمــي الفقهــاء ـــ كــالشـــافعـي مثـلاً ـــ عنـدمــا كــانـوا يســـتعملـون مصطلـح «النص» مــا كـانـوا يقصـرونـه على الألفــاظ القـاطعــة غــير المحتملــة بــل يطلقــونـه حتى على الألفــــاظ «الظــاهـرة» أو «قـويـــة الظهــور» كمــا قــال ابــن دقيـق العيـد(123), وهــذا يشــبه اســتعمـال مصطـلح «اللفـظ الصـريح»عنـد متــأخــري الفقهــاء,وينطـلق مـن نفــس المنطـلق. بــل حتـى مصطــلح «اليقــين»الــذي هــوالأصــل القـديـم لمصطــلح «القطــع» لـم يكــن يعنــي نفــي مطــلق الاحتمــال في لغـةالإمــام الشــافعـي مثـلاً, بــل نفــي الاحتمــال القــريب فحســب, ومـن هــنـا قـال الســبكـيفي تفســير قــول الشــافعـي : «إنـي ألــزم النــاس أبـدًا اليقيـن وأطــرح عنهــم الشـــك ولا أسـتعمـل عليهــم الأغلـب»(124) : «لــو قــال ]المقــر بــأن عليــه دراهــم[: أردت بقــولي : دراهــم, درهمـــين, لـم يُقبــل … وكـون الإقــرار مبنيًّــا على اليقيــن لا يقــدح فى هـذا؛ لأن هـذا يقيـن, فـإنــه مــوضـوع اللفـظ لغــة,وليــس المـراد بــاليقيـن القطــع»(125).وكـذا قـال الـزركشــي فيمســألـة أخــرى : «إن الشــافعـي, رضـي الله عنــه,لـم يـرد باليقيـن القطــع»(126).
خـامســاً : نظـريــة القطــع لنســبي :
فيمــا عــدا النصــوص المتشــابهــة التي اسـتـأثر الله تعـالى بعلــم معنــاهـا كـالحـروف المقطعـة في فـواتـح السـور فـإنـه لا يخــلـو نص مـن النـصوص, مهمـا غمـض أو وضـح, مـن أن يتضمـن دلالـة أو عـدة دلالات قطعيـة على بعـض المعـانى, أى أن قـدراً من القــطع كــامـن في كـل نص يُفــرض خـلا المتشــابـه.
بــرهــان ذلـك, أن النـص, وكمــا ســبق أن بيّنـا, لا يخــلـو مـن أن يكــون إمـا غـامضًـا وإمـا واضحًـا.
والــواضــح لايخـلـوا أن يكــون إمـا ظـاهـراً وإمـا قـاطعًـا (= نصًّــا).
فــأمــا النــص القــاطــع فهـو مـن خــلال الفــرض يتضمـن دلالــة قطعيـة فـلا حـاجـة للكـلام فيـه.
وأمــا النـص الظـاهـر : كــالعــام الذي يحتمــل التخصــيص, والمطــلق الذي يحتمــل التقييـد, والحقيقـة التي تحتمـل المجـاز فـلا بـد لــه مـن أن يشــتمـل على دلالــة قطعيــة.وذلـك؛ لأن اللفـظ العــام إنمــا هـو ظني في اســتغــراق جميــع الأفــراد,بينمــا ع=هـو قطعــي في الـدلالــة على أقــل الجمــع, فمـن قــال : جــاء طـلاب المـدرســة, فكــلامـه هـذا ظنـي في اســتغـراق جميــع الطـلاب لكنـه قطعــي في قــدومواحــد أو اثنيـن مــن الطــلاب على الأقــل وإلا كـان كـذبًــا؛ ومـن هنــا قــال الأصـوليــون بـأن العام يـدل على أقــل الجمــع قطعًــا, وقـالـوا أيضًــا بـأن صـورة السـبب داخـلـة في العمــوم الـوارد عليهــا قطعًــا ولا يصـح إخـراجهــا بالتخصيص(127).
وأمــا اللفـظ المطــلق فهــو ظنـي في التجـرد عـن القيـود لكنـه قطعـي في طـلب المـاهيـة أو الإخبــار عنهــا, ثــم هـو قطعـى في الـدلالــة على الـوحــدة لا الكــثرة, فمـن قــال : أعطنـى كتـابًــا, فكــلامــه هـذا قـاطـع فى تحـديـد مـاهيـة المطـلـوب وهـي الكتـاب, ثـم هـو قطعــي في كـون هــذا المتــاب واحـدًا على الأقـل, وإنمــا المظنـون فيــه هـو أنـه هـل يشتمــل على أوصــاف زائـدة عن المـاهيـة (تقييـدات) أم لا, ككــون الكتــاب في النحـوأو الفقـه, أو ككـون لهـذا المـؤلـف أم ذاك, وغيـر ذلـك من القيـود.
وأمــا الحقيقــة التـي تحتمــل المجــاز, كـاللمـس الــوارد فيقــولــه تعــالى :}أَوْ لاَمَسْـتُمُ النَّسَــاء{(النســاء : 43), والـذي يـدل ظــاهـراً على اللمـس الحســى لكنــه يحتمــل الجمـاع, فالقـدر القطعـي فيـه هـو أن اللمــس يـدوربيـن هـذيــن المعنـيين ـــ اللمـس الحســي والجمــاع ـــ فحسب ولا يخــرج عنهمــا. وعليـه فنحـن نعلــم قطعًــا بـأن النظــر إلى النســاء لا يدخــل في معنــى لمس النســاء فليس هـو نـاقضًــا للـوضـوء قطعًــا. فالقطعيـة هـا هنــا إذن إنمـا هـى في حصـر الظـن بمجـال معـين, ثـم نفــي كـل مــا يخــرج عن هـذا المجـال.
هــذا فيمــا يتعــلق بالنصــوص الـواضحــة, وأمــا النصــوص الغـامضــة ـــ مــا عـدا المتشــابهـة ـــ فكـذلـك لا بـد لهــا مـن مضــاميـن قطعيـة.
فاللفـظ المجمـل (كليًّــا) كـالصلاة, لا أثـر لإجمـالـه؛ لأن الفـرض هـوأنـه مـا مـن مجمــل إلا وبُيـن, فــإذا لـم يبيـن فهــو ليـس بمجمــل بل متشــابـه. وبعـد البيـان يتحــول المجمــل بحسب وضــوح البيــان إمــا إلى نـص أو ظــاهـر أو ربمــا مشــترك, فـأمــا النص والظـاهـر فقـد بينـا كيفيـة اشتمــالهمـا على الـدلالــة القطعيــة, وأمــا المشتـرك, ةمثلــه المــؤول, فالقـدر القطعـي فيهمـا هـو حصــر الظـن في مجــال معيـن لا يتجــاوزه, فقــولــه تعـالى : }وَالْمُطَلَّقَــاتُ يَتَـرَبَّصْــنَ بِـأَنْفُسِـهِنَّ ثَـلاَثَــةَقُــرُوء{(البقـرة : 228), قطعــي في كــون مــدة الـــتربص لا تخــرج عـن ثــلاث حيــض أو ثـلاثـة أطهــار, فليســت هي ثـلات سنــوات مثـلاً أوغيــر ذلـك قطعًــا.
