كلمة التحرير

علوم العقيدة في حياتنا المعاصرة

Faith Disciplines in our Contemporary Life

والمراد بها علوم التوحيد والعقيدة والكلام وغير ذلك من الأسماء .

أولاً

لقد كثرت في الآونة الأخيرة الدعوة إلى تجديد العلوم الشرعية أو الإسلامية ومن ضمنها _ أو في مقدمتها _ علم الكلام، وذلك لما اتسم به في كتاباته  التراثية الموروثة من اهتمام ببحث مسائل كانت في الماضي مثيرة للجدل ، وبالتالى كان هناك مبرر بل وضرورة للتصدي لها. ولكن هذه المسائل لم تعد مثارة من ناحية، كما أنه _ من ناحية أخرى _ قد استجدت مسائل أخرى هي التى تحتاج إلى اهتمام علم الكلام .

في هذا السياق كانت الدعوة إلى فلسفة إسلامية معاصرة وإلى علم  كلام جديد تعبيرًا عن الحاجة الملحة إلى التجديد، ونحاول في هذا المقال اقتراح أبعاده ، وبيان تصور لهذا التجديد .

ثانيًا

أ _ البعد الأساسي الذي انبثقت عنه باقي الأبعاد هو التفرقة بين مقاصد هذا العلم  ووسائله ومسائله.

فالمقصد الثابت الذي بدونه نكون بإزاء علم آخر _ هو بيان عناصر العقيدة الإسلامية والدفاع عنها.

أما الوسائل فهي المنهج الذي يتبع في هذا البيان وهذا الدفاع، والذي قد يطرأ عليه بعض التغيير بالإضافة غالبًا، وبما لا يؤثر على ثبات المقصد.

وأما المسائل فهي نتيجة لتغير صور المعارك التى تستهدف العقيدة، والأسلحة التى تستخدم فيها _ متغيرة بالإضافة والحذف وفقًا لمتطلبات المعركة المتغيرة .

ب _ بعد آخر لا يجوز إغفاله هو أن  المتتبع لتطور العلوم يجد أنها _ كالكائن الحي تتوالد، وبعض العلوم بطبيعتها أكثر خصوبة من البعض الآخر والفلسفة خير مثال لذلك فقد تولدت عنها كثير من العلوم المتباينة في طبيعتها كالطب والسياسة والمنطق والأخلاق والفلك وغيرها. وتأخذ العلوم الوليدة حظها _ كالكائن الحي _ في فترة حمل وحضانة تطول أو تقصر ثم تقف على قدمها وتستقل عن العلم الأم الذي تولدت منه .

وكما تتولد العلوم من علم واحد ، فإنها تتولد كذلك من تلاقح علمين، وتسمى حينئذ العلوم البينية كعلم النفسي التربوي (بين علم النفس والتربية) والطب الشرعي (بين الطب والقانون) والاقتصــــاد الزراعي (بين الاقتصاد والزراعة) وهكذا ..

وعملية تولد العلوم من علم و احد أو من علمين تؤدي إلى اتساع المعرفة، كما ينتج عنها التخصصات الدقيقة التى أصبحت سمة مميزة من سمات هذا العصر.

جـ _ بعد ثالث ينبغي الالتفات إليه  هو أن عملية تصنيف العلوم لها جانب فلسفي، فهي ليست مجرد ترتيب مادي للعلوم، وإنما يراعي فيها طبيعة موضوعات العلوم فالفلك يصنف ضمن العلوم الطبيعية، والسياسة تصنف ضمن العلوم الاجتماعية رغم انبثاقهما من الفلسفة، ويراعى فيها العلاقات الوظيفية فيما بينها، فعلوم اللغة يجمعها فرع واحد، وعلوم الحديث يجمعها فرع واحد، وعلوم القرآن يجمعها فرع واحد  وهكذا ، ولكنها لا تدمج في علم واحد مراعاة لوحدة موضوع كل علم وتميزه عن غيره، وإن كان من نفس الفرع من العلوم .

