أولاً : بدايات الحوار الإسلامي المسيحي من منطلق إسلامي
1- تختــــص هذه الورقـــة بدراسة (الحوار الإسلامي المسيحي) في مسيرته المعاصرة بعد سنة 1964م . ومع ذلك فمن المفيد الإشارة إلى بواكير هذا الحوار وأولياته من منطلق إسلامي، لتتضح الصلة بين قديم الحوار وحديثه، وموقف الإسلام المبدئي منه.
لقد جاء الإسلام خاتمًا للأديان، وكان آخر دين سبقه هو المسيحية . فكان طبيعيًّا أن يقوم الحوار بين الإسلام وهذه الأديان جميعًا ، لتتحدد علاقته بها وبأتباعها، خاصة وأن اليهود قد جاوروا المسلمين في المدينة المنورة، وكان للمسيحيين وجود ملحوظ في نجران اليمن، والجزء الشمالي من جزيرة العرب . كما قامت بين المسلمين ومسيحيي الحبشة علاقة ودية أدت إلى هجرة عدد من المسلمين إليها على مرتين.
وقد اشتمل القرآن الكريم على آيتين تحث إحداهما على الجدال مع غير المسلمين بصفة عامة، وتحث الثانية على الجدل مع أهل الكتاب بتخصيص. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل :125) ، وقال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} (العنكبوت : 46)(1) . كما خص القرآن الكريم المسيحيين وحدهم بأوصاف رقيقة تحبب في محاورتهم. قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْــــــتَكْبِرُونَ} (المائدة :82). قال: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } (سورة الحديد :27) .
وقد نوه النبي (ص) بهذه الصفات في مراسلاته واتفاقاته مع المسيحيين، كما أن رسله إلى النجاشي عظيم الحبشة، والمقوقس عظيم القبط في مصر، وهرقل عظيم الروم – وهم قادة المسيحيين في ذلك الوقت – عادوا بانطباعات مشجعة؛ لأن النجاشي آوي من هاجر إليه من المسلمين وأمنهم ، والمقوقس رد ردًّا جميلاً وبعث بالهدايا إلى النبي (ص)، وهرقل أعرب عن تقديره لصفات النبي (ص) ، ورد رسله بالقول الحسن(2).
2- (والمجادلة) في اللسان العربي، وهي الكلمة التى استخدمها القرآن الكريم، قد تعني الحديث الشديد والمقارعة بالحجة، كما قد تعني الحوار الرقيق والحديث بالتي هي أحسن. وهي في الآيتين القرآنيتين المذكورتين سابقًا لا تحمل إلا على الحوار الرقيق، لكونها موصوفة ومشروطة (بالتى هي أحسن). وقد وردت كلمة (المجادلة) في موقف مشابه، واستخدمت مرادفة لكلمة (الحوار) التى تؤكد الرقة . قال تعالى : {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة: 1) .
3- وفي حياة النبي (ص) وقعت حوارات ثلاثة مع المسيحيين، أولها الحوار الذي جرى تحت إشراف النجاشي عظيم النصاري في الحبشة، بين المسلمين وعددهم ثمانون رجلاً، وقد مثلهم في الحديث جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي (ص) ، وبين مندوبي قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة. وقد قرأ جعفر في هذا الحوار قدرًا من سورة مريم، مما كان له أجمل الأثر في نفس النجاشي والبطارقة. وانتهى الحوار بمناصرة النجاشي للمسلمين على وفد قريش، والإذن لهم بالإقامة في الحبشة ما شاءوا معززين مكرمين.
والحوار الثاني وقع في إيلياء (بيت المقدس) بعد انتصار هرقل على الفرس، وأدار هرقل الحوار ومعه ترجمانه وقساوسته، وتولى الحديث عن الإسلام دحية الكلبي الذي كان يحمل رسالة من رسول الله (ص) إلى هرقل وانتهى الحوار بقبول الرسالة التى أرسلها النبي (ص) إليه. وأما الحوار الثالث فقد وقع في المدينة المنورة، واستمر بضعة أيام، إذ حضر وفد من نصاري نجران اليمن يرأسهم الأسقف أبو الحارث بن علقمة، ومعه حوالي أربعين من أتباعه، ونزلوا ضيوفًا على النبي (ص) في مسجده. وأقاموا صلواتهم فيه بالتوجه إلى المشرق، وكانت قبلة المسلمين قد تحددت تجاه مكة المكرمة . وجرى الحوار أولاً حول الدينين ، ثم ثانيًا حول كيفية التعايش بين الإسلام والمسيحية. وقد كان الحوار جادًّا. وتخللته مقاطعات وتأجيلات أحيانًا . وانتهى بأن أعطاهم النبي (ص) عهد الأمان والمسالمة، ومما ورد فيه (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله، للأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وأهل بيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يُغيَّر حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا مما كانوا عليه، لهم على ذلك جوارُ الله تعالى ورسوله أبدًا، ما نصحوا وأصلحوا غير مثقلين بظلم ولا ظالمين)(1) .
4- ويعتبر الحوار الثالث الذي ذكر ذا مدلول تشريعي في جواز الحوار بين المسلمين والمسيحيين بشرط أن يكون ذلك بالحسنى، وألا يفرض طرف رأيه على الطرف الآخر عملاً بالقاعدة القرآنيــة { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (الكافرون :6) ، وهي قاعدة محكمة غير منسوخة ، وعامة غير مخصصة. وأن يشتمل الحوار على تنظيم أسلوب التعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين، عملاً بالقاعدة الإسلامية في هذا الشــأن (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)(2).
وقد اقتدى الخلفاء الراشدون ومن تبعهم بمضمون هذا الحوار ونتائجه ، فتابعه الخليفة أبو بكر الصديق t بوثيقة مشابهة لأهل نجران حينما احتيج إلى ذلك . وترسمه الخليفة عمر بن الخطاب t في حواره مع رئيس أساقفة أورشليم صوفرونيوس سنة 15هـ التى اختتمت بصدور ما يسمى (العهدة العُمرية) وهي الوثيقة التى حكمت العلاقات الودية بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين إلى يومنا هذا.
5- وقد استقر الحوار بين المسيحيين والمسلمين بعد ذلك بصور شتى: كالمراسلة، والمناقشة، والمناظرة في المجالس، وتأليف الكتب. ونما بذلك علما (الكــلام) عنـــــد المسلمـــــين ، (واللاهوت) عند المسيحيين، نموًا ملحوظًا، ولم يوقف الحوار إلا الحروب الفرنجية التى سميت الحروب الصليبية، ثم حروب الاستعمار الغربي. إلى أن تجدد في العصر الحديث، ومع كل من الطرفين رصيد تاريخي وموضوعي كبير، يدعو إلى استمرار الحوار، وأخذه مسارات جديدة تناسب متطلبات الزمن ومقتضيات الحياة المشتركة، في عالم تقاربت أطرافه، وتداخلت مصالح البشر فيه بصورة غير مسبوقة .
ثانيًا: تجدد الحوار في العصر الحديث بمبادرة مسيحية
1- تجدد الحوار، في العصر الحديث، بمبادرة من العالم المسيحي، إذ مهد له البابا يوحنا الثالث والعشرون، وقد كان مشهورًا بروح وفاقية وانفتاح على الكنائس المسيحية غير الكاثوليكية، والأديان غير المسيحية، والأيديولوجيات الفكرية. وأقر الحوار المجمع الفاتيكاني الثاني، وأعلن عنه البابا التالي وهو بولس السادس في رسالته المعنونة Ecclesiam Suam بتاريخ 6 أغسطس 1964م.