وبهــذا نخـلص إلى أن كـل نص, مهمـا كــان, فـلا بـد لــه من مضمــون قطعـي واحـد على الأقـل وربمــا أكثــر, لكــن هـذا المضمـون هــو بالنسبــة إلى معــاني معينــة دل عليهــا النص لا بالنســبة إلى كـل المعــاني التي اشــتمـل عليهــا, وممـن نبــه إلى قـريب مـن هـذا الإمــام الغــزالي رحمــه الله تعــالى, حــين قــال : «يجــوز أن يكــون اللفـظ الـواحــدُ : نصًّــا, ظـاهـراً, مجمـلاً, لكـن بالإضــافــة إلى ثــلاثــة معــان لا إلى معنــى واحــد»(128), ومثــالـه قــولــه تعــالى : }وَءَاتُـوا حَقَّــهُ يَــوْمَ حَصَــادِه{(الأنعــام : 141) فهــو ظــاهـر في إيجــاب الإيتــاء, مجمــل في قـدر المـؤتى, نصٌّ في وقـت إيتـائـه. ولأجــل هـذه النســبيـة في الـدلالـة على القطــع وغيـره أسمينــا هـذه النظــريـة بنظــريـة القــطع النسبي.
وهـذه النظـريـة هـى حقيقــة ثـابتـة ومعــلم واضــح في المنهــج الأصــولي في التعــامـل مـع النصــوص وإن لـم يذكــروهــا صـراحــة أو يعـرفــوا بهــا.
وهـذا يجعلنــا نقـرر أن المنهــج الأصــولي في فقــه النـص يتمــشى مـع نظـريـات التفسـير الـتي تـؤمـن بـدور المتكــلم في النـص, وأنــه لابـد في كـل نص مـن وجـود ثـوابت دلاليــة يقــوم عليهــا, وهـذه الثوابــت هي التى تمنحــه هـويتــه وكينـونتــه, وبالتــالي لا يصـح تجــاوزهـا أو التفـريـط بهــا, وإلا دخلنــا فيمــا يُســمى عنـدهــم بتعطيــل النـص. قـــام إمــام الحـرميـن : «ممـا غلّـظ الشــافعــي فيــه القــول على المـؤوليــن كـل مـا يـؤدي التــأويـل فيــه إلى تعطيـل اللفـظ»(129). ومــن هنــا قـالـوا لا يصــح استنبــاط علــة مـن النــص تعــود عليــه بالبطـلان(130). وكــم كــن نقــدهــم شــديـدًا لمنهــج البـاطنيـة في تفسيـر النص الذي يقـوم على إلغــاء ثـوابتـه ومضـامينـه القطعيـة(131).
ودور هــذه النظــريــة في إرســـاء القطــع وتكثيـره واضــح, وتكمـن أهميتهـا, فضـلاً عن ذلـك, فى الحكــم على بعـض نظـريـات التفســير الحـديثــة المتطـرفــة, لا سيمــا تلـك التي تعلـن «مـوت المـؤلف», وتلغـي دوره فيالنـص لتمنحــه للقــارئ, وتـؤمـن بلانهــائيــة الـدلالــة وكـونهــا في فضــاء خــال مـن كــل حـد وقيـد(132), بـأنهــا نظـريـات في غــايــة البعــد عـن النظـر الأصـولي, بل هـي محـل نقـد شـديـد من قبلــه, لمـا تنطــوي عليــه مـن تمييـع للنص وإهـدار لكينـونتــه وإلغــاء لقصـد المـؤلف فيـه.
والقــول بالقطــع النســبي لا يقف مـانعًـا دون تعــدد قــراءة النـــص, ودون استكشــاف معـاني جـديـدة ثـاويــة في النــص, وإنمــا يضــع حـدودًا لهـذا التعـدد وهـذا الاستكشـــاف, ليجعلــه محصــورًا بقضــاء معيــن هـو الفضـاء الذي لا يتجــاوز ثـوابـت النــص ومضــامينــة القطعيــة, المستفـادة أصـلاً من لغـة النص, ومـن الفهــم الجمهــوري لمفـردات هـذه اللغـة.
خــاتمـة البحث :
أمــا بعــد :
فتلخــص أهــم نتــائج هـذا البحث بالآتـى :
أولاً : إن الأصـولييـن يســـتعملون مصطـلح القطــع ومشتقـاتـه في معـان ثـلاثـة : أحـدهــا :العلــم النـاجـم عن نفــى الاحتمـال مطلقًــا, وهـو اصطــلاح الجمهــور.والثـاني : العــلم النــاجـم عن نفــي الاحتمــال إمــا مطـلقًـا, وإمــا لعــدم الـوقـوف على القـرينــة الـداعمــة للاحتمــال, وهـو اصطــلاح الحنفيــة .. والثــالث : الجــزم النــاجـم عـن العلـم, أو التقليـد.
ثــانيًــا :إمــا أن نعـــترف بــأن القطــع يتفـــاوت أو نقــول بـأن الظـن القــوي جـدًّا, والذي يكــاد يقـــارب القــطع, ينبغــى أن يتعــامـل معـه كــالقطــع.
ثـالثًـا : ثمــة مــوانــع مـن قطعيــة ثبــوت الـنص وهـى احتمــالا الكـذب أو الخطــأ فى الـروايــة, ومـوانــع تمنــع مـن قطعيــة دلالتــه, وهــى الاحتمـالات العشــرة التي تـرد على الألفــاظ : الكـذب أو الخطــأ في نقــل معــانى المـواد اللغـويــة للنـص, والمجــاز, والاشتـراك, والحـذف, والتخصيص, والنقــل, والتقـديــم والتـأخيـر, والنســخ, والمعــارض الشــرعـى أو العقـلي.وقــد انبنــى على الإقــرار بـورود هـذه الاحتمـالات دعــوتــان : إحـداهمــا دعــوى «انتفـــاء النصــوص», والأخــرى دعــوى «غـزة النصـوص».
رابعـــا : بعــد تقييــم الاحتمــــالات المذكــورة آنفًــا لاســيمـا الاحتمـالات المـانعـة مـن قطعيــة الـدلالــة نجـد أن تـأثيـرهــا في سلب القطعيــة عـن دلالــة النص مبــالغ فيـه.
