الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
تمهيد:
هذه الورقة تستهدف لفت النظر وتوجيه الاهتمام, على صعيد فكري بحت, إلى حركة ثقافية وفكرية تكاد تعم العالم الإسلامي المعاصر, تعمل على تبني منهج «الهيرمنيوطيقا» الغربي (Hermeneuties) وتطبيقه على القرآن الكريم والنصوص الدينية الإسلامية بوجه عام, مع إغفال تام لأصول التفسير وقوانين التأويل, في تراثنا الإسلامي العربي, للقرآن الكريم وما يتصل به
من بيان نبوي في السنة الموثقة, بل لوقائع التاريخ والتجربة الحضارية الإسلامية كلها, انطلاقًا من فرض مستبق لكل نظر علمي يقضى بأن التراث الإسلامي نظرًا وعملًا كان رجوليًّا منحازًا ضد المرأة, وقد آن الآوان للقطيعة الفكرية مع هذا التراث وإعادة تأويل القرآن والدين على أساس من هذا الفرض, وفي ضوء «الهيرمنيوطيقا» المسيحية الغربية.
ينهض بهذه الحركة في عصرنا هذا – وبالأخص خلال النصف الثاني من القرن الماضي – طائفة من الباحثين المثقفين ثقافة غربية, تكاد تخلو من تكوين علمي أصلي رصين في إطار الثقافة الإسلامية وعلومها الشرعية, ويقيم أكثرهم في الغرب حيث نشأوا وتعلموا واحتلوا مواقع بحثية وتعليمية في مؤسسات غربية, وبخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة, على حين يقيم القليل منهم في بعض بلاد العالم الإسلامي بعد أن تلقوا تعليمهم في الجامعات الغربية, يبثون التوجيه الفكري ذاته, ويمارسون هذا العمل الفكري التأويلي, الذي لا يمثل تيارًا عامًّا حتى الآن, ولكنه يعبر عن حركة نشطة على الصعيد الثقافي والبحثي يمكن أن تكون لها نتائجها وآثارها على حياة المجتمعات الإسلامية, وعلاقتها بتراثها الحضاري في المستقبل, ليس إلى حد القطيعة المبتغاة ولكن إلى حد التشويش على علاقة هذه المجتمعات بتراثها الثقافي والحضاري؛ مما قد يعوق مسيرتها نحو نهضة منشودة راشدة تضعها من جديد على درب التاريخ.
لهذه الحركة جانب لغوي يتهدد -في نظرنا- سلامة اللسان العربي وبيانه, فضلًا عن تراثه الديني والحضاري, وهذا ما دعانا إلى إثارة هذا الموضوع بين يدي حراس العربية وسدنة تراثها الفكري الحضاري, في مؤتمرهم السنوي, للدورة السبعين من حياة هذا المجمع العريق1, لا لنوقظ فتنة نائمة, معاذ الله, ولا لنعبدها جذعة بعد أن كادت تكتهل أو تشيخ, فما أريد إلا الإصلاح ما استطعت, بعرض الموقف عرضًا موضوعيًّا, في إطار المحور العاشر من محاور هذا المؤتمر المعني بالتنمية اللغوية, أعني أثر الثقافات المعاصرة في اللغة العربية, والأثر في حالتنا هذه للأسف غير حميد؛ لأنه يجافي قواعد المثاقفة الرشيدة, والتواصل الحضاري البناء, كما سنبين بعد قليل, من خلال خطوات ثلاث:
أولاهــا: عن أصول هذه «الهيرمنيوطيقا» وأطوارها, حتى الصيغة الحديثة والمعاصرة.
والثانيــة: عن أثر هذه «الهيرمنيوطيقا» على بعض رجالنا ونسائنا, ومحاولاتهم تطبيقها على التراث الإسلامي والعربي على نحو مسرف في الذاتية والانحياز, والمتابعة الكاملة لتجربة ثقافية نمت في بيئة غريبة عنا, دون أية روح نقدية أو محاولة تطويعية بما قد يتلاءم مع طبيعة تراثنا ولغتنا وحضارتنا.
والأخــيــرة: عن المتطلبات اللغوية المنهجية والفكرية «الهيرمنيوطيقا» إسلامية إن جاز هذا التعبير, تتناسب مع تراثنا الحضاري ولغتنا العربية وتجربتنا التاريخية المتميزة بطبيعة الحال, وأحسب أننا لسنا بحاجة إلى هذا المصطلح, وإنما استخدمناه لمجرد المقابلة قاصدين: «أصول التأويل العلمية للنصوص العربية الدينية» كما نمت وتشكلت في إطار ثقافتنا وعلومنا الشرعية, مع لمحة من النظر إلى مقابلاتها في التطور العلمي والفكري المعاصر.
1-«الهيرمنيوطيقا» الغربية:
نود قبل أن نتعرض لهذه النقطة الأساس من بحثنا هذا, باعتبارها الأصل الذي تولدت منه حركة التأويل النسوي لنصوصنا الدينية والحضارية, أن نقرر الاقتناع التام بأن التواصل بين الثقافات وخصوصًا الثقافة العربية المعاصرة والثقافات الأخرى, بما فيها الثقافة الغربية المعاصرة, أمر محمود ومطلب منشود؛ فضلًا عن أنه يكاد يكون في الظروف الراهنة, حتمًا لازمًا وأمرًا واقعًا لا مفر منه:
(أ) وذلك لأن التواصل الثقافي الرشيد يتجاوب مع طبيعة هذه الثقافة العربية الإسلامية؛ فهي تؤمن بوحدة الإنسانية وصدورها عن أصل واحد[1], وأن تعدد الشعوب وتنوعها مدعاة للتعارف والتواصل لا للصراع والتدابر[2], وتلك قيم بناءة جديرة بأن تؤسس لتواصل ثقافي وتبادل حضاري على مستوى إنساني.
(ب) وهي قد مارست هذا التواصل فعلاً دون عنصرية أو جمود, وأفادت منه في فترات ازدهارها, دون تردد أو صدود, يقول أبو يعقوب الكندي في صدر هذه التجربة الحضارية: «ينبغي أن يعظم شكرنا للآتين بيسير الحق فضلًا عمن أتى بكثير من الحق؛ إذ أشركونا في ثمار فكرهم, وسهلوا لنا المطالب…, وينبغي ألا نستحي من استحسان الحق, واقتفاء الحق من أين أتى, وإن أتى من الأجناس القاصية والأمم المباينة لنا؛ فإنه لا شئ أولى بطالب الحق من الحق». ويقول ابن رشد بعد قرون من ازدهار هذه التجربة الحضارية: «يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله مَنْ تقدَّمَنَا, وسواء أكان ذلك الغير مشاركًا لنا في الملة أم غير مشارك.. وأعني بغير المشارك من نظر هذه الأشياء من «القدماء» قبل ملة الإسلام, فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم, فننظر فيما قالوه من ذلك؛ فإن كان كله صوابًا قبلنا منهم, وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه»[3].
