أبحاث

البنوك الإسلامية وأثرها في تطوير الاقتصاد الوطني

العدد 24

إن الحمد إلا لله، أستعينه وأستغفره، وأصلي  وأسلم على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

تشرفت بتلقي رغبة وزارة الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية الموقرة بتقديم بحث عن البنوك الإسلامية وأثرها في تطوير الاقتصاد الوطني.

وعلى الرغم من أن المشتغلين بالفكر الاقتصادي الإسلامي والمشتغلين بالبحوث التي تدور حول البنوك الإسلامية قد أفرزوا في الحقبة الأخيرة فيضا وافرا من الكتابات والتأصيلات والاجتهادات حول البنوك الإسلامية والاقتصاد الإسلامي بوجه عام. إلا أنهم – وربما كان هذا شيئا غريبا – لم يركزوا الأضواء حول آثار البنوك الإسلامية في تطوير الاقتصاد في المناطق التي تمارس فيها هذه البنوك عمليها.

ولا أحسب أن ذلك يعني تقصيرا من جانب المفكرين الاقتصاديين المسلمين، فقد كانت مشاغلهم منذ أن انفتح باب الكتابة في هذا المجال تدور حول تقديم فكرة البنوك الإسلامية وردها إلى أصولها الإسلامية وإثبات صحتها وسلامتها النظرية وطرح وسائلها وأساليبها التطبيقية، والإشارة إلى تأكيد آثارها العامة في المجتمعات الإسلامية.

ومن ثم فإن تأجيل البحث في تناول (الآثار) النوعية للبنوك الإسلامية كان أمرا شبه ضروري حتى تستقر الفكرة نظريا وتجريبيا، وحتى تتاح من خلال التجارب الموجودة حاليا البيانات والإحصائيات التي تمكن من ممارسة البحث العلمي المنضبط المؤيد بالشواهد والأرقام فيما يتعلق بالآثار النوعية للبنوك الإسلامية.

ولا شك أن التفات الندوة العالمية التي تقيمها وزارة الأوقاف الأردنية الموقرة إلى دعوة الاقتصاديين المسلمين لبحث الآثار النوعية للبنوك الإسلامية إنما تمثل مبادرة رائدة لتوجيه النظر على جانب فكري هام في حركة البنوك الإسلامية ربما غاب عن الباحثين أنهم لم ينبهوا إليه.

وأصار حكم منذ البداية أنني خلال الفترة القصيرة المتاحة لإعداد البحث لم أوفق في الحصول على المادة الإحصائية والرقمية اللازمة لمعالجة هذا الموضوع ومن ثم فإن خطة البحث قد تحددت في ظل هذه الظروف في النقاط التالية:

موجبات إقامة البنك الإسلامي.

مفهوم وأهداف البنك الإسلامي.

السمات المميزة للبنك الإسلامي.

آثار البنك الإسلامي في تنمية المجتمعات الإسلامية.

موجبات إقامة البنك الإسلامي:

هناك عدد من القضايا جعلت التفكير في إيجاد بديل إسلامي للبنوك الربوية القائمة التزاما دينيا وضرورة عقائدية… ويمكن إجمال هذه القضايا فيما يلي:

1 – إن نصوص الإسلام متضافرة على تحريم الربا، وعلى اعتباره منكرا اقتصاديا واجتماعيا غليظ الأثم، بل ومن الممكن عده جريمة سياسية كذلك، فقد ثبت أن الغزو الاقتصادي القائم على المعاملات الربوية كان التمهيد الفعال للاحتلال العسكري والتجاري الذي سقط أكثر دول الشرق في مخالبه.

2 – إن الشبكة الربوية العديدة الفروع المعقدة الاتجاهات المنتشرة في الحياة العامة انتشار الشرايين في الجسم قد صدعت البناء الاجتماعي للإسلام – كدين عام – وشوهت حقائقه الأولى في عقول أبنائه وقلوبهم، وأنها قد أصابت كذلك الوضع السياسي للمسلمين.

3 – إن الأنظمة الاقتصادية التي نتلقاها عن الشرق أو عن الغرب ونسير على هداها تعزل الأخلاق عن الممارسات العملية في توظيف المال وهي بذلك تنحي الدين عن الحياة الاقتصادية.

4 – إن النظام الإسلامي والنظام الربوي لا يلتقيان في تصور ولا يتفقان في أساس، ولا يتوافقان في نتيجة، فالإسلام يقيم النظام الاقتصادي على أساس أن الله سبحانه – وهو خالق هذا الكون وهو خالق هذه الأرض وهو خالق هذا الإنسان، وأنه قد استخلف الجنس البشري في هذه الأرض ومكن له فيها على عهد منه وشرط.

بينما يقوم النظام الربوي على تصور آخر لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى ومن ثم لا رعاية فيه للمبادئ والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها، كما يقوم على أساس أن الفرد هو سيد هذه لاأرض وأنه حر في وسائل حصوله على المال وفي طرق تنميته كما هو حر في التمتع به غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط. وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين.

5 – إن الشبكة الروية تنشئ في النهاية نظاما يستحق البشرية سحقا، ويشقيها في حياتها افرادا وجماعات ودولا وشعوبا لمصلحة حفنة من المرابين، ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد… وينتهي كما انتهى في العصر الحديث إلى تركيز السلطة الحقيقية والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيد زمرة ممن لا يرعون في البشرية إلا ولا ذمة ولا يراقبون فيها عهدا ولا حرمة.

6 – إن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماما وإن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعد الاستخلاف وشرطه. وانه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم به في حياته ومحاسب عليه في آخرته. فليس هناك نظام أخلاقي وحده ونظام عملي وحده وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان، وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن ويؤاخذ عليها إن أساء… وإن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق، وأن الأخلاق ليست نافلة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية.

7 – إن الإسلام نظام متكامل، فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه، وينظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعاملن بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني.

8 – وجود استحالة اقتصادية في أن يحرم الله أمرا لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه، كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها.

يضاف إلى هذه القضايا عدد من الأمور من أهمها:

– إن النظام المصرفي القائم الذي نشأنا فوجدناه بين ظهرانينا، قد نقلته بلادنا الإسلامية عن الغرب بحكم سيطرة الغرب – بالقوة أو بحكم الواقع. ومنذ أن نشأ النظام المصرفي في البلاد الإسلامية اتخذ النظام الأجنبي مثلا له.

– إن نمط هذه المصارف على الرغم من تعددها وتنوعها لم تستطع ان توجد الحافز الملائم لاجتذاب العديد من فئات المواطنين، سواء كانوا من أصحاب الأموال والمدخرات أم من كانوا من أصحاب القدرة على العمل وإنشاء المشاريع في مختلف القطاعات. وأنه من الواضح أن فقدان هذا الحافظ لدي أمثال هؤلاء المواطنين إنما يرجع في واقعه إلى حقيقة كون الأسلوب المصرفي مبنيا على نظام التعامل بالفائدة باعتبارها الوسيلة الوحيدة للتوظيف أو التمويل في حالتي الأخذ والإعطاء.

