منهجية التعامل مع التراث التربوي الإسلامي : طبيعته، محدداته، تقويمه
How to deal with Educational Heritage - العدد 105
مقـدمة:
في إطار الاهتمام المتزايد بتأكيد هوية الأمة الإسلامية من أجل حركة حضارية تنفض غبار التخلف عن ذهن الأمة ووجدانها وحياتها التى هي مزيج من قديم وحديث قد يتعايشان، وقد يتضاربان، ويتناقضان ، وقد يغلب القديم الجديد، وقد يغلب الجديد القديم كله، وقد يتفاعلان في حركة ذاتية من أجل إثراء الحياة وتيسير حياة الإنسان لتبلغ غايتها.
إن هذه الحركة تعود إلى العصر الذي تبلورت فيه الشخصية العربية الإسلامية والتى خرجت بها من الكمون إلى الفعل والتجلى، وربما عاد الأمر – في الأساس – إلى الوعي ورسوخه ، وعمق الإيمان بخصائص هذه الهوية، مما تحول إلى حركة وفعل وتاريخ. ولم تكن هناك جزر ثقافية متضخمة أو تضخمت بفعل فاعل، تحاول وتعمل على إبعاد الأمة عن هويتها بحجج متنوعة، فقد كانت كافة التنوعات الثقافية تسير في اتجاه تأثير الهوية العربية الإسلامية وفي سبيل الإنجاز الحضاري وحل إشكلاته ودفع مسيرة الحياة إلى التقدم والازدهار وإسعاد حياة الإنسان من خلال تفاعل العوامل المختلفة في نسج خيوط الحضارة، وبالأخص تلك العوامل المتقابلة المتفاعلة التى لا تطور حقيقيًّا بدون تفاعلها ونشوء التوازن بين فاعلياتها .
وربما كان المأزق الحقيقي الذي خاضه المسلمون في العصر الحديث، حيث واجهوا مجموعة كبيرة من المتغيرات والمتواجهات البالغة التقابل إلى حد التناقض، ولم تستطع الغالبية إدراك التفاعل الجاد بينها، فاعتبروا أن هذه المتغيرات المتقابلة لا يمكن قبولها إلا برفض الآخر؛ مما أدى إلى إصابة الفكر بالضعف والركود . ولم يكن هناك بد أمام عقلاء الأمة وحكمائها وفقهاء حركتها وأولى الألباب فيها من البحث عن أسلوب لرد الأمة إلى هويتها والعمل على توليد فقه للتقدم، وكانت الآراء من كافة التخصصات، وكان الطرح توافقًا أو اختلافًا في هذا السبيل، وكان تعدد الرؤى .
إلا أن أمرًا هامًّا تكاد تؤكد عليه معظم الآراء للخروج من تيه الخلاف وصحرائه الظامئة، وهو ضرورة الاهتمام بالخبرة التاريخية التى مرت بها الأمة الإسلامية وإبراز إنتاجها والعمل على إظهاره فهو تراث هذه الأمة. ومهما اختلفت الآراء بشأن هذا التراث وتحديده ومنهجيات تجديده، وطريقة تناوله، والهدف الذي من أجله يدرس التراث، فإن الشيء الأساسي الذي يجب التأكيد عليه بحيوية وإصرار هو أن هذا الاهتمام إنما ينصب عليه باعتباره صرحًا لحماية هوية الأمة الإسلامية يشدها إلى مقوماتها الأساسية التى إما أن تظل فاعلة فينا ونظل أوفياء لها فتعطينا الإرادة للمحافظة على وجودنا، وإما أن نضيعها فنضيع ونتوه كما تاه أقوام قبلنا وبعدنا.
إن هذا الاهتمام لا يمنحنا الوجود فقط، وإنما يمنح الثقافة العربية المعاصرة الرواء، ويحمى الإنسان المنتمى إليها من غربة النفس في الزمان والمكان، بل تحميه من الاستلاب، وتحميه من الضغوط الخطيرة التى تواجهه صباح مساء وتكاد تجرفه إلى تيارات التيه. إنها تحقق الأمن الثقافي والفكري في حياة تكاد تقتلع الإنسان من كافة مكوناته وبيئته، والأمر كذلك ولا نريد الإفاضة فيه – فقد فاضت فيه الأفكار وخاضت فيه الأقلام بما عندها وبما فيه الكفاية ، ولكننا نود أن نقول: إن أيًّا من هذه الأفكار المتعلقة بهذا التراث لم تتبلور في مشروع متكامل ، وإن كانت هناك محاولات فكرية متعددة لم تصل بعد إلى الفعالية الواقعية، ذلك أن هذه المحاولات لم تتعد مشروع الرؤية، وكان الجهد المبذول في المجال أقرب إلى المحاولات الفردية المتعددة التى لا تصب في بؤرة واحدة، وكانت النظرة الشخصية والرؤية الأحادية الاتجاه هي الحاكم في أمور تحقيق التراث ونشره والاهتمام به وكذلك تحليله وفهمه.
هذا كلام عام عن التراث الإسلامي، أما التراث التربوي الإسلامي فأكاد أقول: إنه لم يحظ باهتمام أهل التخصص التربوي وفكرهم إلا منذ سنوات قلائل، ما زال الجهد ضئيلاً على ضوء ما هو مطلوب من العمل التربوي في مجال تأكيد الهوية الإسلامية، فمنذ أن قدم أحمد فؤاد الأهواني رسالته ونشر في ملحقها رسالة القابسي قدم البعض مجهودات متنوعة؛ إما في دراسات حول الأشخاص، وإما حول تراث بعض الأشخاص كما قدمت دراسات كثيرة في التربية الإسلامية، إلا أن نصيب الدراسات المعتمدة على التراث ما يزال ضئيلا يحتاج إلى تعمق وتعميق أكبر، نظرًا لاضطراب المنهجية العلمية التى لم تتبلور بعد لدى الباحثين فتحدد أهداف تناول التراث التربوي الإسلامي وآلياته ، ويمكن القول: إن ما يقدم من دراسات عن جوانب تربوية لدى بعض الشخصيات، وما قدم من دراسات عن التراث لا يوفى بالحاجة من دراسة التراث، وما يزال يظهر على استحياء ولم يصل بعد إلى حد التأثير في تكوين الوعي الجماهيري أو لدى الباحثين في التربية .
وإزاء هذا ، فنحن بحاجة ماسة إلى دراسة هذا التراث الفكري التربوي وتقديمه إلى القراء المتخصصين، كل بما يناسبه وبقراءة منهجية صحيحة وسليمة، وليست كيفما اتفق أو في إطار مقارنات بين التراث وغيره من أفكار ، وإن كان ولا بد فيمكن استخدام المقارنة بعد الدرس والتحليل والفحص الكامل للخبرة التربوية التى مر بها العالم الإسلامي .
وتأتي مبررات قولنا هذا متمثلة فيما يلي: أنه من الخطأ العلمي استبعاد الفكر التربوي الإسلامي من خريطة الفكر التربوي المعاصر منهجًا ومحتوى ، خاصة وأن التراث أو الماضى سوف يظل ينساب في الحاضر والمستقبل بدون حواجز تعوق هذا الانسياب التاريخي الذي لا يتوقف، وإنما يأخذ أشكالاً من الجدل والحوار في ضوء الوعي لدى كل جيل من الأجيال الآتية ، والدليل على ذلك أننا حين نستعمل اللغة التى هي وعاء الماضي وتراثه وهي متجاوبة مع الحاضر وضروراته ، لا نرفض منها كل كلمة تراثية، وإلا رفضنا كل معجمها؛ فهي لغة تنساب بغير انقطاع بين لحظات تاريخها، لا تستطيع التمييز فيها بين ماض وحاضر إلا ببعض العلامات والصفات التى لا يمكن أن تنال من أصالتها[1].
كما أنه من الخطأ العلمي أيضًا الحكم على هذا التراث الفكري من منظور التجربة التاريخية الحديثة ، وإن كانت الاستفادة الحقيقية من تطوير مناهج البحث الحديثة في العلوم الإنسانية، والتى كشفت كثيرًا من قوانين تاريخ المجتمعات، أن دراسة هذا التراث لابد لها من الاستناد إلى طبيعة هذا التراث في ضوء جدلية العلاقة بين عوامل الثبات وعوامل التغيير، وفي هذه الحالة سوف نثري هذا التراث وحركته وخصوصيته، ونخرج من أزمة العقم الفكري الذائع بين الفكر والواقع والنص والعقل .
نخلص من كل ذلك إلى نتيجة مهمة وهي: أن الاهتمام بالتراث الفكري التربوي الإسلامي هو اهتمام عال جدًّا بخصوصية هذه الأمة التى أنتجت هذا التراث، وما تزال تعيشه على مستوى الاستعمال اليومي المعيش وبأية نسبة . إنه اهتمام بالإنسان في عطائه وحركة تقدمه لمعرفة أسبابه وإنجازه لدفعه إلى الأمام لتكون حركة الإبداع حقيقية وأصيلة ومتواصلة .
طبيعة التراث ومحدداته:
إذا كان التعامل مع الشيء فرع من تصورنا عنه، فلابد لنا لكي نتعامل مع التراث أن نستوضح طبيعته، ونفهمه حتى يمكن تحديد الكيفية التى يمكن من خلالها تناوله بأبعاده واتساعه، بحيث يمكن الإفادة منه إفادة حقيقية في مسيرة الفكر التربوي الإسلامي المعاصر، وبمعنى آخر تحديد المنهجية التى يمكن من خلالها دراسة هذا التراث والتعامل معه خاصة وأن الجهود في هذا المجال مبعثرة تحتاج إلى التجميع والتكثيف لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الموارد والأدوات والإمكانيات والدراسات، وحتى لا يفقد الجهد أهدافه ومعناه .
وإذا كان ثمة متغيرات عديدة تسود العالم وتتوجه به اتجاهات متعددة، وتولد اتجاهات عديدة في كافة مناحي الحياة، ويتجه العالم نحو أوضاع جديدة سوف تتبلور أو بدأت في التبلور، وهناك أشكال ثقافية عالمية آخذة في التشكل، تحت أو في ظــل ما يسمى الآن بالعـولمة[2].
والأمر كذلك فإن المسألة تصبح أكثر صعوبة، فما وضع التراث في ظل هذه الأوضاع؟ وما توجهاته ؟ وما دوره في ظل عالم تضيع فيه الهويات إذا زادت جرعة المحافظة عليها؟ هل ننعزل ونحاول الدفاع عن وجودنا فيكون الحال هو الاندثار؟
إن وضعية التراث في هذه الحالة يجب أن تتطور وتدخل المنافسة، بحيث يشارك في صنع الثقافة الجديدة .
وهنا نعود إلى طرح مفهوم التراث مرة ومرات حتى يمكن أن نقف على طبيعته ونفهمه فهمًا جيدًا ؛ لأنه قدر الأمة، ونسيج وجودها الذي لا يمكن لإنسان أن ينكره على المستوى الجدلي النظري الذي لا رصيد له في عالم التجربة الحية والواقع المعيش .
إن هذا التراث هو مجموع تجارب الأمة ومعطياتها ومكونات حياتها بما في ذلك عوامل التأثير والصياغة في هذه الحياة . إن هذا التراث يعني ببساطة ما ورثناه من الماضي عبر الحضارة السائدة، فهي قضية موروث ، ومعطى حاضر على عديد من المستويات ، فهو يبدأ من عامل الزمان وتفاعله مع الواقع منتهيًا بالنظرة الشاملة للكون والحياة، مرورًا باللغة والأدب والأخلاق والذوق العام والعلاقات والعادات والتقاليد والعرف والسلوك باعتبار أن هذا التراث شامل وعميق في مجرى الزمن يضم العوامل والمؤثرات التى صنعت وصاغت التقاليد والأعراف والممارسات الحضارية .
ويبدو أنه يوجد مستويان للتراث:
المستوى الأول: تراث مكتوب موجود في الكتب والمكتبات والمخازن، مخطوطًا أو مطبوعًا، له وجود مادي على مستوى أولى .
والمستوى الثاني: هو المستوى التصوري في نفسية الجماهير، إذ أن هذا التراث في الحقيقة يشكل مخزونًا نفسيًّا عند الجماهير، وهو ما زال في كلتا حالتيه قيمة حية في وجدان العصر يمكن أن يؤثر في الناس ويكون باعثًا على السلوك. إن التراث ليس كيانًا مستقلاًّ بذاته، إذ هو يشكل كيان الأمة وليس مسألة متحفية أو مجالاً للبحث الأكاديمي البحت فقط ، وليس مجرد متعة تزجى للناس في أوقات فراغهم، وليس حقلاً إنتاجيًّا يجذب انتباه السائحين، إنما هو -من قبل ومن بعد- سلوك معيش في الحياة اليومية، وهذا يلقى بنتيجة مؤداها أن قارئ هذا التراث ودارسه في مستواه الأول عليه أن يستنبط روحًا جديدة يستمدها مما قرأ ودرس لتعيش بين حناياه، مؤمنًا به ليصطنع نظرة جديدة تعقد الأواصر بينه وبين السلف الذي أحيينا تراثه، حتى ولو وقف من مضمونه موقف الناقد أو المتشكك .
إن الأمر الأهم هو ترجمة هذا التراث إلى واقع بعد تمثله، ونفى غير الملائم منه؛ لأن هذا التراث ما يزال قيمة حية في السلوك، ومن ثم كان إحياء التراث ضرورة واقعية ورؤية صافية للواقع، فالتراث مكون من مكونات الواقع، ودراسته ليست دفاعًا عن موروث قديم، التراث يفعل فعله في الناس ويوجه سلوكهم، وبالتالي يكون تجديد التراث هو وصف لسلوك الجماهير وتغييره لصالح قضية التغيير الاجتماعي، هذا لا يعنى إطلاق الأمر على عواهنه وإنما يجب أن نأخذ في الاعتبار أمران على غاية في الأهمية :
أولهما: أن هذا التراث الفكري والمشخص لدى الأفراد – ليس هو الإسلام، بمعنى أنه ليس هناك تطابق تام بين التراث والإسلام، وإنما يجيء التراث نتيجة تفاعل بالسلب والإيجاب مع الإسلام بالدرجة الأولى، ومع عدد آخر من المبادئ والأديان والمذاهب الفكرية والاجتماعية والتصورات بالدرجة الثانية، فهو إذن حشد من المعطيات تتمخض عن طبيعة التجربة التى أحدثتها مواقف الآباء والأجداد من الإسلام، معطيات شتى فيها الكثير والكثير، الكثير المعبر عن الإسلام وغيره مما لا ينتمى للإسلام بصلة .
ثانيهما : أن الإسلام -كما جاء في مصادره الأصلية في القرآن والسنة الصحيحة- له صفة الديمومة والاستمرارية التى تتخطى عوامل الزمان والمكان، فهو ليس موقوتًا ولا زائلاً، وفتح باب الاجتهاد في الإسلام يدل على ما ذهبنا إليه، أما الفكر الذي دار حولهما، فهو غطاء موقوت مرتبط بالزمان والمكان ، ومعنى هذا أنه لن يصل إلى الخلود المطلق، ويتجاوز نسبيات الزمان والمكان، كما أنه يجيء متأرجحًا بين النقص والكمال، بين الفجاجة والطرافة، بين النضج والمرونة، والانفتاح والتقوقع، وأمام هذا التأرجح جانب أفراد من الناس روح الإسلام وبداهاته وهم يحسبون أنهم يعبرون عن أهداف هذا الدين ومقاصده.
فالتراث الفكري والمشخص كان نتيجة التقاء المطلق بالنسبي ، الإسلام بالمسلمين فضم تجاربهم وجهودهم الخلاقة، وإبداعهم الدائب ونتاجهم الدائم، وكان بمثابة المؤشر لما اعتل في نفوسهم من مشاعر وعواطف وأحاسيس، ولما ينتاب أذهانهم من رؤى وأحلام وأفكار وتصورات، وكل ذلك أمور ووسائل تحتمل الصواب والخطأ . ومن هنا يأتى الفرق الواضح بين الإسلام ومعطياته ، والفكر الإسلامي وتجلياته؛ إذ إن الأخير حوى كافة الاتجاهات: الصحيح والسقيم والسليم والضال، وذلك نسبة إلى رقعة الإسلام لا إلى الإسلام ذاته .
فالتراث ليس هو الإسلام، والباحث في التراث يجب أن يتعامل معه بشكل موضوعي تمامًا، بمعنى أن يتناول الباحث التراث من فهم التراث ذاته وكيفية فعله في واقع الحياة وفي الناس ، بمعنى أن لهذا التراث وجودًا اجتماعيًّا تفاعل معه وانفعل به وفعل فيه، وأسهم في تكوينه أجيال سابقة سالفة ، ولعل مثل هذا التناول يحقق التجانس الزماني والمكاني، بمعنى ربط الحاضر بالماضي والماضي بالحاضر، وبالتالي لا يحس الإنسان بالغربة عن الماضي أو عن الحاضر، فيكون انفعاله بالمستقبل انفعالاً صحيًّا في اتجاه صحيح، وبالتالي يأتى الجديد متسقًا مع الواقع .
موقف التراث التربوي :
والأمر كذلك فإن الحديث عن التراث التربوي لا يجيء بعيدًا عما ذكرناه، وإن كان يحتاج إلى بعض التوضيح والإيضاح، فالمفكرون المسلمون تركوا لنا تراثًا عظيمًا ، سواء في مجال الفلسفة التربوية أو المناهج ، أو طبيعة المتعلم ، أو دور المعلم، أو أساليب التربية، وكان لكافة العلماء والمفكرين عناية كبيرة بمجال التربية والتعليم ليشب شباب المجتمع على معرفة الدين قولاً وعملاً ؛ لأن معرفة الدين لا تتم إلا بنوع من التعليم ، ومن هنا كان اهتمام العلماء المسلمين كبيرًا بهذا المجال .
وقد جاء هذا الفكر وتلك الآراء إما مختلطًا بكتابات هؤلاء العلماء والمفكرين في مجالات تخصصهم كأدباء أو فلاسفة أو فقهاء ، أو علماء في علم الكلام، أو في أصول الفقه وغير ذلك ، وهذا يحتاج إلى عناية خاصة ، ذلك أنه مُضَمَّنٌ في تلك الأفكار العامة أفكار تربوية، وقد يأتى الاهتمام بمثل تلك الأفكار بتوضيح المضمنات التربوية في فكر مفكر، أو كشف الاهتمامات التربوية عند شخصية من الشخصيات ، أو دراسة الفكر التربوي عند اتجاه معين من الاتجاهات الفكرية القائمة .
قد يأتى الفكر التربوي منفصلاً في كتب ورسائل منها على سبيل المثال لا الحصر : رسالة القابسي، ورسالة ابن الجزار ، وابن جماحة ، وابن سحنون، والعلموي، والغزالي، ومسكويه، وابن سينا، وابن خلدون، وابن الحاج العبدري، وابن عبد البر، وإخوان الصفا، والجاحظ ، وخلاف هؤلاء كثير وقد حظى هذا المجال باهتمام بالغ وخرج معظمها إلى النور بفضل التحقيق الجيد الذي حظيت به هذه الرسائل ، إلا أنه ما زال هناك كثير من هذه الرسائل الذي يحتاج إلى الكثير من الجهد للبحث عن تحقيقه وإخراجه إلى النور .
ورغم هذا فإننا نلاحظ أن الفكر التربوي الإسلامي في أغلبه يوجد منثورًا أو منتثرًا هنا وهناك في كتابات ألفها الفلاسفة والصوفية وغيرهم، وهو في هذا متكامل أكثر مما يتكامل في الرسائل والكتابات القاصدة والمستقلة؛ ذلك لأن الفكر التربوي عند هؤلاء يتصل بفكر أكبر يدور حول الفرد المسلم والمجتمع المسلم، ويأتى الفكر التربوي لخدمة الفرد والمجتمع ولا يأتى مبتورًا منقطعًا عنهما .
وإذا جُمِع هذا التراث بشكل موضوعي فإنه يمكن أن يشكل أساسًا فكريًّا للانطلاق منه إما نظريًّا أو عمليًّا نحو بناء فكر تربوي متميز، وقد يفيد في هذا المجال دراسة التراث المنبث في أرض الواقع، والمعيش على مستوى الحياة العادية، وهو كثير يحتاج إلى تحليل ونقد وتفسير .
إن هذا الاهتمام لا يعنى أن التراث قد وضح وبان وأصبح فاعلاً، إذا نحن قمنا بهذا مثلاً ، إن المهمة ليست سهلة كما يتصور البعض؛ لأن هناك أدوارًا أخرى لابد وأن تتضح جيدًا ، وهي عن الكيفية التى يمكن من خلالها تناول هذا التراث بأبعاده واتساعه بحيث يمكن الإفادة منه إفادة حقيقية في مسيرة الفكر التربوي العربي المعاصر ، وبمعنى آخر: ما المنهجية التى يمكن اتباعها في تناول هذا التراث ودراسته، إن الجهود المبذولة في هذا المجال مبعثرة تحتاج إلى التجميع والتكثيف لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الموارد والأدوات والإمكانيات والدراسات وحتى لا يفقد الجهد أهدافه ومعناه[3].
أهداف دراسة التراث:
إن الأمر الذي نود التركيز عليه هنا أن طرح فكرة دراسة التراث لا تعتبر ضد التقدم، فالهدف الأساسي هو إحياء فكر الأمة من أجل عملية التقدم خاصة مع ضغوط المتغيرات المتنوعة الأصول والأهداف والمظاهر، مما يفرض دراسة الظاهرة التربوية في إطار الخبرة التاريخية الإسلامية، ويجعلها بحاجة إلى الكثير من البحوث والدراسات المتكاملة التى تأخذ في اعتبارها ذلك التداخل والتشابك والتعقيد الناشب بين تلك المتغيرات، ومما يزكى هذا الفرض ويبرر وجوده الضرورات الفكرية والاجتماعية والحضارية، ومن أبرزها ما يلي :
أ – البحث الدءوب المتواصل عن مخارج لتجاوز نواحي القصور ومظاهر التخلف الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية المعاصرة بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة .
ب – الافتقاد الواضح لمعنى العدل الاجتماعي وتطبيقاته، للبعد عن جوهر العقيدة الإسلامية النقية مع التصور في فهمها فهمًا سليمًا .
ج ـ الإخفاق المتكرر لمحاولات تطبيق الأيديولوجيات المستوردة وما انبثق عنها من فكر تربوي نتيجة لانعدام الاستجابة الشعبية في المجتمعات الإسلامية وعدم تحمسها لها .
د – افتقاد المجتمعات الإسلامية للنوعية التربوية المتميزة للإنسان المسلم، والتى من أوضح شروطها تأهيله لتجاوز حالة الوهن الحضاري وانعدام الفاعلية، وقد أدى هذا إلى وجود نوعيات تربوية تفتقد إلى الوعي بالمرحلة الراهنة، وما تتطلبه، فأنتج هذا إما اندفاعًا متهورًا أدى إلى وقوع أضرار ماحقة بالنفوس والحياة، وإما إلى اتباع مقهور سكوني اتكالي استهلاكي .
هذه الأمور وما ترتب عليها من مظاهر أخرى، أبرزها ضعف الإرادة وضعف حركة التغيير، وإن وجدت النية إلى التغيير فإنها تعكس ضرورة البناء الذاتي للخبرة التربوية الإسلامية على ضوء المعطيات الأصيلة أولاً، وعلى ضوء متغيرات الحياة المعاصرة ثانيًا، ومن ثم تبرز الحاجة الماسة الموجهة إلى الأصول الإسلامية لاستقراء معطياتها الموجهة للحياة الإسلامية، وفهم مقاصدها لإنزالها الفكري والتوجيهي التربوي من أجل بناء الإنسان المسلم الفاعل حضاريًّا.
بالقدر نفسه من الأهمية تظل الضرورة الفكرية دافعة لتناول معطيات التراث الفكري الإسلامي والتربوي منه خاصة دراسة وتحليلاً ونقدًا ، مما يمكن معه استخلاص أوجه الفعالية والترشيد الفكري، والتخلص مما فيه من سلبيات تعكس وهن وضعف عصور الضعف الحضاري، والتى تعكس جوانب من التراث، أو جهالة ما تزال مستمرة فاعلة حتى اليوم في الممارسات والأفعال والأقوال، حتى يظل بناء الإنسان أو إعادة بنائه طبقًا لأوجه القوة الذاتية التى يوحى بها التوجه نحو الأصول والثوابت التى هي في مقام المسلمات .
إن الظاهرة التربوية في المجتمع الإسلامي المعاصر كغيرها من ظواهر المجتمع الأخرى وأنظمته معقدة ، وتخضع لمتغيرات عديدة لا ينفرد واحد منها – مهما كان تأثيره – بالتأثير فيها بحيث يصبح العامل الفاصل المحدد والمؤثر، بل إن التداخل والتشابك بين العوامل والمتغيرات جميعًا هو الفاصل والمحدد وإن ظل متغير المعطيات الإسلامية الأساسية هو أكثر هذه المتغيرات توجيهًا وتأثيرًا ؛ لأنها تظل في مقام الثوابت والمسلمات ، كما يظل متغير التراث الفكري التربوى – الذي أُهْمِلَ فترة طويلة من التربويين المحدثين ولم ينل حقه من الدراسة والعناية – واحدًا من متغيرات التوجيه والفعالية التربوية، على أساس من وظيفته في حياة المسلمين المعاصرة، ولكونه يشكل وجهًا من أوجه الخبرة التاريخية التربوية الإسلامية التى يمكن أن تسهم بشكل ما في الانبعاث الحضاري للأمة الإسلامية .
ومعنى هذا أن الاهتمام بدراسة التراث التربوي الإسلامي لا تطرح نفسها، ولا نطرحها لمجرد كونها تعبير وجداني عاطفي عن الارتباط به، بل باعتبارها ضرورة فكرية، ومن ثم لا تتأتى تلك الدراسة عفوية أو تلقائية أو عشوائية أو سطحية مبسطة إنما يجب أن تأتى كجزء حيوي من مشروع الانبعاث الحضاري العام للأمة الإسلامية ، ولا يجوز إهماله أو التقاعد عنه على أن لا يكون هو كل الهم في مجال المشروع الحيوي الكبير الذي هو انبعاث الأمة بحيث لا يستنفذ كل الطاقة ثم تقف القدرات الإبداعية التى يمكن أن تضيف إلى التراث وتتجاوزه .
ومن هنا يكون لتحديد أهداف دراسة التراث وجاهته ومنطقه وضرورته الفكرية وأولويته في الرؤية والواقع، وتأتى هذه الأهداف كما يلي :
1- تكوين الوعي بحقيقة التراث التربوي الإسلامي ومكوناته ، وقضاياه ودوره في صنع الماضي والحاضر الإيجابي والسلبي منه على السواء .
2- تمييز الثابت من المتغير في هذا التراث ، حتى يظل الثابت ثابتًا على ثباته وإن اختلفت طريقة تناوله ، وليفيد المتغير حركة الفكر ، وخطواته نحو آفاق أكثر رحابة .
3- توضيح الإسهامات المتنوعة للمفكرين المسلمين وغير المسلمين في الفكر التربوي العربي الإسلامي ودورهم الفاعل في تناول قضايا التربية وإطارها الفكري والواقعي .
4- توضيح أبعاد خبرة الفكر التربوي التراثي في مواجهة مشكلات الواقع التربوي التى عاصرها فكرًا وتطبيقًا ، حتى تتضح المتغيرات التى لعبت دورها في صياغة هذا الفكر وبلورته .
5- تقريب التراث التربوي من واقع الناس وأفهامهم في ظل الحياة المعاصرة ، ويقتضى هذا أن يتوجه خطاب الدارسين له إلى الجماهير والناس كما يتوجه إلى الباحثين المتخصصين حتى يمكن كسر حلقة العزلة المفروضة على هذا التراث .
6- توضيح أبعاد وأصول وسياقات الخبرة التربوية الدينية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية حتى لا يساء فهمها .
7- استخلاص المفاهيم والمدركات الفكرية التربوية التراثية المقارنة أو المطابقة للمفاهيم والمدركات المستعملة والشائعة في الساحة الفكرية الإسلامية أو العالمية على أن لا يكون ذلك تهويمًا فكريًّا للبحث عن موضوع للتراث في الفكر التربوي المعاصر؛ لأن الدراسة في هذه الحالة ستأتى غير موضوعية على الإطلاق .
إن هذه الأهداف وغيرها مما قد يتراءى للمهتمين وأصحاب الاتجاه تؤشر وتدل دلالة قوية على أهمية خطورة ما نحن بصدده من قراءة التراث التربوي الإسلامي .
المداخل المنهجية لدراسة التراث الفكري التربوي الإسلامي:
مع اتضاح أهمية إبراز التراث الفكري الإسلامي وضرورته تعددت وجهات النظر المختلفة بشأن منهجية البحث المطلوبة لإبرازه وطرحه ، وتوجد دراسات متعددة تدل على وجهات النظر المختلفة، فمن دراسة تتناول التراث من داخله بعيدًا عن الخبرة التاريخية إلى دراسات تحاول تطبيق مناهج وأيديولوجيات من خارج هذا التراث على دراسته، ومنها دراسات تحاول فهم التراث من داخله، لغة وسياقات تاريخية ومتغيرات كثيرة لها أثرها فيه، وكان لهذه الدراسات فوائدها التى لا تنكر في توضيح منهجية دراسة التراث، ومع هذا تظل الحاجة ماسة إلى منهجية واضحة في هذا المجال.
إن دراسة الظاهرة التربوية وما يتعلق بها من فكر يلقى بعدة تساؤلات ، والإجابة عليها يمكن أن يلقى ضوءًا على منطق دراسة التراث لتحليله والخروج من دراسته بنتائج مفيدة ، ومعالجة هذه الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها قد تفيد في تحديد مداخل دراسة هذا التراث التربوي.
* هل يدرس التراث لتقديم متابعات تاريخية للظاهرة التربوية في إطار الخبرة التاريخية التربوية الإسلامية؟ والأمر كذلك فإن الدراسة في هذه الحالة تصبح دراسة تطورية يصبح المدخل التاريخي أنسب المداخل للدراسة والبحث .
* هل ندرس التراث التربوي كمحاولة لدراسة الفكر وتحليل اتجاهاته ومصطلحاته ، ونقد مضمونه وتوضيح آثاره؟ وفي هذه الحالة ينصب البحث على تحليل الجانب الفكري من الظاهرة التربوية باعتبار أن لها أصولاً ومقومات وممارسات ويصبح التحليل هو الأداة الأنسب لمحاولة بلورة مفاهيم ومدركات وأصول هذا التراث.
* هل يدرس التراث التربوي كمحاولة لتنظير الظاهرة التربوية باعتبارها موقفًا قيميًّا بين الإنسان ومجتمعه ومحيطه البيئي الحيوي وغير الحيوي؟ أي باعتبارها حركة الإنسان الفرد تجاه المجتمع والمجتمع تجاه الفرد ، ومحاولة فهم طبيعة القيم الضابطة لهذه الحركة ، وفي هذه الحالة فإن الدراسة تنصب على فهم التراث وبمنهج تنظيري تربوي / اجتماعي يحاول استخلاص القيم الضابطة والقواعد الحاكمة للظاهرة التربوية الإسلامية ، ومن خلال حركة التراث كأمور مجردة بعيدة عن التلبس بالزمان والمكان أو واقعية متلبسة بظرف الزمان المكان .
هل يدرس التراث التربوي لفهمه في أبعاده التاريخية الفكرية ، وتحليله واستخلاص أدواته الفاعلة ، وبيئته المنتجة، لتنظيره واستخلاص الفاعل الحيوي منه ، المستمر تأثيرًا عبر الزمان، مؤكدًا خصوصية الأمة الإسلامية، لتحقيق أهداف معينة من دراسة التراث، وفي هذه الحال فإن المدخل المناسب والأمثل هو الذي يجمع المداخل السابقة بطريقة متكاملة ، لكن وقبل تناول المداخل الأساسية لدراسة التراث، فإننا بحاجة ماسة إلى وقفة متأنية ، وفتح حوار حول المنهجية التى يجب أن تستخدم هنا وخاصة في تناول التراث التربوي وذلك في سبيل توضيح جوانب هامة في حوارات المفكرين حول هذه المنهجية ، في سبيل صياغة منهجية مناسبة في هذا المجال .
إن تكاثر الأعمال المشتغلة بالتراث دراسة وتحليلاً وتقويمًا يعتبر دلالة ممتازة على الشعور بملازمة التراث لنا، تاريخًا وواقعًا ، كما تدل على نفاذه في وعينا، إلا أن أغلبها وأشهرها يأخذ بتصور للمنهجية العلمية يضيق عن استيفاء المقتضيات التاريخية والواقعية ، إذ يقوم هذا القصور على اعتقاد أن العلم واحد لا تعدد في طرائقه ، وأنه مطلق لا نسبية في نتائجه، وهذا يعتبر مجانبًا للحقيقة، فالعلم في حقيقته أبواب عديدة ومسالك شتى، وهذا التصور الشائع ينظر إلى الحقيقة التراثية كما لو كانت حقيقة تاريخية غير دينية وغير قائمة على الوحي، تقبل أن ينزل عليها من المفاهيم والمناهج ما ينزل على التراث غير الديني.
والحق أن هناك منهجية غير المنهجية المنقولة التى شاع استعمالها من الدارسين والنقاد، وإذا كان ولابد من النهوض بدراسة التراث، فلابد لنا من استخدام منهجية مخصوصة أنتجتها الممارسة التاريخية في عصر قوتها، مع فتح الباب لتفتيحها بحسب الحاجة إليها بدلاً من الاقتباس[4].
ورغم الأطروحات الكثيرة والمتناثرة في البحوث والمؤلفات بما يتعلق بمنهجية دراسة التراث، ومع تعددها، فإنها تكاد تتفق في معظمها على أنه لا سبيل إلى الانفكاك عن حقيقة التراث التاريخية، ولا سبيل إلى الانقطاع عن العمل بالتراث في الواقع؛ لأن أسبابه مشتغلة على الدوام فينا، آخذة بأفكارنا موجهة لأعمالنا في حاضرنا مستشرفة لمستقبلنا، سواء أقبلنا على التراث إقبال الواعي بآثاره فينا أم تغافلنا وتظاهرنا بالإدبار عنه متناسين واقع استيلائه على وجودنا وواقعنا[5].