(ج) وأما أن هذا التواصل أمر واقع وحتم لازم؛ فإن ثورة المعلومات منذ أخريات القرن الماضي, وتدفقها الدائم عبر وسائل الاتصال المتنوعة, جعلا من التقوقع والانغلاق في عالم اليوم أمرًا مستحيلًا, ولكن يبقى السؤال: هل التجربة التي نحن بصددها تتسق مع هذه الروح التي عبر عنها كل من الكندي وابن رشد, أم أن الأمر جرى على نحو آخر؛ هذا ما قد يتبين من العرض التاريخي الموجز فيما يلي:
يعني بالهيرمنيوطيقا Hermeneutics قواعد التأويل والفهم للنصوص الدينية, وهو مصطلح قديم التصق بالثيولوجيا المسيحية, وتعرض لتطورات عدة في مدلوله ضيقًا وسعة حسب تطور الفكر الديني والفلسفي في سياق الحضارة الغربية ودراسات الكتاب المقدس, ويمكن أن نلخص هذه الأطوار المتفاوتة للمصطلح ودلالاته كما يلي:
1-الهيرمنيوطيقا: الأصول النظرية التي تعنى بتفسير النصوص الثيولوجية.
2-أو أسس تفسير الكتاب المقدس وتطبيقاتها.
3-أو العلم النظري والفن العملي المتعلقان بتفسير النصوص القديمة.
4-أو نظرية فهم النصوص الدينية والفلسفية والأدبية وتأويلها.
5-أو نظرية فهم النصوص الدينية والفلسفية والأدبية وغيرها وتطبيقاتها.
6-أو أصول تأويل المدونات المسجلة بالكتابة.
7-أو فهم صور الوجود الإنساني وتأويلها: وهو أوسع الدلالات التي انتهت إليها الفلسفة المعاصرة على يد هيدجر, بحيث تشمل كل الدراسات الإنسانية والاجتماعية, والواقع أن أكثر الفلاسفة المحدثين تأثيرًا في إحياء هذا المصطلح وتجديد أسسه الفكرية هو سّرل صاحب الظاهريات ببحوثه في تجنب الانحياز في الأحكام, وكان قد لحقه من قبل قدر كبير من التطور والتأصيل المعرفي على يد شلير ماخر ودبلثي, ثم الفيلسوف هيدجر فيما بعد كما أسلفنا, حتى قيل: إن التأويل أو (الهيرمنيوطيقا) قد وضعه الثيولوجيون ونماه الفلاسفة[4].
(أ) والقصة طويلة؛ فقد بدأ النص مع الإغريق وغلبت عليه عندئذ السمات الرمزية.
(ب) ثم انتقلت الهيرمنيوطيقا إلى العبرانيين وكان لفيلون الإسكندري دور في صبغها بصبغة مزدوجة تجمع بين الاتجاه الرمزي Allegory والفلسفة الإغريقية. ويتضمن «التلمود» شروح العهد القديم التي نمت على امتداد ثمانية قرون فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن السادس الميلادي, حتى عرفوا بأنهم أهل الكتاب والتأويل, واهتموا بوضع قواعد للتأويل حتى ظهر بينهم ظاهريون حرفيون كالصدوقين والقرائين, ولكن بقي التفسير الرمزي هو السائد وخصوصًا عند «القبالة», ثم عمل الربانيون على تطوير منهج وسط, وكان للمدرسة المصرية في القديم, والأندلسية في العهد الإسلامي دور بارز في هذا الصدد, وكما عمل فيلون على تقريب التأويل من الفلسفة الإغريقية, عمل ابن ميمون على تقريب من الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام[5].
(ج) ثم انتقلت الهيرمنيوطيقا إلى الكنيسة المسيحية, حيث غلبت عليها النزعة «الليجورية» الرمزية, ولكن حاول الآباء وضع قواعد لفهم الكتاب المقدس وتأويله عرفت بالقواعد الأوغسطينية الأربع, وهي:
1-التفسير بالمأثور أو تفسير النص بالنص ما أمكن؛ فهو لا يمكن أن يتناقض أو يختلف.
2-التفسير المجازي, ولكن حسب قواعد وملابسات أسلوبية تسوغ التعمق في الدلالة وراء الوجه الظاهري للمعنى.
3-التفسير حسب القواعد اللغوية لتعيين المعنى الدقيق للكلمة والتركيب.
4-التفسير حسب الظروف التاريخية, والأحداث المقارنة للنص.
وقد كانت هذه القواعد خطوة جيدة لضبط عملية التأويل وتقنينها إلى حد ما, ولكن الغلبة ظلت للطريقة «الليجورية« الرمزية, وذلك لتأثير الغنوص على البوادر التأويلية المبكرة للعهد الجديد, وقد ظهرت عند القوم – كما سبق لدى اليهود – الاتجاهات الثلاثة التي لا يخلو منها فكر ديني: النصيون الظاهريون, والرمزيون الصوفيون, والمعتدلون الوسطيون, وكان للأب كلينمت السكندري, ومدرسة إنطاكية دور في تطوير المنهج الوسط أو التكاملي بين نصية خالصة ورمزية مسرفة, ثم جاء أوغسطين فصاغ القواعد الأربع السالفة[6], وكانت الكنيسة تعتبر الكتاب المقدس ملكًا لها, ولها سلطة تأويله, حتى نزع الكاثوليك – لضبط التأويل وتجنب اضطرابه – إلى حصر هذه السلطة التأويلية في البابا وحده, مما كان سببًا في الحركات الاحتجاجية, بل الإلحادية الحديثة, مع أسباب أخرى مقترنة قرابة منتصف القرن الخامس عشر.
(د) ومن ثم ظهرت تأويلات متحررة من سلطة الكنيسة وإن لم تتحرر من قواعد التأويل نفسه (Hermeneutics) وأدت الثورة على التشدد الكاثوليكي, إلى أن ظهرت التأويلات البروتستانتية على يد لوثر وكالفن أوائل القرن السادس عشر, ويمكن أن نفرق بين الرجلين من حيث التأويل بأن لوثر:
1- يرفض سلطة البابا والكنيسة على التأويل.