وتلا ذلك إنشاء دائرتين في العالم المسيحي مختصتين بتنظيــم الحوار، هما (أمانة السر لشئون غير المسيحيين) في الفاتيكان، و (دائرة الحوار مع الشعوب ذوات العقائد الحية والأيديولوجيات) في مقر مجمع الكنائس العالمية في جنيف، وهو يضم إليه الكنائس غير الكاثوليكية .
2- وجاء أول تجاوب لنداء الحوار، من الجانب الإسلامي، فيما أعلم، من علماء لبنان وسوريا، وأذكر منهم بوجه خاص المرحوم الشيخ الدكتور مصطفى السباعي، والمرحوم الشيخ مصطفى الزرقا، إذ أتيح لي الحديث معهما في منتجع بحمدون / لبنان، قبيل الحوار الذي عقد في برمانا / لبنان في أوائل السبعينات .
كما تجاوبت دولة إسلامية معروفة بالمحافظة ، وهي المملكة العربية السعودية، بتشكيل وفد من رابطة العالم الإسلامي ، برئاسة المرحوم الشيخ محمد على الحركان، وفي عضويته الدكتور معروف الدواليبـي ، أحد رؤساء الوزارة السورية السابقين وصدرت عن لقاءات هذا الوفد مع نظرائه المسيحيين وثائق مطبوعة(1) .
ومن الحوارات الملحوظة تاريخيًّا، لكبر حجم المشاركة فيها، حوار طرابلس الغرب في فبراير 1976م ، الذي شارك فيه ما لا يقل عن خمسمائة عالم ومفكر وإعلامي ومهتم من العالمين، تصدرهم خمسة وعشرون من الجانبين لتقديم أبحاث معدة في موضوعات محددة، وشارك الباقون في النقاش. واستمر هذا الحوار حوالي خمسة أيام. وصدرت عنه وثيقة محفوظة لدى الجهات المعنية بالمتابعة . وترأس هذا اللقاء من الجانب المسيحي الكاردينال بينيادوللي . ومن الجانب الإسلامي الدكتور محمد الشريف الأمين العام لجمعية الدعوة الإسلامية في الجماهيرية الليبية وحضر إحدى جلسات هذا اللقاء واشترك في مناقشاته الزعيم الليبي معمر القذافي(1) .
وتلت ذلك حوارات عديدة في مدن مختلفة من العالم، نذكر منها برمانا / لبنان، وجنيف، وليجون / غانا، وهونج كونج ، وتونس، وقرطبة، والقاهرة، والبحرين ، وأبو ظبي، والرباط، ولندن، وموسكو، وروما، وغيرها. ولوحظ أن الدعوة إلى هذه اللقاءات جاءت من العالمين الإسلامي والمسيحي، ونظمتها كنائس وجامعات ومنظمات إسلامية ومسيحية متعددة . ولا نتجاوز الحقيقة إذا وصفنا الأربعين سنة الأخيرة، بأنها سنوات الحوار الإسلامي المسيحي، المتعدد الأماكن والموضوعات وجهات الدعوة والمشاركة(2) .
3- والمتتبع لهذه الحوارات خلال الأربعين سنة الماضية، الدارس لمجرياتها ووثائقها، لابد أن يسجل أنها حققت بعض الإنجازات الإيجابية، وأنها أيضًا لم تسلم من بعض جوانب القصور والسلبيات ، وسوف أحاول أولاً أن أشير بإجمال إلى ما بدا لي من الإيجابيات والسلبيات ، ثم أتبع ذلك بعرض تحليلي لصنوف الحوارات التى جرت لإمكان التوصل إلى تقييم شامل يعين على حسن التخطيط للمستقبل .
4- وفي مجال رصد الإنجازات الإيجابية نذكر منها أربعة:
أولها: كسر الحاجز النفسي بين العالمين الإسلامي والمسيحي الغربي، وتهيؤ كل من الطرفين للحديث مع الطرف الآخر ، في إطار احترام دينه، وهويته، وحضارته. ولم يكن ذلك الإنجاز هينًا بعد قرون من الصراعات العسكرية والسياسية والمجافاة الدينية والحضارية. كما أنه لم يأت فجأة ومن خواء، فقد سبقته سلسلة من حركات الاستقلال الوطني، وبروز مفهوم الدولة الحديثة ذات السيادة. وتقبل التشريعات الدولية تحت مسمى القانون الدولي، وظهور المنظمات الدولية، وإعلان حقوق الإنسان، وتبادل الدراسات الحضارية والدينية المقارنة، وإحساس البشرية في كافة أقطارها إلى حاجتها إلى التقارب والتعاون . ثم جاء الحوار الديني وتلاه مؤخرًا الحوار الحضاري وهو صنوه – فتحطمت الفواصل، وجلس جميع الفرقاء حول مائدة واحدة للتفاهم والتباحث والحوار، ومن ثم تأكدت ثقافة الحوار وتوبعت إلى الآن.
والثاني: هو تبادل التعريف والتعارف، ولو بصورة إجمالية ومبتسرة بحكم البداية في ذلك . فقد أتيح لكل طرف أن يبين قدرًا مما لديه، وأن يرد على الاستفسارات التى وجهت إليه. ولو تصفحنا مثلاً كتاب (ندوات علمية) الذي صدر عن فريق الحوار السعودي سنة 1973م نجد أنه بيّن جوانب من أحكام الشريعة الإسلامية وخاصة ما يتعلق بحقوق الإنسان ، وحقوق المرأة، وأحكام الميراث، والقانون الجنائي في الإسلام وما يتضمنه حول موضوع الحدود والعقوبات، ومفهوم السلام من منظور إسلامي. ولو راجعنا ما ذكره الفريق المسيحي في حوار طرابلس 1976م ، نجد أنه بيّن أمورًا من العقيدة المسيحية وتفسيرها للتوحيد والتثليث، وتقديرها لتعاليم العبادات والأخلاق في الإسلام، وبيان دور المسيحية في العدالة الاجتماعية والتنمية وترقي الشعوب(1) .
والثالث: هو إنشاء علاقات فردية وصداقات بين رجالات العالمين وعلمائهما، مما مهّد للقاءات وزيارات ومراسلات، وإيجاد فرص عديدة لتبادل الآراء حول موضوعات تهم العالمين والبشرية بصفة عامة. وقد أتيح لي ، بحكم عملي الوظيفي ، أن أطلع وأعلم عن بعض المراسلات بين كل من صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة ، وسمو الشيخ حمد بن عيسى الخليفة ولي عهد البحرين (صاحب الجلالة ملك البحرين حاليًا) وبين صاحب السمو الملكي الأمير تشارلز ولي عهد المملكة المتحدة، حول أمور ثقافية وحضارية وحوارية تهم العالمين. منها تشجيع الدراسات الإسلامية في الجامعات البريطانية ، والعناية بأبحاث الطب التقليدي وطب الأعشاب، وحماية البيئة الطبيعية. وقد شارك الأمير تشارلز في حوار إسلامي مسيحي اشترك فيه علماء إماراتيون وبريطانيون في مدينة أبو ظبي بتاريخ 20 نوفمبر 1999م، وألقى فيه كلمة وفاقية لا تقل أهمية عن حديثه المشهور عن الإسلام في مركز الدراسات الإسلامية في أكسفورد سنة 1993م.
وثمة إنجاز رابع: جاء ثمرة للحوار الإسلامي المسيحي، وهو تعاون العلماء المسلمين والمسيحيين في الحفاظ على القيم الأخلاقية التى يدعو إليها الدينان، في مواجهة الآراء والتشريعات والتوجهات المخالفة . وقد اتضح هذا بوجه خاص في المؤتمر العالمي للسكان الذي عقد في القاهرة في سنة 2000م ، وتضمنت وثائقه التحضيرية رغبات لإقرار الإجهاض ، والشذوذ الجنسي المثلي، والاستنساخ البشري، والتوسع في أبحاث الهندسة الوراثية على مستوى البشر، وغير ذلك. وقد ووجه الداعون إلى هذه الآراء بموقف موحد معارض من علماء الإسلام والمسيحية، ما كان له أن يحدث لولا التفاهم المتبادل بسبب الحوار والعلاقات الحميدة بين هؤلاء العلماء .