خــامسًــا : وجـدنــا للأصــولييـن ثـلاث نظـريـات في تثبيت القطـع فى مجــال الثبــوت هـى : نظــريــة قطعيـــة وجـوب العمــل, ونظــريــة القــرائـن, ونظـريــة الحفــظ الإلهـ. وفي مجــال الـدلالـة وجـدنــا لهــم خمس نظـريــات في تكثـير القــطع, وهـى : نظــريـة عـدم جـواز تـأخــير بيــان الظــواهـر, ونظـريـة القـرائـن, ونظـريـة الاستقـراء, ونظـريــة اللفـظ الصـريح, ونظـريـة القطــع النسبي.
وآخــر دعــوانـــا أن الحمـــد لله رب العـالميــن.
***
المصــادر والمــراجع
- آل تيميــة : أبـو البـركــات عبـد الســلام, وولـده عبــد الحـليـم, وحفيـده, أحمـد ابـن تيميـة, المســودة في أصــول الفقـه, تحقيق محمـد محيى الـديـن عبـد الحميـد, القـاهــرة, مطبعـة المـدني.
- الأمــدي : سيف الديـن على بـن محمـد, الإحكــام في أصــول الأحكــام, تحقيق ســيـد الجميلي, بيــروت, دار الكتــاب العـربي, د1, 1404هـ.
- ابــن الأثيـر : مجــد الـديـن أبـو السعــادات المبــارك بــن محمـد الجــزري, النهـايـة إلى غـريب لحـديث ولأثــر, تحقــيق طــاهــر الــزواي ومحمـود الطنـــاحـي, بيــروت, المكتبـة العلميـة.
- الإســنوي : جمــال الديـن عبـد الـرحيــم, نهـايـة الســول شــرح منهــاج الأصــول, بيـروت, دار الكتب العلميــة, 1405.
- الأصفهــاني, أبــو عبـد الله محمــد بن محمـود بن عبـاد, الكـاشف عـن المحصــول, بيـروت, دار الكتب العلميـة, 1411هـ = 1998م.
- ابـن أميــر حـاج الحلبي : محمـد بن محمـد, التقــريـر والتحبيــر شــرح التحـريـر, تحقـيق مكتـب البحـوث والـدراســات, بيــروت, دار الفكــر, 1996م.
- البــاجـى : أبـو الـوليــد, ســـليمـان بـن خـلف, إحكــام الفصــول فى أحكــام الأصــول, بــيروت والـدار البيضـاء, دار الغــرب الإســلامـي, ط2, 1415هــ = 1995م.
- البخــاري : عـلاء الـديـن عبـــد العـزيـز بـن أحمـد, كشــف الأســرار عـن أصــول فخــر الإســلام, دار الكتـاب الإســلامى.
- البخــاري : محمــد بـن إسمــاعيـل, الصحيــح, تـرقيــم مصطفـى ديب البغـا, بيــروت, دار ابـن كثــير واليمـامـة, ط3, 1407هـ = 1987م.
- ابــن بــدران : عبــد القــادر بـن أحمــد الـدمشــقي, المـدخــل إلى المـذهب الإمــام أحمـد بـن حنبــل, بيــروت, مـؤسســة الـرسـالـة, ط2, 1401هـ.
- البـزدوي : فخــر الإسـلام على بـن محمـد بن الحســين, أصــول البـزدوي, مع كشــف الأســرار, بيــروت, دار الكتــاب الإسـلامي.
- الجــرجــانى : الســيد الشــريف على بن محمـد, شــرح المـواقف, بيــروت, دار الجيـل, 1997م.
- الجصـاص : أبــو بكــر أحمــد بـن علي الـرازي, أحكــام القــرآن, تحقيـق محمـد صــادق قمحــاوي, بيــروت, دار إحيــاء التــراث العـربي, 1405هـ.
- الجصــاص : أبـو بكـر أحمــد بـن علي الــرازي, الفصــول فى الأصــول, تحقيق عجيــل النشــــمي, الكـويت, وزارة الأوقـاف والشــئون الإســلاميـة, 1405هــ.
- الجـوينــي : إمــام الحـرميـن عبــد الملـك بن عبــد الله, البــرهــان فى أصــول الفقـه, تحقيـق : عبــد العظيــم الـديب, المنصــورة, دار الـوفــاء, ط3, 1412 هـــ = 1992م.
- الحــاكـم : أبـو عبـد الله, محمــد بن عبـد الله, المســـتدرك على الصحيحيـن, بيـروت, دار الكتب العلميــة, 1411هــ = 1990م.
- ابـن حجــر : أحمــد بن علي العسـقـلاني, نـزهــة النظــر في تـوضيح نخبـة الفكــر, تحقيق نـور الـديـن عـتر, دمشــق, مطبعــة الصبـاح, 1413هــ ـــ 1992م.
- ابـن حــزم : أبـو محمـد علي بـن أحمـد, الإحكـام في أصــول الأحكــام, القـاهـرة. دار الحـديث, 1404هــ.
- أبـو الحســين البصـري : محمـد بن علي ابـن الطيب, المعتمـد فى أصــول الفقــه, تحقيــق خليــل الميس, بيــروت, دار الكتب العلميـة, 1403هــ.
- حميـد سمـــير : الهيـرمينـوطيقــا وانص القــرآنـى, عمــان, دار البيــارق, د. ت.
- الـدبـوســي : أبـز زيـد عبيـد الله بن عمــر, تقــويــم الأدلــــة, بيــروت, دار الكتب العلميــة, 1421هــ = 2001م.
- الــرازي : فخــر الـديـن محمــد بـن عمـر, المحصــول في علــم أصــول الفقــه, تحقيق طـه العلـواني, الـريــاض, جـامعـة الإمــام محمـد بن سعــود, 1400هــ.
- الـزركشـــي : محمــد بـن بهـــادر, البحــر المحيــط, المـدينــة المنـورة, دار الكتبي, د.ت.
- الــزركشــي : محمـد بـن بهــادر, المنثـور فى القــواعـد الفقهيــة, تحقيق تيسـير فـائق, الكــويت, وزارة الأوقــاف والشـــئون الإســلاميــة, ط2, 1405هــ.
- السبكــي : على بـن عبـد الكـافي, وولـده تـاج الـديـن عبـد الوهــاب بـن علي, الإبهــاج فى شــرح المنهــاج, بيــروت, دار الكتب العلميــة, 1404هــ = 1984م.
- الســرخســي : أبــو بكــر محمـد بن أحمـد, أصــول الســرخســى, تحقيق أبــو الوفــا الأقغــانى, بـــــيروت, دار المعــرفـــة, 1372هــ.
- ابـن السمعــاني : أبـو المظفــر منصــور بن محمـد, قــواطــع الأدلـــة فى الأصــول, بيــروت, دار الكتــب اعلميــــة, 1418هــ = 1997م.