ولقد تأثرت النظرة إلى المنهجية بشيء غاية في الأهمية هو وظيفة التراث، وقد ساد ذلك كافة جوانب المسألة، النظر في قضية التراث في ضوء الحاضر أو لأغراض الحاضر ومتطلباته ، ويمكن تبين مواقف لا يمثل كل واحد منها نمطًا خاصًّا في التعامل مع التراث ، وهي كما يلي[6]:
– إحياء التراث، ويعنى هذا بعث وجوه التراث المختلفة ، من مخطوطات ووثائق ونصوص ومبدعات فنية أو صنعية أو أثرية أو أدبية أو علمية ، وباعتبار أن هذا يوضح ويجلى صورتنا التاريخية، ويساعدنا على تجسيدها في حياتنا الراهنة، وهذا لا يعدو الاهتمام بالتراث في شكله العيني أو الشيئي ، وهذا النمط يتعامل مع التراث على المستوى التقني الخالص، ويبدو أنهم لا يعتبرون أن لهم مهمة أخرى غير إخراج الوثائق، وهي بعث التراث في وجدان الناس وجعله حالة من التثقيف العام .
إن عملية إخراج وثائق التراث أمر هام جدًّا ، ولكن يجب أن يضيف إلى علمنا ، وإلى ثقافتنا ، ومعنى هذا أن التراث أصبح حيًّا .
– استلهام التراث: ومعناه استنباط المواقف والأفكار والقيم التي يمكن أن ندمجها في واقعنا الراهن، ويمكن أن يسهم في تجديد حياتنا وأمورنا ويجعلها نمطًا سلوكيًّا أو ذهنيًّا في فكرنا وفعلنا. وإلى هذا ذهب د. زكي نجيب محمود ود. محمد عمارة وغيرهما، ويرى هذا الاتجاه أن هناك قيمًا مثل العقلانية والحرية والشورى والمساواة، ويرى البعض أن عملية الاستلهام هذه عملية صورية أو تسويفية نلجأ إليها ذرًّا للرماد في العيون وإيهامًا للمتعصبين من التراثيين بأننا نوقر التراث ونأخذ منه .
– إعادة قراءة التراث: ويعنى هذا أن نقوم بإعادة قراءة التراث بحسب هذا المنهج أو ذاك مما يُختار من مناهج معاصرة راهنة، فيبدو التراث معايشًا لنا ولأحوالنا ، وهذا التوجه سائد وشائع لدى المثقفين الذين مارسوا خبرة بمناهج العلوم الإنسانية وبالفلسفات المعاصرة الغربية ، والذي يحدث هنا هو اختيار منهج محدد في إطار مرجعي محدد ثم قراءة التراث بحسبه؛ ولهذا وجدنا قراءات متنوعة ومتعددة، ويحاول كل قارئ أن يبرهن ويعلن للآخرين أنه هو صاحب القراءة الوحيدة الصحيحة ، والذي يجب أن نلفت النظر إليه هو أن هذه القراءات تعكس أفكار أصحابها ، أو بمعنى آخر أيديولوجية كل واحد فيهم، وهي عاجزة عن أن تصوغ التراث صياغة متكاملة ، كما أنها عاجزة عن تحقيق تثقيف اجتماعي شامل بهذا التراث.
أيًّا كان الأمر فإن هذه الاتجاهات أو التوجهات المتعددة في التوجه إلى التراث أو توظيفه تحمل أوجهًا من التصور والمحاذير والصعوبات ، مما جعل البعض يطرح أطروحات ووجهات نظر أخرى، وينظر إلى التراث محددًا له وظائف أخرى، كالوظيفة النفسية، والجمالية، والعملية (الجدوى) ، بمعنى آخر يطرح قضية استخدام التراث في قضايا ومشكلات واقعية ، وهذا يذكرنا برأى الدكتور زكي نجيب محمود في مؤلفاته المشهورة في هذا المجال .
ويحاول أصحاب هذا الاتجاه طرح ما يسمى بإبداع التراث ، أي الإضافة إلى التراث بإبداعه ، وليتخلص المسلمون من الحصار التاريخي، ومن حصار أنماط الفهم التقليدية ، والتحرر من كافة ألوان الحصار المعاصرة وأشكاله المتعددة ، إنه الإبداع من أجل تطوير الحياة[7].
يرى آخر أن دراسة التراث وتقويمه بالطريقة التجزيئية ، والاشتغال بالمضامين التراثية فقط إنما هو قاصر عن فهم ((الآليات الإنتاجية )) أو ((الآليات الأصيلة)) أو ((الآليات التحتية)) التى أسهمت في إنتاج هذا التراث، ومن انتهج هذا النهج إنما اختار النظر في مضامين التراث، وتركيز النظر في آلياته الأصيلة، ووقعوا في استخدام أو استعمال ((الآليات الاستهلاكية)) أو ((الآليات الفرعية)) ، ويرى أصحاب هذا النظر أن هذه الآليات يمكن حصرها في صفتين اثنتين، هما ((الآليات العقلانية)) ، و((الآليات الأيديولوجية)) وبعد نقده لهذه المناهج أو الآليات القاصرة عن فهم التراث وتحليله يطرح رأيًا في المنهجية، حيث يرى أن تكون المنهجية ثمرة اتباع المبادئ النظرية والعملية الآتية ، أما المبادئ النظرية فتتمثل في:
أ – التخلص من الأحكام المسبقة أو الجاهزة أو المتسببة التى اعتاد البعض إرسالها بصدد التراث ونشرها بين جمهور المشتغلين به .
ب – تحصيل معرفة شاملة بمناهج المتقدمين من علماء الإسلام ومفكريهم في مختلف العلوم مع تحصيل معرفة كافية بالمناهج الحديثة تمكن من القدرة على الاجتهاد في المنهج واصطناعه ووضع النظريات المفسرة .
ج – استخدام أنسب الوسائل في وصف كل قسم من أقسام التراث، حتى تكون الأحكام التى نصدرها في حق التراث صادقة ومتكاملة .
أما المباديء العملية فتتضمن ما يأتي:
أ – التخلص من الفصل بين جانب المعرفة وجانب السلوك، خاصة في الأحكام التى نحكم بها على التراث، وقد وقع جل المشتغلين بالتراث في هذا الفصل ، فكان يحكم عليه بما لا يعمل به، ويقرر بشأنه ما لا يصدقه فعل. وإذا كان التراث الإسلامي ثمرة التسديد بواسطة الشرع فكيف يهتدى إلى إدراك حقائقه وتحصيل أصح السبل في تقويمه من قطع الصلة بالشرع وترك العمل بما جاء به .
ب – تحصيل المعرفة بأصول العمل في التراث ، وهي : (( المنفعة في العلم)) و((الصلاح في العمل)) و((الاشتراك في طلب الثواب)) باعتبار أن العلم النافع هو ما كان باعثًا على العمل المتعدى نفعه إلى الغير، وأن العمل الصالح هو ما كان نفعه متعديًا إلى الآجل ، وأن الصواب المشترك ما كان محصلا بطريقة مجالسة العلماء ومحاورتهم .
جـ – الاجتهاد في تجديد تكويننا العقلي بالتزام المقتضيات العملية للتراث، فنترك العلم المنفك عن العمل، والعمل المنفك عن النفع في الآجل، والصواب المنفك عن الاشتراك ونستعيد وحدة العلم والعمل والصواب كما عرفها صانعو التراث وشهد عليها سلوكهم.
ويخلص صاحب هذا الرأى إلى القول بأن المنهجية الأساسية التى اشتهرت بها الممارسة التراثية هي طريقة أهل المناظرة، وهي تبنى على وظائف منطقية تأخذ بمبدأ الاشتراك مع الغير في طلب العلم وطلب العمل بالمعلوم، كما تبنى على قواعد أخلاقية تأخذ بمبدأ النفع المتعدى إلى الغير أو إلى الآجل[8].
لعل وجهة النظر هذه في تناول التراث ودراسته واقتراح تلك المنهجية الحوارية من أفضل وجهات النظر المطروحة والأقرب إلى روح التراث، بعيدًا عن تلك الأدوات المنقولة، والتى لا نقلل من شأنها، وإنما نشك في قدرتها على التعامل مع التراث الإسلامي بطريقة موضوعية، خاصة وأننا نلاحظ من خلال قراءة هذا التراث أنه ليس ذا اتجاه نظرى خالص ، وإنما يحتل العمل والقيمة العملية مركزًا هامًّا فيه، ويصح أن نقول إنه مزيج من الاثنين العقل النظري والسلوك العملي، ولذا فإننا إذا أنزلنا معايير العقل النظري المنقولة على الحقائق العملية الموجودة في التراث؛ فإن ذلك سيؤدى حتمًا إلى أمرين: إما استبعاد أجزاء من التراث بحجة ضآلتها من الناحية النظرية العقلية أو انعدامها منها، وأما حمل أجزاء منه على وجوه من التأويل فنفصلها عن بقية الأجزاء الأخرى، ويظهر من خلال ذلك مدى التجنى الذي نوقعه على التراث ومحتوياته[9].
إن هذه المنهجية المطروحة قد تعكس لنا التكاملية في تناول التراث بدلاً من النظرة التجزيئية التى غلبت على دراسة التراث، ويمكن من خلالها أن ننقد أو نتناول بالدراسة تلك التوجهات المختلفة في دراسة التراث، وهي كثيرة ومتعددة.
ويمكن القول إن دراسة التراث هي نقد للنص التراثي، وتقويم له، والمنهجية التي نتعامل بها مع هذا التراث يجب أن تدرك إدراكًا تامًّا ، ولأنه (أي النص) نتاج التعامل مع أمور عديدة، وله أدواته الإنتاجية التى أنتجته، ويجب التعامل معها تعاملاً جادًّا .
بعد هذا العرض يمكننا الآن أن نعرض لأهم المداخل المنهجية لدراسة الفكر التربوي الإسلامي وتأتى كما يلي:
أولاً – المدخل التاريخي[10]:
من خلال هذا المنظور أو المدخل تعنى الدراسات المتصلة بالتراث برصد تطور الأفكار والنظريات التربوية عبر الخبرة التاريخية الإسلامية في إطار الحضارة الإسلامية ، والتى حملها الناس وطوروها عبر الزمان والمكان، فكانت التطبيقات والممارسات المعبرة عن تأثير عوامل عديدة في حياة المجتمع الإسلامي وفي تربيته لأبنائه .
ويعتبر هذا المدخل الأساس في الدراسات التى تهتم بإبراز التتابع الزمنى والمرحلي، لكافة مكونات العملية التربوية والأفكار المتعلقة بها، وتبرز فيه صيغة الرصد لكل الفكر والممارسة . ومعنى هذا أنه يسهم إسهامًا فاعلاً في تقديم صورة تتابعية لنمو الفكر التربوي وكذلك تطور الممارسات التربوية، ويسهم كذلك في توضيح حركة التفاعل الخلاق للعوامل المكونة للخبرة التاريخية الإسلامية حتى تبلورت الحركة التربوية في مذاهب شتى.
ويفيد هذا المدخل في الوعي بحركة الفكر التربوي، والوعي بالذات الحضارية، وهنا نجد أدوارًا أساسية توجه البحث في هذا المجال، منها :
– فهم العوامل الثقافية والطبيعية والتى لها دور بارز ومهم في توجيه الخبرة الإنسانية، ويجب أن تركز الدراسات على هذا الفهم حتى تتضح الأدوات التى أنتجت هذا التراث ويلقى الضوء على جوانب الخبرة في الزمان والمكان .
– فهم الدور الفاعل للتراث التربوي الذي نزل إلى ساحة التطبيق متفاعلا مع واقع الحياة الذي وجد فيها، وأثر تأثيرًا كبيرًا في مسيرة وحركة التربية، ومعنى هذا أن هذا التراث لابد أن يكون له نفع في حياة الناس، وإلا فلا فائدة من دراسته.
– فهم الدور الفاعل للجذور التربوية والثقافية المكونة للثقافة والحضارة وللشخصية المعاصرة، فالفكر والعلم والتربية تواصل واستمرار، ولذا فإن من المهم قراءة هذا التراث قراءة تاريخية واعية لإبراز الأصول الثقافية والحضارية وطبيعة الشخصية ، سواء ما اتصل منه الماضي أو بالماضي، ولكن بشرط أساسي وهو توافق المنهجية والأدوات وطرق التحليل السليمة .
– عدم الإسراف في التأويل والتوفيق بين القديم والحديث، لأن هذا ربما يوصلنا إلى تزييف القديم والتقليل من شأن الحديث. المهم دراسة هذه الخبرة في ظروفها التى انعكست عليها، وكما تركها أصحابها الفاعلون لها والاستفادة ببعض ما فيها إيجابًا أو سلبًا .
– عدم تضخيم خبرة القدماء والوقوف عندها، بل لابد من نقدها وإيضاح جوانب القوة وجوانب الضعف[11].
وتأتى حركة هذا المدخل أو خطواته من خلال مستويات البحث التاريخي نفسه، والذي يتمثل في :
المستوى الأول : يأتى باعتبار أن المنهج التاريخي أداة أو طريقة بمعنى أنه يتبنى حركة التاريخ في كل الظواهر الإنسانية والطبيعية، وتعنى بحركة التاريخ الثلاثية التى يمكن بسطها من باب التقريب في تساؤلات ثلاثة مرحلية، هي : نشأة الظاهرة، وتطورها، ثم ما آلت إليه، وهذه الخطوة ضرورية جدًّا لفهم الظواهر والعوامل التى أوجدت التراث.
المستوى الثاني: ويأتى باعتبار أن للمنهج التاريخي قدرة شارحة ، ويمكن التمييز فيه بين مستويات ثلاثة تتمثل في مستوى منهج المؤرخ، ومستوى عالم التاريخ، ومستوى تفسير التاريخ، وهنا تبرز أهمية النظرة التحليلية لتفسير التاريخ، وبمعنى آخر لتفسير حركة الظاهرة، وإذا كان ثمة اختلاف بين المدارس المختلفة للتاريخ وتفسيره، فإننا نميل إلى اعتماد المدخل المتكامل لتفسير الظاهرة التراثية التى تحاول دراستها وتفسيرها .
أما الدراسة نفسها فيمكن أن تأتى على شكلين الأول: متخصص، بمعنى أنه يدرس جانبًا واحدًا من جوانب الظاهرة التربوية في التراث، بهدف الفحص والتتبع التاريخي الكامل، وسبر أغواره والتعمق فيه حتى يمكن تجليته وكشفه، على درجة عالية من التعمق والتخصص التاريخيين وما يتطلبه البحث التاريخي وما توصل إليه الباحثون في هذا المجال .
الثاني : شامل، ومن خلاله يتناول الباحث جوانب الموضوع المطروح متكاملة ، وتمييزها لإعطاء صورة شاملة وواسعة عن الأحداث والوقائع، وذلك لم يتم إلا بعد أن تكون التفصيلات التاريخية للموضوع قد غطيت بحثًا وفحصًا ورصدًا .
ومع اعتبار أن هذا المدخل يعتبر تقليديًّا إلا أن فوائده لا تخفى، إذ أنه يساعد على توضيح أبعاد معينة في الخبرة التربوية التاريخية، ويعين على استشفاف جوانب التراث والإبداع، وإلقاء الضوء على المتغيرات والتيارات السائدة، وبالتالى يساعد على تكوين وجهة نظر لها أهميتها في فهم التراث وبلورة اتجاهاته، إلى جانب فوائد أخرى تتصل بفهم الصيرورة الاجتماعية والتربوية على مر العصور، وتأثيرها في ميلاد الأفكار التربوية وتطورها عبر التراث.
ثانيًا : المدخل التحليلي :
أتت الدراسات التى اتخذت المدخل التاريخي منهجًا لها مركزة على دراسة فترات زمنية أو شخصيات أو مؤسسات تربوية أو فرق فكرية، بشكل متفرق، ولم تخضع لمحاولة حقيقية يتم من خلالها تقديم صياغة فكرية تبلور الصورة وتكثفها في شكل اتجاهات واقعية أو مدارس فكرية، ومن أجل تحقيق هذه الخطوة اللازمة والضرورية للتراث التربوى الإسلامي ، فإن الجهد التاريخي يحتاج لجهد آخر ، يحاول تجاوز تلك الصورة المفككة ، ويحلل قضايا الفكر التربوى بصورة أعمق متتبعًا أصولها وجذورها ، وبلورتها في شكل بناءات فكرية أو اتجاهات واقعية .
وهنا نجد أن المدخل التاريخي بحاجة إلى المدخل التحليلي الذي بمقتضاه وحين يتناول البحث التراث التربوى الإسلامي في شكل كتاب أو قضية أو اتجاه فإنه لابد من العمل على محورين أساسيين:
أولهما : البحث عن الأصول والمعطيات الأولية التى اعتمد عليها التراث ، ويعنى ذلك أهمية التأصيل النصى والفكري، وهو أمر يحتمه البحث الموضوعي في التراث مع تحليل جيد للنص والفكر، وتأتى هنا أهمية إجازة آليات تحقيق المخطوط .