ثالثًا

والتصور الذي نقدمه هنا قابل بطبيعة الحال للمناقشة، ولكنه في ظني  يعكس الاعتبارات الهامة الجديرة بالمراعاة.

وهذا التصور يقوم على تطوير هذا العلم  إلى مجموعة من العلوم على النحو التالي :

1_ علم يتناول تاريخ علم الكلام، ويختصر فيه معظم ما هو  مؤلف تحت هذا العنوان .

2_ علم يعرض مفردات العقيدة كما هي في القرآن الكريم والسنة الصحيحة ( على نحو ما فعل د. محمد عبد الستار نصار في العدد 69 / 70 من مجلة المسلم المعاصر) وهذا هو علم العقيدة، أو التوحيد، أو أصول الدين، أو الفقه الأكبر.

3_ علم يتناول الدلائل على الألوهية في الآفاق والأنفس؛ مما أشار إليه القرآن وما لم يشر إليه، مع الإفادة من اكتشافات العلم الحديث، وهذا ما يسمى الآن بالإعجاز العلمي في القرآن.

4_ علم يتناول المسائل المنهجية المتعلقة بالموضوع، وهذا هو علم  مناهج البحث والاستدلال في مسائل العقيدة، ويدخل فيه علم الجدل والمناظرة والحوار .

5_ علم يتولى ترجمة مفردات العقيدة إلى تصور إسلامي عن الله والكون والحياة والإنسان (على نحو ما فعل سيد قطب في كتابه مقومات التصور الإسلامي) وهذا هو الجانب الفلسفي للعقيدة .

6_ علم يبين ما ينبثق عن عقيدة التوحيد في مجالات الحياة المختلفة (على نحو ما فعل د. إسماعيل الفاروقي في كتابه Tawheed حيث أوضح أثر عقيدة التوحيد في الأخلاق، والنظام الاجتماعي، والأمة والأسرة، والنظام السياسي، والنظام الاقتصادي، والنظام العالمي، والفنون، والمعرفة، والتاريخ، وغير ذلك وهذا هو الجانب الحضاري للعقيدة.

7_ علم يعرض بإيجاز وبمنهج مقارن أهم  الديانات والفلسفات المعاصرة، أي التى لها أتباع في عالمنا المعاصر، سواء كانت ديانات ذات أصل سماوي أو ديانات وضعية، وغالبيتها لا ينبثق عنها نظام يحكم حياة معتنقيه؛ ولذلك يمكن تصنيفها تحت العلمانية . وهذا هو علم مقارنة الأديان والذي كان يطلق عليه اسم  الملل والنحل .

8_ علم يتناول مناقشة  الشبهات  المثارة حاليًا حول فكرة الدين والتدين عمومًا، والإسلام على وجه الخصوص _ بالأدلة العقلية والعلمية، كشبهة  اعتماد العنف وسيلة، وشبهة ظلم المرأة وغير المسلمين .. وهذا هو علم الكلام بمضمونه المعاصر .

9_ علم يتناول القضايا المعاصرة الكبرى التى  تشغل الإنسانية والحلول التى يقدمها الإسلام في مشاكل الإدمان، والانتحار، والفراغ، والجنس، والعنف، والعنصرية، والاستبداد، والبيئة، وحقوق الإنسان، وأسلحة الدمار الشامل، والتنمية..

رابعًا

هذا التصور يتسم بوحدة الموضوع في كل علم، والاتساق بين هذه العلوم، ويجمع في نفس الوقت ذات اهتمامات علم الكلام في صورته التقليدية والتى انعكست على التسميات المتعددة التى أخذها ؛ وبذلك يكون التوجه إلى بلورة عدد من العلوم يختص كل منها بموضوع _ ويضمها جميعًا مجموعة علوم  العقيدة _ هو التطور الطبيعي لعلم الكلام _ أو ما شئت تسميته من أسماء _ خروجًا من أزمته الحالية التى يجتر فيها مسائل لم يعد لها وجود في واقع الأمة ولم يعد لدراستها أهمية أو فائدة تعود على المسلمين في دنياهم أو أخراهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر