المقتضيات المنهجية لتطبيق الشريعة في الواقع الإسلامي الراهن
Methodological needs of Sharia Implimentation - العدد 105
تمهيد :
نعني بتطبيق الشريعة في هذا البحث تنزيل الأحكام الشرعية الشاملة على حياة الإنسان، بحيث تصبح هذه الحياة مهتدية في كل شعابها بهدي الدين، جارية على مقتضيات أحكامه في السيرة الفردية، وفي التعامل الاجتماعي بالمعنى الموسع، وفي التعامل الإنساني العام، وفي التعامل الكوني مع الطبيعة، فضلاً عن الصلة التعبدية المباشرة بين الإنسان وربه. وإنما قصدنا بهذا التوضيح لمعنى تطبيق الشريعة مع بداهته المتأتية من خاصية الشمول في الدين الإسلامي، إنما قصدنا به معارضة مدلول أصبح اليوم رائجًا في مثار قضية ((تطبيق الشريعة)) ، وهو المدلول الذي يختصر هذا التطبيق في مجال ضيق لا يتجاوز بعض أحكام في الحدود والنكاح. وقد جرّ إلى هذا المدلول مكر من المعادين للشريعة الإسلامية عامة يهدف إلى الإتيان عليها في مختلف شعاب الحياة بالإبطال ، بالتشنيع عليها في هذا المجال الضيق استنادًا إلى ((قيم العصر)) و ((أذواقه)) و((مقتضياته)) . وربما جرّ إليه أيضًا غفلة من قبل بعض المناصرين لها كادوا معها في دعوتهم إلى تطبيق الشريعة أن يحصروها في هذا المجال الضيق باعتبار أن ذلك يمثل المظهر الأبرز لقيومية الدين في المجتمع، حتى أوشكت هذه الدعوة أن تتناسي تطبيق الشريعة في مدلوله الشمولي العام .
وإذا كان تطبيق الشريعة همًّا لكل مسلم مخلص عبر العصور فإن المسلمين المخلصين اليوم استجمع لديهم هذ الهمّ معاني الحرقة لفوات هذا التطبيق ، والأمل العريض في أن يستأنف من جديد، والسعي الجهادي لتحقيق هذا الأمل . وذلك لطول ما تجافى واقع المسلمين عن شريعة الله، وكثافة ما تراكم من العراقيل دون تطبيقها .
لكن تنزيل الشريعة في واقع الحياة لتصبح مهتديًا بها في مختلف شعابها لا تكفى في صيرورته تنزيلاً هاديًا حقًّا النية المخلصة، والإرادة المتوكلة؛ بل هو عمل اجتهادي مقدّر، يستلزم أدبًا منهجيًّا على درجة عالية من الدقة؛ ذلك لأنّ الشريعة هي أحكام كلية مجردة، والأوضاع الواقعية أوضاع عينية مستأنفة، وهو ما يستلزم اجتهادًا يهيأ به الحكم الشرعي المجرد ليجرى على الوضع الواقعي الذي يشمله محققًا للمقاصد التى من أجلها شرع دون غيره من الأوضاع التى قد تكون شديدة الشبه به ، والتى لو أجرى عليها لتعطلت مقاصده، وأصاب الناس حرجٌ من جرّاء ذلك . وقد أشار الإمام الشاطبي إلى هذا المعنى في تحليله للاجتهاد التطبيقي المعروف عند الأصوليين بتحقيق المناط: ((الأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا يكون الحكم واقعًا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام [أي الحكم الشرعي] ، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون ، وكله اجتهاد))[1].
وإذا كان الاجتهاد التطبيقي قد حظي بشيء من الاهتمام في المدونات الأصولية الفقهية بضبط بعض قواعده المنهجية فإن الاهتمام الأكبر من قبل الأصوليين قد صرف إلى الاجتهاد البياني الذي يهدف إلى استخلاص الأحكام الشرعية المجرّدة من مداركها المباشرة أو غير المباشرة . وأكثر القواعد المنهجية الأصولية المقررة في مدونات الأصول مخصصة لهذا الباب.
ولما آلت الحضارة الإسلامية إلى الضمور في منجزات العمران، وآلت معها الحركة الفكرية عمومًا إلى الضعف، ازداد الاجتهاد التطبيقي في وقوعه وفي التنظير له انحسارًا من دائرة الاهتمام للفقهاء والأصوليين من حيث أن ازدهار منجزات التعمير هو الذي ينشط الاجتهاد في تطبيق الأحكام على المنجزات المستحدثة لتنساق في الهدي الديني العام.
وحينما آل العالم الإسلامي منذ بعض الزمن إلى تعطيل أحكام الشريعة عن أن تهدي الحياة في أكثر مجالاتها، وخاصة منها تلك المجالات الحية المتجددة كالسياسة والاقتصاد، انقطع سند الاجتهاد التطبيقي وآدابه ، وأصبح جزءًا من التراث ليس له في الواقع وجود، لا في النظر ولا في العمل، وإنما هو تقليد جامد فيما بقي فيه للشريعة حكم من مجال ضيق، وانسحاب في المجالات الأخرى لتحكمها قوانين الوضع .
وعلى هذه الحال من انقطاع الاجتهاد التطبيقي لعهد طويل تيقظ المسلمون في هذه الصحوة الإسلامية المتصاعدة التى جعلت همًّا أساسيًّا لها إعادة القيومية العملية للشريعة على كل شعاب الحياة . وبعد مرحلة من الدعوة العقدية لشمولية الدين أوشكت أن تستنفد أغراضها وتحقق غاياتها أصبحت تواجه الصحوة اليوم ضرورة صياغة الأحكام الشرعية المجردة في مشاريع عملية لإجرائها على أحوال الواقع الراهن، ولكنها تجد نفسها فقيرة من الزاد المنهجي الأصولي الذي يكون لها عونًا على تلك الصياغة وذلك الإجراء لتؤدي الشريعة مقاصدها في الهداية على خير الوجوه .
وربما تصور بعض المخلصين من حملة هم الشريعة المشوب إخلاصهم بشيء من الغفلة أن أحكام الشريعة إذا ما تم تقريرها من مداركها، وتم تحرير الإرادة السياسية لتطبيقها فإن ذلك كفيل وحده بأن تمرّ هذه الأحكام إلى التطبيق الفعلي فيما يشبه الآلية، فينصلح بها الواقع ويتم الأمر كله، وهذا التصور تصور قاصر لأنه يلغى شخصية الشريعة الخاصة، فأحكام الشريعة أحكام كلية عامة، ولكي يهتدي هذا الجزئي المشخص بذلك الكلي العام لابد من معالجة اجتهادية تطبيقية ، هي تلك المعالجة التي ترجم بها أئمة الفقه المجتهدون ما جاء في القرآن والحديث من تعاليم الشرع إلى فقه عملي أجراه كل منهم في واقع المصر الذي يعيش فيه .
ولو أجيز التطبيق الآلي الذي ينادي به اليوم غفلة بعض من المنتسبين للصحوة الإسلامية مع ما آل إليه واقع المسلمين من تعقيد شديد وتشابك في الأسباب ، فإن الضرر الذي سيحصل ربما يتجاوز ما يلحق المسلمين من حرج إلى أصل الوضع العقدي لقيومية الشريعة، وحينئذ فسيؤول الأمر إلى عكس الواجب المرغوب، ولذلك فإن الدعوة إلى تطبيق الشريعة والعمل من أجل ذلك ينبغي أن يستند إلى اجتهاد تطبيقي يتأسس على قواعد منهجية تتصل بسالف من الأدب الأصولي الفقهي، وتثري بخالف من أنظار أهل الذكر في هذا المجال تستجيب للمعطيات الجديدة في واقع المسلمين، ونورد فيما يلي مبادئ أولية تتعلق بهذه القواعد المنهجية، ونقدم بين يديها مزيد شرح لمفهوم الاجتهاد التطبيقي، وبيانًا لخصائص الواقع الراهن للمسلمين من حيث علاقته بالشريعة الإسلامية في سبيل عرض تلك الأفكار على النظر والدرس.
أولاً : الشريعة بين منهج الفهم ومنهج التطبيق:
الشريعة الإسلامية هي أحكام إلهية لهداية حياة الإنسان . وبعض هذه الأحكام منصوص عليها في الوحي قرآنًا وحديثًا نصًّا مباشرًا، وبعضها الآخر منصوص على ضوابطها العامة ومقاصدها الأساسية، وتركت للإنسان مهمة الاجتهاد لتحصيلها متعلقة بمستأنفات الأحوال التى تطرأ على حياته اهتداء بتلك الضوابط والمقاصد. ومهما يكن من فعل من أفعال الإنسان سالف أو خالف فإن للشريعة فيه حكمًا إما منصوص على ذاته، أو منصوص على ضوابطه ومقاصده، ويستخرج بالاجتهاد، وهذا هو معنى الشمول في الشرع الإسلامي .
ويتحمل المسلم أحكام الشريعة على مرحلتين: مرحلة الفهم للحكم الشرعي فهمًا مجردًا حتى يدرك المراد الإلهي فيما ينبغي أن يقع وما ينبغي أن لا يقع، بناء على ما فيه مصلحة للإنسان . ومرحلة التنزيل لذلك الحكم المدرك بالنظر على واقع السلوك ليصبح جاريًا بحسبه في الإيجاب والإباحة والمنع حتى تتحقق المصلحة بالفعل وتنعم الحياة بالخير.
وهاتان المرحلتان في تحمل الحكم الشرعي مرحلتان متكاملتان ومتلازمتان في ميزان الإيمان، حتى إن بعض علماء المسلمين عدوا الانفصال بينهما بحصول الفهم وتعطل التنزيل مروقًا من الإيمان موقعًا في الكفر وفي الفسق ، وعد أكثر العلماء ذلك محطًّا من قدره إلى درجة تكاد لا تغنى شيئًا، ولكن مع هذا التكامل والتلازم فإن المنهج الذي يتحمل به المسلمون كلاًّ من هاتين المرحلتين هو منهج مختلف بينهما، وهو اختلاف يقتضيه الاختلاف في الطبيعة بين الفهم العقلي والتطبيق الواقعي. والخلط بين المنهجين، والغفلة عن مقتضيات الاختلاف بينهما يؤدي إلى حرج كبير في حياة المسلم لما يفضي إليه من عطالة في المقاصد الرافعة للحرج، وفيما يلي نوضح باختصار الخصائص والأسس المميزة لكل من منهج الفهم ومنهج التطبيق .
1- الأسس العامة لمنهج الفهم:
أحكام الشريعة -كما ذكرنا آنفًا- تتضمنها نصوص الوحي بصفة مباشرة أو غير مباشرة ، ولذلك فإن التمثل المعرفي لتلك الأحكام يكون بتناول تلك النصوص بالعقل في نظر اجتهادي يستجلي المراد الإلهي منها، سواء بالنسبة للأحكام التى نصت عليها نصوص متعلقة بأفعال إنسانية معهودة، أو بالنسبة للأحكام التى تبتغى في مستجدات من الأفعال غير معهودة، إذ هذه أيضًا يلتمسها العقل بناء على نصوص غير مباشرة من القواعد والمقاصد.
ففهم الأحكام إذًا يقوم على علاقة بين العقل والنص لاستجلاء المراد الإلهي، وإذا كانت الوقائع والأحداث الجارية في الحياة قد تدخل طرفًا في هذه العلاقة بين العقل والنص، فإنما تدخل على سبيل أن يستخدمها العقلُ عنصرًا في فهم مدلول النص مثلما يستخدم في ذلك الأحداث التي كانت مناسبات للنزول ، أو الأحداث التي تكشف عن طبيعة الإنسان وسنن حياته الاجتماعية فيستخدمها العقلُ قرينة لاستجلاء الحكم من مدركه النصي . ولكن هذه الأحداث لا تكون بحال مصدرًا ذاتيًّا لأحكام لا يكون في النص سعة لتحملها كما يذهب إليه الباطنية القدامى والجدد الذين يهدرون دلالات النصوص، ويبنون الأحكام على مقتضيات الوقائع في حياة الإنسان .
ونصوص الوحي قرآنًا وحديثًا هي نصوص كلية عامة . جاءت تخاطب بالأمر والنهى الناس كافة دون قيود من تشخيص العين والزمان أو المكان، وحتى حينما يردُ الحكم المنصوص عينيًّا فإن المراد منه يكون كليًّا عامًّا إلا إذا ورد على تخصيصه العيني دليل نصي[2].
وبناء على المعاني المتقدمة فإن فهم الأحكام الشرعية وتقريرها في العقل سيكون محكومًا في منهجه بأسس وقواعد تفرضها طبيعة نصوص الوحي في دلالتها على الأحكام، وطبيعة العلاقة بين العقل وتلك النصوص، من حيث قومية النصوص باعتبار مصدرها الإلهي، وإطلاقها باعتبارها خطابًا للناس كافة، ومن حيث الدور المحدود المناط بالعقل في الفهم . وربما تكون أهم تلك الأسس المنهجية متمثلة فيما يلي :
أ – الاستكشاف :
يقوم منهج الفهم لأحكام الشريعة على معنى الاستكشاف لتلك الأحكام، حيث إن كل فعل إنساني يتعلق به من الله حكم كما قرره الإمام الشافعي في قوله : ((كل نزل بمسلم ففيه حكم لازم))[3] وسواء أكان ذلك الحكم الشرعي حكمًا معينًا قبل الاجتهاد العقلي يصيبه من يصيب ويخطئه من يخطئ من المجتهدين كما هو رأي المخطئة من الأصوليين، أو كان تابعًا للاجتهاد فيتعين فيما غلب عليه ظن المجتهد كما هو رأي المصوبة منهم[4]، سواء كان هذا أو ذاك فإن العقل في الاجتهاد الفهمي إنما هو باحث عن حكم الله مستكشف له، وليس بحال من الأحوال مؤسسًا لذلك الحكم من ذات نفسه .
ويستلزم هذا العمل الاستكشافي أن يكون الفهم مقيدًا بضوابط نصية من قانون اللسان العربي وقواعده في الدلالة على المعاني، وبضوابط من المقاصد العام للشريعة والقواعد الكلية لها، وبهاديات من القرائن المساعدة على كشف المراد الإلهي كمناسبات النزول وحقائق العلم الكوني، وسنن الاجتماع الإنساني . ففي حدود هذه الضوابط والقرائن يتصرف العقل لفهم الأحكام اكتشافًا لا إنتاجًا. ومن البيّن أن هذا الأساس المنهجي لفهم الأحكام سيوجه هذا الفهم وجهة خاصة تختلف عن وجهة الفهم في مجال الإدراك الإنساني العام، بما في ذلك إدراك المقتضيات الواقعية التي ستنزل على أساسها أحكام الشريعة نفسها في شعاب الحياة الجارية بعد فهمها؛ إذ إن هذا الفهم في المجال الإدراكي العام يكون قائمًا على معطيات غير مقدرة بالوحي مما يفسح المجال واسعًا للتقدير العقلي على وجه الابتداء .
ب – التجريد:
لما كانت أحكام الشريعة متعلقة في الأصل بالإنسان المطلق، فإن ضبطها في الأفهام من مظانّها يقتضى أن يكون قائمًا على التجريد، وذلك بأن يتجه الاجتهاد في الفهم إلى تقرير الحكم مراعى فيه تعلقه بالإنسان المطلق عن عوارض الشخص المختلفة ،ولا تكون إذًا الأحوال الواقعية لإنسان ما ، أو في عصر ما عنصرًا معتبرًا في تقرير الحكم الشرعي في ذاته . وليس ما قد يكون لتلك الأحوال من مدخل في تحويل حكم إلى آخر بالتخفيف أو الإلغاء بعامل في فهم وتقرير الحكم في ذاته، وإنما هو تنزيل للحكم المطلق على ما يليق به من الأحوال، وإلا فإن حكم الحرمة في أكل الميتة حكم مطلق، وإن سقط في حالة الاضطرار لحفظ الحياة، وحكم الوجوب في قطع يد السارق حكم مطلق وإن سقط في زمن المجاعة، وقد ذكرنا آنفًا أن الأحكام الشرعية حتى وإن جاءت في نصوصها متعلقة بأعيان مشخصة، فإن الفهم ينبغي أن يعالجها بالتجريد لتتعلق بالإنسان المطلق، إلا إذا دلّ الدليل على تخصيصها بتلك الأعيان. وذلك أبرز الشواهد على هذا الأساس التجريدي في فهم الأحكام .
ومن البين أن هذا الأساس التجريدي في فهم الأحكام سيتجه به وجهة خاصة في التقرير تنحو به منحى الديمومة والثبات ليكون الحكم الشرعي في ذاته متصفًا بالدوام والثبات، لا رهين الظروف والأحوال يتغير بتغيرها ، ويتقلب بانقلابها . وأما ما يردده بعضهم من أن الأحكام تتغير بتغير الأزمان فليس بصحيح ، وإنما الذي يتغير بحسب الأزمان والأوضاع هي الفتوى، لا الحكــم كما حققه ابن القيم[5]. وتغير الفتوى يقتضيه لدى المفتي أن النوازل المشخصة تختلف في عناصر تشخصها وإن تماثلت في صورها، فيكون ذلك الاختلاف مبررًا لاختيار الحكم المناسب لكل نازلة من بين الأحكام المطلقة الثابتة وإن خالف حكمًا سابقًا في نازلة شبيهة بها، ولو كان فهم الأحكام يقوم على أساس تشخيص لأصبحت الشريعة كلها ظرفية ينسخها حولان الزمن، وتغاير الأوضاع في حياة الإنسان كما ينادى بذلك اليوم دعاة التعطيل للشريعة الإسلامية .
كما أن هذا الأساس التجريدي ينتهى بفهم الأحكام إلى الكلية والتعميم، فالحكم الشرعي إذا فهم مجردًا من عوارض التشخص فإنه سيؤول في الفهم أيضًا إلى أنه كلي عام يندرج فيه كل أفراد الأشخاص والأفعال والأحداث، فتكون مشمولة له بالإيجاب أو المنع دون تخصيصه ببعضها دون بعض إلا إذا دلّ على التخصيص دليل بيّن . وهذا الفهم التمحيصي يستجيب لمبدأ عقدي هو مبدأ شمول الدين وعمومه لكل الناس والحالات والأوضاع، فهذا يقتضى أن تكون كل الأفراد محكومة بالحكم الذي يتعلق بجنسها .
جــ – التكامل :
إن الأحكام الشرعية مبثوثة في نصوص الوحي بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وقد كان تشريعها تنجيمًا زمنيًّا، وهو ما جعل من طبيعتها أن يكمل بعضها بعضًا بالتدرج في المنع أو الإباحة، أو بالنسخ، أو بالتعديل، وعلى ذلك النحو استقرت في نصوصها قرآنًا وحديثًا . ومن جهة أخرى فإن هذه الأحكام باعتبار خاصية الشمول فيها تناولت الجوانب المختلفة من حياة الإنسان بالمعالجة كلاًّ على انفراد كما يقتضيه التفصيل، وعلى ذلك النحو وردت في النصوص، ولكنها في حقيقتها يربطها رابط موحّد ينتظمها بالتكامل لتحقيق المقصد الأسمى في تحقيق المصلحة للإنسان، وقد لا يكون ذلك الرابط جليًّا في ظاهر النظر، إذ تبدو الأحكام بمقتضى زمنية تشريعها كأنما هي أحكام متفاصلة متعلق كل منها بجزء من الحياة، ولكن النظر الملي تتبين به وحدة التكامل بينها .
ولهذه الاعتبارات فإن فهم الأحكام ينبغي أن يكون فهمًا تكامليًّا برد الأحكام إلى بعضها ، المتـأخر منها إلى المتقدم، والناسخ إلى المنسوخ، والمطلق إلى المقيد، وكذلك برد الأحكام الجزئية في القضية الواحدة إلى بعضها على اختلاف مواردها في أزمانها وفي مقاماتها وسياقاتها النصية . وبهذا المنهج التكاملي يخلص الاجتهاد إلى الحكم الأرجح في الظن أنه مراد الله تعالى فيقرر حكمًا معتمدًا . ولو ترك الفهم لمنهج التجزئة والإفراد لحصلت الأحكام في الذهن على غير مقتضى المراد الإلهي ، إذ قد يعتمد حكم ما في الفهم وهو في حقيقته منسوخ، وقد يعتمد حكم آخر على إطلاقه ، وهو في حقيقته مقيد، وقد يقر حكم ثالث لما روي من أنه يصلح الفرد، وهو في حقيقته يضر بالمجموع، والشواهد على الأخطاء من هذا النوع كثيرة في القديم والحديث، وترجع كلها إلى اعتماد المنهج التجزيئي في الفهم لا التكاملي فيه[6].
2- الأسس العامة لمنهج التطبيق:
لقد كانت أسس المنهج في فهم الأحكام -كما عرضناها آنفًا- مشتقة من طبيعة الفهم في كونه علاقة بين العقل والنص بصفة أساسية . وكذلك الأمر في أسس المنهج في التطبيق فهي مشتقة من طبيعة التطبيق في كون واقع الحياة يمثل فيه المحور الأساسي في الاجتهاد ؛ إذ تطبيق الأحكام يعنى تكييف الواقع الإنساني في مختلف شعابه بحسب ما تقتضيه تلك الأحكام من فرض وإباحة ومنع حتى يتم التطابق بينهما تطابقًا يحقق خير الإنسان .
