1- موضوع المقاصد:
لا يوجد موضوع يتفق على أهميته ودلالته بين معظم علماء أصول الفقه قديماً وحديثاً بل ويتفق عليه السلفيون والعلمانيون، المحافظون والإصلاحيون، مثل موضوع “المقاصد” فى علم أصول الفقه
والذى أبرزه الشاطبى الغرناطى الأندلسى فى كتابه الشهير “الموافقات فى أصول الشريعة”، وأحياه محمد الطاهر بن عاشور المصلح التونسى فى $مقاصد الشريعة الإسلامية# وعلال الفاسى، السلفى الإصلاحى إبان حرب الاستقلال فى المغرب العربى فى “$مقاصد الشريعة ومكارمها#. انتسبت إلى هذا الموضوع الحركات الإصلاحية، لا فرق بين سلفى وعلمانى. وأجريت عليه بعض الرسائل الجامعية فى كليات الشريعة بالجامعة الأزهرية، وبقسم الفلسفة بالجامعة المصرية(1) . يفخر به الإصلاحى؛ لأن الشريعة للحياة، ويلجأ إليه العلمانى؛ لأنه يجد جذوره المنسية فى مقاصد الشريعة. ويجد فيه الإعلامى وسيلة لمخاطبة الناس والحديث عن مصالحهم بعد أن تشبعوا بأحاديث عذاب القبر والصراط والميزان والملائكة والشياطين والجن، وكأن الدين لا يتعلق إلا بأمور الغيب وليس بأمور الدنيا، وكأن الله هو عالم الغيب وحده، وليس عالم الغيب والشهادة.
كتب الشاطبى كتابه قبل سقوط غرناطة آخر مدن المسلمين فى الأندلس بنصف قرن تقريباً كمحاولة لإحياء الشريعة، وتنبيه المسلمين على المصالح العامة، والتوجه نحو الواقع والدنيا. وقد حاول ابن عربى قبل ذلك بقرن ونصف الشىء نفسه، فعن طريق الوحدة الصوفية جمع الحق والخلق، والدين والدنيا، والمعرفة والوجود، والله والعالم، والأنا والغير، والخيال والواقع، والعقل والذوق. كما حاول ابن رشد قبله بنصف قرن تقريبـاً عن طريق العقل والقول البرهانى ضد الإشراق ورد الاعتبار إلى العالم وقوانينه ضد تغليب إرادة الله على حكمته، وحاول استعادة واجب النظر كحكم شرعى فى “فصل المقال”، واستعادة علوم الحكمة ضد تكفير الحكماء، وتجديد الفقه وأحكام الشرع فى “تهافت التهافت”، كأحكام أخلاقية طبيعية فى “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” (1).
ويبين تتبع نشأة المصطلح وتطوره قبل الشاطبى أن الشاطبى هو أصولى المقاصد؛ إذ وردت فكرة الضروريات الخمس أو المصالح العامة قبل الشاطبى دون أن تتبلور فى مفهوم “المقاصد” وتصبح أحد أعمدة علم أصول الفقه، فقد وردت كجزء صغير فى الاجتهاد أو القياس وفرع عليه فى الاستدلال المرسل باسم الاستحسان أو الاستصحاب أو دليل العقل أو المصالح المرسلة، وقد ورد أيضًا على نحو سلبى باعتباره قياسًا “حرًّا” لا يخضع لمنطق القياس الصارم، تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما فى العلة، وكما هو الحال فى “المستصفى من علم الأصول” للغزالى آخر ما وصل إليه علم الأصول القديم من إحكام نظرى وإبداع علمى(1).
وقد انتبهت الحركة الإصلاحية وامتداداتها فى الجامعة المصرية منذ الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى أهمية علم الأصول بشقيه: علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، الإبداع الفكرى عند المسلمين ضد شبهة المستشرقين بأن الحضارة الإسلامية ناقلة لليونان والرومان غرباً ولفارس والهند شرقاً، وأن حكماء المسلمين مجرد شراح لليونان، وأن المنطق الإسلامى ما هو إلا منطق مشائى فى جوهره، فى مضمونه وصياغته. ثم أثبت أحد تلاميذه إبداع المسلمين فى المنطق فى “مناهج البحث عند المسلمين، ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسى”(2). واستمرت البحوث والرسائل الجامعية فى علم الأصول عند الأجيال التالية تجد فيه ضالتها من حيث الأصالة والإبداع ضد شبهة النقل عن الفلسفة “المشائية” وروج التصوف عن روح الإسلام فى “الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان” لابن تيمية (3).
وأصبح موضوعًا شائعًا فى أجهزة الإعلام والمجلات الثقافية والمتخصصة، فلا أحد يعترض، كما أنه يعطى صاحبه الأمان، ويضعه فى مصاف المجددين. وانتسبت إليه المجلات الإسلامية الفكرية المعاصرة فى مصر والعالم العربى والإسلامى تجد فيه إحدى الركائز لتطوير الفكر الإسلامى مثل “المسلم المعاصر” (4).
بل لقد ساهم أصول الفقه الشيعى منذ “الحلّى” حتى محمد باقر الصدر فى تجديد علم الأصول باعتباره أحد المداخل لتجديد الفكر الإسلامى وإصلاح العالم الإسلامى (5).
وهو استئناف لأصول الفقه المالكى الذى ساد فى الأندلس والمغرب العربى، وتطوير لفكرة المصالح المرسلة أو المصالح العامة والتى جعلها الطوفى أساس التشريع. لقد جعل مالك الاستحسان تسعة أعشار العلم (1).
أراد الشاطبى التوحيد بين المالكية والحنفية، بين مالك والقرافى، أى المصلحة والقياس، الواقع والعقل. وهما مقياسان لفهم الوحى؛ نظراً للتطابق المبدئى بين الوحى والعقل والواقع (2). ولم يتم التوحيد بين المالكية والشافعية؛ نظراً لأن الشافعية وسط بين المالكية والحنفية. أما الحنبلية فهى عود إلى النص الخام دون أى تفعيل أو “توقيع” له، أى فهمه بالعقل وتحويله إلى واقع الناس(3).
ونظراً لأهمية الموضوع رآه الشاطبى فى المنام وكأنه إلهام. يستند إذن الموضوع على ثلاثة أنواع من اليقين، العقل والنقل، النظر والمصلحة، بالإضافة إلى الذوق والإلهام. وهو إلهام قائم على حمل هموم الأمة ومخاطر هجمات الفرنجة من قشتالة فى الشمال على الأندلـس فى الجنوب فيما سمى بحروب “الاسترداد”، قبل أن تتحول الأندلس من منارة للفكر الحر والعلم الأصيل إلى محاكم للتفتيش والتطهير العرقى والدينى وعودة المسلمين واليهود إلى المغرب العربى (4).
والوحى كله قصد إلهى، توجه من الله إلى الإنسان فى العالم، والعلم كصفة تجلت فى الوحى ككلام. ليس موضوع الوحى الذات الإلهية، فالله لا يخاطب نفسه، ولا يتكلم مع نفسه، بل يخاطب غيره؛ الملائكة والطبيعة، الأرض والسماء، الأنفس والبشر والرسول والإنسان. الوحى اتجاه من الله إلى الإنسان، حركة من أعلى إلى أسفل؛ ومن ثم فإن “المقاصد” تسير وفقاً لاتجاه الوحى، من الله إلى الإنسان قبل قلبه فى علم الكلام، من الإنسان إلى الله عندما يتخذ العلم الله موضوعاً له، وفى التصوف عندما يتخذ الصوفى الله قصداً له، وعند الحكيم عندما يتخذ “واجب الوجود” موضوعاً له.
صحيح أن علم الكلام يبدأ من المعلوم وهو الحادث أى الطبيعة، وأن الصوفى يبدأ من الخلق للوصول إلى الحق، وأن الحكيم يبدأ من الطبيعيات للوصول إلى الإلهيات، ولكن يظل القصد مقلوباً من أسفل إلى أعلى بعد أن كان من أعلى إلى أسفل، من الإنسان إلى الله، بعد أن كان من الله إلى الإنسان(1).
ويتميز علم أصول الفقه عن علم أصول الدين بأن الأول يضع أصول العمل، والثانى يضع أصول النظر. لا يتحدث الأول عن الله بل عن الشارع، ولا يتعرض للعقائد بل للمصالح، كنوع من تقسيم العمل بين العلمين.
صحيح أن الشاطبى أحياناً يضع مسألة كلامية، ويشير إلى بعض المتكلمين كرأس موضوع مثل أن الشرائع موضوعة لصالح العباد فى العاجل والآجل استشهاد بالرازى، وهو موضوع أصولى وليس موضوعًا كلاميًّا. والرازى أصولى ومتكلم.
وقد اتبع الغزالى فى “المستصفى” هذا التقليد بالبداية بالخلاف الكلامى حول الأصل العلمى كغطاء نظرى أولى. فكل مبدأ عملى يقوم على فلسفة نظرية. ولا يؤثر هذا الخلاف الكلامى على سلامة المبدأ الأصولى. ويفيد على الأمد الطويل فى توحيد علم الأصول بشقيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، بل ووحدة نسق العلوم الإسلامية كلها، خاصة وأن كل متكلم هو أصولى. كتب فى العلمين. فقد كتب الجوينى $الإرشاد# فى علم أصول الدين و”الورقات” و”البرهان” فى علم أصول الفقه. وكتب الغزالى “الاقتصاد” و”المستصفى”، وابن حزم “الفصل” و”الأحكام” (2).
صحيح أن الشاطبى يشير إلى بعض الفرق الكلامية ولكن فى موضوعات أصولية، مثل الإشارة إلى المعتزلة فى موضوع التعليل، وأن الأحكام معللة على عكس الرازى الذى نفى التعليل مثل الأشاعرة والظاهرية. فعلة الشريعة المصلحة. والمقاصد رصد للمصالح. فإثبات المصلحة يتطلب إثبات التعليل. المصلحة هى السبب الموضوعى للشرائع. ويتقدم المعتزلة على الأشـاعرة والفلاسفة(1).
فعند المعتزلة الأحكام معللة بمصالح العباد فى القصد التشريعى وليس فى القصد الخلقى أو التكوينى. ولا يمكن العدول عن أصل المصلحة والمفسدة. فى حين يحرص الأشاعرة على أن الله يفعل ما يشاء، وأنه فعال لما يريد. وهى مصالح ومفاسد يدركها العقل طبقاً لقاعدة التحسين والتقبيح. والمعتزلة من المصوبة فى الاجتهاد اعتماداً على أصل الفعل. ويتفق الأشاعرة مع المعتزلة على عدم جواز تكليف ما لا يطاق. وقد جاءت الشريعة وفقاً لأغراض العباد طبقاً لمبدأ الصلاح والأصلح عند المعتزلة. يعاب عليهم فقط محنة خلق القرآن (2).
ولفظ “المقاصد” لفظ إبداعى أصيل من العقل التشريعى الإسلامى. وهو لفظ قرآنى(3). يعنى الاتجاه مثل {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيل} [النحل: 9]، والتوجه نحو مثل {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوك} [التوبة: 42]. كما يعنى الاقتصاد والاحجام، الاقتصاد فى الشىء {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِك} [لقمان: 19] والاقتصاد فى الخير {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِد} [لقمان: 32]، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِــدٌ وَمِنْهُمْ سَـــــابِقٌ بِالْخَيْرَات} [فاطر: 32]، {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُون} [المائدة: 66].
وورد أيضاً فى علم الحديث يعنى القصد بالقلب، والمعنى بالفكر والتوجه فى المكان، والمعنى الغالب هو المعنى الثانى الاقتصاد فى المعيشة والطعام والشراء، والاقتصاد فى الصلاة والخطبة والعبادات مع الدوام، أى عدم المغالاة والتطرف (4).
وهـو باستمـــرار فى صيغــة الجمع “مقاصد” وليس “مقصدًا”؛ مما يدل على أن الشريعة لها عدة مقاصد وليس مقصدًا واحدًا. وهناك فرق بين القصد والمقصد، “القصد” من جانب الذات و”المقصد” من جانب الموضوع، فالقصد اتجاه من الذات نحو الموضوع اتجاه من الذات نحو العالم.
وهناك فرق بين النية والمقصد. النية جزئية والمقصد كلى. النية هو قصد الفعل، والمقصد هو قصد الشريعة؛ لذلك قسم الشاطبى المقاصد إلى نوعين، مقاصد الشارع وهو الكلمة، ومقاصد المكلف وهى النية. هناك قصد متبادل بين قصد الشارع ونية المكلف، الاتفاق فى حالة النجاة والفوز، والاختلاف فى حالة الهلاك والضياع.