وهكذا وجد في المجتمع أصناف من الناس مضطرين – حكما – إلى إبقاء أموالهم معطلة بدون استثمار، وذلك في الوقت الذي يقف فيه على الجانب الآخر ناس آخرون يحتاجون للتمويل المنظم بالأسلوب المصرفي ولكنهم ممتنعون اخيارا عن التعامل والاقتراض نظرا لانحصار الوسيلة المتاحة في نظام الفائدة أو أنهم محرومون اضطرارا لان التنظيم المصرفي في مجالات التسهيلات لا يعترف بأسلوب المشاركة بين راس المال والعمل الذين يمكن أن يقدمه المواطن الأمين.

– وإن من الطبيعي أن يقود هذا التحديد الضيق لأسلوب العلم المصرفي الملتزم بالفائدة إلى ظهور أنواع من التصرف السلبي المبرر بالقناعة الدينية العميقة من حيث الرغبة في البعد عن دخول أي من أبواب الاستثمار المالي المتاحة على أساس الفائدة، وذلك عدا ما يقود إليه تركيز الائتمان المصرفي في نطاق المحدود من آثار اجتماعية مؤثرة سلبيا على استمرار التوازن العادل بين من يملكون المال ومن يملكون القدرة على العمل فيه بالإنتاج والإعمار والبناء.

– فضلا عما تقدم فإن الشعور بالانفصال النفسي لدي عامة المواطنين إزاء التعامل المصرفي على أساس الفائدة قد حال دون تقدم هذه البنوك لتغطية جانب الخدمات الاجتماعية المرتبطة بمفهوم التكافل والتراحم الإنساني وذلك رغم أن هذا النوع من الخدمات الهادفة معروف ومطبق لدي المؤسسات المصرفية العاملة في البلاد الأجنبية. وقد أدى هذا الوضع إلى بقاء هذا الجانب من التكافل الاجتماعي معطلا بلا تنظيم.

حركة البنوك الإسلامية:

مع الوعي بما أسلفنا ذكره من قضايا ومسلمات، ومع الصحوة التي أيقظت في نفوس المسلمين التأكيد على أن الإسلام منهاج كامل للحياة تترابط فيه سياسة الحكم مع سياسة المال، ومع تعاظم الإحساس بخطر تلك الأمور المستجدة التي بدت وكأنها تواجه الحياة الإسلامية بما يشبه التحدي، وفي ظلال فقدان البديل الإسلامي. نشات في الأوساط الإسلامية ما يمكن أن نسميه بمشكلة ضميرية. وتطلع المسلمون نحو العلماء والمفكرين المسلمين آملين أن يجدوا لديهم الملجأ البديل.

ولم تكن الاجواء والظروف والمحيطة بالعالم الإسلامي في بداية عهه بالتفتح الحديث تساعد على حمل لواء التحدي لرفض هذه الأعمال المستجدة طالما أنه لا يوجد عنها غنى، وليس لها في التصور المنتظر ما يمكن أن يقدم في مجالها كحل بديل.

وقد بدأت المحاولات بتبرير الواقع وتلمس المسالك المختلفة لإخراج الفوائد وما في حكمها من نطاف الربا المحرم.

ثم انتقلت المحاولات إلى التويع والتوفيق.

ثم ظهرت في أفق العالم الإسلامي محاولات أكثر جرأة اتخذت طابعا إيجابيا اتسم برفض الواقع المنقول في فترة الضعف والتبعية واتجه إلى إيجاد الوسائل الإسلامية البديلة للمؤسسات المصرفية.

وهكذا تحول الاتجاه من خط الدفاع السلبي إلى محور التنفيذ الإيجابي.

وشهدت الستينيات من هذا القرن تجربة وراء تجربة لبنوك إسلامية على المستوى المحلي ثم شهدت السبعينيات إقامة بنك إسلامي على المستوى الدولي.

ولكي ننتقل خطوة أخرى إلى الحديث عن آثار البنوك الإسلامية على التنمية في المجتمعات الإسلامية (وهو هدفنا من هذا البحث) فإننا بحاجة إلى أن نتعرف على مفهوم البنك الإسلامي وماهيته وسماته والوظائف التي يقوم بها ويؤديها. مفهوم وأهداف البنك الإسلامي:

تشتمل قوانين ومراسيم إنشاء البنوك الإسلامية التي قامت حتى الآن على الغايات والأهداف التي ينشد البنك الإسلامي تحقيقها.

وباستعراض هذه القوانين وما جاء فيها نستطيع أن نخلص إلى تعريف عام للبنك الإسلامي مؤداه أن:

البنك الإسلامي هو مؤسسة مالية مصرفية لتجميع الأموال وتوظيفها في نطاق الشريعة الإسلامية بما يخدم بناء مجتمع التكافل الإسلامي وتحقيق عدالة التوزيع ووضع المال في المسار الإسلامي ويهدف البنك الإسلامي لتحقيق الآتي:

أ – جذب وتجميع الأموال، وتعبئة الموارد المتاحة في الوطن الإسلامي، مع دعم هذه الموارد من خلال تنمية الوعي الادخاري لدي الأفراد.

ب – توجيه الأموال للعمليات الاستثمارية التي تخدم أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الوطن الإسلامي.

ج – القيام بالأعمال والخدمات المصرفية على مقتضى الشريعة الإسلامية خالصة من الربا والاستغلال وبما يحل مشكلة التمويل قصير الأجل.

ويعني هذا أن البنك الإسلامي هو:

كيان ووعاء، يمتزج فيه فكر استثماري اقتصادي سليم، ومال يبحث عن ربح حلال، لتخرج منه قنوات تجسد الأسس الجوهرية للاقتصاد الإسلامي. وتنقل مبادئه من النظرية إلى التطبيق ومن التصور إلى الواقع المحسوس، فهو يجذب رأس المال الذي يمكن أن يكون عاطلا ليخرج أصحابه من التعامل به مع بيوتات يجدون في صدورهم حرجا من التعامل معها.

وأن خصائصه الأساسية تتمثل في:

1 – استبعاد التعامل بالربا.

2 – توجيه الجهد نحو التنمية عن طريق الاستثمارات.

3 – ربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية.

4 – إحياء فريضة الزكاة ووظيفتها الاقتصادية والاجتماعية الصحيحة.

وأن موارده هي:

1 – الحسابات الادخارية.

2 – الودائع.

3 – الأموال المودعة بغرض الاستثمار.

