النقــود الورقيـة
تناولنا في العدد السابق أهم سمات واتجاهات التطور الذي حدث للواقع الحالي بالمقارنة مع الواقع الذي كان قائماً في زمن نشأة الفقه ، والمناهج المختلفة لمواجهة هذا الواقع.
وقبل أن نبحث تطبيق المنهج المختار على بعض جوانب الواقع الحالي ، يحسن أن نشير إلى أن هذه الآراء الاجتهادية يرد عليها ما يرد على كل جهد بشري من احتمال الخطأ والصواب، فإن صادفها الخطأ فصاحبها مثاب وإن صادفها الصواب فليست ملزمة لأحد ، شأنها في كلتا الحالتين شأن الفتاوى التي تصدر عن جهات الإفتاء والمجامع الفقهية، مع فارق وحيد هو أن هذه الأخيرة هي من قبيل الاجتهادات الجماعية التي يجعلها تعدد العقول المشاركة في بحثها وإصدارها أقرب إلى الصواب منها إلى الخطأ ، ويقل هذا الاحتمال كلما اقترب الموضوع من المستجدات الفنية المعقدة .
وفي ضوء هذا ينبغي أن نفرق بين الآراء الاجتهادية وهي ظنية ، وبين الأحكام المنصوص عليها والتي تتوقف قطعيتها أو ظنيتها على قطعية أو ظنية النص المستندة إليه.
ويترتب علي ذلك ضرورة التفرقة بين رأي المجتهد في المسائل الظنية وبين حكم الله في المسائل القطعية، ولا يجوز أن يعتبر المجتهد أن رأيه في المسائل الظنية هو حكم الله ففي هذا اجتراء على الله واحتكار للدين لا أساس له ، وهو عين ما يفعله رجال الكهنوت وما شرح به الرسول (صلى الله عليه وسلم) قول الله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ..) وقد نفّر هذا الصنيع الغربيين من الكنيسة منذ عصر النهضة ولا ينبغي أن نسير بالإسلام في نفس الطريق .
وكان طبيعياً أن نستكمل البحث المنهجي الذي بدأناه ، بتناول الآليات والأدوات اللازمة لتطبيق هذا المنهج وفي مقدمتها العنصر البشري بإعداد الكوادر التي تجمع بين التخصص الشرعي والتخصص الحديث ، وتطوير المناهج الدراسية لهذا الغرض وكذلك العنصر المؤسسي بتنظيم الاجتهاد الجماعي المحلي والعالمي وإعادة هيكلة الأجهزة القائمة ، وما يقتضيه هذا وذاك من بحوث نظرية عن التمييز بين المصدر الإلهي والمصدر البشري في هذه الاجتهادات وعن مدى الزاميتها للحكومات والأفراد ، وعن النطاق الذي تعمل فيه إلى غيرذلك من المسائل.
كان طبيعياً أن نستكمل البحث في هذا الاتجاه قبل البحوث التطبيقية ، ولكنا وجدنا أن أهمية الاتجاهين تدعونا إلى السير فيهما بشكل متوازي ، وهو ما سنراعيه بدءاً من العدد القادم إن شاء الله .
* * *
نأتي بعد هذه المقدمة إلى تطبيق هذه القواعد المنهجية على بعض جوانب الواقع المعاصر ، وعلى وجه التحديد على النقود والبنوك والبورصات والتأمين، ونبدأ بالنقود .
ترجع أهمية البدء بالنقود إلى انصراف الباحثين المعاصرين عن البحث فيها ، وذلك بسبب صعوبة الموضوع لا على الباحث الشرعي فحسب بل على الباحث الاقتصادي أيضاً ، فمن المعروف أن مبحث النقود هو أصعب مباحث الاقتصاد . وسنحاول هنا أن نبسط الموضوع قدر الإمكان ، وأن نقتصر على ما له صلة مباشرة بمشاكلنا المعاصرة .
_ 1 _
لقد شرحنا بإيجاز في العدد السابق ص 91-95 التطور الذي حدث للنقود منذ كانت هي الذهب والفضة حتى فقدت النقود الورقية غطاءها الذهبي وانفصل بالتالي مفهوم النقود الشرعي عن مفهومها الاقتصادي الحالي ، وأشرنا باختصار إلى آراء الفقهاء في القياس على الذهب والفضة من حيث جريان أحكام الربا ، وأوضحنا أن جمهور الفقهاء لا يرون جواز القياس على الذهب والفضة ، وتجدون في هذا العدد بحثاً عن (اختلاف الفقهاء في علة الربا ، وأثره في الصرف) يفصل آراء الفقهاء في هذا الصدد.
لكن الفقهاء المعاصرين – خاصة مجمع الفقه الإسلامي – رأى في دورته الثالثة المنعقدة بعمان في الفترة من 11- 16 أكتوبر 1986م أن (العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها.) قرار رقم 21(9/3) .
وكعادة المجمع لم يبين الدليل الشرعي لهذا القرار مكتفياً بالإشارة إلى البحوث المقدمة إليه بهذا الخصوص .
وبالرجوع إلى هذه البحوث والمناقشات الخاصة بها تتبين عدة أمور هامة :
أولاً : لم يشارك في هذه الدورة أي متخصص في الاقتصاد(1) بل اقتصر الحضور على الشرعيين ، وإن كان بعضهم خاصة فضيلة القاضي محمد تقي العثماني من باكستان قد ضمن بحثه خلاصة موثقة لتطورات النظام النقدي في العالم، وخلو دورة المجمع وأبحاثه من مشاركة الاقتصاديين في بحث أمور اقتصادية معقدة أمر شديد الغرابة خاصة في مسائل النقود التي تعتبر لدى الاقتصاديين أنفسهم من التخصصات الدقيقة المعقدة(2).