5- وللحوار ، بجوار الإنجازات التى ذكرت، سلبيات عامة نورد منها ثلاثًا:
فأولاها: فقدان الحوار للتعريف والتوصيف، الذي يحدد طبيعته، والهدف المقصود منه، والضوابط التى تلزم مراعاتها في ممارسته، والمحاذير التى يتحتم تجنبها ، وقد حاول المتحاورون في طرابلس الغرب سنة 1976م أن يستدركوا هذا النقص، واتفقوا على التعريف الآتي (المقصود من الحوار أن يتبادل المتحاورون من أهل الدينين: المعلومات، والأفكار، والحقائق، التى تزيد من معرفة كل فريق بدين الفريق الآخر، وتاريخه، وحضارته، وسائر أمره، توضيحًا لما قد يكون بينهما من مواطن التلاقي أو الاختلاف، بطريقة مخلصة وموضوعية، يحتفظ فيها كل طرف بمعتقداته والتزاماته ومواقفه، في جو من الود والاهتمام المتبادل) ، ومع أن هذا التعريف قد حدد بعض التوجهات والضوابط وبين بعض المحاذير، فإنه لم يكن كافيًا. والأهم من التوصل إلى التعريف الشامل المُرضي، هو أن يكون ذلك التعريف موضع اتفاق والتزام من المشتغلين بالحوار من العالمين، حتى نجنب الحوار سوء الاستغلال أو الانحراف عن مقصوده، أو الخوض في أبحاث ليست من طبيعته، أو ممارسته من قبل غير المتخصصين في موضوعاته . وقد أحسنت (أمانة سر الحوار) في الفاتيكان بإصدار كتيب يضم إرشادات لكيفية الحوار وآدابه، تحقق قدرًا جيدًا مما أشرنا إليه، لو تم الاطلاع عليها والالتزام بها(1) .
والسلبية الثانية: هي عدم التكافؤ بين المتحاورين من العالمين من حيث التنظيم والتمثيل. فقد لوحظ أن المتحاورين من العالم المسيحي يأتون مستندين إلى مرجعيات محددة، مثل (أمانة السر لشئون غير المسيحيين) في الكنيسة الكاثوليكية، و(دائرة الحوار مع الشعوب ذوات العقائد الحية والإيديولوجيات) في مجمع الكنائس العالمية. وقد ساعدت هذه المرجعيات المحددة في تزويد المتحاورين بالخلفيات العلمية اللازمة، والسكرتاريات المنظمة التى تحتفظ بالمحاضر والوثائق والقرارات والتوصيات، وآليات المتابعة والمراجعة، فضلاً عن إضفاء الصفة التمثيلية للمتحاورين، من حيث كونهم مفوّضين للتعبير عن آراء هذه المرجعيات .
وفي مقابل هذا الإجراء الصحيح من قبل العالم المسيحي الذي انبعثت حركة الحوار الحديث منه، فإن المتحاورين من العالم الإسلامي يأتون فرادى، لا يمثلون إلا أنفسهم، وقد لا يتكرر مشاركة المحاور أكثر من مرة. وإذا أتوا ممثلين لمنظمات أو جامعات فليس لجهات الإيفاد صفة المرجعيات الدائمة المزودة بالصلاحيات والتفويض والتسهيلات للبحث والتوثيق والمتابعة. ولا يعني هذا أن مشاركة العلماء بصفاتهم الفردية مستنكرة ولكن المشاركة باسم المرجعيات المفوضة أولى وأحسن تنظيمًا وتمثيلاً، والجهات المستحقة لصفة التمثيل في العالم الإسلامي هي المشيخات الرئيسة وفي مقدمتها مشيخة الأزهر الشريف في مصر، ودور الإفتاء ، ومجامع الفقه والبحوث الإسلامية، والجامعات الإسلامية، والمنظمات الإسلامية الكبرى كمنظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وجمعية الدعوة الإسلامية في طرابلس الغرب، وأشباهها، وقد تنبهت مشيخة الأزهر الشريف في مصر مؤخرًا إلى هذا الملحظ، فخصصت للحوار الإسلامي المسيحي إدارة خاصة به. وهي بداية حسنة نأمل أن تحاذيها ترتيبات مماثلة في الجهات المشابهة، وأن يقوم بينها جميعًا تنسيق مناسب .
والسلبية الثالثة: تتعلق بموضوعات التحاور. فقد لوحظ أن الحوارات الأولى قد اتجهت نحو العموميات ، سعيًا وراء التوافق، وحرصًا على تأكيد (ثقافة الحوار) في حد ذاتها ، ولو لم يتطرق البحث بين المتحاورين إلى موضوعات أكثر تحديدًا أو تخصيصًا . أما وقد تأكدت هذه الثقافة فالمفروض أن يتحاور العالمان فيما يمكن أن يجمع بينهما، وفي حل الخلافات الموروثة عن الماضي، وفي مناصرة قضايا الإيمان في مواجهة الإلحاد، والفضيلة في مواجهة التحلل الخلقي، والعدالة في مواجهة الظلم الاجتماعي وغمط حقوق الفقراء والضعفاء، والسمو الروحي والإنساني في مواجهة المادية والجشع والفساد، وإقرار حقوق البشر والشعوب في العيش الحر في مواجهة الاستعمار والاستبداد والغطرسة العسكرية ، وتآخي جميع البشر في مواجهة التطهير العرقي والاستعلاء العنصري والاستيطان القهري في أراضي الآخرين، وإيثار السلم وتواصل الحضارات على التسلح والحروب والإرهاب والصدام الحضاري المتعجرف.
ولكي يتحقق التخطيط الصحيح لموضوعات الحوار لابد من لقاءات تنسيقية بين المعنيين بالحوارات في العالمين، والحرص على أن تدرس الموضوعات المتفق عليها بصورة موضوعية معمقة. يمكن بعد ذلك جمعها وتعميمها وإذاعتها. فبهذا يتحقق لحركة الحوار ما تريده من جمع البشر حول مفاهيم الوفاق والتقارب والتفاهم، ولكلٍ بعد ذلك حقه في الالتزام بخصوصياته العقدية والحضارية .
ثالثا: صنوف من الحوار، وتقييمها
1- بعد ذكر تاريخ الحوار قديمًا، وحديثًا، وبيان ما للحوارات المعاصرة من إيجابيات وسلبيات بوجه عام ومجمل، لابد من استعراض صنوف الحوارات التى تمت خلال الأربعين سنة الماضية ومحاولة تقييمها بصورة موضوعية، تمهيدًا لبيان ما نرتجيه لمستقبل الحوار ونحن على عتبة القرن الحادي والعشرين. ومستندي في حصر هذه الحوارات واستعراضها هو معاصرتي لحركة الحوار منذ بداياتها. واطلاعي على قدر غير قليل من وثائقها المحفوظة في مكتبات الفاتيكان ومجمع الكنائس العالمية وغيرها، ومشاركتي الشخصية في عدد منها، مع المتابعة المستمرة لهذا الموضوع الهام الذي يعتبر محورًا مفصليًّا في العلاقات الدينية والحضارية والإنسانية بين الإسلام والغرب.
وللتيسير على المطلع، أحصر الاستعراض في سبعة صنوف من هذه الحوارات، وعناوينها هي:
– الحوار التبشيري .
– الحوار المسيس .
– الحوار الأكاديمي.
– الحوار الشبابي.
– الحوار الموسع .
– الحوار بالمناظرة.
– الحوار المحلي للعيش المشترك.
وأضيف إليها حوارًا ثامنًا، ليس بهنا ولا هناك ولكنه متكرر ولنسمه: الحوار المترهل .
2- الحوار التبشيري :
1- من المعلوم أن الدينين الإسلامي والمسيحي دينان تبشيريان ويستخدم الإسلام لفظي (الدعوة) و (التبليغ) ، بينما تستخدم المسيحية لفظي (التبشير) و (البشارة). وليس بمستنكر إذن على الداعية المسلم أو المبشر المسيحي أن يقوما بما فرضه عليهما إيمانهما من تبليغ الرسالة .
لكن التبشير والتبليغ غير الحوار، أو غير ما ينبغي أن يفهم من الحوار. وقد قطعت المسيحية فترة غير قصيرة بالانتقال من مفهوم التبشير إلى مفهوم الحوار، عند التعامل مع المسلمين بصورة خاصة. فبعد مؤتمرات أدنبرة سنة 1902م ، والقدس سنة 1928م، وتامبرام الهند سنة 1938م، وقد كان الحديث فيها تبشيريًّا بحتًا، وبعد اجتماعات أبسالا سنة 1986م، وزيورخ سنة 1970م ، وأديس أبابا سنة 1971م ، وكان الحديث فيها شبه حواري ثم حواريًّا بحتًا – قررت الكنائس المسيحية أن يكون دخولها في الحوارات غير تبشيري، وهذا ما نص عليه صراحة كتاب الإرشادات للتحاور الصادر سنة 1971م(1) .
لكن هذا القرار لا يغير توجهات المتحاورين المسيحيين في يوم وليلة، خاصة وأن بعضهم قد ألف كتبًا، يدمغ فيها الحوار المجرد عن التبشير بأنه خيانة للدين المسيحي والسيد المسيح(2) . ولذلك فإن بعض الحوارات بقصد أو بغير قصد نحت منحى تبشيريًا لا يجوز حتى على السذج من المسلمين المعروفين بتيقظهم إزاء هذا الموضوع وتحسسهم منه .
أما الموقف الإسلامي من الدعوة والتبليغ فهو أكثر وضوحًا، خاصة وأن المسلمين لم يكونوا البادئين بفكرة الحوار المعاصرة، فبعُد كثيرًا أن يُلبسوها ثوب الدعوة والتبليغ وهم لم يعرفوا بعد مضمونها الوافد من العالم المسيحي. ومع ذلك، فالدعوة في دم الداعية المسلم، كما أن نزعة التبشير في دم المبشر المسيحي، ومتى ما انحرف الحوار نحو التبشير ولو المبطن ، فإن الداعية المسلم يرد بنفس المكيال .
ب – والذي لاحظته أن الحوار التبشيري من حيث الممارسة المسيحية يأخذ إحدى صور ثلاث: إما الحديث الصريح عن المسيحية وكأنه دعوة إليها، وقد صنع هذا محاور في حوار طرابلس الغرب سنة 1967م، وكان موضع استغرابنا وجود هذا المحاور ضمن فريق العمل فقد كان الوحيد الأسمر بين فريق البيض، والوحيد الذي كان مسلمًا ثم تنصر، ويحمل اسم (السنوسي) وهو اسم إسلامي شهير في الجماهيرية الليبية مما جعلنا نتساءل لماذا اختير ضمن الفريق، وإما الحديث المبطن وفقًا لنظرية الكاردينال Raymond Pannikar في أن المسيح يعمل من داخل الأديان الأخرى، وحسبُ المحاور أن يلقى بالفكرة المسيحية ويتركها تعمل من داخل المحاورين المواجهين له، وإما تقديم الاقتراحات التلفيقية. وكل هذه الصور مرفوضة .
ج – والمقصود بالتلفيق Syncretism هو جمع عناصر فكرية مسيحية مع عناصر أخرى إسلامية، كالذي اقترح في أحد الحوارات أن نبدأ جلساتنا بقراءة أدعية مختلطة مأخوذة من القرآن الكريم ومزامير داود، أو الذي اقترح سبع شهادات بعضها إسلامي مثل: لا إله إلا الله، ومحمد رسول الله . وبعضها مسيحي مثل: المسيح روح الله وكلمة الله. وقد صاغ صاحب الاقتراح بعبارة مقبولة للطرفين إذا أخذت كل شهادة على حدة. ولكن قبول الاقتراح كان يعني العدول عن الشهادة الإسلامية المقصورة على عنصرين اثنين ( لا إله إلا الله . محمد رسول الله) . إلى شهادة أخرى ليست من نصوص الإسلام ولا نصوص المسيحية .
د – وأخيرًا ، فإن كل حوار حول العقائد الإسلامية أو المسيحية لابد وأن يتلبس بالتبشير أو ا لتبليغ . وقد كتبت مرة : إذا كان المقصود هو الحوار فلا داعي لذلك. وإذا كان المقصود التبشير أو البشارة فلا بأس ولكن كونوا صرحاء ، فأنتم مبشرون مسيحيون، ونحن دعاة مسلمون، ولكن لا تسموا ذلك حوارًا(1) .
2- الحوار المسيّس:
أ – يبدو أن رجال السياسة، ومعهم أحيانًا رجال الاقتصاد، عز عليهم أن يروا تجمعات إسلامية مسيحية لم يسبق لها مثال في العصر الحديث، فجاءوا ببضاعتهم إليها: السياسي بقضاياه، والاقتصادي بمشروعاته وبضائعه.
ومن أمثلة الحوار المسيس حوار موسكو سنة 1978م ، وجاءت الدعوة إليه من الاتحاد السوفيتي القديم الذي كان يقلقه سباق التسلح النووي، فجمع ممثلي الأديان في هذا الحوار ليستنكروا ذلك السباق وينادوا بالسلام. وهو مقصود لا اعتراض عليه من الناحية الدينية الإسلامية والمسيحية، ولكن حشد رجال الدين في أحد المعسكرين المتواجهين السوفيتي أو الأمريكي ، لاستصدار بيان له مقصود سياسي – أمر غير مقبول . ولو تنادى المتحاورون من تلقاء أنفسهم لبيان حكم الدين في الحرب والتسلح واجتمعوا في مكان محايد لكان ذلك من أحسن الممارسات. ومثل هذا يقال عن حواري سانت كاترين سنة 1984م ، وسنة 1986م وكان المقصود منهما الدعوة إلى التطبيع بين العرب وإسرئيل بدعوى وحدة الأديان الإبراهيمية ، وحوار روما بعد حوادث 11 سبتمبر 2001م وكان المقصود منه التعليق الديني على تلك الحوادث المؤسفة .
ب – وأما دخول رجال الاقتصاد فقد لا حظته في لقاء (الإسلام والغرب) في جنيف سنة 1987م ، برئاسة الدكتور أحمد فتحي سرور واللورد كارادون . إذ زاحم المتحاورين من رجال الكنيسة والإسلام جمع من رجال الأعمال لتسويق مشروعاتهم . ولما اتفق على تجنيب نشاطات مؤسسة (الإسلام والغرب) أمور السياسة والتجارة، اختفى السادة الاقتصاديون.
وحرى بالحوار الإسلامي ألا يسمح لنفسه بأن يكون مطية لرجال السياسة أو رجال المال، ولو أريد التعامل معهم وهو أمر مفيد، فينبغي أن يكون وفقًا لرسالة الدين، والأجندة الدينية .