ومن البين أن الحكم الشرعي كلي عام كما ذكرناه، والواقع الذي ينبغي أن يتكيف به أفراد مشخصة يمثل كل منها عينة منفردة قائمة بذاتها وإن تشابهت في الظاهر . وإذا كان المقصد الأسمى للحكم هو أن تتحقق به للإنسان مصلحة، وهو المقصد الذي بُني عليه في أصل تجريده ، فإن الأفراد العينية من وقائع الحياة لا تحقق فيها المصلحة باضطراد إذا ما أجريت عليها الأحكام إجراء آليًّا، ضرورة أن اعتبارات الشخص التي تستقل بها كل منها قد تشتد في بعض منها فتصبح بها متميزة عن أفراد جنسها تميزًا يرجح القدر المشترك الذي تشابهت فيه، والذي على أساسه بني الحكم الشرعي العام وقدر تحقيقه للمصلحة، وحينئذ فإنه لو أجرى الحكم على هذا البعض المتميز تميزًا راجحًا ما أدى الحكم مقصده، ولأصاب الناس الحرج. ولهذا الأمر ولغيره مما هو في معناه اقتضى تطبيق الأحكام على الوقائع لتحقق مقاصدها منهجًا مخصوصًا يتقدم بأسس غير أسس الفهم، ولعل من أهم تلك الأسس ما يلي :
أ – التجزئة والإفراد:
إذا كان الحكم الشرعي يحصل في الفهم كليًّا عامًّا بمنهج التجريد، فإن المجتهد عند تطبيق ذلك الحكم في واقع الحياة ينبغي أن ينحو به منحى التجزئة والإفراد في الموضوع الذي سيطبق عليه؛ ذلك أن الواقع هو أعيان مشخصة متمثلة في أفراد من الناس، وأفعال تصدر عنهم، وأحداث ونوازل فردية وجماعية تتوالى على الزمن ، فالمجتهد في نزوعه إلى تنزيل الحكم المتقرر في ذهنه كليًّا ينبغي أن يكون نظره إلى الواقع بحسب طبيعته المجزأة ليجرى الحكم على كل جزء جزء، وكل فرد فرد من أجزاء الواقع وأفراده .
وإنما يدعو إلى هذا المنهج التجزيئي ما أشرنا إليه آنفًا من أن بعض الأفراد والأجزاء من الواقع قد تحيط بها ظروف وملابسات تجعل إجراء الحكم الكلي عليها مثل مثيلاتها من نوعها أو جنسها مفضيًا إلى الحرج والمشقة، وربما إلى الفساد ، فيتعطل مقصد الحكم وهو تحقيق المصلحة، وخذ في ذلك مثالاً من حكم الإباحة في الملكية الفردية، فلو أجرى في التطبيق على ظاهرة التملك الفردي كظاهرة عامة دون نظر في تفاصيل أفرادها بحسب المالكين ومواضع التملك وأزمان الملكية لعاد أجزاؤه على بعض هذه الأفراد بالضرر الفاحش على مجموع الأمة، كما لو أجرى على حالات الاحتكار في الغذاء، وحالات القحط والمجاعة الضاربة، وحالات الشدّة في الحروب وفواجع الطبيعة، ومن ثمة كان النظر التفصيلي في أفراد الواقع هو المنهج العاصم من الحرج عند تطبيق أحكام الشريعة عليها .
ونريد أن ننبه إلى أنه لا يدخل في معنى التجزئة في هذا الأساس المنهجي ما قد يتبادر إلى الذهن من مفهوم الفصل بين الوقائع فصلاً قد يفضى إلى إغفال الوشائج الرابطة بينها مما يؤدى في كثير من الأحيان إلى تناقض بين النتائج في تطبيق الأحكام عليها، كأن يعتمد تطبيق حكم شرعي على حالة معينة تطبيقًا يؤدى إلى مصلحة في تلك الحالة، ولكنه في نفس الوقت يؤدي إلى مفسدة في حالة واقعية أخرى بسبب الفصل بين الحالات، الغافل عن العلائق بينها. إن التجزئة التى نعنيها في هذا المقام هي النظر إلى الوقائع ضمن ملابساتها التشخيصية المميزة بينها مع التنبه الدائم للوشائج والأسباب الرابطة بين الأحداث والظواهر حتى يكون التطبيق محققًا للمصلحة في الحالة الواقعية المعينة ولكنه غير مفض مع ذلك إلى مفسدة في حالات أخرى[7].
ب – تحقيق المناط:
وهو أساس منهجي متفرع عن منهج التجزئة، ولكنه مختص بمعان مميزة. وقد ورد في مدونات أصول الفقه وجهًا من وجوه الاجتهاد التطبيقي، وقال فيه الإمام الشاطبي: ((معناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله، ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين ، وليس ما به الامتياز معتبرًا في الحكم بإطلاق ، ولا هو طردي بإطلاق … فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل))[8].
ومقتضى هذا التعريف أن الأحكام الشرعية تتعلق من أفعال الإنسان بأجناسها وأنواعها، ولكن هذه الأفعال تجرى في الواقع أفرادًا مشخصة بفاعليها وأزمانها وأماكنها المخصوصة. وقد تكون أفراد الأفعال والأحداث متشابهة في ظاهرها، ولكن بالتأمل يتبين أن عناصر تشخيصها قد تفرق بينها في حقيقتها، وإن تشابهت صورها مثلما هو الأمر بالنسبة للسرقة والاغتصاب في تشابههما بالظاهر وافتراقهما في النوع.
وعند تطبيق الحكم الشرعي الكلي على أفراده الجزئية الجارية في الواقع ليتحقق مقصد الصلاح ينبغي على المجتهد أن يحقق في هذه الأفراد بدراسة عناصر تشخصها دراسة عميقة حتى يتبين ما هو داخل في نوع الحكم الذي بين يديه أو في جنسه فيكون مناطًا له يجريه عليه، ويخرج من ذلك ما قد يشتبه لأول النظر أنه داخل في ذلك النوع أو الجنس وهو في الحقيقة ليس كذلك.
ولو وقعت الغفلة في تطبيق الأحكام عن هذا الأساس التحقيقي لأجريت الأحكام على سائر الأفعال والأحداث بحسب تشابهها الظاهري، وحينئذ يوجه كثير منها إلى حيث لا ينبغي أن يوجه من الإباحة والمنع والإيجاب ، فيلحق ذلك الضرر بالأفراد والجماعات، ونحسب أن شيئًا من هذا يقع اليوم من قبل بعض المتحمسين لتطبيق الشريعة ممن لا يتذرعون بمنهج تحقيق المناط، فإذا كثير مما هو واقع في حياة الناس من مستجدات النوازل والأوضاع يُطرد للمنع أو الإباحة لشبه ينتسب به إلى ما هو ممنوع أو مباح، ولو وقع التحقيق لتبين أنه غير مندرج فيما حكم به عليه.
ج – تحقيق المآل :
إن الأحكام الشرعية في إطلاقها قدّر فيها تحقيق مقاصدها المنتهية في أنواعها القريبة إلى المقصد الأعلى وهو مصلحة الإنسان ، وذلك حينما تصبح مطبقة في واقع الحياة. وإذا كان مقصد المصلحة يتحقق بالفعل في أغلب أفراد الأفعال والأحداث حينما يجرى عليها الحكم المتعلق بجنسها أو نوعها فإن أفرادًا أخرى من تلك الأفعال والأحداث قد تحيط بها ظروف وملابسات في ذات فاعليها أو أزمانها أو علاقاتها بأفعال وأحداث غيرها تجعلها حينما يجرى عليها الحكم الشرعي لنوعها لا يتحقق لها المقصد الشرعي، بل قد يحصل من تطبيقه الضرر من حيث أريدت المصلحة، كما لو أجرى حكم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على فاعل للمنكر يبلغ من الجهل والقساوة ما يجعل أمره ونهيه يفضى به إلى إلحاق الأذى الشديد بالآمر الناهي ، أو يفضى به إلى التحول إلى مقارفة ما هو أشد منكرًا مما نهى عنه .
ولهذا المعنى فإن تطبيق الأحكام الشرعية يستلزم منهجًا تحقيقيًّا في مآل تطبيق الحكم على الأفراد المعينة من حيث حصول المقصد الشرعي أو عدمه. ويكون هذا التحقيق بدراسة طبيعة الوقائع في أحوال فاعليها، وفي علاقاتها مع غيرها من الأوضاع وفي ظروفها الزمانية والمكانية، وبناء على هذه الدراسة يقدّر المجتهد ما إذا كان يغلب على الظن أن الحكم سيحقق مقصده من المصلحة فيوقع إجراؤه أو ما إذا كان يغلب على الظن أنه لا يحقق مقصده بل قد يفضى إلى مفسدة فيعطل إجراؤه ، إما تأجيلاً زمنيًّا ، أو تحويلاً إلى حكم آخر، وهذا المنهج الاجتهادي هو الذي انتهجه عمر بن الخطاب t حينما أجل تطبيق حكم السرقة في عام المجاعة مقدرًا أن تطبيقه في ذلك الظرف لا يتحقق به مقصده ، بل يؤدي إلى حرج كبير .
وبغير هذا المنهج في تحقيق المآل عند التطبيق يصبح التطبيق آليًّا حتى وإن حقق مناطئه ، وهذه الآلية ربما أفضت في أحيان كثيرة إلى مشاق وأضرار. ونلحظ اليوم بعضًا من المنادين بتطبيق الشريعة يستخفهم الحماس ، فيغفلون عن هذه القاعدة التطبيقية ، ويؤول الأمر إلى الضرر بأصل الدعوة الدينية، وخذ في ذلك مثلاً التشبث الملح من قبل بعضهم بتطبيق المنع في مصافحة المرأة مما انجر عليه في ظروف المجتمع الإسلامي الراهن نفور من قبل بعض الناس من الدعوة إلى الإسلام نفسها، وقد وقفنا عيانًا على كثير من الحالات في هذا الباب .
3- منهج الفهم ومنهج التطبيق بين الأمس واليوم :
يتبين مما تقدم أن الأسس المنهجية لتطبيق الأحكام الشرعية تختلف عن الأسس المنهجية لفهم الأحكام المجرّدة . وقد كان لهذا الاختلاف تاريخ في الفكر الأصولي التراثي من حيث حجم الاهتمام بكل منهما تنظيرًا وتطبيقًا ، وله اليوم في واقع المسلمين وضع خاص في مضمار الدعوة إلى تطبيق الشريعة من حيث الوعي بمقتضيات كل منهما بالنظر إلى الظروف والملابسات التى تحدد ملامح هذا الواقع المدعو إلى تطبيق الشريعة فيه .
أ – منهج الفهم ومنهج التطبيق في التراث الأصولي:
إن المتأمل في التراث الأصولي الفقهي الذي يمثل المنهج الاجتهادي لأحكام الشريعة يجد أن منهج الفهم حظي فيه بالاهتمام أكثر بكثير جدًّا من منهج التطبيق حتى كاد علم أصول الفقه أن يكون ممحضًا في مجمله لمنهج الفهم .
ويتبين هذا الأمر ابتداء من التعريف الذي يعرف به علم أصول الفقه، فهو عند الغزالي : ((العلم بأدلة الأحكام، الكتاب والسنة والإجماع في طرق ثبوتها، وشروط صحتها، ووجوه دلالتها على الأحكام))[9]. وهو عند ابن عبد الشكور ( ت 1119هـ ) : ((علم بقواعد يتوصل بها إلى استنباط المسائل الفقهية عن دلائلها))[10].
وكلا التعريفين يتجه بأصول الفقه إلى أنه منهج لفهم الأحكام الشرعية من أدلتها، دون إشارة إلى ما يتعلق بمنهج التطبيق.
ويزداد هذا الأمر وضوحًا بتتبع الهيكل العام الذي بني عليه هذا العلم ، والذي ظل هيكلاً مرعيًّا في عمومه طيلة تاريخه تقريبًا، فذلك الهيكل يتقوم بأسس أربعة سماها الإمام الغزالي بالأقطاب ، هي: ((الأحكام ، وهي الثمرة المطلوبة من هذا العلم، وأدلة الأحكام، هي الكتاب والسنة والإجماع، وطريق الاستثمار ، وهو وجوه دلالة الأدلة، والمستثمر، وهو المجتهد الذي يحكم بظنه))[11] فهذه الأقطاب الأربعة موجهة في عمومها إلى منهج الفهم للحكم الشرعي، بما في ذلك القطب الرابع الذي يحتمل أن يتجه في شطر منه إلى التطبيق، إلا أنه في تفاصيل فروعه كما ذكرها الغزالي نفسه وجه نحو منهج الفهم .
غير أن منهج التطبيق لئن لم يكن مضمنًا في الهيكل الأساسي لعلم أصول الفقه ليكون ندًّا في الاهتمام لمنهج الفهم، فإنه حظي ببعض الاهتمام في أثناء ذلك الهيكل الفهمي ، وفي تفاريع مسائله ، وربما أوشك عند بعض الأصوليين أن يصبح مزاحمًا في بعض الأبواب الأساسية لمنهج الفهم، مثلما كان الأمر عند الإمام الشاطبي في مدونته الأصولية الراقية المسماة بالموافقات .
والحق أن بعض فروع مما خصص لفهم الأحكام قد بُنى فيها الفهم على مقتضيات التطبيق، فدار فيها البسط متراوحًا بين منهج الفهم ومنهج التطبيق. ومثال ذلك ما جاء من بحوث في مصادر التشريع التي لها صلة بالواقع مثل الاستحسان والمصلحة المرسلة وسد الذرائع والعرف . فقد كان البيان في هذه البحوث ينحو منحى تقرير الأحكام الشرعية في الأصل ، لكنه تقرير منطلق في شطر كبير منه من مقتضيات التطبيق وآثاره في تحقيق المقاصد، فاشتمل بذلك على منهجية تطبيقية ولو بصفة غير مباشرة[12].
وإلى جانب ذلك فقد حظي المنهج التطبيقي ببعض البحوث المستقلة في أثناء الخطة الفهمية العامة . ومثال ذلك البحوث المتعلقة بتحقيق المناط، وبمآلات الأفعال، وبالإفتاء وقواعده وشروطه من باب الاجتهاد، وغير ذلك من المباحث الجزئية المبثوثة في أبواب أصول الفقه والتي إذا جمع بعضها إلى بعض في تبين تأليفى اجتمعت منها جملة صالحة لقواعد منهجية في فقه التطبيق، ولكن في حجم صغير وتفصيل محدود بالنسبة لما حظي به منهج الفهم من الثراء والترتيب والتفصيل .
وقد انعكس هذا الوضع في المنهج الأصولي على وضع التأليف الفقهي ، إذ تمحض الفقه في تقرير الأحكام للتجريد في غالبه ، فبعد جيل الأئمة المجتهدين الأوائل الذين عرضوا الفقه بمقتضيات تطبيقه كما بدا واضحًا في فقه الشافعي الذي شهد تعديلاً بالمقتضيات التطبيقية الجديدة بمصر المغايرة لمقتضيات العراق ، بعد هذا الجيل جنح الفقه باضطراد إلى تجريد تحتفى فيه باضطراد أيضًا الاعتبارات الواقعية، وتبرز فيه النزعة المدرسية التعليمية حتى آل في عهود الانحطاط إلى مختصرات هي أقرب إلى الرموز منها إلى الأحكام التى تعالج النوازل الحية في حياة الناس .
وإلى جانب الفقه التجريدي كان ثمة فقه آخر ذو خاصية تطبيقية، ذلك هو فقه النوازل والفتاوي ، وهو فقه حي في مجمله، لأنه يقوم على مقتضيات التطبيق الواقعية لأحكام الشريعة الكلية، وكان يمكن أن يعدل هذا الفقه من تجريدية الفقه المجرد ، وأن ينمى من منهج التطبيق في الفكر الأصولي والفقهي عمومًا فيتكامل الجناحان: التجريد والتطبيق، ولكن مما يؤسف منه أن هذا الفقه التطبيقي لم يجد من العناية من قبل أهل الأصول والفقه إلا شيئًا قليلاً، فكان التأليف فيه، والجهد المبذول في درسه وترتيبه وتقعيده يكاد لا يذكر بالنسبة لما بذل في الفقه التجريدي ، ولو استعرضنا التراث الفقهي عامة وقارنا حجم المؤلفات بين هذا وذاك لتبين لنا الفارق الكبير .
وإذا ذهبنا نتبين الأسباب في هذه المفارقة بين منهج في الفهم ثري ناضج، وعناية بالفقه التجريدي متزايدة من جهة، وبين منهج في التطبيق ضنين، وجهد في الفقه التطبيقي زهيد من جهة أخرى، ظهر لنا أن أهم الأسباب ربما تكون متمثلة فيما يلي :
أولاً: إن الحاجة إلى الفهم أسبق من الحاجة إلى التطبيق منطقيًّا وزمنيًّا، فكان الفهم تبعًا لذلك فائزًا بأولية الجهد في التنظير المنهجي الذي اخترعه الإمام الشافعي، وبني هذا التنظير على هيكل استبد به الفهم أو كاد لما احتل من مكان الأولوية ، وجرى الأمر على ذلك عند الأصوليين بعد الشافعي حتى نضج علم الأصول على ذلك الهيكل، فلم يكن لمنهج التطبيق بعد ذلك حينما أتيح له شيء من الاهتمام إلا أن يندرج في الهيكل المرسوم على منهج الفهم، فكان التوجه إليه بالعناية أمرًا ثانويًّا .
ثانيًا : إن من طبيعة التطبيق التوالي والتدرج، إذ الأحداث والنوازل تجد تباعًا بتقدم العمران، أما الفهم فإنه ضرورة أولية ناجزة، ومن طبيعة العلوم في نشأتها أن تكون في هيأتها النظرية متأخرة عن ممارساتها العملية ؛ إذ هي بوجه من الوجوه خلاصة للتجربة العملية المتكاثفة . وهكذا كان الأمر بالنسبة لمنهج الفهم الذي أسسه الإمام الشافعي ، فقد تأخر بأكثر من قرن ونصف عن بداية الممارسة الفعلية لفهم الأحكام الشرعية على عهد نزول الوحي. أما تطبيق الأحكام الشرعية في واقع الحياة فلم يشهد التوسع في الحياة الاجتماعية والاقتصادية إلا في القرن الثاني حينما امتدت الدولة الإسلامية على أرض الحضارات القديمة، وأتيح لها من التمكين ما أفضى إلى حركة من التعمير الشامل فأثرت الحياة ثراء ولّد زخمًا من مستجدات الأوضاع نشط الاجتهاد في التطبيق الفعلي لأحكام الشريعة عليها .
وعلى سنة التطاول في التنظير العلمي المنهجي بالنسبة للممارسة العملية، فإن الموعد المنتظر لبناء منهجية في التطبيق لهذا الزخم التطبيقي الفعلي لأحكام الشريعة الناشئ في القرن الثاني، والبالغ ذروته في الثالث سيكون بعد ذلك بما يقارب القرن ونصف القرن . ولكن هذا الموعد يصادف بداية التراجع في الاندفاع الابتكاري للفكر الإسلامي، حيث بدأ هذا الفكر بعد القرن الرابع في الانحسار عن المبادرة الإنشائية وانكفأ على العلوم التي كانت كلها نشأت قبل ذلك بالإثراء والتوسيع والترتيب، وكأن الفكر الأصولي حينئذ لم يبق فيه من المنة ما يبتدع به منهجًا في التطبيق، فعكف على منهج الفهم المبتدع قبلاً بالدرس وأدرج فيه ما عنّ من منهجية التطبيق في درجة ثانوية .
ثالثًا : بالإضافة إلى سبب التراجع الابتكاري للفكر الإسلامي ، فإن حركة التعمير الحضاري نفسها بدأ زخمها في الانحسار عند هذا الموعد المنتظر لتنظير المنهج التطبيقي . فلم يعد يحدث في مستجدات الأوضاع والنوازل التعميرية ما يحمل الفكر الفقهي بثرائه وتشعبه على الاجتهاد في التطبيق العملي ليكون ذلك بدوره داعيًا لأن يرتقى ذلك الفرد من الاجتهاد في التطبيق إلى التنظير المنهجي للاجتهاد في التطبيق . فالسند الأصلي لهذا التنظير المنهجي إنما هو الداعي الواقعي المتمثل في المستجدات والطوارئ الحضارية المتطلبة لأحكام شرعية ، فلما بدأ ذلك السند الأصلي في الانقطاع، انقطع به الداعي إلى التنظير المنهجي، واسترسل الفكر الأصولي في الاشتغال بمنهج الفهم دون منهج التطبيق إلا لمامًا .
وعلى هذا الوضع من غلبة منهجية الفهم على منهجية التطبيق استمر الفكر الأصولي قرونًا طويلة دون أن يشهد تجديدًا أو إضافة ذات بال، بل جمد على معهوده في منهج الفهم فضلاً عن منهج التطبيق باستثناء بعض المحاولات الرائدة كتلك التي قام بها الإمام الشاطبي في الموافقات . وقد انتهى الفكر الأصولي إلى واقع المسلمين اليوم على النحو الذي ذكرنا ، والحال أن هذا الواقع يزخر منذ زمن بمعطيات طارئة، ويشهد صحوة إسلامية تدعو إلى تطبيق الشريعة، فما هي منزلة المنهجية الأصولية في جانبها التطبيقي على الأخص من هذا الواقع الجديد؟
ب – مطلب التطبيق والواقع الإسلامي الراهن:
إذا تأملنا الواقع الإسلامي الراهن من حيث تحفزه لتطبيق الشريعة من جهة، ومن حيث المنهج الأصولي الفقهي الذي هو عدة التطبيق من جهة أخرى، تبين لنا أن هذا الواقع محكوم من الجهة التى ذكرنا بعناصر أساسية في الوضع الذي انتهت إليه الشريعة في واقع المسلمين، وفي تطلب هذا الواقع بثراء أحداثه ونوازله لتطبيق الشريعة، وفي مدى الوعي بالمنهجية الأصولية لهذا التطبيق تقديرًا لأهمية المنهج التطبيقي في ذاته من ناحية، وتمييزًا بينه وبين المنهج الفهمي من ناحية أخرى، وسنبسط القول فيما يلي في هذه العناصر لما لها من أهمية في تحديد المقتضيات المنهجية لتطبيق الشريعة التي سنشرحها بعد .
أولاً : الشريعة والواقع :
لما ضعف الواقع الإسلامي بعد عهود الازدهار ظلّ تمارس فيه أحكام الشريعة بالتطبيق في مختلف مجالاته، وإن تكن ممارسة أقرب إلى التقليد منها إلى التوجيه الحي لمناشط الحياة بما يناسبها من الهدي الشرعي . ولكن منذ ظهور الدولة الحديثة في العالم الإسلامي أوائل القرن العشرين، بل قبل ذلك ببعض الزمن عطلت الأحكام الشرعية عن أن تكون الهادية لأكثر مجالات الحياة ذات الصبغة الاجتماعية، وانحسرت في مجال ضيق من الحياة الفردية والأسرية .