ثانياً : لم يقف الأمر عند غياب الاقتصاديين ، بل تعداه إلى الهروب من أداء المجمع دوره الطبيعي في الإسهام في عملية النهضة والاجتهاد ، وإلى تقبل الواقع دون محاولة معرفة إن كان مخالفاً للشرع أو موافقاً له ، والاكتفاء بالبحث عن أحكام شرعية منطلقة من هذا الواقع، وفي خلال المناقشات تفاوتت المواقف في هذا الصدد فنجد البعض يرنو إلى أداء المجمع هذا الدور، على تفاوت بينهم في ذلك ، بينما يستبعد البعض الآخر ذلك:
فمن الفريق الأول :-
1- الأستاذ إبراهيم الغويل(1)، حيث يقول : يظل الإسلام يقدم حلاً للبشرية المعاصرة كما قدم دوماً حينما يقول : إن الأصل النقدان ، هما النقدان الذهب والفضة ، وإذا وجدت عملة ورقية فهي تسند أو تقاس إلى غطاء ذهبي في ذلك ، هذه هي القضية التي سارت عليها أكبر معركة بين مدرستين كبيرتين في العالم المعاصر للمدرسة الفرنسية والمدرسة الأمريكية ، ودافع ديجول بشدة عن قضية الغطاء الذهبي، ولكن أمريكا تمكنت أن تجر العالم إلى أن يكون غطاؤها هو الدولار وتلعب بالدولار كما تشاء فتسقط مداخيل شعوب ودول وتزيد متى شاءت(2).
2- الدكتور الشيخ عبد العزيز الخياط(3) أيد ما ذهب إليه الأستاذ الغويل من أن المشكلات العالمية التي نعانيها الآن هي بسبب فقدان التعامل بالذهب والفضة .. ويرجو الله أن تتمكن الأمة الإسلامية في دولها المتعددة حين يشاء الله أن تصبح دولة واحدة أو على الأقل شبه دولة واحدة في اتحادها وقوتها فتعيد العمل بالذهب والفضة أساساً وننجو من جميع المشكلات التي نقع فيها ويقع فيها العالم(4) .
3- الشيخ تقي العثماني علق على ما قال به الأستاذ الغويل بأنه جيد جداً من حيث أنه ينبغي أن نعود إلى قاعدة الغطاء الذهبي(5).
4- الشيخ محمد عبده عمر(6) قال إن الذهب والفضة مكدسة في خزائن اليهود فإذا ما حاولنا أن نخضع عملات الشعوب لغطاء الذهب والفضة التي تتحكم به اليوم الصهيونية العالمية فإن هذا يجعلنا ويجعل شعوبنا الإسلامية تخضع في أموالها وفي معاملاتها وفي قوة اقتصادها إلي الصهيونية العالمية ، وعلى هذا فإنني لا أميل إلى أن تكون عملاتنا أو أوراقنا لها غطاء ذهبي أو تقيم بالنقد الذهبي(1) .
5- الشيخ يوسف القرضاوي(2) قال : إن ما نتمناه جميعاً أن يعود للذهب والفضة منزلتهما في اعتبارهما النقود الأساسية والشرعية والتي تبعد الناس عن كثير مما يشكون منه الآن من تغير قيمة العملات وتدهورها أحياناً إلى أن تصبح أقل من 1% مما كانت عليه منذ سنوات كما نرى في الليرة التركية مثلاً . وهذه أمنية(3). وسأله رئيس مجلس المجمع الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد : المناشدة بأن تكون العملة بالذهب والفضة هل هي مناشدة ممكنة ولو عشرين في المائة . وأجابه الشيخ القرضاوي : والله هذا لا أستطيع أن أجيب عليه ، يحتاج الأمر إلى أخوة من الاقتصاديين . وأنا أقول أمنية ما أدري هل هي ممكنة أم لا ، لأنه أنا أرى أنه فيهـــا صعوبة في عصرنا حقيقة(4) .
6- الشـــيخ الدكتور على السالوس(5) انضم لهذا الاتجاه قائلاً: لوعدنا للغطاء الذهبي أو الدينار الذهبي والدرهم الفضي لكان أفضل من الأوراق النقديــة الآن التي لا قيمـــــة لها(6).
7- الشيخ خليل الميسي(7) قال: من الملاحظ في الحقيقة أننا نعالج أمراً واقعاً. وهذا أمر طيب ومطلوب أيضاً ولكن عندي اقتراح قد يكون غريباً بعض الشيء ، هل يمكن لمجمعنا ولملتقانا هذا ، من خلال الخبراء بالاقتصاد، أن يوجهوا عالمنا الإسلامي إلى نظام في العملة أقرب إلى الواقع والشرعية . ما دمنا لنا ملاحظات ولنا إشارات على هذا النظام وعلى ذاك النظام هل يمكن أن نقترح البديل الذي يجعلنا نقترب من واقعية العملة هذه ؟ نرجو أن يكــــــون ذلك ممكنًا. وشكراً(8).