3- الحوار الأكاديمي:
أ – كل الحوارات يحييها الأكاديميون، ولكن المقصود بهذا الوصف من الحوار، أن تكون الموضوعات المدروسة ذات طابع فكري أو علمي أو تنموي، ويكون المطلوب بيان موقف الدينيين منها. ومن أوضح الأمثلة لذلك حوار تونس سنة 1974م، بدعوة من مركز الأبحاث في تونس، فقد تحاور المشاركون فيه حول موقف الدينين من: الحضارة – التنمية – التفجر السكاني – التكنولوجيا – العنف – التقدم . ولاشك أن هذا الحوار نافع، ويبين للمتابعين أن الأديان جاءت لتنظيم حيوات الناس، وليست مقصورة على تهيئتهم للدار الآخرة .
ب – ومما يلحق بالحوار الأكاديمي ، أن يُخْتَار للحوار موضوع ديني بحت، ولكنه يُدرس من منطلق أكاديمي وتحقيقي وتحليلي. مثال ذلك حوار قرطبة في مارس سنة 1977م، وقد دار حول دراسة شخصية الرسول (ص) ، وشخصية السيد المسيح عليه السلام. ولابد أنه قد كان للدارسين إطلالات كلامية أو لاهوتية عند الحديث عن هاتين الشخصيتين الفذتين، ولكن المنهج كان أكاديميًّا ، كما أن المشاركين كانوا مؤهلين لذلك. واستطرادًا من هذا، يمكن القول بإمكان عقد حوارات حول موضوعات دينية بحتة، بقصد تبادل المعلومات لا التبشير أو التبليغ، على أن تقصر المشاركة فيها على المتخصصين في موضوعاتها .
4- الحوار الشبابي:
أ – هذا نوع من الحوار، عدل فيه عن الشيوخ والأساتذة، إلى الناشئين والشباب. وغالبًا ما يتم بمشاركة فتيان وفتيات، وينظم على هيئة مخيم عمل لخدمة المجتمع. ومبرر الداعين إلى هذا الحوار هو أن المستقبل للشباب فلندربهم من الآن على التعايش المشترك وألفة التقارب بين أتباع الدينين .
ومن الأمثلة لذلك مخيمات الشباب المسلم والمسيحي في لبنان، وهي سنوية، وتلقى فيها محاضرات من أساتذة متخصصين في الدينين والحوار.
وقد اعترض كثيرون، ولهم الحق في ذلك، على هذا النوع من الحوار، لأنه يُدخل الشباب في أبحاث لم ينضجوا بعد النضج الكافي للتعامل الآمن معها. وغالبًا ما تكون نتيجة هذا الحوار عكس المقصود منه، لأنه يؤدي إلى تشكك الشباب في معتقداتهم وممارستهم، لأنهم يستمعون إلى مباحث لا يتسع الوقت لتجليتها لهم، فتبقي الشُبه التى تثيرها الأسئلة، وتغيب الأجوبة المطمئنة التى لا يتسع الوقت لاستيفائها ، خاصة وأن المتحدث في كل مرة يكون ممثلا لأفكار دينه، ولا يوجد معه من هو في مستواه من أتباع الدين الآخر. ثم إن إدارة المخيمات الشبابية المختلطة صعبة، وتحتاج إلى رعاية كاملة والتزام دقيق بالآداب والتقاليد الدينية الاجتماعية للدينين .
ب – على أنه في الإمكان تطوير هذه المخيمات، بجعلها غير مختلطة، وبالإشراف الدقيق الأمين على المباحث التى تدرس فيها، بحيث يجري التركيز فيها على كيفية التعايش المشترك، والتعاون في شئون الحياة، والتحلي بالقيم ومكارم الأخلاق التى يحث عليها الدينان .
5- الحوار الموسع:
أ – حينما انطلقت الدعوة إلى الحوار، من مصدرها المسيحي، لم يكن المقصود منها الاقتصار على الحوار مع الإسلام، وإنما مع كافة الأديان والأيديولوجيات؛ ولذلك كان طبيعيًّا من وجهة نظر مصدر المسيرة، أن تعقد حوارات موسعة تشمل ممثلين عن أديان وحضارات وأيديولوجيات. ومن أمثلة هذه الحوارات: حوار عجلتون / لبنان في مارس سنة 1970م ، وقد اشترك فيه مسيحيون، ومسلمون، وهندوس، وبوذيون، وحوار كولومبو/ سيرلانكا في أبريل سنة 1974م ، وقد اشترك فيه ممثلون من أديان أربعة مثل سابقه بالإضافة إلى ممثلين عن اليهود.
ب – ونية الداعين إلى هذه الحوارات الموسعة واضحة، وهي غالبًا تأكيد التراضي بالعيش المشترك في عالم متعدد الأديان. وهو أمر لا يستنكره الإسلام، وقد سبقت الإشارة إلى القاعدة القرآنية للتعايش الديني، وهي قوله تعالى : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وقد بينا أن الآية قد نزلت بشأن دين قريش، ولكن المفسرين والأصوليين يعممون الحكم بها ولا يقصرونه على خصوص السبب، وهو الحق. ومعنى التعايش الديني في المفهوم الإسلامي هو الاعتراف بوجود الدين الآخر وليس الاعتراف بصحته. وهو موقف عادل ومخلص وصحي .
لكن الاعتراض الذي يستظهره المسلم، ولو جزئيًّا، مبني على أن التوسع يؤدي إلى تخفيف التركيز؛ لأن البحث عن قواسم مشتركة بين خمسة أصعب بكثير من البحث عنها بين اثنين بينهما صلات وثيقة. ثم إن للمسلمين اهتمامًا خاصًّا بالمسيحيين الذين هم أقرب إليهم مودة . وهم يعايشونهم معايشة وثيقة داخل بعض البلاد العربية مثل لبنان ومصر، وفي المهاجر الغربية .
ج – كما يشعر المسلمون، بل والمسيحيون العرب أيضًا، أن موقف المسيحية الغربية من اليهود قد اعتراه كثير من الاستسلام غير المبرر . وقد بدأ ذلك في المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1962م حينما أعلنت الكنيسة براءة اليهود من خطيئة الصلب، وحينما أمرت بعد ذلك بسحب أحد الأناجيل القانونية من فرنسا في مايو سنة 1994م لأنه يتضمن نصوصًا عن خطيئة اليهود(1) .
إلا إن هذين الأمرين دينيان فلا يحق لنا التوقف عندهما . ولكن الذي نتأسف له هو التفسيرات التى تعطيها بعض الكنائس الغربية لمفهوم (أرض فلسطين) واعتبارها (أرض إسرائيل) بتفسير لاهوتي(2) ، ثم الحديث المعلن مؤخرًا عن عودة السيد المسيح، إلى أرض إسرائيل الحالية التىيجب أن تحمى من الأعداء(3) . ولذلك فإن الحوار الموسع الذي يشمل اليهود يحتاج إلى احتياط بالغ حتى لا تتورط الحوارات فيما ينبغي تحاشيه .
6- الحوار بالمناظرة:
أ – أقرب مثال للحوار بالمناظرة، مناظرات الشيخ أحمد ديدات عافاه الله مع عدد من مشاهير رجال الدين المسيحيين، ومنهم القس جيمي سواهارت في أمريكا، والتى عرضها تلفزيون الإمارات. ويتم ترتيب هذه المناظرات بين المتناظرين بتحديد الموضوع، ودعوة جمهور غفير من المستمعين ، وتؤدي بأسلوب المناظرات المعروف، والذي يحرص فيه كل متناظر على هزيمة الآخر، وكأنهما خصمان في حلبة أو مسابقة. وعادة ما يتابعها جمهور الحاضرين بحماس شديد ، بعد أن ينقسموا فريقين، ويناصر كل فريق من يمثل دينه. وقد تتضمن المناظرة بيانات وحقائق ومعلومات يستفيد منها المتابعون، ولكنها تؤجج الخصومة بين المشاركين جميعًا، ولا يمكن اعتبارها حوارًا بالتى هي أحسن .