ولم يكن هذا التعطيل ناشئًا عن اجتهاد في التطبيق على سبيل التأجيل أو التدرج مما قد يلجأ إليه أحيانًا بالاجتهاد مع استصحاب الإيمان بقيومية الشريعة على الحياة ، وإنما كان تعطيلاً ناشئًا عن غفلة عقدية من قبل البعض، وعن تبييت عدائي للدين من قبل بعض آخر، وآل الوضع إلى أن استبدلت بأحكام الشريعة قوانين من وضع الإنسان أصبحت هي السائدة في أكثر مجالات الحياة للمجتمع الإسلامي .
فلم يكن واقع المسلمين إذن قد افتقد منذ ما يقارب القرن التطبيق الاجتهادي لأحكام الشريعة فحسب، بل افتقد أيضًا التطبيق التقليدي الذي ساد في عهد الانحطاط ، فانقطع بذلك السند بين المسلمين وآدابهم في تطبيق الشريعة اجتهادية وتقليدية . وهو ما أحدث فجوة كبيرة في الانتماء عقديًّا بحاكمية الشريعة. وهذا هو الوضع القائم الآن حينما تنادى أهل الصحوة الإسلامية لتطبيق الشريعة، حيث فريق ممن ينتمى إلى المسلمين يطرح الشريعة مبدئيًّا من منطلق إنكاري ، وفريق آخر يستبعدها من المجال الاجتماعي العام من منطلق علماني ليبرالي ، وفريق ثالث يعيش في غيبة الشريعة مستمرئًا حياته من منطلق الغفلة والجهل. ويسطر الفريق الأول والثاني على حظوظ الأمة في أغلب مناطقها، ويؤلف الفريق الثالث الشطر الكبير من جمهورها .
ثانيًا : إيقاع الأحداث في حياة المسلمين:
إن القرن العشرين شهد فيه المسلمون انقطاع الشريعة عن واقع حياتهم، لم يكن استمرارًا في إيقاع الحياة للقرون الخوالي التى اتصفت بالجمود ورتابة الأحداث، ولكنه كان عكس ذلك تمامًا، فهو قرن التحولات الكبرى في الحياة الإسلامية من كل جوانبها، فقد انتبه المسلمون في القرن الماضي من سباتهم الحضاري على صيحة الإمام الأفغاني ، فقاموا يشهدون الحياة الجديدة، وكان يقوم في عالم الغرب أنموذج من الحياة ثري في التعمير المادي، مبهر في الإنجاز المدني، فيمموا شطر هذا الأنموذج لتعديل حياتهم الراكدة بحسبه على ما بينهما من هوة سحيقة .
وفي هذا التعديل شهدت حياة المسلمين التحول الكبير في النظم العامة للحياة سياسة واقتصادًا واجتماعًا، وأصبح إيقاع الأحداث في هذه الحياة إيقاعًا حثيثًا متسارعًا، شمل كل أوجه الحياة الفردية والاجتماعية، حتى ليمكن القول إن حياة المسلمين اليوم لا تمت بصلة في أكثر أوضاعها لما كانت عليه قبل قرن من الزمن .
ولما كانت هذه التحولات والأحداث المتسارعة تتم في غيبة الشريعة، وعلى اقتداء بأنموذج وضعي من الحضارة الغربية، فإن الغربة بين المسلمين وآداب الشريعة في تطبيقها نمت هي أيضًا بشكل متسارع حتى أصبحت غربة فكرية ونفسية . ولو كان الزمن الذي غابت فيه الشريعة زمن ركود في الأحداث لكانت الغربة خفيفة، ولكن لما تكاثفت الأحداث، وثريت وجوه الحياة بخوالف الأوضاع في غيبة من الشرع، وذهبت في ذلك بعيدًا، أصبحت المسافة بين المسلمين والشريعة على قدر المسافة التى تغيرت بها أوضاعهم في إيقاعها المتسارع، فهذه هي حالهم اليوم في موقع التطبيق الشرعي وآدابه من الأذهان الأعيان .
ثالثًا : مطلب تطبيق الشريعة في الوعي الإسلامي:
في غيبة تطبيق الشريعة، وفي تسارع إيقاع الأحداث والتحولات الكبيرة في حياة المسلمين ارتفعت الأصوات منذ بعض الزمن منادية بالتطبيق الشامل لأحكام الشريعة في مختلف وجوه الحياة، وأصبحت هذه الأصوات تمثل تيارًا قويًّا في مجرى الواقع الثقافي والسياسي في المجتمع الإسلامي . ويمكن أن يفسر نشوء هذا التيار ونموه بأنه تعبير عن ضمير الأمة الإسلامية الذي بقى حيًّا رغم تحول وجهة الحياة بعنف إلى أنموذج وضعي يكاد يكون شاملاً . وكأنما كان هذا التحول العنيف في إيقاعه استفزازًا أثار الضمير الإسلامي بعد سكرة الانبهار بالحياة الغربية والتوجه في تقليدها بغير بصيرة، فبرز هذا الضمير يعبر عن ذاته في رد فعل متمثل في تيار المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية .
وقد كان لطبيعة هذه النشأة لتيار المطالبة بتطبيق الشريعة أثر بين في نوع خطابه، إذ هو خطاب أقرب إلى العاطفية المعبرة عن الإيمان العقدي بقيومية الشريعة منه إلى التبصر المنهجي بالمقتضيات الاجتهادية للتطبيق الشرعي في خضم الواقع الجديد للحياة الإسلامية. ورغم تقدم هذا التيار في نشر الوعي العقدي، وفي اكتساب التأييد الثقافي والسياسي تقدمًا كبيرًا إلا أن تبصره المنهجي بمقتضيات التطبيق ظل ضعيفًا إلى حد كبير . ولعل من أسباب ذلك ما ذكرناه سابقًا من الضعف في أدب المنهج التطبيقي في التراث الأصولي الفقهي عامة، فحينما فزع المسلمون في صحوتهم الجديدة إلى تراثهم يستلهمون منه ما يصححون به وجهة الحياة التى تنكبت شريعة الله لم يسعفهم هذا التراث على وجه قريب بمنهج تطبيقي نضيج بيّن كما أسعفهم بالقيم العقدية وآداب المنهج في فهم الشريعة، فظل خطابهم على قدر من الفجاجة المنهجية في التطبيق .
ومن مظاهر هذا القصور المنهجي التطبيقي أو من آثاره ما نراه اليوم من خلط عند بعض الدعاة بين منهج الفهم ومنهج التطبيق في الشريعة، حيث ذهب بهم الظن إلى أن أحكام الشريعة متى فهمت الفهم الصحيح حسب منهج أصولي قويم، فلا تكون في حاجة بعد ذلك إلا إلى القرار السياسي الذي تتنزل به على الواقع المنحرف للمسلمين تنزلاً آليًّا فينصلح ذلك الواقع بهدى الشريعة. ومن البين أن هذا الظن نشأ من الغفلة عن المقتضيات المنهجية للتطبيق أصلاً، وهو ما يفيد أن القصور المنهجي التطبيقي في حركة المطالبة بعودة الشريعة ليس قصورًا في العدة لإحياء منهج التطبيق وإثرائه، وإنما هو قصور ممتد عند الكثيرين إلى الوعي بهذا المنهج أصلاً من حيث حقيقته وضرورته في تنزيل الشريعة على الواقع .
وقد أفضى هذا القصور في الوعي بالمنهج التطبيقي للشريعة إلى نتيجة خطيرة عند بعض المهتمين بقضية تطبيق الشريعة، ذلك أن شقًّا من هؤلاء هالهم المفارقة بين الأحكام الشرعية في مقتضياتها المجردة والواقع الجانح الذي تسير عليه حياة المسلمين فظنوا أن لا سبيل إلى التوفيق بينهما بغفلة منهم عن قيمة منهج التطبيق الذي وصل بين تلك الأحكام المجردة وواقع الجاهلية الأولى، ثم وصل بينها وبين الواقع الحضاري الذي كانت عليه الأمصار أزمان الفتح، فاستوت الحياة شرعية بذلك الوصل رغم أن المفارقة آنئذ كانت أشد من مفارقة اليوم . وبهذا الظن الخاطئ ارتد هذا الشق إلى الأحكام الشرعية نفسها بمنهج في الفهم جديد يفضى إلى نقضها وتغييرها في صفتها الكلية حتى يتحرر الواقع الجاري من مطالبها، ويمضى على ما هو عليه ((شرعيًا)) بالفهم الجديد، وذلك ما ينادي به اليوم أولئك الذين يدعون إلى فهم للأحكام يقوم على منهج يقصر نصوص الوحي المتضمنة لتلك الأحكام على زمن نزولها وأحواله، وتصبح بعد ذلك منسوخة بالزمن، فإذا ما كان مفروضًا يغدو ممنوعًا، وما كان ممنوعًا يصير مباحًا[13]. وإذا كان بعض هؤلاء انتهوا إلى ما انتهوا إليه من منطلق الغفلة فإن دعوتهم التقت موضوعيًّا مع المعادين للشريعة عداء عقديًّا، فتبنوا هذا المنهج لهدم الشريعة من أساسها الديني في ثوب من التستر الاجتهادي في نطاق الدين[14].
لقد تبين لنا مما تقدم أن أحكام الشريعة المطلقة تحتاج في تطبيقها على الواقع إلى منهج خاص في أسسه ومواصفاته زائد عن منهج الفهم ومغاير له . كما تبين أيضًا أن الصحوة الإسلامية المنادية اليوم بتطبيق الشريعة لا تقوم دعوتها على منهج تطبيقي تستطيع به أن تواجه الواقع المتنكب عن الشريعة في ثراء من النوازل والأحداث والأوضاع المستجدة بتعقد وتشابك. وذلك كله يدعو إلى التوجه الجاد من قبل من يحملون همّ الشريعة الإسلامية لتكون الدعوة إلى تطبيق الشريعة والسعى فيه قائمين على سند منهجي للتطبيق تؤسس أصوله بحسب المعطيات الواقعية الراهنة، فإن هذا السند المنهجي هو الضمانة الكبرى لعودة الشريعة إلى هداية الواقع في أحسن الآجال والأحوال، وبدونه قد يكون من الاضطراب والانتكاس ما يكر على أصل القضية بالضرر الوبيل . وفيما يلي نعرض قواعد عامة تتعلق بمنهج تطبيق الشريعة في أسسه العامة في ضوء الظروف الراهنة .
ثانيًا : الأسس المنهجية لتطبيق الشريعة في الواقع الراهن:
ذكرنا آنفًا مبادئ عامة لمنهجية تطبيق الشريعة، وهي أسس لازمة من ذات التطبيق بإطلاق من القيود الظرفية، ولكن في نطاق تلك المبادئ العامة يمكن أن تثرى منهجية التطبيق بقواعد وضوابط أخرى فرعية تقتضيها طبيعة الأوضاع والملابسات الواقعية التى تتغير من زمن إلى آخر ، وتكون بها أقرب إلى تحقيق أغراضها في تحقيق المصالح .
والمتأمل في الواقع الراهن للمسلمين يقف على معطيات كثيرة مستأنفة لم يكن لها في الأزمان السابقة نظير، وقد ألمحنا آنفًا إلى بعض هذه المعطيات التى منها الغربة العقدية والواقعية للشريعة الإسلامية التى تشهدها حياة المسلمين منذ عقود، وسرعة الإيقاع في نشوء الأحداث والأوضاع وتفاعلها وتشابكها على نطاق إسلامي وعالمي، وتوسع العلاقات الاجتماعية وترابطها وتداخلها بما لم يسبق له مثيل من قبل . وهذه المعطيات المستأنفة في واقع المسلمين لابد من أن تكون عنصرًا أساسيًّا في اعتماد المنهج التطبيقي للشريعة في الواقع الزمني الراهن للمسلمين، وفي ضبط قواعده وأسسه في نطاق المبادئ المنهجية العامة للتطبيق؛ وذلك لأنها هي التى تنير الطريق في الكيفية التى يكون بها تنزيل الشريعة مثمرًا، وتعصم مراعاتها من التطبيق الآلي الذي يحيد في كثير من الأحيان بأحكام الشريعة عن مقاصدها.
وإذا كانت القواعد المنهجية ستتأسس على هذه المعطيات الواقعية الراهنة، فإنها ليست مستجدة تمام الجدة بحيث تكون منقطعة عن التراث الأصولي الفقهي، فلا يمكن الاستفادة من ذلك التراث بخصوصها، بل إن قراءة ذلك التراث قراءة متأنية نافذة من شأنها أن تساعد مساعدة كبيرة على ضبط تلك القواعد المنهجية وإنضاجها . فالواقع الإسلامي مهما تغايرت أحواله عبر الزمن فإنه لا يعدم قدرًا مشتركًا من خيوط التواصل بين سالفه وخالفه، وهو ما يبقى على التجارب الاجتهادية السابقة في التطبيق مصدر إلهام للاجتهادات اللاحقة فيه مع تغاير الأزمان والأحوال .
وفي هذا الخصوص فإن مما ينبغي الرجوع إليه بالقراءة المتفحصة ما اشتمل عليه أصول الفقه من أبواب وقضايا وقواعد ذات منزع منهجي تطبيقي سواء كان ذلك بصفة مباشرة فيها أو بصفة غير مباشرة، كما ينبغي أيضًا الرجوع بالقراءة المستخلصة للاجتهادات الفقهية التطبيقية لكبار الأئمة المجتهدين في ذلك العصر الذي واجهوا فيه واقعًا يشبه واقعنا اليوم من حيث ثراء الأحداث وتسارع إيقاعها فيه، فإن تعامل أولئك الأئمة في القرن الثاني والثالث مع مستجدات أوضاعهم التي تكثفت فيها الصور المستحدثة والاجتهادات التي واجهوا بها تلك الأوضاع والصور لتطبيق الشريعة عليها من شأنه إذا ما قرئ بتبصر أن يفيدنا في التعامل الاجتهادي التطبيقي مع أوضاع عصرنا . ومن أهم ما يمكن أن يفيدنا في هذا الخصوص أيضا فقه الفتاوى في التراث الإسلامي، فإن هذا الفقه هو الذي يمثل بحق الاجتهاد التطبيقي للشريعة الإسلامية ، وإحياء هذا الفقه ودراسته دراسة عميقة من الناحية المنهجية، واستخلاص قواعده التطبيقية وترتيبها من شأنه أن ينير الطريق أيما إنارة للمنهج التطبيقي الذي ننشده في حاضرنا .
ومن المهم أن ننبه إلى أن تطبيق الشريعة الذي نعنيه في هذا المقام، والذي نبتغي له قواعد منهجية، يندرج فيه معنيان يعتبران كالمرحلتين في التطبيق: أولاهما: إعداد الحكم الشرعي إعدادًا مراعى فيه مقتضيات التطبيق الواقعية، فيكون متأسسًا من جهة على الحكم المجرد بمدركه الشرعي، ومكيفًا من جهة أخرى بمقتضيات الأوضاع الواقعية . والثانية الإجراء الفعلي لذلك الحكم المصاغ صياغة تطبيقية على أوضاع الواقع لهديها نحو الصلاح بما يقتضيه الشرع.
وإنما كان هذا الإجراء الفعلي مرحلة بذاتها في التطبيق مغايرة لمرحلة الصياغة لأن صياغة الأحكام صياغة تطبيقية وإن كانت تقوم على مقتضيات واقعية إلا أنها تبقى على شيء من الكلية باعتبار أن المقتضيات التى تقوم عليها مقتضيات عامة بين أفراد الواقع وأحداثه، أما الإجراء الفعلي فإنه ذو طبيعة واقعية خالصة باعتبار أنه يعالج بالتطبيق الأحداث والأوضاع مشخصة منفردة ، وقد يقتضى ذلك باعتبار خصائص التشخص لكل حالة واقعية أن يعاد على الحكم في صياغته الواقعية بالتعديل، فتكون إذًا صياغة الأحكام مرحلة في التطبيق ، وإجراؤها على الواقع مرحلة أخرى[15].
وبناء على ما أشرنا إليه آنفًا من المعطيات الواقية الراهنة في الحياة الإسلامية، وما ذكرناه من مظان الاستفادة من التراث في فقه التطبيق، وما حددنا من معنى للتطبيق يشمل الصياغة التطبيقية والإجراء العملي معًا، فإننا نعرض فيما يلي أهم ما نراه أسسًا عامة في منهج تطبيق الشريعة في الظرف الإسلامي الراهن .
أ – التأطير العقدي:
إن الأحكام الشرعية شرعت كلها في أحكام العقيدة . فهذه هي الأصل في الدين، وعنها تفرعت كل التعاليم المتعلقة بالسلوك، ولذلك فإن كل اجتهاد في أحكام الشريعة بالفهم المباشر وغير المباشر أو بالتطبيق صياغة وتنزيلاً ينبغي أن يكون محكومًا بالمبادئ العقدية، متخذًا منها المرجعية العليا الموجهة له فيما ينتهى إليه من النتائج .
وقد كان التراث الفقهي فيما أنتجه الأئمة المجتهدون مندرجًا ضمن الإطار العقدي، ملتزمًا به مرجعية موجهة، وذلك في شيء من التلقائية التى لا يرى لها أثر في الصناعة الفقهية فهمًا وتطبيقًا. فقد كانت مبادئ العقيدة ماثلة في العقول بتسليم لدى المسلمين مجتهديهم وعامتهم، ما كان منها متعلقًا بالأسس العليا ألوهية ونبوة وبعثًا وما يلحق بها، وما كان متعلقًا بالأحكام الشرعية من حيث مشروعيتها وقيوميتها على شعاب الحياة كلها؛ ولذلك انتفى الداعي إلى أن تكون الاجتهادات الفقهية في سياق اندراجها في الإطار العقدي مأخوذة بالصنعة المبرزة لذلك الإطار بغاية الإقناع أو التعليل إلا في القليل، واكتفى فيها بالإدراج الضمني في صفة تلقائية.
ولكن لما مضى عهد الاجتهاد الحي في أحكام الشريعة، وانتهى الفقه إلى التقليد والجمود، بدأت تلك الضمنية في الإندراج العقدي للأحكام الشرعية في الاضطراب، إذ الاجتهاد هو الذي كان يضمن السيطرة التلقائية لمبادئ العقيدة على ما يثمره من أحكام في الفهم والتطبيق . أما التقليد فإنه فيما يقوم عليه من التفاوت بين الأحكام ومقتضيات الأوضاع الطارئة، قد يفضى أيضًا إلى التفاوت بينها وبين سياقها العقدي ، فإذا أحكام مقررة ومطبقة في الواقع ، وهي إذا وزنت بميزان عقدي ظهر فيها الخلل عن المرجعية العقدية . وخذ مثالاً في ذلك ما أجازه بعض الفقهاء في السياسة الشرعية من ولاية السلطان المستبد، وما منعوا من عزله إذا كان مقيمًا لشعائره الدينية مع استبداده وظلمه، وهو ما يتناقض مع الأحكام التى جاءت بها العقيدة الإسلامية في وجوب الأمن والعدل، وفي تحريم الظلم والبغي .
وفي الواقع الإسلامي الراهن أصبح للشريعة الإسلامية في أصل مشروعيتها وضع غير وضعها السابق، إذ صار كثير من المسلمين كما ذكرناه آنفًا في غفلة عن هذه المشروعية ، وصار بعض آخر من المنتمين إلى المسلمين في إنكار لها في كثير من الأحكام أو قليل، وذلك بتأثير من الغيبة الطويلة للشريعة في واقع الحياة من جهة، وبتأثير من الغزو الثقافي الغربي من جهة أخرى .
بالإضافة إلى ذلك فإن تطبيق الشريعة في الواقع الراهن سيكون مواجهًا لأوضاع وحالات كثيفة من المستجدات التي ليست فيها أو فيما يشبهها سابقة من اجتهاد شرعي لما طال من عهد الجمود الفقهي، وما حدث من انقطاع في التطبيق أصلاً بعد ذلك ، وهو ما يصير به تطبيق الشريعة في هذا الواقع كأنه الفتح الجديد الذي يشبه فتح الأئمة المجتهدين لأوضاع واقعهم الثرية بالتطبيق الشرعي عليها .
وبهذين السببين يكون من الضروري أن تدرج الشريعة اليوم وهي تحمل للسيادة التطبيقية في إطارها العقدي، وأن يكون هذا الإدراج مصنوعًا بالقصد لا ضمنيًّا تلقائيًّا كما كان عليه الأمر في السابق لطروء الدواعي الجديدة المتمثلة بالأخص في السببين الآنفين . والغاية من هذا الإدراج المصنوع تتمثل في أمرين أساسيين :
الأول: تقديم الأحكام الشرعية في الدعوة العامة لتطبيقها في سياق إقناعي يذكر الغافلين من المسلمين عن قيومية الشريعة بالبعد العقدي لتلك القيومية ، ويحاجج المنكرين والمعارضين بما فيها من الخير والصلاح لمعالجة النوازل الواقعية المستعصية. ولا يغرب عن بالنا في هذا الصدد أن الشريعة الإسلامية كمنهاج متكامل للحياة يواجه اليوم مناهج وضعية تغزو المجتمع الإسلامي سياسة واقتصادًا واجتماعًا، مؤطرة في أطر أيديولوجية يحكم فيها الربط بين المظهر التطبيقي العملي والمبدأ الأيديولوجي الفلسفي حتى إذا ما نظرت في سياق الأحكام والقوانين المنظمة للحياة العملية وجدتها مسنودة إلى سند بيّن من مرجعيتها الفلسفية ، وهو ما يبدو جليًّا في كل من النظام الشيوعي والنظام الرأسمالي على السواء. فكيف يمكن أن تكون الشريعة الإسلامية في مضمار التبشير التطبيقي على كفاءة في المزاحمة والدحض لهذه المناهج المؤطرة أيديولوجيًّا إذا لم تكن هي أيضًا مدرجة ضمن إطار عقدي يكسبها القوة في الإقناع والقبول؟
والثاني: أن تكون الأحكام الشرعية عند معالجتها بالاجتهاد التطبيقي صياغة وإنجازًا ، من جهة سديدة في إصابتها لمقاصدها، ومتناسقة متكاملة فيما بينها من جهة أخرى، فاتخاذ إطار عقدي بيّن يكون المرجع الدائم لكل اجتهاد، والحظيرة الشاملة لكل حكم، من شأنه أن ينظم كل الاجتهادات التطبيقية في سياق واحد يفضى إلى المصلحة، ويعصم من شرود بعضها في زحمة المواجهة للأوضاع والنوازل الكثيفة المتراكمة في الواقع الإسلامي. إن انقطاع الفكر الإٍسلامي عن ممارسة الاجتهاد التطبيقي طيلة ما كانت الشريعة تقليدية أو معطلة أضعف فيه الخبرة التى تجعل ما يصدر عنه من اجتهاد مندرجًا بالتلقائية في القيم العقدية الكلية كما هو شأن الفقهاء في عهد الاجتهاد المزدهر، وإذا ما أضفت إلى ذلك كثافة الأحداث التى يواجهها هذا الفكر بخبرته الاجتهادية الناقصة كان لزامًا أن يتخذ لنفسه في اجتهاده التطبيقي إطارًا عقديًّا متكلفًا لتسديد خطاه في توفيق الواقع الإسلامي المعقد إلى أحكام الشرع .