ولفظ “القصد” و”القصدية” لفظ حديث فى الفلسفة الغربية المعاصرة. أصبح الموضوع الرئيسى فى الظاهريات “الفينومينولوجيا”. ويعنى الإحالة المتبادلة بين الذات والموضوع، الإنسان فى العالم والعالم فى الإنسان، ولتجاوز ثنائية الفلسفة الحديثة بين الذات والموضوع منذ ديكارت تم تحويل المحور الرأسى، القصد المتبادل بين الله والإنسان إلى المحور الأفقى بين الأنا والآخر فى التجربة المشتركة أو بين الذات والموضوع فى الإنســان فى العالم(1).
2- منهج القراءة والتأويل:
والمنهج المتبع ليس هو المنهج التاريخى الذى يرصد مفهوم المقاصد فى كتب علم الأصول حتى يكتمل فى “الموافقات”، ولا المنهج الفقهى الذى يرصد اختلاف الفقهاء فى مفهوم المقاصد طبقاً للمدارس الفقهية الأربع الشهيرة، ولا المنهج التحليلى الذى يكتفى بتحليل المفهوم وبيان مكانته فى نسيج علم الأصول، ولا المنهج الدفاعى الذى يقوم على بيان مكارم الشريعة والرد على الطاعنين فيها بالحرفية فى التطبيق ضد مصالح العباد، والقسوة فى الحدود فيما يتعلق بالعقوبات، وأن الشريعة الإسلامية إنسانية النزعة قبل إعلان حقوق الإنسان فى الغرب الحديث (2).
وإذا اعتمد القدماء على الحجج النقلية والحجج العقلية المستقاة من جزيئات الشريعة فقد يعتمد المحدثون على الحجج العقلية أكثر من الحجج النقلية. فالعصر عصر العقل والبرهان.ويشمل الواقع والإحصائيات والتحليلات الكمية التى تعبر عن المصالح العامة.
والحجة النقلية وحدها دليل ظنى ولا تتحول إلى يقين إلا بالحجة العقلية. وكما يقول الإيجى فى المواقف: إن كل الحجج النقلية حتى ولو تضافرت لإثبات شيء أنه صحيح، ما أثبتته، ولظل ظنيًّا، ولا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة (1). الحجة النقلية وحدها تقوم على الابتسار أى الانتقاء الجزئى خارج السياق الداخلى، تكامل الآيات، والخارجى “أسباب النزول” و”الناسخ والمنسوخ”، واللغوى. وكثير منها يحمل على عادات العرب مثل بكاء الحى على الميت ومناسك الحج وبعض القيم العربية(2).
وهناك مسائل فى المقاصد تعتمد على الدليل العقلى وحده دون النقلى. تقوم على تحليل الحجج والرد مسبقاً على المعارض فى صيغة “فان قيل” حتى يصبح الفكر متسقاً مع نفسه، له براهينه الداخلية وليست الخارجية(3). وثلث المسائل خالية من الحجة النقلية(4).
والعقل عند القدماء يشمل الحس الخارجى والداخلى، المحسوسات والمجربات والبداهات الوجدانية ومجرى العادات وما تواتر من البشر وتراكم الخبرات فى الأقوال المأثورة والأمثال العامية حول الحقائق الإنسانية الثابتة عبر العصور، مثل قول الصدق والنأى عن الكذب (5).
وتتفاوت الحجج النقلية بين القرآن والحديث مع غلبة القرآن فى معظم المسائل؛ لأن القرآن هو الأصل الذى منه تستنبط الأصول. والحديث أقرب إلى الفروع؛ لأنه بيان وتفصيل. ولا يذكر إلا حديث قدسى واحد، وسط بين الأصل والفرع(1). ومجموع الآيات ضعف مجموع الأحاديث تقريباً(2).
ويعتمد الشاطبى على “الاستقراء المعنوى”. ويعنى استقراء جزئيات الشريعة للوصول إلى مبدأ كلى. هو استقراء؛ لأنه يعتمد على إحصاء الجزئيات، وهو معنوى؛ لأن الإحصاء يتوقف إذا ما وصلت الجزئيات إلى حد يظهر فيه المبدأ الكلى وأى إضافة جديدة لجزئيات أخرى لا تطعن فى المبدأ سلباً ولا تقويه إيجاباً. وهو ما سماه المناطقة المعاصرون الاستقراء الناقص، وهو أساس الاستقراء العلمى الغربى الحديث. وبهذه الطريقة أمكن وضع علم القواعد الفقهية، كقواعد عامة للاستدلال أو كبديهيات علمية (3).
ويمكن تطوير هذه الطريقة القديمة إلى منهج حديث يقوم أيضاً على اطراد التجربة البشرية، وشمول العقل الإنسانى، وتكرار الوقائع المشابهة، وتوارد الأفكار عند الناس. والاشتراك فى تجارب حية متطابقة، تمثلها حكمة الشعوب، والأمثال العامية. وهو ليس بعيداً عن تحليل الشاطبى للحظوظ والمراءاة وكل ما يتعلق بأحوال النفس كما يفعل الصوفية. وفى اتباع المقاصد الأولى دون التابعة، والطاعة دون الحظ. ويمكن الاعتماد على الأفعال العامة والأقوال المأثورة وسير الأبطال وكل ما يعبر عن حكمة الشعوب وتراكم المعارف البشرية(4).
وقد اعتمد القدماء على الشعر العربى كرصيد للتجارب الإنسانية، فهو مصدر للتجربة وتصديق للآية والحديث. والقرآن إعجاز، والرسول أفصح العرب، والأحاديث تقارب جمهرة أمثال العرب. يستشهد بشعر ذى الرمة على اختلاف الألفاظ، وتشابه المعانى، مثل بائس ويابس، فالبؤس يبس، واليبس بؤس. وقد يعنى التخوف التنقص فى الشعر العربى فى شرح آية {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} [النحل: 47] حتى لقد قال عمر “أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم فى جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم” (1).
والاستقراء دليل على المبدأ، استقراء الشريعة أى مجموع الآيات. المصلحة أساس التشريع مبدأ عام مستقر من الآيات المفردة، وكما هو مقرر فى علم القواعد الفقهية. فالاستقراء مفيد للعلم وهو أساس الاجتهاد، رد الفرع إلى الأصل؛ لأن الأصل مستقى من جميع الفروع. والأصول الاستقرائية قطعية، تدل على ما هو معتبر وما هو غير معتبر، ومقاييس المصلحة والمفسدة. كما جرت الشريعة على حكم العادة، والعادة استقراء. والكليات لا تخرق الجزئيات. فالمصلحة أمر كلى واحتمال وقوع الضرر أمر جزئى. الجهاد مصلحة عامة فى الدفاع عن الأوطان وإن نتج عنه القتل والتدمير، وإزهاق الأرواح وخراب الديار. الكليات الاستقرائية هى كليات “عربية” مستقاة من القرآن العربى، وصحة أحكام الشريعة بالاستقراء (2).
والمنهج المتبع هو منهج القراءة والتأويل، أى إعادة بناء الموضوع طبقاً لظروف العصر، بمصطلحاته ولغته وأدوات تحليله ومستوياته وظروفه وحاجاته، وهو لب المنهج الأصولى ذاته، الاجتهاد. لقد أبدع القدماء لغتهم ومصطلحاتهم وأثنينا عليهم فى ذلك، وفى مقدمتها مفهوم المقاصد. فلماذا يقتصر الإبداع عليهم ويكون نصيبنا التقليد، فالسلف خير من الخلف، ولم يترك السلف للخلف شيئاً مسيئين تأويل الآية الكريمة {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَــاعُوا الصَّـلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَات} [مريم: 59] ولماذا لا نقول: هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدى بهم؟ نحن من المجددين ولسنا من المقلدين. نستأنف جهود الشاطبى من القدماء ومصطفى عبدالرازق وعلى سامى النشار والطاهر بن عاشور وعلال الفاسى من المحدثين. ويفرض السياق التاريخى علينا فى عصر الاستقطاب جعل المقاصد نقطة التقاء بين السلفيين والعلمانيين يتفقون عليها. فالعلمانية إشكال غربى لحل الصراع بين الكنيسة والدولة لصالح الدولة، وحسم الخلاف بين السلطتين الدينية والسياسية لصالح السلطة السياسية. وقد اختار الإسلام هذا الحل من قبل. فالمجتمع الاسلامى مجتمع مدنى، الإمامة فيه عقد وبيعة واختيار، والسلطة فيه تفويض من الأمة وليست من الله. ديموقراطية وليست ثيوقراطية. الهدف هو تأصيل جماعات حقوق الإنسان بدلاً من روافدها الغربية فى التصورات الفردية للإنسان ومعيارها المزدوج فى الممارسة، حقوق الإنسان الغربى ثم انتهاكها فى الإنسان اللاغربى، الأفريقى الأسيوى والأمريكى اللاتينى عامة، والعربى المسلم خاصة. فالمقاصد تتجاوز استقطاب الفكر المعاصر بين السلفية والعلمانية عوداً إلى الأصول.
ولا تعنى القراءة المعارضة والقلب والنقد والرفض بالطرق المباشرة وإيجاد البديل بدعوى الحداثة والتجديد القطيعة مع الماضى. إنما تعنى الإبقاء على الروح مع تغيير البدن، والمحافظة على القصد مع تطور الوحى(1)، مرحلة وراء مرحلة. القصد واحد، التوحيد، وظروف العصر مختلفة فى مصر والشام والحجاز والعراق واليمن. وهو ما فعله معظم الفلاسفة المعاصرين مع القدماء، خاصة هيدجر مع الفلاسفة اليونانيين والغربيين فى العصرين الوسيط والحديث.
والقراءة غير العرض. ومع ذلك فإنها تشمل عرضًا على مستوى العصر. فالعرض للقديم مجرد تكرار ممل لا فائدة منه. فى حين أن العرض الخلاق هو نقل للماضى على مستوى الحاضر. فى العرض لا فرق بين المقروء والقارئ. العرض فى البداية وليس فى النهاية. فى القراءة يمحى التمييز بين الموضوعى والذاتى. يظهر الموضوعى من خلال الذاتى، ويتجلى الذاتى من خلال الموضوعى.
كما تتغير المادة والأمثلة القديمة من المادة الفقهية فى العبادات أو المعاملات التجارية البدائية كالبيع والشراء إلى المادة الفقهية الجديدة فى المعاملات والعلاقات الدولية والتجارية المعقدة مثل منظمة التجارة العالمية، واتفاقية الجات، والبنك الدولى، وصندوق النقد، ومؤسسات التعاون الدولى(2). ارتبطت المادة الفقهية القديمة،العبادات، بظروف عصرها الأول. كانت مادة جديدة بالنسبة للمجتمع الإسلامى الأول، ولم تعد كذلك بالنسبة للمجتمع الإسلامى الحالى. وهناك مادة فقهية جديدة لم تدخل بعد كأمثلة يستقرى منها أصول الفقه الجديد دون الاكتفاء بإصدار الفتاوى فيها، مثل فوائد البنوك وشهادات الاستثمار ودفاتر التوفير، وموضوعات الهندسة الوراثية، وزرع الأعضاء، والاستنساخ، والتخصيب الصناعى، وكل ما يتعلق بعلوم الأجنة.
كما تكثر الأمثلة الفقهية ونقل المبادئ الأصولية عند القدماء ؛ مما يدعو إلى قلة الأمثلة الفقهية وتعميق المبادئ الأصولية عند المحدثين. لقد أطال الشاطبى فى “وضع الشريعة للامتثال” فى موضوع الحظوظ والكرامات؛ مما يخرج عن المبادئ العامة ويدخل فى التفصيلات الجزئية (1).
ويمكن التوسع فى المفاهيم القديمة عن طريق إطلاق معانيها، وبالتالى تجديد ألفاظها. الدين مثلاً ضمن المقاصد الضرورية الخمسة لا يعنى فقط ما عناه القدماء: العقائد والشعائر والكتب المقدسة، أى ميدانًا خاصًّا هو ميدان “المقدس”، وهو مفهوم “الدين” فى الغرب فى كتب “تاريخ الأديان المقارن”. بل يعنى أيضاً كل شيء، لا فرق بين الدينى والدنيوى. يعنى الحقيقة الثابتة الدائمة، العامة الشاملة، ضد النسبية والشك والغنوصية واللاأدرية والعدمية. لا يوجد شيء، وإن وجد لا يمكن معرفته. العدم أصل الوجود. وكذلك مفهوم “العرض” الذى لا يعنى فقط الشرف بالنسبة للعلاقات بين الجنسين بل يعنى أيضًا الكرامة الوطنية، وكما هو الحال فى الثقافة الشعبية أن الأرض هي العرض، ومن يستولى على الأرض فقد انتهك العرض.
وكذلك مفهوم “المال” الذى لا يعنى فقط المال الخاص فى محفظة النقود ضد لص “الأوتبيس” ونشال الطريق والحدائق العامة والتجمعات السكنية، بل يعنى أيضاً الثروات الوطنية والمال العام، وعوائد النفط، والثروات الطبيعية. فالواقع متغير، والسياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية متغيرة. والقصد ثابت لا يتغير. والمادة متغيرة مع تغير المصالح. وهذا هو الفرق بين الأصول والفقه، الأصول ثابتة والفقه متغير.
وتتعدد مستويات التحليل بين المستوى الإلهى والمستوى الإنسانى. التحليل على المستوى الالهى يخرج من مقاصد علم الأصول الذى يتحدث عن الشارع، أى واضع الشريعة، حتى يظل التمييز بين علم أصول الفقه وعلم أصول الدين قائمًا. الله فى علم أصول الفقه هو الشارع أى واضع الشريعة. وفى علم أصول الدين هو الذات والصفات والأسماء والأفعال. ولما كانت الشريعة الإسلامية شريعة وضعية(1) وأحكامها أحكام الوضع؛ فإن الشارع واضع الشريعة جعلها كذلك شريعة وضعية. وهو المستوى الذى يجمع الأخوة الأعداء فى عصرنا؛ السلفيين والعلمانيين، والذى يصل فيه الخصام إلى حد الاقتتال الدموى كما هو الحال فى الجزائر، والصراع الخفى على السلطة كما هو الحال فى تونس والمغرب وليبيا ومصر وسوريا والعراق، والصراع العلنى كما هو الحال فى الكويت واليمن، والتعددية السياسية الصريحة فى لبنان. أما التحليل على المستوى الإلهى فإنه يقضى على وضعية الشريعة ويقع فى صف أحد الفريقين المتخاصمين، السلفيين، ويقضى على إمكانية الحوار مع الخصوم ومد الجسور ونقاط الالتقاء مع العلمانيين ويخرج عن إطار المنظور العملى لعلم الأصول(2).
وتتعدد القراءات لعلم الأصول عامة وللمقاصد خاصة. ولا توجد قراءة “صحيحة” وأخرى “خاطئة”. بل هى اجتهادات متعددة تنبع من طبيعة موقف القارئ ووضعه الثقافى والاجتماعى والسياسى والأخلاقى. فقد تنوعت كتب الأصول القديمة وتعددت طبقاً للمذاهب الفقهية، وطبقاً للعرض اللامذهبى والعرض المذهبى. فهناك أصول الفقه الحنفى (القرافى، البزدوى)، وأصول الفقه المالكى (الشاطبى)، وأصول الفقه الشافعى (الجوينى، الغزالى، الشوكانى، الرازى)، وأصول الفقه الظاهرى (ابن حزم)، وأصول الفقه الحنبلى (ابن الحاجب)، وأصول الفقه الشيعى (الطوسى، محمد باقر الصدر)، ولا توجد قراءة أفضل من قراءة، ولا يوجد نسق أفضل من نسق. تتعدد الاتجاهات فى العلم، والعلم واحد.
كما تتعدد اللغات ومصطلحات التعبير والتخصصات والثقافات والاهتمامات العامة والجرأة على الاجتهاد والرغبة فى التواصل. والفلسفة تعطى جرأة على القراءة وتجديد المصطلحات وتبدع فى مستويات التحليل ومناهجه. والإصلاح يدفع إلى مزيد من الجرأة فى المواقف دفاعاً عن مصالح المسلمين وحقوق الأمة.
ليس من شيم العلماء مزايدة بعضهم على بعض فى الإيمان والإخلاص والحمية. ذلك مطلوب بطبيعة الحال، ولكنه لا يكفى بمفرده دون التعقل والعلم والتحليل والمصالح العامة والتواضع والبعد عن التعصب الذى قد يصل إلى حد الاستبعاد والتكفير. إن علم الأصول وسيلة وليس غاية. الغاية هى القدرة على وضع أصول قادرة على الدخول فى تحديات العصر وحل مشاكل الأمة، والربط بين مقاصد الشريعة وأهداف الأمة. ليس هدف العلماء أخذ حظوة فى الدنيا عن طريق الدفاع عن الدين طلباً للرياسة والصدارة دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الأمة.
3- المقاصد فى بنية الأصول:
المقاصد جزء من بنية رباعية يقوم عليها أصول الفقه مع الأحكام. المقاصد هى الغايات، والأحكام هى الأفعال. ولا تتحقق الغايات إلا بالأفعال (1). وتأتى المقاصد فى الترتيب بعد الأحكام وإن كانت من حيث الأهمية تأتى قبلها. أى مقاصد الأفعال. الفعل البداية، والقصد النهاية. ومع ذلك المقاصد أهم من الأحكام من حيث الكم، أكثر من ثلاثة أضعافها.
وهى بنية رباعية جزئية تدخل فى بنية رباعية كلية للعلم: الأحكام والمقاصد والأدلة والاجتهاد. الأحكام هى أنماط الفعل ونماذج السلوك. والمقاصد الأهداف والغايات. والأدلة مصادر الأحكام والمقاصد. وهى الأدلة الشرعية، بخاصة الدليلان النصيان: الكتاب والسنة. والاجتهاد طرق استنباط الأحكام والمقاصد من الأدلة. وهى القسمة الرباعية التى اتبعها الغزالى فى المستصفى، الثمرة وهى الأحكام، والمستثمَر وهى الأدلة الشرعية، والمستثمِر وهو المجتهد، وطرق الاستثمار وهى طــرق التعليــل . أما المقدمـــات “العلمية” الأولى فإنها تحدد الإطار العام لعلم أصول الفقه واتجاهه العملى وليس النظرى واضعًا أصول العمل وليس أصول النظر. بل إنه أمكن تطوير هذه الأصول فى “قواعد” هي علم القواعد الفقهية الذى سماه القدماء “الأشباه والنظائر” الذى أبدعه ابن النجيم، والطوفى، والسيوطى (1).
وتنقسم كل من المقاصد والأحكام إلى قسمين. تنقسم المقاصد إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. وتنقسم الأحكام إلى أحكام الوضع وأحكام التكليف. مقاصد الشارع هى المقاصد من وجهة نظر الله أى المقاصد الإلهية. فالشـريعة مقصــد قبل أن تكـون حكمًا(2). ومقاصد المكلف هى المقاصد من وجهة النظر الإنسانية أى النية. مقاصد الشارع أكثر أهمية كمًّا وكيفًا. إذ إنها تنقسم قسمة رباعية، ابتداء وللأفهام وللتكليف وللامتثال، فى حين أن مقاصد المكلف قسمة واحدة لا تنقسم. والسؤال هو: كيف يتم التوحيد بين المقصدين؟ كيف تصبح مقاصد الشارع هى مقاصد المكلف، ومقاصد المكلف هى مقاصد الشارع؟ أما أحكام الوضع فهى الأحكام كما يتصورها الله فى العالم، وأسسها الموضوعية فيه. هى ميدان الفعل وسياقه التاريخى ومكوناته المادية الموضوعية قبل أن تبزغ فيها الإرادات الفردية والحريات الإنسانية فى أحكام التكليف، وهى السبب والشرط، والمانع، والعزيمة والرخصة، والصحة والبطلان. هى الميدان الموضوعى لتحقق الفعل، ثلاثة ذات لفظ مفرد: السبب والشرط والمانع، واثنتان ذواتا لفظين على التقابل: العزيمة والرخصة، والصحة والبطلان. وهى تعادل مقاصد الشارع، أى المقاصد الموضوعية للشريعة من وجهة نظر الله قبل أن تتحول إلى مقاصد ذاتية فى مقاصد التكليف تعادل أحكام التكليف. يتغير اللفظ فى المقاصد والأحكام، الوضع والتكليف، والمعنى الواحد، فى حين يبقى اللفظ، التكليف فى المقاصد والأحكام بنفس المعنى. وتأتى أحكام الوضع كيفًا وكمًّا قبل أحكام التكليف. فسياق الفعل وميدان تحققه أهم من الفعل ذاته (1).
وتنقسم مقاصد الشارع إلى قسمين: رباعية أولاً، ثم تنقسم الأولى منها قسمة خماسية(2). فمقاصد الشارع أربعة: أولاً، وضع الشريعة ابتداء أى أولاً، أى السبب المبدئى الذى من أجله وضعت الشريعة، العلة الغائية(3). ثانيًا، وضع الشريعة للإفهام (بكسر الهمزة) ولفهم مقاصدها وليس بفرضها عنوة على الناس دون فهم من أجل شرحها وبيانها وإقناع الناس بها، وليس فرضها عليهم قهرًا حتى يعطى الحاكم نفسه الذى تنقصه شرعية البيعة شرعية تطبيق الشريعة، ويعنى بها الحدود وليس المقاصد. ثالثًا، وضع الشريعة للتكليف أى للتحقيق ولتمثلها بالأفعال طبقًا للقدرة الإنسانية وعدم جواز تكليف ما لا يطاق، وعدم الشق على الأنفس. رابعًا، وضع الشريعة للامتثال أى الطاعة وحتى تتحول إلى طبيعة ثانية فى الحياة الإنسانية تساوق الفطرة. هناك تدرج فى المقاصد من الأساس إلى التحقق، ومن الحفر إلى البناء، ومن التأسس إلى التكوين. وأهمها مقاصد الشريعة للامتثال، أى الطاعة بالإرادة الحرة بعيدًا عن الهوى والحظوظ والكرامات. ثم توضع الشريعة للتكليف أى التنفيذ. ثم توضع الشريعة للمصالح العامة ابتداء، وأخيرًا توضع الشريعة للإفهام (4). والأمر كذلك أيضًا من حيث عدد المسائل (5).
ويتدرج القصد الأول وضع الشريعة ابتداء إلى ثلاثة مستويات: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات. الأول هى الضروريات الخمس، النفس، والعقل، والدين، والعرض، والمال. والثانى الحاجيات، وهو مستوى أقل من الضروريات ولكن لا تستغنى عنه كالطعام والشراب واللباس والمسكن للحفاظ على الحياة. والثالث التحسينات وهو مستوى أقل من الحاجيات مثل الكماليات، الطعام الجيد، والمسكن الراقى، واللباس الفاخر، طبقاً لمستوى الدخل والتركيب الطبقى للمجتمع كواقع وليس كمبدأ.
الضروريات الخمس، كلها لها لفظ واحد، باستثناء الضرورتين الأولى والرابعة لفظان مترادفان على التبادل النفس والحياة، الخاص والعام. النفس الإنسانية خاص، والحياة عام، حياة النبات والحيوان والإنسان وكل ذى ظفر. فالحياة أصل ومقصد. والنسل أى حفظ الأنساب دون اختلاطها أى العرض (1).
4- المصلحة أساس التشريع: الضروريات الخمس:
“ووضع الشريعة ابتداء” يتضمن ثلاث قضايا رئيسية، التمييز بين الضروريات والحاجيات والتحسينات، والفرق بين المصالح والمفاسد، وحفظ الشريعة ودوامها. والثانية هى الأطول والأهم (2). وهى المقدمة الأولى للمقاصد كلها بعد قسمتها (3).
والضروريات هى ما لا تستقيم الحياة بدونها، تحتاج إلى إثباتها وحمايتها من الخلل والاختلال. وهى فى العادات والعبادات. والتفرقة بين العبادة والعادة تفرقة دقيقة؛ لأن العبادة تتحول إلى عادة، والعادة إلى عبادة. وبعض العبادات كانت عادات مثل بعض مناسك الحج والصوم لدى الأمم السابقة. أما التفرقة بين العبادات المعاملات فهى الأهم؛ لأن المصالح الناتجة عن العبادات معروفة. إنما المصالح الناتجة عن المعاملات فمتغيرة؛ لأن المعاملات الاقتصادية متغيرة من عصر إلى عصر.
والعلاقة بين الضروريات والحاجيات والتحسينات علاقة تراتبية. الضروريات هى الأساس، وهى الحقوق الطبيعية للإنسان والتى اتفقت عليها جميع الملل والأقوام مثل الضروريات الخمس. كل منها تتمة وتكملة للأخرى. أما الحاجيات فمن باب الوسع والضيق على المستويين الفردى والاجتماعى، وليس فقط على المستوى الفردى. الضروريات حقوق عامة لكل الأفراد، أما الحاجيات فهى ميزات خاصة تفرضها الأذواق الفردية فى حالة توفر الإمكانيات أو الطبقات الاجتماعية فى حالة نقصها. وهى عامة فى العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. والتحسينات هى الأخذ بما يليق بمحاسن العادات طبقًا للذوق الرفيع، مثل مكارم الأخلاق أيضًا فى العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. ودلالة ذلك حرية الاختيار، والفروق الفردية، والسبق إلى الخيرات، والإمكانيات المادية، والتفاوت فى الرزق الناتج عن الجهد.
