الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله.
هذا الموضوع الذي أتناوله اليوم هو حلقة في سلسلة كنا قد بدأنا عرضها في ندوات سابقة يجمعها جميعًا عنوان (مؤسسات الدولة الإسلامية) وعنوان ندوة اليوم يتعلق بمفهومين : مفهوم الجهاد ومفهوم الدعوة ، وعلة الجمع بين المفهومين هي فض الاشتباك بينهما، باعتبار أن بعض المذاهب والنظريات تقول بالربط بين الجهاد والدعوة على أساس أن مبرر الجهاد هو نصر الدعوة .
– 1 –
الجهاد يشتمل على معان كثيرة، ولكننى سأقتصر هنا على معنيين فقط من معانيه ، وهما القتال والإعداد له:
بالنسبة للإعداد فهو مقدمة ضرورية للجهاد فضلاً عن أنه في حد ذاته مطلوب، فالآية الكريمة تقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } (الأنفال: 60) .
فالإرهاب هنا هو نوع من الردع أو الزجر الذي يمنع من العدوان، وبالتالى فالإعداد يكون مطلوبًا دائمًا وهو ضروري خاصة للجهاد، فلا يجوز للإنسان أن يدخل في معركة دون قيامه بالإعداد الجيد لها .. والإعداد عام يشمل القوة البشرية كما يشمل القوة المادية؛ فالقوة البشرية المقصود بها هو إعداد الجندي الذي سيقاتل ليس من الناحية العسكرية والبدنية فقط ولكن لابد من وجود التصور الشامل للتربية الشاملة، فالجندي لابد أن تستكمل فيه الجوانب المتعلقة بالعقيدة والعبادة والأخلاق والفكر.. بل إنه في الحروب الحديثة لابد من تمكين الجندى من الإلمام بالفنون العسكرية وحتى اللغات التى سوف يقرأ بها دليل استعمال سلاح معين أو غير ذلك مما نشاهده في الحروب الحديثة، فالتربية المتكاملة إذًا تدخل في مفهوم الإعداد البشري، ويتركز بعد ذلك موضوع الإعداد البشري في فترة الخدمة العسكرية التى يقضيها الفرد حتى يأخذ حاجته من التدريب؛ لأن باقي النواحي من التربية المتكاملة هذه تكون مستمرة مدى الحياة وتقوم بها مؤسسات أخرى، ولكن عملية الخدمة العسكرية هي التى تؤهله لممارسة فنون القتال .
ونظم الخدمة العسكرية تختلف في بعض البلاد عن الأخرى .. فبعض البلاد تقصرها على عدد محدود من السنوات، وتُقلل من عدد السنوات بالنسبة للمتعلمين، وفي المنظور الإسلامي لا مجال للاعتذار أو للتخفيف، فجميع المسلمين مطالبون بالإعداد فلا يعفى من هذا الواجب من كان له طول معين أو له ظروف معينة، خاصة وأن في الخدمة العسكرية مجالات كثيرة لا يشترط في بعضها توافر الشروط البدنية واللياقة البدنية التى تبرر الإعفاء .
الذي يهمنى الإشارة إليه في خصوص نماذج الخدمة العسكرية النموذج السويسري ، والذي أخذت به الدولة الصهيونية ، فهذا النموذج يفرض الدخول في الخدمة العسكرية في سن الثامنة عشرة، ويقضي الفرد ثلاثة شهور فقط ثم يرجع بعدها إلى عمله، ويتجدد انخراطه في الخدمة العسكرية للتدريب مرة كل سنة لمدة ثلاث أسابيع، وذلك حتى بلوغه سن الأربعين حتى لا ينسى أولاً فنون القتال، وكذلك حتى يتم اطلاعه على ما يستجد من أسلحة وغير ذلك مما يلزم المقاتل .. وبهذه الصورة يصبح الشعب كله جيشًا – وهذه ميزة أساسية – ويتناوب أفراد الشعب الدخول في الخدمة العسكرية وفقًا لنظام معين، ولا يبقى كقوة دائمة إلا المدربون الذين يقومون بالتدريب والتعليم، والترقية في سلم الدرجات العسكرية تتم وفقًا للكفاءة التى تتضح من خلال الدورات الدراسية والتدريبية ، وليس عن طريق الدراسة ، فلا يوجد في هذه الصورة نظام يدرس فيه الشخص ليكون ضابطًا والآخر ليكـــون جنديًّا .. هذا المفهوم -في نظري- هو أقرب إلى المفهوم الإسلامي، وأستغرب في الحقيقة الصورة السائدة في معظم البلاد التى تكون فيها المهنة العسكرية مهنة يعيش فيها الشخص طوال حياته أو يلتحق بها فترة مؤقتة في مقتبل العمر ثم ينقطع عنها بعد ذلك .
نأتى بعد ذلك إلى إعداد القوة المادية: وقد يفهم أن القوة المادية هي فقط إعداد السلاح؛ ولكن تبين من خلال الحروب الحديثة أن المقصود بها التنمية الشاملة .. وكل منا يعرف أن وسائل الضغط على الشعوب أصبحت متنوعة، فلا تقتصر فقط على الإمداد بالسلاح أو منع الإمداد به، فمثلاً أصبح من وسائل الضغط القوية الآن الإمداد بالغذاء، إذا كانت الأمة تعتمد في إمدادها بالغذاء على دولة أخرى، وبالتالي فتحقيق الاكتفاء الذاتي في المسائل الضرورية هو شرط أساسي من شروط القوة المادية التى نحن مطالبون بإعدادها . ومما يدخـــل في هذا الباب -بطبيعة الحال- الصناعات العسكرية حتى لا يكون أمرنا معلقًا على إرادة دولة أخرى تبيع لنا السلاح أو تمنعنا من الحصول عليه فنكون تابعين – في هذا الموضوع الحيوي – لإرادة الآخرين.
ننتقل بعد ذلك إلى موضوع القتال : ولا أدخل في تفاصيل كثيرة إنما أقف عند بعض الموضوعات ذات المغزى .
وأول موضوع أقف عنده هو الخلاف الوارد حول مبررات القتال:
وفي هذا الموضوع يوجد رأي كان له كثير من الأنصار في الماضي، وهو أن سبب القتال هو الكفر وليس العدوان .. بمعنى أننا يجب أن نقاتل الكفار حتى لو لم يبدأوا بالعدوان.. والهدف الذي يهدف إليه هذا الرأى هو القهر على الإسلام وفرض سيادة الشريعة الإسلامية على العالم أجمع، فإما أن يسلموا أو يُقتلوا -بالنسبة لمشركي العرب- وإما أن يسلموا أو يُقتلوا أو يدفعوا الجزية بالنسبة لأهل الكتاب .