4 – الحسابات الجارية.

وأن استخداماته تتلخص في:

1 – استثمار مباشر: في إنشاء شركات أو مؤسسات تقوم بنشاط اقتصادي معين تجاري أو صناعي أو زراعي.

2 – استثمار بالمشاركة مع آخرين في مشروعات عن طريق:

أ – رأس مال المشروع: شراء أسهم شركات أخرى، أو المساهمة في رأس مال مشروعات معينة.

ب – المضاربة (عقد القراض) في صفقات محددة بدفع المال كله أو جزء منه.

جـ- المشاركة المنتهية بالتملك.

د – عمليات المرابحة، لتمكين أفراد أو هيئات من الحصول على سلع يحتاجونها قبل توافر الثمن المطلوب.

3 – قروض بدون فوائد في حالات معينة.

4 – استخدام أموال الزكاة وتخصيصها للتكافل الاجتماعي، حيث أن الوظيفة الأصيلة لمال الزكاة هو تمكين الفقير من إغناء نفسه بنفسه، حتى يكون له مصدر دخل ثابت يغنيه عن طلب المساعدة، وأن كثرت موارد الزكاة واتسعت حصيلتها فيمكن استخدام أموالها في إقامة منشآت ومصانع.

وهكذا تكون جميع أنشطة البنك واستثماراته تخضع للمعايير التي يحددها الإسلام ويترتب على ذلك:

1 – توجيه الاستثمار وتركيزه في دائرة إنتاج السلع والخدمات التي تشبع الحاجات السوية للإنسان المسلم.

2 – تحري أن يقع المنتج – سلعة كان أم خدمة في دائرة الحلال.

3 – تحري أن تكون كل مراحل العملية الإنتاجية (تمويل – تصنيع – بيع – شراء) ضمن دائرة الحلال.

4 – تحري أن تكون كل أسباب الإنتاج (أجور – نظام – عمل) منسجمة مع دائرة الحلال.

5 – تحكيم مبدأ احتياجات المجتمع ومصلحة الجماعة قبل النظر إلى العائد الذي يعود على الفرد.

البنوك الإسلامية وأثرها على الاقتصاد والتنمية:

ننتقل بعد ذلك إلى آثار البنوك الإسلامية على الاقتصاد والتنمية في مجتمعاتنا الإسلامية: والحديث عن هذه الآثار يأتي من خلال التعرف على خصائص البنك الإسلامي. وذلك أن هذه الخصائص وحدها هي التي تفرز الأثر الذي يحدثه البنك الإسلامي في مجتمعاتنا الإسلامية. ومن ثم فإن العنوان الذي نختاره لهذا القسم من البحث هو: خصائص البنك الإسلام وآثارها على الاقتصاد والتنمية في مجتمعاتنا الإسلامية.

وأولى هذه الخصائص هي:

أ – استبعاد التعامل بالفائدة: وتشكل هذه الخاصية المعلم الرئيسي للبنك وبدونها يصبح البنك أي شيء آخر غير كونه بنكا إسلاما، وأساس هذه الخاصية أن الإسلام حرم الربا، ويعني وجود هذه الخاصية ابتداء في البنوك الإسلامية أنها تنطلق من ذلك التصور الذي يراه ويحدده الإسلام للكون والحياة. ويعني وجودها كذلك أن البنك الإسلامي كمؤسسة ينسجم مع غيرها من المؤسسات الأخرى التي تشكل في مجموعها المجتمع الإسلامي.

ولا يتناقض معها ولا يكون كذلك سببا أو على لخلق تناقض في بنية المجتمع الإسلامي بشكل أو آخر.

ولأن سوءات نظام الفائدة (الربا) قد أصبحت معروفة ومعترفا بها منذ أجيال، وبات كثير من الاقتصاديين المرموقين ينسبون لهذا النظام جميع العيوب التي ظهرت في المجتمعات الرأسمالية، فإننا سوف لا نتناول من هذه المساوئ أو السوءات إلا ما تعنينا الإشارة إليه في التعرض لآثار البنك الإسلامي في الاقتصاد والتنمية بمجتمعاتنا، والذي تعنينا الإشارة إليه هنا هو أنه يكاد يكون هناك إجماع على أن الربا يفتح باب الظلم و الاستغلال، وهو ظلم لأن عقد القرض الربوي يضمن للدائن زيادة في رأس ماله دن تحمل أي خسارة، فهو يحصل على رأس ماله في جميع الأحوال، ويحصل فوق ذلك على الفائدة وكلما كان الطرف الآخر (المدين) ضعيفا على أي وجه من وجوه الضعف كأن يكون مأزوما مضطرا – كلما استطاع الطرف الأول (الدائن) أن يحصل على زيادة أكثر، وإنني أصادق على ما ذكره كنيفر في هذا الصدد حيث يقول “إن البنوك الربوية تجد لذتها وسعادتها بل وتجد حياتها في الضيق والأزمات التي تكتنف حياة الناس، وأن توسعها وازدياد نشاطها مرهون إلى حد كبير بالخراب الذي يحيق بالآخرين”. وهكذا يؤدي التعامل بالفائدة بطريقة حتمية إلى تكوين طبقة تملك رؤوس الأموال وتتيح لها هذه الملكية التحكم في الطبقات الأخرى، وتظل تعمل على إضعافها لأنه كلما ازدادت ضعفا كلما أتيح لها أن تحصل على شروط أفضل وكلما ازداد ثراؤها تضخما وازداد نفوذها تعاظما وازداد سيطرتها إحكاما، ويشير كنفير إلى أن السياسة النقدية للدول والحكومات استسلمت وما زال تستسلم للفوائد الربوية وإن هذه الفوائد وضعفت على تمويل الدول والحكومات قيودا غليظة، فأصبحت لا تملك فكاكا من سلطان البنوك. والعجيب أن البنوك لا تجد مشقة في إيجاد النقود لأنها بالنظام الذي تسير عليه تقوم بعملية خلق للنقود من خلال قيود دفترية. ومما يزيد في غرابة هذا الأمر أن أطراف اللعبة نجحوا في خديعة الإنسانية، وفرض لعبتهم عليها. ويشير الواقع المشهود أن كل أدوات التأثير في المجتمع من حكومات وأحزاب وقادة فكر ووسائل أعلام.