8- الشيخ محمد على عبد الله(9) قال : أرى من الواجب العودة إلى الشريعة وللدين وهذا ما قررته في بحثي المعتمد على أقوال الصحابة وأقوال الفقهاء 0ولكن من الواقع أيضاً أن لا يخفي علينا الوضع الحاضر – الوضع الاقتصادي الحاضر – الوضع الذي فرضه الاستعمار ، فرضه علينا كل من يحارب الدين ، أقصد بهذا أمريكا لأن أمريكا كانت قبل السبعينات ترى أن الدول الإسلامية كقوة لا بد من وضع حد لها ، وكان الحل الوحيد الذي وجدته هو لوضع هذا الحد على القوة الإسلامية هو استعمال ما تسميه بالدولار أو الغطاء الدولاري . وأخشى أن الزميل الذي قال أن لا نعود إلى هذه الفكرة أن يكون قد نسي أن الموضوع هو وجود وهو إيجاد حل لتوحيد الكيان الإسلامي إيجاد حل لإخراج المسلمين من كل ما يؤدي إلى وجود أي مسلم في أي قطر إسلامي تحت سلطة غير مسلمة ، وبالتالي لا بد من العودة إلى الغطاء الذهبي لأن الغطاء الذهبي هو لحماية كل اقتصاد إسلامي هو أنه إذا اعتمدنا على الدولار الذي هو قوة عميلة قوة كالسيف ضد الإسلام ، يعني هذا تبعية والتبعية نقصد بها وجود مناطق اقتصادية ، وبالتالي الدول الإسلامية الصغيرة لا تستطيع أن تتقاضى وتقوم بأي عملية اقتصادية دون إذن أو إشارة من الدول الاستعمــارية ، الدول غير الإسـلامية..(1) .
أما الفريق الثاني من أعضاء مجلس المجمع وخبرائه :
1-فقد قال الشيخ الدكتور عبد السلام العبادي(2) : لاحظت البحث نحا منحى اقتصادي ، أنه بما ننصح دولنا؟ هل ننصح دولنا بأن يكون النقد مغطى تغطية كاملة بالذهب والفضة أو ليس مغطى تغطية كاملة بالذهب والفضة؟ وهذا ليس لنا . هذا الواقع يمكن أن يبحث في مجال آخر فلذلك أقترح أن يتجدد محل البحث وأن يركز عليه وأن نترك قضية : هل الأفضل أن يكون هناك غطاء ذهبي أو لا يكون ؟ لأن هذا أمر جهة أخرى ولا يمكن أن يكون في مجال هذا المجمع إلا إذا كان عدم وجود التغطية الذهبية مما يترتب عليه حكم شرعي ، يعني يكون حراماً أو يكون مكروهاً فعند ذلك يمكن أن نتصدى إليه..(3) .
2-الشيخ أحمد محمد جمال(4) قال : أرى أننا نجادل في أمر واضح وفي واقع ملموس لا يمكن تغييره بأي حال من الأحوال 0 العملة الورقية قائمة وواقعة ولا تستطيع دولة واحدة في العالم أن تغير هذا الأمر(1)..
3-فضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا(2) رأى أن المجمع إذا تدخل في مسألة أنه يجب أن يكون للأوراق النقدية غطاء من الذهب يكون قد دخل في بحر ظلمات وانحرف إلى ما لا يملك فيه مجالاً ولا أقوالاً . هذا أمر دولي لا يخضع لفتوانا . وإن أفتينا بذلك لا يوجد من يسمع كلامنا . هذه قضية اقتصادية سياسية دولية تتعلق بالسياسة المالية للدول . وفقدان الغطاء الذهبي له عوامله الكثيرة المشتركة ، أولاً بين جميع الدول المتخلفة بالتعبير الصحيح أو النامية بالتعبير الملطف إلى آخره . فهذا الغطاء الذهبي هو مشكلة المشكلات ولا يمكن بشكل من الأشكال في وقتنا الحاضر بل حتى الدول الغنية والتي كانت هي في أوج سلطانها مثل إنجلترا وفرنسا وغيرها وحتى أمريكا نفسها أصبحت عاجزة عن أن توفر الغطاء الذهبي لعملتها الورقية لعوامل كثيرة لا أريد ذكرها لأن ضغط النفقات ، وتزايد الميزانيات ، ومحدودية إنتاج الذهب ، لأن هذا شيء في جوف الأرض ولا يملك أحد أن يزيد فيه أو ينقص. هذه المشكلة مع تزايد النفقات والحاجة إلى العملات هي التي أحلت – في ما كنت عبرت به في مثل هذا الموضوع – هي التي أحلت المطابع مكان المناجم ، كانت العملات هي الذهب والفضة وهي تستخرج من المناجم ولا يستطيع الإنسان أن يزيد فيها في ما في المنجم أو ينقص ، ولكن لما حصل الضغط على البلاد ولا سيما النامية وعلى غيرها بتزايد النفقات العظيمة مع الزمن ولا سيما نفقات التسلح وما إلى ذلك مما أصبح يضر بآلاف الملايين ، يعني مضاعفات ، فكل هذا جعل هذه الدول تقلب الموضوع من أمر الغطاء الذهبي الكامل إلى غطاء ذهبي ناقص إلى غطاء ذهبي أنقص إلى.. إلى.. حتى إلى صفر من الغطاء الذهبي. معروف الموضوع . وهنا منشأ التضخم الذي نسمع عنه ، فالتضخم نشأ ، أي التضخم هبوط القوة الشرائية للعملة ، هبوط هذه القوة الشرائية ، هذا نشأ من إحلال المطابع محل المناجم ، وأصبح كل دولة لما تعضها الأزمات المالية وتريد أن تحل مشكلة تشغل المطبعة وتخرج من الأوراق ما تشاء وتوزع على مواطنيها وهذا يؤدى إلى هبوط القيمة إلى آخره وهو التضخم .