- الســيوطــي : عبـد الـرحمــن بن أبي بكــر, الأشبــاه والنظـائـر في قــواعـد وفــروع فقــه الشــافعيـة, بيـروت, دار الكتب العلميــة, 1403هـ.
- الســيوطــي : عبـد الـرحمـن بـن أبي بكــر, الأشبـــاه والنظــائـر في قـواعـد وفــروع فقــه الشــافعيــة, بيــروت, دار الكتب العلميــة, 1403هـ.
- الســيوطـي : عبـد الـرحمـن بن أبى بكــر, تــدريب الــراوي فى شـــرح تقــريب النــواوي, تحقيق عبــد الـوهــاب عبـد الطيف, الـريـاض, دار الفكــر, مكتبـة الـريـاض الحـديثـة, د.ت.
- الشــاشـي : أبـو علي الشــاشي, لأصــول الشــاشـي, بيــروت, دار الكتــاب العـربي, 1402هـ.
- الشــاطبى : إبـراهيــم بـن مـوســـى الغـرنــاطــي, المـوافقــات, تحقيق وشــرح عبـد الله دراز, بيــروت, دار المعـرفـة.
- الشــافعـي : محمـد بـن إدريس, الأم, بيـروت, دار المعـرفـة, ط2, 1393هــ.
- الشــوكــاني : محمـد بـن علـى, نيــل الأوطـال شــرح منتقــى الأخبـار مـن أحــاديث ســيد الأخبـــار مـن أحــاديث ســيـد الأخبــار, بيــروت, دار الجيـل, 1973م.
- ابـن أبــي شــيبــة : أبــو بكــر عبـد الله بـن محمـد, مصنـف ابـن أبـى شــبيـة, الـريـاض, مكتبــة الـرشـد, 1409هــ.
- الشــيرازي : أبــو إســحـاق إبــراهيــم بن علـي, شــرح اللمــع, تحقــيق عبـد المجيـد الــتركــي, بيــروت, دار الغـرب الإسـلامــى, 1408هـ = 1988م.
- الشــيرازي : أبــو إسحــاق إبــراهيــم بن علي, اللمـع فى أصـول الفقــه, بيـروت, دار الكتب العلميــة, 1405هـــ = 1985م.
- صـدر الشــريعـة : عبيـد الله بن مسعــود الحنفــي, التـوضــيح لمتـن التنقيـح, مصـر, مكتبـة صبيـح, د.ت.
- الصنعــاني : أبــو بكــر عبـد الــرزق بن همــام, مصنــف عبـد الـرزاق, تحقيـق حبيب الـرحمـن الأعظمــى, بيـــروت, المكتب الإســلامـي, ط2, 1403هــ.
- الطبــرانـى : أبــو القــاســم ســليمــان بـن أحمـد, المعجــم الكبيـر, المـوصــل, مكتبـة العلـوم والحكــم, ط2, 1404هـــ = 1983م.
- الطبـري : أبــو جعفــر محمــد بـن جـريـر, تفســير الطبــري, بيــروت, دار الفكــر, 1405هــ.
- العكـبري : أبـو عالي الحسـن بن شهـاب الحسـن, رســالـة فى أصــول الفقـه, تحقيــق مـوفق بن عبـد الله, بـيروت, دار البشــائـر الإســلاميــة, 1413هــ = 1992م.
- الغــزالـي : أبـو حــامـد محمـد بن محمـد, المســتصفـى من علـم الأصــول, بيـروت, دار الكتب العلميـة, 1413هـ.
- الغــزالـي : محمـد بـن محمـد بـن محمـد, المنخــول مـن تعليقـات الأصـول. تحقيق : محمـد حســن هيتـو, دمشــق, دار الفكـر, ط2, 1400هــ.
- ابــم فــارس : أبـو الحســين أحمـد بـن فــارس بن زكـريـا, معجــم مقـاييس اللغـة, نحقــيق : عبـد الســلام هــارون, بيـروت, دار الفكـر, ج5.
- القــرافي : شهـــاب الـديــن أحمـد بـن إدريس, شــرح تنقيــح الفصــول فى اختصــار المحصــول فى الأصــول, بيـروت, دار الفكــر, 1418 هــ = 1997م.
- القــرافـى : شهــاب الـديــن ألـو العبــاس أحمـد بـن إدريس الصنهــاجـي, نفــائس الأصــول, بيـروت, دار الفكــر, 1418هـ = 1997م.
- القــرافــى : شهــاب اـديــن أبـو العبــاس أحمـد بـن إدريس الصنهــاجـي, نفــائس الأصــول فلا شــرح المحصــول, حققــه محمـد عبـد القــادر عطــا, بيــروت, دار الكتب العلميــة, 1421هـ = 2000م,
- القـرطبــى : أبـو بكــر محمـد بـن أحمــد, الجــامع لأحكــام القـرآن, تحقـيق : أحمـد البـرودنـى, القــاهـرة, دار الشـعب, ط2, 1373هــ.
- ابـن قيــم الجـوزيـــة : محمـد بـن أبـي بكــر الجــوزيـــة, أعـام المـوقعيــن عـن رب العـالميـن, تحقيق : طــه سعــد, بيــروت, دار الجيـل, 1973.
- ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ, الصــواعـق المــرســـلـة علـى الجهميـــة والمعطلــة, الـريــاض, دار العـاصمــة, ط3, 1418هــ = 1998م.
- ابـن منظـور : محمــد بـن مكــرم بـن علي, لســان العــرب,بيــروت, دار صــادر, 1388هـ = 1968م.
- الميـدانـي :أبــو الفضــل أحمـد بــن محمـد, مجمــع الأمثــال, تحقـيق محمـد محـيي الديـن عبـد الحميـد, دار المعـرفـة, بيـروت, د.ت.
- النـووي : أبـو زكـريــا يحيـى بن شــرف, المنهــاج شــرح صـحيــح مســلـم بـن الحجــاج, بيــروت, دار إحيــاء الـتراث العـربى, ط2, 1392هـ.
- النيســـابوري : مســلـم بن الحجــاج, الصحيـح, تـرقيـم : محمــد فـؤاد عبـد البـاقي, بيـروت, دار إحيــاء التـراث العـربى.
- الهيثمــى : علـى بـن أبى بكــر, مجمــع الـزوائــد ومنبــع الفــوائـــد, القــاهــرة ـــ بيـروت, دار الـريـان للتـراث ـــ دار الكتـاب العـربي, 1407هـ.
الهـــوامـــش
(1)جـامعــة بـرونـاي دار الســلام.
(2) كــأبي الحسـين البصــري والآمـدي, بــل زعــم الآمـدي أن هــذا هـو اصطـلاح الأصـولييـن, وخُطَّـئ في ذلـك. انظـر : أبــو الحسـين البصــري, المعتمـد, ج1, ص5. والآمـدي, الإحكــام, ج1, ص27. والشـيرازى, اللمـع, ص5.