2- ويرفض غلبة التأويل الرمزي الأليجوري غير المنضبط.
3- ويرى ضرورة استعانة المفسر على الفهم بالبعد التاريخي.
4- والرابع وهو الأهم أن يفسر النص نفسه بنفسه, أي بالتحليل اللغوي, وهداية الروح القدس.
ومن الواضح أن هذه الأربع تعديل جزئي على الأوغسطينات الأربع.
أما كالفن فيتفق مع قرينه مع مزيد تحفظ من الناحية الرمزية الإلهامية, على النحو التالي:
1-رفض سلطة البابا.
2-مراعاة السياق التاريخي للنصوص.
3-مراعاة القواعد اللغوية.
4-رفض الأليجورية الرمزية.
(هـ) وهذه المحاولات المتعاقبة تمت لضبط التأويل, أو جعل الهيرمنيوطيقا فنًّا مقننًا وليس عملًا سائبًا بلا ضفاف ولا حدود, ولكن ليس إلى حد غلق باب التأويل على غير البابا كما فعل الكاثوليك الذين اضطروا أن يقولوا: إن التأويل الفردي ممكن, ولكن لابد أن يكون متسقًا مع التأويل الرسمي المعتمد لدى الكنيسة.
ثم جاء العصر الحديث, وانطلقت العقول من عقالها, وبالغ المفكرون في إخضاع نص الكتاب المقدس للنقد التاريخي والتحليل اللغوي الحر خلال القرن السابع عشر, والثامن عشر, وكان لفلسفة التنوير Enlightenment أثر كبير كاد يعصف بقداسة النص ومحتوياته, كما ساعدت على ذلك حركة إحياء التراث الإغريقي التي بدأت قبل ذلك واستمرت بمناهجها في تحقيق النصوص وتأويلها, وكان للنزعة العقلية الديكارتية Rationalism على يد هوبز وسبينوزا دور في حركة التأويل الحر للنصوص الدينية, كما كا للفلسفة الإنسانية Humanism التي نادت بإخضاع النصوص الدينية لمقاييس النقد ذاتها التي تطبق على كل نص قديم أثر سلبي, فنجم عن ذلك ضروب من الإلحاد Deism والتمرد على الكنيسة, بل على التدين خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر, وظهرت آراء قوية تدعو إلى تجنب الذاتية في التأويل والتزام العقلانية والموضوعية[7].
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين تطورت الهيرمنيوطيقا على النحو الذي أجملناه فيما سبق, ولئن غلبت روح التحرر على المفكرين الغربيين عندئذ فإن بعضهم أسرف على نفسه في ذلك إلى حد الإلحاد وإنكار كل شئ ديني أو مقدس, فقد ولدت الهيرومنيوطيقا الحديثة في حجر الفلسفات العقلية والتنويرية والإنسانية.
وقد أسهم شلير ماخر (القرن الثامن عشر) في وضع نظرية الهيرمنيوطيقا على أسس معرفية مؤصلة, كما كان لهوسرل وجهوده في توقي التحيز في الأحكام وفي الاستماع المخلص لصوت الواقع ونبضه, وكذا جهود هيدجر (1889 – 1967م) تلميذ هوسرل وعديد غيرهم من المفكرين والفلاسفة المعاصرين, أثر واضح في نظرية الهيرمنيوطيقا وتعميمها على سائر الدراسات الإنسانية والفلسفية[8].
ويتضح مما سبق كيف نشأت الهيرمنيوطيقا في الفكر الغربي وتطورت منذ الإغريق إلى الوقت الحاضر, استجابة لعوامل حقيقية داخل هذاالفكر, وأهمها متطلبات فهم الكتاب المقدس وتأويله, وما صحب ذلك من تعقيدات يرجع بعضها إلى طبيعة الموضوع ومشكلات التوثيق والفهم, ويرجع البعض الآخر إلى مواقف الكنيسة والسلطة. ولا يمكن أن يدعي أحد أنه لابد أن تطبق المناهج بعينها على موضوعات متفاوتة وظروف مختلفة لمجرد التقليد, وأن نصطنع الهيرمنيوطيقا كما فعلوا قبلنا[9].
على أن حركة التوثيق والنقد قد بدأت لدينا منذ الصدر الأول في جو مفتوح وبأسلوب علمي يشهد له المختصون من غير المسلمين, فإن كان لابد من التقليد من حيث إعادة الفحص والنقد والتحليل فليكن في إطار ثقافتنا وبمواد وعناصر من تجربتنا العلمية, وبأسلوب موضوعي مقنن يتجنب سلبيات هذه التجربة التي لابد أن تحوى عيوبًا كسائر الأعمال الإنسانية, لك هذا ينقلنا إلى النقطة الثانية من هذا البحث.
2-حركة التأويل النسوي للنصوص الإسلامية:
كما ذكرنا في التمهيد فإن أكثر عناصر هذه الحركة نشاطًا مجموعة من النساء الكاتبات نشأن في بيئة غربية, وتلقين تعليمهن في المؤسسات الغربية, وما زلن يشغلن مواقع في تلك المؤسسات, وإن كان بعض منهن قد عاد إلى موطنه الأصلي وشارك في هذه الحركة أيضاً. ونضيف هنا أن بعض الباحثين المسلمين قد أسهم في ذلك اللون من الإنتاج الفكري أو مهد له على نحو أو آخر, في مناطق عدة من أنحاء العالم الإسلامي, ولعله من المناسب, بل من الواجب علينا, أن نذكر هنا أيضًا أن هناك تفاوتًا نسبيًّا في طبيعة الخطاب أو محتوى المقولات التي تعلنها هذه الحركة الفكرية, وتؤكدها بإعادة قراءة النصوص الدينية وتأويلها في ضوء المنهج الهيرمنيوطيقي: فمنهن المعتدلات – نسبيًّا كما أسلفت – اللاتي سلمن بالنص القرآني ويشتغلن بتأويله أو تفسيره حسب الاتجاه المذكور, ويرفضن من السنة ما يعتبرنه مضادًّا لحقوق المرأة, ويعلن الالتزام بالإسلام بوجه عام, ومنهن من بلغ بهن الغلو إلى رفض الأحاديث النبوية جملة, بل مناقشة النص القرآني نفسه من حيث الثبوت أو المصدر الإلهي لبعض آياته, وإعلان الدعوة إلى إسلام جديد أو «ثيولوجيا إسلامية« جديدة من خلال إخضاع النصوص القرآنية والنبوية وكل المحتوى الحضاري للتجربة الإسلامية إلى النقد التاريخي والفكري أسوة بما حدث في تاريخ الثقافة الغربية[10].
ومن ثم فإن النماذج التي سنتعرض لها فيما يلي ليست كلها سواء فيما تعلن من فكر أو تبلغه من مدى في نطاق التأويل الهيرمنيوطيقي, ولا في طبيعة «الخلفية» الثقافية التي تمد هذا التأويل أو التحليل.
أ- ومن النماذج التي نوردها هنا الأستاذ هرون ناسوتيون (1919م) الذي نشأ في إندونيسيا في أقصى الشرق من العالم الإسلامي, حيث تسود الشافعية فقهيًّا, والصوفية روحيًّا, والأشعرية فكريًّا وعقائديًّا, وتم في هذا الإطار تكوينه الأوّلي, ثم بعثه والده إلى الأزهر بمصر حيث نال الليسانس في الفلسفة والعقيدة, ثم رحل إلى الولايات المتحدة حيث حصل على ليسانس آخر في التربية, وبعد فترة عمل في «الدبلوماسية» الإندونيسية, وسافر إلى كندا (ماكجل) حيث حصل على الدكتوراه, وعاد ليعمل على تحديث الحياة الإسلامية في بلده, حيث آثر الاشتغال بالتربية وإعداد الباحثين في ضوء الحداثة الغربية, وأسهم كغيره من التحديثيين ي حركة «البانشاسيلا» (المبادئ الخمسة للديموقراطية الإندونيسية)؛ كمنهج وسط بين الأصولية والعلمانية, ومارس من خلال عمله التربوي تأثيرًا واضحًا على الفكر الإسلامي في بلده بمنهج تحديثي نقدي[11].
كان الأستاذ هرون يدعو في البداية إلى إحياء النسق الاعتزالي العقلاني في التفكير الإسلامي, ثم نزع إلى ضرب من الاجتهاد الحر وكان في هذين مساس واضح باثنين من عمد التفكير التقليدي بإندونيسيا, أعني الأشعرية والشافعية, ولكن في إطار من الالتزام الإسلامي العام, ولكنه لم يلبث أن أضاف إليهما نزوعًا باطنيًّا من وحي نظرية الفيض لدى الفلاسفة المسلمين مما لا يتسق مع توجهه العقلاني, ولا مع التراث التقليدي للتصوف الإسلامي, بل هو إلى الأفلاطونية المحدثة أقرب, وبهذ اكتمل النقد العلمي للمنظومة الفكرية التقليدية بعمدها الثلاثة, لصالح الفكر التحديثي الملائم للتنمية والموالي للثوابت الإسلامية من القرآن والسنة دون سائر عناصر التراث الإسلامي القابلة بل الواجبة التغيير في رأيه[12].
والغريب أن صاحب الوجهة الاعتزالية العقلانية لم يكتف بالنزوع الفيضي الأفلاطوني المحدث, وتسويغه بأنه, مع المناهج العقلية, سيؤدي إلى تنوع في المدارس الفكرية الاعتقادية والفقهية,مما يثري المجتمع, ويتفق مع «ديناميكية» الإسلام! بل إنه أخذ يتبنى أيضًا المنهج الهيرمنيوطيقي الذي تلقاه على يدي أستاذه «توشيكيو إيزوتسو» في «ماكجل» وزميله الباكستاني الأستاذ فضل الرحمن في تفسير القرآن الكريم تفسيرًا موضوعيًّا على خلاف النهج التقليدي وإن لم يتخل الرجل عن طابعه العقلاني الغالب عليه طوال حياته العلمية, مع قبول تام للحضارة الغربية المعاصرة بلا تحفظ أو نقد, ولكن مع استيعاب وتمثل دقيق لروح البحث العلمي في تلك الحضارة, ومحاولة توريثها لطلابه في مجال الدراسة العليا, وللصفوة من قادة المجتمع بأسلوب هادئ يتقبل كل التأويلات والمواقف, ويمهد الأرض للتحول في أناة وصبر؛ مما أفضى بعد ذلك إلى أطوار أكثر غلوًّا في الاتجاه الليبرالي التحديثي, تنسى الأصول الاعتزالية وتسرف في إعادة قراءة التراث الديني من منظور غربي علماني خالص[13].
ب-السيدة رفعت حسن (نموذج أخر من باكستان):
ولدت في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي لأسرة شيعية, وكان جدها شاعرًا وكاتبًا مسرحيًّا, وتعرف الأسرة بميولها الفنية لرعاية الموسيقى والرقص, وهي تحمل الآن الجنسية لأمريكية, وتعمل أستاذة للدراسات الدينية بجامعة «لويسفيل» بالولايات المتحدة, تلقت تعليمها قبل الجامعي في مدرسة لإرسالية مسيحية بلاهور العاصمة الثقافية لباكستان, وتوجهت إلى جامعة «درم» بإنجلترا فحصلت على ليسانس الشرف في الإنجليزية والفلسفة عام 1964م وعلى «الدكتوراه» عام 1968م عن فلسفة إقبال, محافظة على تفوقها طوال حياتها الدراسية. وربما كان من المناسب قبل عرض طرف من أفكارها التأويلية التي عبرت عنها في عديد من القالات التي تؤسس فيها – كما تقول – «ثيولوجيا نسوية» والثيولوجيا هنا بمعناها المسيحي العام غير المقتصر على العقيدة, بل الفكر الديني المتصل بالمرأة, بجانب كتب ثلاثة عن محمد إقبال – نقول: ربما كان من المناسب إيراد شئ هنا عن مفكر باكستاني أوردنا ذكره آنفًا كأستاذ في ماكجل بكندا؛ وهو الأستاذ فضل الرحمن (1919-1989 م) الذي مهد الأرض للأستاذة رفعت والمتأثرين بها لو بدون قصد[14], وقد تلقى المنهج الهيرمنيوطيقي على الأستاذ توشيكو أيزوتسو بماكجل, وعارض التعريف التقليد للقرآن, والتصور التقليدي للوحي تلاوة من الملك على النبي ج, وزعم أن الوحي جانبًا ذاتيًّا للنبي المتلقي, وادعى أن هذا هو الجانب الآخر الذي فشل البحث العلمي لدى المسلمين في اكتشافه والاعتراف به, وقد قضى الرجل حياة نشطة على الصعيد العلمي, وقد اضطر لمغادرة باكستان بعد أن رأس مجمع البحوث الإسلامية فيها, وكان ينظر إليه باعتباره حجة في الدراسة الإسلامية والقرآنية في الغرب, برغم نقده للكثير من المستشرقين هناك[15].