وشرط التراتبية ألا تعود مرتبة على أخرى بالإبطال. الضروريات أصل، والحاجيات فرع، والتحسينات فرع الفرع. فإشباع الحاجيات أو التحسينات دون الضروريات سفه وادعاء وتظاهر وتفاخر. وتقوم الثورات والهبات الشعبية من أجل نقص الضروريات وليس من أجل عدم توافر الحاجيات والتحسينات. وقد تقوم من أجل توافر الحاجيات والتحسينات عند البعض فى مظاهر الوفرة والغنى ونقص الضروريات عند البعض الآخر. إبطال الأصل يؤدى إلى إبطال الفرع، ولكن إبطال الفرع لا يؤدى إلى إبطال الأصل. فالجهاد مع ولاة الجور واجب كما قال مالك. الجهاد أصل والجور فرع، جهاد أعداء الأمة فى الخارج أصل، وجهاد الجور فى الداخل فرع. وبلغة العصر، التناقض الرئيسى له الأولوية على التناقض الثانوى . وهو أيضًا موقـف الغزالى فى “المستظهرى” فى الإمام الذى لم يستجمع شروط الإمامة، ومثل الصلاة فى الدار المغصوبة، فى وجوب تحرير الأرض من يد الأعداء قبل وجوب الصلاة (1).
ولا تعنى التراتبية فى المصالح التراتبية فى الدنيا فى صيغة طبقات أو طوائف أو ملل أو نحل أو بيوت أو عشائر أو أعراق. فالضروريات الخمس حقوق إنسانية عامة تخترق الحدود الإقليمية والخصوصيات البشرية. ومراحل الوحى ليست تراتبية أو أفضلية بل مراحل فى تقدم التاريخ ورقى الوعى الإنسانى.
وقد لا توجد مصلحة خالصة أو مفسدة خالصة بل قد تختلط المصلحة بالمفسدة والمفسدة بالمصلحة. وفى هذه الحالة تصبح المصلحة الغالبة هى الراجحة والمفسدة الغالبة هى المرجوحة. فالكم جزء من الكيف. والمصلحة والمفسدة مبدأ كيفى، والراجح والمرجوح مبدأ كمى. فالجهاد قرح، والعلم جهد، وحفت الجنة بالمكاره. والعادة أى التجربة هى مقياس التقدير الكمى لغلبة المصلحة أو المفسدة. والخطاب الشرعى لا يأمر إلا بما فيه مصالح العباد على الأمد الطويل. وهو ما أشار إليه الفلاسفة بأن الخير هو المقصود وإن شاب الفعل بعض الشر على مستوى التكوين وليس على مستوى التشريع. وهو ما أثاره أيضاً المتكلمون خاصة المعتزلة. وأما إذا خرجت المصلحة والمفسدة على حكم العادة فإنها تخضع لمبدأ “الضرورات تبيح المحذورات” من أجل المحافظة على تراتبية الضرورات الخمس (1).
ولا تتبع المصالح والمفاسد أهواء النفوس بل هى مصالح ومفاسد عامة للجميع. المصلحة عامة والهوى خاص. لذلك تسمى المصالح العامة، وهى الحق فى الحياة الإنسانية وأفعال الناس وعليها تقوم السموات والأرض. ومع ذلك المصلحة والمفسدة إضافيان، فى حال دون حال، ووقت دون وقت، وشخص دون شخص، نسبة إلى الموقف. قد تختلف الأغراض فى الأمر الواحد. ومن ثم فإن الإذن بالمصلحة والمنع للمفسدة ليسا على الإطلاق كما قال الرازى طبقاً لنسبية الأشاعرة، على عكس قاعدة التحسين والتقبيح الاعتزالية كما لاحظ القرافى. المصالح مطلقة عامة لا تخص باباً دون باب ولا محلاًّ دون محل، مصلحة مطردة فى كليات الشريعة. وهذا هو معنى العصمة الشرعية وحفظها، أى بقائها كحقيقة إنسانية ثابتة(2).
والدليل على المصلحة والمفسدة دليل قطعى طالما أن المصلحة مبدأ قطعى. والظنى لا يكون دليلاً على أصل قطعى. والدليل العقلى يقينى مثل الدليل الشرعى فى حين أن الدليل النقلى لا يكون يقينيًّا بمفرده، ولا يصبح قطعيًّا إلا بتضافره مع الدليل العقلى (3). والمصلحة حكم عقلى وشرعى معًا. والإجماع دليل قطعى أيضًا. واستقراء الشريعة دليل قاطع. وهو أساس يقين التواتر. والأصل القطعى لا ترفعه آحاد الجزئيات. الأصل القطعى عام، والجزئيات خاصة. وفى الحياة العام والخاص، المشترك والفردى. ليس الأصل فى المصالح الإذن بها وفى المفاسد المنع لها بل لها أدلتها اليقينية فى ذاتها والمستقاة من جزئيات الشريعة أو القائمة على الحسن والقبح العقليين.
والضرورات الخمس عند القدماء، الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، فى حاجة إلى إعادة ترتيب. الترتيب القديم يبدأ بالدين فى حين أن الدين لا يدرك إلا بالعقل، والعقل لا يكون إلا عند الأحياء. ومن ثم يبدأ الترتيب الطبيعى بالحياة التى يشارك فيها المؤمن والكافر. الحياة هبة من الشارع، وصفة له، شرط العلم والقدرة(1). والنسل مع الحياة وليس إحدى الضروريات الخمس لأنه استمرار لها.
ثانياً، العقل، فالعقل شرط التكليف. وهو أول ما يبزغ فى الحياة. فالحياة هى الحياة العاقلة كما عبر ذلك الحكماء القدماء الكندى والفارابى وابن سينا وابن طفيل وابن باجة وابن رشد.
ثالثاً، الدين؛ لأنه لا يدرك إلا بالعقل، فالعقل أساس النقل عند المعتزلة، ومن قدح في العقل فقد قدح فى النقل عند ابن تيمية زعيم السلفيين فى “موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول”. وهو مجموعة من الحقائق المعطاة سلفًا والتى يصدقها العقل والتجربة.
رابعاً، العرض الذى لا يعنى فقط اختلاط الأنساب والمحافظة على صحة النسب، بل يعنى أيضاً الكرامة الوطنية، والاستقلال الوطنى، والكرامة الإنسانية، واحترام حقوق الإنسان.
خامساً، المال الذى لا يعنى فقط المال الخاص بل المال العام، والثروة الوطنية ضد التبديد والنهب والاستغلال والتهريب إلى الخارج (2).
والمصالح والمفاسد فى الأمور الدنيوية وليست فى الأمور الأخروية؛ إذ لا تعرف الآخرة إلا بالخبر أو قياسًا للغائب على الشـاهد ، ولكن لا تعرف بالتجربة(3). والمصلحة والمفسدة أمور تجريبية خالصة. أمور المعاد أدخل فى علم أصول الدين وخارج عن علم أصول الفقه. الغيبيات خارج عن حدود علم أصول الفقه الذى لا يتناول إلا المشاهدات التى تخضع للعقل والسبر والتقسيم. وقياسًا للغائب على الشاهد فى الآخرة مصلحة محضة هو خير محض، ومفسدة محض هو شر محض. وهو ما ينفى تفاوت الدرجات فى الدارين (1).
5- فهم الشريعة: اللغة العربية:
والمقصد الثانى “وضع الشريعة للإفهام” وذلك عن طريق اللغة، اللغة العربية. فالوحى كلام، والكلام لغة، واللغة أداة تعبير وإيصال شفاهًا أو تدوينًا. فالشريعة الإسلامية عربية، لسانها عربى، والقرآن عربى خال من العجمية إلا من الكلمات التى تم تعريبها من قبل نزول الوحى فارسية أو روسية أو حبشية أو قبطية. فقد كان العرب فى اتصال عبر التجارة مع الشعوب المجاورة، وهو ما لاحظه الشافعى من قبل فى الرسالة، ارتباط علم الأصول بالبيان أى باللغة العربية مثل ارتباط المنطق اليونانى باللغة اليونانية؛ مما سمح للأصوليين والحكماء والمناطقة بنقد المنطق اليونانى و”ترجيح أساليب القرآن على منطق اليونان” (2).
وألفاظ اللغة لها معنيان. أصلى وفرعى، مطلق ومقيد. الأول تشترك فيه جميع الألسنة. ويمكن معرفته بالنحو. والثانى خاص بكل لسان لا تعرفه إلا البلاغة فيما يتعلق بالتركيز والإطناب، والمجاز والتشابه، والتأويل والتقديم والتأخير، والذى كثيرًا ما يبرز فى القصص. الأول يمكن ترجمته ونقله من لسان إلى لسان، والثانى لا يمكن ترجمته؛ لأنه خاص بكل لغة. وقد أشار إلى ذلك المناطقة القدماء. لذلك نفى ابن قتيبة إمكان ترجمة القرآن. القرآن المترجم لفهم المعانى وليس للتعبد (3). وكل ترجمة تحرص على المعنى يضيع اللفظ وموسيقاه وتصويره. وكل ترجمة تحافظ على اللفظ يضيع المعنى وتقع فى الحرفية. وهذا هو سبب الإعجاز بمعنى عدم القدرة على تقليده والإتيان بمثله.
ومن ثم يكون النظر فى الأحكام هل هى على المعنى الأصلى وليس المعنى الفرعى، ويكون المعنى الفرعى دالاًّ على الأحكام وليس أصلاً لها. وفى هذه الحالة يكون السؤال: وما لزوم المعنى الفرعى؟ ألم يستعمل أيضاً فى استنتاجه لأحكام وهو جزء من اللسان العربى وكما فعل ذلك الفقهاء من قبل، الشافعى وغيره، والأمثلة على ذلك كثيرة؟ ويكون الجواب أن المعنى الفرعى خادم للأصل ومؤكد له وليس واضعًا لحكم. ولو كان أصلاً للحكم لكان أصلاً فى المعنى. فهو معنى مساند وليس مستقلاًّ تستنبط منه أحكام مستقلة. لا يمكن إهماله، وفى الوقت نفسه لا يمكن اعتباره أصلاً.
وقد تدل المعانى الفرعية على آداب شرعية وتخلقات حسنة وإحساس مرهف بالمعنى من أجل الإقناع والإيحاء بالحكم المستند إلى المعنى الأصلى، مثل النداء المزدوج لله وللإنسان للدلالة على القرب وللألفة مع الأشياء بتشخيصها وتوجيه النداء إليها، وضرورة التنزيه وعدم نسبة الشر إلى الله، والأدب فى المناظرة، وإجراء الأمور على العادات فى التسببات(1).
لذلك جاءت الشريعة أمية لقوم أميين بواسطة رسول أمى. ولا تعنى الأمية فقط عدم معرفة القراءة والكتابة وهو المعنى الحالى نسبة إلى لغة الأم ولكن أيضًا الطبيعى قبل حالة التعلم. علوم الأميين فطرية، وعلوم الأمم المتحضرة بالاكتساب والتعلم. تعنى الأمية الاعتماد على البداهة ولغة الإشارة الحسية المرئية والوسائل “السمعية والبصرية” بلغة هذا العصر مثل لغة الأصابع، ولغة اليد، ولغة العينين، ولغة الوجه والرأس، باختصار “لغة البدن”(2).
كانت للعرب علومهم الطبيعية التلقائية الفطرية. أبدعوها من وحى الحاجة والبيئة مثل علم النجوم للاهتداء بها فى البر والبحر. ثم استعمل بعد ذلك فى الشريعة لمعرفة مواقيت الشعائر. وعلم الأنواء وأوقات نزول الأمطار وانتشار السحب وهبوب الرياح، علوم أهل صحراء، نقته الشريعة وأبقت ما هو علمى واستبعدت ما هو خرافى، وهو ما سماه الحكماء “علم أحكام النجوم” (3). وعلم الطب كان مأخوذًا من تجارب الأميين قبل نقل علوم الأوائل. وعلوم البلاغة والفصاحة وأساليب الكلام من بيان وبديع كانت وراء الإحساس بإعجاز القرآن. وعلوم مكارم الأخلاق كانت تعبيرًا عن الفطرة مثل الصدق والعدل والشجاعة ونصرة الضعيف وموالاة المظلوم. أقر الوحى البعض وعدل البعض الآخر، وأكمل نوعًا ثالثًا، ورفض علوم الفأل والطيرة والزجر والطالع.
والسؤال هو هل ذكر القرآن والحديث والحث عليها يدل على معرفة العرب بها أم توجيه العرب نحوها بالنظر فى الطبيعة والتعرف على قوانينها ثم الاهتداء بها فى أمور الدنيا والاستدلال بها على التوحيد؟ (1). هل القرآن مصدر علم لحياة العرب فى الجاهلية أم أنه واقع على إنشاء علوم الطبيعة من أجل الانتقال إلى ما بعد الطبيعة كما لاحظ المتكلمون والحكماء والصوفية بجعل الطبيعة مقدمة لما بعد الطبيعة وكما أورد الغزالى :
وفى كل شيء له آية – تدل على أنه الواحد
لذلك تفهم الشريعة بطريقة الأميين الذين نزل الوحى بلسانهم فى الألفاظ والمعانى والتراكيب وأولوية المعنى على اللفظ. فالمعنى هو الغاية واللفظ وسيلة. ومن هنا أتت شرعية التأويل والمجاز. بل إنه يمكن تبديل بعض الألفاظ بألفاظ أخرى أكثر قدرة على التعبير عن المعانى وإيصالها. والأمثلة على ذلك من الشعر العربى (2). كما يمكن إهمال بعض الألفاظ كلية. والتعبير العربى بعيد عن التكلف والاصطناع. وهو ما عابه الأصمعى على الحطيئة، وما يُعاب على الخطاب الفلسفى الغربى المعاصر. وتفهم العبارة كما يفهمه عامة العرب وليس خاصتهم فى الأمور “الجوهرية” بالرغم من نزول القرآن على سبعة أحرف أى على مستويات متعددة من العمق والفهم طبقًا لمستوى الثقافة والعمق (3). وقد لا يفيد اللفظ معنى محدداً ولكن يفيد بموسيقاه وجرسه وإيحاءاته مثل “الأب” فى “فاكهة وأبا” ومثل “المرسلات” و”العاصفات” دون التوغل فى المقصود منه والبحث عن المطابقة مع الشىء. قد يكون المقصود منها إثارة النفس والخيال فى “نظرية الكشف” وليس الإحالة إلى شيء فى “نظرية المطابقة”. المقصود هو تعقل التكاليف الاعتقادية والعملية من أجل تحقيقها. فليس النظر غاية فى ذاته ولا الخطاب غاية فى ذاته كما هو الحال فى اللسانيات المعاصرة. تكون التصورات أى الاعتقادات سهلة الفهم والتكاليف واضحة وميسورة. ولغياب ذلك نشأت الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية المتكلفة مثل فقه الفرق. وفى العمليات يكون الفهم طبقًا للأميين والبدو، أى الفهم الطبيعى التلقائى دون تكلف واصطناع الباطنية. وهذا لا ينافى تدقيق النظر فى الأحكام فى مواطن الشبهات. وهى أمور إضافية لا تعبد فيها من باب الجليل أو الدقيق من الكلام. فالناس فى فهم الشريعة على مراتب ومستويات مختلفة من العمق والقدرة على التأويل طبقًا لتعدد الثقافات والتخصصات والاختصاصات والهبات والقدرات الطبيعية. والتطبيق التدريجى للتكاليف ينعكس على الفهم فتظهر الصياغات اللينة التدريجية التى لا تغفل المراحل وحتى يتعود الناس على التكليف الجديد، والشديدة الصارمة التى تريد تغيير الواقع دفعة واحدة، مما يؤدى إلى قتل الأنبياء وعصيان أقوامهم (1).
لا يعنى ذلك كما ادعى بعض القدماء والمحدثين أن القرآن حوى كل العلوم مسيئين تأويل آيات مثل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 38]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} [النحل: 89]، وضع القدماء فيه علوم عصورهم الطبيعيات والتعاليم والمنطق والحروف، كما وضع فيه المحدثون علوم الطب والكيمياء والذرة وطبقات الأرض والهندسة الوراثية، والعلوم الإنسانية مثل علوم النفس والاقتصاد والسياسة والاجتماع بدعوى أن القرآن سابق على علوم العصر. ومن ثم فالمسلمون أفضل من الغربيين، خير أمة أخرجت للناس. وأفاضوا فى أسرار القرآن مثل فواتح السور. وتركوا التفسيرات الاجتماعية والسياسية التى تأخذ حقوق الفقراء من أموال الأغنياء، وحقوق الضعفاء من سلطة الأقوياء (2).
ولا تبعد “إسلامية المعرفة” عن ذلك كثيراً. إذ إنها تأخذ المعارف الغربية الحالية التى توصل إليها الغربيون بجهودهم ثم “غربلتها” بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ما اتفق منها معها يكون إسلاميًّا، وما اختلف معها يكون غير إسلامى فى حاجة إلى تصحيح تقوم به العلوم الاجتماعية الإسلامية. وهو موقف ينتهى أولاً، إلى التسليم بأن آخر ما وصل إليه العلم هو ما توصل إليه الغربيون(1). يعبر عن إحساس بالنقص أمامهم، وتأبيد هذا الإحساس فى الأمة منتظرين ماذا يأتى به الغربيون. فالعلم من الغرب. والغرب ليس مصدرًا للعلم بل موضوعًا للعلم. ثانيًا، اقتصار دور الأمة على النقل دون الإبداع وعلى إصدار الأحكام بالصواب والخطأ على العلوم الغربية ليس بناء على مراجعات علمية بمناهج علمية كما يفعل العلماء مع العلماء. ويكون مقياس ذلك هو الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بكل ما فى ذلك من انتقاء وابتسار واجتزاء وتأويل وتشابه ومجاز وإطلاق. وهو نوع من الكسل العقلى والتبعية العلمية لم يكن طريق القدماء الذين أبدعوا فى العلوم الرياضية والطبيعية ولم يكتفوا بنقل اليونان (2). ثالثاً، وماذا لو تغير العلم الغربى إلى النقيض كما هو معروف فى تاريخ العلم؟ هل يتغير فهم القرآن معه؟ فى هذه الحالة تؤدى “أسلمة العلوم” إلى ربط الثابت وهو الوحى، بالمتغير وهو العلم. ويصبح العلم هو الرائد والوحى هو التابع. رابعًا، ولماذا يكون العلم غربيًّا وهناك علوم الصين والهند واليابان؟ هل “أسلمة العلوم” ما زالت مرتبطة بعلاقتنا بالغرب إبان العصر الاستعمارى، وإكمالاً لحركة التحرر الوطنى عن طريق الثقافة والعلم بطريقة “وداونى بالتى كانت هى الداء”؟.
6-القدرة ورفع الحرج: عدم جواز تكليف ما لا يطاق:
والمقصد الثالث “وضع الشريعة للتكليف”. ولا يكون التكليف إلا طبقًا للقدرة وعدم جواز تكليف ما لا يطاق، ورفع المشقة. فإشباع الحاجات الضرورية للإنسان لا يمكن إغفالها؛ لأنها جزء من طبيعة الإنسان خارج دائرة الكسب، الأفعال الخارجية والداخلية. وهو نوعان مثل أفعال الشعور الداخلية كالعلم والحب والصفات الفطرية، كالشجاعة والحلم، وهى خارج أفعال التكليف (3). ولا يوجد تكليف بالأوصاف الجبلّية التى لا اختيار للإنسان فيها. فالتكليف قائم على حرية الاختيار. وكذلك لا يجوز التكليف بالشاق، لا فرق بين أشاعرة ومعتزلة. وترفع المشقة عن أعيان الأفعال وعن كلياتها معاً. وهو حكم العادة والإجماع. ولا يعنى ذلك إسقاط مشقة مقاومة اتباع الهوى. بل إن المشقة فى هذه الحالة جزء من الفعل. المباح لا مشقة فيه. إنما الواجب والمحظور يقترنان بالمشقة للفعل أو عدم الفعل. لذلك شرعت الرخص لرفع المشقة والحرج. ولقد قام النسخ على أساس رفع المشقة، والتحول من الأثقل إلى الأخف أو من الأخف للأثقل. وفى كلتا الحالتين يُقد الحكم على قد القدرة. أو ينتج عن المشقة فساد يعارض أصل المصلحة(1).
والمشقة على درجات. ما لا يطاق وهى مانعة من التكليف، والخارجة عن المعتاد وهى مانعة من التكليف أيضًا، والزائدة على المعتاد وهى غير مانعة من التكليف بل هى اختبار وابتلاء. والقصد هو المحك وليس قدر المشقة. وأخيرًا مشقة مخالفة الهوى وهى مقصودة بالتكليف. ولا تقصد المشقة لذاتها حتى يراد الثواب؛ لأن الأعمال بالنيات، وإلا تحول التكليف إلى تجارة، والفعل الشرعى إلى مكسب وخسارة.
وسبب رفع الحرج الخوف من الملل والانقطاع والتحول من النقيض إلى النقيض، والمزايدة والتكلف والادعاء والتنطع فى الدين والرغبة فى الثناء من الناس أو زيادة الكسب فى الآخرة، وتعطيل شئون الدنيا، وعدم القدرة على الاتيان بالأفعال الشرعية الأخرى. وقد تكون المشقة فى الامتناع عن المحرم أكثر منها فى الإتيان بالواجب. فمجاهدة النفس نوع من المشقة . ولا ينطبق مثل “الصلاة فى الدار المغصوبة” على رفع المشقة والخوف من القبض على الإمام من الأعداء، بل على أولوية تحرير الأرض على الصلاة فيها، وأولوية الولاية العامة على الولاية الخاصة(2).
وتعنى القدرة ورفع المشقة والحرج بلغة العصر أولوية الواقع على الفكر، والحفاظ على الحياة كأحد الضروريات الخمس، وعدم التنطع فى الدين.
وهناك حالات خاصة مثل الأصفياء والأتقياء والأولياء، حالات البطولة والتضحية حيث تكون المشقة لديهم وسيلة للخير الحميم، وتأتى عن طبيعة دون تكلف واصطناع كسهر الليالى من العلماء. تعتمد على أخبار آحاد، وتؤول تأويلاً خاصًّا. ومعارضة بأحاديث أخرى متواترة. ويُغلب التواتر على الآحاد فى حالة التعارض. هؤلاء هم أرباب الحظوظ وأصحاب المواهب، والاستثناء من القاعدة. وهو نفس موقف ابن تيمية فى اعتبار التصوف للخاصة وليس للعامة. وكما لا يطلب وقوع المشقة العادية لا يطلب رفعها؛ لأنها جزء من التكليف والجهد، بذل الوسع وممارسة الحرية. والحرج العام أقسى من الحرج الخاص. فحرج الجماعة أقسى من حرج الفرد. قد يسقط الحرج العام ولا يسقط الحرج الخاص إذا كان من المعتاد (1).
والمشقة تكون على التوسط والاعتدال (2). لذلك كان الشافعى فقيه الوسطية هو الأكثر ذكرًا من الفقهاء فى المقاصد. وكلا طرفى الأمور ذميم. وكل ما هو متوسط معتدل داخل فى مقدور العبد. وكثيرًا ما يكون هدف التشريع رد الطرف إلى الاعتدال، لا فرق بين سلوك البدن وأحكام التكليف. الغاية من التشدد هو الاعتدال؛ لأنه تشدد طرف مع طرف متشدد. والاعتدال هو السبب فى السماح بالرفض حتى تزول المشقة الزائدة. ويعرف الاعتدال من الشرع والعادة والفعل؛ نظرًا لتطابق الوحى والعقل والطبيعة.
والمشقة أمر دنيوى وليست أمراً أخرويًّا(3). فالمصالح أمور دنيوية وليست أخروية، هى مصالح العباد؛ لأن الله لا يجوز عليه المصالح. وقد تكون المشقة على غير المكلف وهو ما ينتج عن الولاية العامة. وفى هذه الحالة يجب الترجيح.
ومن ثم فإن تشدد الجماعات الإسلامية المعاصرة قد يخرج عن إطار القصد الثالث وضع الشريعة للتكليف عندما تتشدد فى حرفية التكليف دون روح الأحكام، وعندما تركز على العبادات دون المعاملات، وعندما تجعل هم الشريعة البدن والعرى والعلاقات الجنسية وليس الفقر والقهر والعلاقات الاجتماعية. ومن مظاهر تشددها تكفير المجتمع والانعزال عنه وتكوين جماعات مغلقة طاهرة هى جماعة المؤمنين وسط مجتمع الكفر. ولا علاقة بين الاثنين إلا بأن يقضى أحدهما على الآخر، والنصر للأقلية المؤمنة على الأغلبية الكافرة. إن التشدد ظاهرة اجتماعية طبيعية فى مجتمع يغلب عليه التسيب والتميع والانحلال والضياع. قد يكون التشدد هنا جرس التحذير والانتباه. فالطرف يؤدى إلى الطرف الآخر. وقد يعبر عن رغبة لانتصار سريع ومحدود على مستوى “جهاد النفس” إن تعثر الانتصار على الجهاد الأكبر، جهاد العدو، وتمرستا بآية {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
7- مقاومة الأهواء والحظوظ والكرامات وإثبات العادات:
والقصد الرابع هو “وضع الشريعة للامتثال” وتعنى التمثل والطاعة وتحويل الشريعة إلى بناء شعورى للإنسان وهو قصد الشارع من دخول المكلف تحت أحكام الشريعة وإخراجه من دواعى الأهواء حتى تتأكد حرية الأفعال وضرورة التكليف. فالكون يقوم على الحق وليس الهوى، ومصالح العباد موضوعية ولا تخضع للأهواء. ولا عبث فى الكون بل كل شيء فيه لحكمة. ومن ثم فإن كل الأعمال التى تقام على الأهواء هى أعمال عبثية، عبادات أو عادات. لذلك كتب الفقهاء فى “ذم الهوى” مثل الهروى. الهوى ظن والحق يقين. الهوى مفسدة واليقين مصلحة. واتباع الهوى فى المحمود طريق إلى المذموم. وإن متبع الهوى كالمرائى يتخذ الأحكام آلة لاقتناص أغراضه كمن يبدل النساء بدعوى تعدد الزوجات والطلاق، وينغمس فى الحياة الدنيا بدعوى عدم جواز تحريم ما أحل الله من طيبات، ومن يكسب الملايين بدعوى دفع الزكاة، ويبنى عقارًا ويجعل أسفله مسجـدًا لإلغـاء ضرائب العقــار والعوائد (1).
والمقاصد الشرعية ضربان: أصلية وفرعية (تابعة). الأصلية لا حظ فيها للمكلف؛ لأنها الضروريات المعتبرة فى كل ملة. هى مصالح عامة أو منافع عمومية وليست حظوظًا شخصية. والضرورة إما عينية على كل مكلف أو كفائية إذا قام بها مكلف سقطت عن الآخر. وكلاهما معرى عن الحظ. فلا أجر على الولاية والعلم والقضاء والحكم والإحسان والإقراض. لذلك حرم الربا. والمقاصد الفرعية هى التى قد تتحقق فيها حظوظ المكلف مثل إشباع الحاجات والتمتع بمباهج الدنيا. وهى خادمة للمقاصد الأصلية. وهنا تتحول العادة إلى عبادة. والحظ قد يكون مقصودًا عاجلاً مثل المعاملات، أو غير مقصود آجلاً مثل الولاية العامة وما تجلبه من عز السلطان ونخوة الرياسة. وقد تكون الحظوظ مباشرة للنفس أو غير مباشرة للغير مثل الزوجة والأولاد والرعية. وفى الحظوظ عموم وخصوص، حظ المكلف بالقصد الأول، وحظ الآخر بالقصد الثانى، وقسم متوسط بين الاثنين (1).
وقد يتخلى المكلف عن حظه ويكون فعله لله وللناس (2). ويكون العمل صحيحاً إذا ما روعيت فيه المقاصد الأصلية، وهو أقرب إلى الإخلاص فى العمل. أما الترهب فإنه تنازل عن حظ صغير لنيل حظ أعظم مثل الزهد فى الدنيا. العمل على المقاصد الأصلية فيه صلاح عام وعصيانها فيه فساد عام (3). والعمل طبقًا للمقاصد التابعة قد يحقق المصالح الأصلية. وإن يحققها كان حظًّا للنفس (4). والحظوظ أقسام. الأول ما يرجع إلى صلاح الهيئة وحسن الظن عند الناس، والثانى حظ النفس من الدنيا دون مراءاة أو بمراءاة الناس(5). والمقصود هو الحظ الدنيوى وليس الحظ الأخروى. الأول معروف بالعادة والتجربة، والثانى بالقياس.
والمطلوب الشرعى عادة أم عبادة. العادة سلوك أفقى فى المعاملات، والثانية سلوك رأسى فى العبادات. النيابة فى العادة صحيحة، أما النيابة فى العبادة فإنها تعارض مبدأ الاستحقاق الذى يقوم على أساس كسب الأفعال وتصور فردى لعلاقة العمل بالجزاء. فإذا كانت فيه نيابة فإنه يكون تحقيقًا للفعل التواصلى بين الأفراد، بين الأحياء والأموات فى نطاق القرابة والصداقة والأخوة والأمة، واعتمادًا على مبدأ الرحمة بعد مبدأ العدل. فالشارع عادل يطبق قانون الاستحقاق، ورحيم يطبق الشفاعة والنيابة والمغفرة. النيابة رؤية إنسانية ومشاركة وجدانية، وعطاء فردى يشبه أخذ حقوق الفقراء فى أموال الأغنياء. علاقة الإنسان بالله علاقة فردية وعلاقته بالإنسان علاقة تبادلية. العلاقة بالله علاقة حرية ومسئولية، وعلاقة الإنسان بالإنسان علاقة تبادل منافع ومصالح. الفعل التواصلى كالصدقة الجارية، وقبول الدية فى حالة الخطأ العمد، وتحمل المسئولية حتى بعد الموت من أفعال الميت أو الحى، وفرض الكفاية. والجزاء الجامعى لا يقلل من شأن الأفعال الفردية. ومع ذلك يظل مبدأ الاستحقاق أقوى، وقانون العدل له الأولوية على فضل الرحمة. والمستحق بالعمل خير من المستحق بالشفاعة والواسطة (1).
ومن مقصود الشارع دوام التكليف. فالأمر للتكرار دون حاجة إلى تجديده. وقد غالى الصوفية فى ذلك بإلزام أنفسهم بالأوراد فى كل وقت. والتكليف عام للناس جميعًا طبقًا للحد الأدنى من القدرات العامة، لا يخص فردًا متميزًا أكثر أو أقل. والخطاب مصاغ على أواسط الناس فى القدرات النظرية والعملية. فالعباد حوامل النص ومراياه. ويقاس على الخطاب العام ولا يقاس على الخطاب الخاص، بالرغم من حديث الصوفية عن المناقب، مناقب الصحابة والأولياء. وتستنبط الأفعال الخاصة من القواعد العامة. ومعروف فى علم الأصول خصوص السبب وعموم الحكم. ويفتح هذا الأصل باب الكرامات والمعجزات، ولا يمكن غلقه فيضيع التكليف العام. وإن لم تعارض الكرامة الحكم الشرعى فالعمل به أولى. قد تعنى الكرامة إحساسًا غامضًا، وتوجسًا، وقدرة على رؤية المستقبل وهو موضوع دراسة فى العلوم الاجتماعية فى علم المستقبليات أو فى علم النفس مثل التراسل الروحى، والرؤية عن بعد، وصدق الأحلام. وإذا كانت الكرامة لا تعارض الأحكام الشرعية وفيها مصالح العباد وتنبيه وتحذير للاستعداد، فالأولى اتباع الأصول الشرعية وليس فروعها(1).
وتفهم الخوارق كلها طبقًا لمجرى العادات ونصوص الشريعة ونهاية عصر المعجزات التى قام بها الأنبياء السابقون قبل خاتم الأنبياء كوسيلة للإقناع ولم تعد كذلك بعد اكتمال النبوة، بعد استقلال الوعى الإنسانى عقلاً وإرادة، فى النظر والعمل (2).
وخصوصية الرسول كحكم فيما وقع بين الناس من اختلاف، وصلاة الله وملائكته على النبى، وعطاء الله ورضاه عنه، وغفرانه لذنوبه ما تقدم منها وما تأخر، وتكريمه بالوحى ونزول القرآن عليه، وشفاعته التى خص بها، وشرح الله صدره، واختصاصه بالمحبة، وأنه أكرم الأولين والآخرين، وشهادته على أمته، وما أجريت على يديه من كرامات، ووصفه بالحمد فى الكتب السالفة، وبالعلم مع الأمية، والعفو قبل السؤال، ورفع الذكر وموافاته موافاة لله، والاجتباء، والتسليم، والتثبيت، والعطاء، وتيسير القرآن، والسلام عليه فى الصلاة، واشتراكه مع الله فى الأسماء وطاعته، وشفقته وصفائه، والعصمة، وإمامة الأنبياء، كل ذلك لا يدل على خصوصية فى خطاب التكليف. وقد اعتمد الصوفية على هذه المناقب لمدها من الرسول إلى الأولياء، وخرقوا بها قواعد الشرع وشخصوا بها حياة الرسول، وعظموا شخصه حتى خرج على الحدود كما فعلت النصارى مع عيسى بن مريم بالرغم من نهى الرسول عن إطرائه.
الشريعة عامة لكل المكلفين، وجارية على مختلف أحوالهم. وهى تتعلق بعالم الشهادة حيث تقاس المصالح والمفاسد. ولا يعلم عالم الغيب إلا قياسًا، قياس الغائب على الشاهد. تقوم الشريعة على العموم وليس على الخصوص، على اطراد قوانين الطبيعة وليس على خرقها، على القاعدة وليس على الاستثناء.
والعوائد جارية ضرورة، شرعية أو طبيعية اجتماعية مثل القصاص. ولا يقدح فى العادة إمكانية خرقها. لذلك أصبح “مجرى العادات” أحد مقاييس الصدق عند ابن حزم وجمهور الأصوليين(1).
والعوائد نوعان: شرعية مثل أفعال التكليف الخمسة: الواجب والمحرم والمندوب والمكروه والمباح، وطبيعية وهى العوائد الجارية بين الخلق، القوانين الطبيعية والنظم الاجتماعية. وكلاهما ثابت ومتغير فى آن واحد. فكشف الرأس قبيح فى المشرق غير قبيح فى المغرب. والعوائد نوعان: الأول، كلية عامة لا تتغير مثل الحاجات البدنية الأساسية، والثانى، العوائد الاجتماعية المتغيرة من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان (2).
وتعظم الطاعة والمعصية بعظم المصلحة والمفسدة. والمصالح والمفاسد ضربان. ما به صلاح العالم وفساده مثل إحياء النفس أو قتلها، وما به كمال ذلك الصلاح كالمساواة بين الأغنياء والفقراء. الأمر يقتضى المصلحة، والنهى يقتضى الفساد. فالأوامر والنواهى قائمة على جلب المصالح ودفع المفاسد. وكلها حق الإنسان؛ لأن الشارع غنى لا تنفعه مصلحة، ولا تضره مفسدة.
إذا كان الأصل فى العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعانى على عكس العادات. فإن هذا يطعن فى فهم الحكمة فى العبادات. وقد اطردت المعانى عند الحكماء. وقد لا تخلو العادة من التعبد ولا يخلو التعبد من العادة. والتعبد على الاقتضاء أو التخيير. وإذا كانت الشريعة موضوعة لمصالح العباد فإن شكر الشارع يكون بتنفيذها؛ لأن شكر النعم واجب عقلى كما يقول المعتزلة (3).
8- مقاصد المكلف: الفعل التبادلى، والحيل:
وكما أن للشارع مقاصد، للمكلف أيضًا مقصد أو نية. وكما أن صحة الأحكام الشرعية فى مقاصدها كذلك صحة أفعال المكلف فى مقصده طبقًا للحديث الشهير $إنما الأعمال بالنيات#. فلا تكليف على الغافل والنائم والصبى والمجنون.
ونظراً للتمييز بين العادة والعبادة، وفى العبادة بين الواجب والمحرم، وفى العادة بين المندوب والمكروه، والصحيح والفاسد، لا تحتاج العادة إلى نية؛ لأنها طبيعية ثانية، والعبادة تحتاج إلى نية متجددة. والإكراه يبطل النية. فالعمل فعل حر (1).
ويكون الفعل شرعيًّا فى حالة اتفاق القصدين، قصد الشارع وقصد المكلف، نوع من التوحد الفعلى بين المقصدين، ليس التوحد المعرفى النظرى كما هو الحال فى وحدة الشهود، أو الوجودى الكونى كما هو الحال فى وحدة الوجود عند الصوفية. قد تتم الموافقة بين المقصدين بقصد الموافقة وهو الفعل الشرعى أو المخالفة بقصد المخالفة وهو الفعل اللاشرعى، وأن تكون الموافقة بقصد المخالفة وهو التحايل والرياء أو أن تكون المخالفة بقصد الموافقة وهو عذر واجتهاد. وكل فعل له قصد مغاير لقصد الشريعة فهو فعل غير شرعى. فالشريعة وضعت لمقاصد. ومخالفتها مخالفة للشريعة (2). وللمكلف تحقيق مصلحة الشرع بعد أن يفهم قصده أو عن دون فهم أو مجرد امتثال الأمر. والأفضل عن فهم حتى تستند الحرية إلى العقل ولا يتحول الفعل إلى مجرد تنفيذ آلى (3).
وقد يكون فى الفعل مصلحة للنفس ومفسدة للغير. وشرط فعل المكلف أن يحقق مصلحة النفس دون الإضرار بالغير عن قصد أو عن غير قصد (4). فلا يكفى التطابق بين قصد المكلف وقصد الشارع، بل يلزم أيضًا تطابق قصد المكلف ومصلحة الآخر والصلاح فى العالم ضد الإفساد فى الأرض. وفى نفس الوقت لا يجوز القيام بمصالح الغير العينية إلا عند الضرورة وبعد القيام بمصالح النفس أولاً. وإذا كانت هناك مشقة سقطت عنه إذا كانت مصلحة خاصة، ووجبت إذا كانت المصلحة عامة طبقًا لقاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة أو ترجيح المصلحة الأكثر على المفسدة الأقل (5). وحقوق الله لا خيرة فيها للمكلف مثل العبادات والجنايات، وحقوق العبد له فيها الخيرة مثل الحاجات. فالمصالح ميدان الضرورة والحرية (6).