(3) انظــر : الـزركـشي, البحــر المحيــط, ج1, ص3.
(4)الشـاطبي, المـوافقــات, ج1, ص29.
(5) ابـن فـارس, معجــم مقـاييس اللغـة, المـادة قطــع.
(6) ابـن منظــور : لســان العـرب, ج8, ص276.
(7) ابـن منظـور : لســان العـرب, ج8, ص276.
(8) ابـن فـارس, معجــم مقــاييس اللغـة, المـادة قطــع.
(9) ابـن منظــور : لسـان العـرب, ج8, ص278.
(10) القـرطبي, الجـامـع لأحكــام القـرآن, ج6, ص427.
(11) الطبـري, تفســير الطبـري, ج7, ص195.
(12) مسـلم, الصحيح, (510), كتــاب الصـلاة, بـاب قـدر مـا يسـتر المصـلي, ج1, ص365.
(13) قـال النـووي : «العمـرى : قــولـه : أعمـرتـك هـذه الـدار مثـلاً, أو جعلتهــا لـك عمـرك أو حيــاتـك أو مـا عشت أو حييت, أو مـا يفيـد هـذا المعنـى». النـووي, شـرح صحيــح مســلم, ج11, ص70, 71.
(14) مســلم, الصحيــح, (1625) كتـاب الهبـات, بـاب العمـرى, ج3, ص1245.
(15) ابـن منظـور, لســان العـرب, ج8, ص278.
(16) جــاء في مجتمـع الأمثــال : «قطعت جهــيزة قـول كـل خطيب : أصــلـه أن قـومًـا اجتمـعـوا يخطبـون في صــلح بين حييـن قتــل أحـدهمـا مـن الآخــر قتيـلاً, ويســألـون أن يـرضـوا بالـديــة, فبينــا هـم في ذلـك إذ جــاءت أمــة يقــال لهــا جهـيزة فقــالت : إن القـاتـل قـد ظفــر بـه بعــض أوليــاء المقتــول فقتلــه, فقــالـوا عنـد ذلك : قطعت جهـيزة قــول كـل خطيب, أي قـد اســتغنى عـن الخُطب».
(17) الحــاكـم, المســتدرك على الصحيحيـن, ج3, ص11. وقـال : صحيح الإسنـاد ولـم يخـرجـاه. والطـبراني, المعجــم الكبيـر, ج4, ص49.
(18) ابـن الأثيـر : النهـايـة في غريب الحديث, ج3, ص 451.
(19) ابـن منظـور, لســان العـرب, ج11, ص522.
(20) الطبـرى, تفسيـر الطبـرى, ج15, ص41.
(21) الشــاطبي, المـوافقـات, ج1, ص35.
(22) «بيـان التغـيير» ومثــلـه «بيـان التبـديــل» هــو البيـان الذي يصــرف الظـاهـر عن ظهــوه, كـالعـام إلى الخـاص والمطـلق إلى المقيـد والحقيقــة إلى المجـاز, وهـو يخــالف «بيـان التفســير» الذى يبيـن المجمــل والمشــترك, فهـذا الأخــير يصــح مقـارنًـا ومـتاخيًـا, أمــا «بيـان التغـيير» فلا يصـح إلا مقـارنًـا فـإن تـراخـى كـان نسخًـا ورفعًـا لا بيـانـا. انظــر : الـدبوســي, تقــوم الأدلـة, ص221 ومـا بعـدهــا.
(23) انظـر : الـدبـوســي, تقــويـم الأدلــة, ص102. والبخـارى, كشـف الأســرا, ج1, ص79. وصــد الشــريعــة, التـوضيـح, ج1, ص248.
(24) الإسنــوي, نهـايـة الســول, ج1, ص37.
(25) الشـافعـى, الـرســالـة, ص478.
(26) الشـافعـى, الـرسـالـة, ص461.
(27) الغـزالي, المستصفـى مـن علــم الأصــول, ص196.
(28) انظــر : الشــافعـي, الأم, ج1, ص10, 67, 95, ج2, ص23, 69, 179, ج5, ص 31, 210, 232.
(29) انظــر : الجصـاص, أحكــام القــرآن, ج1, ص170, ج3, ص185, والفصــول فى الأصــول, ج2, ص 67, 252.
(30) نقـلـه عنــه : الـزكشـى, البحــ المحيــط, ج6, ص136.
(31) الآمـدي, الإحكـام, ج2, ص48.
(32) الجصــاص, أحكــام القـرآن, ج5, ص29.
(33) الغـزالي, المستصفـى, ص21.
(34) النــص مصطــلح شــائـك, ومتعـدد المعــاني عنـد الأصــولييـن بـوجـه عـام, وقــد أحصينـا لـه عشــرة معــان اصطــلاحيــة فى بحثنـا : «قـراءة نقـديـة في مصطــلح النـص في الفكــر الأصـولي».
(35) ابـن أمــير حـاج, التقـريـ والتحبيـر,ج1, ص199.
(36) الجـوينـى, البـرهــان, ج1, ص256.
(37) ابـن السمعــاني, قـواطــع الأدلــة, ج1, ص232.
(38) السيـوطـى, الأشبـاه والنظـائـر, ص293.
(39) كمــا هـو الحـال فى كـلا أبي الحســين البصـرى : «لا يجــوز على التــابعيـن مع شــدة تـدينهــم وإعظـامهــم للـديـن أن يقطعـوا على كـون شــئ حجــة في الشــرع بمـا لا يـوجب القطـــع واليقيـن». المعتمـد, ج2, ص18. وكـلام الشــيرازى : «طـريق العقليــات القطــع واليقيــن فـلا يجــوز الـرجــوع فيهــا إلى اجتهـاد الغــير». التبصــرة, ص107. وكـلام الآمـدي : «المعتــبر فى الأصــول القطــع واليقيــن ولا قطــع فـى خـبر الـواحـد». الإحكــام, ج2, ص64. وكــلام الـرازى : «مــا المــراد مـن قــولك : المخــاطب إمــا أن يكــون غـرضــه إفهــامنــا أو لا يكــون غــرضــه ذلك؟ إن عنيت بالإفهــام : إفــادة القطــع واليقيـن فليـس غـرضـه لـك». المحصــول, ج3, ص317. وكــلام ابـن القيــم : «وللظهــور مـراتب تنتهـى إلى اليقيـن والقطــع بمـراد المتكــلم بحسـب الكـلام فى نفســه ومــا يقــترن بــه مـن القــائـن الحـاليــة واللفظيـة وحــال المتكــلم بــه وغيــر ذلـك». إعــلام المـوقعيـن, ج3, ص 107 .. وكــلام البـزدوي : «اللفـظ الخــاص يتنــاول المخـصـوص قطعًــا ويقينًــا». أصــول البـزدوي, ج1, ص79, وغيــرهــم كثيـر.