ب – ومناظرات الشيخ ديدات هي متابعة للمناظرات التى وقعت في الهند بين المستشرق الأمريكي الكاثوليكي ثم البروتستانتي الدكتور فندر وبين الشيخ رحمة الله الهندي في أبريل سنة 1854م، ومن آثارها كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمة الله، وكتاب (ميزان الحق) للدكتور فندر. ويبدو أن المناظرات كانت الأسلوب المختار للمبشرين المسيحيين، ومنهم القسيس كئي، والقسيس وفرنج(1). وقد كان الدكتور فندر ذا نزعة تهجمية حتى قيل إنه كل يحاضر على سلم المسجد الجامع في دلهي.
ج – ودونما تعليق على المناظرات التى حصلت قديمًا وحديثًا، فإن لكل مناظرة ظروفهــا ودوافعهــا ، فإننا لا نظـن أن (المناظرة) هي الأسلوب المناسب للتفاهم بين المسلمين والمسيحيين، ولا يمكن الإقرار بها أسلوبًا من أساليب الحوار. بل ولا يجوز أن ندخل سيكولوجية المناظرة ولو بصورة ضمنية في لقاءات الحوار الإسلامي المسيحي لمخالفة ذلك للشرط القرآني {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
7- الحوار المحلي للعيش المشترك:
أ – تتجه معظم الحوارات نحو العلاقات بين الدينين والعالمين الإسلامي والمسيحي بصفة عامة، دون تركيز على أحوال التعايش بين المسلمين والمسيحيين في قطر معين أو منطقة جغرافية معينة، ولذلك أخذت الحوارات طابع التعميم، والمفروض أن يكون مع هذا التعميم، وهو وضروري، حوارات تخصصية محلية تعنى بحصر الإشكالات التى قد تكون موجودة ، وتقترح الحلول الناجعة والفورية لمواجهتها. وتزداد أهمية التخصيص في البلاد التى تعتريها مصادمات دموية مؤسفة كما حصل في لبنان منذ عشرين سنة، بما بلغ مستوى الحرب الأهلية لمدة ست عشرة سنة، وكما حصل في صعيد مصر منذ فترة، وكما يحصل الآن في بعض الجزر الإندونيسية.
ب – ولعل أقدم حوار على المستوى المحلي مكانًا وموضوعًا ، الحوار الذي نظمه الفاتيكان في فيينا في نوفمبر 1976م، وتخصص في دراسة (أحوال المهاجرين المسلمين في أوربا) ، فقد بلغ حجم الهجرة الإسلامية إلى أوربا مستوى عاليًا، ورافقته مشكلات متعددة بعضها إسلامي إسلامي وبعضها الآخر إسلامي مسيحي، مع تعدد في المؤثرات الدينية والحضارية والمعيشية.
ج – لكن الذي يسترعي الانتباه هو قيام مؤسسة حوارية في الشرق الأوسط، متمركزة بين لبنان، ومصر، وقبرص، تسمى (الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي) وكان تأسيسها في سنة 1995م وتسجيلها القانوني في لبنان سنة 2002م وهي معنية بشئون الحوار الإسلامي المسيحي بصفة عامة، ولكنها متخصصة في شئونه داخل البلاد العربية والشرق الأوسط، ومن أبرز مؤسسي هذا الفريق القس الدكتور رياض جرجور، وقد نظمت هذه المؤسسة حوارات ذات طابع محلي منها: حوار (مسلمون ومسيحيون معًا من أجل القدس) في بيروت بتاريخ يونية 1996، وحوار (حول المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان) في القاهرة بتاريخ اكتوبر 1997، وحوار (العيش المشترك والتوترات الدينية في بعض البلدان العربية) في بيروت بتاريخ مارس 2000م كما أصدرت المؤسسة وثيقة باسم (الحوار والعيش الواحد: ميثاق عربي إسلامي) .
ولاشك أن قيام هذه المؤسسة التى تركز على الشئون المحلية بين الإسلام والمسيحية في البلاد العربية والشرق الأوسط ، يعتبر نقلة نوعية في منهج الحوار الإسلامي المسيحي، بتوجيه العناية إلى (المحليات) بدلاً من التركز المطلق على العموميات . وسوف يحمل هذا التوجه على تحسس مشاعر الأقباط في مصر والموارنة وسائر الكنائس المسيحية في لبنان نحو إخوانهم المسلمين، وبالعكس . وهي مشاعر يستحسن إبرازها علنًا ومعالجتها بدلاً من التكتم عليها ثم معاناة نتائجها(1) .
ومما يجرى هذا المجرى قيام لجنة حوارية في لبنان، معنية بالشأن الإسلامي المسيحي المحلي في هذا البلد المتعدد الأديان والأعراق ، والمهيأ تاريخيًّا لحسن التوافق. وحبذا لو شكلت لجان أخرى على غرارها في مصر وسوريا والأردن والسودان. ثم ما أحسن أن يتابع هذا النموذج الجيد من الحوار (الحوار المحلي للعيش المشترك) ، في كل مكان يحتاج إليه.
8- حوارات أخرى :
الحوارات السبعة المذكورة تتصف بالتحديد، وفيها من الإيجابيات أو السلبيات ما بيناه. وبقيت بعد ذلك حوارات ذات طابع تعميمي أو مغاير لما ذكرناه ، ولا يمكن تقييمها مسبقًا، لأن لكل حوار ما يبرره في وقته.
غـير أن ما أريد بيانه باقتراح عبارة (الحوار المترهِّل) ، هو التنبيه على أن الحوار المعمم إذا لم يوجد ما يبرره يؤدي إلى التكرار واجترار الماضي دون إضافة نفع جديد . وقد يؤدي إلى ملل المتابعين للحوار منه، وانفضاضهم عنه. وقد قال لي مرة أحد المسئولين في دولة عربية : وماذا أفدنا من حواراتكم؟ والمسئول محق في تشككه في جدوى الحوارات التى لا تعالج إشكالاً، أو تقترح جديدًا نافعًا، أو تنجح في تقريب المتباعدين ، ورد كيد الهدامين. ولكن لا مشاحة في نجاح بعض الحوارات فيما نصبت نفسها لتحقيقه، وقد ذكرنا ذلك بإجمال وتفصيل فيما مضى. أما الحوار المترهل بالوصف السابق فلا نفع كبيرًا منه، وقد يضر .
رابعا: تقييم للماضي، واقتراحات للمستقبل
1- اتضح مما ذكر سابقًا، أن الحوار المعاصر قد نجح خلال الأربعين سنة الماضية في كسر حاجز المجافاة بين العالمين الإسلامي والمسيحي، وإتاحة الفرصة لهما للسير في طريق التقارب، وتجديد التعريف بما يلتزمان به من عقائد ومفاهيم، والرد على ما قد يَرِد عليها من استفسارات، وإقامة علاقات تفاهم وتعارف وتعاون بين رجالاتهما وعلمائهما خاصة في مناصرة الـمُثل والقيم التي يتوافقان عليها .
كما اتضح أيضًا أن مسيرة الحوار تحتاج إلى مزيد من التصويب والتسديد، بالتدقيق في بيان الأهداف، وتحديد المرجعيات الموجِّهة للمتحاورين، وحسن الاختيار لموضوعات التباحث . وفي الوقت الذي حذرت الدراسة من تلبيس الحوار بنزعات التبشير المبطَّن، أو التلفيق الديني، أو الاستغلال السياسي، أو ممارسة الحوار ممن ليسوا مؤهلين له، أو إقحام الناشئة في شئونه، أو الاشتغال بالموضوعات الحساسة من أمور العقيدة وثوابت المجتمع، أو توسيعه بلا احتياط كاف خارج إطاره الأصلي بين الإسلام والمسيحية، مع عدم المعارضة على التفاهم مع أتباع الديانات والفلسفات والحضارات والأيديولوجيات، فالبشر جميعًا عيال الله – فقد استحسنت الدراسة مشاركة الأكاديميين والجامعيين والمتخصصين في الدراسات الدينية وغيرها، والاهتمام بالحوارات المحلية، وموضوعات العيش المشترك، ومعالجة الخلافات المترسبة والطارئة بين المسلمين والمسيحيين خاصة في الأقطار التي يتعايشون فيها .