بإيجاز شديد : القائلون بهذا الرأى يرون أن أحكام القتال التى وردت في القرآن الكريم جاءت بصورة متدرجة بدأت بالتحريم، وبالأمر بالصبر على أذى الكفار والصفح، وغير ذلك في الفترة المكية، ثم جاءت بعد ذلك الآيات بالإباحة – الإذن – في القتال بعد الهجرة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج : 39) ثم تدرج حكم التشريع إلى الوجوب بالنسبة لمن يقاتل المسلمين والكف عن القتال من لم يقاتل المسلمين : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَــدُوا إِنَّ اللَّـه لاَ يُحِـــــبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (البقرة : 190) ثم تدرج الأمر إلى القتال العام للمشركين كافة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِين} (البقرة : 193) .
ويفسر أصحاب هذا الرأي الانتهاء هنا بأنه ليس الانتهاء عن العدوان وإنما بالانتهاء عن الكفر، أي بالدخول في الإسلام . والآية : {كُتِبَ عَليكُمُ القِتَالُ وهُوَ كُرْه لَكُم} (البقرة : 216).
ثم أهم ما يحتج به هؤلاء الآيات الخمس الأولى من سورة (التوبة) ، والآية رقم 29 من السورة نفسها .
ومن مرتكزات هذا الرأى – كذلك أن سورة التوبة المشار إليها – نسخت الآيات المتقدمة عليها وقد حددها بعضهم بمائة وعشرين آية تصبح منسوخة .
ومن الطريف أنه يدخل في هذه الآيات آية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين} (البقرة : 256) ويدافعون كذلك عن هذا الرأى بأن الإكراه على الحق لا يعتبر إكراها.. وهذا رأى غريب في الحقيقة لأنه لا يوجد مستبد أو ظالم يدعى أنه يكره الناس على الباطل وفرعون كان يقول : { مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد} ( غافر: 29).
يقابل هذا الرأى رأى آخر يقول بأن القتال يكون للدفاع فقط، فلا نقاتل إلا من يقاتلنا ، والقائلون بهذا الرأي لا يرون أن هناك نسخًا بين الآيات وإنما كل آية مخصصة بظرف معين ولها شروط معينة، وممن قال بهذا الرأى الإمام الثورى وابن تيمية وابن الصلاح.. كما يأخذ بهذا الرأى معظم الكتاب المعاصرين .
هناك رأى ثالث فيه بعض الخلاف مع هذين الرأيين .. وقد قال بهذا الرأى صاحب الظلال، وشرحه بصورة مفصلة في الجزء الثالث : فهو لا يأخذ بالنسخ، وإنما يرى أن عملية التدرج تؤدى إلى أن الحكم النهائي هو فعلاً كما قال أصحاب الرأى الأول، والآيات المتقدمة ليست منسوخة، وإنما يعتبرها أحكامًا مرحلية تبقى قابلة للتطبيق إن وجدت ظروف مشابهة للظروف التى نزلت فيها هذه الآيات، ثم يضيف اتجاهًا جديدًا بعد أن يحمل على من يقولون بأن القتال في الإسلام للدفاع، ويعتبرهم متخاذلين وغير ذلك من الصفات، ثم يقول: إنه إذا لم يكن بد من أن نسمى حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية فلابد أن نغير مفهوم كلمة (دفاع) ونعتبره دفاعًا عن الإنسان ذاته، وبالتالى يكون هناك مفهوم واسع للدفاع .
حتى ننتهى من هذا الموضوع أنا أجد أن الدفاع بمعناه الواسع هذا الذي ذكره صاحب الظلال يتماشى فعلاً مع القوانين الدولية المعاصرة .. ليس هذا فقط، بل إن فهم هذه القضية -في تصوري- يستدعى أن نضعها في إطارها التاريخي، فاللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية لم يكن ممنوعًا على مر العصور الماضية، وإنما جاء النص عليه وبصورة جزئية في بداية القرن العشرين في ميثاق باريس عام 1928م؛ حيث نص أطراف هذا الميثاق على منع الحرب واعتبارها جريمة دولية ، أما قبل ذلك فقد كان اللجوء للحرب أمرًا معتادًا، ولا يعتبر عدوانًا، وحينما جاء الإسلام كان هذا هو الوضع أمامه: مجتمع دولي غير منظم يجوز فيه استعمال القوة للاستيلاء على أراضي الغير أو لاستعمار شعوب أو غير ذلك مما نشاهده.. فجاء الإسلام بتنظيمات معينة تحكم موضوع القتال، وهذا -في حد ذاته- يعتبر إسهامًا إسلاميًّا كبيرًا في تطور المجتمع الدولي نحو التنظيم والانضباط في مسألة استعمال القوة .. فمن الضروري أن نفهم حركة التاريخ حتى نستطيع التمييز بين الكلي والجزئي وبين المفيد والضار وما يعتبر إرساء للقاعدة وما يعتبر انتهاكًا لها ، ولا نستطيــع أن نتجاهل -في ملاحظة حركة التاريخ هذه- أننا في الفترة الأخيرة، وبدءًا من القرن العشرين هناك علامات معينة واضحة لا يمكن تجاهلها منها : إرساء قواعد تنظم العلاقات بين الدول في مختلف المجالات ومتفق عليها في معاهدات شارعة تفصيلية ملزمة لأطرافها، كذلك تحريم اللجوء للقوة أو التهديد بها لفض المنازعات الدولية وإيجاد وسائل سلمية بديلة ومحاولة تنظيم وسيلة ردع جماعية لإقرار السلم والأمن الدوليين، وكذلك إيجاد أجهزة دولية وإقليمية لتنظيم التعاون بين الدول في شتى المجالات ، وأخيرًا الاهتمام بحماية حقوق الإنسان دوليًّا، ومن بين هذه الحقوق حريات التعبير والفكر والعقيدة والعبادة .