(40) ابـن منظــو, لســان العــرب, ج13, ص457.
(41) القـرطبي, الجــامع لأحكــام القــرآن, ج1, 181.
(42) الشــافعـى, الأم, ج6, ص223.
(43) نقلـه عنــه, السـيوطـي, الأشبــاة والنظـائـر, ص54.
(44) الـزركشــي, المنثـور فى القـواعـد الفقهيـة, ج3, ص137.
(45) لمـزيـد مـن التــوســع انظــر ابـن أمــير حــاج, التقــريـر والتحبيــر, ج1, ص 54 ـــ 57. والغــزالي, المستصفـى, ص21. والشـوكـاني, إرشـــاد الفحــول, ص21.
(46) الغـزالي, المستصفــى, ص22.
(47) الجـوينـى, البـرهــان, ج1, ص110.
(48) الغـزالي, المستصفـى, ص35.
(49) قــال الهيثمــي في مجمــع الـزوائــد, ج1, ص153 : رواه أحمـد والــبزار والطــبرانـي في الكبيــر والأوســط ورجــالــه رجـال الصحيــج وصححـة ابـن حبـان.
(50) الجـرجـاني, شــرح المـواقف, ج3, ص543.
(51) البخــاري, الصحيـح, ج3, ص1061. ومســلـم, الصحيــح, ج1, ص106.
(52) الجـوينـي, البـرهـان, ج1, ص374, مع تقـديـم وتـأخير يســيريـن.
(53) انظــر : الشــيرازي, شــرح اللمـع, ج2, ص579. والـرازي, المحصــول, ج2, ص143. والبـاجـي, إحكــام الفصــول ج1, ص336. وابـن الســـمعـاني, قـواطــع الأدلــة, ج1, ص324. والقـافي, شــرح تنقيــح الفصــول, ص276. وانظــر أيضًـا : ابـن حجــ, نـزهـة النظــر, ص49.
(54) انظــر : الـرازي, المحصــول, ج2, 146. والشــيرازي, شــرح اللمـع, ج2, ص653. والسـرخســـي, أصــول الســرخـســى, ج1, ص339 ـــ 341, ص368, وج2, ص6. وابـن الســـمعـاني, قـواطــع الأدلــة, ج1, ص358 ــ 365. والبـاجـي, إحكـام الفصــول, ج1, ص487.
(55) انظــر ابـن السمعــاني, قـواطـع الأدلــة, ج1, ص265. وهـذا ولا يعتــرف البعـض بـوجــود مثــل هـذا النــوع من الألفـاظ فى النصــوص الشـرعيــة, نـاصسـن على أنـه لا يجـوز أن يخـاطبنـا الله تعــالى بمـا لا يفهــم معنـاه. انظــر : ابـن أميـر حـاج, التقـريـر والتحـبيـر, ج2, ص290. وابـن تيميـة, المســودة, ص147. والآمـدي, الإحكــام, ج1, ص220.
(56) انظــر : ابـن الســـمعـاني, قــواطــع الأدلـــة, ج1, ص263. والآمــدى, الإحكــام, ج3, ص11. والأنصــارى فـواتــح الـرحمــوت, ج2, ص22.
(57) انظــر : القـرطـبي, الجــامـع لأحكــام القــرآن, ج7, ص206. زابـن منظـور, لسـان العـرب, ج11, ص123.
(58) لا يـوجــد في عـالـم الألفـاظ أو المـوضــوعـي حـدود دقيقــة فـاصلــة بيـن أنـواعهــا, كمــا هـو الحـال في عـالم الأرقــام, وإنمـا هنــاك تـداخــل بين كــل رتبــة والتي تليهــا, والتمثيــل باللغــة الحســابيـة إنمــا هـو للتـوضيــح وبيــان التســلســل المنطقـي لـدرجــات الغمــوض والـوضـوح لا أكثـر.
(59) انظــر : الزركشــي, البحــر المحيـط, ج1, ص58. والـرازي, المحصــول, ج1, ص547. والشــاطبى, المـوافقــات, ج1, ص35. وصـدر الشـريعـة, التـوضيــح ج1, ص247.
(60) وهـذه المــواد أنــواع ثـلاثــة هـي :
1. المــادة المعجميــة لمفـردات النص, والمعنـى الذي تــدل عليــه هـو «المعنــى المعجمـى», كـدلالــة المـادة «ض ر ب» على فعــل الضــرب, وهـو إيقــاع شــيء على شــيء.
2. المــادة الصـرفيــة لهـذه المفـرادات أيضًـا, والمعنـى الــذي تـدل عليــه هـو «المعنـى الصـرفي», كـدلالــة الصيغــة «فَعَــلَ» في «ضَـرَبَ» على حـدوث فعـل الضـرب في الـزمـن المـاضـي.
3. المــادة النحـويــة, أو التـركيبيــة التي تــألف على هيئتهــا النــص, والمعنـى الــذى تـدل عليــه هـو المعنـى «النحـوي» أو «النظمـي», كـدلالــة عـلامــة الـرفــع على الاســم مـع تقـدم الفعــل عليــه, كمـا هـو في قـولنــا «جــاء زيــد» على فاعليــة الاســم «زيـد» للفعــل «جــاء». وفي كتـابنـا «القــرائـن المحتفــة بالنص وأثـرهــا على دلالتــه» شــرح مســتفيض لهـذه المـواد اللغـويــة الثــلاث ولكيفيــة تضــافـرهــا لإعطــاء المعنـى الكـلي للنص.
(61) انظــر : الـزركشــي, البحــر المحيــط, ج1, ص58. والـرازي, المحصــول, ج1, ص547. والشـاطبي, المـوافقــات, ج1, ص35. وصـدر الشــريعــة, التــوضيـح, ج1, ص247.
(62) الجـرجـاني, شـرح المـواقف, ج1, ص205.
(63) الأصفهــانى, الكـاشف عن الحصــول, ج2, ص494.
(64) القــرافــي, نفــائس الأصــول, ج2, ص298 ـــ 300.
(65) نقلــه عنــه الـزركشــي, البحـر المحيـط, ج2, ص206.
(66) البخــاري, الصحيــح, ج5, ص2109, كتـاب الأضــاحـي, بـاب سنــة الأضحيــة. ومســلـم, الصحيــح, ج3, ص 1552, كتــاب الأضـاحـي, باب وقتهـا.
(67) البخــاري, الصحيــج, ج2, ص813, كتــاب الوكـالـة, باب الـوكـالـة فى الحـدود. ومســلم, الصحيـح, ج1, ص 419, كتــاب الحـدود, بـاب مـن اعتـرف على نفســه بالـزنـا.
(68) الجـويني, البـرهــان, ج1, ص278.
(69) لابـن القيـم كـلا مسـتفيض في هـذا الشــأن في كتـابـه : الصـواعـق المـرسـلـة, ج2, ص633.