ولعل الأستاذ فضل الرحمن هو أول من طبق المنهج الهيرمنيوطيقي على القرآن, وانتهى إلى فكرة الذاتية المحمدية أو الغيرية والازدواجية في مفهوم الوحي, وإن لم يذهب إلى المدى الذي طبقه أركون من خلال المنهج نفسه فيما بعد.
أما رفعت حسن فإنها انطلاقًا من فرض مسلم لديها عن انحطاط مكانة المرأة في الفكر الإسلامي التقليدي – تحاول تفسير القرآن بالمنهج الهيرمنيوطيقي, من منظور نسوي بحت, لاكتشاف أحكامه المتصلة بالمرأة. ولتعيد صياغة النظرة الإسلامية للمرأة اعتمادًا على مصدر الإسلام الأول, بفهم متحرر يخلص النص من آثار الأحاديث التي تنتقدها بطريقتها وتنتهي إلى رفضها؛ لأنها تمس مكانة المرأة وحقها في المساواة الكاملة بالرجل؛ كحديث «الضلع الأعوج» الذي تعتبره أخذًا من جانب المسلمين بالنظرة النورانية لا القرآنية, وه تكاد تنفض يدها في «الثيولوجيا النسوية» من كل الأحاديث النبوية, حتى لو كان بعضها يوصي بالمرأة ويحض على إكرامها, وقالت بأن الفكر الديني والمرويات في ديانات الوحي الثلاث تتصور الخلق مبدئيًّا للرجل ثم تأتي المرأة من ضلعه, وأنها خلقت منه وله, وأنها سبب هبوط من الجنة والمسئولة عنه[16]. ويبدو أنها – وقد أجيزت أكثر من مرة في الثيولوجيا المسيحية – تجهل ما يعرفه كل طلاب الدراسات الإسلامية – حتى المبتدئين منهم – من أن هذه الأفكار الثلاثة غريبة على الإسلام, وهي تجهد نفسها بالحرب في غير ميدان بمحاولة متعسفة لتأويل الآية الأولى من سورة النساء منتهية إلى أن آدم ليس شخصًا بل هو الجنس البشري, وأن «زوج» في الآية لفظ مذكر لا يعبر عن المرأة, مستخدمة – بطريقة استشراقية – بعض المراجع اللغوية, وبالتالي فلا أولية في الخلق, وكلا الأصلين – للجنس البشري – متساويان. وتواصل هذا الجهد المضني في غير طائل؛ لأن المشكلة وهمية بالنسبة للنصوص الإسلامية, لتقرر أنها باطلة النسبة لنبي عرف بإنصاف المرأة والاعتراف بحقوقها[17], وهذا الجهد يكشف عن معرفة بالغة الضحالة باللغة العربية, وضعف باد في الإلمام بالعلوم الإسلامية والحقائق الشرعية, وبخاصة في أصول الحديث, وأصول التفسير, وأصول الفقه, وهي علوم لازمة لمن يتصدى لتفسير القرآن الكريم أو دراسته على أي نحو علمي.
جـــ- ونموذج أخر من جنوب إفريقيا:
هي السيدة أمينة ودود, التي تنتمي إلى دولة جنوب إفريقيا وتقيم فيها, وقد اعتنقت الإسلام 1970م, وعملت بهمة, وما تزال, في حركة التأويل النسوي للنصوص الإسلامية عن اقتناع كامل بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة, وقد أقامت عامًا بالقاهرة مدرسة للغة الإنجليزية خلال السبعينات بعد حصولها على الليسانس 1975م من جنوب إفريقيا, ثم حصلت على «الماجستير» في دراسات الشرق الأدنى من جامعة «بنسلفانيا» ثم حصلت على الدكتوراه 1988م من جامعة ميتشجان بالولايات المتحدة في الدراسات الإسلامية واللغة العربية, وعملت أستاذة مساعدة بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا, وأستاذة زائرة بهارفارد, ثم أستاذة للدراسات الدينية بجامعة الكومونولث «فرجينيا» بعد ذلك.
تمارس أمينة نشاطها من خلال عملها الجامعي كمحاضرة ناجحة, وقد نالت العديد من الجوائز, وأصدرت كتابها الوحيد (القرآن والمرأة) الذي ترجم إلى كثير من اللغات, وهي تتابع جهود رفعت حسن في التركيز على القرآن والنصوص النبوية وتأويلها من منظور نسوي هيرمنيوطيقي على حين تركز أخريات من الناشطات – في إطار هذه الحركة – على العرض التاريخي وتأويل التجربة الإسلامية كلها تأويلًا نقديًّا, كما أنها – على غلوها في أمر المساواة المطلقة – تعلن الالتزام بالإسلام بوجه عام في حدود المفهوم الذي تعتنقه.
وفي كتابها المشار إليه تعلن اعتمادها على القرآن وحده, فإذا خالفت السنة فهمها له فهي ترفضها, ومن خلال فهمها التقدمي للقرآن – كما تسميه – ترفض إباحة الطلاق وتعدد الزوجات, وتعتبرهما من قبيل الفهم الرجعي الخاطئ للإسلام والقرآن. وهي تنادي بالقطيعة الثقافية مع هذه التفسيرات الرجعية, ولا تعتمد في مناقشاتها إلا على «الكشاف» للزمخشري. دون أن تبين سببًا لذلك مع أنه يخالف منطلقاتها – ربما لأنه معتزلي, وقد تعرضنا لذلك من قبل. وإن كان إلمامها بالعربية – وهي مجازة فيها – لا يختلف عن مستوى رفعت حسن, وهي تنادي بعدم الاقتصار على ثقافة معينة في تأويل القرآن, بل ينبغي تأويله في ظروف وبيئات ثقافية متنوعة. وتعيد – مثل رفعت – مناقشة مسألة الخلق «والزوج» من جديد, لإثبات المساواة التامة بين أصلي البشرية, وما يتصل بذلك من قوامة وأفضلية ونشوزو مغفلة مقتضيات السياق القرآن والدلالة اللغوية[18].