فنحن تجاه وضع عالمي إذا أردنا أن نبحث في وجوب غطاء ذهبي فهذا معناه أن الناس يستخفون بأبحاثنا كلها ونخرج عن حدودنا وعن إمكانياتنا وعن وعن إلى آخره 0 هذا أمر يجب أن يستبعد موضوع أن نفتي بوجوب الغطاء الذهبي أو غيره . هذا كلام لا يمكن أن يجري.
الأمر الثاني : والذي يدخل في اختصاص هذا المجمع الكريم هو هذه الأوراق كأمر واقع 0 اليوم هي العملة الدولية ، وأقول لأنكم كلكم تعلمون أن البلاد التي كانت تحت الاستعمار ثم انقضى الاستعمار وأصبحت مستقلة لا تزال تطبق القوانين التي أصدرها الاستعمار في هذا الموضوع ، وهو منع التعامل بالذهب والفضة ، منع ، تحت طائلة القانون ، واعتبار كل عقد يعقد بالذهب يعتبر باطلاً بالنص الصريح كما هو معروف في سوريا وغيرها ، يعتبر العقد باطلاً ، ويستبدل رغما عن عاقديه، يستبدل بالذهب ، العملة الورقية بالتسعيرة الرسمية 0 هذا أمر نحن لا نملك فيه تقديماً ولا تأخيراً ، وله أسباب وعوامل كما قلت راسخة فيما يتعلق بالسياسة المالية للدول .
لذلك مهمتنا : هذه العملة الورقية كأمر واقع في ظل أنه ممنوع علينا التعامل بالذهب وأن التعاقد به باطل إلى آخره ، بل في بعض البلاد يعتبر جريمة ويعاقب عليها ، نحن في ظل هذا الوضع، هذه الأوراق التي لم يعد في العالم أجمع عملة سواها ، الآن حتى أن الجنيه الإنجليزي ، والذهب الذي كان يعتبر عملة ذهبية تخص إنجلترا ، وكان التزييف فيه ، إذا زيف الجنيه الإنجليزي الذهب أو سواه يعتبر جرماً ، تزييف ويعاقب عليه بالعقوبات الشديدة ، كما تعلمون عن المزيفين ، بعدما اعتبر في المحاكم الدولية في سويسرا في قضايا معروفة رفعها رجال القانون ، وصدر القرار في المحكمة الدولية بأن العملة الذهبية أو الدنانير الذهبية أصبحت سلعة، أي ذهباً مسبوكاً ، ولم يبق لها القيمة الرسمية التي يعتبر تقليدها تزييفاً ، وبرأوا المدعى عليه بالتزييف براءة كاملة إلى آخره ، واعتبروا أن هذا التزييف مباح لكل من أراد لأن الذهب أصبح يعتبر بالوزن لا أكثر ولا اقل ، نحن في ظل هذا الوضع ، فهذه الأوراق التي لم يبق هناك في التعامل العالمي أبداً سواها والذهب أصبح معدناً بالوزن يباع ويشترى ، فنحن في ظل هذا ماذا نحكم على هذه الأوراق ؟ لا أريد أن أطيل الكلام ولكن أريد أن أتكلم كلمتين مختصرتين بعد هذا التمهيد .
إن كل تفكير بأن الأوراق النقدية لا تأخذ حكم الذهب والفضة من كل الوجوه ، كل تفكير يخالف هذا ويعتبرها أنها ليست كالذهب والفضة هو تفكير قاصر ويؤدي إلى إباحة الربا على مصراعيه ، هذه كلمة مختصرة مفيدة وأظن لا نحتاج لها إذا أردتم الأدلة حتى أوضح ولكن اعتقد أن ذلك كاف، وكل تفكير هي يجب أن تعتبر كالذهب والفضة بلا تردد أبداً ، وما يقال في الربا بين المبادلة بين الذهب نعم يعتبر كل نوع ورق الدولة مثلاً الدينار الأردني الدولار الأمريكي إلى آخره الريال السعودي ، هذا يعتبر التبادل بينه كالتبادل بين الذهب والفضة يعني بين النقدين من جنس مختلف فيجوز التفاضل لأنه كما يجوز بين الذهب والفضة ولكن النساء ممنوع وكل غير ذلك هو قاصر .
لقد أطلنا في النقول والاستشهادات كي يقتنع القاريء بالنتيجة التي توصلنا إليها وهي أن أعضاء المجمع كانوا لا يرون لهم دوراً في التفكير والاقتراح على الحكومات(1) تاركين ذلك للاقتصاديين ومؤدى ذلك أمران :
أولهما : أن علماء الشريعة إذا كانوا عازفين عن التفكير في تطوير المجتمع من الناحية الاقتصادية لأن ذلك مهمة الاقتصاديين ، فلا أقل من أن يبينوا الأصل الشرعي في تصويرهم للنقود في مجتمع إسلامي معاصر وهو ما لم يفعلوه، حيث يفهم من كلامهم أنهم يتمنون أن تكون النقود من الذهب والفضة حتى تستقيم مع الأحكام التي يعرفونها عن الربا والزكاة والمهور والسلم ونصاب حد السرقة ورأسمال المضاربة وأحكام القبض في المجلس .
ثانيهما : أن الاختيار الذي اتجهوا إليه يؤكد فهمنا الذي عبرنا عنه في مقالنا السابق من التفريق بين الأحكام الشرعية الأصلية والأحكام الشرعية البديلة الاضطرارية أو الوقتية على النحو الذي شرحناه في هذا المقال وسابقه الذي أشرنا إليه هناك . وكان حرياً بالمجمع أن يجمع بين الأمرين في بحثه بحيث يبين الحكم الشرعي الأصلي الخاص بالنقود في مجتمع إسلامي معاصر كما بين الحكم الشرعي البديل ، والذي سنعلق عليه في النقطة التالية .
على كل حال إن وضع الكرة في ملعب الاقتصاديين يفرض عليهم الإجابة على عدد من الأسئلة من بينها :
1- هل بالإمكان من الناحية العملية العودة إلى قاعدة الذهب ولو في بعض الدول الغنية كالسعودية والإمارات وقطر والكويت…
2- ما هي الآثار السلبية والإيجابية المترتبة على مثل هذا الوضع على الاقتصاديات الداخلية لهذه الدول وعلى علاقاتها الخارجية وعلى مكونات احتياطياتها الحالية من النقد الأجنبي .
3- ماهي الخطوات العملية اللازم اتباعها من قبل الدول التي تريد السير في هذا الاتجاه .
ثالثاً: إن الهاجس الذي كان يسود المناقشات داخل المجمع لم يكن هو الاجتهاد في إيجاد تصور للنقود في مجتمع إسلامي معاصر كما سبق أن أشرنا ، ولا في الاجتهاد في أحكام بديلة في مسائل الربا والزكاة والمهور والسلم ونصاب حد السرقة ورأسمال المضاربة وأحكام القبض في المجلس والكنز وغيرها، وإنما في تطبيق الأحكام الخاصة بهذه الأمــــور في ظل نظــــام النقدين (الذهب والفضة) على النقود الورقية ، وذلك دون أن يؤسسوا هذا على القياس على الذهب والفضة ، ولا على أن النقود الورقية بديل عن الذهب والفضة، وكان الأولى بهم عدم الربط بين الموضوعين ومعالجة هذه المسائل بصورة مستقلة :
1- فموضوع الزكاة ليس قاصراً على النقود وبالإمكان تأسيس زكاة الأوراق النقدية على زكاة التجارة ، كما بالإمكان تأسيسها باجتهاد مستقل كما في المستقلات من عمارات ومصانع وغيرها .
2- والمهور ليست قاصرة على النقود فقد زوّج الرسول (صلى الله عليه وسلم) على خاتم من حديد وعلى آيات من القرآن .
3- والسلم والمضاربة عقود الأصل فيها الإباحة ، وتقبل على هذا الأساس نشأة صور جديدة منها ومن غيرها دون التقيد بالصور القديمة .
4- ونصاب حد السرقة مرتبط بالقيمة الاقتصادية للمسروق وتحديدها بالنقود الورقية سيضطرنا إلى معادلتها بالذهب كلما انخفضت القوة الشرائية للنقود الورقية ، ومثلها في ذلك تحديد نصاب الإثبات بالكتابة بعشرين جنيهاً حين كانت تمثل راتب موظف الحكومة لعدة شهور لا يمكن أن يحقق مقصد الشارع حين أصبح لا يكفي ثمناً لوجبة طعام .
5- وأحكام القبض في المجلس نجد كثيراً من الفقهاء المعاصرين قد استبدلوا بالقبض الحقيقي ما أسموه القبض الحكمي أي تصرفوا في الحكم الشرعي بصرف النظر عن كون النقود ذهباً أو ورقاً ، والقاضي محمد تقي العثماني رأى جواز بيع الأجناس المختلفة من النقود الورقية بثمن مؤجل(1) .
6- وأحكام الربا والكنز متفرعة عن أحكام أخرى وقواعد أعم منها ، فإذا لم تنطبق الشروط الجزئية على بعض الحالات فإنها لا تنطلق منفلتة عن الأحكام العامة والقواعد العامة مثل أكل أموال الناس بالباطل وبخس الناس أشياءهم وتطفيف الميزان وعدم التظالم والعشرات بل المئات مما يضبط تصرفات الناس ، ومهمة الفقهاء _ مع ما يستجد من أحداث _ أن يضعوا لها الأحكام الجزئية المستمدة من هذه الأحكام العامة والقواعد العامة .
رابعًا : بقي أن نبحث فيما انتهى إليه المجمع من أن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية الكاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها هل هو في الحقيقة عملية قياس وإن لم ينصوا على ذلك أم أن أساسه العرف أو الاصطلاح كما عبروا عنه؟
1_ في الافتراض الأول أي القياس هل تتوافر عناصر القياس في هذه الحالة؟
وقبل البحث في توافر عناصر القياس، فإن قرار المجمع تحاشى أن يشير إلى أراء المذاهب في عدم جواز القياس على حكم الذهب والفضة وإلي مبرر خروجه على هذه الآراء .
أما عن عناصر القياس فأهمها اتحاد العلة ، وهنا مرة أخرى نجد مخالفة صريحة لعلة تحريم الربا في الذهب والفضة عند الحنفية وهي الوزن حيث أن النقود الورقية لا توزن وبالتالي فلا مجال لقياسها على الذهب والفضة عند الأحناف.
أما العلة عند الآخرين وهي الثمنية فقد وجد القرار فيها مبتغاه كي يقيس على أساسها متجاهلا صفات أخري في الذهب والفضة منها :
القيمة الذاتية وهو ما جعلها نقودًا بالخلقة وجعلها تؤدي وظيفتين أخريين للنقود وهي أنها مخزن للقيمة ومقياساً لها بينما لا تؤدي النقود الورقية سوى وظيفة واحدة هي أنها وسيلة للتبادل وهي ما عبر عنها بالثمنية.