(70) لا وجـود لهـذا اللفـظ «تقييـم» في المعجــم العـربي, ولـذا يعــده البعــض خطـأ شــائعـًا, وصــوابــه «تقــويـم» بالـواو. وهـذه في الحقيقــة منهجيــة لغـويـة لا نـرتضيهــا؛ لأنهــا تقف دون حـركــة «التطـور الطبيعـي» للغـة لعــوامــل كثــيرة ليس هـذا مكــان التفصــيل فيهــا. وفيمــا يتعــلق باللفـظ «تقييـم» فقـد كـان حـدوثــه نتيجـة لعــامـل طبيعـي يحكــم تطـور اللغــة وتـولـد الألفـاظ, وهـو أن كــل جمـاعـة لغـويــة تســعى قـدر الإمكـان إلى الابتعـاد عن الاشـتراك اللغـوي؛ لأنــه يخــل بالتفــاهـم, فاللفـظ «تقـويـم» يطــلق فى لغــة العــرب إزاء معنـيين على الســواء : أحـدهمــا : التقــويــم بمعنــى التعـديــل, ومنــه : قــومـت الغصن, بمعنــى تعـديلـك إيــاه كــي يكـون مستقيمًــا. والمعنـى الآخـر : التقــويـم بمعنى بيـان القيمـة المـاديــة أو المعنـويــة التى ينطــوى عليهــا الشــئ, منــه قـومـت الســلعـة, أي ذكــرت مـا تســاويـه من قيمـة. فلمــا كـان هـذا اللفـظ مشــتركًــا بيـن هـذيـن المعنييـن كـان طبيعًّيــا ومستحســنـاً أن يشتــق لفـظ جـديـد يـدل على هـذيـن المعنيين دون الآخـر, وبالفعــل فقـد اســتعمـل, وبتلقــائيــة, لفـظ «التقييـم», المشــتق مـن «القيمـة» ليـدل على المعنـى الثـاني للتقـويـم, وهـو بيـان مـا ينطــوي عليــه الشــئ من قيمـة مـاديــة أو معنــويـة.
(71) قــال الغـزالي : «مــا يعــرف باســتقـراء اللغـة وتصـفح وجـوه الاســتعمـال أقــوى ممـا يعـرف بــالنقــل الصـريح» الغـزالي, المستصفـى, ص206.
(72) الـرازى, المحصــول, ج1, ص294, 296.
(73) لاحــظ أنـه في حـالـة النســخ والمعـارضــة الشــرعيــة والعقليــة لا يُشــترط وجـود قـرينــة مـؤثـرة على دلالــة النص تـدل على المـراد من النص كمــا هـو فى الحـال في إرادة المجـاز مثــلاً؛ ولـذا يعـد النـاســخ نفســه والمعــارض نفســه شــرعيًّــا أو عقليًّــا هـو القـرينـة الـدالـة على المـراد مـن النـص.
(74) ابـن القيــم, الصــواعـق المـرســلـة, ج2, ص633 ومـا بعـدهــا.
(75) الصنعــاني, المصنــف, ج11, ص255. وابـن أبى شـيبـة, المصنف, ج6, ص142.
(76) عـزاه غــير واحــد إلى الطبقـات الكبــرى لابـن سعــد ولـم نقف عليــه بعـد التفتيش فاله أعــلـم بـه.
(77) انظــر : الـزركـشي, البحــر المحيــط, ج5, ص227.
(78) ابـن القيــم, أعــلام المـوقعيـن, ج3, ص107.
(79) الغــزالى, المنخــول, ص182.
(80) انظــر : الـزركشــي, البحـر المحيــط, ج2, ص103, 104.
(81) الجـوينـي, البـرهـان, ج1, ص388, 389.
(82) ابـن السمعـاني, قــواطــع الأدلــة, ج1, ص342.
(83) انظــر : أبــو الحســين البصــري, المعتمـد, ج2, ص98. والجـوينـي, البـرهــان, ج1, ص391. والغــزالي, المستصفـى, ص 116, والآمـدى, الإحكــام, ج2, ص52.
(84) انظــر : الـرازي, المحصــول, ج4, ص400. وأبـو الحســين البصــري, المعتمـد, ج2, ص92.
(85) الجـوينـي, البـرهـان, ج1, ص374, مـع تقـديــم وتـأخـير يسـيريـن.
(86) انظــر : الجـوينـي, البـرهـان, ج1, ص379؟
(87) انظــر : الســيوطي, تـدريب الـراوي, ج1, 131.
(88) نقــله : الجـوينــي, البـرهــان, ج1, ص379.
(89) ابـن بـدران. المـدخــل إلى المـذهب الإمــام أحمـد, ص115.
(90) الجـوينــي, البـرهــان, ج1, ص392.
(91) الـزركشــي, البحــر المحيـط, ج6, ص 137 ـــ 138.
(92) ابـن حــزم, الإحكــام في أصـول الأحكـام, ج1, ص114.
(93) ابـن حــزم, الإحكــام فى أصــول الأحكــام, ج1, ص114.
(94) قـد ينــازع البــعض في أصــل حفـظ السنــة, ولا يقيسهــا على القــرآن, لـوفــرة الـدلائــل على حفــظ القــرآن مـن القـرآن نفســه, لكـن ليس ثمـة مـا يـدل قطعًــا على حفـظ السنــة. وللشــاطبي رأى خــاص في هـذا المقـام قـال, رحمـه الله تعـالى : «الحفــظ المضمــون فى قــولــه تعـالـى : }إنَّـا نَحْـنُ نَـزَّلْنَــا الـذَّكْــرَ وَإِنَّـا لَــهُ لَحَـافِظُـون{إنمــا المـراد بـه حفــظ أصـولـه الكليـة المنصـوصـة, وهـو المـراد بقــولـه ــ تعــالى : }الْيَــومَ أَكْمَلْتُ لَكُــمْ دِينكَــمْ{أيضــاً لا أن المــراد المســائـل الجـزئيــة, إذ لـو كـان كـذلـك لـم يختـلف عـن الحفــظ جـزئـي مـن جـزئيــات الشـّريعــة وليس كـذلـك؛ لأنـا نقطــع بالجـواز, ويـؤيـده الـوقــوع لتفــاوت الظنــون وتطــرق الاحتمــالات فى النصــوص الجـزئيــة ووقـوع الخطــأ فيهــا قطعًــا, فقــد وجـد الخطـأ فى أخبــار الآحـاد, وفي معـاني الآيـات, فـدل على أن المـراد بالذكــر المحفــوظ مـا كـان منـه كليًّــا».المـوافقــات, ج1, ص32.
(95) انظــر : الشــاشـى, أصــول الشــاشـي, ص272. وابـن أميـر حـاج, التقـريـر والتحبيـر, ج1, ص54.