د- ومن الشمال الإفريقي:
نقدم الآن نموذجين من هذه المنطقة في قلب العالم الإسلامي لسيدتين تنتمي إحداهما إلى مصر أصلا ً وإن كانت قد تعلمت وعاشت حتى الآن في بريطانيا والولايات المتحدة، وهي السيدة ليلى أحمد، والأخرى بعد أن تعلمت في تلك البلاد أيضا ً عادت إلى موطنها مراكش، وهي السيدة فاطمة مرنسى :
1- وقد نشأت مرنسى نشأة تقليدية في بلدها، ونالت الليسانس من جامعة محمد الخامس بالرباط في العلوم السياسية، ثم سافرت إلى الولايات المتحدة حيث حصلت على الدكتوراه من جامعة برانديز، وعملت أستاذة لعلم الاجتماع بالرباط، والآن هي متفرغة للبحث العلمي وتحظى بتقدير خاص في الأوساط الغربية في مجال الدراسات القرآنية والإسلامية، وقد منحت جائزة عالمية لنشاطها البارز في الحركة النسوية عام 2003.
لها العديد من المطبوعات البحثية عن الحجاب، والإسلام الديموقراطية، وبعض جوانب التاريخ الإسلامي، والنساء والإسلام وغيرها ..
وقبل أن نلخص أفكار هذه السيدة وإسهاماتها في الحركة النسوية التأويلية نود أن نشير إلى أسمين معروفين في هذا الإطار الهرمنيوطيقى في البيئة المغربية أو المغاربية بوجه عام: أولهما الأستاذ أركون الذي أشرنا إلى موقفه من قبل، في تطبيق المنهج التفكيكي على آيات القرآن الكريم بحثا ً عن القرآن الحقيقي الذي اختلط نصه – فيما يزعم – بأساطير وأوشاب ينبغي تخليصه منها، داعيا ً إلى تسليط نور البحث على عملية الجمع القرآني المعيبة في نظره، متحرراً مما أضفي على النص من قداسة تاريخية أسطورية، وقطعية ثبوت موهومة، لتخليص النص الأصيل من العناصر الأسطورية التي يضمها «المصحف» المتداول بين المسلمين [19].
وهذه أشد الدعاوى جرأة فيما يتصل بالنص القرآني المتواتر على مدى القرون وفي مختلف مناطق العالم الإسلامي لفظا ً وأداء، بين العوام والعلماء، والصغار والكبار، والنساء والرجال، لكنها تتكرر على استحياء وبدون تصريح لدى الكاتب المغربي الآخر الأستاذ عبد الهادي عبدالرحمن، وبخاصة في كتابه (سلطة النص) الذي يتحدث في مقدمته عن «التاريخانية» في حادثة ظهور الإسلام وفي محتواه وفي توظيفه [20].
ويحاول تحديد منهج لدراسة النصوص الدينية الإسلامية بما فيها القرآن الكريم على أساس من القطيعة الثقافية مع المناهج التراثية [21]، التي ينبغي هدمها لإعادة بنائها بمنهج التكفيك والتركيب، وتطبيق مقاييس نقد التراث الإغريقي عليها [22]، ويعترف بأن من سمات هذا المنهج « الذاتية» التي لا فكاك منها [23]، ثم ينادى بأنه لابد من أداة لغوية لتحليل النص القرآني، لكن « هذه الأداة قد تكون بنيوية أو فيلولوجية أو بيانية أو نحوية، أو مزيجا ً من هذا كله» [24].
وينتقل من التحليل الشومسكي إلى التحليل الجابرى معترضا ً عليه في تحليله الحديث المشهور (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ..الخ) فيقول هو: إن بدعة مضاف إليه، وكذا لفظ ضلالة، وأن الخبر أو النتيجة – كما يعبر- هي كل ضلالة في النار [25]، ولا ندري أي منهج تحليلي هذا وأية قواعد لغوية يعرفها ويطبقها الباحث الذي ينادي بمراعاة الجانب النفسى في القرآن؛ إذ القرآن لغة إنسانية بعد رفع القداسة عنه واستخدم كل منهج «لغويا ً كان أو نفسيا ً أو تاريخيا ً أو جدليا»[26]. ويطبق منهج أسباب النزول على سورة النساء مفككا ً ومؤولا ً لينتهي إلى لا شيء إلا التشكيك في دلالة النص، والإيحاء بظلمه للمرأة، إما في محتواه أو في طريقة تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم له[27].
في هذا الجو نمت أفكار السيدة مرنسى، فكتبت كتبها العديدة، وقدمت أفكارها الجريئة، على أساس المنظور النسوي من خلال منهج التحليل الموضوعي والتاريخي ليس فقط للنصوص الدينية، بل للتجربة التاريخية الإسلامية كلها. وفي كتابها عن «المرأة والإسلام» تتقصى النصوص النبوية المتعلقة بالمرأة متنا ً وسندا ً بالنقد الذي يتأسس على عجز البحث التقليدي عن اتخاذ الموقف الصحيح من المرأة ووجوب تصحيحه.
وهى ترى أن السياسة أثرت على النصوص الدينية وبخاصة الأحاديث النبوية فتناقشها تحت عنوان (توظيف النصوص الدينية كسلاح سياسي)، وذلك سر ما تحتويه من نظرة عدائية للمرأة، ثم تتناول في الجزء الثانى من الكتاب السنين الثلاث الأولى لدولة المدينة من الناحية التاريخية لتستنتج أن الأجراءات التي اتخذت بشأن المرأة وفرضها (الحجاب) كان ذات طبيعة مؤقتة فهي تاريخية آنية لا مطلقة دائمة، وتنتهي في الفصل الأخير إلى أن الظلم التي تعاني منه المرأة المسلمة لا يرجع إلى الإسلام ولا إلى القرآن ولا إلى السنة وإنما إلى المجتمع ومصالح رجاله [28].
وفي كتابها عن «الحجاب» تواصل التحليل التاريخي مولية أهمية قصوى للسياسة ومتطلباتها، معتبرة أن الأحاديث المتصلة بالمرأة، ومنها ما رواه البخارى في صحيحه عن أبي بكرة بشأن ولاية المرأة عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أمر الفرس وتولية ملكهم إحدى الأميرات، إنما كان سلاحا ً في موقف سياسي من الراوي لتسويف موقفه المعتزل للفتنة، وتتهم الصحابي نفسه بشأن حديث (إصلاح الحسن بين الطائفتين من الأمة) بأنه صاحب ذاكرة تتحرك عند المناسبات. وهي سخرية فجة، ولا يقل عنها فجاجة حديثها عن شخصية أبي هريرة المعادية للمرأة، وأن ذلك يرجع إلى لقبه المشهور أبي هريرة لا أبي هر، وحقده على المرأة لحقده على هذه الكنية. وبمثل هذا التفكير «العلمي» ترفض الأحاديث وتقبل في حركة التأويل النسوية. غير أن مرنسى تواصل عملها النقدي المبنى على تقصي الظروف التاريخية لفرض مؤقت للحجاب في المدينة. فإن تم لها ذلك في الحديث فماذا عن آية الأحزاب (رقم 58)؛ إنه الجواب نفسه؛ وهو الظروف التاريخية، والتهديد العسكري في العام الخامس للهجرة وإثقال الزائرين على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته الذي استدعى ذلك الحكم الذي يشبه في نظرها الخطيئة الأزلية في المسيحية، ومن ثم فهو ذو طبيعة مؤقتة واستجابة لظروف آنية غير دائمة؛ أي تاريخانية الأحكام والنصوص القرآنية في مدلولاتها ومجال تطبيقاتها [29].