كل ذلك أدوات في مخالب أصحاب البنوك والماليين… وعندما ينقسم المجتمع إلى طائفة مهمتها أن تستغل طائفة أخرى يفتح هذا باب الصراع الطبقي الناتج عن التناقض بين مصالح الطوائف المختلفة في المجتمع. فالطائفة الظالمة المستغلة تسعى للسيطرة على السلطة وتسخير الدولة لحماية مصالحها التي تتعدد وتتضخم يوما بعد يوم. والطائفة المظلومة المستغلة تقاوم هذه السيطرة بالأنين، ثم بالصراخ، ثم بالعنف إن لم تجد وسيلة أخرى لحماية نفسها من الاستغلال… وهذا هو صراع الطبقات الذي تخلقه الرأسمالية وتستغله الماركسية… ولا يختلف الوضع في الماركسية عن الوضع في الرأسمالية إلا في الشكل فقط، فعندما تنجح الماركسية في إبادة الطبقة الرأسمالية والقضاء عليها وعلى سيطرتها فإنها تقيم بدلا منها تسلط الدولة وسيطرة الحزب… ويصبح النظام المصرفي خاضعا للدولة والحزب بدلا من أن يكون خاضعا لحفنة من الرأسماليين.

ولما كان الإسلام يعني بحماية الفرد ويعني في نفس الوقت بحماية المجتمع ويحصر على الوحدة والتآخي بين أفراده فإنه يقيم تشريعه الشامل الاجتماعي والاقتصادي) بطريقة تقتلع الأسباب التي تؤدي إلى خلق طبقة استغلالية ظالمة سواء كانت هذه الطبقة مجموعة أو حزبا، وطبقة مستغلة مظلومة… وأن آفة الظلم هنا لا تنحصر في دائرة محدودة… إنما تمتد لتشمل الملايين بل آلاف الملايين من البشر في العالم…. تشمل كل أولئك الذين يقاسون اليوم من اختلال النظام النقدي وانخفاض قيمة النقود نتيجة ارتفاع الأسعار الذي لا يتوقف، والتضخم الذي يستشري، ولا يعلم إلا الله متى ينتهي.

وما أفدح الظلم الذي يقع على إنسان يجد ويجتهد ويجمع بحبات عرقة ما يدخره من أجل مستقبله وأسرته وأولاده، ثم يجد بعد فترة أن ما أدخره لا يساوي نصف أو ربع قيمته السابقة، ما أقسى أن يقرض شخص آخر مبلغا من المال، ثم يسترده منقوصا عن الأصل لأن قيمة النقود قد انخفضت، ما أصعب الظلم الواقع على الملايين من الموظفين أصحاب الدخول الثابتة وأرباب المعاشات من جراء ما يصيب دخولهم من نقصان مستمر نتيجة التضخم المستشري والذي تقف الدول والحكومات بإزائه عاجزة مكتوفة الأيدي… كل ما تستطيعه هو أن تتخذ بعض التدابير المؤقتة، أو تلجأ عاجزة مكتوفة الأيدي.. كل ما تستطيعها هو أن تتخذ بعض التدابير المؤقتة، أو تلجأ تبارك وتعالي في قوله: “الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان من المس.. ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا “وأحل الله البيع وحرم الربا”… إنها صورة العالم اليوم… صورة المسوس الذي يتخبط، لا يعني ما حوله ولا يملك أمر نفسه، ولا يبصر طريقه.

يكاد يتفق الجميع على أن الأسباب الرئيسية للتضخم في أي مجتمع لا تخرج في الغالب عن زيادة الاتفاق الرأسمالي من جانب الحكومة أو الأفراد. الأنفاق الحكومي على الحرب والتسليح، عدم كفاية المدخرات الاختيارية بما يتناسب مع الاستثمارات المتزايدة، ارتفاع الأجور والمرتبات، زيادة كمية النقود نتيجة زيادة حجم الائتمان وإقراض الحكومة، زيادة الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية.

ولعل هذه هي جملة الأسباب التي يفسر بها الاقتصاديون ظاهرة التضخم في أغلب الأحوال.

ولو أننا قمنا بعملية تحليلية وتجميعية لهذه الأسباب فإننا في النهاية يمكننا أن نقرر أولا: أنها في يد كيانات ثلاثة هي:

1 – الدولة.

2 – الأفراد.

3 – المؤسسات المالية.

وثانيا: أنها لا تخرج عن كونها عملية سلوك يصدر عن هذه الكيانات الثلاث.

أما الدولة وسلوكها فلا يغيب عن أحد منا كيف أثر الفكر الاقتصادي الغربي في الدور الذي تقوم به الدولة حاليا، والسياسات التي تمارسها الحكومات في أغلب المجتمعات متأثرة بوجه أو بآخر بهذا الفكر.

لقد بدأت النظرة إلى النقود نظرة حيادية، فالنقد رمز يعبر عن قيمة مقابلة، وكان دور الدولة محصور بذلك في أضيق الحدود… ثم تطورت نظريات النقود حتى جاء “كتاب” بنظرية سيادة الدولة. وجاء “كينز” بدعوته إلى تحقيق العمالة الكاملة عن طريق زيادة الإنفاق. ولو كان بتدخل الدولة وقيامتها بدور إيجابي في النشاط الاقتصادي. وصادفت هذه الآراء صدى في نفوس الحكومات فبدأت منذ ذلك الوقت تمارس سياسات تؤدي جميعها بدون استثناء إلى تضخم، أو على الأقل تفقد الحصانة ضد التأثر بالتضخم. وتؤكد الشواهد التاريخية أن السبب الرئيسي لكل أزمات التضخم الكبرى في الماضي ترجع إلى إساءة تصرفات الدولة، وهنا نقفز قفزة سريعة لنسأل:

ترى هل يمكن القول بأن تصرف معظم الحكومات يمكن أن يكون تصرفا إسلاميا إذا عرضناه على ما جاء بمصادر التشريع الإسلامي توجيهات في المجال الاقتصادي؟، وإذا اتبعنا هذا السؤال بالإشارة إلى الأسلوب الذي تنتهجه معظم هذه الحكومات من الاقتراض من بنوكها المركزية بالفائدة. فإنه يصعب أن تكون إجابتنا على السؤال المطروح بالإيجاب. فإذا انتقلنا إلى الأفراد فسوف تجدهم تمشيا مع إحدى القواعد الاجتماعية الثابتة يتأثرون بسلوك الحكومات ومؤسساتها الرسمية.

وحتى عندما لا تطمئن الحكومات والمؤسسات المالية الرسمية إلى التأثر التلقائي من جانب الأفراد. تتجه عمدا إلى التأثير المقصود، وتتدخل لتغيير سلوك الأفراد الذي يؤدي إلى التضخم، وتشتق برامج الوسائل إلى التغيير من فكر مادي وافد. ولذلك فإننا نرى أن أهم ما تعتمد عليه من وسائل إلى ذلك التغيير يتركز على سعر الفائدة. وبذلك فإنها تعتمد أساسا على الجوانب المادية من الحوافز. سواء كان ذلك بالنسبة للحد من إنفاق الأفراد وزيادة مدخراتهم، أو حث المنتجين على الإقدام على الاستثمار. ولا يسجل التاريخ غير حالات نادرة اتجهت فيها الحكومات أو الزعامات إلى الاستعانة بقيم أو مبادئ لتغيير سلوك الأفراد.