(96) انظــر : ابـن منظــور, لســان العـرب, المـادة ظـنن, ج13, ص272.
(97) انظــر الجصــاص, الفصــول, ج2, ص45. والـدبـوسـى, تقــويـم الأدلـة, ص102, والسـرخسـي, أصــول السـرخسـي, ج2, ص29. والشـوكـاني, إرشــاد الفحــول, ص294. والغـزالي, المستصفـى, 192, وابـن السمعـاني, قـواطــع الأدلـة, ج1, ص295.
(98) قـال الجصـاص : «ليـس جـواز دخــول الاستثنــاء على لفـظ العمـوم, وجـواز تخصيصـه, بمــانع مـن أن يكـون مصًّـا إذا لم تقــم داـة التخصيص, كمـا أن العـدد الذي يتنـاولـه اسـم العشــرة منصــوص عليـه بذكــر اعشــرة مع جـواز دخــو الاستثنـاء عليهــا», الجصــاص, الفصـول, ج1, ص60.
(99) البخــاري, الصحيـح, ج5, ص1965. ومســلم, الصحيح, ج2, ص1029.
(100) انظــر : ابـن أميـر, التقـريـر والتحبيـر, ج2, ص292.
(101) صـدر الشـريعـة, التـوضيــح, ج1, ص248.
(102) الغـزالي, المنخــول, ص165.
(103) المـرجـع الســابق.
(104) المـرجـع الســابق, ص166.
(105) الغـزالـي, المستصفـى, ص196.
(106) الجـوينـى, البـرهـان, ج1, ص278.
(107) الجصــاص, الفصــول في الأصــول, ص61.
(108) السـرخســي, أصــول السـرخسـي, ج2, ص28.
(109) الـرازى, المحصــول, ج1, ص575.
(110) الشــاطبي, المـوافقـات, ج1, ص29.
(111) الشــاطبى, المـوافقـات, ج1, ص34.
(112) المـرجـع الســابق : ج1, ص35.
(113) المـرجـع الســابق : ج1, ص35.
(114) المـرجـع الســابق : ج1, ص36.
(115) المـرجـع الســابق : ج1, ص36.
(116) امـرجـع اســابق : ج2, ص50.
(117) الشـاطبي, المـوافقــات, ج3, ص 347.
(118) المـرجـع الســابق : ج1, ص36.
(119) الـزركشــي, البحـر المحيــط, ج2, ص249.
(120) لا سيمــا عنـد حـديثهـم عـم مســلك النص في مســالـك التعليــل. قـال الغـزالـي : إثبــات العلــة بالـدليـل النقلي «إنمــا يستفـاد مـن : صــريح النطــق, أو مـن الإيمــاء, أو مـن التنبيـه على الأسبـاب. وهـى ثــلاثـة أضـرب, الضـرب الأول : الصـريح : وذلـك يرد فيـه لفــظ التعـليل ” كقـولـه لكـذا, أو لعـلـة كـذا, أو لأجــل كــذا, أو لكيـلا يكـون كـذا, ومـا يجـري مجــراه مـن صيــغ التعليـل … إلا إذا دل دليــل على أنـه مـا قصـد التعليـل فيكــون مجـازًا, كمــا يُقــال : لم فعلــت ؟ فيقــول : لأنــي أردت أن أفعــل, فهــذا لا يصــح أن يكـون علـه, فهــو استعمــال اللفـظ فى غيـر محلـه». ]المستصفـى, ج2, ص288[. وقـال الآمــدي : «المســلك الثـاني : النص الصـريح : وهـو أن يذكــر دليــل من اكتـاب أو السنـة على التعليـل بالـوصـف بلفـظ مـوضــوع لـه في اللغـة من غيــر احتيـاج فيـه إلى نظـر واســتدلال». قــال الإبيــاري : («ليـس المـراد بالصــريح المعنـى الذي لا يقبــل التــأويـل بل المنطــوق بالتعليـل فيــه على حسـب دلالـة اللفـظ الظـاهـر على المعنـى». ]انظــر : الإحكــام, ج3, ص364, والـزركشــى, البحـر المحيـط, ج5, ص187[. وقـال العُكبـري فى تعــريف «النــص» : «النص : مــا رفــع بيـانـه إلى أقصـى غـايـة. وقيــل : مـا كـان صـريحًـا فى حكــم مـن الأحكـام, وإن كـان اللفـظ محتمـلاً لغيـره». ]العُكــبري, رســالـة فى أصــول الفقــه, ص105[.
(121) كـالشــاطبي إذ قــال «الأوامــر والنــواهــي ضـربـان : صـريح, وغيــر صـريــح». فسّــر ذلـك بمــا حـاصــلــه : أن الصـريـح مـا دل يصيغتــه على الطـلب, وغيــر الصــريح مـا دل بـلازمــه. وهــو ضـروب : منهــا, مثـلاً, «مــا يتـوقف عليــه المطــلوب كـالمفــروض في مســألـة ʼʼمــا لا يتــم الـواجب إلا بــهʻʻ … الخ». ]انظــر : المـوافقــات, ج3, ص144 ـــ 156[. وكمــا في قــول الشــوكـاني : «المنطــوق ينقستـم إلى قســميـن : الأول : مـا لا يحتمــل التــاويـل, وهـو النـص. الثـانى : مــا يحتمـلـه, وهـو الظـاهـر. والأول, أيضًـا, ينقســم إلى قسـمين : صــريح إن دل عليــه اللفـظ بالمطـابقــة أو التضمـن, وغــير صــريح إن دل عليــه بــالالتـزام. وغيـر صـريـح ينقســم إلى : دلالـة اقتضـاء, وايمـاء, وإشــارة». ]إرشــاد الفحــول, ص302[.
(122) نقلــه عـن كتــابـه نهــايـة المطــلب في درايــة المـذهـب : الـزركشــي, المنثــور في القـواعـد الفقهيـة, ج3, ص136.
(123) انظـر : السبكـي, الإبهـاج, ج1, ص215.
(124) الشــافعـى, الأم, ج6, ص223.
(125) نقلـه عنـه : السـيوطى, اشبـاة والنظـائـر, ص54.
(126) الزركــشي, المنثــور, ج3, ص137.
(127) انظــر : الجـوينـي, البـرهـان, ج1, ص256. والسبكــي, الإبهــاج, ج2, ص185.
(128) الغـزالـى, المستصفـى, ص196.
(129) الجـوينـي, البـرهـان, ج1, ص359.
(130) انظــر : الغـزالـي, المنخـول, ص201. والمستصفـى, ص325.
(131) انظــر, الغـزالى, فضــائح البـاطنيـة, ص56. والشـاطبي, المـوافقـات, ج1, ص86, وج3, ص394.
(132) انظــر : حميـد سمـير, الهـيرمينـوطيقـا والنص القـرآنـى, ص 14 ومـا بعـدهـا.