2 – ولكي تُتدارك المحاذير، ويتحقق المزيد من الإنجازات، ولضمان استمرار اقتناع العالمين بجدوى الحوار في المستقبل، وتحاشيًا لما قد يعتريه من التكرار الممل لمباحثاته، أو فقد الثقة في جدواه ونتائجه – لا بد من اتخاذ خطوات جادة ومستعجلة من قبل الطرفين بالتفاهم المخلص المشترك، في مجالات : التنظيم والتنظير، ووضع الضوابط، وبيان الأنشطة والممارسات .
3 – فأما من حيث التنظيم: فقد آن الأوان لأن يكون للحوار الإسلامي المسيحي حضانة مشتركة، وفرص جادة للتنسيق بين جميع العاملين في مجاله . وقد يتم ذلك بتنظيم لقاءات مشتركة من حين لآخر لممثلي الجهات المعنية والمشاركة؛ للتشاور، والتنسيق، وتبادل المعلومات والاقتراحات . ولا يعني هذا أن تنشأ لجنة تنظيمية مشتركة، أو حتى مائدة مستديرة للتباحث؛ لأن ذلك قد يعطي الوهم الذي لا يرغب فيه أحد بقيام تجمُّع ديني تحت أي تسمية . وإنما المقصود هو التلاقي المشترك لتحقيق ما ذُكر، وللتعاون على توجيه حركة الحوار إلى الممارسات النافعة، وتجنيبها ما قد يخرجها عن مقصودها . وقد يُدعى إلى هذا اللقاء من قِبَل الفاتيكان، أو مشيخة الأزهر، أو رابطة العالم الإسلامي، أو مجلس كنائس الشرق الأوسط .
كما آن الأوان أن تنشأ مرجعيات محلية للحوار، تعتني ضمن ما تعتني به بالتوثيق، والإعلام، والمتابعة .
4 – وأما من حيث التنظير : فمن الضروري وضع تعريف جامع مانع للحوار . وإذا صعب الاتفاق على ذلك، فإن تبادل الشروح والتوصيفات والملحوظات يفيد في بيان الأهداف والمقاصد.
وبالإضافة إلى العموميات التي يُفترض من الحوار أن يحققها، فإننا نقترح التركيز على ثلاث مجالات رئيسة، تنبثق عنها موضوعات الحوار في المستقبل، وما يعين على حسن ممارسته من الدراسات والإحصاءات والاستبانات واستقراء المؤلفات في موضوعه والاقتراحات التي ترد حوله . وهذه المجالات: التعريف والتعارف، والتعايش أو العيش المشترك، والتعاون .
ونعني بالتعريف والتعارف : تبادل المعلومات عن الدينيْن وعالميْهما والحضارتين المنبثقتين عنهما، والتقاليد السائدة في مجتمعاتهما، وتاريخ كل منهما، والتزاماتهما، ودونما تدخل في الموضوعات الحساسة تقديم الشروح عن الأمور المستحقة للاستفسار، ومبرّراتها، والتطلعات المستقبلية لهما، وكل ما من شأنه أن يبدد التصورات الخاطئة التي ترسبت مع الزمن . وقد أوضحت حوارات الماضي جسامة التصورات التي من هذا النوع وتفشِّيها دون أي مستند لها .
ونعني بالتعايش والعيش المشترك : حصر الإشكالات الحاصلة بين المسلمين والمسيحيين في كل مكان، ورصد الشكاوي والاعتراضات، ودراسة الآمال والطموحات، والاتفاق على آداب التعامل، وبيان الحقوق بالعدل والقسطاس المستقيم .
ويقتضي التعايش على المستوى الوطني الدعوة إلى لقاءات بين ممثلي التجمعيْن، ومراجعات مع المسئولين الدينيين والسياسيين والإداريين، ومتابعات مستمرة لما يتوصل إليه من حلول، مع الأناة والحكمة وحسن التأتي.
وتحقيق ما ذكرناه ليس بالأمر الهين لأنه يحتاج إلى جهد ووقت طويليْن، ولنأخذ مثلاً شكاوى الأقباط في مصر ذات الأغلبية المسلمة، كما بينها أحد مفكري الأقباط في مصر(1)، إذ نجد أنه حصرها في عشر مشكلات، بعضها دستوري وبعضها سياسي . ومن ضمنها أيضًا مشكلات إدارية وتعليمية وإعلامية وأمنية وغيرها . ولو أخذنا واحدة فقط من هذه المشكلات، وهي المتعلقة ببناء الكنائس وترميمها، نجد أن جذورها تعود إلى سنة 1856م خلال فترة الحكم العثماني، وقد تدرج علاجها منذ ذلك الوقت حتى الآن، وما زالت تحتاج إلى تكملة، ولو رجعنا إلى النصوص الإسلامية لوجدنا أنه لا مبرر للمشكلة من أصلها؛ لأن حق المسيحي في التعبد وصيانة كنيسته مكفول ابتداء من العهد الذي بذله النبي (ص) لنصارى نجران، وعهد عمر بن الخطاب t لنصارى القدس وفلسطين، والعهود التالية المتوافقة على ذلك. لكن المشكلات التي من هذا النوع تمر بتعقيدات تاريخية وتشريعية وأمنية، وبالصبر وحسن التفهم يمكن حلها بما يرضي الجميع، لسبب بسيط هو أنه يلزم حلها بحكم التعاليم الإسلامية . ومثل ذلك يقال عن مشكلات المسلمين في البلاد التي يشكلون فيها أقليات صغيرة أو كبيرة، وسواء أكانوا من المواطنين الأصليين أم من المهاجرين . فهذه المشكلات أيضًا ليست مستحيلة الحل ويلزم لها أيضًا الصبر وحسن التأتي بمراعاة القوانين المحلية السائدة وبالأسلوب الحسن .
ومن الحوارات الجادة في موضوع التعايش، الحوار الذي أشرنا إلى عقده في القاهرة تحت عنوان (المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان) . لقد شمل البحث في ذلك الحوار المراجعة الدينية لموضوعات : أهل الذمة، والجزية، ودار الإسلام، ودار الحرب، والخدمة العسكرية، والتمثيل السياسي لجميع المواطنين بصرف النظر عن دياناتهم . والمهم هو أن الجانب الإسلامي في تلك الندوة هو الذي أتي بالحلول والاجتهادات الجديدة، واتضح أن المكتبة الإسلامية المعاصرة قد حفلت بكتب نفيسة لحل الإشكالات، لكنها لم تُعط حقها من الذيوع . وبالحوار وحده تتحقق الإذاعة والمتابعة والتصحيح بتوفيق الله(1).
ونعني بالتعاون، تشارك المسلمين والمسيحيين في مواجهة الشرور التي ينهى عنها الدينان بصرف النظر من مصدرها. ومن هذه الشرور: الإلحاد، والمادية المسرفة، والظلم الاجتماعي، والاستعمار بجميع أشكاله وصوره، واستعلاء الدول الغنية على الدول الفقيرة وغمطها حقوقها في التنمية المستدامة، والتفسخ الخلقي، والإرهاب، وتملك أسلحة الدمار الشامل، وإفساد البيئة والمناخ الكوني، وعدم مساعدة المجتمعات التي تفتك بها الأوبئة والأمراض المعضلة، وحرمان الشعوب المستحقة من حق تقرير المصير، والتعابث بالبحث العلمي بإدخاله مجالات الاستنساخ البشري والهندسة الوراثية غير العلاجية، وأشباهها . كما نعني بها التعاون البنّاء في أمور التعليم، والعلاج، والتغذية للمجتمعات المهددة بالجدب والمجاعات، والتدريب المهني، وكل هذا أجمله القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} .