وإذا لم تكن للتأطير العقدي المصنوع سالفة بيّنه[16] في التراث الفقهي لعدم الدواعي كما أشرنا إليه آنفًا فإن ما نرومه من إدراج للشريعة في إطار عقدي كقاعدة في منهج التطبيق سيكون بادرة تكتنفها صعوبة الابتداع، وفي سبيل تذليل هذه الصعوبة، وتحقيق التأطير العقدي نورد بعض الاقتراحات في كيفية هذا التأطير وقواعده نجملها فيما يلي:
أ – الوصل بين العقيدة والشريعة:
درج التراث الإسلامي على الفصل بين العقيدة والشريعة في تقرير المدلول. فالعقيدة هي التعاليم التى جاء الوحي يكلف الإنسان بتحملها بالتصديق القلبي كالإيمان بوجود الله وصفاته وبالنبوة وبالبعث . والشريعة هي التى جاء يكلف الإنسان بتحملها بالإنجاز السلوكي كالصلاة والصيام وسائر أحكام المعاملات . وقد استحدث لكل منهما علم خاص قائم بذاته ، فعلم الكلام للعقيدة ، وعلم الفقه للشريعة. وبمرور الزمن نما كل علم بموضوعه في اتجاه خاص به، وأفضى الترتيب المدرسي إلى تباعد بين أحكام العقيدة وأحكام الشريعة، حتى إنك لا تكاد تعثر على صلة بينهما في كتاب أو في تقرير إلا في القليل ، وانتهت الأحكام الشرعية في عهد الجمود إلى أوامر قانونية جافة غافلة عن مرجعيتها العقدية الإيمانية ، وربما يكون مما ساعد على رسوخ هذا الطابع في تقرير الشريعة منذ وقت مبكر أن الأحكام الشرعية لم تتعرض في مشروعيتها للغفلة أو الإنكار في دائرة المجتمع الإسلامي، وإنما كان الصراع دائرًا حول محور عقدي صرف، سواء بين المسلمين وأهل المذاهب والأديان، أو بين الفرق من المسلمين أنفسهم، فلم يكن ثمة داع عملي لإقحام الشريعة في جدل على مستوى مشروعيتها العقدية، فنمت أحكامها متفرعة على غير سند عقدي مصنوع لما كانت تقع في الاذهان من موقع التسليم.
ومن حيث الأصل فإن العقيدة والشريعة وجهان في الدين لعملة واحدة لا يمكن الفصل بينهما إلا في الاعتبار لأغراض دراسية، فأحكام الشريعة هي الوجه العملي لأحكام العقيدة ، والإيمان بمشروعيتها أساس من أسس العقيدة تنهدم بانهدامه ، بل إن العمل السلوكي بها اعتبر كثير من المسلمين الإخلال به إخلالاً مقوضًا للإيمان، هادمًا للاعتقاد. وعلى هذا الاعتبار فإن الفرقة بين العقيدة والشريعة كما آلت إليه في التقرير العلمي المدرسي وخاصة في العهود المتأخرة تبدو فرقة جافية عن روح الدين القائمة على الوصل المكين بينهما .
ومن بين المؤرخين للعلوم الإسلامية نجد واحدًا منهم يكاد ينفرد بوعي عميق بالصلة بين العقيدة والشريعة على المستوى التقريري العلمي، عمل على توحيد علمي العقيدة والشريعة هذه الوجهة الموصولة، ولكن لم يكن لتوجيهه صدى في المجرى الواقعي للعلوم الإسلامية ، ذلكم هو أبو نصر الفارابي (ت 339هـ) في كتابه ((إحصاء العلوم)) فقد جاء في تعريفه لعلم الكلام قوله: ((صناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التى صرح بها واضع الملة ، وتزييف ما خالفها بالأقاويل))[17] والمقصود بالآراء عنده التعاليم التصديقية، والمقصود بالأفعال التعاليم الشرعية العملية . فعلم العقيدة عند الفارابي يمتد إلى الشريعة ليكون البرهان على مشروعيتها موضوعًا أساسيًّا من مواضيعه . وبوجه آخر فإن الشريعة وفق هذا التصور ينبغي أن تكون مستندة في تقاريرها إلى سند عقدي من الاستدلال على مشروعيتها .
إن هذا الوصل بين العقيدة والشريعة في التقرير العلمي -كما تصوره الفارابي- يمكن أن نستثمره اليوم فيما نسعى إليه من تأطير عقدي للشريعة في مضمار النزوع بها إلى التطبيق . وذلك بإدراج قضايا ذات صبغة عقدية في سياق صياغة الأحكام الشرعية لتصبح ضمن مباحثها الفقهية ، تستند إليها أبوابها الكبرى، وترجع إليها تفاصيلها عند كل اجتهاد تطبيقي، بحيث تصير معدودة من مسائلها عند التقرير والترتيب. أو عند المناظرة والمقارنة. ويمكن أن يكون ذلك بصورتين اثنتين :
الصورة الأولى:
أن يعمد إلى كل محور من محاور الشريعة الأساسية فيدرج بين يديه مبحث عقدي يتعلق به ويكون ذلك المبحث كالسند لكامل قضايا المحور يوجه بناءها وترتيبها والاجتهاد فيها عن قرب. فإذا محور العبادات على سبيل المثال يتقدمه مبحث عقدي في العبادة في المفهوم الإسلامي وخصائصها وأبعادها الروحية والتربوية، ومحور المعاملات الاقتصادية يتقدمه بحث في المال من الناحية العقدية من حيث حقيقة الملكية في المفهوم الإسلامي ودورها في الخلافة في الأرض، وضوابطها الأخلاقية والاجتماعية . ومحور الأنكحة يتقدمه مبحث في الأسرة من حيث أهميتها في البناء الاجتماعي ، ودورها في التعمير، وقداسة روابطها ومواثيقها . وهكذا يمكن أن تدرج في منظومة الأحكام الشرعية بحسب ما يناسب محاورها مباحث عقدية أخرى من مثل : قيمة الإنسان المبنية على التكريم، وغاية وجوده التي هي الخلافة في الأرض، وحقوق الإنسان في العدل والمساواة، وعلاقة الإنسان بالكون ومنزلته فيه، والبعد الاجتماعي في العقيدة الإسلامية، وغير ذلك من المباحث المشابهة، بحيث لا يخلو باب من أبواب الأحكام الشرعية إلا ويسند إلى مبحث تأصيلي ذي صبغة عقدية كلية .
والصورة الثانية :
أن تقرن القضايا والأحكام الشرعية المندرجة في محاورها العامة بمغازيها العقدية القريبة المندرجة في مباحثها الكلية المصدرة بين يدي المحاور، بحيث لا يقرر حكم ولا يصاغ للتطبيق إلا وهو مرتبط بسند عقدي جزئي، بالإضافة إلى استناده العام في نطاق محوره إلى السند العقدي العام للمحور كله . فإذا حكم منع الاحتكار -على سبيل المثال- مرتبط عند تقريره بمغزى عقدي تربوي هو محاربة الأنانية والجشع والبغي، وذلك في نطاق ارتباطه ضمن محوره الاقتصادي بمبدأ عقدي عام هو أن الملكية الحقيقية للمال هي ملكية الله، والإنسان إنما هو مستأمن عليه فحسب. وإذا حكم الوجوب في بعض وجوه الإنفاق التى يلزم بها ولي الأمر أثرياء الأمة مستند إلى مغزى عقدي هو حق كفالة المحتاج في المجتمع، وذلك في نطاق ارتباطه ضمن محوره الاجتماعي بمبدأ عقدي عام هو تكريم الإنسان وحفظه من الهوان. وهكذا الأمر في سائر أحكام الشريعة في تقريرها وصياغتها وتطبيقها.
بهاتين الصورتين في الإدراج تغدو أحكام الشريعة وهي تهيأ للتطبيق بالاجتهاد في صياغتها منتظمة في سياق عقدي انتظامًا محكمًا، فما من حكم يتقرر بالاجتهاد ليعالج وضعًا واقعيًّا إلا وقد توجه بمغزى عقدى كلي عام، ثم أحكم توجيهه بمغزى عقدي جزئي في نطاق ذلك الكلي، فتصبح الشريعة بذلك موصولة بالعقيدة في تواشج متين من شأنه أن يعصم الاجتهاد الفقهي من التضارب، وأن يسدده لتحقيق المقاصد فيما يشبه جواهر العقد حينما تنظم بسلك متين يحفظ وحدتها ويوجهها إلى مغزاها على اختلافها في مواقعها وأحجامها ، ولو تركت غفلاً أو نظمت بخيط واه لانفرطت في نظمها وأخطأت مواقعها وضاعت مقاصدها.
ونحسب أن الإمام الغزالي في كتابه الإحياء قد كان له غرض في هذا المعنى من الوصل بين العقيدة والشريعة في نطاق غرضه الأعلى الذي هو الإحياء الروحي لعلوم الدين كما سنشير إليه تاليًا، ذلك أنه رأى بعض المشتغلين بالشريعة انحرفوا بها إلى التبديد والتفريق، وإلى المباهاة والاستظهار بجاهها ومنزلتها في المنافسات. فألف هذا الكتاب الذي بناه على صورة فقهية لأغراض من بينها ترتيب ما بددوه ، ونظم ما فرقوه[18]، وتوسل إلى ذلك من بين ما توسل بما سميناه هنا بالوصل بين العقيدة والشريعة، فإذا هو يصدر كتابه ذا الصورة الفقهية بمبحث عقدي عام شامل ترجم له بـ ((كتاب قواعد العقائد))، ثم هو يتعهد كل محور فقهي بعد ذلك، وأحيانًا كل حكم شرعي بعينه، يتعهده بالوصل بينه وبين مغاز عقدية. فإذا الكتاب ذي الصبغة الفقهية مضمخ بالمعاني العقدية ليتحاشى ما تصير إليه أحكام الشريعة من خطأ في تحقيق أغراضها حينما تفصل عن سندها العقدي، وهو ما رآه متحققًا في عهده من ((ميل أهل العصر عن شاكلة الصواب، وانخداعهم بلامع السراب، واقتناعهم عن العلوم بالقشر عن اللباب))[19].
ب : العرض الاستدلالي للشريعة:
لم يكن الاستدلال على المشروعية العقدية لأحكام الشريعة منهجًا معتبرًا في التراث الفقهي إلا أن تكون حالات محدودة تستعرض فيها علل بعض الأحكام وحكمها . وثمة شق من الأئمة والفقهاء أغلقوا هذا الباب أصلاً بما ذهبوا إليه من القول بأن أحكام الشريعة غير معللة، وبالتالي فإنها تؤخذ بالتسليم ولا مجال فيها للاستدلال لإثبات حقيقتها[20]. وربما كان الصارف عن الاستدلال العقدي على الشريعة لإثبات الحقية، وهو ما سماه الفارابي بـ ((نصرة الأفعال المحدودة)) ، ربما كان الصارف عن ذلك أن أحكام الشريعة لم تتعرض على عهد الأئمة للإنكار ، بل كانت مسلمة من قبل جميع المسلمين. أما التحدث الخارجي فقد كان موجهًا للعقيدة مما استلزم قيام المنهج الاستدلالي في عرضها إثباتًا لحقيتها وردًّا على الشبهة الواردة عليها، هو ما تكفل به علم العقيدة .
وقد انصرف الجهد الاستدلالي عند أئمة الفقه إلى تأصيل الأحكام في مصادرها النصية لضمان أن يكون كل حكم يقرر صحيح النسبة إلى الوحي قرآنًا وحديثًا ، مصيبًا للمراد الإلهي في هداية الإنسان . وعلى هذا الأسلوب الاستدلالي بنيت الشريعة في تقرير المذاهب الفقهية على عهد الاجتهاد، وقد طوره وذكاه ما كان دائرًا بينها من المحاجة النشيطة . إلا أن التقرير الفقهي لأحكام الشريعة آل أمره بعد عهد الاجتهاد إلى الخلو شيئًا فشيئًا من الاستدلال التأصيلي في نصوص الوحي، وغدا عرضًا لأحكام مجردة، بل عرضًا لأقوال الأئمة السابقين في تلك الأحكام، فحلّ الأسلوب العرضي محل الأسلوب الاستدلالي التأصيلي إلا في الأقل، وعند بعض الفقهاء وخاصة منهم الحنابلة. وبذلك افتقدت الشريعة -كما انتهت إلينا بعد عهود الانحطاط- لمنهج الاستدلالي بشقيه: الاستدلال العقيدي لإثبات الحقية، والاستدلال التأصيلي لإثبات المشروعية .
وفي الواقع الإسلامي الراهن تتعرض كثير من الأحكام الشرعية -كما ذكرناه آنفًا- إلى تحد من الشك والإنكار مختلف الأساليب ، بعضه عن غفلة، وبعضه عن تبييت للهدم. ولذلك فإن الضرورة تدعو إلى أن تقدم أحكام الشريعة في مضمار إعدادها للتطبيق في سياق استدلالي من شأنه أن يمكن لها في النفوس ويبدد ما نشأ من الشك والغفلة، ويهزم ما يبيت من الهدم . ومن البيّن أن الشريعة لا يمكن أن يكون لها إنجاز في الواقع إلا إذا نزلت من الناس منزلة الاقتناع الواعي، فتتلقى بالقبول من قبل الكافة، ولا تحصل تلك المنزلة إلا بالعرض الاستدلالي نصرة لها، وإثباتًا لحقيتها، وهو من هذه الجهة استدلال عقدي، ولذلك أدرجناه ضمن التأطير العقدي . ويمكن أن يكون هذا العرض الاستدلالي للشريعة بصورتين متكاملتين:
الصورة الأولى :
أن تُقدم الشريعة الإسلامية بصفة كلية في سياق استدلالي يبين فيه ما تقوم عليه من تكامل يحقق التوازن في حياة الإنسان، ويبرز فيه التكافؤ بين أبعادها التعبدية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية ، والتكافؤ بين مقاصدها الفردية والاجتماعية استدراكًا في ذلك لما وقر في بعض الأذهان من غلبة النزعة التعبدية والنزعة الفردية في الشريعة نتيجة لما آل إليه الفقه في عهد الانحطاط من تضخيم لفقه العبادات والأحوال الفردية على حساب الفقه الاجتماعي. وتكون غاية هذا الاستدلال الإقناع بأن الشريعة الإسلامية كمنظومة متكاملة هي نظام شامل للحياة كفيل بأن يعالج مشاكل الإنسان في هذا العصر خاصة، وأن يهديه إلى الحق والخير.
وإذا كان نوع من هذا الاستدلال ينتهجه منذ بعض الزمن الدعاة إلى تطبيق الشريعة، فإن أكثر ما ورد منه ينحو منحى عاطفيًّا لإثارة الوجدان الإسلامي وتعبئته[21]، في حين أن المطلوب بدرجة أولى هو استدلال عقلي يبين بوسائل البحث المنهجي المقنعة للعقلية الحديثة بما تقوم عليه الشريعة الإسلامية من عناصر القوة لتحقيق خير الإنسان وسعادته في خضم مشاكله الكبرى التي يعانيها في هذا العصر . ومن شأن الاستدلال على هذا النحو أن يطاول ما تساق فيه التشريعات الوضعية في مختلف مجالات الحياة من منهج استدلالي حجاجي يدافع عنها، ويسعى إلى إثبات حقيتها، وهو المعروف بفقه القانون أو فلسفة القانون الذي تتنافس في ترقيته منهجيًّا المدارس المختلفة، وعلى الأخص المدرستان الرأسمالية والاشتراكية. وقد أصاب هذا الاستدلال الوضعي الأمة الإسلامية بغزو فكري هو الذي يسبب مواقف الغفلة والشك والإنكار لأحكام الشريعة. ولا يمكن أن يهزم فينطقع أثره إلا بمنهج استدلالي على الشريعة يطاوله في قوة الحجة المقنعة.
والصورة الثانية:
أن تقدم الأحكام الشرعية في تفاصيلها في سياق استدلالي ، وعلى الأخص منها تلك التي تتعرض لقدر أكبر من الشك والإنكار، فتقع نصرتها لبيان الحقية متمثلة فيما تنطوي عليه من الحكمة سواء في المستوى النظري أو في المستوى العملي .
أما في المستوى النظري فبيان الحكمة في الأحكام الشرعية المجردة التي لا ترتبط بزمان ولا بمكان، مثل بيان ما في أحكام القصاص من حكمة حفظ النفوس واستتباب الأمن، وبيان ما في أحكام المواريث من وجوه العدل. وأما في المستوى العملي فبيان ما يثمره الحكم المعين من مصلحة حينما ينزل في واقعه الراهن، وما يعالج من مشكلات في ذلك الواقع ، مثل بيان الحكمة في تحريم الربا بإظهار ما يسببه في الاقتصاد العالمي اليوم من دمار، وبيان الحكمة في تشريع ((فضل الظهر))[22] بإظهار ما يحل من مشكلة النقل في الواقع الراهن.
وسواء أكان الاستدلال في عرض الشريعة استدلالاً كليًّا على جملتها، أو استدلالاً تفصيليًّا على أحكامها نظريًا وعمليًّا، فإنه لكي يؤدي غرضه ينبغي أن يكون استدلالاً يتوخى أساليب الإقناع التي تتطلبها العقول المعاصرة فيما هي نازعة إليه من منطق عملي نفعى يطلب الحلول العملية للمشاكل المعقدة التي تفرزها الحضارة الحديثة، ومن ثمة فإن البحث الميداني على أصول اجتماعية وإحصائية سيكون من العناصر الأساسية في هذا الاستدلال . وإذا ما عرضت الشريعة في استدلال مقنع لعقلية اليوم فإن النتيجة ستتعدى توفير شرط منهجي لتطبيق الشريعة إلى توفير منهج دعوى يثمر استجابة للدين كله من قبل المنكرين له ، فأكثر هؤلاء من المعاصرين تغلب عليهم العقلية الذرائعية، فمدخلهم إلى الدين يكون من باب ما يتيقنون من حلول لمشاكلهم الواقعية[23].
جـ – الإحياء الروحي للشريعة:
للشريعة الإسلامية وضع خاص من بين سائر الأديان ، فهي تتعدى أحكامها الشعائر التعبدية الخاصة لتشمل كل المعاملات في عرض الحياة الاجتماعية، لتكون هذه المعاملات الدنيوية معاملات دينية أيضًا ليست الصلة فيها بين الناس فحسب، وإنما هي بينهم وبين الله بالأساس .
ولما كانت طبيعة الشريعة الإسلامية على هذا النحو فإن الناس في تحملهم إياها بإجرائها في شئونهم الدنيوية كلها مبتلون بأن ينالهم من زحمة الحياة المادية ما يلهيهم في تعاملهم بأحكام الشريعة عن معانيها التى تصلهم وصلاً قويًّا بربهم الذي شرع لهم تلك الأحكام، فيغدو أداؤها حينئذ أشبه بتنفيذ آلي لقانون في التعامل منه بأداء مستشعر للحضور الإلهي الرقيب. وإذا كان هذا التنفيذ الآلي قد يصيب منا أحيانًا بعض شعائرنا التعبدية الخالصة فإنه في معاملاتنا الاجتماعية أدنى إلى الإصابة وأشد في دواعيها .
ومن شأن هذا الابتلاء في التحمل التطبيقي للشريعة أن يتعدّى إلى التقرير العلمي في ضبط أحكامها وترتيبها وعرضها، وهو ما بدا في نزوع علم الفقه في مراحله التقليدية على الأخص إلى منهج في التقرير يقتصر على البيان القانوني الجاف للأحكام، فاختفى منه أو كاد البعد الروحي المشبع بمعاني الخوف والرجاء واستشعار الرقابة الإلهية وتمحيض النية المخلصة لله تعالى في الائتمار بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه. وقد كان هذا الوضع الذي آل إليه تقرير الشريعة مبررًا للإمام الغزالي كي يثور الثورة التي ضمنها كتابه ((إحياء علوم الدين)) حيث رأى أن العلماء على عصره – ويقصد علماء الشريعة بالأخص – ((خيلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاويش الطغام، أو جدل يتذرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام ..))[24] ولذلك فإنه قام بتحرير كتابه هذا ((إحياءً لعلوم الدين ، وكشفًا عن مناهج الأئمة المتقدمين الذين درجوا على علم طريق الآخرة الذي سماه الله في كتابه فقهًا وحكمة ، وعلمًا وضيــاء، ونورًا وهداية ورشدًا))[25] فجاء هذا الكتاب يعرض الشريعة عرضًا يحيي في النفوس أبعادها الروحية التي تصير بها الأحكام مجلبة للتقوى والإخلاص لا تقريرات قانونية جافة .