والأمر الذي يستحق التعليق أن نتائج استخدام مبادئ أو قيم وضعية كانت كبيرة وهامة، فكيف يكون الأمر لو استعين في تغيير السلوك بقيم ومبادئ روحية؟ حيث يستشعر الأفراد عندئذ أنهم يلتزمون بتكليف يلتمسون به إلى الله الزلفى والتعبد.

ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن الأفراد أن نشير إلى الآراء الحديثة في النقود والتي تربط بين قيمة النقود والعامل النفسي، فهم يقولون أن من العوامل الرئيسية لفقدان النقود لقيمتها الموقف النفسي للأفراد تجاه قيمة النقود في الحاضر والمستقبل، وهكذا يشكل الموقف النفسي تجاه النقود وعدم التوازن بين الميل للادخار والميل للاستثمار ظاهرة عادية بالنسبة لانخفاض قيمة النقود.

ومحصلة ذلك كله أن الأفراد معين يسهمون في التضخم ويأتي إسهامهم نتيجة سلوك اضطراري تسوقهم إليه تصرفات الحكومات والمؤسسات.

وفي مجال الحديث عن سلوك الأفراد، يهمنا أن نشير إلى مظهر آخر يتمثل في أننا نلاحظ أن الحريصين من الأفراد على الالتزام بالتوجيهات الإسلامية يجدون أنفسهم رغما عن اراداتهم مشدودين إلى عجلة مؤسسات غير ملتزمة بهذه التوجيهات. فالملتزم الحريص مثلا يعني تماما حرمة الاكتناز أو التقتير. وما ورد فيها من نهي ووعيد. ويعي المصلحة الاقتصادية المرتبة على عدم حبس ما بيده من نقود أو من ذهب أو فضة عن التداول ولكنه يعي في نفس الوقت ذلك التحريم المشدد في أخذ الربا وقد نهي الله عنه، ومن هنا فإنه يعاني ذلك الموقف المتحيرين بين محظورين: الاكتناز من جهة، والربا من جهة أخرى. وكل المؤسسات المالية من حوله تقوم على الربا، فيضطر في النهاية خروجا من هذا المأزق – إلى الإسراف في الانفاق الاستهلاكي، لا لأنه هو المخرج المطلوب، ولكن لأن المخرج الممكن في ضوء مقارنة درجات الحظر والإباحة، وينسحب هذا الموقف على سلوك التاجر والمنتج… الخ.

نأتي بعد ذلك إلى المؤسسات المالية:

تقع البنوك والمؤسسات المالية في وسط أو مركز التيار النقدي فهذا التيار يندفع بمعدلات سريعة متفاوتة وبأحجام معينة إلى البنوك لينساب بعد ذلك منها بمعدل وحجم أقل أو أكثر. ومن هنا يعتبر البنك أو المؤسسة المالية حلقة أساسية في سلسلة الدائرة النقدية في المجتمع. ومن هنا أيضا، من هذا الوضع الاستراتيجي في دورة التيار النقدي   يتسنى للمؤسسات المالية تأثيرها المتشابك والمؤثر على الدولة وعلى الأفراد.. هذه المؤسسات المالية من ناحية في مواردها المالية أساسا على ودائع الأفراد بأنواعها التي تتدفق إليها، وتعمل هي من جانها على استمرار هذا التدفق. ملوحة تارة بالحوافز والدوافع المالية. وتارة بحجة الأمان وتيسير المعاملات. وتعتمد في بقائها ونموها على حاجة الأفراد والمنتجين لتمويل نشاطهم وما يصاحب هذه الحاجة من قبول شروط الاستدانة التي تفرضا هذه المؤسسات، كما تعتمد كذلك على حاجة المأزومين الذين تواجههم ظروف صعبة طارئة. وهي في كل الحالات تزداد أرباحها وتتضخم ثرواتها. ومن ثم تتزايد قوتها ويتعملق نفوذها.

إن عرض هذا الموضوع أطول من أن يعالج في هذه العجالة. وكل ما أريد أن استخلصه من كل ما تقدم أن استلفت النظر إلى النقطة الأم في هذه الدوامة الجهنمية وهي سعر الفائدة… إنه هو العنصر المحرك الذي يدفع المؤسسات والحكومات والأفراد إلى سلوك يقود حتما إلى التضخم.

والسؤال الآن: ترى ما هو المخرج والبديل، والإجابة عليه أن المخرج والبديل هو مبدأ المشاركة الذي تحله البنوك الإسلامية محل الفائدة.

إن قيمة بمبدأ المشاركة قد يتضح لنا إذا ما تبينا أن العلاقة بين التعامل بسعر الفائدة بمبدأ المشاركة يشبه إلى حد كبير العلاقة بين الوهم والحقيقة، أو بين الخيال والواقع، فالمؤسسة المالية التي تقرض بالفائدة ليس ضروريا أن يقابل الائتمان الذي تمنحه منظورة أو خدمات مرئية. كما وأن المعالجة المحاسبية لهذا الأمر تتم قيودا على ورق، بينما الأمر على خلاف ذلك عندما تسير الأمور بمبدأ المشاركة. فالمؤسسة تمول ليشترط طالب التمويل ما يلزمه لتمويل مشروعه. وينفق إنفاقا حقيقيا لتشغيل مشروعه. وهو يقدم جهده والمؤسسة تقدم خبرتها وإمكانياتها في صورة يمثل فيها التعاون ضرورة للطرفين، حيث المصلحة مشتركة، وحيث النتيجة مؤثرة على الطرف الأول بمثل ما هي مؤثرة على الطرف الثاني.

ب – توجيه الجهد نحو التنمية عن طريق الاستثمارات:

الطريق الوحيد الذي يقره العرف المصرفي في البنوك التجارية هو طريق تمويل المشروعات بواسطة الإقراض بفائدة… ونعود فنقول أن هذا الأسلوب ينسجم منطقيا مع التصور الذي تنطلق منه هذه البنوك… وفي ظل هذا التصور لا نجد أثرا لقاعدة “الحلال والحرام”.. ولا نجد أثرا للحرص على مصلحة المجتمع… وإنما نجد فقط الحرص على الحرية المطلقة للفرد… الحرية في أن يحافظ هو على مصالحه وأن يعمل على تحقيق أهدافه الخاصة فحسب، ومن ثم فإننا لا نجد غرابة في ألا يهتم البنك الربوي بماهية المشروع الذي يموله. أو دوره الذي سيؤديه في المجتمع طالما أنه سيحقق من وراء تمويله لهذا المشروع فائدة ربوية… والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشئ ينفع المشروعات للبشرية، بل همه أن ينشئ أكثرها ربحا. ولو جاء هذا الربح من القضاء على المجتمع وتدمير معنوياته.. وهكذا يلعب التعامل الربوي دوره في توجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار.