5 – وأما الأنشطة والممارسات: فقد مورس منها حتى الآن الثنائية، والحوارات الموسَّعة، وحلقات الاستشارة إما في موضوعات تنظيمية وإما لاستبانة أحكام الدينين في موضوع معين كحلقة (التبشير والتبليغ في الدينين) التي عقدت في شامبسي بتاريخ يونية 1976م . ومن الممارسات الحسنة التي بادر بها الجانب المسيحي توجيه التهاني في المناسبات الدينية كالأعياد وشهر رمضان، وقد دعا البابا بول يوحنا الثاني الكنيسة إلى ممارسة غير مسبوقة وهي صوم يوم من أيام رمضان، ولكن طبقًا للصيام المسيحي بطبيعة الحال .
ولكن العالم الإسلامي يطمع في الوقت الحالي، بعد موجة العداء الموجهة إلى العالم الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 المؤسفة، أن تقوم الكنائس بتصحيح هذا التوجه الخاطئ في الغرب. فإنه على افتراض أن مسئولية تلك الأحداث قد ثبت ارتكابها من قبل بعض المسلمين المخطئين، فلا ذنب للعالم الإسلامي في طيش بعض أبنائه . وقد ارتكبت حادثة أوكلاهوما المؤسفة والتي راح ضحيتها حوالي 200 من الضحايا، من قبل أمريكي أبيض، ولم يقل أحد بعدها إن البيض في أمريكا يتحملون مسئولية الجاني الفرد، وقد قام العالم الإسلامي بما يجب عليه من استنكار ما حصل وبيان حرمته المغلظة في الدين، واتخاذ الإجراءات الصارمة ضد من يشتبه في تطرفه، وسبق للأزهر الشريف أن عمم كتابًا من جزئين يدين فيه التطرف والإرهاب، حتى يسترشد به الدعاة والأئمة في بيان هدي الإسلام المسالم للناس، وعنوان الكتاب يدل على مضمونه وأنه رسالة للمسلمين، والعنوان مقتبس من قوله تعالى : {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس}(1) وللاقتباس دلالته.
المراجع
(*) ورقة مقدمة إلى الدورة العاشرة لمؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي التي نظمتها وزارة العمل والشئون الاجتماعية بدولة البحرين خلال الفترة من 28 – 30 أكتوبر 2002م.
(*) المستشار الثقافي بديوان صاحب السمو رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، ومدير جامعة الإمارات سابقًا .
(1) آية سورة النحل محكمة غير منسوخة. والمقصود (بالذين ظلموا) في آية سورة العنكبوت أولئك الذين حاربوا المسلمين. انظر د. وهبة الزحيلي : التفسير المنير ج21 ص 7. دار الفكر : بيروت.
(2) أخبار هذه الرسائل أخرجها البخاري ومسلم وأصحاب السنن. وفصلتها كتب السيرة والتاريخ : طبقات ابن سعد ج1ص258. سيرة ابن كثير ج3 ص 494. الطبري: تاريخ الملوك والرسل ج3 ص 1559 ، وانظر بحثنا: الدراسات المتعلقة برسائل النبي إلى ملوك عصره. مجلة الفكر الإسلامي لدار الإفتاء في بيروت 1981م .
(1) انظر السيرة الشامية. طبعة دار الكتب العلمية. بيروت 1993 ج6 ص 420.
– ومحمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. طبعة دار الإرشاد بيروت 1969م. الوثيقة 95 ص 145.
– وانظر تفسير صفوة البيان للشيخ حسنين مخلوف. طبعة الكويت ص 828.
(2) د. عبد الكريم زيدان: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام . بغداد 1976م ص 70، 78، 81 .
(1) انظر كتاب (ندوات علمية في الرياض وباريس والفاتيكان وجنيف) بالعربية والإنجليزية والفرنسية. دار الكتاب اللبناني : بيروت 1973م.
(1) قدم كاتب هذه الورقة بحثًا في هذا الحوار بعنوان (كيف نعمل على إزالة الأحكام المسبقة الخاطئة وضعف الثقة التى لا زالت تفرق بيننا) ، مطبعة الظواهر ، أبو ظبي 1977م .
(2) انظر تقارير مجمع الكنائس العالمية في جنيف. تحرير الدكتور S.J. Samartha. بعنوان Living Faiths ابتداء من سنة 1971م.
(1) انظر (رسالة جامعة لقداسة البابا بولس السادس في تقدم الشعوب وارتقائها) . المطبعة البولسية ، جونية. لبنان. سنة 1976م . وقد كانت هذه الرسالة من وثائق مؤتمر الحوار المذكور.
(1) Guid(ص)lin(ص)s for a Dialogu(ص) B(ص)tw(ص)(ص)n Muslims and Christians
(1) Guid(ص)lin(ص)s. P. 9
(2)John Stott, Christian Mission in th(ص) Mod(ص)rn World , London 1975
(1) عز الدين إبراهيم : الحوار الإسلامي المسيحي : رؤية إسلامية ، و ضمن كتاب : حوار الحضارات ، تحرير د. يوسف الحسن . دار الخليج . الشارقة سند 1997.
(1) انظر جريدة الجارديان البريطانية بتاريخ 19 / 3 / 1995 ص 15 . والإنجيل المشار إليه Bibl(ص) Of Christian Communiti(ص)s .
(2) الحلقة الاستشارية لمجمع الكنائس العالمية في كارتجني . يناير 1974 بعنوان Biblical Int(ص)rpr(ص)tation and its b(ص)aring on Christian Attitud(ص)s r(ص)garding th(ص) situation in th(ص) Middl(ص) (ص)ast.
(3) انظر مثلاً : Godfr(ص)y Wanjau : Christ S(ص)cond Coming is n(ص)ar Nairobi. p. 11
(1) رحمة الله بن خليل الرحمن الكيرانوي : إظهار الحق . تحقيق د. محمد أحمد ملكاوي . طبعة الرياض 1989 ج1 ص 17 .
(1) ظهرت مؤخرًا كتب في مصر ولبنان تذكر الإشكالات والشكاوي بصورة صريحة ، وهي خير عون على تنظيم حوارات العيش المشترك في هذين البلدين وغيرهما ، انظر :
د. نبيل لوقا بباوي : مشاكل الأقباط في مصر وحلولها . القاهرة 2001 .
د. مصطفي الفقي : الأقباط في السياسة المصرية . دار الهلال . القاهرة . 1991 .
د. ألبير منصور : قدر المسيحيين العرب وخيارهم . دار الجديد . بيروت 1995 .
فهمي هويدي : مواطنون لا ذميون . دار الشرق . القاهرة 1990 م .
فضيل أبو النصر : هواجس المسيحي اللبناني . بيسان . بيروت 2001 .
(1) وهو الدكتور نبيل لوقا بباوي في كتابه : مشاكل الأقباط في مصر وحلولها . والدكتور بباوي باحث قبطي معتدل .
(1) انظر بحثنا بعنوان: الحوار من أجل التعايش داخل المجتمع الإسلامي، وهو قيد الطباعة من قبل منظمة الإيسيسكو بالرباط .
(1) الآية من سورة آل عمران ( 3 : 138 ) والكتاب بعنوان ( بيان للناس : من الأزهر الشريف ) مطبعة الأزهر القاهرة 1984 .