ومنها المثلية في القيمة وهو ما تفتقده النقود الورقية تماماً ولعل معنى المثلية هذا هو ما عبر عنه الأحناف بالوزن لأنه معيار المثلية .
لم تناقش الأبحاث المقدمة للمجمع هذه المسائل واقتصرت المناقشات على أن النقود الورقية أصبحت أثماناً وبنت قياسها على هذا الأساس القاصر، وكان طبيعيًا أن يعالجوا مشكلة تغير قيمة النقود الورقية لأنها في الحقيقة هي التعبير عن افتقاد الوظيفتين الأخريين للنقود، وأجلوا البحث فيها دورة بعد أخرى ( الخامسة ثم الثامنة ثم الثانية عشر ) حيث حاولوا معالجة آثار تغيير قيمة النقود الورقية دون معالجة أسباب التغيير وهي ذات النقود .
2_ في الافتراض الثاني _ أي العرف _ نجدهم يشيرون في عرضهم لتاريخ النقود إلى أن التطور أدى إلى استعمال الذهب والفضة قبل عصر الرسالة فجاء الإسلام وأقر ذلك ونظمه ، ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى أن صرنا إلى النقود الورقية التي يستعملها الناس الآن بل تجبرهم القوانين على قبولها وتمنعهم من استعمال الذهب والفضة ، فكأنهم يستندون إلى العرف كدليل شرعي للنقود الورقية .
فهل تتوافر هنا شروط العرف الصحيح؟
أليس من شروط الأخذ بالعرف ألا يعارض نصًا ؟
أليس في طبع أوراق وإلزام الناس بقبولها اثمانًا لأموالهم وخدماتهم أكلاً لأموال الناس بالباطل ؟
الدولة التي تطبع أوراقاً تدفع بها حقوق المقاولين ورواتب الموظفين ، أليست تأكل أموالهم وجهودهم دون مقابل ؟
أليست بضخها في السوق هذه الأوراق ترفع من أسعار السلع والخدمات بما يسمى التضخم ، ثم تحاول معالجة الغلاء بتسعير السلع فتبخس الناس أشياءهم ؟
هل مجاراة الدول الإستعمارية في خططها التي تؤدي إلى شراء منتجات العالم النامي بأبخس الأسعار وبيعهم منتجاتها الصناعية بأعلى الأسعار مما يزيد الغني غنى والفقير فقراً ، هل هذا هو العرف الذي يعتبر دليلاً شرعياً تبنى عليه الأحكام ؟
هل نكون متجاوزين حين نقول أن القياس الذي بني عليه القرار قياس خاطئ وأن الاصطلاح الذي بني عليه القرار عرف فاسد ؟
وندعو المجمع إلى التصدي للمشكلة الأساسية وهي ذات النقود بصورة مناسبة لمنزلته وأهدافه ومهماته(1) .
_ 2 _
واتباعاً لمبدأ التفرقة بين الحكم الأصلي والحكم الانتقالي الذي تحدثنا عنه في العــدد السابق ( ص 106 ) والذي سبق أن تحدثنا عنه في العدد 24 من هذه المجلة ( ص 5 ) بعنـوان (الفقه المعاصر وفقه المرحلة الانتقالية) ، فإننا نعرض رأينا في كل من الموقفين بادئين بالحكم الأصلي وما يترتب عليه ثم بالحكم الانتقالي وما يترتب عليه.
الحكم الأصلي للنقود
وما يترتب عليه
نحن هنا أمام الحكم الشرعي في النقود أي النقود بمفهومها الشرعي أي النقدين الذهب والفضة في ظل وضع يستهدف تطبيق الحكم الشرعي الأصلي ، ويقتضينا ذلك البحث في عدد من المسائل :
المسألة الأولى : هي ضرورة العودة إلى قاعدة الذهب كما هو اصطلاح الاقتصاديين ويمكن البدء بتغطية العملة الورقية بالذهب 100% ، وفي مرحلة لاحقة يمكن السماح لحامل العملة الورقية باستلام مقابلها ذهباً.
وعند تحديد مواصفات الدينار الذهبي يفضل الالتزام بالوزن الذي كان سائداً في عصر نشأة المذاهب حتى يسهل تطبيق أحكام الزكاة ونصاب السرقة وغيرها دون حاجة إلى ترجمة الموازين القديمة إلى موازين معاصرة .
كما يمكن تأجيل التعامل بالذهب في المعامـلات الدوليـة إلى حين استقرار النظـام ودراسة ردود الأفعال الدولية وحركة سعر الذهب في أسواقه الدولية إن من المتوقع أن تحاول بعض الجهات المعادية التلاعب في سوق الذهب للتأثير على هذه العملة.
المسألة الثانية : ولذلك فمن الأفضل أن تتم هذه الخطوة في إطار تضامني بين بعض الدول النفطية على وجه الخصوص حيث تكون العملة الجديدة متينة لا بغطائها الذهبي فحسب بل بثراء الدولة ومخزونها النفطي كذلك، وحيث يكون النفط سلاحاً في يدها تدافع به ضد من يحاول العبث بعملتها.
المسألة الثالثة : لا شك أن خطوة هامة كهذه الخطوة تحتاج إلى دراسات معمقة تسبق الإقدام عليها ، ولن تبدأ هذه الدراسات من الصفر فهناك مدرسة من الاقتصاديين الغربيين تنادي بالعودة إلى قاعدة الذهب ، وما علينا إلا دراسة الأدبيات التي أنتجوها وما زالوا ينتجونها ، بل واستشارتهم والاستعانة بخبرتهم بحيث نكون على بينة من امرنا قبل أن نخطو هذه الخطوة.
ومن الدراسات التي يتحتم القيام بها:
– دوافع ونتائج تحكم الولايات المتحدة في اقتصاديات العالم بالضغط المباشر الذي أدى إلى نزاعات متكررة مستمرة مع منافسيها في اليابان والصين وأوربا ، وغير المباشر في الدول الضعيفة بواسطة أدواتها في هذا المجال : البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، وقيامها مؤخراً بطباعة مليارات الدولارات لتمويل حربها في أفغانستان والعراق.
– دوافع ونتائج محاولات التحرر من هيمنتها المالية بالبحث عن عملة دولية بديلة عن الدولار كاليورو في الاتحاد الأوروبي ، والدينار الإسلامي في بنك التنمية الإسلامي ومحاولة ماليزيا الأخيرة، ومحاولات بيع النفط بعملات غير الدولار ، واعتبار مخزون النفط والغاز والثروات الطبيعية الأخرى غطاء لعملات الدول ذات العلاقة بديلا عن الدولار ، وسياسة ديجول التي اضطرت الولايات المتحدة إلى فك ارتباط الدولار بالذهب ، وغير ذلك من المحاولات .
المسألة الرابعة : لقد نص فقهاؤنا القدامى على عدم جواز القياس على الذهب والفضة وبالتالي لم تكن هناك حاجة إلى البحث عن العلة والاختلاف حولها ، ومع ذلك أجهدوا أنفسهم في تحديد العلة ، بطبيعة الحال لا لغرض القياس ، وإنما لفهم الأحكام المتعلقة بالنقدين وضبطها ، ومن هنا يكون مشروعاً استمرار البحث عن علة الأحكام المتعلقة بالنقدين خاصة مع تطور نظام النقد العالمي وما أسفر عنه من نتائج سلبية.
صحيح أن إقرار التعامل بالنقدين كان استصحابا لما تطور إليه التعامل بين الناس ، ولكن هذا الإقرار وما صاحبه من أحكام تضبطه أصبح نظاماً شرعياً أساسه آيات القرآن وسنة الرسول القولية والفعلية والتقريرية.
ومن هذا الثراء في أحكام النقدين يمكن أن نلاحظ بعض الأمور:
1- إن إقرار التعامل بالنقديين كان واقعاً على عملات مسكوكة في بلاد أخرى ولم يبدأ التفكير في سلة عملة (وطنية) إلا في العهد الأموي ، ولم تكن هناك مشكلة سعر صرف فالعبرة كانت بوزن الذهب والفضة الموجود في هذه العملات ، أي القيمة الذاتية لها.
2- أن سك العملة لم يكن مهمة الدولة وإنما كان يقوم بذلك الصرافون، وتتركز مهمة الدولة والمحتسب على وجه الخصوص في التأكد من عيار المعدن ووزنه في العملة المتداولة تفادياً لما قد يقع من غش ، وضبطاً للنقود كوسيلة للتبادل وكمعيار للقيمة .
3- أن المثلية (في مقابل القيمية)(1)، هي المعنى المعتبر المشترك بين الأصناف الربوية الستة ، وقد عبر الأحناف عن المثلية بالوزن لأنه معيار المثلية وكذلك من عبر بالكيل فهو معيار كذلك للمثلية أما الثمنية في النقدين والمطعومية في الأصناف الأربعة الأخرى فهو وصف ثانوي بجوار المثلية ، وهي المعنى الأصلي الذي روعي في تبادل أنواع التمر المختلفة حيث لا تتحقق المثلية من ناحية القيمة ، وفي تبادل نقد حاضر بنقد آجل إذ تنتفي المثلية بإضافة عنصر الزمن في أحدهما بما يمثله من إمكانية استعمال النقد خلال هذا الزمن في أحدهما دون الآخر . والذي ينبغي مراعاته كذلك في بيع المصوغات المشغولة بنقد مـن جنس معدنها إذ تنتفي المثلية من ناحية القيمة في هذه الحالة بإضافة قيمة الشغل إلى قيمة المعدن .
المسألة الخامسة : تطرح نفسها وهي: هل هذه المحاولات لإعادة النقود الذهبية والفضية هي بدافع ديني فقط أم أن هناك مبررات اقتصادية لهذا الاتجاه تجعل الأمر يستحق المحاولة ؟
أظن أن ما كتب ويكتب عن التضخم وآثارة الكارثية على الاقتصاد وما نحس به جميعاً من عدم الاستقرار في ظل التدهور المستمر للعملات الورقية يكفي للإجابة على هذا السؤال .
الأحكام الشرعية الاضطرارية
لا نتحدث في هذا الجزء من البحث عما ينبغي أن يكون عليه نظام النقود من وجهة النظر الشرعية ، وإنما عما ينبغي علينا عمله في ظل النقود الورقية .
أول مسألة : تقابلنا هي تكييف هذه الأوراق من الناحية الشرعية إذا لم نعتبرها نقوداً شرعية : فهي مال متقوم طالما تقبل في التبادل مع الأموال الأخرى، وإذا أخذنا بأن العلة الجامعة بين الأصناف الستة هي المثلية فيمكن قياسها على الأصناف الأربعة فتعتبر ربوية في حالة ثبات قيمتها وبالتالي يراعى فيها التماثل والتقابض إذا كانت من جنس واحد ( حيث تعتبر كل عملة جنساً قائماً بذاته ) ، أما في حالة عدم ثبات قيمتها أي زيادة قوتها الشرائية أو نقصها فتعتبر أموالاً قيميه وبالتالي لا تكون ربوية ، ومعيار الزيادة أو النقص الفاحش في رأيي ما زاد عن 5 % (هناك آراء تشترط السدس أو الثلث ، ولكن العدالة في رأيي يكفـي فيها 5 % وهو رأي بعض الفقهاء)(1) .
ثاني مسألة هو أن التردد بين أدلة من يقولون بربوية النقود الورقية وأدلة من يقولون بعدم ربويتها يجعل المسألة محل شبهة – لعدم وجود نص صريح يحسم المسألة – و(من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)(2).
واتقاء الشبهة هنا لا يكون بعدم التعامل بالنقود الورقية لأن ذلك مستحيل بعد أن تدخلت الحكومات في فرض التعامل بها بل وفي تحريم التعامل بالذهب والفضة ، وإنما يكون اتقاء الشبهة بتضييق نطاق المعاملات التي تتأثر بربوية النقود الورقية ومن أهمها نظام الودائع في البنوك القائمة على صيغة القرض وأن يستبدل بها نظم قائمة على صيغ أخرى كما سنرى عند بحث قضية البنوك ، وكذلك ربط الالتزامات الآجلة ( كما في العقود الطويلة الأجل والقروض بين الأفراد ومؤجل المهور ) بوسيط أكثر ثباتاً كالذهب أو العملات القوية أو غير ذلك.
ثالث مسألة هي ضرورة اللجوء إلى التقييس لعلاج آثار التضخم الناتج عن استخدام هذه النقود وهذا ما لجأت إليه الدول الغربية، وقد شرحنا موضوع التقييس في المقال السابق فيرجى الرجوع إليه(1).
ومن أهم مظاهر هذا النظام :-
1- تعويض الموظفين والعمال في القطاعين الحكومي والخاص بنفس نسبة انخفاض القوة الشرائية للنقود حسبما تحددها نظم التقييس .
2- تعويض الدائنين ( بما في ذلك المودعين في البنوك ) بنفس نسبة انخفاض القوة الشرائية للنقود (فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ).
3- قصر تحريم الفوائد القانونية والاتفاقية على ما يزيد عن نسبة انخفاض القوة الشرائية للنقود وهو ما يسمى بالفائدة الحقيقية .
أما رابع مسألة ينبغي الاهتمام بها لعلاج تدهور العملة خاصة في علاقتها بالعملات الأخرى ، فيتمثل في حفظ التوازن بين الصادرات والواردات ، والإسراع بالسوق الإسلامية المشتركة ، وتشجيع الصناعات المحلية إنقاذاً لها من مخاطر العولمة التي تهددها.
(1) يظهر في قائمة المشاركين من الخبراء فضيلة الأستاذ علي حيدري كخبير في الاقتصاد، ومن البنك الإسلامي للتنمية الدكتور منذر قحف كباحث اقتصادي، ولكنهما لم يقدما بحوثًا ولم يشاركا في المناقشات.
(2) كان ذلك سنة 1986، ثم تنبه المجمع إلى استكمال هذا النقص فعقد عدة ندوات متخصصة سنوات 1989، 1991، 1993، 1995، 1996، 1999م حيث بدأ إسهام الاقتصاديين الإسلاميين في أعمال المجمع وإن كان ما زال محدودًا للغاية ودون المستوى المطلوب .
(1) محامي ليبي عضو مكتب مجلس المجمع ومقرر شعبة التخطيط بالمجمع .
(2) نفس المرجع ص 1922 .
(3) وزير الأوقاف الأردني الأسبق، عضو معين بمجلس المجمع.
(4) نفس المرجع ص 1926، 1936.
(5) نفس المرجع ص 1928.
(6) من اليمن الديمقراطية، عضو مجلس المجمع .
(1) نفس المرجع ص 1935.
(2) أحد خبراء المجمع .
(3) نفس المرجع ص 1938.
(4) نفس المرجع ص 1938، 1939.
(5) أحد خبراء المجمع.
(6) نفس المرجع ص 1944.
(7) من لبنان، عضو مجلس المجمع .
(8) نفس المرجع ص 1945.
(9) من النيجر، عضو مجلس المجمع.
(1) نفس المرجع ص 1947.
(2) نائب رئيس مجلس المجمع ووزير الأوقاف الأردني.
(3) نفس المرجع ص 1943.
(4) عضو مجلس الشورى بالمملكة السعودية، وأحد خبراء المجمع .
(1) نفس المرجع ص 1946.
(2) عضو معين بمجلس المجمع .
(1) بدأ المجمع في دورته الثانية عشرة سنة 2000م بدعوة الجهات النقدية المختصة عدم زيادة كمية النقود ودعوة الحكومات العمل على توازن ميزانياتها العامة واستقلال المصرف المركزي .
(1) نفس المرجع ، ص 1705 .
(1) اتجه مؤتمر القمة الإسلامي الأخير المنعقد في ماليزيا إلى علاج وضع المجمع بتقرير إعادة هيكلته لأداء دوره المطلوب منه .
(1) انظر البحث القيم (تذبذب أسعار النقود الورقية) للدكتور علي محي الدين القره داغي في الأعداد 50 ، 51 / 52 ، 53 من مجلة المسلم المعاصر0
(1) انظر البحث القيم (تذبذب أسعار النقود الورقية) للدكتور علي محي الدين القره داغي في الأعداد 50 ، 51 / 52 ، 53 من مجلة المسلم المعاصر0
(2) انظر البحث القيم للشيخ عبد الله بن بيه في مجلة المجمع ، مرجع سابق ص 1833- 1865.
(1) العدد 110 ص 91 – 95.