والتحيل هو إسقاط حكم بظاهر مشروع أو غير مشروع فينقلب قصد الشارع إلى قصد مضاد. والمقاصد مطلقة لا تنقلب إلى نقيضها. فالحيل بهذا المعنى غير مشروعة، ومفوتة للمصالح المقصودة للشرع. الحيل باطلة شرعًا مثل حيل المنافقين والمرائين. وهناك حيل مشروعة مثل النطق بكلمة الكفر إكراهًا، منعًا للإضرار بالنفس، ورفعًا للمشقة، وعدم تكليف النفس بما لا يطاق. وهناك حيل بين الشرعية واللاشرعية مثل نكاح المحلل وهو غير جائز شرعًا، والبيع بالآجال مع زيادة فى السعر، بدعوى غياب مقصد المشرع. والحقيقة أن مقاصد الشرع واضحة وضوحًا أصليًّا لا اشتباه فيه. وعلل الأحكام واضحة بينة (1). والتحيل هو تغليب الأهواء والحظوظ الذاتية على المقاصد والمصالح الموضوعية، وبالتالى القضاء على وضعية الشريعة (2).
9- أهداف الأمة:
إن تطابق مقاصد الشارع مع مقاصد المكلف لا يكفى لوضعية الشريعة، تطابق الوعى العام مع الوعى الفردى دون المرور بالوعى الجماعى أو الانتهاء إليه. فالله والفرد والأمة ثلاثة أطراف فى المقاصد. مقاصد الشارع ومقاصد المكلف ومقاصد الأمة مقاصد واحدة.
فإذا كانت الضروريات الخمس لب المقاصد، وضع الشريعة ابتداء، الحياة والعقل والقيمة الثابتة والكرامة والثروة الوطنية فإنها يمكن أن تكون حاملاً للأهداف القومية التى تعطى النظم السياسية شرعيتها إذا ما قامت بتحقيقها، ويلتقى عليها الإسلاميون؛ لأنها مقاصد الشريعة، والعلمانيون؛ لأنها مقاصد الأمة.
الحياة مقصد الشريعة الأول وقصد الفرد وهدف الأمة، الحفاظ على حياة الأمة فى التاريخ ضد مظاهر العدم والفناء الداخلية والخارجية، الجهل والجوع والقحط والوباء والانحلال فى الداخل، والعدوان والاحتلال والغزو والسيطرة والتبعية فى الخارج. تحرير الأرض جزء من حياة الأمة. وتدمير الحياة جزء من القضاء على الشعب، كما يحدث فى فلسطين الآن. إن تعرض الشاطبى لموضوع “الصلاة فى الدار المغصوبة” يتجاوز اجتماع الأمر والنهى فى مكان واحد بتعبير الأحناف أو الحسن والقبح بتعبير المعتزلة أو كونه مثلاً للمشقة أو اجتماع قصدين فى آن واحد، بل هى مسألة أولوية تحرير الأرض على صلاة الإمام فيها، وبالتالى تبطل زيارة القدس المحتلة (1). إن العالم العربى قلب العالم الإسلامى مازال يعتمد فى ثلاثة أرباع غذائه على الخارج، وتجارته مع الغرب تمثل ثلاثة أرباع تجارته الخارجية، والتجارة مع أقطاره لا تزيد على عشر تجارته مع الغرب. ولدى الأمة الوفرة فى الثروات الطبيعية والأموال من عوائد النفط والخبرات العلمية والعمالة ما يحقق لها الاعتمــاد على الذات والتنميـــة المستقلة(2).
والعقل كضرورة ثانية يعنى بالنسبة لأهداف الأمة القضاء على الجهل والخرافة والسحر والعلم غير النافع وكل مظاهر اللاعقلانية فى حياة الأمة. هو القدرة على التفكير والإبداع وليس النقل والتقليد فى نظم التعليم من المدرسة إلى الجامعة. لا فرق بين من ينقل من القدماء أو ينقل من المحدثين، بين من قال: قال ابن تيمية ومن قال: قال كارل ماركس، دون أن يعرف ماذا يقول هو وماذا يقول الواقع. هى حجة السلطة، سلطة النص، ولا فرق بين نص التراث ونص الحاكم. وظيفة العقل فى كلتا الحالتين الفهم والتبرير، والطاعة والخضوع. فى حين أن وظيفة العقل البرهان بعد الشك ثم النظر. العقل يسيطر على الطبيعة عن طريق معرفة قوانينها وبالتالى ينشأ العلم. ويتوجه إلى المجتمع ويكتشف قوانين حركته، وبالتالى ينشأ العلم الاجتماعى. يؤسس العلم ويشيد المجتمع، ويرشد الحياة. مازال محو الأمية هدفًا قوميًّا، أكثر من نصف المجتمع أمى فى عالم معاصر يتحدى بالعلم وبالثورة العلمية. ومن يملك العلم يملك القوة. وإذا كان الغرب قد بدأ عصوره الحديثة على “أنا أفكر فأنا إذن موجود” ثم تخطي الإرادة؛ لأنها أوسع نطاقًا من الذهن، ومن ثم فلا حدود للقوة فإن المعتزلة قد أثبتوا الوجود الإسلامى على “أنا حر فأنا إذن موجود” ثم يأتى العقل سنداً للحرية قادراً على التمييز بين الحسن والقبيح، وحتى تكون حرية عاقلة مسئولة. وهو ما حاول محمــد عبده التعبــــير عنـه من قبل فى “رسالة التوحيد”.
يعنى الدين الحقيقة المطلقة الشاملة، القيمة الإنسانية العامة التى تتفق عليها كل الشعوب، وترد فى أمثالها العامية وحكمتها المتوارثة، معيار الخلاف بين الناس، ونقطة الالتقاء التى يتم عليها الائتلاف. ولما كان الدين واحدًا، اكتملت فيه النبوة، وانتهت إليه غاية الوحى ومراحله المختلفة عبر التاريخ، فالأمة واحدة، “وإلهكم اله واحد، وأنا ربكم فاعبدون”. وحدانية الله، وشمول الحقيقة، ووحدة الأمة ضد التضارب والتشتت والاختلاف والتقاتل، واتخاذ الأهواء آلهة على مستوى النظر، وضد التجزئة والتشرذم والتفتيت والبعثرة على مستوى العمل، ضد الطائفية والعرقية والعشائرية والقبلية والمذهبية، عربى بربرى، كردى أعجمى، شيعى سنى، درزى علوى، شمالى جنوبى، مسلم قبطى، نجدى حجازى. ولما كانت الشهادة “لا إله إلا الله” إعلان حرية الضمير، بالنفى والاعتراض ضد آلهة العصر المزيفة حتى يتحرر الوجدان إلا من الإله الواحد الذى يتساوى أمامه الجميع، فإن الدين يعنى التحرر من كل صنوف الخوف والقهر والتسلط والطغيان. ولما كان الدين واحدًا فالحقيقة واحدة ضد المعيار المزدوج، والنسبية واللاأدرية والغنوصية والعدمية والتى تقضى على العقل لحساب القوة، وعلى الحكمة لحساب التسلط. ولما كانت الوحدانية تحرراً فإن العالم ذا القطب الواحد، ووحدانية السوق، والعولمة ومظاهرها فى المنظمات المالية والتجارية الدولية، واستعمال المنظمات الدولية كأداة فى أيدى القوة الكبرى للسيطرة على الشعوب بالحصار والتهديد والتفتيت والإملاء فإن ما يسمى بالعولمة التى شرعت الشركات المتعددة الجنسيات والرأسمالية كنهاية للتاريخ، وكأن الزمن قد توقف، هو تسلط جديد وأحد أشكال الهيمنة الحديثة بما تفرز من قيم استهلاكية وعنف وجريمة وتجارة بالجنس. وباسم ثورة المعلومات والاتصالات يتم حجبها، وباسم العالم قرية واحدة تتم السيطرة عليه عبر الأقمار الصناعية، وباسم المجتمع المدنى يتم إنهاء استقلال الدولة الوطنية الحامية للحدود ولحقوق الضعفاء، وباسم حقوق الإنسان يتم شق الصف الوطنى، وباسم حقوق الإنسان يتم نسيان حقوق الشعوب.
والعرض هو الكرامة الوطنية، كرامة الإنسان والوطن، حقوق الأفراد والشعوب. فمنذ الاستعمار الرومانى عبر الحروب الصليبية حتى المركزية الأوربية الحديثة، والغرب مركز العالم وغيره فى آسيا وأمريكا اللاتينية الأطراف. فى المركز السادة، وفى الأطراف العبيد، منذ Pax Romana حتىPax Americana فى المركز العقل والتنظير والمنطق والاستدلال والعلم والتجربة والطبيعة والإنسان والحرية والإخاء والمساواة. وفى الأطراف السحر والخرافة والتناقض والشعوذة، والتنجيم والأرواح والغيب، والقهر والتسلط والعنف والعبودية. وكل حضارة تطبق مبادئها على ذاتها وليس على غيرها، فينشأ المعيار المزدوج فى الأخلاق والقيم. ولم يقتصر الأمر على نهب الثروات واحتلال الأرض وسرقة السكان الأصليين من أفريقيا فى بداية “النهضة” الأوربية لبناء “العالم الجديد” والقضاء على إمبراطورية المغول، والالتفاف حول العالم من البحار والمحيطات بعد فشل الحروب الصليبية فى القلب، بل تم نهب حضارات الشعوب والاستيلاء على ثقافاتها وعلومها وتشويهها منذ بداية الاستشراق حتى علوم الانثروبولوجيا المعاصرة (1). ومن ثم أصبح الدفاع عن الهوية الثقافية هو دفاع عن العرض أحد مقاصد الشريعة الضرورية الخمسة.
وإذا كان المال يعنى الثروة الوطنية والموارد الطبيعية أى المال العام وليس المال الخاص، ثروات الأمم والشعوب وليس ثروات الأفراد والعائلات الحاكمة فإن المال موفور فى الأمة من عوائد النفط. والثروات الطبيعية فى باطن الأرض تحتكر معظمها الشركات الاحتكارية الأجنبية. وعقول الأمة تعمل خارجها، وفوائض أموالها تستثمر فى البنوك الأجنبية، وفى تمويل الأساطيل الأجنبية فى المياه الإقليمية للدفاع عن النظم السياسية وفى قتل بعضنا البعض بأموالنا وأسلحة غيرنا. وجزء من الأموال يضيع فى مظاهر البذخ والترف والبضائع الاستهلاكية المستوردة وشراء القصور فى الخارج والتمتع بمباهج الحياة. وتتراكم الثروات فى منطقة، وينتشر الفقر فى باقى المناطق، وتفر رءوس الأموال للاستثمار، ويتم الاقتراض من البنوك الأجنبية التى تستثمر الأموال العربية. الأموال والسواعد والخبرات والأسواق موجودة داخل الأوطان ولكن النية غير متوافرة أى مقاصد المكلف، ومقاصد الشريعة ما زالت مطوية فى “الموافقات” نخرجها بين الحين والآخر فى أجهزة الإعلام للافتخار بالتحديث وبعظمة الشريعة واجتهاد الأسلاف. لقد أتت الثروة فى الأمة وهى غير مستعدة فضاعت أو كادت. وأتت الثورة أيضاً إلى الأمة فى الوقت نفسه ولم ترتبط بالجذور فتحولت إلى ثورة مضادة وهزائم. والناس مطحونة بين الفقر الاقتصادى والقهر السياسى، وفلسطين تتسرب من بين أصابع الحكام وتنزلق بين كراسى الحكم. إن كل ما هو فى باطن الأرض ملك للأمة كما هو معروف فى نظرية “الركاز” فى الشريعة الإسلامية. لا يجوز امتلاكه للأفراد أو العائلات ملكية شخصية. لا يمتلك إلا المنقول والأرض ثابتة.
لا يكفى رصد مقاصد الشريعة كما عرضها القدماء وبلورها الشاطبى، بل تحتاج إلى ربطها بأهداف الأمة كما يفعل المحدثون. مقاصد الشارع ومقاصد المكلف يحتاجان إلى طرف ثالث، أهداف الأمة. ويكون تطبيق الشريعة ليس فقط عن طريق تطابق مقاصد الشارع ومقاصد المكلف بل بتطابق مقاصد الشارع ومقاصد المكلف وأهداف الأمة.
المراجع
(1) إبراهيم بن موسى اللجمى الغرناطى المالكى (أربعة أجزاء فى مجلدين)، وعليه شرح جليل لتحرير دعائمه، وكشف مراميه، وتخريج أحاديثه، ونقد آرائه نقدًا علميًّا يعتمد على النظر العقلى وعلى روح التشريع ونصوصه بقلم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ= = الكبير شيخ علماء دمياط الشيخ عبد الله دراز. وقد عنى حفظه الله بإصلاح ما كان فى الكتاب من تحريف وتسويف وزيادة وسقط فى الطبعات السابقة؛ فأصبح كتاباً فى مبناه ومعناه، المكتبة التجارية الكبرى، (د.ت)، القاهرة.