في الناحية المقابلة ينطلق البنك الإسلامي من تصور مختلف تماما من التصور الذي ينطلق منه الأول. البنك الإسلامي ينطلق من تصور الإسلام ومنهجه الخاص في الحياة.. وهو لا يقر التعامل بالفائدة ويحتاج في نفس الوقت إلى أن يغطي مصروفاته ويحصل كذلك على ربح.. فكيف إذن يحل البنك الإسلامي هذه المعادلة الصعبة… إن المعادلة ليست صعبة في حقيقة الأمر… أن الصعوبة إنما تنشأ من تصور وهمي وقر في الأذهان واستقر فيها نتيجة لسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالا على بث فكرة أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي، وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي الذي لا بديل عنه… وإذا كان الله قد قرر تحريم الربا فكيف نقول نحن البشر بأنه ضروري للنمو وأن الحياة لا تقوم بدونه؟ إن ضعف التفكير وعجزه عن التحرر هو الذي جعلنا نحن المسلمين نسلم بهذه الدعوة جيلا وراء جيل… والدليل على ذلك أنه عندما صدقت النية فقد وجد البنك الإسلامي السبيل إلى أن يعمل بدون ربا على أسس اقتصادية سليمة وأن يغطي مصروفاته، وأن يربح.

أما ذلك السبيل والذي هو بديل عن عمليات الإقراض والاقتراض بفائدة فقد تمثل ببساطة في أمرين تقرهما الشريعة الخالدة:

1 – الاستثمار المباشر، بمعنى أن يقوم البنك بنفسه بتوظيف الأموال التجارية في مشروعات تدر عليه عائدا.

2 – الاستثمار بالمشاركة، بمعنى مساهمة البنك في رأس مال المشروع الإنتاجي مما يترتب عليه أن يصبح البنك شريكا في ملكية المشروع، وشريكا في إدارته وتسييره والإشراف عليه، وشريكا كذلك في كل ما ينتج عنه من ربح أو خسارة… بالنسب التي يتفق عليها بين الشركاء.

وإعمال المبادئ الإسلامية واضح في هذا اللون من النشاط لأنه بهذه الصورة يستبعد الاستغلال الذي يتمثل في القرض بفائدة، حيث يضمن عقد الفائدة الربوية للمقرض رأسماله كاملا في جميع الأحوال، ويضمن له كذلك زيادة في رأس المال بقدر الفائدة المتفق عليها سواء كان المشروع الذي اقترض من أجله قد خسر أو ربح. في حين أن المشاركة العادلة تقوم على التضامن بين الممول وطالب التمويل في حالة الخسارة كما في حالة الربح… فهو شريك له في الخسارة كما هو شريك في الربح.

ولأن البنك الإسلامي ينطلق من تصور الإسلام ومنهجه الخاص في الحياة، فإن استثماراته المباشرة ومشاركته تخضع لمعايير الحلال والحرام التي يحددها الإسلام.

ج – ربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية:

والأصل في هذه الخاصية في البنك الإسلامي أنه ينطلق من تصور الإسلام ومنهجه الخاص. والإسلام دين الوحدة الذي لا تنفصل فيه الجوانب المختلفة للحياة بعضها عن البعض الآخر، والاهتمام بالنواحي الاجتماعية أصل من أصول الإسلام، ويتبدى هذا الأصل بشكل خاص في السياسة المالية عند النظر إلى ما يدل عليه نظام الزكاة ومصارفها من أهمية الوظيفة الاجتماعية للدولة الإسلامية. ولا ينسجم مع الإسلام أبدا أن ينظر البنك الإسلامي إلى التنمية الاقتصادية منفصلة عن التنمية الاجتماعية، ذلك أن النظر إلى التنمية الاقتصادية منفصلة يجر البنك إلى فخ الاهتمام بالعائد الفردي دون مراعاة العائد الاجتماعي وهو أحد المعايير الرئيسية التي تحتمها تلك الصلة الوثيقة التي أشرنا إليها بين العقيدة والقيم والتنظيم الاقتصادي في الإسلام.

والبنك الربوي يختلف في ذلك الإسلامي فالأول يقيده العرف المصرفي المزعوم في دائرة التخصص التقليدية بينما البنك الإسلامي بنك اجتماعي كما هو بنك مالي أو اقتصادي أو مصرفي.. هكذا لا يربط البنك الإسلامي بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية فحسب بل إنه يعتبر التنمية الاجتماعية أساسا لا تؤتي التنمية الاقتصادية ثمارها إلا بمراعاتها وهو بذلك يغطي الجانبين، ويلتزم بصالح المجموع والعدالة، ولا يفعل كما يفعل البنك الربوي حيث يتجه فحسب إلى المشروعات التي تضمن له أكثر قدر من الربح دون النظر لأي اعتبار آخر يتعلق بالتنمية أو بغيرها.

ويتفرع من هذه الخاصية عدد كبير من المصالح التي تتحقق للفرد والمجتمع.

جـ – الاستثمار بالمشاركة:

من المعروف أن أوجه الاستثمار واستخدامات مصادر الأموال الداخلية والخارجية في البنوك التجارية في إطار نظام الفائدة تتمثل في محفظة الأوراق المالية والأوراق التجارية المخصوصة والسلف والقروض بضمانات مختلفة.

وتختلف في البنوك الإسلامية أوجه الاستثمار – في خصم الأوراق التجارية والسلفيات والقروض بالفائدة لتحل محلها المشاركات التي قد يمارس فيها البنك الإسلامي دور رب المال أو دور المضارب أو دور رب المال والمضارب معا.

ولما كان نظام المشاركة من أكثر خصائص البنك الإسلامي تأثيرا في الاقتصاد الوطني والتنمية والمجتمع، فإننا سنخص آثاره بشيء من التفصيل.

لقد استبان لنا من تجريب نظام المشاركة أنه يحقق عددا وفيرا من المصالح للفرد والمجموع نجمل أهمها فيما يلي.

1 – مشاركة مؤسسة التمويل لطالبي التمويل في نشاطهم الإنتاجي، مدعاة لأن تجند المؤسسة خبرتها الفنية في البحث عن أفضل مجالات الاستثمارات والبحث عن أرشد الأساليب. وبذلك يتعاون رأس المال وخبرة العمل في التنمية الاقتصادية ويتفق هذا تماما مع التوجيهات الإسلامية من حيث الحفاظ على رأس المال المجتمع وحسن استخدامه:

فمؤسسة التمويل إذ تشارك بخبراتها وعلمها تحفظ ثروة المجتمع من التعرض لأي تبديد، نتيجة عدم توافر الخبرة لدي مقترض لا تتوافر ليه المتطلبات العلمية، والإمكانيات الفنية، التي تحميه في ممارسة عمله. كما وأن مشاركة مؤسسة التمويل بخبرتها أيضا فيها رعاية وحماية التمويل من مخاطر كان من الممكن أن يقع فيها لولا مشاركة المؤسسة له.

2 – صاحب المال الذي يودع ماله في مؤسسة مالية توظف أموالها على أساس المشاركة – سوف يحصل على الربح العادل الذي يتكافأ مع الدور الفعلي الذي أداه ماله في التنمية الاقتصادية، وفي ذلك تشجيع للمسلمين على إيداع أموالهم لدي هذه المؤسسات، ومداومة استثمارها بواسطتها، وفيه كذلك ربط بين أصحاب المال المسلمين وبين عملية تكوين رأس المال كركن أساسي في تدعيم اقتصاديات المجتمع الإسلامي، ومدعاة إلى إقبال المسلمين على مداومة استثمار ما لديهم من أموال، بدلا من الاكتناز الذي تتحول به الأموال إلى رأس مال آمن، يحرم معه اقتصاد العالم الاقتصادي الإسلامي من هذه الأموال.

3 – في تطبيق مبدأ المشاركة تحرير للفرد من نزعة السلبية التي يتسم بها المودع الذي يودع ماله انتظارا للفائدة، ومن الأمور التي تستلفت النظر أن الذي ابتدعوا الفائدة، واجتهدوا في تأكيد سريانها في معاملات الدول الإسلامية، لم يكونوا عابثين أو غافلين وهم يفعلون ذلك، ولكنهم كانوا يريدون بقصد وعن عمد استلال جانب الإيجابية تدريجا من نفوس المسلمين، فاتخذوا الفائدة سلاحا يعينهم على ذلك، مستفيدين من نزعة النفس الإنسانية إلى حب الراحة، وكذلك استهدفوا أيضا أن يهدموا ركنا من أركان الدين بوضع الأساليب التي تعوق المسلمين عن أداء الزكاة، ذلك أن الذي يقبل أن يستقضي فائدة وهي محرمة سوف لا يقدم على أداء الزكاة المفروضة. إذ كيف يتسنى له أن يخرج الزكاة (وهي تطهير من مصدر تكتنفه الشبهة فضلا عن التحريم، كما وأن حرصه على ماله (وأحضرت الأنفس الشح..) سوف يجعله مترددا في إخراج الزكاة من رأس المال حتى لا تأكله الصدقات.

4 – عدم اعتماد مؤسسة التمويل على الفرق بين سعر الفائدة الدائنة والمدينة مدعاة لتنشيط عمليات التنمية في المجتمع، إذ ليس أمام المؤسسة – وهي تعمل بالمشاركة – غير تجنيد كل طاقاتها وإمكانياتها الفنية في استخدام الأموال التي لديها في مشروعات، فتحريم الربا في ذاته دافع لاستثمار المال.

5 – يكفل نظام المشاركة النهوض باقتصاديات المجتمعات الإسلامية، وذلك لأن مؤسسات التمويل حين تعمل بالمشاركة سوف لا تنظر إلى الفائدة على أنها المؤشر الأساسي لتحديد الكفاية الحدية لرأس المال ولتوجيه الاستثمارات دائما. وإنما سوف يكون مؤشرها الأساسي هو الربح الحلال بجانب الاعتبارات الاجتماعية الأخرى المرتبطة ارتباطا وثيقا به وبالاقتصاد، مثل العمالة واحتياجات المجتمع ورفاهيته.

6 – في التزام مؤسسات التمويل بمبدأ المشاركة تمكين لها من القدرة على التكيف والتلاؤم المستمر والمقترض قادرين على مواجهة الأزمات بصلابة قادرين كذلك على عدم التأثر بها.

إن الدول التي تسير أنظمتها المالية مستندة إلى سعر الفائدة، تتسم فيها الفائدة بالنمطية القيمية بمعنى أن الفائدة التي تدفع أو تستقضي تكون ثابتة المعدل في كل الحالات وفي كل الظروف ولكل المشروعات دون تفريق بين مشروع وآخر. ولا يمكن الخروج على هذا الثبات في المعدل لأن الفائدة لا تمثل غير الفرق بين سعر بيع وشراء النقود.

وتأتي خطورة الالتزام بذلك الثبات من أن المشروعات ليست على درجة واحدة أو ثابتة من الربحية، فأرباح مبلغ مستثمر في مصنع للعزل ليست بالضرورة هي أرباح نفس المبلغ إذا استثمر في مصنع للحلويات أو في مشروع تجاري يتعامل مع المأكولات أو في مشروع زراعي أو صناعي آخر. وعلى ذلك فإن توحيد معدل سعر الفائدة بشكل لا يدخل في اعتباره الفروق النوعية بين المشروعات يعني في النهاية تحيزا لبعض المشروعات، كما يعني تشجيعا ضمنيا لمشروعات المنتجات الكمالية، كما يعني فقدان النظرة الاجتماعية في منح التمويل.

ويعني صيغة من صيغ الجمود التي لا تتفق مع العدالة. ويعني حرمان المجتمع من أقدام أفراده على الاستثمار في مشروعات لا تتحمل دفع هذا السعر الثابت في مراحلها الأولى على الرغم من وجود حاجة ملحة إليها… باختصار أنه يعني قيدا على التنمية المتوازنة في المجتمع. وهذه الآفات والعلل هي التي فتحت الباب لظهور مساوئ النشاط الفردي فليس العيب في النشاط ذاته أو في الاتجاه إليه وإنما العيب في حقيقة الأمر يرجع إلى تلك النمطية والثقات في معدل سعر الفائدة. ومن هذه النقطة بالذات يمكننا أن نتعرف على دور البنوك الربوية الخفي في ظهور النزعات المتطرفة التي نادت بالتأميم والمصادرة علاجا للظاهر الذي نراه. أن البنوك الربوية تقوم في هذه العملية – على حد تعبير أحدهم – بدور الحية التي نرى ضحاياها ولا نرى أنيابها.

وعلى النقيض من ذلك كله نجد أن نظام المشاركة يمكن طالب التمويل من دفع العائد الذي يتناسب عملا وفعلا مع الأرباح التي يدرها المشروع الذي يستثمر فيه، فليس هناك نمطية أو ثبات في نسبة العائد التي يتفق عليها في التمويل بالمشاركة، إذ العائد ومقداره يتوقف على الربح الواقع المحقق، وذلك يعني تحقيق توازن في التنمية، وإيجاد رابطة عضوية بين احتياجات المجتمع والمشروعات على اختلاف أنواعها، كما يعني إقامة علاقة صحية بين الأفراد والمجتمع لا يفتك فيها المجتمع بالفرد ولا يتربص فيها الفرد بالمجتمع.