وتواصل مرنسى مناقشة أحكام الميراث على أساس من الملابسات التاريخية أيضا ً وبأسلوب لا يخلو من سخرية[30] كذلك. وتستمر في مناقشتها لمختلف الآيات القرآنية على أساس من السبب (الظرف التاريخي) والنتيجة (الوحي) بلغة لا تخلو من شكوى أو نقد للصحاب وللنبي نفسه بل الوحي المنزل في غير مصلحة المرأة كما تراه[31].
ب – غير أن مرنسى لكثرة إنتاجها وطول نفسها في المناقشة كانت شبه رائدة لهذا الضرب من التحليل التاريخي، فجاءت السيدة ليلى أحمد لتتبع خطاها؛ بعد أن تلقت كل تعليمها الجامعة من الليسانس إلى الدكتوراه في بريطانيا، من جامعة كمبردج، وصارت أستاذة في جامعة هارفرد بكلية الإلهيات.
وأصدرت عدة كتب بعضها يتعلق بالمرأة وبعضها يتناول اهتمامات جامعية [32] حرفية أو شؤنا ً شخصية. ولكن كتابها الأساسى هو (المرأة والأصل الجنسى والإسلام) وفيه تتعرض بمنهج تاريخى للأصول التاريخية للصراع المعاصر حول هذه الأمور الثلاثة، وتتعرض لمركز المرأة منذ فجر الإسلام حتى العصور الوسطى الإسلامية، ثم الخطاب النسوي في العصر الحديث، وفي عديد من الأقطار الإسلامية ومن بينها مصر، وما يتضمنه من قضايا الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات ونحوها [33].
وهى تكاد تتفق تماما ً مع مرنسى في آرائها وفي الحجج التي تسوقها، ولكن مع نزعة مقارنة واهتمام بالمؤثرات الثقافية. وهي تتعرض «للضلع الأعوج» وترى فيه تأثرا ً بالثقافة البيزنطية، وتقارن بين التحفظ الأفريقي والتحرر المصري بشأن المرأة، وتهاجم مصطلح «الجاهلية» وأثره السلبي، وتقرر أن الإسلام حد من الحرية الجنسية للمرأة العربية [34]. وهي تفرق بين الفهم الفني أو الفقهي للتوجيهات النبوية الذي يحولها إلى أحكام دائمة بالمباح والممنوع، وبين الفهم الخلقي الذي يعطى القيمة ويخاطب الضمير، وترى أن الأول هو أكبر خطأ وقع فيه الفقه المحافظ (الأرثوذكسي) للإسلام وتنتقل السيدة ليلى إلى القرآن الكريم فتتحدى الاعتقاد الخاطئ لدى المسلمين بثبوته القطعي عن طريق التواتر وتعتقد ان ما بأيدى الناس يختلف عن ذلك الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم [35] .
ولا أدري ما سر حماستها لهذا الموضوع الذي تتحدى به سيدة مسلمة مثقفة مشاعر كل المسلمين.
والآن وقد استعرضنا تلك النماذج التي انتشرت في أقطار العالم الإسلامي من قلبه إلى أطرافه، ومن شرقه إلى غربه، يمكن استخلاص القضايا الرئيسية التي يتضمنها خطاب هذه الحركة، وإن تفاوت أفرادها في تبنى كل هذه المقولات أو بعضها من حالة إلى أخرى؛ وأهمها ما يلى :
1- تاريخانية النصوص الدينية، بما في ذلك النصوص القرآنية، وإخضاعها للظروف التاريخية؛ مما قد يفضي إلى نسخها أو استبدالها، أو بقائها قيما ً خلقية خالصة، بل التشكيك في اكتمال النص القرآني وثبوته.
2- ذاتية التحليل وتجاهله لطبيعة النصوص العربية، وإغفاله لقواعدها اللغوية، وسياقاتها وأساليبها البيانية، وتجاهل مغزى الإلحاح على عربية النص القرآني، وما انتهت إليه الدراسات اللغوية المعاصرة وخاصة علم الدلالة.
3- عدم الأهلية الكافية للتأويل، مع الاختلاف في مداه، والإقبال على النص القرآني بآراء سابقة التشكل، بناء على منهج نشأ وساد في ثقافة أخرى مخالفة، ولدواع قد لا توجد في البيئة الإسلامية.
4- استبعاد العلوم الشرعية، التي دونت وأنضجت لخدمة النصوص الدينية وتوثيقها وفهمها، واستنباط الأحكام منها، مع أنها هي التي يمكن أن تشكل مع الدراسات الأدبية واللغوية والبلاغية ما يمكن اعتباره «هرميوطيقا» أصيلة، أو منهجاً ملائما ًلتأويل النصوص العربية تأويلا ً علمياً موضوعيا ً مقننا ً؛ بحجة أن هذه العلوم تراث رجعى ينبغي إعلان القطيعة معه.
3- نحو بناء هرمنيوطيقا عربية :
نحن بحاجة الآن – فيما أعتقد – إلى بناء نظرية أو نسق فكري متكامل للتعامل مع النصوص العربية وتأويلها على نحو يحترم خصوصيتها ويتناسب مع طبيعتها، بما في ذلك النصوص القرآنية والنبوية، لكي نرد عن تراثنا ولغتنا ووجودنا الحضاري والفكري، ريح السموم التي تهب علينا من الغرب، وتجد من أذكياء رجالنا ونسائنا من يسهم فيها ويدمر صرح قومه ليقف بعد ذلك عاريا ً محروماً من كل عناصر الوجود الحضاري من لغة وتراث وثقافة ودين.
ولن نخترع شيئا ً مختلفا ً كي نجاري الأخرين، بل هو تجميع عناصر التعامل مع التراث وظواهره العلمية والثقافية في علومنا الأصلية، وتجربتنا التاريخية، لكي تواصل خدماتها لهذا التراث، تحمل الذين يرغبون في دراسته وتقييمه و «تأويله» على تحصيلها وإتقانها، ثم التدرب على تطبيقها واستخدامها، ثم المضي في إجراء البحوث على نهجها الموضوعي المرسوم بدلاً من التهويم في التيه بحجة الذاتية الحتمية التي لا مفر منها، وما هي إلا الإفساد والكسل العلمي والتقليد البغيض.
إن أهلية الباحث شرط أساسي وقبلي للشروع في أي بحث، وقد رأينا كيف يهرف بعض الناس بما لا يعرفون في شئون من أخطر شئون الحياة والوجود، وما هو إلا التخمين والاسترسال فيه دون حدود أو قيود، وخطر ذلك قد لا يتبدى واضحا ً اليوم، ولكن عندنا يكثر ذلك الإنتاج «الفكري» كما يقولون وتغصُ البيئة الثقافية بآثاره وأوضاره فلن تجد أجيال قادمة فرصة التنفس في فضاء صحي، ولن يكون طلب العلم والبحث عن الحقيقة في أمر وجودنا الحضاري أمرا ً مسيرا ً أو سبيلا ً قاصدا ً، بل ستتعقد الأمور لا قدر الله.
كنت أود أن ألقي الضوء على جهود الأصوليين خاصة في مواجهة هذه الموجة العاتية، وفي تنمية اللغة، وإثرائها، وقد بدأ البحث اللغوي المعاصر – وكان غافلاً عن هذا الجانب حينا ً- يعتد بها في درس اللغة وإثراء علومها ومناهجها بل مادتها ومحتواها، وهو أمر حشدت له – علم الله – وسائل وأدوات، وبقي أن يسلط عليه النظر المتأني والفحص الدقيق، ومن ثم سأكتفي بمجرد الإشارة إلى العناصر التي يمكن أن تبنى منها نظرية التأويل العربية المنشودة، أملا ً في فرصة أخرى يتاح فيها النظر الفاحص في تلك العناصر، وبخاصة جهود الأصوليين :
1- علوم اللغة العربية، بفروعها التقليدية من نحو وصرف وبلاغة وعروض ونقد وأدب، مع نظائرها من فروع الدراسات اللغوية الجدية وخاصة علم المعنى.
2- أصول التفسير وقواعده، وأنواعه ونماذجه، وطرقه ومناهجه، وجهود أسلافنا في خدمة النص القرآني، والتعرف على معانيه ومقاصده، وما يتصل بذلك من « علوم القرآن » الكريم ودراساته.
3- أصول الحديث، وأساليب التوثيق، ومناهج نقد المتون والأسانيد، مشفوعة بمناهج نقد النصوص وتحقيقها، ومناهج النقد التاريخي داخلية وخارجية.
4- أصول الفقه، والوسائل التي يستثمر بها الفقيه الأحكام من مصادرها، والقواعد اللغوية والشرعية لذلك العمل، وما يتصل بذلك من مصادر الأحكام وطبيعتها ومقاصدها، مشفوعة بأساليب النظر في فلسفات القانون المعاصرة وأساليب الصياغة القانونية وقواعدها.
هذه هي الأصول والأمهات، وقد تحتاج إلى فروع ومكملات، وربما كان من هذه المكملات: التفسير الإشاري لدى شيوخ الصوفية الذي هو لديهم تأمل في النص القرآني مع لمحات روحية وتربوية وليس تفسيرا ً بالمعنى الدقيق ولا استخلاصا ً لأحكام شرعية. وإلى إلمام بالمجال العلمي التخصصي الذي يدور فيه النص، حتى يمكن التعامل معه على بينة، وتحريره، ثم شرحه وتأويله.
وإني لأتوجه إلى العلي القدير أن يعيد هذه العقول الشاردة إلى رحاب حضارتها وطريق ثقافتها، وأصل وجودها وحقيقتها؛ فهو ولي ذلك والقادر عليه.
[1] سورة النساء الآية الأولى.
[2] الحجرات: 13.
[3] ابن رشد: فصل المقال, ط إيطاليا, بدون تاريخ, ص3.
[4] انظر: Kiry, “David Dictionary of Contemporary Thought”, London, Mac Millan
[5] انظر حسن الشافعي: المدخل إلى دراسة علم الكلام, ط2, القاهرة, مكتبة وهبة, ص251, وما بعدها.
[6] سعدية محمود: مرجع سابق 57, 64.
[7] السابق 67 – 76.
[8] السابق: 87 – 103. وانظر: Jean Grandtin, “Introduction of Philosophical Hermeneutics”, Yale Press New
[9] انظر: سعدية: مرجع سابق 105.
[10] سعدية محمود: أثر المنهج الهرمينيوطيقي في دراسة الدين على الفكر الإسلامي المعاصر. رسالة ماجستير (بالإنجليزية) في كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية العالمية, إسلام آباد ص 3 – 4.
وأركون: “Rethinking Islam”: Western Press, 1994, PR 36- 37
[11] Clifford Geelg, “Modernization in Muslim Society”: Religion and Progress in Modern Asia, New York, Free Press, P.95.
[12] عاملة بنت أوانج: نظرية التوحيد الاعتزالية (بالإنجليزية) رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية العالمية بكوالا لامبور, 2003, ص 223,246.
[13] السابق 247 – 255.
[14] سعدية محمود: مرجع سابق 129.
[15] انظر محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وعلاقته بالإسلام الغربي:
ط أولى.
[16] السابق 194, 270.
[17] السابق: 206, وانظر 209 وما بعدها.
[18] السابق: 21, 222.
[19] السابق 129 ، 131 .
[20] عبد الهادي عبد الرحمن : سلطة النص، ط2. دار سينا للنشر ومؤسسة الانتشار العربي ،1998 م المقدمة.
[21] السابق ص ، 377.
[22] السابق 26، 39
[23] السابق 31
[24] ص 40
[25] السابق : 42 – 50
[26] السابق : ص 60
[27] السابق : 51 – 56 .
[28] السابق : 131 – 140 .
[29] السابق 140 – 153
[30] انظر ص : 145 – 157
[31] السابق 158
[32] السابق 170 – 172 .
[33] السبق : 175 .
[34] السابق : 188 – 189.
[35] انظر : حسن الشافعى: تجريد الاعتقاد ، رسالة دكتوراه بمكتبة جامعة لندن 1977 م – ص 106 .