علال الفاسى: مقاصد الشريعة ومكارمها، لجنة نشر تراث زعيم التحرير علال الفاسى، مطبعة الرسالة، الرباط 1979م.
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع 1988.
محمد فهمى علوان: القيم الضرورية ومقاصد التشريع الإسلامى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1989م.
حمادى العبيدى: الشاطبى ومقاصد الشريعة، منشورات كلية الدعوة الإسلامية ولجنة الحفاظ على التراث الإسلامى، طرابلس، ليبيا 1992م.
حسن حنفى: مناهج التفسير، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، القاهرة 1965م، باريس 1966م. (بالفرنسية).
(1) توفى الشاطبى عام 790هـ وسقطت غرناطة عام 898هـ. وتوفى ابن عربى عام 638هـ، وابن رشد عام 595هـ.
(1) الغزالى: المستصفى من علم الأصول، مؤسسة الحلبى وشركاه للنشر والتوزيع، القاهرة (تصوير بالأوفست للطبعة الأولى، المطبعة الأميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1322هـ، جـ1 ص 245-271.
(2) على سامى النشار: مناهج البحث عند المسلمين، ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسى، وهو موضوع رسالة ماجستير بتوجيه مصطفى عبدالرازق لأحد تلاميذه، دار الفكر العربى، القاهرة 1947م.
(3) مصطفى عبدالرازق: التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ط2، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1952م.
(4) “المسلم المعاصر” هذا العدد.
(5) محمد باقر الصدر: مباحث الدليل اللفظى (ثلاثة أجزاء)، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامى، إيران 1996م. مباحث الحجج= = والأصول العملية (أربعة أجزاء)، دائرة معارف الفقه الإسلامى، إيران 1997، دروس فى علم الأصول (جزءان) مؤسسة النشر الإسلامى، دار المنتظر، بيروت 1985، المعالم الجديدة للأصول، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1981.
انظر دراستنا: تجديد علم الأصول، قراءة فى الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، مركز كربلاء، لندن 1999.
(1) المواقف جـ2 /307.
(2) Les Méthodes d,Exégése, II partie, Ch.3 Structure a priori du donné Révélé, pp. 309-321.
(3) بالنسبة لتردد أسماء الأعلام فى الجزء الثانى من “المقاصد” فى المرادفات، يتقدم مالك والشافعى على الغزالى وابن العربى والقرافى والرازى. مالك، الشافعى (10)، الغزالى، ابن العربى (7)، القرافى، الرازى (4)،أبو حنيفة، أحمد بن حنبل (2)، الشبلى، المحاسبى، الشيرازى، ابن رشد، الشاشى، ابن قتيبة، الجوينى (1).
(4) الموافقات جـ1 /24.
(1) من العقيدة إلى الثورة جـ2 التوحيد، رابعاً: إلهيات أم إنسانيات ص 600-664.
(2) الموافقات جـ2 /6.
(1) المعتزلة (10)، الأشاعرة (3)، الفلاسفة (2)، الظاهرية (1).
(2) المعتزلة جـ2 /6 /30 /42 /44-45 /57 /119 /172 /372.
(3) ورد فى القرآن ست مرات.
(4) ورد اللفظ فى الحديث أكثر من خمسين مرة. المعجم المفهرس لألفاظ الحديث (فنسك) جـ5 ص 369.
(1) Hassan Hanafi: L,Exégése de la Phénoménologie, L,état actuel de la méthode Phénoménologique et son application au phénoméne religieux, Paris, 1966, Le Caire, Dar al-Fikr al-Arabi, 1977.
(2) انظر: التراث والتجديد، المركز العربى للبحث والنشر، القاهرة 1980 ص 152-154.
(1) الإيجى: المواقف، عالم الكتب، بيروت (د.ت) ص 39-40.
“من العقيدة إلى الثورة” جـ1 المقدمات النظرية، الفصل الثالث، نظرية العلم، مدبولى، القاهرة 1987. ص 388-410.
(2) الموافقات جـ2/ 238.
(3) المقصد الأول، وضع الشريعة ابتداء، المسألة الأولى الضروريات الخمس، المسألة الثانية: تراتب الضروريات والحاجيات والتحسينات، المسألة الثالثة شرط عدم الأبطال جـ1/ 8-16، السابعة المقاصد كلية ص37، التاسعة الأدلة على الضروريات والحاجيات والتحسينات ص49-52، العاشرة لا ترفع الجزئيات الكليات ص52-54، المسألة الحادية عشرة المصالح عامة ص54-58، المسألة الثالثة عشر، الجزئيات فى الكليات ص61-64. المقصد الثالث، وضع الشريعة للتكليف، المسألة الثانية إشباع الحاجات الأساسية ص108-109، التاسعة المشقة الأخروية ص153-154، العاشرة، مشقة التكليف ص154-155. المقصد الرابع وضع الشريعة للامتثال، المسألة الثالثة عشرة ص279-283، الرابعة عشرة ص283-286، السادسة عشرة ص297-298، السابعة عشرة ص298-300 مقاصد المكلف، المسألة الثامنة ص373-375، العاشرة ص378-380.
(4) عدد المسائل فى جزء المقاصد (62)، المسائل العقلية النقلية (42)، العقلية (20).
(5) “وقد قيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك، وهو أصل صحيح شرعى” الموافقات جـ2/ 291.
(1) يشمل جزء المقاصد اثنين وستين مسألة على النحو الآتى: القرآن أكثر من الحديث (20)، الحديث أكثر من القرآن (8)، القرآن وحده (10)، الحديث وحده (4)، قرآن وحديث وحديث قدسى (1).
(2) الآيات (348)، الأحاديث (218).
(3) السابق جـ2/ 83/ 88/ 213.
(4) مثل الاعتماد على المثل السائر “والجود بالنفس أقصى غاية الجود” على الإيثار جـ2/ 356.
(1) هب البعث لم تأتنا رسله إما .. أو تخوف كلية وجامحة النار لم تضرم
ليس من الواجب المستحق .. ثناء العباد على المنعم جـ2/ 213.
(2) الموافقات جـ1/ 6-7/ 35/ 44/ 53/ 279/ 281/ 300/ 305.
(1) لعل الكاتب لا يقصد النصوص القطعية الورود، القطعية الدلالة، وإلا فإن الخلاف يكون معه كبيرًا . المحرر
(2) السابق جـ2/ 8.
(1) السابق جـ2/ 176-227 (الحظوظ) جـ2/ 242-323 (الكرامة).
(1) لعل المقصود هنا أنها وضعت للإنسان، لا أن يقوم الإنسان بوضعها، وهذا هو الفارق الدقيق بين القاعدة الشرعية والقاعدة القانونية. المحرر
(2) هذه هي الرؤية التحليلية للكاتب ننشرها على مسئوليته احترامًا منا لحرية الرأي. المحرر
(1) المقاصد (عدد الصفحات) (410)، الأحكام (250).
(1) قسم الشاطبى الموافقات إلى خمسة أقسام. الأول المقدمات النظرية “العلمية” الأولى. والثانى الأحكام سواء أحكام الوضع أو أحكام التكليف. والثالث المقاصد الشرعية سواء مقاصد الشارع أو مقاصد المكلف. والرابع الأدلة الشرعية الأربعة، جملة وتفصيلاً. والخامس أحكام الاجتهاد والتقليد والتعارض والترجيح والسؤال والجواب، الموافقات جـ1 ص23-24.
(2) مقاصد الشارع (318)، مقاصد المكلف (92). مقاصد الشارع خمسون مسألة، ومقاصد المكلف اثنتا عشرة مسألة.
(1) أحكام الوضع (عدد الصفحات) (250)، أحكام التكليف (109).
(2) المقاصد جـ2 ص5-6.
(3) وهو يقابل بالألمانية Grund، وبالفرنسية Raison detre، وبمصطلح الفلاسفة “العلة الكافية” La Raison Suffisante.
(4) وضع الشريعة للامتثال (155)، وضع الشريعة للتكليف (61)، وضع الشريعة ابتداء (56)، وضع الشريعة للإفهام (43).
(5) وضع الشريعة للامتثال (20)، وضع الشريعة ابتداء (3)، وضع الشريعة للتكليف (12)، وضع الشريعة للإفهام (5).
(1) لذلك تقدس البوذية الحياة وتمنع ذبح الحيوان ويعرف أنصارها بالنباتيين.والمسيح هو الحياة فى المسيحية طبقاً لآية يوحنا فى الرسالة الثالثة “أنا الطريق والحياة والحقيقة”. وشيخ الدروز هو “شيخ العقل”. ويؤخذ بالثأر فى مصر فى جرائم الشرف. وكلها مركزة فى العرض. وتقام الثورات الاجتماعية من أجل إعادة توزيع الدخل أى العدالة فى توزيع الثروة أى المال.
(2) الموافقات جـ2/ 8-64.
(3) السابق جـ2/ 6-7.
(1) السابق جـ1/ 15-16/ 21.
(1) السابق جـ1/ 25-32.
(2) السابق جـ2/ 38-48/ 54-64.
(3) السابق جـ2/ 37-40/ 49-54.
(1) السابق جـ2/ 10-12.
(2) من العقيدة إلى الثورة جـ2 التوحيد ص 451-455.
(3) الموافقات جـ2/ 32-48.
(1) من العقيدة إلى الثورة جـ4 النبوة – المعاد .
(2) السابق جـ2/ 64-68.
السيوطى: ترجيح أساليب القرآن على منطق اليونان.
ابن تيمية: الرد على المنطقيين، شرف الدين الكبنى، بمباى، الهند 1949.
ابن تيمية: نقض المنطق. ط1، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة 1951.
من النقل إلى الإبداع مجـ3 الإبداع جـ2 الحكمة النظرية، الفصل الأول المنطق.
(3) لذلك سمى أربرى ترجمة للقرآن “القرآن مفسراً” The Koran interpreted ، السابق جـ2/ 68-73.
(1) السابق جـ2/ 95-107.
(2) السابق جـ2/ 69-79.
(3) علم الفلك Astronomy ، علم أحكام النجوم Astrology مثل علم الكيمياء Chemistry ، علم السيمياء Alchemy.
(1) من العقيدة إلى الثورة جـ1 المقدمات النظرية، الفصل الرابع نظرية الوجود ص 489-626. وأيضاً “من النقل إلى الإبداع” مجـ3 الإبداع جـ2 الحكمة النظرية، الفصل الثالث الطبيعيات والإلهيات.
(2) يذكر الشاطبى أمثلة من شعر ذى الرمة وابن الأعرابى ورجل من هذيل، السابق جـ2 /83-84/ 88.
(3) انظر دراستنا: مستويات النص القرآنى، أدب ونقد، العدد، مايو القاهرة 1993 ص21-22.
(1) الموافقات جـ2/ 89-95.
(2) السابق جـ2/ 79-85.
(1) انظر “مقدمة فى علم الاستغراب”، الدار الفنية، القاهرة 1991 ص 36-56.
(2) “من النقل إلى الإبداع” مجـ2 التحول، الفصل الثالث: الإبداع الخالص.
(3) السابق جـ2/ 107-119.
(1) السابق جـ2/ 119-130/ 136-141.
(2) السابق جـ2/ 141-146.
(1) السابق جـ2 /130-133/ 146-148.
(2) السابق جـ2/ 163-168.
(3) السابق جـ2/ 153-154.
(1) السابق جـ2/ 168-176.
(1) السابق جـ2/ 176-186.
(2) السبق جـ2/ 186-195.
(3) السابق جـ2/ 196-207.
(4) السابق جـ2/ 207-217.
(5) السابق جـ2/ 217-127.
(1) السابق جـ2/ 227-242.
(1) السابق جـ2/ 242-275.
(2) وذلك مثل {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُون} [الإسراء: 59]. وأيضاً قال {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا(91)أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً(93)} [الإسراء: 90-93].
(1) الموافقات جـ2/ 275-298.
(2) السابق جـ2/ 297-298.
(3) السابق جـ2/ 298-323.
(1) السابق جـ2/ 323-331.
(2) السابق جـ2/ 331-348.
(3) السابق جـ2/ 373-375.
(4) السابق جـ2/ 348-364.
(5) السابق جـ2/ 364-373.
(6) السابق جـ2/ 375-378.
(1) السابق جـ2/ 378-414.
(2) وقد عرف الجزويت فى الغرب بتحويل هذا التحايل إلى علم يسمى La Casuistique .
(1) الموافقات جـ2/ 29/ 141/ 219/ 393.
(2) انظر: “هل تجوز الصلاة فى الدار المغصوبة؟”، الدين والثورة فى مصر 1952-1981، جـ7
اليمين واليسار فى الفكر الدينى، مدبولى، القاهرة 1989 ص 270-272.
(1) انظر محاولة استرداد هذه الكرامة الحضارية فى “مقدمة فى علم الاستغراب”، الدار الفنية، القاهرة 1991، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت 1995.