ملاحظة هذه المعالم لا تعنى أن الإنسانية قد أنجزت أهدافها في هذا المجال، فما زال الطريق طويلاً، ولا يتصور أن انتقال المجتمع الدولي من الحالة التى كان عليها في القرون السابقة حتى بداية القرن العشرين، إلى الأهداف التى تتغياها هذه المعالم يمكن أن يتم في بضع سنين أو حتى في عشرات السنين، بل قد يحتاج الأمر إلى قرن أو أكثر أو أقل، وهذا لا يعتبر في حساب التاريخ بالزمن الطويل، هناك اعتراض آخر قد يرد، وهو انتهاكات الدول الكبرى للقانون ولحقوق الشعوب وتسلط الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن انفردت بالسيطرة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.. ولكن لا يعنى هذا انعدام المجتمع الدولي أو انعدام القانون الدولي، كما لا يعنى تسلط ديكتاتور في دولة معينة أن هذه الدولة قد انعدمت أو أن القانون فيها قد انعدم .. فهي فترات عصيبة، ولا شك تمر بالشعوب وتمر بالمجتمع الدولي، ولكنه يخرج منها أكثر وعيًا بحقوقه وأقدر على تسيير أموره .
في هذا الإطار التاريخي نجد أن الإسلام حين جاء قبل تحريم المجتمع الدولي للحرب بأكثر من عشرة قرون في عصر كان يسوده منطق القوة اكتفى المسلمون في ضوء توجيهات القرآن الكريم بإقامة دولة لحمل هذا الدين، وقاعدة هذه الدولة هي جزيرة العرب حيث الحكم أنه لا يجتمع فيها دينان، وأمنت هذه الدولة حدودها ضد عدوان الدول الخارجية المتربصة بها حتى استقر بها التوسع عند حد التوازن الدولي الذي ظل قائمًا بعدها عدة قرون.
هذا هو التصور الواقعي للمرحلة التاريخية منذ بداية الإسلام حتى استقر وضع التوسع وحدود الدولة الإسلامية.
إذا تتبعنا من ناحية أخرى آيات القتال في القرآن نجد أن بعضها شديد الخصوصية لارتباطه بظروف إقامة الدولة بحيث لا يمكن تعميم حكمها أخذًا بقاعدة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.. ولعل الآيات الأولى في سورة التوبة من أهم ما يمكن الاستشهاد به في هذا الصدد بما تنص عليه من (أربعة أشهر) ومن (يوم الحج الأكبر) ومن ظروف معينة ومحدودة لا يمكن أن نستمد منها حكمًا عامًّا .
أما باقى الآيات فيمكن بسهولة الجمع بينها في نسق واحد يمثل نظام القتال في الإسلام من حيث تعداد الحالات التى يجوز فيها القتال وحدود هذا القتال دون حاجة لأن نقول بالنسخ وإهدار مائة وعشرين آية ودون القول بنسخ آيـة {لاَ إِكْــرَاهَ فِي الـــــدِّين} (البقرة: 256) وأن الإكراه على الحق ليس إكراهًا .. فمبدأ عدم الإكراه في الدين تقرره آيات أخرى كثيرة وليس مرتكزًا على هذه الآية فقط مثل قوله تعالى: {فَــــــذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} (الغاشية:21) {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس : 99) فحرية العقيدة هي أصل من أصول هذا الدين مرتبط بحكمة الخلق والابتلاء وما يستلزمه ذلك من حرية الاختيار .
ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن العدوان الممنوع والذي يبرر الدفاع عن النفس الفردي والدفاع عن الغير وهو مايسمى بـ (الدفاع الجماعي) .. واسمحوا لي أن أعرض أولاً لموقف القانون الدولي في هذا الموضوع ثم أعقب بعد ذلك ببيان وجوه التقارب بين هذا الموقف وما نفهمه من المنظور الإسلامي في هذا الموضوع:
أولاً: العدوان الذي يبرر الدفاع أمر طال بحثه، ولم يصلوا بعد إلى تعريف محدد له، والسبب في ذلك هو رفض الدول الكبرى لمفهوم العدوان كما تحدده اللجان الفنية؛ لأنها تجد أن تلك التعريفات تنطبق على كثير من تصرفاتها، وقد تكرر ذلك أكثر من مرة وفي كل مرة كانت الدول الكبرى تنسحب من الالتزام بالتعريف الذي تصل إليه اللجان الفنية. ومن خلال المحاولات المختلفة التى بذلت في تعريف العدوان وتعريف بعض الجرائم الدولية يمكن أن نصنف بعض حالات العدوان المتفق على تعريف محدد لها :
أ – حالة العدوان المباشر: وهذه تشمل العدوان المسلح على أراضي الدولة نفسها، وهذه هي الحالة التقليدية حيث يكون الجهاد في الإسلام فرض عين. ثم يدخل ضمن هذه الحالة : الاعتداء على رعايا الدولة في دولة أخرى.. ثم يأتى التهديد بالعدوان دون وقوع العدوان بالفعل، وكذلك تدبير العدوان والإعداد له ولو سرًّا، فهذه الحالات الأربع تقع ضمن مفهوم العدوان المباشر .
ب – حالة العدوان غير المباشر : ويشمل مباشرة أو تشجيع نشاط إرهابي داخل دولة أخرى موجه إلى الدولة التى نتحدث عنها، وكذلك تشجيع وإيواء ومعاونة ثوار دولة أخرى .
جـ – العدوان الاقتصادي : وهذه صورة جديدة تشمل ما يسمى بتهديد كيان الدولة الاقتصادي من مقاطعة وحصار بحري وغير ذلك .
د – تهديد المصالح الحيوية .
هـ – وأخيرًا هناك مفهومان حديثان هما العدوان الفكري باستخدام وسائل الإعلام المختلفة ضد الدولة .
و – انتهاك حقوق الإنسان وهذه الحالة الأخيرة تبلورت بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان .
إذا جئنا إلى ميثاق الأمم المتحدة نجد أن هناك صورًا محددة لاستخدام القوة.. وأول هذه الصور هي إجراءات المنظمة الدولية وفقًا للباب السابع من الميثاق، وهذه الصورة لم يتم تطبيقها حتى الآن؛ لأنها تتطلب استخدام قوات للأمم المتحدة تشرف عليها هيئة أركان حرب مكونة من رؤساء أركان حرب الدول الخمس الكبرى .. وفي فترة الحرب الباردة الماضية لم يكن ممكنًا إنشاء هذه الهيئة .
ثم تأتى المادة 51 من الميثاق التى تتكلم عن الدفاع الشرعي الفردي والجماعي والتى تنص على أنه في حالة غياب هذه الإجراءات التى تقوم بها المنظمة الدولية لا يوجد ما يمنع الدول من أن تقوم بالدفاع الفردي والجماعي. وامتناع المنظمة الدولية عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لصد العدوان قد يكون سببه تعطل في آلية جهاز الأمم المتحدة نفسه، كأن يعجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرار بسبب استعمال حق الفيتو أو غير ذلك من الأسباب .
وأحد إشكالات هذه المادة أنها تشترط حدوث عدوان مسلح، أي الحالة الأولى فقط من الحالات التى ذكرتها، بمعنى أنه إذا لم يقع عدوان مسلح فإن نطاق تطبيق الدفاع الشرعي والجماعي لا يكون متاحًا .. أما إذا كان هذا النطاق متاحًا فهناك شرط اللزوم وقاعدة التناسب : شرط اللزوم بمعنى أن يكون اللجوء للدفاع الشرعي لازمًا لدفع الاعتداء.. وقاعدة التناسب يقصد بها أن تكون الإجراءات التى تتخذها الدولة التى تدافع عن نفسها متناسبة مع العدوان الذي وقع عليها، وهذا أشبه ما يكون بالتناسب الذي يشترط في حالة الدفاع الشرعي في قانون العقوبات .
المادة 51 تفتح منفذًا آخر وهو إذا تعطل جهاز الأمم المتحدة عن القيام بواجبه – كما هو حادث في البوسنة والهرسك – فإن المسألة تعود برمتها إلى وضع القانون الدولي العام كما كان قبل الميثاق .. والوضع هنا يسمى بـ (حماية الذات) وليس بالدفاع الشرعي كمصطلح تحددت شروطه في ميثاق الأمم المتحدة .
وإذا عدنا إلى حماية الذات فتدخل إذًا كافة الصور التى سنأتى إلى بيانها ، كما ستدخل كافة الظروف أو صور العدوان التى تحدثنا عنها منذ قليل.
هناك مفهوم معين قال به فقهاء القانون الدولي واعتمدت عليه بعض الدول الكبرى في التدخل وهو ما يسمى بـ (التدخل لصالح الإنسانية) أو لاعتبارات إنسانية، وهذا بطبيعة الحال مختلف فيه؛ لأن الأخذ به يؤدى إلى إحداث فوضى دولية حيث تستطيع كل دولة أن تبرر تدخلها بأنه تم لاعتبارات إنسانية .
إذا رجعنا في ضوء هذه البيانات إلى صور الدفاع بالمفهوم الإسلامي وبمفهوم الدفاع الواسع كما قال صاحب الظلال نجد أن الدفاع عن النفس ضد العدوان الذي يقع على الأمة الإسلامية – بصرف النظر عن تعدد الدول الإسلامية – يكون فرض عين، ويشمل ذلك -أولاً- الدفاع عن الدولة الإسلامية بالنسبة للشخص الموجه إليه التكليف ويكون موجودًا داخل الدولة المعتدى عليها – وهذا يعتبر من باب الدفاع الشرعي الفردي – ثم الدفاع عن الدول الإسلامية الأخرى ، وهذا يدخل ضمن المفهوم نفسه، ويمكن أن تغطيه -ثانيًا- قاعدة الدفاع الشرعي الجماعي ، ثم -ثالثًا- حروب التحرير.. تحرير الشعوب الإسلامية استنادًا إلى حق تقرير المصير وإلى قرارات الأمم المتحدة الكثيرة المتعلقة بتصفية الاستعمار . ورابعًا- حماية الأقليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية .. كل هذا يدخل ضمن مفهوم الدفاع عن النفس .
ثم نأتى إلى مفهوم الدفاع عن الغير، وهذا يشمل -خامسًا- نصرة المستضعفين من غير المسلمين، وسادسًا- الحماية الدولية لحقوق الإنسان بالمفهوم الدولي الجديد، ويشمل ذلك بطبيعة الحال تأمين وحماية الدعوة الإسلامية .
وهذان العنصران – نصرة المستضعفين من غير المسلمين والحماية الدولية لحقوق الإنسان – يكون فيهما الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض كفى البقية المئونة.
هذه الحالات للتقريب بين مفاهيم القانون الدولي والمفاهيم الإسلامية ينتج عنها -بطبيعة الحال- إشكاليات : كأن يحدث تعارض في بعض الحالات بين المفهومين، فقد يكون الأمر مطلوبًا من وجهة النظر الإسلامية ولا يتفق مع ما يسمح به القانون الدولي، فهنا نجد أنفسنا أمام بعض التفاصيل الفنية التى لا مجال للدخول فيها الآن .
التنظيم المؤسسي لمفهوم الجهاد هو(الجيش) وأن تكون للمسلمين وحدات في منظمات أو أحلاف عسكرية، سواء كانت إسلامية أو دولية لنصرة القضايا التى يوافق عليها المنظور الإسلامي .. هذه المشاركة من قوات إسلامية في أحلاف دولية غير إسلامية تثير بعض الإشكاليات من ناحية مدى الالتزام ومن ناحية القيادة التى تقود الوحدات الإسلامية ..
-2-
أكتفى بهذا القدر بالنسبة لمؤسسات الجهاد وأنتقل بعد ذلك إلى الحديث عن مؤسسات الدعوة في كلمات قليلة ؛ لأن مفهوم الدعوة لا يحتاج إلى كثير من التفصيل، ولكن الربط بين المفهومين هو الذي يدعونا إلى ذلك.
الدعوة هي إحدى الوظائف العقيدية الأساسية للدولة الإسلامية ، أو إذا استخدمنا المصطلح الغربي: (إحدى الوظائف الإيديولوجية للدولة الإسلامية)، من الواضح أن الدول الشيوعية كان لها إيديولوجية وكذلك الدول الغربية لها إيديولوجية يمكن بلورتها في حرية السوق من الناحية الاقتصادية ، وفي دولة الرفاهية من الناحية الاجتماعية، وفي الديمقراطية من الناحية السياسية، وفي العلمانية من ناحية التعليم والفصل بين الدولة والدين، ثم في حقوق الإنسان .. في مواجهة هذه الإيديولوجية الدولة الإسلامية لها وظائف عقيدية، ومن ضمن هذه الوظائف أو من أهمها القيام بواجب الدعوة الإسلامية لتبلغها إلى العالم كله باعتبار أن الإسلام رسالة عالمية . وحتى لا ندخل في التفاصيل فإن المستجدات في هذا الموضوع تتمثل -أولاً- في الضمانات القانونية سواء داخل الدول أو من المواثيق الدولية والتي تغطي حرية الفكر والعقيدة والتعبير والعبادة والاجتماع وتكوين الجمعيات وحرية الانتقال وغير ذلك من الحقوق التي تعتبر معلمًا رئيسيًّا يجب أن ندخله في الاعتبار عند التفكير في قيام الدولة الإسلامية بواجب الدعوة على مستوى العالم، فهذه الضمانات مكفولة وليس لنا عذر في عدم استخدامها .
معلم آخر هو تقدم الوسائل التقنية الحديثة ومداها في التبليغ الذي بدأ يشمل مئات الملايين والتى أصبحت معها الدعوة يمكن أن تبلغ إلى أي مكان دون حاجة إلى انتقال الأشخاص، وبالتالي لا عذر لنا في الوقوف عن القيام بهذا الواجب .
معلم آخر في الموضوع يتعلق بتبليغ الدعوة وهو أنه يجب أن يكون واضحًا لنا أن المضمون الذي ستحمله وسائل الإعلام يجب أن يتحدد في ضوء أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، أي أن نعرض عليهم الإسلام من منطلق المشاكل التى يشعرون بها، بدءًا من شعورهم بالخواء الفكري والعقيدي إلى المشاكل الأخلاقية والأسرية إلى المشاكل الأخرى الاقتصادية والاجتماعية ومشاكل البيئة وغير ذلك من المشاكل التى لا مجال لتعدادها هاهنا والتى للإسلام رأى واضح فيها، ويجب أن يتم طرح هذا الرأى بأسلوب يتصل بعقول وأفئدة غير المسلمين طالما أننا نعالج مشاكلهم المعاصرة .
وأختتم ببيان بعض الخطوات العملية التى أراها في هذا المجال :
أولاً: إقامة مؤسسات حكومية شعبية، أي تجمع بين العنصر الحكومي والعنصر الشعبي في كل دولة والتنسيق بين هذه المؤسسات على المستوى العربي والإسلامي والعالمي .. ثم في كليات الشريعة يجب إنشاء تخصص إعلام ودعوة إسلامية وكذلك تخصص شريعة أو أصول دين أو كليهما مع لغة أجنبية بحيث تحتل اللغة الأجنبية جانبًا مهمًّا من الدراسة حتى نستطيع أن نكون دعاة يستطيعون أن يقوموا بمهمة التبليغ بمختلف لغات العالم، وأنا أظن أن مجالات العمل واحتياج المجتمع المحلي والمجتمع العالمي على اتساعه يتسع للمئات من خريجي هذين التخصصين، سواء في وسائل الإعلام المختلفة أو كملحقين بالسفارات الإسلامية في الدول المختلفة، خاصة في الدول غير الإسلامية، أكتفى بهذا القدر وأرجو ألا أكون قد أطلت ،،
والسلام عليكم ورحمة الله .
التعقيبات
1- د. محمد الدسوقي:
شكرًا للأستاذ الدكتور جمال الدين عطية على ما قدم، وإن كنت أرى أن الموضوع الذي عرضه طغى فيه الجانب القانوني على الجانب الإسلامي من وجهة نظري وقد أكون مخطئًا ، ومن جهة أخرى فإنه قد تعرض إلى قضية خطيرة وهي قضية النسخ في القرآن الكريم، وكنت أرجو أن يتسع وقته لمراجعة كتاب (النسخ في القرآن الكريم) والذي احتوى على دراسة طيبة عن آية السيف وعما يقال عن أن هذه الآية قد نسخت كثيرًا من آيات الجهاد أو القتال . على كل حال لقد فتح الأخ الكريم موضوعًا حيويًّا ومهمًّا، والحوار حوله لا شك سيثرى هذا الموضوع ويوضح كثيرًا من قضاياه وجوانبه …
2- د. عبد الحميد مدكور :
أعتبر أن موضوع هذه الندوة مهم جدًّا، وهو يقدم إسهامًا في تقديم تنظير ما يمكن أن تقوم عليه دولة إسلامية تلتزم بشرع الله وحكمه إذا أتيح للناس أن يعيشوا في ظل هذه الدولة المرتقبة ، فهو تنظير فكري يسهم في تقديم الاحتمالات والبدائل والدراسات التى كثيرًا ما يعاب على المسلمين بأنهم لا يقدمونها ولكن يقدمون شعارات مجملة.
لعلنا استمعنا إلى الرأي الخطير الذي يقسم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وإن كان هذا الرأى لم يذكر صراحة في الندوة – وأصحاب هذا الرأى يقولون بالجهاد المطلق سواء حدث اعتداء أو لم يحدث اعتداء حتى يكون الدين كله لله، وقد جاء هذا الرأى في وقت كان فيه المسلمون يملكون القوة والسيادة، لكن ذلك انحصر الآن بعد أن ضعفت الأمة الإسلامية . كنت أرجو أن يوضح لنا الدكتور جمال توضيحًا كافيًا عن الأدلة التى استند إليها أصحاب هذا الرأى وليس فقط الآية التى نسخت مائة وعشرين آية .. وكذلك أن يذكر لنا أعلام هذا الرأى في الفكر القديم أو المذهب الذي يتبناه حتى لا نمر مرورًا سريعًا على فكرة نجدها الآن تتسلل إلى عمل بعض الجماعات الإسلامية وتتبناها هذه الجماعات وهي فكرة تكفير الدولة وتكفير المجتمع وحرب الناس جميعًا والانعزال عن المجتمع إذا لم يتيسر المشاركة في حكم هذا المجتمع.. فكنت أود أن يتولى الدكتور جمال تفصيل هذا الرأى تفصيلاً أوفى.
بخصوص ما أُثير بشأن موضوع كلية الشريعة، هناك اتجاه للربط بين الدراسة والتوظيف، والفكرة التى طرحت تفتح بابًا جديدًا للدعوة الإسلامية ليس على المستوى المحلي فقط بل على المستوى العالمي . وشكرًا .
3- الطالب معتز :
السؤال الذي أطرحه : بالنسبة لعنوان الندوة ماذا يعنى الدكتور جمال بالدولة الإسلامية ؟ هل يعنى بها الدولة الإسلامية التى كانت على مدى الأربعة عشر قرنًا الماضية أم الدولة الإسلامية المفتقدة في الوقت الحاضر؟
السؤال الثاني: ما هو موقع الحركات الإسلامية من مؤسسات الجهاد والدعوة الإسلامية ؟ شكرًا .
4- الطالب حمين :
أبدأ بالتعليق على العنوان حيث أرى أن الدكتور المحاضر فصل الدعوة عن الجهاد، وكأن الدعوة لا تمس الجهاد بأي صلة، والمعلوم أن الحديث النبوي الشريف جاء فيه : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) فهل ما جاء بالعنوان من عطف الدعوة على الجهاد من باب عطف الخاص على العام أم أن هناك فصلاً بين الدعوة والجهاد؟
السؤال الثاني : كيف يمكن للدولة الإسلامية المرتقبة – بإذن الله – أن تقوم بواجب الجهاد في ظل القوانين الدولية القائمة التى تمنع الحرب والاعتداء على الدول المجاورة؟
والسؤال الثالث: باعتباركم من أساتذة القانون الدولي هل يمكن في ظل القوانين الدولية المتعارف عليها أن تسمح دولة لدولة أخرى بأن تنشر أفكارها في داخل هذه الدولة؟ وما هو الحكم الشرعي إذا ما طالبتنا دولة غير إسلامية بأن تسمح لنا بنشر مبادئها داخل ديار الإسلام؟ وشكرًا .
5- د. عثمان سيد أحمد :
أرى أن الموضوع لا يمكن أن يعالج في ساعة واحدة، وقد اتضح أن الدعوة لم تأخذ حقها في العرض. بالنظرة التاريخية نستطيع أن نقول: إن قضية تثبيت الدولة في الجزيرة واعتبار ما حدث بعد ذلك دفاعًا هو صحيح إلى أبعد حدّ، الدولتان الكبيرتان الموجودتان في ذلك الزمان لم تكن لتتعايش سلميًّا مع الدولة الإسلامية، وكان يجب أن يقوم كل منهم بمحاولة التخلص من الآخر، ومن ثم كان من واجب الدفاع ان تسعى الدولة الإسلامية ضد الدول الأخرى التى لن تحترم وجود الدولة الإسلامية إلا قسرًا، فأسقطت الدولة الإسلامية الدولة الفارسية، ثم واجهت بعد ذلك الدولة البيزنطية، وظلت هذه المواجهة مستمرة باستثناء فترات الهدنة التى تخللتها.. وحتى الآن العالم غير المسلم لا يعايش المسلمين، ويسعى بالطرق المختلفة أن يقضى عليهم، وما حدث في البوسنة والهرسك وفي الشيشان يكفى للتدليل على ذلك … والواقع أن الإسلام قد انتشر في معظم الدول عن طريق الدعوة وليس عن طريق الجهاد والمستقبل للدعوة وليس للقتال .
6- د.يحيى ربيع :
فيما يتعلق بالآيات المتعلقة بالجهاد.. الدكتور جمال عرضها دون ترجيح، وكنا نتمنى أن يقوم الدكتور جمال بالترجيح بينها، هل نقاتل غير المسلمين جميعهم أم نقاتل من يقاتلنا؟
– أعتقد أن المقصود بالجهاد والدعوة في العنوان التعريفات الاصطلاحية وليس اللغوية، وإذا كان الأمر كذلك فما هو الفرق بينهما؟ هل تقصد حضرتك ترجيح الرأى الأول وهو أن الجهاد أحد وسائل الدعوة وأن القتال العام هو الوسيلة الأساسية لنشر الدعوة وبالتالى يصدق ما ادعاه المستشرقون بأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف؟
نقطة أخرى تتعلق بما اقترحته حضرتك من ضرورة إنشاء مؤسسات شعبية وحكومية والتنسيق بينها، فهل يمكن أن يحدث هذا في مجتمعاتنا الإسلامية بينما الخصام في معظم بل كل الدول الإسلامية بين المؤسسات الشعبية والمؤسسات الحكومية قائم ؟
– بخصوص موقف الأمة الإسلامية من إسرائيل التى تنتهك الأرض والعرض، ما هو الحكم الشرعي في موقف الدول الإسلامية من هذه القضية، هل هو موقف إسلامي أم موقف غير إسلامي؟ شكرًا .
7- د. محمد رأفت سعيد:
أحسن الأستاذ الدكتور جمال الدين عطيه صنعًا حينما ذكر أن مؤسسات الجهاد والدعوة ينبغي أن يذكر معها الحديث عن المؤسسات السابقة والمؤسسات اللاحقة.. فالحديث عن الجهاد والدعوة لا يصح أن يأتى منفردًا بل ينبغي أن يتكامل في دائرة مؤسسات توجه بالتربية كما أشرتم، فالإعداد مثلاً تتكاتف فيه جهات ومؤسسات أخرى، وكذلك الدعوة .
الأمر الآخر : هو ما تعودنا أيضًا من الحديث عن التنظير القابل للتطبيق، أو بمعنى أخر وضع التصورات العملية لمؤسسات تقام في الدولة الإسلامية إلا أنه لا يكتفى فقط بعرض الآراء المختلفة دون الترجيح بينها، فمثلاً مسألة الجهاد هل هو دفاعي أم جهاد لأجل إكراه الآخرين؟ ما هو موقفكم من هذه الآراء؟ وما هو التصور القابل للتطبيق بناء على هذا التصور؟ مع خالص شكري .
8 – د. محمد نعيم ياسين:
أخطر موضوع سمعته – الحقيقة – هو ما قيل عن حكم الجهاد أو غايته هل دفاعي أم هجومي؟
لابد للإجابة على هذا السؤال من بيان الهدف من بعث الله سبحانه وتعالى لرسوله (ص) وبيان وسائل تحقيق هذا الهدف، فالهدف هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور ..، ووسائل تحقيق هذا الهدف في مجموعها يمكن أن يطلق عليها الجهاد، سواء كان ذلك باللسان أو بالبيان أو السيف أو حتى بالجنان، وهو إنكار المنكر بالقانون، ولكن تغيير قلوب الناس لا يكون بالسيف ولكن السيف يمكن أن يحرس الوسائل الأخرى التى ليس من ضمنها الإكـــراه فآية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين} (البقرة : 256) لم تنسخ في الحقيقة، ولا يمكن القول بنسخها، ولكن القتال أو الجهاد يمكن أن يكون حارسًا حتى يستطيع الناس أن يختاروا بحرية، أما القول بأن القتال أو الجهاد للهجوم فهذه مقولة عصرية في الحقيقة، ولم يوجد في كتب السلف ما يشير إليها ولكنها موجودة فقط في كتب المستشرقين، وأكبر دليل على ذلك هو إجماع الفقهاء على أن الجهاد له حكمان : الأول : أن يكون الجهاد فرض كفاية، وذلك حينما لا يكون هناك عدوان، ومعنى ذلك أن يكون واجب على الأمة .
والثاني : أن الجهاد يكون فرض عين حينما يكون هناك عدوان، فالعدوان يحول الجهاد من فرض كفاية إلى فرض عين، وهذا التقسيم معروف عند الفقهاء جميعًا، ولا يوجد من الفقهاء من يناقش فيه، فالجهاد في الأصل هو لتحقيق أهداف الدعوة الإسلامية، وذلك بكافة الطرق.. والدول العظمى مثل أمريكا تستخدم هذا الأسلوب الإسلامي لنشر فكرتها غير الإسلامية، فإذا استطاعت من خلال الإعلام وبث الإشاعات وغيرها في تحقيق فكرتها فإنها تكتفى بذلك، وإلا فهي مستعدة لإرسال قواتها إلى الدول الأخرى كما فعلت مع كل من الصومال وهاييتي .. فالإسلام له هدف يحققه بكافة الوسائل المشروعة وهو أعظم دين وأطهر تشريع حيث يحرم قتل النساء ويحرم الإبادة ..
وبخصوص ما ذكر من أن المرحوم سيد قطب هو أول من قال بالتدرج والأحكام المرحلية فإن هذا رأى قديم وجدته عند ابن القيم في زاد المعاد، وربما ذكره غيره، وهو رأى صحيح، والله أعلم. وشكرًا .
9- د. أحمد حمد :
كنت أنتظر من الدكتور جمال أن يفرق التفريق الظاهر بين الجهاد والدعوة، فقد أتى في الجهاد بإنقاذ المستضعفين وحقوق الإنسان وغير ذلك.. وفي الدعوة كذلك أتى بهذا .. في الحقيقة إنني أرفض ذكر الجهاد منفصلاً عن الدعوة، فإنه لا يكون هناك مجاهد إلا إذا كان داعيًا، والداعية لا يكون كذلك إلا إذا كان مجاهدًا .. وأنا لا أوافق كذلك على حصر الجهاد في القتال وحصر القتال في المؤسسة العسكرية؛ حيث يجب أن تكون الأمة كلها قادرة على أن تقاتل.. ولذلك كنت أريد أن يكون العنوان أكثر دقة من ذلك .
ما قاله الدكتور جمال عن الدفاع الجماعي جعلني أخلط بينه وبين الدفاع الاجتماعي، وكنت أود توضيح التفرقة بينهما .
وبخصوص ما طرحه الدكتور جمال عن المنظمة الدولية فهذه ليست منظمة دولية، ولكنها منظمة الدول الكبرى أو منظمة أمريكية، فأنا أعتبرها منظمة إقليمية وليست منظمة عالمية .
وأخيرًا أشير إلى أننى قد تناولت هذا الموضوع في كتابي (نحو قانون موحد للجيوش الإسلامية) . وشكرًا .
10- د. محمد الحفناوي:
الحقيقة أن ما قيل من أن آية السيف نسخت كل الآيات سببه أن مفهوم النسخ عند علماء السلف كان أوسع منه عند المتأخرين فكانوا يطلقون على تخصيص العام نسخًا، وكذلك على تقييد المطلق، ومن قرأ (الناسخ والمنسوخ) لابن سلامة أو لأبى جعفر النحاس أو لابن الجوزي يرى كثيرًا من هذا .. أما المتأخرون فقد حصروا مفهوم النسخ في أنه إبطال حكم شرعي أو رفعه بدليل شرعي متأخر.
أري أن السبب في اللبس الذي حدث بين الآراء الثلاثة التى أشار إليها الأخوة المتحدثون لم يكن لوجود تعارض في ظاهر الآيات القرآنية فلا توجد في القرآن آية قد نسخ حكمها بآية السيف، ولكن اللبس الذي حدث ونتجت عنه الأقوال الثلاثة كان سببه هو تعارض بين حديثين:
حديث ابن عون الذي فيه : (كتبت إلى نافع أسأله هل كانت الدعوة قبل القتال فقال: كان ذلك في أول الإسلام أو في أول الأمر ثم قال: أغار النبي (ص) على بني المصطلق وهم غارون (ساهون وغافلون).
والحديث الثاني : (ما قاتل رسول الله (ص) قومًا قط حتى دعاهم).
والرأي الثالث كان وسطًا وهو أنه من بلغتهم الدعوة تجوز مباغتتهم بالقتال، ومن لم تبلغهم لا نباغتهم بالقتال .. فالحديثان المذكوران هما سبب الخلاف وليس الآيات القرآنية .. وشكرًا لكم .
11- د. يوسف القرضاوي:
شكرًا للأخ الأستاذ الدكتور جمال الدين عطيه على ما قدم وأنا أعلم اهتمامه بموضوع الدولة الإسلامية من عشرات السنين.. الموضوع كبير وطويل وخاصة أنه ربط بين موضوعين وهما حقيقان بالربط فعلاً، وهما الجهاد والدعوة .. وقد أثار أشياء مهمة جدًّا في الحقيقة كانت تحتاج إلى وقفات ..
ما يتعلق بالإعداد … التصنيع الحربي.. الاكتفاء الذاتي من الغذاء حتى لا تكون الأمة عالة على غيرها. هذه الأشياء التى يقول عنها الفقهاء : (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
ثم مسألة القتال، وقد أثار قضية القتال هل هو هجومي أم دفاعي؟ وما ثار حولها من كلام وخصوصًا في عصرنا منذ أثارها الشيخ رشيد رضا ثم الشيخ محمود شلتوت في (القرآن والقتال) ثم الشيخ خلاف وأبو زهـــرة ود. محمـــــد عبد الله دراز في (مبادئ القانون الدولي في الإسلام) والشيخ الغزالي .. وكل كتاب العصر تقريبًا فيما عدا رجلين خالفا جمهرة الكتاب وهما الأستاذ المودودي وتبعه الشهيد سيد قطب، والأول هو الذي بدأ بهذه القضية حين قدر أن الإسلام جاء لإحداث ثورة عالمية وأن الجهاد من أجل إحداث هذه الثورة العالمية.. والقضية قضية كبيرة جدًّا، وإذا نظرنا إلى آيات القرآن الكريم فهناك تعارض فعلاً بين ظواهر هذه الآيات، وهنا أخالف الأستاذ الدكتور الحفناوي لأن الحديثين اللذين ذكرهمــا يخصان قضيــة أخرى (مسألة الإغارة) ولكن القضية المعروضة هنا هي هل الجهاد لكفر الكفار أم لعدوانهم؟ وهناك رسالة لابن تيمية تحمل هذا العنوان ذكرها الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه الكبير عن ابن تيمية، وإن كان إخواننا السلفيون ينكرون نسبة هذه الرسالة لابن تيمية، ولكن الحقيقة هذه رسالة لابن تيمية فعلاً .. والذي يظهر من القرآن فعلاً أن القتال ليس لكفر الكفار وإنما لمن يقاتل منهم وهذا واضح فعلاً: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} (النساء:90) وذكر الدكتور جمال الآيات التى احتج بها أصحاب كل رأى .. ولكن الفقهاء اختلفوا في آية السيف التى نسخت مائة وعشرين آية (البعض ارتفع بهم إلى مائتى آية) هل هي آية الجزية أم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم} (التوبة : 5 ) أم آية : {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة} (التوبة : 36) .
وأنا أقول: على كل حال، نحن في هذا العصر لا نحتاج إلى أن نقول أنه لابد من قتال هجومي، وكما قال الدكتور نعيم أن الفقهاء متفقون فيما مضى على أن الجهاد منه فرض كفاية ومنه فرض عين، ولكن بماذا يتحقق فرض الكفاية: هناك من قالوا – مثل ابن حجر في التحفة والرملي في النهاية – إنه يكفى لتحقيق فرض الكفاية شحن الثغور بالمقاتلين لحراسة الدولة . والأستاذ سيد قطب قال بالمرحلية في الآيات وهي ليست كما قال ابن القيم؛ لأن ابن القيم قال بحدوث النسخ في الآيات، ولكن سيد قطب لم يقل بوقوع النسخ، ورأيه هذا سبق أن قال به الإمام السيوطي في كتابه (الإتقان) حيث عاب على من قالوا بأن هذه الآيات نسخت بآية السيف، وقال: إن هذه الآيات لم تنسخ وإنما أُنسئت، والمنسأ هو الذي يعمل به في وقته وفي مثل ظروفه، أي أن هذه الآيات منها ما ينطبق في حالة ضعف المسلمين، ومنها ما ينطبق في حالة قوتهم. وأنا أقول: إن ما قاله الأستاذ سيد قطب وما قاله الأستاذ المودودي وعللوا به حمل المسلمين للسيف من تهيئة الجو للدعوة وإزاحة السلطات الطاغية التى تحول بين الدعوة وبين الوصول للشعوب… لم يعد له مبرر الآن، فأنت تستطيع أن تملأ العالم بنشراتك وأن تخاطبه بإذاعتك الموجهة.. فإن كنت ماهرًا وجادًّا فأعد الدعاة الذين يقومون بهذا الأمر.
بكل أسف ليس عندنا ترجمة أمينة ودقيقة لمعاني القرآن في أي لغة من اللغات مع أن الإسلام لا يخاطب المؤسسات فقط بل يخاطب كذلك الأفراد، حتى في الجهاد الجيش الإسلامي ليس جيش أساسي فقط، ولكن هناك جيشًا احتياطيًّا يشمل أفراد الأمة كلها؛ لأنه من الممكن أن ينقلب إلى فرض عين، وحينئذ يطلب من الأمة القتال فلابد أن تكون مستعدة لذلك وأن تتدرب باستمرار حتى لا تنسى ما تتعلمه من فنون القتال.. ومن ناحية الدعوة كذلك يجب أن تقوم الأمة كلها بالدعوة، ومعروف أن الإسلام انتشر في العالم ليس عن طريق مؤسسات أو أناس محترفين للدعوة، ولكنه انتشر بواسطة متطوعين للدعوة كالتجار والصوفية وغيرهم، فالقضية قضية كبيرة، ولكننى لا أريد أن أطيل عليكم، وفي النهاية أريد أن أقول كلمة : إن ما قاله الدكتور جمال بخصوص ضرورة إنشاء أو تخصيص كليات للدعوة أمر مهم وأنا أؤيده في هذا … وأكتفى بهذا القدر وشكر الله لكم ..
تعقيب الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية على التساؤلات والملاحظات:
بسم الله الرحمن الرحيم، أشكر الأخوة المعلقين جميعًا، وأرى أن بعضهم رد على البعض الأخر خاصة في مسألة الجمع بين الجهاد والدعوة، وفي مسألة الرأى القائل بالنسخ .. وبقيت بعض المسائل البسيطة منها ما تساءل عنه الدكتور أحمد حمد .. ليس المقصود بالدفاع الجماعي الدفاع الاجتماعي، ولكن الدفاع الجماعي يكون حينما تساعد دولة غير معتدى عليها دولة أخرى معتدى عليها فهذا ما يعبر عنه بالدفاع الجماعي .
– تساؤل الطالب حمين عن كيفية القيام بالجهاد في ظل القانون الدولي المعاصر، في الحقيقة أن هذا كان هدفى الأساسي من هذه الندوة، وكما أشار الدكتور القرضاوي من أننا لا نحتاج للجهاد لتوصيل الدعوة لأنه توجد في الظروف الحالية وسائل أكثر فاعلية في توصيل الدعوة .. ويبقى أن يحدث انسجام بين مفهوم الجهاد على أساس الدفاع وبين المفاهيم الدولية التى تحكم العالم الآن، وما سردته من صور للدفاع التى يمكن أن يقوم بها المسلمون الآن كفيلة بأن تستغرق جهودهم في كل الميادين الموجودة، فما من جبهة مفتوحة الآن إلا والمسلمون معتدى عليهم فيها، وبالتالى فإن القيام بنصرة هؤلاء يكون مستندًا إلى الإسلام وإلى القانون الدولي في الوقت ذاته ولا داعى لأن نفتعل خلافًا غير موجود بين مفاهيم القانون الدولي وبين مفهوم الجهاد في الإسلام .
– الدكتور يحيي ربيع تساءل عن عدم قيامي بترجيح أحد الآراء الثلاثة.. أنا قلت: إننى أتفق مع رأى الأستاذ سيد قطب – بعدم وجود نسخ في آيات القتال، ورأيه في أن الدفاع يكون له مفهوم أوسع .. وحاولت أن أوضح هذا المفهوم الأوسع لأن المفاهيم الدولية الحديثة لا تقتصر على صورة الدفاع ضد العدوان المسلح المباشر على حدود الدولة ولكنها امتدت إلى صور كثيرة للعدوان، وبالتالى للدفاع ضد هذا العدوان.
أكتفى بهذا القدر وأشكركم جميعًا، وأشعر بأن الحديث قد أدى هدفه في تحريك هذه المسائل التى – بطبيعة الحال – لا تكفى هذه الندوة لتغطيتها .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(*) هذه هي الحلقة الخامسة من سلسلة ندوات (مؤسسات الدولة الإسلامية) والتي عقدت بكلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية بجامعة قطر في 3 / 10 / 1995م .