ثانيهما : المتابعة الفكرية لهذه الأصول والمعطيات وحتى المبادئ في التراث، وكيفية بلورة التراث الفكري لهذه الأصول ، وطريقة تناوله له ، وتعامله معها في التطبيق خاصة، أي البحث عن توجيهات وتجليات الأصول والمعطيات والمبادئ عبر الأفكار التراثية، أو عبر المذهب والمدارس الفكرية المختلفة والبحث عن مضامينها التربوية والتعليمية ، وبلورتها في صورة مذهب تربوى معين ، وتجلية تطبيقاتها في الواقع وعبر المؤسسات التربوية مع توضيح العوامل والمتغيرات الفاعلة .
وهذا المدخل يخرج بالبحث في التراث التربوى الإسلامي من الإطار الضيق للمتابعة التاريخية، إلى آفاق النظرة التحليلية التى تتيح فهمًا جيدًا له، ولقضايا الواقع التربوى ، كما أنه يتضمن فوائد أخرى عديدة منها:
1- الوقوف على الأصول والمعطيات الأساسية التى كان لها فضل إيجاد تربية إسلامية وتراث تربوى إسلامي .
2- التعرف على المبادئ الأساسية التى اعتمدت عليها حركة التراث التربوى الإسلامي في الفكر والواقع.
3- التعرف على حركة العقل الإسلامي في فهم الأصول والمعطيات، والتفاعل الخلاق بين حركة العقل ومتطلبات الواقع الاجتماعي والتربوى.
4- الوقوف على الاختلافات الجوهرية والدقيقة بين المدارس والتيارات الفكرية المختلفة فيما يتعلق بأمور التربية والتعليم واستيعاب تلك الاختلافات وبيان أسبابها .
5- الكشف عن مبادئ وعوامل الاستمرارية التاريخية لبعض المبادئ والمفاهيم التربوية التى استمرت حتى الآن في الواقع التربوى .
6- الكشف عن العوامل والمتغيرات العديدة المؤثرة في صيرورة التجربة التربوية الإسلامية الذاتية والخارجية، وكذلك أوجه التفاعل بين هذه المتغيرات والتى كان لها دور فاعل في توجيه فعاليات التراث التربوى الإسلامي .
7- الوقوف على أصول المدارس والمذاهب الفكرية التى عولجت في إطارها قضايا التربية والتعليم .
8- الوقوف على منطق الطبيعة الحركية لمبادئ الإسلام وتوجيهها لحركة المجتمع الإسلامي والفكر التربوى وتطبيقاته ، وبمعنى آخر التعرف على منطق الاستجابة الدائمة من الفكر التربوى الإسلامي لحركة المجتمع الإسلامي ومبادئه الإسلامية .
هذه بعض فوائد يمكن أن يحققها استخدام المدخل التحليلي في دراسة التراث التربوى الإسلامي والذي يمكن أن يأتى عبر محاور كدراسة كتاب أو رسالة ، أو قضية فكرية معينة ، وفي كل الأحوال فإن الالتزام بمحور للدراسة يجعل منها دراسة جادة .
ثالثًا : المدخل التنظيري:
يهتم هذا المدخل بطبيعة الموقف التربوى، والعلاقة بين الفرد والمجتمع طبقًا لهذا الموقف وفي إطاره، فهو يعتمد النظر إلى الظاهرة التربوية كحركة فاعلة وعلاقة بين الفرد والمجتمع، تضبطها قيم معينة ومبادئ أساسية وقوانين حاكمة، وبالدراسة يمكن تجريد هذه القيم والمبادئ والقوانين .
ويعنى استخدام هذا المدخل في دراسة التراث التربوى الإسلامي الكشف عن النظام أو النظم القيمية التى تسعى التربية إلى تحقيقها في أفراد المجتمع، بل وتشتق منها أهدافها من خلال كتب التراث، ثم متابعة الممارسة التاريخية بعد ذلك في إطار هذه النظم، ويتعلق بهذا المدخل عدة أمور أهمها : طبيعة التربية، وعلاقتها بالنظم الاجتماعية في المجتمع الإسلامي والنماذج التربوية السائدة وموقف التربية من عملية التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وحركة الفكر في المجتمع الإسلامي ومدى استجابة الواقع التربوى لتلك الحركة، وطبيعة القيم القائمة، ومدى تعبيرها عن حاجات الإنسان، وأثر تلك القيم في حركة المجتمع، وقيم التعليم والتعلم، والعلاقة بين المعلم والمتعلم، والبحث العلمي وغير ذلك .
ويعنى هذا، الالتزام باستقراء للواقع عبر التراث التربوى للارتفاع فوقه بعد ذلك في محاولة تجريد القيم والمبادئ العامة لدور التربية في المجتمع الذي يحمل إمكانية الاستمرارية التاريخية عبر الزمان والمكان ، في ضوء مواصفات أساسية لابد من توافرها . ومعنى هذا العناية بالتجربة التربوية التاريخية والعوامل المؤثرة فيها ونماذجها ، لاستخلاص ما يمكن استخلاصه صالحًا للاستمرار، والخروج بقواعد نظرية تفيد في عملية تنظير الواقع التربوى .
رابعًا : المدخل المتكامل:
أن أيًّا من المداخل الثلاثة السابقة لا يمكنه الاستقلال بنفسه في دراسة التراث التربوى الإسلامي، ومن ثم فإن استخدامها كلها بطريقة متكاملة يحتل مركز القلب من منطق التحليل الذي يجب أن يستخدم في دراسة التراث، وتبدو فوائد استخدام كل هذه المداخل في إطار الرؤية المتكاملة لدراسة التراث كما يلي :
1- يوفر المدخل الأول الرؤية الزمنية المتكاملة والتتابعية لدراسة التراث التربوى منذ عصر النبوة وحتى بداية القرن الرابع عشر للهجرة ، بمتغيراته وصيرورته وغير ذلك من عوامل ومتغيرات .
2- ويجيء المدخل الثاني ممثلاً لمحور الارتكاز الأساسي، حيث إن لتحليل التراث دورًا بارزًا في فهمه، ويمكن لهذا التحليل أن يدور عبر المحاور التالية:
أ – الدراسة المتأنية للتجليات الفكرية والمذهبية التربوية، والتأصيل لهذا الفكر، وتحليله في إطار المعطيات والأصول التى اعتمد عليها .
ب – الدراسة المتأنية طبقًا للمنهجية التى اعتمد عليها الفكر التربوى الإسلامي، وكما تبدو من خلال التجليات الفكرية، وبلورته طبقًا لهذه المنهجية في شكل مدارس فكرية تجمعهما مبادئ معينة وأهدافًا مشتركة.
ج – الدراسة المتأنية لاستخراج المفاهيم والمدركات والمضامين التربوية التى تناولها التراث كالطبيعة الإنسانية والفروق الفردية، والأهداف التربوية والتعليمية ومبادئ المناهج ….الخ .
د – الدراسة المتأنية عبر منظور مقارن للمدارس التربوية لاستخراج ما هو مشترك وما هو متفرد ، وكذا بين المعالجة الإسلامية والمعالجة التربوية الغربية لاستخراج المفاهيم والمدركات المقاربة أو الموازية أو المطابقة بين المعالجتين ، حتى والتى لا مقابل لها .
3- ويمثل المدخل الثالث محورًا آخر، حيث يمكن عن طريقه استخلاص نماذج عامة للتربية ، وقيمًا تربوية، وقوانين حركة التربية ، بمعنى استخلاص محاور نظرية ملائمة وموائمة للعمل التربوى من هذا التراث .
وفي إطار استخدام المنهج المتكامل فإنه يمكن للباحث استخدام كافة الأدوات البحثية من تحليل وفهم واستنباط واستقراء ومقارنة، وغير ذلك مما يساعد على إنجاز دراسة تحليلية جيدة للتراث التربوى الإسلامي من غير وقوع في مأزق توقف الإبداع الفكري، وتحول دون حرية الباحث في الاستنتاج المنهجي الملائم .
وجدير بالذكر أن الاستعانة بالمداخل المتخصصة لفهم التراث عبر مجالاته كالفقه ومنهج علم الكلام ومنهج التصوف ومنهج الفلسفة ومنهج علوم اللغة ومنهج العلوم الطبيعية وما إلى ذلك أمر غاية في الضرورة والأهمية لفهم لغة التراث المكتوب ومصطلحاته حسب كل تخصص، إذ إن لكل مجال من تلك المجالات مصطلحاته ومداخله التى يجب أن يعيها الباحث في القراءة التراثية التى تعنيه ويقوم بها حتى لا يقع الخلط وسوء الفهم .
وأيًّا كان الأمر، وعبر استخدام المدخل المتكامل لقراءات التراث التربوى الإسلامي فإن هناك ملامح عامة ومبادئ أساسية ينبغي الالتزام بها حتى تأتى القراءة على وجهها الصحيح، وتحقق الأهداف المرجوة من دراسة التراث وهي:
أ – التأصيل التحليلي لاتجاهات الفكر في المجال التراثي المدروس من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، أي رد الفكر إلى أصوله الثابتة أو الفكرية الإنسانية .
ب – التأصيل للاتجاه الفكري في الكتاب التراثي، بتأصيل مفاهيمه ومدركاته باستخدام المنهج التحليلي والمقارن، وبالاستعانة بالخبرة التاريخية لما لذلك من أهمية في فهم وتحليل مفاهيم ومدركات الفكر الإسلامي التربوى ووعي امتداداته المعاصرة، ولما له من أهمية في تبيين ملامح النموذج الفكري التربوى، أو الإسهام فيه .
ج – التأصيل اللغوى الحضاري للمفاهيم والمدركات والمضامين والدلالات التربوية التراثية بالرجوع إلى لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والدلالات اللغوية للمصطلحات والمفاهيم العربية السائدة في عصر المؤلف حتى تأخذ هذه المفاهيم دلالتها الحقيقية .
د – التأصيل اللغوى الحضاري للمفاهيم والمصطلحات التربوية الإفرنجية المقابلة ، أو الموازية أو المطابقة طبقًا للغة الفنية أو المصطلحات السائدة الآن، وبالرجوع إلى المعاجم اللغوية والتربوية، حتى تأتى تلك المفاهيم المقابلة في إطارها الصحيح، أو معبرة عن المفهوم التراثي .
إن هذه المعالم والمعالجات ضرورية لإدراك العلاقات الارتباطية أو الاختلاف بين مفاهيم التراث والمفهوم الاصطلاحي السائد، حتى يبرز الانتماء الاصطلاحي والمفاهيمي على حقيقته وبساطته دون خلط أو تشويش يقلل من قيمة ما في التراث أو ما في اللغة العلمية السائدة .
دور المنهجية البحثية في نقد التراث:
إن دراسة التراث لا يمكن أن تستقيم ما لم تضبطها المنهجية العلمية الصارمة، وإذا كنا قد تناولنا في الصفحات السابقة قضية المنهجية وأبعادها ومداخلها ، إلا إننا يجب أن نوضح أن هذه المنهجية المتكاملة لا تقتصر فقط على دراسة المخطوطات وإنما تأتى دراسة المخطوط مطلبًا من المطالب، ولأننا -كما أوضحنا- نعيش أزمات متتالية على المستوى الفكري والعلمي، فإن دراسة التراث قد تسهم في حل تلك الأزمات، إلا أنه كما قلنا إنه لا تلازم بين التراث والإسلام، فقد يكون التراث موافقًا أو مخالفًا لمعايير الإسلام، فكيف يمكن أن نحكم أو نرد الذات وبموضوعية متفتحة إلى التراث بحيث يكون معبرًا عن هذه الذات فعلاً .
معنى هذا أنه لابد أن يكون هناك إطار معرفي مناسب يمكن الحكم من خلاله على التراث بحيث يكون إطارًا مرجعيًّا للمنهجية المناسبة للمجتمع العربي والإسلامي، ولا نريد الخوض خوضًا متفرعًا في تفاصيل هذا الإطار إلا بقدر الضرورة، فهذا جهد يفوق ما نحن بصدده، ولكن سنحاول ذكر أهم الملامح الأساسية مع الأخذ في الاعتبار أن كثيرًا من تفريعاته هي محل نقاش دائر ما زال محتدمًا .
ولذا سنكتفى بذكر العموميات والغالب الاتفاق عليها ، ويمكن مراجعة كافة التفاصيل فيما ورد من بحوث ورسائل في هذا المجال.
أ – الاطار الفكري:
الأمر الذي نريد تأكيده عن هذا الإطار، أنه ينبغي أن يكون متحررًا قدر الإمكان من القيود الخارجية التى فرضت على المعرفة التربوية الإسلامية منذ أن وجدت في بداية النهضة الحديثة، بحيث يكون صالحًا صلاحية حقيقية للاستمداد منه إن في الاجتهاد الفكري أو في ممارسة النقد، وأمر آخر نود التأكيد عليه، وهو أننا لابد وأن نعتمد الأصول الثوابت الأولى قرآنًا وسنة في تحديد هذا الإطار، ثم التجربة التاريخية التى مر بها المجتمع العربي والإسلامي وتأتى ملامح هذا الإطار كما يلي :
تحديد صورة الإنسان المسلم كما يريدها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أساسًا ؛ لأنه يتوقف على تحديدها بدقة تحديد النمط التربوى الذي يتم في ضوئه تربية هذا الإنسان، وتحقيق النوعية التربوية التى تحقق مستوى الإنسان في القرآن والسنة .
وصورة هذا الإنسان أو التعرف على المثل الأعلى الإسلامي ، تقتضى أن نتعرف على مقاصد الإسلام من الإنسان، حينئذ تكون الصورة صحيحة وحقيقية ومعبرة تعبيرًا صادقًا عن الإسلام، وقد نلاحظ كيف آلت الأطر الفكرية التربوية إلى ألوان من الأزمة التى تعبر عن جوانب فشل في بناء الإنسان؛ لأنها لم تستطع التعامل مع الإنسان من خلال طبيعته الأصيلة وعاد ذلك على الإنسان نفســـه بالظلـم والقهر والسحق[12].
وما تشير إليه اتجاهات الفكر، وأزمات الإنسان المعاصر، تؤكد ميلاً واتجاهًا ناقدًا لإطار الفكر الغربي السائد والتبشير بحلول تحاول التخفيف من قهر الإنسان في ظل حضارة مادية ، حصرت الإنسان في الإنتاج وقوى الإنتاج ، بل ودراسة نفسه كمادة[13].
وإذا أردنا أن يكون التراث فاعلاً في الواقع المعاصر، فإن هذا لن يتم بصورة فاعلة ما لم يتعامل هذا التراث مع تحديد حقيقي للإنسان ، وجوده، وغايته، فاعليته، قيمته الذاتية والكونية، طبيعته المادية والنفسية، مهمته، مصيره، منهجه الذي يجب أن يتبعه في حياته لتحديد ما ينبغي أن تكون عليه تلك الحياة من أنماط معرفية وسلوكية واجتماعية واقتصادية تحقق له الخير والسعادة، وقد تحدد هذا كله في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وكان مصدرًا للتراث الفكري.
والاستناد إلى هذا التحديد الدقيق ترشيد لمناشط الإنسان، وتحديد لدور قواه المتنوعة العديدة، إزاء فعاليته المتعددة والمتنوعة أيضًا، ومن ثم تأتى دراسة التراث التربوى صحيحة سليمة لتحقيق المنهج الخلافى للإنسان على الأرض لتحقيق الغاية التى خلق الإنسان من أجلها .
إن الانطلاق من هذه النقطة ، والتى تشكل جزءًا مهمًّا من الإطار المعرفي تهييء للتراث التربوى أمرين أساسيين هما:
الأول : انطلاقة فاعلة للبناء والتركيب.
الثاني: قاعدة فكرية للنقد والحوار الملتزمين .
وكلا الأمرين الأساسيين لأى عمل تربوى رشيد يستهدف الارتقاء بالإنسان روحيًّا وماديًّا لتحقيق الأمانة الاستخلافية .
– الاستناد إلى مبدأ التكافل بين الأبعاد الإنسانية المتعددة ، انطلاقًا من النظرة الإسلامية للإنسان في شمولية وجودية، وفي تكاملية أبعاد التكوين، والتى تضم البعد الجبلي الفطري وما يتطلبه من حاجات ضرورية لاستمرار الحياة، والبعد العقلي وما يضمه من قدرات إدراكية وتعبيرية وإبداعية ، والبعد الخلقي وما يتطلبه من التزام بالعلاقات الصحيحة بين الإنسان وأخيه الإنسان، والالتزام بقيمة التقوى والتراحم والإحسان والعدالة ، والبعد الروحي وما يتضمنه من صلة ووصل بين الخالق والمخلوق، والبعد الاجتماعي وما يتضمنه من ضرورة المعاشرة الاجتماعية حسب قواعدها، ومن تأكيد لشبكة العلاقات الاجتماعية، والبعد الجمالي وما يتطلبه من التعبير الطيب عن الخبرة الجمالية في حياة الإنسان .
– الاستناد العاقل إلى الصيغة التكاملية بين أبعاد التكوين الإنساني يرشد النظر إلى التراث في حواره مع اتجاهات المعرفة التربوية ، ولا يقصره في رؤية أحادية للإنسان، بل ويتيح أمامه تنوعًا وتعددًا في الأبعاد في صورة متكاملة لأن الرؤية الأحادية غالبًا ما أوقعت في أخطاء وأخطار معرفية تربوية أدت إلى شلل في فاعلية الإنسان ، وقد حان الوقت للتخلص من هذه الأخطاء والأخطار من أجل بناء إنسان سليم جدير بتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.
– التحديد الواضح لعلاقة الإنسان بخالقه، وما تتضمنه من معاني العبودية الإيجابية ومظاهرها طبقًا للتصور الإسلامي الصحيح، إلى جانب ما يفرضه الإسلام من تكامل بين مظاهر هذه العبودية، والربط بين العبادة والعلم، وهذا التحديد ضروري لدراسة تراثية جيدة إلى جانب إفادته في طرح فكر تربوى ومعرفة تربوية صحيحة .
إن عمل الدارس للتراث في هذا المجال هام جدًّا، كما يتمثل في توضيح خطورة غياب مفهوم العبادة عن العمل التربوى والمعرفة التربوية ونقد الاتجاهات التربوية في هذا المجال وتوضيح أبعاد الأزمة الروحية في حياة الإنسان المعاصر، ونتائجها، ودور المعرفة الإيجابي والسلبي فيها، للتوصل إلى مفاهيم تربوية جديدة يؤدي طرحها إلى تعديل مسار المعرفة التربوية التى لخصت العمل التربوي كله في مجرد إعداد الفرد للإنتاج والاستهلاك في الأرض دونما أي اهتمام بأشواق الإنسان الروحية ، ومصير الإنسان بعد تلك الحياة الأرضية[14].
– التحديد الواضح لعلاقات الإنسان بالكون أو الطبيعة ، وما تتضمنه من معاني التسخير وعلاقات المودة بين الإنسان والطبيعة وقواها، وطريقة التعامل معها طبقًا للتصور الإسلامي الصحيح ، للوصول إلى أفضل صورة فاعلة لعلاقة الإنسان بها ، وهذا جانب مهم جدًّا لإيضاح جوانب النتاج الحضاري المتفاعل بعلاقات الإنسان هذه.
وعمل التحليل والتفسير التراثي هنا، نقد اتجاه المعرفة التربوية المعاصرة التى تكاد تؤكد على أن العلاقة القائمة بين الإنسان والطبيعة علاقة قهر واستعلاء ، وإخضاع لإمكانيات العقل الإنساني ، والتى أدت إلى أسوأ الآثار في الطبيعة وفي حياة الإنسان على السواء، وبناء علاقات رشيدة على أساس من التصور الإسلامي الصحيح .
– التحديد الواضح لعلاقة الإنسان بالإنسان في إطار المجتمع الإسلامي والعالمي على أساس شبكة العلاقات الاجتماعية التى أرساها الإسلام، والتى تضبطها مجموعة القيم الإسلامية، لها دور الفاعل في حماية حياة الناس من المفاسد، وتحقق مصالحهم الكلية على أساس من المحبة والتعاون والعدل والإحسان، وتفرض على الإنسان واجبات عليه أن يؤديها قبل المطالبة بحقوقه، فهي تصون حقوق الجماعة والفرد على السواء بحيث يتحقق الانسجام والاتساق في السلوك الجمعي والفردي ، وهذه القيم هي الضابط لحركة التربية في تنميتها السلوك الإنساني، وليس هناك شيء أضر عليها من انتحال ضروب السلوك والقيم بدافع التقليد والإعجاب ، والذي يشكل نوعًا من عدوى القيم الذي يعتبر تناقضًا معياريًّا فاضحًا ، يؤدى في النهاية إلى الإضرار بالمعرفة التربوية والعمل التربوى كله، ومن ثم كان من اللازم ضرورة توفير حد أدنى من الشرط الوقائي لضمان سلامة الأمة بضمان سلامة عملها التربوي من تسرب التناقضات وأسبابها إلى المعرفة التربوية وهياكلها، والممارسات التربوية ومساربها، ومن هنا فإن عملية النقد التربوي الملازمة لدراسة التراث التربوى يجب أن تضطلع بهذه المهمة الجليلة . وهي تنقية القيم الإسلامية من الدخائل الضارة ، ورد هذه القيم إلى أصالتها، لحماية سلم القيم من الانحراف ، فلا تبقى الأمة الإسلامية مهددة بالغزو الأجنبي القيمي مما يؤدى إلى عواقب جسيمة في بناء الأمة ، وفي تربيتها .
– التحديد الواضح للمعرفة غايات وأهدافًا ، على أساس من تصور إسلامي صحيح، الأمر الذي يكامل بين نتائج المعرفة وحقائقها : أي بين كافة العلوم التى توصل إليها الإنسان في إطار وحدة المعرفة مصدرًا وهدفًا ، وإن اختلفت في المنهج، فهي كلها تؤدى إلى ازدهار وسعادة الإنسان ، إن صيغة التكامل هذه ضرورية لضبط سعى الإنسان نحو الغاية التى خلق من أجلها، أما حين يسوء فهم طبيعة المعرفة، فإن خطرًا يهدد العلوم والتقدم كما حدث في المجتمع الإسلامي في الفترات المتأخرة ، وما زال سوء الفهم يفرز مضاعفاته في المجتمع الإسلامي المعاصر، مما أدى إلى انحطاط وقعود عن الحركة الحضارية، وقصور من العلم والعلماء عن مواجهة المشكلات الداخلية والخارجية لهذا المجتمع، وفي التراث الإسلامي جوانب ضعف كثيرة في هذا المجال بالذات، ويحتاج دارس التراث أن يظهرها ، ولا يخاف في ذلك لومة لائم .
وإزاء كل هذا فإن من الأمور التى تزيد فعالية ممارسة عملية دراسة التراث التربوي ونقده الاستناد إلى نظرة معرفية أصيلة تستطيع على ضوئها تقويم المناهج المختلفة التى تقدم للناشئة ، وبطريقة تكاملية، تحقيقًا لنوعية تربوية جيدة ، وتستطيع عن طريقها تحرير البحث في التربية بحيث يصبح عملاً إبداعيًّا يحدد المفاهيم ، ويطور المناهج والأهداف على ضوء من المعطيات التاريخية والنفسية الصحيحة المعبرة عن خصوصية الأمة الإسلامية ، وهذا من الخدمات الجليلة التى تسديها دراسة التراث التربوي ونقده .
– التحديد العلمي الصحيح للتغير الاجتماعي والصيرورة الاجتماعية ، وما يتطلبه ذلك من فهم جيد وواع للزمن وقيمته، والتجربة التاريخية التى مرت بها الشعوب والمجتمعات الإسلامية ، وكذا فهم البناء الاجتماعي والتغيرات التى لحقت به ، وكذا الانساق الاجتماعية المكونة للبناء وما أصابها من تغيرات وتطورات ؛ ذلك لأن فهم دور التراث التربوى في تشكيل المجتمع الإسلامي المعاصر لا يتأتى بدون الفهم الواعي المتكامل لما صارت إليه أحوال هذا المجتمع ، والعوامل التى أدت إليها من داخله وخارجه، وكذلك الفهم الكامل لسنن الله في المجتمع الإنساني، وقواعد التغيير وقوانينه والتى أوضحتها آيات القرآن الكريم السنة النبوية المطهرة، وكتب فيها الباحثون، ومع أهمية ما كتبوا إلا أنه يحتاج إلى صياغة علمية في ضوء ما توصل إليه بعض علماء الاجتماع من نتائج جادة مخلصة وواعية.
وعلى هذا، فإنه تبدو الحاجة ماسة وقائمة للدراسة الناقدة للتراث التربوي وتمييزه لأصول التغير الاجتماعي وسننه حتى يمكن تمييز الفكر والمعرفة التى يمكن أن يكون لها فاعلية في التغيير من السئ إلى الحسن في مجالات الفكر والمعرفة وفي مجالات العمل والسلوك، وفي غير ذلك من المجالات .
ومهما يكن من أمر فإن هذا الإطار المعرفي يأتى في ضوء خصوصية المجتمع الإسلامي والنوعية التربوية التى يريدها، من ثم تأتى الممارسة البحثية للمعرفة التربوية الماضية والحاضرة في ضوء هذا الإطار واضحة الأهداف والغايات، فلكل مجتمع تصوره ونظرته ورؤيته التى يفهم فقًا لها كل شيء ويقيمه، وهو الذي يحدد معالمه ويربط بين معارفه، يملى منهجيته ، وبوجه التربية فيه ، بل ويملي مناهج النقد الحوار التربوي وأهدافه .
من خلال ما تناولناه يمكننا الآن تقديم مجموعة من الأسئلة المعيارية المفيدة في ممارسة دراسة ونقد التراث التربوي الإسلامي على حد سواء .
– ما الأصول التى استند إليها هذا التراث؟ وما مدى توافقها مع المعطيات العربية الإسلامية الأصيلة؟
– ما النوعية التربوية التى يبشر بها هذا التراث صراحة أو ضمنًا؟ وهل تتطابق مع الأهداف الإسلامية للحياة؟ أو ماذا يمكن الإفادة منها في هذا المجال؟
– ما الأبعاد الحقيقية للنوعية التربوية؟ وما مدى تطابقها أو مخالفتها لمعطيات الحياة في المجتمع العربي الإسلامي الذي ضم هذا التراث؟
– هل تلتزم المعرفة التربوية الماضية بصيغة التكامل بين الأبعاد الإنسانية؟ وما الأبعاد التى ركزت عليها وما تلك التي أهملتها إن لم تراع التكامل؟
– ما الصورة التى عرضتها الدراسات التراثية لعلاقة الإنسان بخالقه؟ هل هي علاقة فاعلة أم علاقة سكونية؟ وما الممارسات التربوية التى تعرضها في هذا المجال ؟
– ما الصورة التى يتبناها هذا التراث لعلاقة الإنسان بالكون؟ وما النتائج التى يمكن أن تترتب على هذه النظرية في تحديد وتكوين النوعية التربوية ؟
– ما العلاقة التي يدعمها التراث التربوي بين الإنسان وأخيه الإنسان اجتماعيًّا واقتصاديًّا وخلقيًّا وسياسيًّا؟ وما نوع القيم التى أسند إليها؟ وهل تحقق المقاصد الكلية والمصالح العامة للمجتمع الإسلامي؟
– ما النظرية المعرفية التى يستند إليها هذا الكتاب أو الكاتب التراثي ويبشر بها؟ وما مدى تعبيرها عن المعطيات الإسلامية في هذا المجال؟ وما النتائج التى ترتبت أو يمكن أن تترتب على تطبيق هذه النظرية في المجتمع والأفراد؟
– هل راعى الكتاب أو الكاتب أو القضية التراثية قوانين الصيرورة الاجتماعية والضرورة التاريخية أم أنها تضرب في عالم المثاليات ، أو في الواقع غير الواقع الذي يمكن أن تعيش فيه؟
ب – الإطار الدلالي :
كل مجتمع له تصوره ورؤيته التى يستطيع عن طريقها فهم العالم، وله لغته المعبرة عن هذا التصور أو الرؤية، فتعكس خصوصية هذه الرؤية في هذا المجتمع، وإذا كان مجال اللغة العلمية في مجال العلوم الطبيعية يكاد يكون واحدًا، فإن الاختلاف واضح في مجال العلوم الاجتماعية والتربوية، وكذلك مفاهيم الحضارة، وهذا يعنى خصوصية اللغة التى تكتب بها المعرفة التربوية ، فضلاً عن تطور الدلالة من مجتمع إلى مجتمع، ومن عصر إلى عصر آخر ، وما لم يكن الباحث التراثي على دراية تامة باللغة وتطور دلالتها فربما وقع في أخطاء علمية جسيمة .
الحديث هنا لا ينصب على اللغة بعموم، فهذا له تخصصه ، وله رجاله، ولكنه ينصب في الأساس على الأمور التى تهم وتتصل بطبيعة المعرفة التربوية، وأركز البحث على نقطتين :
الأولى : اللغة باعتبارها وسيلة نقل الفكر والمعرفة التربوية .
الثانية : المصطلحات التربوية والاتفاق عليها ومعرفتها .
وهذان أمران لازمان ضروريان لأي ممارسة دراسية للمعرفة التراثية ، ذلك أن كثيرًا من النقد والحوار قد يأتيان بلغة غير مفهومة فيفقدان جدواهما ووظيفتهما، ومن هنا تبرز أهمية ما أسميه بالإطار اللغوى لدراسة المعرفة التراثية التربوية، إن هذه الدراسة وهذا النقد يمارسان إما على نص مكتوب بحثًا أو فكرًا ، أو على نتائج ممارسة تربوية تعبر عنها اللغة ، وفي كلتا الحالتين فإنه ما لم يحط الممارس الدارس للتراث التربوي باللغة فإنه يفقد طريقه حتمًا .
بالنسبة للأمر الأول : فإن اللغة هي الوسيلة الأساسية للتعبير عن الأفكار ونقلها للغير، ولكل نظام معرفي لغته التى يتم عن طريقها توصيل المعرفة، ولذا فأهمية اللغة لا تخفى، ودورها الفاعل لا يخفى بالنسبة للفكر والعلم والمجتمع باعتبارها أداة التواصل الأساسية التى لا يتم نقل المعارف والأفكار بل وإنتاجها والتعبير عنها إلا بها، كما أنها تعكس الجانب العملي في الحياة، فالكلمة تكون في خدمة العمل وأداة للممارسة، والكاتب يحاول إقناع الآخرين بأفكاره عن طريقها .
وبقدر ما تكون اللغة المعبرة عن الفكر ناضجة وغنية ومستوعبة للخبرة، فإنها تكون أداة تعبير جيدة توصل الفكر بطريقة سليمة، بل وتساعد على انتشاره، والعكس صحيح، إن وضوح اللغة في الإفصاح عن الفكرة وصدق تعبيرها عن الواقع باندماجها، وانعكاس الصيرورة الاجتماعية على اللغة، يدل على حيويتها وقدرتها على الاستمرار والتجدد . أما حين تنعزل عن الواقع وتعجز عن التعبير عنه وعن الخبرة الاجتماعية والتاريخية للمجتمع، فإنها تفشل فشلاً ذريعًا في التعبير عن الفكر وتوصيله إلى الناس .
والتعبير عن الفكر يعنى كيفية استخدام المفردات اللغوية والأبنية النحوية، كما يشمل أيضًا عمليات صياغة الفكر وتنميته وعرضه عرضًا جيدًا حتى يبدو في صورة عمل شمولي كامل بما يحيط به من بواعث ويدخل فيه من مكونات .
والمعرفة التربوية باعتبارها قضية تهم كل أفراد المجتمع لا قطاعًا واحدًا بعينه، لابد أن تكون لغتها واضحة سهلة التناول، معبرة عن المثل الأعلى الذي تطمح التربية إليه ، وعن واقع التربية ، بعيدة عن التقعر والتكلف اللذين يبعدان الفكرة التربوية عن واقع الناس بعدًا يجعل الناس يظنون أن لغة الفكر التربوي ليست لغتهم ، ولا قضاياها تهمهم، والإغراق اللفظى في لغة بعيدة عن لغة الناس أمر يفقد الفكر دوره الريادي في حياة الناس .
وإذا كان ثمة خصائص لأسلوب المعرفة التربوية وقضاياها فإن دراسة التراث التربوى المتعلق بها يستلزم معرفة أساسية باللغة العربية ، حتى تأتى الكتابة عنه تعبيرًا سهلاً ميسورًا يراعي الأصول والقواعد وغير بعيد عن فهم الناس، ولقد مر زمن على المعرفة التربوية كانت تكتب فيه بلغة غير مفهومة ، مما أضفى عليها صفة التعقيد، فتسبب ذلك في ضياع الوعي التربوي لدى الناس، ولا ينبغي أن يفهم من هذا أنه دعوة إلى تبسيط مخل للغة يصل إلى استخدام العامية، ولا تعقيد يصل إلى استخدام أسلوب النقد الأدبي في دراسة النص التربوي ، وإن كان مطلوبًا أحيانًا .
وإذا كان علماء العربية القدماء في حرصهم على اللغة العربية يستعملون النقد في مواجهة انحراف الاستخدام اللغوي، والتعبير عن الفكر ،وعدم فهم المعاني والدلالات اللغوية، حرصًا على كتابة أصيلة باللغة العربية[15]، فالأمر اليوم أصعب بكثير مما كان عليه في مجتمع هؤلاء العلماء، وحيال هذا الوضع فإن دارس التراث التربوي عليه أن يحيط علمًا باللغة ، وبأصول الكتابة العلمية، والآلات اللغوية[16]، واستخدام الألفاظ وفنيته ، وتطور الدلالات اللغوية، والمعجم اللغوي الذي يستخدمه التراث في تلك الفترة أو ذاك المجتمع، وقد وصل البعض إلى دراسة المعجم اللغوى عند بعض الأفراد من المساهمين في كتابة التراث، هذا أمر جيد يساعد على فهم اللغة التى كتب بها هذا التراث.
إن لكل لغة خصائصها ودلالاتها، وليس الأمر تركيب ألفاظ وأبنية بقدر ما هو توضيح للمعنى ، أما عملية الوصف والتقعيد دون بيان ودون إيصال للمقصود فهو أمر ينافي أبجدية الكتابة العلمية ، ولذا كان لابد للممارسة النقدية التراثية أن توضح هذا وتحلله في إطار يشمل : حدود التعبير والذي يضم: فن الكتابة ، وطبيعة الباحث أو الكاتب ، وشمولية العمل بحيث يعبر عن موقف كلي، وحدود وسائل التعبير وما يتضمنه من : أبنية نحوية، وإجراءات التركيب اللغوي ، وشمولية الفكر وطبيعة التعبير، وما يتضمنه من قيم متنوعة يريد إيصالها، ومصادر التعبير الحسية والاجتماعية، والوظيفة ومظهر التعبير .
وبالنسبة للأمر الثاني والخاص بالمصطلحات المستخدمة ، فنحن نجد أنفسنا أمام نظريتين :
الأولى : إذا نظرنا إلى أي مصطلح من المصطلحات باعتباره ((وعاء)) يوضع فيه مضمون من المضامين وبحسبانه ((أداة)) تحمل رسالة ((المعنى))، فسنجد صلاحية الكثير من المصطلحات والألفاظ الاصطلاحية لأداء دور ((الأوعية)) و((الأدوات)) على امتداد الحضارات المختلفة، والأنساق الفكرية المتعددة ، والعقائد والمذهبيات المتميزة.
الثانية : إذا نظرنا إلى هذه الألفاظ والمصطلحات من زاوية ((المضامين)) التى توضع في أوعيتها ، ومن حيث ((الرسائل الفكرية)) التى حملتها ((الأدوات المصطلحات)) فسنكون بحاجة ماسة وشديدة إلى ضبط وتحديد نطاق الصلاح والصلاحية التى يشيع عمومها من عموم ما تحمل من ألفاظ .
هنا سنجد أنفسنا عند الفحص والتدقيق وفي كثير من الحالات وخاصة عند دراسة التراث الفكري، بإزاء العديد من المصطلحات، وأمام ((أوعية)) و((أدوات)) مشتركة بين الحضارات والأنساق الفكرية والعقدية والمذهبية ، وفي ذات الوقت أمام ((مضامين)) خاصة و((رسائل)) متميزة تختلف فيها ، وتتميز بها هذه ((الأوعية)) العامة و((الأدوات)) المشتركة لدى أهل كل حضارة من الحضارات المتميزة، وعند كل نسق أو عقيدة من الأنساق والمذاهب الاجتماعية والعقائد الدينية ، وخاصة منها تلك التي امتلكت وتمتلك من السمات الخاصة والقسمات المميزة ، ما جعلها ويجعلها ذات مذهبية خاصة وطابع خاص[17].
وأمام تحديد القضية بهذا الشكل ، فإننا نجد في التراث التربوي استخدامًا لمصطلحات عامة درج عليها الفكر، وتأثر بها واستخدمها الفكر التربوي، ولتحديد مصطلح من هذه المصطلحات يجد الباحث نفسه مضطرًا لاستشارة قاموس عربي باحثًا عن مضمونه، وتصطبغ أبحاثه ودراساته بهذا المضمون، وفي هذا المجال نجد إلى جانب ما سبق أمورًا أخرى، كالاختلاف في تحديد المصطلح في مجال العلوم الإنسانية بعامة، مما ينسحب أثره على المجال التربوى .
إن هناك تضاربًا وتناقضًا واضحًا في مجال استخدام المصطلحات في مجال دراسة التراث التربوي وفي بعض مجالات التراث التربوي، ويعود هذا – في جزء كبير منه – إلى اختلاف النظرة أو الرؤية التي قدم بها الباحثون مصطلحات التربية، مما يزيد من صعوبة فهم التربية العربية الإسلامية في مجتمعها، إلى جانب صعوبة فهم التراث التربوي، مما يؤكد ضرورة طرح معجم موحد للتربية وعلم النفس، لا يكون همه الأول إيراد المترادف للغة الأجنبية فيما ترجم عنها من مصطلحات خاصة به .
وإلى أن يحدث هذا فإن الدارس للتراث الفكري التربوي ينبغي أن يعتمد على مصطلحات العمل الخاضع لعملية الدراسة والنقد التى يحددها صاحب العمل الفكري في سياقاته الفكرية، موضحًا النتائج والآثار المترتبة على الأخذ بهذا المصطلح أو ذاك، في إطار توافق هذه المصطلحات مع خصوصية الإطار الاجتماعي والاقتصادي ، والدلالات اللغوية العربية وتطورها .
وأيًّا كان الأمر، فإن لغة موحدة يجب أن تربط بين نتاج المعرفة التربوية في التراث وبين الناقد والعمل التربوى حتى تتم الدراسة على أسس موضوعية منهجية سليمة، ومثل هذا الأمر يجنب الكثير من الوقوع في أخطاء وتعميمات غير مبرهنة ومبتسرة أحيانًا .
ومن خلال كل هذا نلاحظ أن الإطار اللغوى أمر هام في سبيل ممارسة دراسة التراث التربوى تحليلاً ونقدًا بطريقة منهجية ، ويمكن أن يسهم إسهامًا فاعلاً في صياغة نموذج دراسة التراث في شكل أسئلة تأتى كما يلي:
– هل لغة المعرفة التربوية في التراث وفي الدراسة المتعلقة به واضحة ، سليمة مفهومة ؟ أم أنها غير ذلك ؟
– هل لغة المعرفة التربوية التراثية تستخدم الدلالات اللغوية السليمة ؟ أم أنها تستخدم دلالات لا تنتمى إلى عصرها مما يعقدها ويجعلها غير مستساغة؟
– هل اللغة السائدة في المعرفة التربوية التراثية تعكس أصالة اللغة العربية؟ أم أنها ما زالت تقف عند حفريات لغوية عفا عليها الزمان ، وأن فيها افتئاتًا على قواعد هذه اللغة وأصالتها ؟
ج – الإطار المنهجي:
والمقصود من الإطار المنهجي طريقة التفكير التى اتبعت في دراسة التراث والمعرفة التربوية ، أو ما يسمى بمنهج البحث، وتعود أهميته إلى أنه يرشد الفكر إلى أهدافه بطريق مستنيرة ، وهذا الإطار يعكس كافة الأطر السابقة، بمعنى أنه يعكس المنهجية العلمية في هذا المجال لأنه ينطلق منها ويعكس شروطها .
وقد طرحت مفاهيم عديدة لمناهج البحث كلها تدل على استخدام الطرق والأساليب العلمية ، أو الإسهام في حل مشكلات عملية معينة في الحياة ، أو أسس وممارسات وإجراءات تطبق على مجال محدد من مجالات العلم .
وأيًّا كان الأمر في التعريف ورصد المناهج المتعددة المستخدمة في مجال البحث التربوى، فإن مسألة استخدام المنهج في دراسة التراث الفكري ترجع إلى عدة أمور كطبيعة الموضوع المدروس وطبيعة الباحث، مما يعنى أن كل دراسة تراثية في التربية يجب أن تكون نسيج وحدها ولها خصوصيتها .
والمتفحص لدراسات التراث التربوي في المجتمع العربي الإسلامي يجد ركامًا، منه الملتزم بإطار منهجي، ومنه المتجاوز للإطار المنهجي فتأتى الدراسة أقرب ما تكون إلى الخواطر والخطابة والكتابة الإعلامية ، ومنه الملتزم التزامًا حادًّا بإطار منهجي معين كما ولده الفكر الغربي، وبالرغم من أن هذا ليس عيبًا في ذاته، وإنما يأتى الخطر من التزام المحدودية الغربية السائدة في مناهج البحث وهي وليدة بيئة غير البيئة التي ينتمى إليها هذا التراث .
وعلى أي حال فإن خطوطًا عامة ضرورية وهامة في التزام المنهج العلمي تأتى في شكل إطار عام لاستخدام الممارسات المنهجية ، وتأتى كما يلي:
1- العرض الشامل للموضوع أو الكتاب أو القضية :
إن أي دراسة أو كتابًا يتناول جانبًا من التراث ويقدر له أن يسهم في إثراء المعرفة التربوية، يستلزم عرضًا شاملاً لمعطيات هذا الجانب في عصره، وكما تناوله المؤلفون بحيث يكون العرض مستوعبًا ، محيطًا بكل خصائصه ومكوناته، مدركًا للعلاقات الرابطة بين أجزائه وبين ما يحيط به من عناصر، وأهم تلك العناصر وعوامل وجودها، أن الحرص على توضيح جميع معطيات الموضوع يشكل عاملاً معقدًا وأكثر تعرضًا للنقد والضعف، خاصة حين تتداخل عوامل الذاتية والهوى، مما يؤدى إلى التحيز في العرض، كما يؤدى الخوف من الحقيقة والهروب منها إلى تزييف معطيات الموضوع، أو الاقتصار على جانب دون جانب، وفي كل الأحوال فإن العرض يأتى ناقصًا . وكذلك التعصب الأعمى يؤدى إلى نفس النتائج .
ولئن كان هذا العرض شرطًا أساسيًّا لتقييم الفكر التراثي الفاعل، فإنه يكون معقدًا كلما كان الموضوع المدروس معقدًا، وعرض الموضوع كما هو واضح يتضمن تحديد القضية التراثية أو القضايا تحديدًا عمليًّا وعلميًّا موضحًا الأبعاد التربوية والثقافية ، عمومًا فإن العرض الشامل للموضوع يعني :
– تحديد الموضوع المدروس بدقة بشكل لا يتيح الفرصة للبس أو الغموض.
– الإحاطة بخصائص الموضوع وعناصره ، وعوامل تكوينه ، والعلاقات القائمة بين هذه العناصر من ناحية ، وبينها وبين العناصر الخارجية من ناحية أخرى .
– عرض الدراسات السابقة التى قد تكون تناولت الموضوع أو الكتاب وإظهار الجوانب التى تلقى الضوء على الموضوع ، مع توضيح خصوصية الموضوع .
– تجنب الذاتية والهوى في عرض الموضوع حتى لا يتأثر الباحث بانتقائية ضالة مضلة ، إلا إذا كانت هذه الانتقائية بعيدة عن الهوى وتفيد في تحديد الموضوع .
2- الاستقراء الشامل لبيانات الموضوع وجزئياته :
يقصد بالاستقراء في المنطق العلمي: دراسة بعض الجزئيات والوصول منها إلى حكم ينطبق عليها وعلى غيرها، وهذا صحيح، ونحن هنا نستخدمه بمعنى أوسع بحيث يعنى : الجمع الوافي للمادة العلمية حول موضوع البحث، إما بطريق استقراء المادة المكتوبة أو غير ذلك من أدوات البحث، حسب طبيعة الموضوع، حتى يتم الفهم الصحيح للجانب أو الموضوع موضع الدراسة .
إن استقراء الجزئيات والملاحظة المباشرة وغير المباشرة مكتبيًّا أو ميدانيًّا إنما يكون مقدمة لجهد ضروري ومهم وهو التركيب المنطقى للأمور، بحيث يتم الربط بين مختلف العلاقات، بين المقدمات والنتائج، بين الظواهر وأسبابها، بين الفروع والأصول، وحينئذ يتم البناء المنطقى للموضوع، ومن ثم يمكن استنباط أحكام.
إن مجرد الوصف لا يعنى استقصاء الظاهرة، ولايغنى عن التحليل والاستنتاج والاستنباط والتفسير والمقارنة والاستدلال لفهم الظاهرة ، وإن حشد المعطيات دون الاستخدام الصحيح للاستقراء المنهجي، وكذا استخدام الاستقراء دون تطبيق الاستنباط المتوالى من معطيات الاستقراء يجعل البحث في التراث مجرد عملية وصفية، وتأتى أحكامها ونتائجها غير مقبولة منطقيًّا وعقليًّا ؛ لأنها تحكم على الظاهر من خلال ظاهره فقط، وعلى الباطن من خلال الظاهر وإن غايره، وتحكم على الغائب من خلال الحاضر وإن ناقضه . وهذا يقلل من جدوى البحث في التراث التربوى، ثم إنه يبتعد بالظاهرة عن معطيات مجتمعها وصيرورته ، وهذا أمر يبعد التربية كلها عن التجربة التاريخية للمجتمع العربي الإسلامي .
والاستنباط باعتباره عملية انتقال الذهن من قضية أو عدة قضايا مسلم بها إلى قضايا أخرى هي النتيجة وفق قواعد المنطق فإنه يتم على ضوء العرض الشامل لمعطيات الموضوع واستقراء بياناته ويقوم على أساس من أحكام العلاقة الاستدلالية بين الأصل وما يتفرع عنه، فلا تصبح النتائج منافية للمقدمات ولا يتجاوز الحكم على الشيء حدود مصادره الأساسية وهو يتلازم مع الاستقراء، وإذا ما تم بصورة صحيحة فإنه يجنب البحث في التراث التربوى الإغراق الوصفى والانعزال والسطحية ويسلمه من الشوائب التى تعلق به كالشك والغموض والالتباس وضعف الفاعلية .
وليكون للاستقراء والاستنباط فاعلية مقبولة فإنه ينبغي ممارستهما بطريقة صحيحة في دراسة التراث الفكري التربوي، ومن المعايير الأساسية الضابطة لهما ما يلي :
– التقيد بمعطيات الموضوع أو الظاهرة المدروسة أو الكتاب أو القضية المعروضة وخصائصها ومميزاتها .
– التمتع بالقبول لكونه صحيحًا منطقيًّا أو شرعيًّا أو تاريخيًّا أي بناء على أدلته، والأدلة تختلف باختلاف طبيعة الموضوعات والظواهر .
– أن يبنى على أساس من منهج أو نظرية أو نسق فكري أو منظومة معرفية لضمان توفر القواعد المشكلة لمعايير الصحة والبطلان للفهم الصحيح، وأي استنباط لا يتخذ من الفهم الصحيح لمقتضيات ومعطيات الموضوع قاعدة له لا يصح؛ لأنه قائم على فهم خاطئ .
– أن يصدر عن قناعة علمية قوية تقويها أدلتها الصحيحة وثبات براهينها؛ إذ لا يجوز إصدار الأحكام بدون أدلة ولا إقرار النتائج بدون المبررات .
– ولابد للباحث من التأكد من صحة معلوماته وبياناته ومعطياته، إما بصدق روايتها أو صحة معاييرها، وكذلك لابد له من عزل العوامل غير المهمة أو التى لم يتوفر لدى الباحث مادتها بقدر يسمح له بدراسة تراثية دقيقة .
– المقارنة:
وقد يستخدم الباحث المقارنة لتأكيد نتائجه، ولا يخفى ما للمقارنة من فوائد، وقد تستخدم بطريقة عفوية أو بطريقة قصدية في الدراسة، ولكن لا يمكن الاستغناء عنها، ولكنها غير ملزمة كضرورة بحثية تراثية إلا حين تقتضى طبيعة الموضوع ذلك .
ويقصد بالمقارنة ((إبراز وتفسير أوجه الشبه والاختلاف بين المتغيرات موضع الدراسة )) وهي جهد يبذل للموازنة بين منظومات الحقائق لإدراك الفروق بين الكليات وما يمكن أن تتماثل فيه وتتشابه وأسباب ذلكم التغاير والتماثل، وهي بهذا تعتبر مكملة للاستقراء والاستنباط، وتقتضى المقارنات دراسة الموضوع التراثي داخل المنظومة المعرفية التى ينتمى إليها لأن دراسته خارج المنظومة لا تؤدى إلى نتائج أو حلول علمية صحيحة، ثم تأتى المقارنة بين الموضوع ومثيله لا كجزئيات منفصلة بل كامتداد للمنظومة ككل، وتأتى هنا ضرورة الالتزام بالقواعد المنهجية للمقارنة لتأكيد سلامة المقارنة وصحة نتائجها، وهذه أهمها :
– احتواء الموضوعات التراثية المدروسة على نقط اختلاف ونقط التقاء لتسهل المقارنة .
– تجنب إجراء مقارنات مصطنعة أو مفتعلة لأنها تشوه الظواهر والموضوعات محل المقارنة . بمعنى آخر: إنه لابد من توفر الدقة في المقارنة .
– الاعتماد على إطار فكري يتضمن المفاهيم المترابطة التى يمكن تطبيقها على القضايا موضع الدراسة، أي أنه لابد من الوضوح الكامل للموضوع المدروس ومتغيراته وجوانبه ومشكلاته .
– الاعتماد على خضوع الظواهر موضع المقارنة لمدخل بحثي واحد كأن تكون في إطار المدخل التاريخي أو التحليلي أو المتكامل توخيًا للدقة العلمية.
وبهذا يمكن القول: إن كافة الموضوعات وكافة ألوان المعرفة التربوية التراثية تخضع للمقارنة، حتى أنه يمكن القول: إن المقارنة خطوة هامة في كافة هذه المجالات، سواء كانت عبر المكان أو الزمان .
د – التوصل إلى نتائج الدراسة التراثية:
إن الجهد البحثي أيًّا كان موضوعه لابد أن ينتهى إلى نتائج أو حلول للمشكلة المدروسة، وإلا فقد البحث مبرراته وأصبح من قبيل العبث ، من هنا تأخذ هذه المرحلة أهميتها . وتأتى النتائج بعد التحقيق والعرض والتحليل والتفسير والاستقراء والاستنباط، ومن ثم لابد وأن تكون متوافقة مع عرض الموضوع مترابطة معه، وفي نفس الوقت لا تتعارض مع الأحكام التى توصل إليها الباحث .
وفي عرضها يجب أن تكون دقيقة مقنعة عن طريق تحليلها تحليلاً جيدًا ومعها أدلتها المتوافقة مع طبيعة الموضوع لكي تضمن مصداقيتها وتسهم إسهامًا فاعلاً في تحقيق أهداف التربية وفي نمو المعرفة التربوية الموافقة للمجتمع العربي الإسلامي والتى تسهم في نموه وتغييره إلى الأحسن ومتوافقة مع معايير هذا المجتمع ومعطياته .
ذكرنا هنا ملامح عامة عن الإطار المنهجي يمكن أن يفيد منها دارس التراث التربوي في ممارسة النقد الذي يمكن أن يسهم في تقويم مسار استخدام هذا التراث، ولم نتدخل بتفاصيل كثيرة تتصل بفنيات استخدام المناهج المختلفة . والفائدة التى نتوخاها هنا هي الإشارة إلى الحد الأدنى اللازم لأي بحث تراثي منهجي يمكن أن يتصف بالسلامة المنهجية، وفي نفس الوقت يمكن الاستفادة من هذا الإطار العام .
ويمكننا الآن صياغة مجموعة من الأسئلة كمعايير مهمة تفيد في عملية الممارسة النقدية لمناهج البحث المستخدمة في مجال دراسات التراث تأتى كما يلي :
– ما مدى وضوح الموضوع أو القضية المدروسة بحيث لا تتيح الفرصة للبس أو غموض؟ وما مدى صلته بالحاجات الاجتماعية والمنظومة المعرفية للمجتمع العربي والإسلامي ؟
– هل أحاط عرض الموضوع أو القضية بكافة العناصر والعوامل؟ وهل أوضح العرض العلاقات القائمة بين تلك العناصر وبينها وبين بيئتها التى ظهرت فيها ؟
– هل تجنب الباحث الذاتية والهوى في عرض الموضوع أو القضية أو أنه تأثر بهما بحيث أفقده العرض الأمين للموضوع؟
– ما مدى إحاطة البحث بالبيانات المتصلة بالموضوع أو القضية؟ وهل صنفت تصنيفًا موضوعيًّا جيدًا؟
– هل يعكس استقراء البيانات والملاحظات الالتزام بنظرية أو نسق فكري معين يبلور فهمًا جيدًا للموضوع؟ وما مدى درجة وثوقية هذه البيانات؟
– هل استخدم الباحث المقارنة أم لم يستخدمها؟ وإذا استخدمها فهل التزم بالموضوعية و المنهجية في المقارنة أم لا؟
– ما النتائج التى توصل إليها الباحث؟ وما درجة مصداقيتها في ضوء طبيعة الموضوع؟ وما مدى صلتها بالأحكام والبناء المنطقى للبحث؟ وهل حللت تحليلاً وافيًا على ضوء أدلتها؟
– ما مدى ما يمكن أن تسهم به تلك النتائج في نمو المعرفة التربوية؟ وما مدى ما يمكن أن تسهم به في تطوير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والفكري للمجتمع العربي والإسلامي؟
– هل صيغت تلك النتائج بطريقة إجرائية عملية يمكن تطبيقها؟ وهل عرضت عرضًا أمينًا بمبررات اختيارها وضرورة تطبيقها؟
د – الإطار السننى وتحقيق مصالح الناس:
إن المتعامل مع التراث الفكري التربوي وغيره عليه أن يدرك أمرًا غاية في الأهمية وهو يتعامل معه ، وهو أن كافة أشكال التراث لا وجود لها بحق ما لم تدرك السنن التى أودعها الله في خلقه، وما لم تحقق مصلحة الناس في الحياة الدنيا والآخرة .
ولعلنا ندرك هنا أهمية التراث المكتوب وتحقيقه وأهمية إخراجه للناس، لأن كل تلك المؤلفات هي صور ذهنية لأصحابها ، تدور حول موضوع معين له وجود خارجي سواء كان عن الطبيعة أو الإنسان ، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتم النظر إلى الكتاب المخطوط والتعامل معه ليزول ما يمكن أن يؤدى إليه من دعم الخطأ والاستمرار عليه ، ومن يدرك هذا جيدًا فإنه لا يمكن أن يتعامل مع التراث على أساس التقديس له، بل تصير الكتب إشارات وعلامات تدل على مقدار ما توصل إليه تصور إنسان يومًا ، وبهذا الشكل تحمل الكتب التراثية المعنى الإيجابي الدافع لحركة الحياة ، ولا تقوم بدور المعطل المعرقل للبحث في الوجود الخارجي: عالم الوقائع وتحقيق مصالح الناس .
إن المتعامل مع التراث الفكري التربوي في هذه الحالة وبكثرة اطلاعه وتوسعه في القراءة يكتسب موقفًا إيجابيًّا فيضع التراث المكتوب في مكانه المناسب، إنه يضيف إضافات بالغة الأهمية إلى فكره وفكر الناس، ويجعله ينظر أو يعيش في عالم الأفكار لا عالم الأشخاص ، أي ينتقل من الصور الذهنية إلى الحقائق الخارجية . إن الدارس لهذا التراث لا يجب أن يقع أسيرًا لعالم الأشخاص ، فرائده في البحث الحقُّ، ويعرف الرجال بالحق، وليس العكس .
ومن المعايير الأساسية في فهم وتفسير هذا التراث رؤية هامة جدًّا وهي تتصل بفهم السنن التى خلق عليها الكون والإنسان ، وقد أشرنا ببعض الإشارات إلى هذا الفهم في الإطار المعرفي، إلا أنه يجب أن يحظى بعناية وافرة حتى يتضح المعنى ، لأن العلم المكتوب لا معنى له إذا تعارض مع هذه السنن، وإذا كان البعض يحاول أن يعرض لنا فهمًا للسنن، فيعتبر هذه السنن كلمة الله ، ويبرهن على ذلك بقوله : ((فالقضاء والقدر في مفهوم الإيمان هو أن الله تعالى قدر الأشياء قبل أن يخلقها ، فعلم الله وقدره سابق على الخلق، وهذا العلم والقدر هو القانون الـذي قام الوجـود على أساسه))[18] وهذه السنن لا تتبدل ولا تتحول .
ويراها آخر بأنها : ((مجموعة القوانين التى يسير وفقها الوجود كله وتتحرك بمقتضاها الحياة . وتحكم جزئياتها ومفرداتها فلا يشذ عنها مخلوق، وما في الكون ذرة أو حركة إلا لها قانون وسنة)) وتنقسم إلى :
أ – سنة إجبارية : ترجى على كل الكائنات الحية بما فيها الإنسان .
ب – سنة اختيارية : وهي القائمة على مستوى إرادة الإنسان الداخلة في دائرة القدرة الإنسانية ، وما يمكن أن يناله الإنسان أو يسخره في الحياة باستخدام القدرة العقلية وغيره))[19].
إن على الدارس المتعامل مع التراث الفكري الإسلامي ، بل والتراث البشري كله أن يكون على فقه واسع ومعرفة فياضة بالسنن وطبيعتها لأن ذلك يبدو أنه العمل الأساسي في البناء الحضاري للأمم، وأن الجهل بهذه السنن يخرج المنهجية التى يتعامل الدارس من حيث التكاملية إلى التجزيئية الضحلة والتفسير الأحادي الذي يخرج بالتراث عن علميته.
وعلى الباحث أن يدرك أمرين أساسيين في مجال السنن: الأول: أن السنن ثابتة لا تتبدل ، والثاني: أن السنن -كما وردت في القرآن الكريم- إنما تعنى السنن المتصلة بالمجتمع والأنفس {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب : 6).
إن السنة ثابتة ، ولولا ثبات السنة لأدى إلى تعثر حركة الإنسان في الحياة، كما أن هناك سنة كونية وقانون يحكم الحياة الطبيعية ، فهناك سنن تحكم حياة المجتمع والإنسان، ونلاحظ ذلك من خلال كتابات عديدة ، فحين يفتقد العدل الاجتماعي نفقد الاستقرار ، وكذلك اتباع الهوى، وسنة التدافع بين الحق الباطل، وغير ذلك من سنن حاكمة لحركة المجتمع والحضارة[20].
إن وظيفة الوعي بهذه السنن يجعل الباحث ذا نظر ثاقب في دراسة التراث الفكري وتحليله ، وفهم عوامل استمراره، وعوامل انقطاعه ، أو بمعنى آخر: فهم استمرارية تلك الأجزاء المستمدة، ونهاية تلك الأجزاء التى انقطعت، وما لم يدرك ويعي هذا ربما وقع في خطأ فادح وهو دعوته إلى استمرارية أخطاء ما كان يجب أن تستمر .
إن الوعي بهذه السنن يساعد الدارس لهذا التراث على إحراز مجموعة من الأهداف بالغة الأهمية: وهي :
– إعادة بناء الكلمة المتماسكة للتفكير المدروس .
– تحليل التناقضات الفكرية التى وقع فيها المفكر والذي ينتج عن علاج بعض قضايا فرعية في الحياة الاجتماعية والفردية، أو تلك التى وضعها المفكر أو الكاتب إرضاء للسلطات القائمة أو معارضة لها دون وجه للمعارضة.
– تحليل التناقضات الفردية التى قد يقع فيها الكاتب أو المفكر والتى تنتج عن هواه ورغبته في إبعاد بعض المفارقات المتناقضة للواقع .
– تحليل الحدود المرتبطة بالفطرة إلى العالم والمجتمع والتى يمثلها الفكر التراثي المدروس .
– توضيح العلاقات القائمة بين الفكر المدروس والحياة الاجتماعية والاقتصادية وكافة جوانب الحياة .
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للسنن الكونية والاجتماعية ، فإن مما يتصل بهذا الحديث مقاصد الدين في تحقيق مصالح الناس، وهذا أمر على غاية الأهمية ، فإلى أي حد وإلى أي مدى يحقق التراث المدروس مصلحة الناس، كما حددتهما مقاصد الدين ، ويأتى الحديث هنا عبر موضوعين:
– مقاصد الدين .
– مقاصد الشريعة.
إن الدين قد طُرحت له تعريفات متعددة وكثيرة، ومع مناقشة الشيخ محمد دراز هذه التعريفات ونقده إياها خلص إلى تعريف أو مساهمة في وضع تعريف للدين يذهب فيه إلى أنه: الاعتقاد بوجود ذات – أو ذوات – غيبية – علوية ، لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشئون التى تعنى الإنسان ، اعتقاد من شأنه أن يبعث على مفاجأة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة ، في خضوع وتمجيد، وبعبارة مختصرة: هو الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة.
هذا التعريف للدين باعتباره حالة، بمعنى التدين ، أما إذا نظرنا إليه باعتباره قوة خارجية فهو (( جملة النواميس النظرية التى تحدد صفات تلك القدرة الإلهية ، وجملة القواعد العملية التى ترسم طريق عبادتها))[21].
ويذهب ( على عزت بيجوفيتش ) إلى أن الدين المجرد ينبذ أي توجه لتغيير العالم الخارجي أو محاولة جعله عالمًا كاملاً ، وهو يحكم على أي اعتقاد إنساني – بأن تنظيم العالم الخارجي أو تغييره بحيث يؤدى إلى زيادة في الخير الحقيقي – بأنه خطيئه ، أو هو نوع من خداع النفس ، فالدين سؤال كيف تحيا في ذاتك وكيف تواجه هذه الذات ، وليس إجابة على سؤال كيف تعيش في العالم مع الآخرين ، وإذا كان هذا صادقًا بالنسبة للمسيحية ، فإن المادية اليهودية ، هي التى لفتت العقل الإنساني إلى العالم ، وأثارت الاهتمام بالواقع الخارجي[22].
ويرى أن الإسلام تم فيه الامتزاج بين العالم الجواني وعالم الواقع ، بين النفس والعقل، بين التأمل والنشاط ، وهذا يعنى أن الدين يقبل الواقع، وأصبح إسلاما[23]. والذي يؤكد على أن الله خلق الإنسان ليكون سيدًا في الأرض وأن الإنسان يمكنه تسخير الطبيعة والعالم من خلال المعرفة والعمل فقط أي بالعلم والفعل، وتركيز الإسلام على القانون والعدالة يبرهن على أن الإسلام لا يستهدف الفعل الثقافي فقط، وإنما يسعى لبناء حضارة مادية أيضًا[24].
لعل هذا يدعونا إلى تناول تعريف الدين كما عرفه علماء الإسلام القدامي الذين يكادون يجمعون على أنه ((وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول )) بل ويكادون يقصرونه على الإسلام .
وعمومًا إذا نظرنا إلى مقاصد الدين العامة ، كما جاءت في الإسلام فإننا لن نطيل كثيرًا الوقوف عندها لأنها تتمثل فيما يلي :
– دعوة الإنسان إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة ، وتنزيهه مطلقًا بما يليق بجماله وجلاله .
– تأكيد الدور الفاعل للإنسان بكافة فاعلياته واستعداداته ، وليس جانبًا واحدًا من جوانبه ، حتى وإن اجتهد إيقاع الديانات في فهمها وقصرها على جوانب معينة .
– بناء المجتمع على أساس من القوانين السماوية والشرائع التى نزلت من السماء على الرسل والأنبياء بما يضمن سعادة الإنسان في مجتمعه ، وعلى الأرض، في الحياة الدنيا ، وفي الآخرة .
– بناء العلاقات الإنسانية الطبيعية على أساس من تصور صحيح عن الكون والطبيعة وذلك تيسيرًا للممارسات الإنسانية وتصحيحًا لها بما يضمن حسن العلاقة بين المخلوقات جميعًا .
– تجسيد المشيئة الإلهية في التاريخ الإنساني عن طريق إقامة مجتمع لائق عادل .
– تنمية الإحساس بالحقوق المقدسة للشخصية الإنسانية ، كالحق في الحياة، وأن لا يأخذها أحد منه لأنها منحة من الله ، والحق في الحرية ، والحق في المساواة مع الآخرين ، وحق العلم والتعلم ، إنها حقوق مقدسة باعتبار أن مانحها هو الإله بذاته .
وإذا كانت هذه مقاصد الدين ، وإذا كان الهدف الأساسي هو توحيد الله بتوحيد ذاته وأسمائه وصفاته، وهذا هو الهدف الأساسي للدين من لدن آدم عليه السلام وإلى سيدنا محمد j ، فإن الشرائع قد جاءت لتحقيق بقية الأهداف، وقد اختلفت تلك الشرائع حسب مناهجها التي تباينت اتجاهاتها، إذ كان لكل أمة ما يناسب طبيعتها وطورت به حياتها .
قد أشار القرآن إلى هذا الاختلاف في الشرائع في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48) ويرجع كل ما يصدر عن الإنسان إلى أحكام الشريعة الإسلامية ، سواء ما كان في العبادات أو المعاملات أو الجرائم أو الأحوال الشخصية أو كان من أي نوع من أنواع العقود أو التصرفات ، وقد وردت في القرآن الكريم والسنة أو الاجتهاد العقلي، الإجماع والقياس .
إلا أن كل هذا يعود في أصل وضعها إلى حفظ مقاصدها في الخليقة، وتحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها ، إلا أنه لا يلزم من ذلك اعتبار كل مصلحة سواء وافقت مقصد الشارع أو خالفته ، لأنه لابد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع، ذلك لأن المصالح إنما اعتبرات مصالح لأن الشارع وضعها كذلك[25].
وهذه المصالح لم توضع على هوى البشر ومقتضى شهوات العباد وأغراضهم، فالشرائع موضوعة لمصالح العباد وفق أمر الشارع الحكيم ، وعلى الحد الذي سنه وأوجبه ، لا على مقتضيات الشهوة والهوى، إن تكاليف الشريعة إنما ترجع إلى حفظ مقاصدها فيمن نزلت فيهم ، وهذه المقاصد تنقسم إلى ثلاثة أقسام : ضرورية ، وحاجية ، وتحسينية .
والضروريات هي تلك الأمور التى لابد منها لقيام مصالح الدين والدنيا، ولا تستقيم أمور الناس ومصالحهم إلا بها ، فإذا فقدت اختل نظام حياتهم، وانقلبت شئونهم من صحة إلى فساد، وفي الآخرة الرجوع بالخسران والخيبة.
وهذه الضروريات خمسة : الدين ، والنفس، والعقل، والمال، والنسل . وحفظ هذه الضروريات يكون بحمايتها من الاعتداء عليها ، وللحاجات تفسيرهـــا ومعنـاها وكذلك التحسينات[26].
وهذه الأمور ومراعاتها كمعايير ضابطة من أهم الأمور التى يجب أن تكون من ضوابط تناول التراث عمومًا، والتربوى على وجه الخصوص.
إن الشريعة إنما راعت مصالح العباد في سبيل تحقيقها، والأمر كذلك فإن ما في التراث لا يستحق الاهتمام ما لم يحقق مصالح الناس طبقًا لضوابط الشريعة الإسلامية الغراء .
ولعل مما يبرهن على ذلك أن من أخص خصائص المعرفة ارتباطها بقضايا الإنسان والواقع ارتباطا وثيقًا؛ لأنها تتعلق بالوجود الإنساني في علاقاته المختلفة ، فإذا انفصل الفكر عن الواقع الإنساني ومصالحه فإنه يصبح فكرًا فارغًا وصورية جوفاء .
ولا يمكن تصور معرفة تربوية منعزلة عن الواقع ، بقضاياه وتناقضاته ومشكلاته، ومن ثم يكون اتصال هذه المعرفة بالواقع معيارًا من معايير تقويم التراث التربوي، وبتحليل الواقع والتعرف على إشكالياته بدقة يمكن للتربية أن تلعب دورًا فاعلاً إزاء هذا الواقع، وما لم تحلل المعرفة التراثية هذا الواقع وتدرك إشكالياته وتفهمه فهمًا جيدًا على ضوء الصيرورة الاجتماعية التاريخية ، فإنها لن تستطيع طرح حلول فاعلة لهذه الإشكاليات .
وفهم هذا الواقع يبدأ من فهم موقف الإنسان العربي المسلم تجاه واقعه، ومحاولة التراث التربوى تكوين علاقات جيدة للإنسان العربي المسلم مع كافة تكوينات واقعه .
ولقد كان عدم فهم دور التراث التربوي في تكوين الإنسان الفاعل حضاريًّا سببًا أساسيًّا في الكثير من تراكم إشكاليات الواقع المعاصر، فضلاً عن الضلال في فهم التراث نفسه ، فهناك الفقر والجهل والمرض، والاستهلاك غير الرشيد والتبعية بألوانها، وغياب الديمقراطية ، والتشرذم، وغياب الوعي الحضاري وضيق الأفق، والأمية بأنواعها، وضعف استخدام التكنولوجيا فضلاً عن إبداعها . إلى جانب أمراض الفكر، وأبرزها انحساره عن قضايا الواقع وعجزه عن التوجيه ، وتشخيصه الفكري، إلى غير ذلك ، وأصبحت التربية عاجزة عن تخريج القادرين على القيادة والريادة ، وأصبح إنتاجها شخصيات منعزلة فيها الكثير من التناقضات بدلاً من الاتساق والصحة والفاعلية، ولعل ذلك يرجع إلى وجود القطيعة المعرفية بين المعاصرين والتراث التربوى ودوره الفاعل، فضلاً عن غياب تقويم التراث بهذه الصورة .
وإزاء كل هذا ، وأمام المتغيرات التى تتصل بكل شيء في واقع المجتمع العربي الإسلامي ، وتلك التطورات التى لحقت بكل شيء ، والتغيرات العالمية التى تسحب تأثيرها على هذا الواقع ،وأمام الجهود المبذولة لتنمية هذا المجتمع التى يراد لها النجاح ، أمام كل ذلك لابد من وجود ممارسة خاصة ، تقويمية نقدية للمعرفة التربوية الموروثة والمعاصرة ، خاصة وأنها يجب أن تكون حساسة لما يجرى في المجتمع ، وتوثق صلتها بمجريات الأمور فيه وبالمشكلات التى تواجهه ، فالتربية لها دور كبير إزاء تلك التغيرات، إما بتوجيهها الوجهة الصالحة ، أو بإحداثها حين تقوم بتغيير ((القيم التى ترتبط بالأوضاع الجديدة ، وإحلال قيم جديدة محلها ، وكذلك في خلق الوعي لدى المواطنين لتقبل الجديد وللتكيف معه ، وفي حث الناس على أن يسلكوا مسلكًا معينًا ، وغرس العادات التى تتطلبها المواقف الجديدة الناجمة عن التغير الجديد (( ثم إنها تقوم أيضًا بدور حيوي عندما تقوم بإحداث التوازن في المجتمع عن طريق توضيح العلاقات وشرح المستحدثات وما يصاحبها من تغيرات ونتائج )) .
حيال هذا فإن تقويم التراث يجب أن يخضع للمعايير التالية :
هل استطاعت المعرفة التربوية أن تتفاعل مع واقعها بحيث أخرجت الإنسان الفاعل حضاريًّا – وهل ما قدمته فعلاً يستطيع أن يستثير هذه الفعالية ؟ أم أنها تكرس سلبيات الأوضاع القائمة؟
– هل واجهت المعرفة التربوية سلبيات الواقع وتناقضاته وصراعاته ومشكلاته بحيث حاولت جادة إزالة هذه السلبيات ؟
– هل واجهت المعرفة التربوية الأفكار والمفاهيم الشائعة والخاطئة من أجل تنقيتها وإعادة تنظيمها في أطر وصياغات جديدة من أجل تحرير فعالية الإنسان الحضارية ؟
– هل راعت هذه المعرفة التكوين الفكري الثقافي الواقعي واعتماده على المفاهيم الدينية الإسلامية وما فيه من إيجابيات يمكنها تثوير الواقع وتطويره؟
– هل ربطت هذه المعرفة نفسها بالبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع العربي الاسلامي ، بحيث تستجيب لمتطلبات هذه البنى وما تقتضيه من تغيرات في الإنسان من أجل تحرير فعاليته ؟
– هل استطاعت هذه المعرفة ترشيد المنظومة التربوية وفعلها من أجل تجاوز تناقضات الواقع وتطويره أم ساعدت على سكونها ؟
– هل استطاعت هذه المعرفة أن تتفاعل مع الواقع في مواجهة التغير الذي حدث للمجتمع والتعامل مع عوامله وأسبابه ، وآثاره ونتائجه ؟
– هل استطاعت هذه المعرفة أن تحدد فكريًّا واجرائيًّا دور التربية في قيادة التغير لتحقيق أهداف المجتمع الإسلامي، أم أنها مجرد تابع عامل على دعم التغيير في الاتجاه الذي يسير فيه؟
– هل استطاعت الممارسات التربوية أن تنمى الوعي الحضاري السياسي ، وأن تزود الإنسان بدوره الفاعل في النظام السياسي والممارسات السياسية بما يعينه على أداء دوره في المجتمع الذي يعيش فيه؟
– هل استطاعت الممارسات التربوية القائمة في المؤسسات التعليمية أن تمد المجتمع الإسلامي بعناصر إنسانية فاعلة وقادرة على تحقيق أهدافه ؟
– هل تستطيع هذه المعرفة وما تتطلبه من جهد تربوى أن تسهم إسهامًا فاعلاً في مواجهة الأمراض الحضارية والاجتماعية والفردية في المجتمع العربي والإسلامي، كما تتمثل في الأمية وضعف الوعي وما إلى ذلك من أمور تعوق الفعل الحضاري؟
إن هذه الأسئلة وغيرها كثير يتصل بممارسة نقد التراث التربوي وفعالية المعرفة التربوية فيه ، وتتضمن فيما تتضمنه المعلم ، والمتعلم ، والمحتوى التربوى، وأساليب الإدارة التربوية ، وما إلى ذلك مما تدل عليه تلك الأسئلة وتعطى مؤشرات لعملية النقد التربوي الفاعل .
ونخلص إلى أن الأطر التى تناولتها هي أطر تنبثق عنها مجموعة من المعايير اجتهدت في طرحها في صورة أسئلة يمكن الإفادة منها في تقويم التراث الفكري التربوي وممارسته حتى لا يأتى الاهتمام به عشوائيًّا أو تكون دراسته مجرد جهد ضائع ، وما أكثر الجهود التى تضيع لعدم وجود هدف واضح لها ، ولعدم الالتزام بإجراءات منهجية تضبطها، وما قدمته هو مجرد بداية ، واجتهاد لفتح الباب على مصرعيه لممارسة تقويمة نقدية شاملة .
خاتمة :
إن دراسة التراث أمر واجب وفريضة فكرية وشرعية ، ولكن الأمر لا يقتصر فقط على مجرد تحقيق التراث المكتوب، وإنما يمتد الأمر إلى التراث المعيش والواقع في حياة الناس، وهذا التراث يحتاج إلى قراءة واعية لا لنقول: إنه يجب تطبيق هذه الأفكار بنفسها وقضيضها ، وكما وردت في فكر هذا المفكر، ولا لنقول إنها تتطابق مع دراسات العصر، أو أنها سبقت إلى الوصول لأمور يتناولها المعاصرون، إن هذا لن يكون ولا يجب أن يكون هدفًا لقراءة التراث، ولكن يجب أن يكون نحدد الهدف من وراء كل هذا الجهد كالتالي:
1- أن نقرأ هذا التراث قراءة واعية عميقة لاستبطان كافة جوانبه ، وفهم نواحيه، ومكوناته ، ومتطلباته ، ومعطياته ليكون الاجتهاد بعد ذلك وصلاً لأصول ما زالت تدخل في مكوناتنا ، ومكنون ضمائرنا وأسرارنا ، وليأتى هذا الاجتهاد بناء على أساس من الأصالة؛ حفاظًا على روح أصيل تراثنا ، ولابد من إذكائه والاهتمام به .
وهذا يتطلب منهجية واضحة ومتكاملة الأبعاد سواء في القراءة أو البحث أو التقويم والنقد، وقد حاولت الدراسة السابقة التى قدمناها خلال الصفحات السابقة تحقيق ذلك .
2- إن هذه القراءة الواعية تسهم في الفهم الجيد ، وتسهم في الوعي بالجذور الثقافية والحضارية والفكرية ، وإدراك الإبداعات التى تقدمت، والاجتهادات التى تمت ، كل ذلك في سبيل عامة الوعي بالذات التربوي ، مما يسهم في زيادة الوعي بالذات الحضارية ، لمعاودة المسيرة الحضارية المباركة .
ويمكن في إطار هذين الهدفين ، والأهداف التى حددت لدراسة التراث التربوي التأكيد على الأمور التالية :
أ – أن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لها دورها البارز والمهم في التجارب الإنسانية الفكرية وغيرها ، والدراسات التى تنمو في الجو الإسلامي بمعطياته إنما تتأثر حتمًا بالخلفية الفكرية والثقافية الإسلامية ، وبعكس هذا كافة ما ورد بالتراث الفكري العربي الإسلامي ، وفي دراسته وقراءته يجب أن لا نغفل هذا ، ذلك أن التراث هو نتاج البشر في الزمان المكان.
ب – إن الكتابات التربوية والأفكار التربوية والتعليمية لدى المفكرين المسلمين، ربما تأتى منفصلة ، وربما تأتى منبثة في الفكر ، وفي ثناياه ، سواء ما كتب في الفقه أو الفلسفة أو الأدب أو التصوف .. وغيرها ، وفي كل الأحوال فإن القراءة الواعية هي التى تكشف عنها وتبرزها إلى الوجود، ورب فكرة لا يظن تأثيرها أو مساهمتها في الفكر التربوي ، إلا أن القراءة هي التى تكشف مساهمتها وتأثيرها في الفكر، وربما تكون من الأفكار البارزة والمغيرة للواقع ، ولذا فإن معاودة القراءة يعد أمرًا غاية في الأهمية .
ج – إن المنهجية التى تتعامل مع التراث يجب أن تكون منهجية متكاملة فاهمة واعية، وتتعامل مع التراث من الداخل ومن الخارج، ويجب أن تكون متمثلة روح التراث التى تعكس روح الإسلام ولا تناقضه، وتهدف إلى بناء الإنسان لا أن تهدمه .
د – وفي دراسة هذا التراث أو قراءته لا نجد من اللازم أو الضروري أن نتعسف أو نسرف في التأويل أو التوفيق بين قديم وجديد على غير حق، لأن هذا ربما يوصلنا إلى تزييف القديم أو تزييف الحديث ونحن ننأى بالروح العلمية الموضوعية عن هذا ، والمهم -إذن- دراسة هذا التراث في ظروفه التى انعكست عليه، استفادة بما فيه لتحسين ظروف الحاضر والمستقبل .
هـ – إن هناك الكثير من الأفكار المطروحة لدى المفكرين المسلمين تحتاج إلى توسع في الدراسة، بالمنهجية الملائمة، وتدقيق في القراءة، وذلك أن الإنتاج الفكري والاجتهادات الفكرية كثيرة لا تعد ولا تحصى ، وقد تكون لمفكرين غير محترفين للكتابة في مجال التعليم أو التربية ، ولكن له وجهة نظره أبدعها وانطلق منها، سواء فيما يتصل بطبيعة الإنسان أو الأخلاق أو السلوك البشرى، أو حركة الإنسان في الحياة ، وكذلك تنظيم العلاقات الاجتماعية ، وكل ذلك مما يصلح للدرس والتحليل والقراءة التربوية ، بحيث لا تقتصر دراسات الفكر التربوي الإسلامي على شخصيات بعينها اشتهرت بالتربية ، وبهذا يتسع المجال ويتسع الفهم لأصول وضرورة التربية في مجتمعنا .
وإنى لأتمنى التوفيق لكل من يعمل في هذا المجال ، وما قدمته هنا هو جهد المقل ، وربما يكون تعبيرًا عن خبرة شخصية إلا أنه ممارسة عملية وتحتاج إلى إبراز واستمرارية ، أسأل الله تعالى أن يكون عونًا وموفقًا ومستعانًا في جميع الأحوال . والإصلاح أردت، وما توفيقي إلا بالله .
———————————————————————————————
(*) بحث ألقي في دورة ((مناهج البحث التربوي في الدراسات العليا)) في الفترة من 23/ 7/ 2000م إلى 27/ 7/ 2000م – التي قام بتنظيمها مركز الدراسات المعرفية بالاشتراك مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، وعقدت بمركز صالح عبد الله كامل – جامعة الأزهر الشريف .
[1] محمد الكتاني : جدل النقل والعقل في مناهج التفكير الإسلامي في الفكر القديم ، الطبعة الأولى ، المغرب، دار الثقافة، 1412 / 1992، ص 10 .[2] يمكن مراجعة : عبد السلام المسدى: العولمة والعولمة المضادة ، كتاب سطور رقم (6) ، يناير 1999.
[3] يمكن مراجعة : على خليل أبو العينين : أصول الفكر التربوي الحديث بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه التغريبي، القاهرة ، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص 97 – 104 .
[4] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، الطبعة الثانية، الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي، بدون تاريخ ، ص16.
[5] المرجع السابق ص 16 .
[6] يمكن مراجعة: فهمي جدعان : نظرية التراث ودراسات عربية وإسلامية أخرى، الطبعة الأولى، عمان – الأردن – دار الشروق للنشر والتوزيع، ص 24 – 32 .
[7] المرجع السابق ، ص 41 – 48 .
[8] طه عبد الرحمن ، مرجع سابق، ص 20 .
[9] المرجع السابق ، ص 26.
[10] راجع : علي خليل مصطفى : البحث التاريخي في التربية الإسلامية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1989.
[11] راجع : صلاح عبده رمضان ، التربية الإسلامية بالمغرب الأقصى في عهد الموحدين، رسالة دكتوراه ، كلية التربية، بنها، 1415/ 1994 . ص 19، 20 .
[12] راجع أبا الحسن القاسم محمد بن المفضل (الراغب الأصفهاني) : تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، تحقيق وتقديم : عبد المجيد النجار ، بيروت ، دار الغرب الإسلامي 1408هـ / 1988م، ص 9 من مقدمة المحقق .
[13] المرجع السابق، ص 10 .
[14] راجع : ماجد الكيلاني : فلسفة التربية الإسلامية – الطبعة الثانية ، السعودية – مكة المكرمة ، مكتبة هادي، 1409هـ/ 1988م، ص 98، 117 .
[15] راجع: ابن قتيبية: أدب الكاتب، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط4، مصر، مطبعة السعادة، 1382هـ / 1963م. ص 6-8.
[16] راجع: أبو إسحاق الشيرازي: شرح اللمع، تحقيق: عبد المجيد تركي، ط1، بيروت، دار العزب الإسلامي، 1408هـ / 1988م، ص 167–190.
[17] محمد عمارة : مشروع لوضع قاموس الحضارة الإسلامي، جريدة المسلمون ، العدد (252) السنة الخامسة ، جمادى الأولى، 1410هـ / ديسمبر 1979م ، ص 7 .
[18] جودت سعيد : اقرأ وربك الأكرم ، طبعة أولى ، 1408هـ / 1988م، ص 91 .
[19] راجع : محمد هيشور ، سنن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها ، ط1، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة، 1417هـ/ 1997م، ص 16 .
[20] يمكن مراجعة : عبد الكريم زيدان ، السنة الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الاسلامية ، الطبعة الثالثة ، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1414هـ – 1994م .
[21] محمد عبد الله دراز، الدين بحوث منهجية لدراسة تاريخ الأديان ، بدون دار نشر، مطبعة السعادة ، 1389هـ – 1969 ، ص 49 – 50.
[22] على عزت بيجوفيتش ، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد عدس، الطبعة الأولى ، بوسنة مؤسسة بافاريا، 1414هـ/ 1994م، ص 272 – 275 .
[23] المرجع السابق ، ص 279 .
[24] المرجع السابق ، ص 285 .
[25] عبد الوهاب عبد العزيز الشيشاني ، حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في النظام الإسلامي والنظم المعاصرة ، الطبعة الأولى ، مطابع الجمعية العلمية الملكية ، 1400هـ / 1980م، ص 303 .
[26] راجع : المرجع السابق ، ص 311 ، ومحمد سعيد رمضان: ضوابط المصلحة في الشريعة الاسلامية، الطبعة الأولى ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1412هـ / 1991م، والشاطبي : الموافقات ، ط4 ، بيروت ، مؤسسة الرسالة 1402/ 1982 .