والحقيقة أن عرض الأحكام الشرعية بعد الغزالي آل في عهود الجمود والانحطاط إلى وضع جاف من التقنين الذي يخلو من المعاني الإيمانية الروحية، بل تحول أحيانًا في المختصرات الفقهية إلى رموز وإشارات لا أثر فيها لما يحيي العلاقة بالله وينميها ليكون أداء الأعمال خالصًا لله مؤديًا لأغراضه في تحقيق المصالح .
من البيّن أن استشعار المعاني الروحية لأحكام الشريعة سواء في الشعائر التعبدية أو في المعاملات الاجتماعية العامة، وتمثل الرقابة الإلهية في تحملها، هو الكفيل بأن يجعل الأداء التطبيقي للشريعة أداء فاعلاً محققًا للمقاصد، وهو العاصم من التأويل والترخصات والحيل التي كثيرًا ما تؤول بالأحكام عند تطبيقها إلى خلاف مقصودها فلا تكون لها ثمرة في الإصلاح .
ويتوفر اليوم من دواعي الغواية الدافعة إلى التأويل والتحايل ما لم يتوفر من قبل ، نظرًا لطول العهد الذي انقطعت به الشريعة عن المجتمع، وشدة الوطأة للغزو الثقافي الغربي للأمة الإسلامية ؛ ولذلك فإن عرض الشريعة في سبيل تطبيقها يستلزم قدرًا كبيرًا من الإحياء الروحي لأحكامها حتى تقع في النفوس موقعًا إيمانيًّا مجللاً باستشعار الرقابة والخوف والرجاء، فتندفع لأدائها أداء موفيًا بأغراضها .
ولعل من أساليب هذا الإحياء في عرض الشريعة أن تقرن الأحكام في سبيلها إلى التطبيق بمغازيها الروحية إلى جانب تقريرها القانوني ، فيكون لبيان الأسرار التربوية للأحكام ، والآثار الروحية التى تفجرها في النفوس موضع مهم في سياق العرض . ومن أساليبه أيضًا التركيز في تقرير الأحكام على المعاني التعبدية فيها مهما كانت أحكامًا تبدو متمحضة لمعالجة أوضاع مادية على نحو ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما خاطب أصحابه قائلاً : ((وفي بضع أحدكم صدقة))[26] مبينًا مغزى تعبديًّا في عمل يبدو أنه في أعلى درجات المادية وهو إتيان الرجل زوجته.
إن إبراز الأبعاد الإيمانية الروحية في أحكام الشريعة من شأنه أن يكون عاملاً مهمًّا في صدق القبول وإخلاص الأداء ، هو ضمان عقدي متين لتطبيق الشريعة إذا ما تضافر مع الاستدلال في العرض، ومع وصل الشريعة بالعقيدة يتكون منهج صالح من التأطير العقدي في سبيل إعداد الشريعة للتطبيق .
2- الصياغة المقصدية :
إن للشريعة الإسلامية مقصدًا كليًا عامًّا هو تحقيق مصلحة الإنسان وخيره، ولكل حكم من أحكام الشريعة مقصد قريب يندرج ضمن ذلك المقصد الكلي العام، ويكون تحقيقه جزءًا من تحقيقه . وقد تكون بين المقصد الجزئي والمقصد الكلي درجات من المقاصد يندرج بعضها في بعض بحسب الكلية والجزئية حتى تنتهي إلى المقصد الأعلى[27].
والحكم الشرعي المجرد يكون مقصده مجردًا أيضًا ، وذلك سواء كان مأخوذًا مباشرة من نصوص الوحي ، أو مقررًا بالاجتهاد إذا لم يكن منصوصًا عليه، فحكم القصاص مقصده حفظ الحياة، وحكم الربا مقصده حفظ المال، وهما حكمان مرتبطان أبدًا بحكميهما المجردين مهما تغايرت الأزمان والأحوال. وهكذا فإن منظومة الأحكام الشرعية المجردة توازيها منظومة من المقاصد المجردة أيضًا، وترتبط بها على سبيل اللزوم بحيث يمكن تبينها بدلالات فقهية مجردة .
ولكن الأحكام الشرعية المجردة ليست غاية في ذاتها، بل غايتها في أن تصير إلى تنزيل في واقع الناس يكيف حياتهم ، ويهديها إلى ما فيه الخير، فهل إذا ما نزلت الأحكام المجردة على وقائع الحياة في ظرفها الزمني تتحقق مقاصدها بتنزيلها على سبيل اللزوم كما هو ارتباطها بها في حالة التجريد؟
إن النوازل والأحداث التى تشرع لها أحكام مجردة تحصل في الواقع أفرادًا مشخصة كما ذكرناه آنفًا ، وهذه الأفراد المشخصة من النوازل والأحداث قد يعترى بعضها من الملابسات التى تفرضها اعتبارات التشخص الزمانية والمكانية ما يكون سببًا في أن الحكم المجرد الذي هي مندرجة في نوعه لا يتحقق مقصده فيها حينما ينزل عليها، فيكون ذلك الحكم وإن كان مقصده في تحقيق المصلحة لازمة له في النظر ، فإنه ينفصل عنه في العمل ، فلا يكون محققًا لغرضه، بل قد يكون مسببًا في مفسدة . وخذ إليك مثالاً قريبًا في ذلك من أحكام الحدود، فإن من مقاصدها اللازمة الرّدع والتربية والتقويم حتى تنصلح النفوس فيصلح المجتمع ، فإذا ما اقترف رجل ما جرمًا يستحق الحد، ولكن هذه النازلة وقعت من جندى في حالة الغزو فإن تطبيق هذا الحكم الشرعي عليه قد يؤول إلى كسر نفسه فيقترف من التهاون في الجهاد والخيانة فيه ما يكون عائدًا بالهلكة على الأمة بأسرها ، ولذلك تقرر في الفقه أن لا حدود في الغزو .
وإذا كانت الأحكام الشرعية قد تتخلف مقاصدها في الإصلاح عند تطبيقها على بعض الأفراد من النوازل والأوضاع الوقعية فإن هذا يدعو إذن إلى أن تعتبر المقاصد من حيث تحققها في الواقع عند تطبيق الأحكام عنصرًا أساسيًا في الاجتهاد التطبيقي لتلك الاحكام ، بحيث يكون تقريرها وعرضها للتطبيق مبنيًا على ما تفضى إليه من تحقيق المقاصد في الواقع لا على أساس اللازم النظري بينها وبين مقاصدها، وذلك ما نعنيه بالصياغة المقصدية كمبدأ منهجي في تطبيق الشريعة .
وربما كانت الصياغة المقصدية بهذا المعنى تقتضى أن ينال الحكم الشرعي الثابت المنصوص عليه تعديل أو تأجيل أو تبديل عند الإجراء التطبيقي، وهو ما يجعل مسئولية المجتهد في هذه الصياغة مسئولية ثقيلة من حيث إن التقدير في تحقق المقاصد من عدمه بتنزيل الأحكام على الوقائع تقدير مجال الظن فيه مجال واسع، وإذا ما كان التقدير خاطئًا أدى إلى تعطيل الشريعة عن الهداية، وحسبك بذلك من محذور يستلزم القدر الكبير من التحوط والدقة والورع .
ولو نظرنا في المنظومة الشرعية المقررة لدينا الآن في علم الفقه كما وصلتنا موروثة عن عهود التقليد ثم قارناها بأوضاع المسلمين الراهنة الحافلة بالوقائع والأحداث المستجدة، والثرية بالأسباب والملابسات الموجهة للوقائع والطابعة لها بخصائص مميزة من جراء التفاعل العالمي البالغ في شئون الحياة، فإننا نلفى (تم تصحيح هذه الكلمة حيث ان اصل البحث المنشور كانت “نلغي”) تلك المنظومة الشرعية مصاغة في بناء أحكامها، وفي ترتيبها صياغة نظرية مدرسية لأغراض تعليمية، وقد توافقت في صياغتها تلك الأحكام مع مقاصدها توافقًا منطقيًّا نظريًّا .. ولكن لو رمنا تنزيلها على ما هي عليه على الوقائع والأحداث الراهنة بالملابسات التى وصفنا لتبين لنا أن الكثير من أحكام الشريعة المقررة فيها لا تحقق مقاصدها لو طبقت على الوقائع بملابساتها الزمنية، بل ربما أحدثت من الحرج للمسلمين شيئًا كثيرًا . وهذا ما يقتضى في سبيل التطبيق الشامل للشريعة في الواقع الإسلامي أن تعاد صياغتها بمنهج مقصدي ، على معنى أن تصاغ الأحكام وترتب على أساس ما تحقق من مقاصدها في معالجة النوازل الراهنة، فتعرض حينئذ عرضًا مقصديًّا واقعيًّا لا عرضًا نظريًّا مجردًا .
ومن المهم أن ننبه إلى أن هذه الصياغة المقصدية للشريعة ليس من شأنها أن تأتي على أصل الأحكام من حيث ثبوتها في الفهم بالإبطال بناء على تخلف مقاصدها عند التطبيق في بعض الأوضاع كما يذهب إليه اليوم بعض المبيتين للشريعة بالهدم، وإنما هي صياغة قد تقتضى حجز بعض الأحكام عن التطبيق في ظروف وحالات معينة ، أو تقتضى ترتيبًا معينًا في أولويات التطبيق قد لا يكون هو الترتيب المبسوط في الفقه النظري، أو تقتضى اجتهادًا في حكم غير منصوص عليه بناء على التحقق الواقعي للمقاصد، وكل ذلك في غير مساس بأصل المشروعية في الأحكام. لكن الصياغة المقصدية يحف بها مع ذلك قدر من المحاذير يستلزم ملازمة التحري، والانتباه إلى المزالق المسقطة. وربما يكون من أهم العناصر المنضجة للصياغة المقصدية في تطبيق الشريعة، المتجافية بها عن مواطن الزلل ما نشرحه فيما يلي :
أ – استجلاء مقاصد الشريعة:
إذا كان للشريعة مقصد كلي ولأحكامها مقاصد دونه تفضى إليه في دوائر مرتبة -كما أشرنا إليه آنفًا- فإن هذه المقاصد ليست متساوية في الظهور والجلاء ، بل إنها متفاوتة في ذلك، فأشدها ظهورًا ما كان أكثرها كلية، ثم تتناقص في ذلك بتدرجها في الجزئية حتى تصبح ظنية فيما يعرف بعلل الأحكام، وهي المقاصد المتعلقة بكل حكم من أحكام الشريعة، وربما وصلت في الخفاء إلى درجة الاحتجاب كما في بعض الأحكام التعبدية[28].
ولهذا المعنى فإن أول ما يلزم في الصياغة المقصدية تبيّن المقاصد الشرعية وتحديدها سواء في كلياتها الجملية أو في تفاصيلها وجزئياتها المتعلقة بالأحكام التفصيلية، وذلك أمر بدهي من حيث إن تقدير ما إذا كانت الأحكام ستتحقق مقاصدها عند تطبيقها أو لا تتحقق يتوقف على تبين هذه المقاصد واستجلاء حقيقتها في ذاتها، وهو عمل اجتهادي يزداد دقة كلما انفسح مجال الظن باتساع دائرة المقاصد الجزئية .
وقد اجتهد الأصوليون في تبيّن مقاصد الأحكام، وأثر عنهم ضبط لها أصبح متداولاً في كتبهم ، وهو ضبط للمقاصد الكلية العامة في مقاصد ضرورية خمسة : حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل . وتلى هذه المقاصد الضرورية مقاصد حاجية غايتها رفع الحرج عن المكلفين، ومقاصد تحسينية غايتها التجمل بما يليق من المحاسن العبادية والعادية[29].
كما اجتهد الأصوليون أيضًا في ضبط المنهج الذي تعرف به المقاصد وتستكشف ، إلا أن أكثر جهودهم في ذلك انحصرت في دائرة جزئية تمثلت فيما عرف بمبحث ((مسألة العلة)) الذي يهدف إلى تبيّن علة الحكم الشرعي، وهو مقصده القريب، بغاية الاستفادة من ذلك في القياس ، إذ معرفة العلة هي الأساس في بناء القياس. أما تأصيل نظرية كلية في الكشف عن مقاصد الشريعة على منهج بيّن متكامل فلم يكن من ديدن الأصوليين على حدّ علمنا سوى محاولة جادة في ذلك قام بها كل من الإمامين الشاطبي وابن عاشور حيث عقدا فصلين في كتابيهما المواقف والمقاصد، وحاول كل منهما بطريقته أن يضبط منهجًا عامًّا في الكشف عن مقاصد الشريعة[30].
وتدعو الحاجة اليوم إلى تطوير البحث في مقاصد الشريعة وإثرائه في سبيل التوصل إلى معرفة دقيقة وشاملة بمقاصد الأحكام في كلياتها وجزئياتها حتى تكون الصياغة المقصدية منهجًا سديدًا في التطبيق . وفي هذا الصدد فإن جهود الأصوليين في ضبط المقاصد، والإرشاد إلى طرق كشفها يمكن أن تكون منطلقًا مهمًّا لجهود مستأنفة تستفيد من المعطيات الثقافية والعلمية الجديدة ، وتأخذ المقاصد بالترتيب والإبراز بحسب ما تقتضيه أحوال الواقع الراهن. وقد كان ذلك ملحظًا لابن عاشور حينما حث أهل النظر الأصولي على التحرى في تعيين المقاصد، وعلى مواصلة الجهد للكشف عن المقاصد المظنونة وإلحاقها بالمقاصد القطعية ليتخذوا منها أصلاً يصار إليه عند الجدل والاختلاف في الفقه[31].
وربما كان الأصوليون القدامى ينتحون في ضبط المقاصد وترتيبها منحى أقرب إلى التركيز على المصالح الفردية استجابة للمنحى الفقهي العام الذي تضخم فيه الفقه الفردي على حساب الفقه الاجتماعي . ولو استعرضنا الضروريات الخمسة التي أشرنا إليها آنفًا وهي أصول المقاصد لوجدناها بنيت على الفردية ، وإن كانت في مغزاها تنتحى إلى حفظ المجتمع، فليس من بينها مقصد اجتماعي مباشر صريح.
وتدعو الضرورة الواقعية في الوضع الإسلامي الراهن إلى التركيز على المقاصد الشرعية ذات الصبغة الاجتماعية، وإحلالها في منظومة المقاصد الموقع المهم، سواء في تقرير المقاصد الكلية، أو في استجلاء المقاصد القريبة من الأحكام الفرعية، وتوجيه مناهج الكشف والاستجلاء توجيهًا يساعد على ذلك حتى تكون الصياغة المقصدية للشريعة محققة في الواقع للأغراض الاجتماعية، حيث أصبحت الحياة اليوم تمتد فيها العلاقات الاجتماعية وتتكثف بما لم يكن معهودًا من قبل، فنشأ من النوازل والأوضاع ذات الصفة الاجتماعية ما يستلزم في سبيل تنزيل الشريعة عليها تنشيط البحث في المقاصد الشرعية الاجتماعية لصياغة الأحكام بحسبها، وتوجيهها في سبيل إثراء الفقه الاجتماعي وإنضاجه.
وفي هذا النطاق يمكن أن تدرج ضمن المقاصد الشرعية الكلية حفظ الحريات الاجتماعية العامة كحرية الفكر والتعبير والحرية السياسية وحفظ العدالة الاجتماعية والسياسية بقيم المساواة والشورى وتكافؤ الفرص، وحفظ الكفالة الاجتماعية بسد حاجات المحتاجين والمحرومين والمرزوئين. ثم تصير هذه المقاصد الشرعية الاجتماعية عنصرًا أساسيًّا مرعيًّا في استنباط الأحكام ، وفي استحداثها بالاجتهاد ، فيكون السياق العام للشريعة وهي تصاغ للتطبيق قائمًا عليها كما هو قائم على المقاصد الكلية الأخرى قصدًا في ذلك إلى تقويم الأخلال الاجتماعية الكثيفة التي يضطرب بها واقع المسلمين اليوم من استبداد ومصادرة للحريات، وتفاوت طبقى، وإهدار لحقوق الإنسان، وقد كان الإمام ابن عاشور واعيًا عميق الوعي بضرورة الاهتمام بالمقصد الاجتماعي للشريعة، فدعا إلى إدراجه ضمن ترتيب المقاصد الضرورية المأثورة، بل جعل تعريفه للمقصد الأعلى للشريعة مبنيًّا عليه حينما ضبطه بأنه : ((حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان))[32].
ب – تحقيق الوقائع:
إن الحكم الشرعي يتحقق مقصده بصفة عامة حينما تجرى وقائع الحياة بحسبه . ولكن تلك الوقائع قد تحف ببعضها ملابسات تجعل إجراء الحكم عليها غير محقق لمقصده كما بيناه آنفًا، ومن ثمة فإن تقدير ما إذا كان الحكم الشرعي سيتحقق مقصده في الواقع عند تطبيقه على النوازل يتوقف على النظر والتحقيق في أحوال النوازل نفسها ودراسة ظروفها وملابساتها العينية .
وعلى هذا الاعتبار فإن تطبيق الشريعة يستلزم لكي تحقق مقاصدها دراسة الواقع الذي تطبق فيه دراسة عميقة من حيث ظروفه الزمنية ومكوناته الشخصية ، سواء في صفته العامة وفي أحداثه ووقائعه التفصيلية لتتبين من هذه الدراسة الوقائع والأوضاع التي لا يتحقق مقصد الحكم الشرعي المتعلق بنوعها حينما يجرى عليها لملابسات خاصة بها فيقع استثناؤها، ولتتبين أيضًا صور الأحكام التي تستحدث بالاجتهاد فيما ليس فيه حكم منصوص، ويتكون من ذلك كله نسق للشريعة مبنى على اعتبار التحقق الفعلي لمقاصد الأحكام في الواقع .
وبالنسبة للواقع الإسلامي الراهن لا يخفى ما انتهى إليه من تعقيد في أوضاعه، وفي العوامل المؤثرة فيه، وفي صور الأحداث التي يجرى بها، فهو واقع سليل لعهد طويل من الهبوط الحضاري للمسلمين، وهو مسرح لغزو حضاري وثقافي غربي شرس، وهو لهذا وذلك يشكو عللاً وأمراضًا مكينة في أعماق الفرد وأعماق المجتمع. ومن شأن هذا التعقيد في مكونات الواقع الراهن وأحداثه أن يثقل المسئولية في البحث والدراسة ليتبين لدعاة تطبيق الشريعة السبل التي يكون بها تحقيق مقاصد الشريعة في علاج علل الواقع وأمراضه فتساق الشريعة في صياغة تحقق تلك المقاصد .
وربّما يكون من المفيد أن يقع البحث في واقع المسلمين اليوم بطريقتين متكاملتين: الأولى، تحليل جملي لواقع المسلمين في خطوطه الكبرى، وعوامله الأساسية، وفي المسار العام لأحداثه، وفي طبيعة تفاعلاته الداخلية والخارجية . ليحصّل من ذلك كله شبه الأصول العامة، والقواعد الكلية للتشخيص والفهم تساعد بعد ذلك على دراسة الأوضاع والظواهر الجزئية. والثانية، تحليل جزئي تفصيلي لمجالات الحياة الإسلامية بحسب أنواعها أولاً ، كالاقتصاد والسياسة والثقافة، ثم بحسب أفرادها ثانيًا، كالظواهر والحوادث المعينة بظروفها الزمانية والمكانية . وينتهى هذا التحليل بالوقوف على مشخصات الظواهر والأحداث في حقيقتها وأسبابها ومجالاتها التأثيرية وغير ذلك مما يتعلق بكشف حقيقتها، ولا يخفى أن دراسة الواقع على هذا النحو تستلزم استخدام أدوات تحليلية ناجعة سيكون من بينها لا محالة الكسب البشرى المأمون من العلوم الاجتماعية والنفسية والإحصائية وغيرها، وهي أدوات إذا ما استخدمت بوعى ورثت فقهًا واقعيًّا لا يكون تطبيق للشريعة يحقق مقاصدها بدونه[33].
وحينما يحصل الفقه الواقعي كما وصفنا تكون قد حصلت في الأذهان المعطيات الأساسية الضرورية لكل وضع تجري به الحياة الإسلامية ، وكل ظاهرة من ظواهرها ، فإذا ما قوبلت هذه الظواهر والأوضاع في مفرداتها بالأحكام الشرعية التي يتوجب إجراؤها عليها تبين بالاجتهاد بناء على تلك المعطيات ما كان منها مستجمعًا للاعتبارات التي من شأنها أن تتحقق بها مقاصد الأحكام، وما كان منها محفوفًا بملابسات تمنع من تحقق تلك المقاصد فتعالج باجتهاد مقصدى سنعرضه تاليًا. وإذا لم يكن في الظواهر والأوضاع أحكام تبيّن أيضًا بمقتضى تلك المعطيات ما ينبغي أن يستحدث لها من أحكام تجرى بحسبها وتكون محققة لمقاصد الشريعة فيها .
ج – صياغة الأحكام على اعتبار تحقق المقاصد:
حينما تتبين من دراسة الواقع الاعتبارات التي تحكم تحقق المقاصد الشرعية من أحكامها حين إجرائها على الوقائع، ويتبين ما كان منها مجيزًا لذلك التحقق وما كان مانعًا منه، حينئذ تصاغ الشريعة صياغة تطبيقية على أساس ما يحقق مقاصد أحكامها في إصلاح الواقع. ويكون ذلك باستخدام أساليب منهجية متعددة .
فبالنسبة لمستجدات الظواهر التي لا تشملها أحكام شرعية سابقة ينظر في مدى ما يتحقق فيها من مصلحة أو مفسدة ، ويقدر على أساس ذلك الحكم المناسب منعًا وإباحة وإيجابًا، كما إذا نظر في ظاهرة تحديد النسل الرائجة اليوم بين المسلمين فتبين بالبحث أنها تفضى إلى فساد يخرم التوازن الديموغرافي للمسلمين إزاء الأمم خرمًا يقلل عددهم والحاجة تدعو إلى الكثرة، فيصاغ لها حكم المنع، أو يتبين أنها تعود على المسلمين بالقوة بما تفضى إليه من وجود الكيف في نوعية الأفراد بما يتوفر لهم من أسباب لا تتوفر عند الكثرة العددية، فيصاغ لها حكم الإباحة، وذلك كله بعد ما يجيزها النظر العقدي الذي هو أساس للنظر الشرعي.
وبالنسبة لما يجرى من الوقائع ذات الأحكام الشرعية المقررة، فإذا ما تبين أن أحكامها لما تطبق عليها تحقق مقاصدها فيها، فإنها تقر أحكامًا تطبيقية ناجزة، وحينما يتبين في بعضها لسبب أو لآخر من اعتبارات التشخص أن تطبيق الحكم عليها لا يحقق مقصده، فإن ذلك الحكم يرفع من دائرة التطبيق فيما لا يحقق فيه مقصدًا ، وتقع المعالجة الاجتهادية بأساليب متعددة .
ومن هذه الأساليب أسلوب التأجيل، وذلك بأن يعلق الحكم عن التطبيق، وتجرى الأوضاع على خلاف ما تقتضيه أحكامها المجردة لما في إجرائها على ذلك النحو من تحقيق مصلحة أو التخفيف من مفسدة مقارنة بما سيؤول إليه الأمر حين تطبيق الحكم المجرد عليها. وقد كان ذلك صنيع عمر بن الخطاب رضى الله عنه حينما أجل تطبيق حكم السرقة عام المجاعة، وأجل حكم صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم لمّا عز الإسلام ، فقد أدرك عمر بنافذ بصيرته أن إجراء حكم السرقة عام المجاعة لا يحقق مقصده في التربية والردع، بل ربما أفضى إلى حرج شديد، فأجل إجراءه ، كما أدرك أن إجراء صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم لا يحقق مصلحته المقدرة، وهي استمالة القلوب لإعزاز الإسلام ، فالإسلام قد انتصر وعز بعد، فأجل إجراءه إلى حين تصنع الظروف وضعًا آخر يحتاج فيه الإسلام إلى الإعزاز .
ومنها أسلوب الاستثناء وذلك بأن تستثنى واقعة معينة أو فرد معين من بين وقائع وأفراد من ذات النوع فلا يجرى عليهما الحكم الشرعي لما يتبين من أن تلك الواقعة أو الفرد تحف بهما ملابسات تؤدى إلى مفسدة لو أجرى عليهما حكم النوع . وقد كان صنيع عمر بن الخطاب أيضًا حينما استثنى أرض العراق عند فتحها من أن يجرى عليها الحكم الشرعي في تقسيم الفيء على الفاتحين ، حيث أدرك رضى الله عنه أن إجراء هذا الحكم في واقعة فتح العراق يفضى إلى إقطاع يجحف بمصلحة الأجيال القادمة حينما تستنفد الأراضى الكثيرة الخصيبة بملكية العدد القليل من الجند الفاتح، فاستثناها من الجواز وأجرى عليها المنع .
وكل من التأجيل والاستثناء يمت بسبب إلى قاعدة منهجية في تطبيق الشريعة هي قاعدة الاستحسان، الذي جعله الأصوليون مصدرًا من مصادر التشريع، وهو عند تدبره يظهر أنه منهج في صياغة الشريعة يكون به العدول عن الحكم المقرر في نوع من الأفعال بالنسبة لبعض أفراده إلى حكم آخر لما يتبين من أن حكم النوع لا يتحقق مقصده عند تطبيقه على تلك الأفراد، ولذلك قال ابن رشد في الاستحسان: ((هو أن يكون طرحًا للقياس يؤدى إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك المـــوضع))[34] والمقصود بالمعنى الذي يؤثر في الحكم هو تلك الملابسات الشخصية التى تعوق الحكم عن تحقيق مقصده عند تطبيقه .
وإذا كان الواقع الإسلامي الراهن يحتاج في هدايته بالشريعة إلى اجتهاد واسع بمنهج الاستصلاح[35] بالنظر إلى كثرة نوازله الطارئة المستجدة على غير سوابق، فإنه يحتاج في ذلك أيضًا إلى اجتهاد استحساني واسع؛ وذلك لأنه واقع متوتر، تتعدد فيه العوامل والأسباب، وتتناقض فيه المؤثرات بين استمرار ديني ورواسب تاريخية من الانحطاط، وغزو ثقافي من ثقافة الغرب وحضارته، وذلك كله من شأنه أن يكثر من شواذ العينات في تكوين الأفراد، وتوليد الوقائع والأحداث، وأن يفقد في الأمة وأوضاعها صفة التجانس أو يضعفها إلى حد كبير ، فيكون العلاج بالشريعة حينئذ أحوج ما يكون إلى الاجتهاد الاستحساني لاستيعاب التفاوت الحاصل بين العينات الواقعية، وهداية الشواذ الكثيرة بأحكام تحقق فيها مقاصد الشريعة .
ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن صياغة الأحكام على اعتبار تحقق مقاصدها ينبغي أن يحذر فيه من موطن زلل يرى أنه أسقط بعض الناظرين في الشريعة لتطبيقها ، وذلك الموطن هو الظن بأن الحكم الشرعي إذا كان لا يتحقق مقصده بإجرائه على حالات معينة أو في ظروف وأزمان معينة فإن ذلك مبرر لأن ينسخ الحكم في ذاته أصلاً فيبطل على الدوام، وهذا ما يدعو إليه اليوم الداعون إلى إلغاء أحكام الحدود وبعض أحكام الأحوال الشخصية وغيرها بحجة أنها لا تحقق أغراضها في الظرف الراهن، فتبدل الزمن إذًا كفيل بنسخها.
إن صياغة الشريعة باعتبار تحقق مقاصدها لا يخرج عن أن يكون طريقة منهجية في إعداد الشريعة للتطبيق على الواقع يأخذ بعين الاعتبار معطيات ذلك الواقع من حيث تحقق مقاصد الأحكام فيه، فينظم تلك الأحكام بما ذكرنا من الأساليب وبغيرها مما لم نذكر، بحيث تحقق مقاصد الشريعة في هداية الواقع، مع الاعتراف بقيومية الأحكام المجردة مستصحبة تؤول بها إلى التطبيق إذا ما انتفت دواعي التأجيل والاستثناء ولو طال الزمن .
3- التقدير الاستصحابي :
الواقع الراهن للمسلمين يجرى على خطوط إذا قيست بميزان الشرع ظهرت أنها مخلوطة حق بباطل، فهو واقع وريث لعهود التخلف التي انحرفت فيها كثير من مفاهيم الشريعة، وأصبح الانحراف موجهًا للوقائع والأحداث، ثم هو واقع سحبت فيه الشريعة بعد ذلك من موقع التوجيه في أكثر مجالاته وعلى الأخص منها الاجتماعية العامة، وترك لتوجيه وضعى في ثقافة الغرب وحضارته. ومن توجيه المفاهيم المنحرفة، وتوجيه النظام الوضعى جرت حياة المسلمين على خطوط من الباطل كثيفة مفزعة .
ولكن من ناحية أخرى فإن هذا الواقع الإسلامي استصحب خطوطًا أخرى من هدى الشريعة ظل جاريًا عليها دون أن ينالها الزمن بتحريف أو تبديل، وذلك على الأكثر في مجالات الشعائر التعبدية، والأحوال الشخصية، وعلى الأقل في مجال التعامل الاجتماعي العام . وكذلك فإن التوجيه الوضعى لم يكن باطلاً كله، بل أثمر في بعض مجالات الحياة من الحق في نظام التصرفات الإدارية والتراتيب المادية والمدنية وفي بعض المعاملات الاجتماعية. فالكسب البشرى مهما تقاذفته أمواج الباطل فإنه لا يخلو دومًا من وجود الحق، وذلك من مظاهر التكريم الإلهي لنوع الإنسان.
قد أفزعت خطوط الباطل الكثيفة في حياة المسلمين بعضًا من الدعاة المخلصين حتى حجبت عنهم خطوط الحق فيها فنادوا برفض جملي لهذه الحياة إذ هي حياة جاهلية، ورسموا في أذهانهم فكرة مثالية لحياة إسلامية وفق صورة مجردة لمنظومة شرعية تصاغ من مقتضيات الدين الكلية بعيدًا عن مقتضيات الواقع الإسلامي، بل في هجران لها الواقع لتأسيس واقع جديد يكون مطابقًا للمنظومة الشرعية المجردة. ويحمل هذا التصور اليوم بعض المنادين بتطبيق الشريعة، وربما حمل بعض آخر تصورًا أخف منه مغالاة ، ولكن يجمع الكل رؤية منهجية تقوم على ضرب من التأثير الجملي للواقع، والنزوع إلى بناء للشريعة صوري مثالي، يطلبون به واقعًا إسلاميًّا مستأنفًا بصفة جذرية .
ولو عدنا إلى الشريعة الإسلامية في أصل تشريعها لألفيناها بنيت على منهج في التنزيل يتعامل مع واقع الجاهلية بمنهج لا يقوم على الإلغاء المطلق، بل هو ينظر إلى أوضاع ذلك الواقع ، فما كان منه باطلاً أبطله، وما كان منه حقًّا استصحبه بإضفاء الشرعية عليه، فإذا الشريعة المحمدية وقد اكتمل نزولها يشتمل نظمها على أحكام تشرع لأوضاع كانت قائمة في الجاهلية كالطواف والسعى، وأحكام تعدل بالتشريع بعض الاوضاع كتعديل التعدد في الزواج وقصره على أربع، وأحكام تبطل بعضًا آخر كالخمر والميسر والربا، وأحكام تشرع تشاريع جديدة لم تكن معهودة كالزكاة . وكل هذه الأحكام على اختلافها سيقت في نظم متكامل أصبحت فيه المستصحبات جزءًا من الشريعة الجديدة ، وقد كان جزءًا من واقع الجاهلية .
وقد انتهج أئمة الفقه المجتهدون هذا المنهج الاستصحابي في تطبيق الشريعة الإسلامية على واقع الأمصار التى فتحها الإسلام، وقد كان كثير منها ثريًا بكسوب حضارية واسعة، فأقروا كثيرًا من الأعراف والتراتيب، وسحبوا عليها صفة الشرعية ، واتخذ بعضهم العرف والعادة مصدرًا من المصادر الاجتهادية للشريعة، فتعاملوا بذلك مع الواقع الإنساني بميزان شرعي تصحيحي لا بميزان إلغائي . وفي ذلك حكمة غير خفية في أخذ الناس باللطف لتحويل حياتهم من الضلال إلى الهدى، في غير انقلابية مشقة قد تبوء برفض الهداية والنفور منها[36].
ومهما تكن خطوط الباطل قد تكاثفت في الواقع الإسلامي الراهن فإنه ليس بواقع جاهلي كذلك الذي كان عند نزول الدين ، فالعقيدة الإسلامية ماضية فيه إن اعتراها الخفوت، وقيومية الشريعة قائمة في وجدان السواد الأعظم من الأمة وإن اعتراها في التطبيق خلل كبير .
وبذلك تتضافر كل من طبيعة الشريعة في انبنائها الأول على الاستصحاب، ومنهج الأئمة المجتهدين في تعاملهم مع الواقع بإقرار العادات والأعراف مصدرًا لاجتهاد بشروطه، وتقويم الواقع الإسلامي الراهن في حظوظه من الدين تتضافر كلها مبررات مبدئية لأن تكون صياغة الشريعة اليوم في سياق إعدادها للتطبيق لهداية واقع المسلمين صياغة تقوم على منهج استصحابي ينطلق من الواقع نفسه لتكون وقائعه وأوضاعه عنصرًا معتبرًا في الصياغة، تمييزًا بين ما هو ضلال فيعامل بالمنع، وبين ما هو حق صالح فيعالج بالاجتهاد ليصبح من صلب المنظومة الشرعية، خلافًا في ذلك كله لمنهج الإلغاء الجملي للواقع لتأسيس واقع جديد على أساس صياغة نظرية للشريعة كما ينادي به اليوم بعض الدعاة. وربما يكون من أهم عناصر المنهج الاستصحابي ما نعرضه تاليًا :
أ – النظر التقديري للواقع:
إن المنهج الاستصحابي يقوم أول ما يقوم على نظر تقديري للواقع تتبين به خطوط الهدى من خطوط الضلال في سيرة الناس حتى يكون استصحاب الأوضاع الصالحة بعد ذلك مبنيًّا على اليقين أو ما يقرب منه من الظن الراجح، فلا يداخل الشريعة خطأ ولا يلابسها باطل. وبهذا النظر التقديري يكون أولا تحليل الواقع، ثم يكون تصنيفه بعد ذلك تصنيفًا معياريًّا على أساس مقتضيات الشريعة، فإذا واقع المسلمين ينكشف بحسب هذه المقتضيات عن أوضاع وصور مختلفة متنوعة .
فثمة من الصور في حياة المسلمين ما هو مندرج في بيانات شرعية ثابتة، وأحكام مقررة بنصوصها. وبعض هذه الصور بيّن في اهتدائه بالشريعة مثل ما يجرى في الشعائر التعبدية، وفي الغالب من أحكام الأسرة. وبعضها بيّن في فسوقه عنها كما هو الحال في النظام الربوي، وفي التقنين الوضعي لمحرمات الزنا والخمر والسرقة في كثير من البلاد الإسلامية. وبعضها متردد بين هذا وذاك، فيحتاج إلى نظر اجتهادي لتحقيق المناط فيه، ليدرج بعد ذلك في إطار الحكم الشرعي اللائق به . وهذا النوع من الصور لا مدخل للاستصحاب الذي نعنيه في هذا المقام فيه، وإنما تصاغ أحكام الشريعة لتطبق فيه بحسب تقريرها الثابت وفق المنهج المقصدى الذي ذكرناه آنفًا .
وثمة صور أخرى من حياة المسلمين ليست مندرجة في أحكام شرعية مقررة لا بالنص ولا بالاجتهاد ؛ وذلك لأنها صور طارئة من التأثر الحضاري بالعالم الغربي في أكثرها . وكان طروؤها في غفلة من التقدير الشرعي حينما أصبح الفقه في جمود قصر به عن استيعاب الأوضاع الوافدة بميزان الشرع، وحينما نحيت الشريعة بعد ذلك أصلاً عن كثير من مجالات الحياة، فغزت إذن صور كثيفة من المعاملات والتراتيب والسير واقع المسلمين في غيبة الشرع، واستقرت في حياتهم أوضاعًا راسية مكينة .
وهذه الصور الطارئة التى أصبحت مكينة في حياة المسلمين ربما جرى بعضها عفوًا لا يرد عليه من الشريعة إيجاب ولا منع ، وربما جرى بعضها على ما يؤول به إلى ما يقتضى المنع من الشريعة بالاجتهاد وإن لم يرد في شأنه نص، وربما جرى بعضها الآخر على ما يقتضى الإيجاب بالاجتهاد الشرعي أيضًا لما تحتم به من مصلحة للمسلمين، ويقتضي منهج الاستصحاب النظر التقديري في هذه الصور الطارئة كلها للتمييز بينها، وتحديد أصنافها بالاعتبارات الثلاثة المذكورة .
وينبني هذا التقدير على تفهم الصور في ذاتها، وضبط حقائقها الظاهرة والخفية، ثم عرضها على مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية، ثم تبين ما تحققه في الواقع من مصلحة للمسلمين أو ما تجر إليه من مفسدة بصفة مباشرة أو غير مباشرة . ولما كانت هذه الصور الطارئة تشمل مجالاً واسعًا من حياة المسلمين، وتنبني في كثير من الأحيان على معطيات دقيقة، من كسوب العلم التخصصي في الاقتصاد ، أو الطب ، أو النقل والمواصلات ، فإن النظر التقديري فيها لا يمكن أن يكون في الواقع الراهن إلا تضافرًا بين علماء الشريعة والعلماء المتخصصين في مختلف العلوم؛ إذ قد يغيب عن أولئك شيء من الاعتبارات الشرعية في التقدير ، فيكون انفراد أي من الفريقين بالنظر التقديري مفضيًا إلى خطإ في التمييز بين ما هو صالح وما هو فاسد بميزان الشرع الذي هو ميزان المصلحة[37]. وحينما يتبين بهذا النظر التقديري المزدوج ما هو عفو ثبت صالحه، وما هو فاسد أو آيل إلى الفساد، فإن الفاسد يدرج حكمه بالمنع في منظومة الشريعة، ويجرى عليه ذلك الحكم، وأما ما ثبت صلاحه فإنه يشرع بالاستصحاب كما نبينه تاليًا .
ب – التشريع بالاستصحاب:
إن ما ثبتت فيه المصلحة من التراتيب والأوضاع القائمة في الواقع الإسلامي لا يدرج في منظومة الشريعة بصفة آلية بمجرد تبين المصلحة فيه، بل يحتاج في ذلك إلى معالجة اجتهادية زائدة عن المعالجة التى بها تبيّن صلاحه.
ذلك أن الأصل في الحياة الإسلامية أن تكون أوضاعها وتراتيبها المستحدثة ناشئة من ذات تلك الحياة في صفتها الإسلامية بتقدمها المضطرد في حركة التعمير، فلا يبتدع نظام، ولا يقبل وضع إلا وهو مؤسس في دواعيه وخلفياته، وفي صورته وتركيبه على مقتضيات الشريعة في روحها وصورتها، فيندرج حينئذ في منظومة الشريعة اندراجًا تلقائيًّا مأمونًا . وقد كان الأمر يجرى على ذلك النحو حينما كانت الحضارة الإسلامية قائمة؛ إذ كانت ضرورة النمو تولد الأنواع الجديدة في المعاملات والنظر في شتى مجالات الحياة . فتُولد هذه المعاملات والنظم ولادة شرعية من أصلها، ولا تصبح جارية في الواقع إلا وأحكامها مندرجة في النسق العام للشريعة.
أما وقد توقفت الحياة الإسلامية عن الحركة الحضارية، وأصبحت ترد عليها النظم والأوضاع من خارجها وفي غيبة من الحراسة الشرعية أصلاً . فإن هذه النظم والأوضاع وإن تبينت فيها المصلحة فإنها بحكم ولادتها غير الشرعية في الأصل ستظل موصولة إن ظاهرًا إن خفيًّا بمناخها الذي ولدت فيه، وستظل تمثل إفرازًا لمنظومة أيديولوجية مخالفة للمنظومة العقدية الإسلامية ، فليس من نظام أو ترتيب مهما كان موغلاً في صفته العملية إلا وهو ناتج عن تصور أيديولوجي ، ولذلك فإنه مهما تأكد خلوصه في تحقيق المصلحة، إلا أنه يبقى في دائرة ذلك التصور وإن تواسعت خطوطها، وقد يحمل منه في طياته الخفية عرقًا دساسًا لا يظهر أثره إلا بعد حين من تقلبات الأحوال .
وهذا ما يدعو إلى أن يكون استصحاب النظم والأوضاع التى تكاثفت في الواقع الإسلامي لسبغ الشرعية عليها مبنيًّا على اجتهاد مكمل للاجتهاد الذي ثبت به الصلاح، وهو اجتهاد يهدف إلى تأكيد شرعية ما يقر استصحابه، وترسيخه في مناخ الشريعة، حتى يصبح نبتة شرعية خالصة. ولعل ذلك الاجتهاد يتم بمرحلتين اثنتين :
المرحلة الأولى:
قطع الصلة بين الوضع المستصحب ومنبته الأصلي، وتنظيفه مما عسى أن يكون قد علق به من أوضار أيديولوجية ظاهرة أو خفية . وقد يكون ذلك بتعديل في الصورة، أو باقتطاع من سياق، أو بإعادة تركيب في العناصر، أو بغير ذلك من الأساليب التي من شأنها أن تبرئ من كل نسبة إلى التربة الثقافية العقدية التي نبتت فيها النظم والمعاملات الوافدة . إن كثيرًا من النظم التي تسود اليوم الحياة الإسلامية في الاقتصاد والعمران والمواصلات وغيرها يقرّ النظر صلاحها في خدمة أغراض المسلم، ولكنها مع ذلك لا تخلو من شوائب تنتسب بها إلى أصلها الثقافي، وقد تكون ذريعة في بعض الأحوال إلى شيء من الفساد الذي لا تقره الشريعة، مما يستلزم تنقيتها منها في سبيل إقرار شرعيتها .
ومن الأمثلة القريبة في ذلك التنظيم العمراني في اختطاط المدن والأحياء والمنازل، وفي مدها بمرافق التنوير والمياه والوقود وغيرها. إن هذا التنظيم العمراني في قواعده وأصوله وتركيبه يحقق للناس مصالح جمة في أحوال معاشهم، ولذلك يمكن أن يقرّ النظر التقديري استصحابه فيقرّ شرعيته، ولكن بالتأمل الدقيق نلاحظ أن ثمة جوانب من هذا التنظيم رغم أنه مادي تحمل في خفاياه بصمات ثقافية أيديولوجية، فتصميم الأحياء كثيرًا ما يكون مبنيًّا على تمييز طبقي مفرق بين الأثرياء والوجهاء وبين الفقراء والدهماء، وتصميم البيوت كثيرًا ما يكون مبنيًّا على أساس المفاصلة بين الجيران في خارجه، وعلى أساس الانكشاف والاختلاط في داخله، وكل ذلك انعكاس لثقافة أهل الغرب وعاداتهم ومبادئهم الاجتماعية . ولذلك فإنه يحق في سبيل إضفاء الشرعية على التنظيم البلدي أن تنزع من الترتيب العمراني هذه الشوائب الثقافية، فيقتطع بذلك من سياقه الأيديولوجي الذي نشأ فيه . ولو نظرنا في العمارة الإسلامية لوجدناها خالية من هذه الشوائب مستجيبة لدواعي الشريعة في تصميم الأحياء والبيوت. هذه التى تتصل جدران بعضها ببعض رمز التواصل بين الجيران، وتنفتح من داخلها على غرف متقابلة رمز لوحدة الأسرة وتآلفها ، ثم هي تلتف دائريًّا بالمسجد كنقطة مركزية رمزًا للتوحيد الذي يلتقى عليه الجميع خمس مرات في اليوم. إنه نظام ولد شرعيًّا من الأصل. فكان مستجيبًا لمقتضيات الشريعة في ظواهره وخفاياه. وعلى هذا المثال تقاس أكثر الأنظمة والأوضاع التي يعيش عليها المسلمون اليوم، ويظن الكثيرون أن لا علاقة لها بتطبيق الشريعة، وهي في الحقيقة تحتاج إلى أن تشرع بالاستصحاب بعد نظر تنظيفي من العلائق الثقافية الأيديولوجية .
والمرحلة الثانية :
إدراج التراتيب والتنظيمات بعد تنظيفها في سياق الشريعة لتحتل موضعًا جديدًا ضمن المنظومة الشرعية بعد ما كانت في سياق ثقافي آخر، ولتصبح في موضعها الجديد أحكامًا شرعية مثل سائر الأحكام المتعلقة بأوجه الحياة المختلفة .
ويكون هذا الإدراج بتقنين هذه التراتيب والتنظيمات تقنينًا شرعيًّا بعد ما كانت مقننة بصفة وضعية، ويصير هذا التقنين الشرعي منتظمًا في أبواب الفقه من محاور المعاملات اللائقة به ، فتكون الخطة الشرعية المعدة للتطبيق الواقعي قد هيئ فيها بالنظر والدرس الاجتهادي المعاملات الإدارية ، وأحكام المواصلات، والمقررات البلدية في العمران، كما هيئت بالنظر والدراسة قضايا النكاح والبيوع والجنايات وسائر أبواب الشريعة، وتغدو من ثمة هذه المستصحبات جزءًا أساسيًّا من الدين كما تتدارسه الأجيال، وتتداوله العقول بالبحث الاجتهادي، وهو دين مصعد من الواقع بالتشريع الاستصحابي .
ولا شك أن هذا الإدراج يستلزم من بين ما يستلزم تنسيقًا تكامليًّا بين الأحكام التي أصبحت مقررة بالاستصحاب، وبين سائر الأحكام الشرعية الأخرى، فالشريعة كل متكامل لا يزاحم بعضها بعضًا، ولا يفاوت جزء منها آخر. وربما كان بعض ما يستصحب بعد تقدير صالحه، وبعد تنقيته من شوائبه لا ينسجم بوجه أو بآخر مع ما هو مقرر في الشريعة في الأصل، فينبغي إذن أن يتم بالاجتهاد تسوية التفاوت بشيء من التعديل أو التقويم حتى تكون الخطة الشرعية عند تطبيقها يخدم بعضها بعضًا في تحقيق الصلاح الأكمل للأمة .
ولا يخفى أن هذا المنهج الاستصحابي سيكون مصدر ثراء كبير للشريعة ، إذ به يتم توظيف شطر كبير من جهود الإنسان التعميرية، ومكتسباته، وتجاربه في استثمار الكون وتنظيم الحياة توظيفًا تصبح به تلك الجهود والمكتسبات والتجارب شرعًا إلهيًّا يقدّم المسلمين أشواطًا عريضة في مضمار الخلافة في الأرض ما هم ببالغيها لو أعرضوا عما في الواقع من تلك الكسوب البشرية وراموا تأسيسًا مستأنفًا لواقع جديد .
وقد كانت تجربة المسلمين الأوائل رائدة ثرية في هذا الشأن، حينما توجه الفقهاء والعلماء إلى واقع الحضارات السائدة على عهدهم، وأعملوا العقول في أوضاعها بالتقدير الشرعي، وصعّدوا منها بالاستصحاب الواعي المأمون شيئًا كثيرًا أصبح من صميم فقههم الشرعي، وعمموه بالتطبيق في سائر البلاد. والناظر في المدّونات الفقهية على عهود الاجتهاد، وعلى الأخص مدونّات أهل العراق ككتاب الخراج لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم وغيره يجد فيها مصداقًا حيًّا لذلك ، يمكن أن يستفاد منه اليوم أيما استفادة في تأسيس منهج استصحابي لتطبيق الشريعة[38].
4- البناء التكاملي:
إن أحكام الشريعة في صورتها المجرّدة تتكامل فيما بينها لتحقيق مصالح الإنسان، فالأحكام المتعلقة بالفرد متكاملة فيما بينها لتحقيق مصلحته، والأحكام المتعلقة بالمجتمع تتكامل فيها مصالح الأفراد جميعًا، كما تتكامل الأحكام على المستوى الزمني أيضًا، فهي تحقق مصالح الأجيال بتكامل وتوازن على مر الزمن، وهكذا فإن الشريعة معصومة بالوحي من كل تفاوت، خالصة من كل تناقض.
لكن الواقع الذي تجري به الحياة تتحقق فيه الأوضاع والأحداث أفرادًا عينية لا أنواعًا كلية، كما تنضبط به أحكام الشريعة. والأفراد العينية من الأوضاع والأحداث ليست محكومة بالاضطراد شأن الأحكام المجردة، بل هي محكومة بمنطق واقعي تنشأ به ملابسات قد تجعل بعض الأفراد في إطار النوع الواحد ناشزة عن بقية الأفراد الأخرى ، وهو ما يفضى إلى تفاوت في النتيجة حينما تطبق الأحكام المجردة على كل الأفراد بميزان واحد، فإذا بمصلحة تتحقق لبعض الناس، أو في بعض الحالات والأزمان، أو في بعض الأماكن والأوضاع تعارضها مفسدة تجحف ببعض آخر من الناس والحالات والأوضاع في نطاق تطبيق الحكم الكلي الواحد .
وهذا ما يدعو إلى أن تهيأ الشريعة للتطبيق على أساس من التكامل في الثمرات العملية للأحكام في نطاق التكامل الكلي للشريعة، وذلك أخذًا بعين الاعتبار لتلك الأفراد ذات الملابسات الخاصة ، ومعالجتها بأحكام تناسب خصوصيتها ، وتنساق بها إلى ماتتكامل به مع سائر الأفراد الأخرى بتحقق المصلحة في جميعها . فتكون إذًا صياغة الشريعة من أجل التطبيق مبنية على منهج تكاملي في تحقيق المصالح الواقعية .
وكلما كانت أوضاع الحياة أكثر كثافة ، والعلاقات الفردية والاجتماعية أكثر تداخلاً، والمناشط الإنسانية أكثر ثراء، كلما اشتدت الحاجة إلى المنهج التكاملي في صياغة الشريعة للتطبيق ، ذلك لأن أفراد الأحوال والأوضاع حينئذ تثرى وتتكاثر، وملابساتها الخصوصية تتعدد وتتنوع ، فتكثر تبعًا لذلك الشواذ عن أفراد النوع؛ مما يستلزم الجهود المضاعفة لتخصيصها بالأحكام التى تؤدى فيها غرض الشريعة، وإدراج ذلك كله ضمن المنظومة الشرعية في سياق إعدادها للتطبيق .
والمتأمل في الواقع الإسلامي مقارنًا بما كان عليه الأمر بالأمس، يجده على درجة كبيرة من تكاثف الأوضاع والأحداث وتداخلها، فالتطور العالمي المتسارع جعل حياة الأمم ومن بينها الأمة الإسلامية تنمو فيها المرافق وتتعدد، وتتشابك فيها العلاقات بين الأفراد والجماعات على نحو لم يسبق له مثيل من قبل في أية حضارة سابقة.
لقد تداخلت الدولة في كل حياة الناس تقريبًا ، وأصبحت تنظم هذه الحياة في وجوهها المختلفة شبكة متداخلة من التراتيب والنظم، حتي أصبح الفرد لا يتحرك بحركة ذاتية في كل مرافقه إلا وتحركت دوائر كثيرة في عرض المجتمع، ومن ثمة فإن البعد الاجتماعي في الواقع الراهن أصبح على درجة كبيرة من التوسع، حتى كاد شأن الفرد بالمعنى الخالص لم يبق له وجود في الحياة الحديثة .
وبتوسع البعد الاجتماعي اشتد التداخل بين مصالح الناس وازدادت إمكانيات التعارض بينها؛ إذ ليس من معاملة اجتماعية إلا وهي تتطلب تنازلاً من كل الأطراف فيها عن بعض المصالح وكلما تمددت مصالح طرف منها إلا كان ذلك على حساب الأطراف الأخرى. ولك أن تراجع نشاطك اليومي في الحياة الراهنة، إذًا لألفيت كل خطوة تخطوها تشابك خيوطًا كثيرة من حياة المجتمع، ويكفيك من ذلك أنك لو أغلقت على نفسك أبواب بيتك لكنت أيضًا متشابكًا مع الدوائر الاجتماعية عبر وسائل الإعلام المتنوعة التى تقتحم المنازل.
ومع تكاثر المناشط والمعاملات وضروب العلاقات وتكاثفها في الحياة الراهنة، فإن وسائل الاتصال الحديثة تقوم بدور عجيب في الربط بينها، وفي مد بعضها إلى بعض، وهي بذلك ترفع بدرجة كبيرة في درجة التفاعل بينها تأثرًا وتأثيرًا ، وهذا ما يجعل الحكم الشرعي حينما يطبق على منشط من المناشط، أو وضع من الأوضاع، يمتد أثره في ذلك المنشط أو الوضع إلى سلسلة طويلة من المناشط والأوضاع الأخرى، ويكون المجتهد في تطبيق الشريعة مسئولاً عن تحقق التكامل في كل تلك السلسلة، مما يستلزم منه أن يأخذ بعين الاعتبار ذلك الأثر الممتد، فيصوغ الأحكام بما يحقق تكاملها في الواقع .
وبهذه الاعتبارات كلها تشتد الحاجة اليوم إلى أن تصاغ الشريعة في نطاق الدعوة إلى تطبيقها بمنهج تكاملي تنبني به أحكامها في سياق يضمن أن تكون نتائجها متكاملة في تحقيق المصلحة حيثما امتد أثرها في الدوائر المتواسعة ذات العلاقة بها، ويدرأ بالتالي أي تناقض يمكن أن يحصل بين آثار الحكم الواحد، أو بين آثار الأحكام المختلفة. وربما يكون من أهم ما يساعد على بناء الشريعة بمنهج تكاملي العناصر التالية:
أ – فهم التشابك في الصور الواقعية:
إن أول ما يستلزمه البناء التكاملي للشريعة في إعدادها للتطبيق فقه واسع بالواقع الذي يعيشه المسلمون في كلياته وتفاصيله، وفي أسبابه ومحركاته .
وآكد ما ينبغي فقهه في هذا المجال العلاقات الرابطة بين الأوضاع والصور الواقعية المختلفة، ومسارات التأثر والتأثير بينها، والأسباب التى بها يكون تأثير وضع على وضع، وتأثر صورة بصورة، مثل تأثير وسائل الإعلام في حياة الأسرة وتربية الأطفال ، وتأثر الحياة الاقتصادية بالوضع السياسي، والعلاقة بين طراز العمران والترابط الاجتماعي، وغير ذلك من أنواع التفاعل بالتأثر والتأثير.
هذا وإن فقه هذه العلاقات بين صور الحياة أصبح اليوم رهين آلات علمية في التحليل من شأنها أن تكشف عن هذه العلاقات ، وأسبابها، ومنها ما هو راجع إلى العلوم الاجتماعية، ومنها ما يصل بالعلوم الاقتصادية والاحصائية وبعضها مرتبط بعلوم النفس، وبعضها مرتبط بعلوم أخرى، وبذلك يضحى الفقيه المشرّع لتطبيق الشريعة لا غنى له عن أن يكون ملمًّا بهذه الآلات في تحليل المتشابك بين صور الحياة ولو بصفة جملية ، وأن يصبح هذا الفقه الواقعي جزءًا أساسيًّا من معارفه العلمية ورديفًا لفقهه الشرعي.
وإنما كان الفهم لواقع العلاقات بين الصور والأوضاع ضروريًّا للفقيه، لأن هذه العلاقات والروابط هي التى تمرّ منها آثار الأحكام الشرعية حين تطبيقها من وضع إلى وضع ومن صورة إلى صورة، وبحسب طبيعتها تكون تلك الآثار متناسقة متكاملة، أو متفاوتة متناقضة ، كما إذا كان حكم ما يحقق مصلحة اقتصادية ولكنه يفضى إلى مفسدة تربوية، أو كان حكم آخر يحقق مصلحة لجيل، ولكنه يفضى إلى حرج في حق جيل لاحق، وذلك بحسب طبيعة العلاقة بين الوضع الاقتصادي والوضع التربوي، والعلاقة بين الأجيال السابقة واللاحقة .
فإذا ما تمّ فهم آثار الحكم المطبق على الصورة المعينة في الصور الأخرى ذات العلاقة بها بناء على طبيعة تلك العلاقة، أمكن تقدير الحكم اللائق بالتطبيق باعتبار تكامل آثاره، وأُدرج بناء على ذلك في الخطة الشرعية التطبيقية ، فتكون هذه الخطة مبنية على التكامل فيما تفضى إليه من المصالح عند تطبيقها .
ويغفل اليوم كثير من الدعاة إلى تطبيق الشريعة عن هذه القاعدة المنهجية القائمة على الفهم لتشابك الحياة الراهنة، فيظنون أن الحكم الشرعي ، إذا ما أفضى إلى مصلحة في الوضع الذي حدد لعلاجه فإن ذلك يكون المبرر لتطبيقه، ويقصر بهم البصر عن آثاره في دوائر أخرى متلاحقة شديدة الصلة بذلك الوضع، وهو قصور قد يفضى إلى حرج كبير في تطبيق الشريعة على الواقع الراهن الشديد التشابك والتعقيد .
ولا يعدم الفقه الموروث عن الأئمة والأصوليين تنبيهات منهجية مهمة في هذا الخصوص، مثل قاعدة اعتبار مآلات الأفعال في صياغة الأحكام وقاعدة سد الذرائع، وغيرهما مما يعالج آثار الأحكام في دوائر أبعد من الأفعال المخصصة لها. ولكن الحاجة تدعو اليوم إلى تطوير هذا المنهج وإثرائه ليغطى ما تعقد من حياة المسلمين، وما تشابك من أوضاعها وصورها. وقد كانت من قبل على عهد الأئمة الفقهاء بسيطة في صورها، خفيفة في تشابكها .
ب – توجيه الأحكام بحسب المآل:
إن فهم التشابك بين صور الواقع وأوضاعه ليس غاية في ذاته في هذا المقام، وإنما غايته تقدير مآلات الأحكام فيما يكون لها من آثار في كافة الدوائر التى تصل إليها .
وتقدير مآلات الأحكام عنصر أساسي من عناصر بنائها، فصياغة الحكم الشرعي لمعالجة وضع ما تعتبر فيها بصفة أساسية ما يحققه ذلك الحكم من أثر صالح. إما باستحداث الحكم اللائق أو التعديل أو الاستثناء أو التأجيل بحسب ما يتبين من تحقيق المصلحة إذا كان الوضع في حكم منصوص عليه .
ولتوجيه الأحكام الشرعية بحسب مآلاتها حين إعدادها للتطبيق مبرر ضروري ومشروع من مبدأ التكامل في الشريعة كمبدأ عقدي أساسي ؛ وذلك أن الشريعة في أحكامها المجردة بنيت على عصمة من التناقض والتفاوت فيما يقدر من تحقيقها لمصالح الخلق، إلا أن الأحكام الشرعية في حال تجريدها تعالج أفعال الإنسان وأوضاعه أنواعًا كلية لا أفرادًا، والحال أن هذه الأفراد العينية كما هي في الواقع لئن كان أكثرها يستجيب للانصلاح بحكم نوعها إلا أن بعضها قد تعتريه ملابسات شخصية تمنع من أن يتحقق فيه أثر الحكم المقدّر في حال التجريد، فإذا ما طبق عليه الحكم أفضى ذلك إلى ما يناقض غرضه من آثار، سواء بدا ذلك في دائرة قريبة أو بعيدة بحكم تشابك العلاقات، وأفضى بالتالي إلى تناقض في الشريعة هي بريئة منه من حيث المبدأ، فيجب معالجة ذلك التناقض بالاجتهاد بصياغة للأحكام في نسق تطبيقي يزيل التناقض ويحقق التكامل.
وقد كانت المعالجة التكاملية قاعدة مرعية من قبل الشارع في أصل الأحكام المنصوص عليها، حيث جاء كثير من تلك الأحكام تُستدرك فيها بعض الأفراد بحكم خاص بها مخالف لحكم نوعها، لدرء تعارض المصالح حينما يجرى عليها حكم النوع؛ لأن مآله فيها يكون مخالفًا للمصلحة المقصودة لملابسات اعترتها من تشخصها . وقد نبه الإمام الشاطبي إلى هذه القاعدة في قوله: ((اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين: أحدهما، الاقتضاء الأصلى قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحل مجردًا عن التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسن النكاح، وندب الصدقات غير الزكاة، وما أشبه ذلك . والثاني ، الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والاضافات، كالحكم بإباحة النكاح لمن لا إرب له في النساء، ووجوبه لمن خشي العنت. فلو فرض نزول حكم عام، ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه، لكان الجواب ( أي الحكم في حقه) على وفق هذه القاعدة))[39].
وتتعمم هذه القاعدة في كل أفعال الإنسان وأوضاع حياته وصورها سواء ما ورد فيه حكم منها وما لم يرد، فإنها عند النظر فيها لضبطها بأحكام شرعية تهديها، تعيينًا لما هو منصوص، واستحداثًا لما هو غير منصوص ينبغي أن يعتبر في ذلك الضبط ما يؤول إليه الفعل أو الوضع من آثار صالحة أو فاسدة في دائرته القريبة أو في الدوائر البعيدة التى يتشابك معها، فيكون ذلك المآل عنصرًا أساسيًّا في بناء الحكم، وذلك لأنه لو نظر في الفعل باقتصار على ذاته لكان الحكم المقدر له متناقضًا مع ما قد ينتهى إليه في مآله، وحينئذ ينتهى بالشريعة إلى التناقض، ولكن اعتبار مآلات الأفعال في تقدير الأحكام من شأنه أن يفضى ببناء الشريعة بناء تطبيقيًّا إلى التكامل.
وقد ضبط الأصوليون هذه القاعدة فيما عرف عندهم بقاعدة اعتبار مآلات الأفعال، وقال الإمام الشاطبي في تقريرها وبيان أهميتها: ((النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب ، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية ، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمـــود الغب جار على مقاصد الشريعة))[40].
وصعوبة المورد التى أشار إليها الشاطبي في هذا الاجتهاد تصبح مضاعفة في الواقع الإسلامي الراهن؛ ذلك لأن تقدير مآلات الأفعال الذي ينبغي أن يكون معتبرًا في بناء الحكم أصبح يستلزم جهودًا أكثر بكثير مما كان عليه الأمر سابقًا، نظرًا لتعقد الحياة وتشابك صورها كما ذكرناه آنفًا، مما يستلزم تتبع آثار الفعل في دوائر متتابعة كثيرة يمكن أن يمتد إليها أثره فيكون له فيها مآل. وقد كانت هذه الدوائر أقل بكثير في الحياة الإسلامية البسيطة .
وتستلزم هذه الصعوبة المضاعفة شيئًا كثيرًا من التحرى في تقدير مآلات الأفعال باعتبار أن الأحكام ستكون مبنية عليها ، وأي خطأ في تقديرها أو وهم فيها يؤدى إلى خطأ في بناء الحكم، ويؤدى ذلك إلى التضارب من حيث أُريد التكامل . وإن في مكتسبات العلوم الحديثة ووسائل البحث والتحليل ما يعين على التقدير الأوفق لمآلات الأفعال، ولذلك فإن الإلمام بها يعتبر أمرًا ضروريًّا للمجتهد الذي يروم بناء الشريعة بناءً تطبيقيًّا يضمن التكامل في تحقيق مصالح العباد .
جـ – إحكام الفقه الاجتماعي:
إن للدين غاية اجتماعية، فمصلحة الإنسان التى هي المقصد الأسمى للشريعة لا تتحقق إلا في النطاق الاجتماعي. وقد جاء القرآن الكريم في أوائل ما نزل منه يعلم العقيدة ويشرّع للمجتمع في سياق واحد، دلالة على أهمية التشريع الاجتماعي . ومن أمثلة ذلك ما نزل مبكرًا من تشريع للحرية الدينية : {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (العلق: 9- 10) ، وللحرية في التعبير والدعوة إلى الرأى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} (العلق: 12 – 13)، ولكفالة المحتاج والمحروم : {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين (1) فَذَلِكَ الَّــذِي يَدُعُّ الْيَتِيـمَ (2) وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الماعون: 1- 3) وغير ذلك كثير في هذا السياق .
ولكن الفقه الموروث في الصورة التى انتهى بها إلينا إلى غلبة في النزعة الفردية على النزعة الاجتماعية ، فقد بنى هذا الفقه في عمومه على التقنين الشرعي للتكاليف التى يقوم بها المسلم لإبراء ذمته سواء في سلوكه الفردي أو الاجتماعي، فوجهت القضايا الاجتماعية في طبيعتها توجيهًا أقرب إلى الفردية، والأسباب في هذا المآل الذي آل إليه الفقه متشابكة ومعقدة، ولعل من أهمها ما تفشى من استبداد الحكام، وما غلب من نزوع إلى التصوف، فكلاهما جعل الفقه ينكفئ إلى الفردية؛ توقيًا من سطوة الحكام عند اقتحام المجال الاجتماعي العام الذي على رأسه السياسة الشرعية، توجهًا نحو ما يضمن الخلاص الفردي الذي هو غاية التصوف. ولعل كتاب الإحياء للغزالي يعتبر محطة هامة في التوجه نحو هذه الوجهة، فقد كان له التأثير الكبير على الفكر الإسلامي عامة، وفكر أهل السنة خاصة، وقد كان كتابًا متوقيًّا من السلطان نازعًا منزعًا صوفيًّا .
وقد ذكرنا آنفًا أن الواقع الإسلامي الراهن، والواقع الإنساني عامة تمددت فيه العلاقات الاجتماعية وتكاثفت ، وتوجهت فيه الحياة توجهًا اجتماعيًّا أصبحت فيه مشاكل الفرد مشاكل اجتماعية، فلا تحل إلا بمنطق اجتماعي. ولهذا السبب فإن النسق الفقهي الموروث والمصطبغ بصبغة فردية -كما أشرنا إليه- أصبح اليوم نسقًا قد لا يفى بالغرض من الدعوة إلى تطبيق الشريعة في الواقع الإسلامي الراهن، إذ إن النسق الفردي إذا ما اعتمد لمعالجة وضع نسقه العام اجتماعي أفضى إلى اضطراب وتفاوت في النتائج من حيث إن الشريعة تهدف إلى التكامل في نتائجها حينما تطبق لإصلاح الواقع. وهذا ما يدعو إلى أن يعتمد الإعداد لتطبيق الشريعة في واقع اليوم صياغة تنحو منحى اجتماعيًّا بديلاً عن المنحى الفردي الذي طبع التراث الفقهي .
ولعل من أهم ما يحقق هذا المنحى الاجتماعي العرض التأصيلي الشامل للقضايا الشرعية الاجتماعية الكبرى مثل قضايا الحرية والشورى والعدالة والتكافل الاجتماعي ، وحقوق الإنسان وما في حكمها مما يماثلها، فتبسط هذه القضايا بسطًا شرعيًّا، وتصير كالأمهات في النسق الشرعي، يندرج فيها كثير من الأحكام ، ويرتبط بها على وجه أو آخر كثير منها أيضًا بحيث تصبح كالوزان للأحكام تنسق بينها فيما تروم معالجته من الأوضاع، وتنتهي إليها في نتائجها، فتكون متكاملة في ثمارها حينما تطبق على الأوضاع الراهنة ذات التركيب الاجتماعي الغالب. فالبسط الفقهي الشامل المؤتمل للقضايا الاجتماعية الكبرى هو أحد الضمانات الأساسية لتكامل الشريعة في صياغتها للتطبيق .
وبالإضافة إلى التأصيل الشامل للقضايا الاجتماعية الكبرى يتعين أيضًا توجيه سائر الأحكام الشرعية توجيهًا اجتماعيًّا ، على معنى أن يكون المغزي الاجتماعي عنصرًا أساسيًّا في صياغتها مهما بدت في ظاهرها أنها أحكام ذات خصوصية فردية تأسيًا في ذلك بطبيعة الشريعة الإسلامية ذاتها، فإنها في تشريع الصلاة وهو التى تبدو أكثر العبادات فردية ربطتها بمغاز اجتماعية هامة[41]، والأمر أكثر وضوحًا في سائر العبادات الأخرى، بل في سائر أحكام المعاملات. وبتوجيه الأحكام توجيهًا اجتماعيًّا على اختلاف مجالاتها يضمن التكامل بينها في تحقيق أغراضها، إذ إن هذا التوجيه سيكون مراعيًا لطبيعة العلاقات الاجتماعية المتشابكة التي يتصف بها الواقع الراهن، فتنبنى الأحكام إذن على ما يحقق المصلحة في خضم ذلك التشابك.
د – اعتماد التشريع القطاعي:
إن الواقع الراهن للحياة الإسلامية لئن كان كثيف الأوضاع معقد الأحداث إلا أنه في نطاق كثافته وتشابكه ينتظم قطاعات كبرى ذات تخصص يجعل منها وحدات متمايزة في نطاق الترابط العام، فقد تضخم كل مرفق حياتي حتى أصبح قطاعًا بأكمله مثل قطاع التربية، والاقتصاد، والنقل، والإعلام، وغيرها. وأصبح كل قطاع يمثل وحدة ذات وشائج خاصة، وطبيعة في التفاعل متميزة، وذلك في نطاق التفاعلات الاجتماعية ككل متكامل .
وإذا استعرضنا النسق الفقهي المأثور فإننا نلفيه معروضًا عرضًا تجريديًّا تنتظم فيه المسائل والقضايا بصفتها الفردية أو تكاد، ولا تنتظم في وحدات كبيرة متكاملة، وليست الأبواب والكتب التى تندرج فيها مسائل الفقه إلا ترتيبات مدرسية تعليمية في الأكثر، فهي لا تعكس وحدة مترابطة تحاكي وحدة قطاعية في واقع الحياة ذات خصائص متميزة، وإنما هي تعكس تنظيمًا منطقيًّا مجردًا للأحكام الشرعية، ولذلك فإن هذا النسق الفقهي المأثور لا يساير واقع الأوضاع في الحياة فيما هو نازع إليه من انتظام قطاعي .
ومن ثمة فإن الضرورة في إعداد الشريعة للتطبيق تدعو إلى نظم الأحكام نظمًا قطاعيًّا يحاكي انتظام الحياة في الواقع، فتقدم في شكل مشاريع إصلاحية يتعلق كل مشروع منها بقطاع بعينه يتخصص فيه ، ويعالج مشاكله معالجة شرعية يهديه بها إلى الحق، ويحقق بها المصالح للناس، وتنتظم الشريعة بهذا المعنى ملفات واقعية للإصلاح، فملف للاقتصاد بجميع جوانبه، وملف للنقل والمواصلات، وملف للتربية، وهكذا بالنسبة لكل قطاع.
إن هذا النظم القطاعي للشريعة من شأنه أن يرقى الكفاءة في تقدير ما هو الأصلح في نطاق كل قطاع، إذ ينحصر الهم فيه ، وربما يتكون في خصوصه الخبراء المتخصصون من المجتهدين، فيكون فقههم لواقع طبيعته وترابطه ومشاكله أعمق وأشمل، ويكون بالتالى تقديرهم للحلول الشرعية فيه أوفق، وأدعى لتحقيق المصالح .
كما أن هذا النظم القطاعي من شأنه أن يبصر بدقة أكبر بمآلات الأحكام لانحصار هم المجتهدين في مجال موحّد ذي طبيعة متجانسة بالنسبة لما هو داخل القطاع، ولانتظام القطاعات متمايزة مما يمكّن من رصد التفاعل بينها، ومآلات أحكام بعضها في بعض بما هو أوضح بكثير مما لو كانت القضايا الشرعية فردية متناثرة. والتبصر بمآلات الأفعال بدقة أكبر في النطاق الداخلي للقطاع، وفي علاقة القطاعات ببعضها، يمكّن من تقدير أعلى للتعارض الذي يمكن أن يحدث في آثار الأحكام عند تطبيقها ، فيقع تلافيها بتعديل صياغة الأحكام في سياق نظمها القطاعي بما يحقق التكامل بينها داخليًّا في نطاق قطاعها، وخارجيًّا في نطاق المنظومة الشرعية ككل .
وينبغي أن ننبه أن النظم القطاعي للشريعة لا يعنى بحال الفصل في المعالجة الشرعية بين أوضاع الحياة التى من طبيعتها التداخل والتشابك، وإنما هو توجيه منهجي لمزيد من التخصص الاجتهادي يوازي التخصص الحاصل في سير الحياة الراهنة لتقديم مشروع شرعي إصلاحي متكامل لكل مشكلة كبرى من مشاكل الواقع ينزع إلى قدر أكبر من الاقتراب من واقع الأحداث والتفاعلات ليكون التقدير فيه أوفق، ومع ذلك فإن المعالجة الشمولية للواقع المتشابك تظل مرعية في هذا النظم القطاعي بما قدمناه من قواعد منهجية سابقة مثل قاعدة التأطير العقدي الشامل، وقاعدة إثراء الفقه الاجتماعي، فتلك أسس عامة تنظم كل المشاريع القطاعية وتعصم مما قد يكون من انفصال في التقدير مناقض لطبيعة التواصل في الواقع .
هـ ـ التكامل الزمني :
إن البناء التكاملي للشريعة كما يكون تكامليًّا في الموضوع بحيث تساند الأحكام بعضها بعضًا في تحقيق المصالح على نطاق أفقى في مختلف مرافق الحياة في نفس الزمن، فإنه يكون أيضًا تكامليًّا بالتدرج الزمنى في التطبيق ، فتتكامل الشريعة بذلك في الواقع شيئًا فشيئًا ، ولما نزل الوحي بالشريعة لم ينزل بها كاملة، وإنما تكامل بها في النزول حتى اكتملت بانقطاع الوحي، وكانت تنزل على الواقع لهدايته متدرجة إلى أن اكتملت الهداية، وذلك مقرر معروف.
والواقع الإسلامي الراهن غابت فيه الشريعة عن التوجيه في مجالات كثيرة، واستسلمت أوضاع عدة في التنظيم الاجتماعي خاصة لشريعة وضعية وافدة من ثقافة الغرب ، فهو واقع نسميه إسلاميًّا وهو في حقيقته مشوب بجاهلية، إنه اختلط فيه الحق بالباطل، والباطل فيه مكين . فهل يمكن أن يعالج بخطة شرعية تنظمه جاهزة للتطبيق، ثم تطبق عليه دفعة واحدة لانتشاله من الباطل الضارب فيه فيصبح على صراط شرعي مستقيم؟
إن كثيرًا من الدعاة اليوم يرون هذا الرأي ويدعون إليه، ويقدمون في ذلك حججًا بعضها يرى قويًّا في التقدير الاجتهادي، ولعل من أهمها ما يقال من أن التطبيق الكامل الفوري للشريعة يحقق غرضًا تعبويًّا دعويٍّا عزيزًا ، حيث تنحشد به جماهير المسلمين انحشادًا عظيمًا في سبيل التوجه قبلة الدين الشامل بما يثيره تطبيق الشريعة من قوى مترسبة في ضمائر المسلمين ظلت كامنة زمنًا طويلاً، فإذا ما انطلقت بإثارة تطبيق الشريعة كانت دفعًا قويًّا للجماهير الإسلامية في طريق الهداية الشاملة. ومنها أيضًا أن التطبيق الكامل للشريعة في أية فرصة مواتية من شأنه أن يحسم العراقيل التي تعيق مطلب تطبيق الشريعة من جهات عدة داخلية وخارجية، والحال أنه مطلب عقدي، ومطلب شعبي عام، فالتطبيق الكامل يفرض هذا المطلب أمرًا واقعًا، ويقطع العراقيل دونه[42].
وإذا كانت مثل هذه الحجج مقبولة من منظور عقدي دعوى، فإنها بالنظر إلى ما يمكن أن يفضى إليه التطبيق الفوري الكامل للشريعة من حرج قد تُعارَض بحجج أخرى قوية تجعل من أسلوب التدرج في التطبيق لتتكامل الشريعة في الواقع أسلوبًا أضمن في سداد النتائج وثباتها ونجاعتها .
إن الواقع الإسلامي الراهن تتفاوت أوضاعه في القرب من هداية الشريعة والبعد عنها، فرب وضع من هذه الأوضاع لم ينحرف عن سمت الشريعة إلا بمقادير طفيفة، فيكون أخذه بالمعالجة الشرعية المباشرة محققًا فيه المقاصد المطلوبة، ورب وضع آخر ابتعد عن سمت الشريعة بعدًا كبيرًا ، وافتقد من الشروط التي تهيئ لانفعاله بها إذا ما طبقت عليه ما يجعل تنزيلها الفوري فيه مفضيًا إلى حرج شديد يلحق بالناس، وهذا ما يدعو إلى أن يكون تطبيق الشريعة على الواقع الراهن للمسلمين مدرجًا ضمن منهج تدريجي تعالج فيه الأوضاع معالجة شرعية بحسب ما تتوفر من أسباب النجاعة والفاعلية، ومن شروط الإثمار عند التطبيق .
كيف يمكن أن تنجز أحكام الحدود في مجتمع إسلامي لا تكفي فيه الحاجات الضرورية للناس، بل تعيش فيه طبقات كثيرة في فقر مدقع يبلغ درجة المجاعة أحيانًا، وفي مجتمع إسلامي استشري فيه التبرج والاختلاط الفظيع حتى باتت غواية الشيطان فيه تراود ذوي الأحلام من الناس .. إن هذه الأمثلة وغيرها كثير تقوم مبررًا حقيقيًّا لأن تبنى الخطة الشرعية المعدة للتطبيق على تدرج زمنى تقدم فيه بالإنجاز تلك الأحكام الشرعية التي تعتبر أسبابًا ومقدمات، وتؤخر إلى مرحلة ثانية تلك الأحكام التي تعتبر نتائج ومسببات. فتنمو بذلك مسيرة الإسلام في المجتمع بالتدرج قدمًا ((بدلاً من أن تنتظر الفتح الأكبر الذي يقوم فيه المجتمع كله بالإسلام، أن تحاول في جوانب الحياة المختلفة أن تقيم نماذج جزئية في جانب من الاقتصاد، وفي جانب من السياسة، وفي جانب من الفكرة ، وفي جانب من المجتمع))[43] وبهذا التدرج الزمنى الذي تُبنى عليه الخطة الشرعية للتطبيق يتكامل بناء الشريعة متلافيًا التناقض بين الأحكام في مقتضياتها ونتائجها التي تجيء معارضة لتلك المقتضيات لفقدان في شروط التطبيق .
وليس من حرج على المسلمين في أن يروا خطة شرعية تطبق فيها بعض الأحكام وترجأ أخرى فيجرى الواقع على غير ما تقتضيه، إذا ما كان ذلك مندرجًا ضمن تقدير زمنى تتكامل فيه الشريعة لتبلغ أجلاً تتم فيه ، وينبسط سلطانها على الواقع كله، فذلك إجراء اجتهادي يقرّه الدين ،وتقره المصلحة العملية، فهذه الخطة ((من باب أنه لبلوغ الكل لابد من البدء بالجزء، فهي لا تؤمن ببعض وتكفر ببعض، بل تؤمن بالإسلام كله، ولكنها تحاول أن تطبق منه ما تيسر))[44] بدءًا بما توفرت شروط تطبيقه ، ثم تتدرج إلى ما سواه مما تتوفر شروطه تباعًا، فيتم بذلك التكامل الزمنى للشريعة كما يراد تطبيقها في الواقع الراهن للمسلمين[45]، وهو عنصر من عناصر التكامل في بناء الشريعة كمنهج تقتضيه معطيات هذا الواقع لتطبيق الشريعة فيه.
———————————————————————————————-
(*) بحث مقدم لـ : ندوة قضايا المستقبل الإسلامي الجزائر 4، 7/ 5 / 1990م.
[1] الشاطبي – الموافقات : 4/ 59.[2] الشاطبي – الموافقات : 3/ 30 ، ووهبة الزحيلي – أصول الفقه الإسلامي ، الجزء الأول .
[3] عن عبد الوهاب خلاف – مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه : 155 .
[4] راجع في هذه المسألة الغزالي – المستصفى : 2/ 364 والآمدى : الأحكام في أصول الأحكام : 4/ 246 .
[5] انظر ابن القيم – أعلام الموقعين : 3/ 2 ، وراجع القرضاوي – شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان : 133 .
[6] راجع كتابي : في فقه التدين فهمًا وتنزيلاً : 1/ 93 .
[7] راجع كتابنا : في فقه التدين فهمًا وتنزيلاً : 2/ 83 وما بعدها .
[8] الشاطبي – الموافقات : 3/ 57 وما بعدها .
[9] الغزالي – المستصفى : 1/ 5 .
[10] محب الله بن عبد الشكور – مسلم الثبوت : 1/ 15 .
[11] انظر الغزالي – المستصفى : 1/ 8 .
[12] قال الأستاذ مصطفى الزرقا: إن الفقيه يلجأ إلى قاعدة الاستصلاح لاستحداث أحكام جديدة ذات صيغة تنفيذية لأوامر الشريعة: انظر: الاستصلاح والمصالح المرسلة.
[13] ممن يذهب هذا المذهب جماعة عرفوا باسم اليسار الإسلامي ومنهم الدكتور حسن حنفى . انظر كتابه : التراث والتجديد الذي ضمنه آراءه في هذا المنهج الجديد في فهم الشريعة .
[14] انظر نقدًا لهذه الوجهة في كتابي : خلافة الإنسان بين الوحي والعقل : ص 93 وما بعدها .
[15] راجع في توضيح مراحل التدين بالشريعة : الفهم ، والصياغة ، والإنجار ، كتابي : فقه التدين فهمًا وتنزيلاً: 2/ 62 وما بعدها ، 100 وما بعدها .
[16] لا تخلو بعض المؤلفات القديمة من إدراج أحكام شرعية في سياق عقدي، نذكر منها بعض المؤلفات المبكرة لعلم العقيدة مثل ((مقالات للإسلاميين للأشعري)) والتنبيه والرد لأبي الحسين الملطي (ت 377هـ) وأصول الدين للبغدادي (ت 429هـ) ونذكر منها أيضًا إحياء علوم الدين للغزالي ، وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر لابن القيم ( ت 751هـ) ولكن هذا الإدراج كان ظاهرة جزئية وليس أسلوبًا عامًّا في التأليف الفقهي .
[17] الفارابي – إحصاء العلوم : 131 . ومن اللافت للانتباه أن الفاربي صاحب هذا الملحظ السديد كان من أهل الحكمة المتأثرين بالفلسفة اليونانية، وقد كانت عليه في ذلك مآخذ . ولم يكن لا من أهل علم العقيدة ، ولا من أهل علم الشريعة .ولكن تربيته في محض الثقافة الإسلامية جعله يدرك روح التواصل بين علومها وفنونها .
[18] الغزالي – إحياء علوم الدين : 1/ 11 .
[19] نفس المصدر: 1/ 10 .
[20] راجع في مسألة العلة في أحكام الشريعة وموقف العلماء منها، الشاطبي – الموافقات : 2/ 3 ومحمد سعيد رمضان البوطي – ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية : 88 وما بعدها ( ط الرسالة : بيروت 1986) .
[21] ربما كان هذا المنهج الاستدلالي العاطفي التعبوي ضروريًّا وصالحًا في المرحلة الأولى التي كان الغرض فيها تنبيه الأمة من غفلتها، وحشدها للأوبة إلى شمولية الدين، ولكنه لم يعد صالحًا في هذه المرحلة التي يهدف فيها إلى التطبيق الفعلي للشريعة في الواقع.
[22] جاء ذلك في الحديث الذي رواه مسلم في كتاب الضيافة، باب المواساة بفضل المال ومن نصه : ((من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له )) (مختصر صحيح مسلم للمنذري: ص 283 تحقيق ناصر الدين الألباني، ط3، المكتبة الإسلامية ، دمشق 1977)
[23] راجع في العرض الاستدلالي للشريعة كتابي: في فقه التدين فهمًا وتنزيلا : 2/ 117 وما بعدها . وراجع فيه أيضًا مقتضيات المنهج الاستدلالي المقنع للعقلية المعاصرة ، ص 53 وما بعدها .
[24] الغزالي – إحياء علوم الدين : 1/ 10 .
[25] المرجع السابق
[26] أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب التسبيح والتهليل وأعمال البر صدقة (مختصر صحيح مسلم للمنذري ، ص 149 . تحقيق الألباني ، ط2 المكتبة الإسلامية ، دمشق 1977) .
[27] من أجود وأعمق ما كتب في مقاصد الشريعة ما خصصه الإمام الشاطبي من جزء كامل للمقاصد في كتابه الفريد ((الموافقات)) وكتاب مقاصد الشريعة للإمام ابن عاشور الذي دعا إلى أن تصبح مقاصد الشريعة علمًا مستقلاًّ بذاته.
[28] راجع : ابن عاشور – مقاصد الشريعة : 108 .
[29] راجع : الغزالي – المستصفى : 2 / 287 ، والشاطبي – الموافقات : 2/ 5، وابن عاشور – مقاصد الشريعة : 79 .
[30] انظر الشاطبي – الموافقات : 2/ 289 وما بعدها . وابن عاشور – مقاصد الشريعة : 37 وما بعدها . وراجع بحثًا لي بعنوان ((مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة بين الشاطبي وابن عاشور)) (مجلة العلوم الإسلامية)) الصادرة عن جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة / الجزائر . العدد 2 مايو 1987) .
[31] انظر: ابن عاشور – مقاصد الشريعة : 40 .
[32] ابن عاشور – مقاصد الشريعة : 63 .
[33] راجع في أدوات فهم الواقع بصفة عامة ، وفي العناصر التى تحكم واقع المسلمين الراهن كتابي – فقه التدين فهمًا وتنزيلاً : 1/ 122، 137 .
[34] ابن رشد – بداية المجتهد : 2/ 154 . ( عن مصطفى الزرقا – المدخل الفقهي العام : 1/ 77) .
[35] هو الحكم بمقتضى المصلحة التى لا يشهد لها دليل خاص بالإلغاء أو الإثبات، وتكون متفقة مع مقاصد الشريعة العامة. مصطفى الزرقا – الاستصلاح والمصلحة المرسلة : 37 .
[36] راجع : حسن الترابي – الحركة الإسلامية في السودان : 269.
[37] تقوم اليوم عدة هيئات ومجامع علمية بالعالم الإسلامي بهذه المهمة يتضافر علماء الشريعة مع علماء الكون مثل المجمع الفقهي بجدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وهو يقوم بجهود مثمرة في هذا الشأن .
[38] راجع في الاستصحاب بالمعنى الذي طرحناه: حسن الترابي – تجديد الفكر الإسلامي : 84 وما بعدها .
[39] الشاطبي – الموافقات : 3/ 51 – 52 – 53 .
[40] نفس المصدر : 4/ 127 – 128 .
[41] راجع في المغازي الاجتماعية للصلاة : حسن الترابي – الصلاة عماد الدين .
[42] انظر حسن الترابي – الحركة الإسلامية في السودان .
[43] حسن الترابي – ضمن كتاب : فقه الدعوة : 2/ 24 لعمر عبيد حسنة .
[44] نفس المصدر والصفحة .
[45] انظر في منهجية التدرج في تطبيق الشريعة كتابي : فقه التدين فهما وتنزيلا: 2/ 129 وما بعدها .