7 – في المشاركة عدالة في توزيع العائد بما يسهم في عدم تراكم الثروة تراكما مخلا. كما يحول دون إهدار الطاقات البشرية الإنتاجية من ناحية أخرى، فالمشروع الذي تتيح له الظروف العارضة أرباحا استثنائية، يتوزع ذلك الربح بينه وبين المجتمع (ممثلا في جهاز التمويل)، كما وأن جهاز التمويل يصبح في هذه الحالة قادر على أن يحمي المشروعات التي قد تتعثر – لكي تستمر في العمل لخدمة المجتمع دون أن تغلق أبوابها وتهدر طاقات العاملين فيها.

فإذا أضفنا إلى ما تقدم الحرص على تغليب المصلحة العامة عند المشاركة، وهو أمر غير وارد في حساب المؤسسة المالية التي تقرض بالربا، استطعنا أن ندرك حكمة التشريع عندما شن على الربا حربا لا هوادة فيها وحذر من مغبته، وآذن المتعاملين به بحرب من الله ورسوله.

هـ – جمع الزكاة:

وهي النقطة الأخيرة في بحثنا، لا يفتنا أن نشير إليها، فالبنك الإسلامي يقوم بجمع الزكاة وانفاقها في مصارفها الشرعية وإدارة أموالها… وذلك في البلاد التي ليس فيها تشريع يخول لولي الأمر القيام بهذا العمل.

وقد يكون ذلك من بعض الناس موضع دهشة واستغراب، ولكن الصلة تبدو واضحة بين البنك الإسلامي وبين هذه المهمة إذا ما تفهمنا الأمور التالية:

1 – إن البنك الإسلامي جزء من كل من المجتمع وليس شيئا منعزلا عن المجتمع وأن هذا الجزء يتحمل مسؤوليته – بحكم مخالطته المستمر للناس وما يقوم به من وظائف – في العمل على تهيئة المناخ العام للمجتمع المسلم.

2 – إن الزكاة جزء هام من السياسة المالية في المجتمع وجزء من التنظيم الاقتصادي ف الإسلام.

3 – إن وظيفة الزكاة وظيفة اقتصادية اجتماعية بالدرجة الأولى، وإن الفهم الصحيح للزكاة ليس هو مجرد سد جوعة الفقير أو إقامة عثريه بدريهمات وإنما وظيفتها الصحيحة: تمكين الفقير من إغناء نفسه بنفسه بحيث يكون له مصدر دخل ثابت يغنيه عن طلب المساعدة من غيره، ولو كان هذا الغير هو الدولة. فمن كان من أهل الاحتراف أو الاتجار أعطى من صندوق الزكاة ما يمكنه من مزاولته مهنته أو تجارته بحيث يعود عليه من وراء ذلك دخل يكفيه. بل يتم كفايته وكفاية أسرته بانتظام وفي هذا يقول الإمام النووي في “المجموع” قالوا: فإن كان عادته الاحتراف اعطى ما يشتري به حرفته، أو آيات حرفته قلت قيمة ذلك أم كثرت، ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته، ويختلف ذلك باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص.

4 – إن سهم الغارمين – وهو من مصارف الزكاة – يمتد ليشمل الذين ركبتهم ديون لا يقدرون على الوفاء بها، سواء كانت من أجل الاستهلاك، أم من أجل الإنتاج الذي قد يصاب بكساد السلعة، أو بمنافسة غير متكافئة، أو غير ذلك، كما يشمل من أقرض مدينا ليعينه على مصلحة أو عمل من أعمال الإنتاج والتنمية التي تنفع المجتمع ثم عجز المدين عن سداد الدين إليه.

5 – إن المذاهب الإسلامية قد رخصت إذا كثرت موارد الزكاة واتسعت حصيلتها أن تنشئ من أموالها مصانع أو تحمي أو تشتري أراضي للزراعة أو تبني عقارات للاستغلال، أو تنشئ مؤسسات تجارية أو نحو ذلك من المشروعات، وتملك للفقراء كلها أو بعضها لتدر عليهم دخلا دوريا يقوم بكفايتهم كاملة.

لكل هذه الأسباب نشأت العلاقة بين البنك الإسلامي وبين مهمة القيام بإحياء فريضة الزكاة والقيام بجمعها في صندوق مستقل خاص بذلك. وفي البلاد التي يقوم فيها ولي الأمر بجمع الزكاة فإن البنك الإسلامي يقوم بمهمة الجهاز الفني الذي يعين على أن تؤدي الزكاة دورها كما ينبغي في مطاردة الفقر، إذ أن ذلك يلزم له أن يعرف سبب الفقر لهذا أو ذلك، فالأمراض تختلف أدويتها إذا اختلفت أسبابها. ولا يكون الدواء ناجحا إلا إذا كان التشخيص صحيحا، وأما في البلاد التي لا يقوم فيها ولي الأمر بجمع الزكاة، فإن البنك الإسلامي يقوم بمهمة الدعوة إلى أدائها وجمعها وإنفاقها في مصارفها الشرعية وإدارة أموالها بما يعود على العبادة وعلى المجتمع بالنفع والفائدة.

وقبل أن نصل إلى نهاية البحث، أود أن أشير إشارة عابرة إلى نقطة هامة يثيرها العلماء المشتغلون بقضايا التنمية، فهؤلاء العلماء يؤكدون – وهم في ذلك على حق – أن مفتاح التنمية يتمثل في تفاعل الجماهير واشتراكها في عملية التنمية، حيث هذا التفاعل وتلك المشاركة هي ميكانزم الدفعة القوية لدوران عملية التنمية.

ومن المتفق عليه أن الآثار التي تتحقق باستشارة الدوافع الدينية وإحيائها وتنشيطها، لا يمكن أن تتحقق بوسيلة أخرى.

فلماذا نغفل الدين ولا ننتفع به في إعادة بناء الأمة الإسلامية؟ إن الدين هو الذي تولى منذ البداية صياغة هذه الأمة وتحريكها ولذلك فإن الالتزام بكل أوامره ونواهيه هو الأسلوب الوحيد لكي تشق الأمة الإسلامية طريقها من جديد إلى الحياة… فالتزام المسلم في سلوكه الاقتصادي بالتوجيهات الإسلامية هو وحده الذي يجعله يسلك سلوكا رشيدا في إنفاقه وسلوكا رشيدا في إدارته لأمواله، ومداومة الاستثمار بأنظف الوسائل وفي أنظف المجالات.

والتزام المؤسسات المالية بالتوجيهات الإسلامية في المجتمع المسلم هو الذي يجعلها تضع رأس المال في الوظيفة الطبيعية التي قررها الله له.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر