لا تفتأ ساحة الدراسات الاقتصادية الإسلامية المعاصرة تشهد سجالاً مريرًا حول التكييف الفقهي لمعظم الأساليب الاستثمارية الحديثة، ولا يزال الواقع الإسلامي الاقتصادي الراهن ينعم بمزيد من وجهات النظر المختلفة حول التخريج الشرعي للأساليب الاستثمارية الجديدة من كمبيالةٍ وسنداتٍ وأسهم وسواها،
وفي خضم هذه الاختلافات المتزايدة ، يعيش الفرد المسلم العادي الراغب في تبني الأساليب الاستثمارية التى لا تتعارض مع مبادئ الإسلام وتعليماته، حالة من التشتت المرجعي والرهق الفكري؛ ذلك لأنه يجد ثمة تضاربًا وتناقضًا بين الآراء الفقهية إزاء تلك الأساليب، وتتراوح تلك الآراء بين الحل والحرمة، ونظرًا إلى أنّ السواد الأعظم من المسلمين في هذا العصر لا يتمتعون بمستوى علميّ في أمور الشريعة الغراء؛ لذلك لا غرو أن يلوذ معظمهم باختيار الفتاوى والآراء الاجتهادية التى تتسم بالسهولة واليسر والمرونة بغضّ النظر عن متانة وقوّة الرأي وسداده .
إنّ النظر الحصيف في جلّ التكييّفات الفقهية والتخريجات الشرعيّة المعاصرة للأساليب الحديثة، يهدى المرء إلى تقرير القول بأن ثمة حاجة ملحة إلى ضبط منهجي صارم للمرتكزات التى تقوم عليها تلك التخريجات والتكييفات ، بحيث يغدو من اليسير الوقوف على منطلقاتها وأسسها، فيسهل على المرء اختيار الرأى الذي لا يتعارض مع مبادئ الشرع وتعليماته العامّة .
ولئن كانت الأساليب الاستثمارية القديمة والحديثة تمثل الطرق العملية التى يبتغى منها تطبيق تعليمات الشرع المتعلقة باستنماء المال، ولئن كانت تلك الأساليب من نتائج اجتهادات وابتكارات بشرية؛ لذلك، فإن تكييفها الفقهي وتخريجها الشرعيّ ينبغي أن يرتكز على مدى انسجامها مع مقاصد الشرع في الاستثمار؛ وذلك انطلاقًا من كون المقاصد الأهداف والمعاني التى يراد تحقيقها في أرض الواقع .
وبناءً على هذا، فإن الالتفات إلى البعد المقاصدي كمرتكز أساسي ينطلق منه التكييف الفقهي ويقوم عليه التخريج الشرعي، ينبغي أن يحظى بمزيد من التأصيل والتحقيق والتقرير، كيما يغدو هذا البعد بعد الميزان الذي توزن به الآراء الاجتهادية الواردة في الأساليب الاستثمارية الحديثة .
وتأتي هذه الدراسة المتواضعة لتبرز أهمية وضرورة الالتفات إلى هذا البعد في الدرس الاقتصادي الإسلامي المعاصر في سائر قضايا المعاملات بشكل عام، وعلى مستوى تكييف وتخريج الأساليب الاستثمارية الحديثة بشكل خاص. ويحدو الدراسة أملٌ في أن يحظى الجانب المقاصدي من المعاملات بمزيد من الدراسة والتحقيق والتأصيل في الدرس الاقتصادي الإسلامي الحديث؛ وذلك لأن الاحتكام إلى مقاصد الشرع في المعاملات عامة وفي الأساليب الاستثمارية خاصة بعد ضبطها، كفيل بأن يضع حدًّا لكثير من الاختلافات التى يزخر بها واقعنا الاقتصادي الراهن.
وعلى العموم، فإنّ هذه الدراسة تبغي تسليط الضوء على مدى اهتمام المدونات الفقهية القديمة والدراسات الاقتصادية الإسلامية الحديثة بهذا البعد، كما تنتظم تحديدًا واضحًا للمعنى المراد بمقاصد الاستثمار من المنظور الإسلامي، فضلاً عن تأصيل القول في مقاصد الشرع في الاستثمار ، وضرورة توظيفها في تكييف وتخريجات الأساليب الاستثمارية الحديثة .
1_ مقاصد الشرع في الاستثمار في الدرس الاقتصادي الإٍسلامي :
إنه ليس من مرية أنّ المدونّات الفقهية القديمة عُنيت _ أيما عناية _ بالحديث المفصل الدقيق عن أحكام الأساليب الاستثمارية التى كانت سائدة أيامئذ من حيث المشروعية وعدمها، فقد تحدّث الفقهاء الأقدمون عن حكم البيع والشراء وحكم شركات الأبدان والأموال وحكم المضاربة والمرابحة والاستصناع والسلم والمزارعة وغيرها من الأساليب الاستثمارية المعروفة عصرئذٍ، فضلاً عن ذلك، أوسعوا أركان وشروط تلك الأساليب الاستثمارية جانب التفصيل والتحقيق، فلم يتركوا شاردة ولا واردة إلا وأوضحوا ما يتعلق بها .
ولئن كان هذا الاهتمام الفقهي العظيم جديرًا بالإشادة والتقدير والاحتفاء، فإنه من الإنصاف تقرير القول بأن التطرق إلى البعد المقاصدي في تلك الأساليب الاستثمارية التى كانت سائدة لم يحظ باهتمام أولئك الفقهاء القدامي، ويؤكد هذا الأمر الإمام ابن عاشور قائلاً : (.. ولقصد تحصيل الاستبصار في هذا الغرض الجليل، ولندرة خوض علماء التشريع فيه خوضًا يفصله ويبينه، رأيت حقيقًا علىّ أن أُشبع القول فيه وفي أساسه ..)(1) . ولهذا، فلا غرو أن تخلو مدوناتهم من أي حديث عن البعد المقاصدي لمشروعية الاستثمار ، بل لا عجب أن تتجاوز مدوناتهم أي تأصيل علمي محكم لهذا البعد الهام الذي ينبغي الاحتكام إليه عند الهم بتكييف أو تخريج أسلوب استثماري حديث .
إنه ليس من ريب في أن الهمّ الفقهي في تلك القرون الغابرة ظلّ متمحورًا حول التأكد من مدى كون الأسلوب الاستثماري المحدث حلالاً أو حرامًا ، واكتفى في التوصل إلى ذلك بالنظر إلى ماهية الأسلوب الاستثماري الحديث ومدى توافر الأركان والشروط فيه، فضلاً عن مدى انسجامه مع نظيره القديم.
على أنه إن يكن من تفسير لتجاوز أولئك الفقهاء العظام التعرض للبعد المقاصدي في المعاملات عامة وفي الأساليب الاستثمارية خاصة، فإنه يمكن القول بأن واقعهم الاقتصادي بشكل عام لم يكن يشهد ما يشهده واقعنا الاقتصادي المعاصر من تطور مذهل في طبيعة الأساليب الاستثمارية القديمة وفي استحداث أساليب استثمارية جديدة لم تكن معروفة من قبل، فضلاً عن أن الرتابة ظلت مخيمة على تلك الأساليب الاستثمارية ؛ إذ إنه لم يكن يطرأ عليها سوى تغييرات طفيفة غير ذات بال، الأمر الذي جعل التفكير في الاحتكام إلى البعد المقاصدي عند تكييف وتخريج الأساليب شأنًا غير وارد.
ومهما يكن من شيء ، فإن لهم عذرهم الذي لا يسعنا سوى قبوله وتجاوزه ؛ إذ إنه ليس من المقبول علميًّا أن نتوقع منهم أن ينظروا لواقع لم يعايشوه، كما ليس من اللائق منهجيًّا أن نقرر بأنهم عنوا في مدوناتهم باستنفاد سائر السبل والوسائل التى تصلح للاحتكام إليها في تكييف وتخريج الأساليب الاستثمارية الدائمة التطور والتغير .
وإذ الأمر كذلك، فلنلق نظرة في واقع الدراسات الاقتصادية الإسلامية المعاصرة لنرى مدى اهتمام باحثينا الاقتصاديين الإسلاميين بهذا البعد المقاصدي في دراساتهم الاقتصادية، وبطبيعة الحال، ينبغي أن نبتدر إلى تقرير القول بأن نظرة عجلى في جنبات تلك الدراسات والأبحاث ، نجد أنّ جلها _ إن لم يكن كلها _ لا تولى اهتمامًا كبيرًا بهذا الموضوع الهام، بل تكاد تلك المؤلفات _ في معظم الأحيان _ أن تكون خلوًّا من أي حديث عن مقاصد الشرع في المعاملات عامة، ومقاصد الشرع في الاستثمار خاصة، وما كان لهم ليستهينوا من طرق هذا الموضوع الذي يمكن اللياذ به للفصل في سائر القضايا والمسائل المستجدة في عالم الاستثمار المعاصر.
ولهذا، فإننا نستطيع أن نقرر بأن تجاوز الدراسات الاقتصادية الإسلامية الحديثة التطرق إلى هذا الجانب من الهم الاقتصادي الإسلامي المعاصر، يقف سببًا أساسيًّا وراء جملة من الخلافات الساخنة بين أولئك الباحثين حول تكييف وتخريج الأساليب والطرق الاستثمارية الحديثة التى ما تفتأ تداهم الواقع الإسلامي الراهن .
وإن يكن للفقهاء الأقدمين عذرهم في عدم الاستعانة بالبعد المقاصدي في تكييف وتخريج الأساليب الاستثمارية التى عايشوها نتيجة الرتابة التى كانت تتميز بها الأساليب الاستثمارية أيامئذ ، فإنه ليس للباحثين المعاصرين أيّ عذر في تجاوزهم الاحتكام إلى البعد المقاصدي في تكييف وتخريج سائر الأساليب الاستثمارية الحديثة الدائمة التطور والتغير، فضلاً عن أنهم ما كان لهم ليصدروا عن تكييفات متعارضة ومتناقضة لكثير من الصور الاستثمارية الحديثة، لو أنهم أوسعوا هذا الموضوع جانب الدراسة والتحقيق؛ وذلك لأن ضبط مقاصد الشرع العامة في الاستثمار كفيلٌ بأن يحتكم إليها في قبول أو رد جملة من التكييفات والتخريجات الفقهية المعاصرة لكثير من الأساليب الاستثمارية الحديثة، كما أن ضبط تلك المقاصد سيحول دون مزيد من الخلافات حول حل وحرمة أسلوب استثماري معاصر .
إنّ الحاجة اليوم لتمس إلى إيلاء باحثينا المعاصرين في الاقتصاد الإسلامي البعد المقاصدي من المعاملات المالية عامة والاستثمارية خاصة جانب الدراسة والتحقيق والضبط حتى يمسى التكييف الفقهي والتخريج الشرعي للمعاملات المالية الحديثة عامة والاستثمارية خاصة متأسسًا على مدى تحقيقها لمقاصد الشرع في تشريعاته المالية.
على أنه من الجدير بالذكر والإنصاف ، المبادرة بالإِشارة إلى تلك المحاولة الرائعة الفذة الرائدة التى عنى بها الإمام ابن عاشور _ رحمه الله _ في هذا المجال، إذ إنه عمد في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية) إلى صياغة تصور موجز عن المقصد الشرعي في الأموال تداولاً واستثمارًا وإنتاجًا، وانتهى إلى القول بأن المقصد الشرعي في الأموال ينحصر في خمسة أمور أساسية، وهي رواج الأموال، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها .
أما رواج الأموال، فيراد به ضرورة دوران المال بين أيدى كثير من الناس بوجه حق، أما وضوح الأموال، فأراد به إبعاد الأموال عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر الإمكان، وأما حفظ الأموال، فإنه يراد به النظر في حفظها، سواء في تبادلها مع الأمم الأخرى وبقائها بيد الأمة الإسلامية، وأما إثبات الأموال ، فيراد به تقررها لأصحابها بوجه لا خطر فيه ولا منازعة. وأما العدل فيها، فيتمثل بأن يكون حصولها بوجه غير ظالم؛ فإما أن تحصل بعمل مكتسبها ، وإما بعوض مع مالكها أو تبرع ، وإما بإرث(1) …
لقد حاول الإمام ابن عاشور جاهدًا تأصيل القول في هذه الأمور الخمسة، وخاصة منها مقصد الرواج الذي أوسعه جانب التفصيل والتحليل المحكم، ولئن كانت هذه المبادرة فذة في نوعها في هذا العصر، غير أنه من الجدير بالتنبيه هو أن الإمام ابن عاشور عني بتناول موضوع مقاصد الشرع في الأموال بصورة عامة، ولم يعن بتفصيل القول في مقاصد الشرع من الاستثمار بوصفه أحد المعاملات المالية، الأمر الذي جعل تناوله لموضوع المقاصد متسمًا بالتعميم والإطلاق، صحيح أن الإمام ابن عاشور عني في موضع آخر من كتابه بتسليط الضوء على مقاصد الشرع من المعاملات المالية المنعقدة على الأبدان ، بيد أنه لم يعن بالتطرق إلى تبيان مقاصد الشرع من المعاملات المنعقدة على الأموال، وهي التى تعرف اليوم بالاستثمارات المالية .
وبناءً على ما سبق، فإننا سنعنى في هذه الدراسة ببلورة هذا البعد المقاصدي من الاستثمار ، كيما تتم الاستعانة به في تكييف وتخريج الأساليب الاستثمارية الحديثة التى يموج به واقعنا المعاصر ، أملاً في أن تغدو مقاصد الاستثمار بعد ضبطها وتحريرها مقياسًا ومعيارًا يحتكم إليه في التكييف الفقهي والتخريج الشرعي للأساليب الاستثمارية الحديثة بإذن الله تعالى .
2_ في تحديد المراد بمقاصد الشرع في الاستثمار
يختلف بعض أهل العلم المعاصرين إلى تعريف مقاصد الشريعة بشكل عام، بأنها عبارة عن (الغاية منها والأسرار التى وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها)(2) ويروم صاحب هذا التعريف بالغاية بأنها تعنى (عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح الأرض ، واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع ..)(1) وأما الأسرار ، فإنه يقصد بها تلك (الحِكم الجزئية التى قصدها الشارع من أحكامه المختلفة …)(2) .
وقد عمد شيخ المقاصديين الإمام الشاطبي في كتابه (الموافقات) إلى تقسيم مقاصد الشرع إلى مقاصد أصلية ومقاصد تبعية، أما المقاصد الأصلية، فعرّفها بأنها هي المقاصد التى (.. لا حظ فيها للمكلف، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة .. لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة لا تختص بحال دون حال، ولا بصورة دون صورة، ولا بوقت دون وقت..)(3) وتنتظم هذه المقاصد الأصلية عنده الضروريات الخمس المتمثلة في حفظ الدين وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال .
وأما المقاصد التبعية، فقد حدّدها بأنها عبارة عن المقاصد التى ( .. روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جُبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسدِّ الخلات .. (وذلك لأن) قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره …)(4) .
وانتهى فقيه المقاصد المعاصر الإمام ابن عاشور في كتابه إلى تقسيم مقاصد الشرع إلى مقاصد عامة، ومقاصد خاصة، وعنى بالمقاصد العامة تلك (..المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها ، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، ويدخل في هذا النوع أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التى لا يخلو التشريع عن ملاحظتها ، كما تدخل فيها معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها)(1) .
وأما المقاصد الخاصة، فإنه رام منها تلك ( .. الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة ولحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة، وتشمل كل مصلحة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس ، مثل قصد التوثق في عقد الرهن، وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقدة الرهن)(2) .
وهنالك تقسيمٌ معاصرٌ ثالث للمقاصد إلى: مقاصد عامة ومقاصد خاصة ومقاصد جزئية، وقد اهتدى إلى هذا التقسيم الدكتور الريسوني في كتابه نظرية المقاصد عند الشاطبي ، وحدد المراد بالمقاصد العامة بأنها عبارة عن المقاصد التى (.. تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية، أو في كثير من منها ..)(3) وأما المقاصد الخاصة، فعرّفها بأنها عبارة عن (.. المقاصد التى تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين، أو في أبواب قليلة متجانسة من أبواب التشريع..)(4) وأما المقاصد الجزئية، فانتهى إلى تحديدها بأنها عبارة عما (.. يقصده الشارع من كل حكم شرعي من إيجاب أو تحريم ، أو ندب أو كراهة، أو إباحة، أو شرط، أو سبب..)(5).
وثمة تقسيمات عديدة باعتبارات مختلفة لمقاصد الشرع، بيد أن المقام لا يتسع لتفصيل القول في كل تلك التقسيمات ، ولعل ما أوردناه فيه الغنية، والذي يهمنا في هذه الدراسة هو تأصيل القول في مقاصد الشريعة الخاصة باستثمار الأموال، ويمكن اعتبار تلك المقاصد في ضوء التقسيمات التى أسلفنا ذكرها مقاصد جزئية؛ وذلك لأنها تختص بالاستثمار دون سواه من قضايا المال، كما يمكن اعتبارها مقاصد خاصة؛ لأنها في حقيقتها كيفيات مقصودة للشارع من أجل تحقيق مقاصد المجتمع وحفظ مصالحهم العامة .
وفي ضوء ما تقدم يمكننا الخلوص إلى القول بأن المراد بمقاصد الشرع من الاستثمار من منظور هذه الدراسة هو مجموع المعاني والحِكم والأهداف العامة الملحوظة والمرادة للشارع الكريم في جميع تشريعاته المتعلقة باستثمار الأموال، ولا تختص ملاحظة تلك المعاني والأهداف في حكم خاص من أحكام وطرق الاستثمار، وإنما يجد المرء حضورًا لتلك المعاني في كل تشريع متعلق بطرق الاستثمار حلاًّ وحرمة .
إن هذه المعاني والحِكَم تبدو كأنها معان جزئية بوصفها معاني وحكمًا خاصة باستثمار الأموال، بيد أنها _ في حقيقة الأمر _ كلية في مآلاتها؛ ذلك لأن ملاحظتها لا تختص بطريقة من طرق الاستثمار دون سواها؛ لأنها مبثوثة في سائر الطرق المشروعة للاستثمار من بيع وشراء، وشركة ومضاربة ومرابحة، فضلاً عن كونها أسبابًا رئيسة وراء تحريم جملة من الطرق الاستثمارية الموهومة من ربا واحتكار واكتناز .
ولئن كان الاستثمار في المنظور الإسلامي عبارة عن توظيف الفرد المسلم ماله بشكل مباشر أو غير مباشر في نشاط اقتصادي لا يتعارض مع مبادئ الشرع؛ وذلك بغية الحصول على عائد منه يستعين به على القيام بمهمة الخلافة لله وعمارة الأرض ، بل لئن كان حكم الاستثمار من المنظور الإسلامي وجوبًا؛ وذلك بدلالة جملة من النصوص القرآنية والحديثية؛ لهذا، فإنه لمن الأمر المفروغ تأكيد القول بأن الشرع تغيا وراء تشريعه الاستثمار تحقيق جملة من الأهداف العليا التى يتوقف عليه قيام المكلف بمهمة الخلافة لله في الأرض وعمارة الكون وفق المنهج المراد لله جل في علاه .
وبالنظر المتفحص في ثنايا مجموع آي الذكر الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة التى وردت في شأن استثمار الأموال، يمكن الانتهاء إلى القول بأن تلك النصوص عنيت بالتأكيد من حيث الدلالة على مجموعة من القضايا الأساسية التى يجدها المرء _ مجتمعة أو فرادى _ حاضرة عند الحديث عن استثمار الأموال والحث عليه، وتتلخص مهمات تلك القضايا في نظرنا في ثلاث قضايا أساسية، وهي :
أ _ الحفاظ على استدامة تنمية المال وزيادته، بحيث يبقى أصل المال محفوظًا وغير معرض للإفناء والإبادة والتدمير، فاستدامة تنمية المال ضرورة دينية وواقعية؛ ذلك لأن حاجة البشرية إلى المال تزداد يومًا بعد يوم بسبب التطورات التى لا تفتأ تداهم الحياة بين الفينة والأخرى .
وعليه ، فإن معظم الآيات والأحاديث التى وردت في الحث على الكسب والسعى والضرب في الأرض ابتغاء مرضاة الله، استهدفت في حقيقة أمرها التأكيد على هذه القضية، كما أن النصوص الشرعية التى عنيت بإيجاب الزكاة في الأموال وبتحريم الاكتناز والربا وغيرها، رامت تقرير هذا المقصد والحفاظ عليه، كما سيأتى تفصيل ذلك لاحقًا .
ب _ الحفاظ على ديمومة تداول المال وتقلبه في أيدٍ متعددة؛ بحيث لا تغدو ثمة فئة قليلة تتحكم في مصائر الأغلبية والسواد الأعظم من البشر، وذلك نتيجة لسيطرتها وتمكنها من المال الذي يعد عصب الحياة في كل عصر وفي كل مصر. وعليه، فإن معظم الآيات والأحاديث التى وردت آمرة بإخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله، ووجوب التوارث، فضلاً عن الآيات والأحاديث الواردة في النهى عن الاكتناز والاحتكار ، كلها قصدت تقرير هذا المقصد والحفاظ عليه من الضياع والزوال ، كما سيأتى معنا بيان ذلك بعد قليل .
جـ _ تحقيق الرفاهية الشاملة لأفراد المجتمع الإسلامي، بحيث يتمّ إشباع كافة الحاجات الأساسية وإزالة كافة المتاعب والمصاعب؛ فيتحقق لجميع أفراد المجتمع الرخاء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والأمنى؛ فيتم بذلك التخلص من الطبقية المفضية إلى التباغض والتدابر والتقاطع والتحاسد.
عليه، فإن معظم الآيات والأحاديث التى وردت حاثة على التعاون والترابط والتساند استهدفت تقرير هذا المبدأ وتحقيقه في أرض الواقع من خلال أساليب الاستثمار القائمة على المشاركة والمساندة والتضامن .
هذه هي مهمات القضايا التى تعتبر في حقيقتها أهدافًا ومعاني سامية تروم الشريعة الغراء تحقيقها من وراء تشريعها استثمار المال واعتدادها به فريضة يجب على كل قادر عليها القيام بها.
وبطبيعة الحال ، ثمة قضايا أخرى، كالتخفيف من حدة التفاوت بين أفراد المجتمع، وحسن إعادة توزيع الثروة وغيرها من القضايا التى حظيت بتنبيه الشارع عليها، غير أن هذه القضايا وسواها تندرج في نهاية المطاف تحت إحدى القضايا الأساسية التى أشرنا إليها آنفا . فتخفيف حدة التفاوت داخل في تحقيق الرفاهية الشاملة لجميع أفراد المجتمع، كما أن إعادة توزيع الثروة، هي الأخرى تندرج ضمن مبدأ الحفاظ على تداول المال وتقلبه في أيد متعددة. ولهذا، فإننا لنخال القضايا المذكورة أمهات المقاصد التى تروم الشريعة تحقيقها من وراء مشروعية الاستثمار .
وبناء على هذا، فإننا ننتهى إلى القول بأنه من الممكن حصر مهمات مقاصد الاستثمار من المنظور الإسلامي في المقاصد الثلاثة الرئيسية التى أشرنا إليها آنفًا، وهي : مقصد الحفاظ على استدامة تنمية المال وزيادته، ومقصد الحفاظ على ديمومة تداول المال، ومقصد تحقيق الرفاهية الشاملة للفرد والمجتمع .
فهذه المقاصد الثلاثة ضروريات وأساسيات يتوقف على تحقيقها تمكن المكلف فردًا وجماعة من القيام بالمهمة الإلهية التى خلق المكلف لها، ألا وهي مهمة الخلافة لله في الأرض بعمارتها وتدبير شأنها وحاضرها ومستقبلها حتى يكون الدين كله لله حده .
ولئن تساءل امرؤ عن المسالك العلمية المعتبرة التى اعتمدناها في ضبط هذه المقاصد الثلاثة، فإننا سنقول بأننا قد ركننا إلى مسلك استقراء(1) ينابيع معظم النصوص القرآنية والحديثية الواردة في طرق استثمار الأموال حلاًّ أو تحريمًا ، فوجدنا أنه ما من نص إلا ويحتضن هذه المعاني أو معظمها ، فآحاد النصوص القرآنية والحديثية التى تضافرت في الحث على البيع والشراء وصنوف عقود شركات الأموال، كلها تأكيد وتقرير لهذه المقاصد الثلاثة، كما ألفينا أن النصوص القرآنية والحديثية التى عنيت بتفصيل القول في تحريم بعض طرق الاستثمار كالربا والاكتناز والاحتكار والغش والنجش وغيرها، قد رامت تقرير هذه المقاصد والحفاظ عليها من التقويض والنقض والتضييع .
وعلى العموم ، فإنه ليس من الممكن في شيء الحفاظ على استنماء المال ولا على تداوله بين أيد متعددة عبر تلك السبل إذا غدا الربا والاحتكار والاكتناز سبلاً وأساليب لاستنماء المال، بل ليس من الوارد أبدًا تحقيق استقرار اجتماعي واقتصادي ، بله تحقيق رفاهة شاملة للفرد والجماعة إذا ظلت تلك السبل هي السبل المتبعة في استثمار الأموال، فهذه السبل والأساليب لا تعدو في حقيقتها أن تكون سبلاً أنانية ضيقة هادفة إلى القضاء على روح التعاون والتساند والتكامل بين أفراد المجتمعات .
إن الربا والاحتكار والاكتناز ثالوث قاض كل القضاء على روح التعاون والترابط والتراحم بين أفراد المجتمع، وبالتالي، فإنها في نهاية المطاف عوامل تفضى إلى القضاء على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي وتحول دون تحقيق الرفاهية الشاملة للفرد والجماعة. وعلى كل ، هيا بنا إلى تأصيل القول في هذه المقاصد الثلاثة؛ أملاً في أن تغدو منذ الآن معيارًا يحتكم إليه عند الهم بتكييف أو تخريج أسلوب استثماري حديث أو مطور من أسلوب استثماري قديم .
3_ الحفاظ على استدامة تنمية المال مقصد شرعي معتبر
لئن عرّفت معظم الموسوعات الاقتصادية التنمية بوصفها (زيادة الإنتاج الذي يتضمن الزيادة في الناتج الكليِّ في بلدٍ معين، والزيادة في الناتج بالنسبة إلى الفرد..)(1) ، فإن التنمية المقصودة للمال في المنظور الإسلامي لا تهدف إلى مجرد تحصيل نماء المال والزيادة على أصل المال وتكثيره عبر الطرق الاستثمارية فحسب ، وإنما تهدف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الرخاء الاقتصادي والاستقرار الأمني والرفاهة الشاملة لكل فرد من أفراد المجتمع(2)، وذلك بالاستعانة بسائر الوسائل والأساليب التى لا تتعارض في صورتها العامة مع مبادئ الإسلام العامة وتعليماته المتعلقة بالمال .
بناء على هذا، فإن مرمانا من مقصد الحفاظ على استدامة تنمية المال هو القيام بتوظيف المال في أنشطة استثمارية جالبة أكبر قدر ممكن من النماء الذي ينتج عنه تحقيق الرخاء الاقتصادي والاستقرار الأمني لجميع أفراد المجتمع؛ مما يكون لهم بعد عونًا على القيام بمهمة الخلافة لله وعمارة الكون وفق المنهج المراد لله جل جلاله .
لئن كانت الرفاهية الشاملة المتمثلة في ( .. إِشباع كافة الحاجات الإنسانية الأساسية وإزالة كافة الأسباب الرئيسية للمتاعب والمصاعب، وتحسين نوعية الحياة معنويًّا وماديًّا )(1) … غاية ترنو إليها المجتمعات الإنسانية برمتها، والمجتمعات الإسلامية بشكل خاص ، فإنه لمن الأمر الأكيد أن تحقيق هذه الرفاهية يتوقف بالدرجة الأولى على مدى محافظة أفراد تلك المجتمعات على تنمية ثروتها واستغلال مواردها الطبيعية عبر الوسائل المعينة على ذلك؛ لذلك ، فإن الاستدامة على تنمية المال واستزادته شأن ينبغي أن يحظى باهتمام بالغ من المجتمعات التى تصبو إلى الارتقاء والتقدم وقيادة البشرية وفق المنهج المراد لله جل في علاه .
ولئن كان من المعهود عن الشرع الحكيم أنه يرنو في تشريعاته إلى جعل المجتمع الإسلامي مجتمعًا نموذجيًا يُحتذى به وقدوة لبقية المجتمعات الإنسانية ليس على المستوى التعبدي فقط، وإنما على المستوى الاقتصادي والتنموي والسياسي والاجتماعي ؛ لذلك، فإنه ليس من عجب أن يغدو الحفاظ على استدامة تنمية المال مقصدًا من المقاصد الشرعية المعتبرة التى لا بد للمستثمر المسلم أن يضعه نصب عينيه عندما يهم باستثمار أمواله التى ائتمنه عليها مالكها الحقيقي – جل جلاله .
على أنه من الجدير بالذكر بأن الاعتداد بكون الاستثمار واجبًا شرعيًّا هو الآخر تأكيد وتقرير لهذا المقصد، وقد دلت على وجوب القيام بواجب استنماء المال حادثة ذلك الأنصاري التى أخرجها أبو داود في سننه في كتاب الزكاة عندما قال ما نصه : (إن رجلا من الأنصار أتى النبي _ e _ يسأله ، فقال : (أما في بيتك شيء؟ قال : بلي، حلي نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء، قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله e بيده، وقال: من يشترى هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال : اشتر بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدومًا، فأتني به، فأتاه به ، فشد فيه رسول الله e عودًا بيده، ثم قال له: اذهب، فاحتطب، وبع، لا أرينك خمسة عشر يومًا، فذهب الرجل يحتطب، ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله e : هذا خيرٌ لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع .
إن اعتداد الشارع الاستثمار واجبًا شرعيًّا يمثل وسيلة أساسية للحفاظ على استدامة تنمية المال؛ ذلك لأن التنمية في صورتها الكلية لا تتحقق إلا عبر الاستثمار ؛ ولهذا، فإن الحفاظ على مقصد استدامة تنمية المال يتوقف على اعتبار الاستثمار واجبًا شرعيًّا بوصفه مظنة تحقيق المقصد .
3: 1 الأمر بالضرب في الأرض تقرير لمقصد استدامة تنمية المال :
إن مقصدية هذا المبدأ قرّرها الشارع الحكيم خلال جملة من النصوص القرآنية والنبوية التى تضافرت على الحث على الضرب والمشى والانتشار في الأرض بحثًا عن نماء المال وزيادته، ومن تلك النصوص الدالة على هذا المقصد قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور} (الملك :15) . وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(9)فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} (الجمعة : 9_ 10) . وقوله جل في علاه: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه} (المزمل :20).
ولئن كانت هذه النصوص القرآنية تقرر هذا المقصد بطريق الإِشارة والدلالة، فإن ثمة نصوصًا نبوية تكفلت بالتأكيد على هذا المقصد، ومن تلك النصوص قوله _ e _ في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسند الكوفيين : (من باع دارًا أو عقارًا فلم يجعل ثمنها في مثله كان قمينًا أن لا يبارك له فيه). وكذلك قوله _ e _ في الحديث الذي أخرجه الترمذي مرفوعًا في سننه في كتاب الزكاة : (من ولى يتيمًا، له مال، فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة).
فهذه النصوص النبوية وقبلها النصوص القرآنية تقرر وتؤكد أن استدامة تنمية المال مقصد شرعي معتبر يجب علي المكلف ألا ينقطع عنه بتاتًا؛ وذلك انطلاقًا من أن الأرض في حد ذاتها تعتبر مالاً من المنظور الإسلامي، وبالتالي، فإنه من الواجب القيام باستخراج كنوزها وثمراتها .
3 :2 الأمر بإيتاء الزكاة تقرير لمقصد استدامة تنمية المال :
لقد تضافرت نصوص عديدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة على الأمر بإيتاء الزكاة، واعتباره ركنًا من أركان الإسلام الخمسة، وبالنظر في حقيقة هذه الفريضة، نجد أن فرضية الزكاة لا تمام لها إذا لم يكن ثم استنماء للمال، كما أن بقاء هذه الفرضية مرهون باستدامة تنمية المال، وبالتالي، فإنه يمكن القول بأن الاستنماء مقدمة ضرورية للامتثال بهذه الفريضة وتحقيقها في أرض الواقع. وإذا كان أهل العلم بالأصول يقررون بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإنه انطلاقًا من ذلك يمكن تقرير القول بأن استدامة تنمية المال أمر واجب؛ لأن فرضية الزكاة لا تتم إلا بها، وبالتالي، فإنها واجب شرعي يجب الامتثال . ويعنى هذا أن الاعتداد بركنية وفرضية الزكاة تقرير أكيد على مقصد استدامة تنمية المال في المنظور الإسلامي.
وفضلاً عن دلالة الآيات القرآنية والنصوص النبوية على تقرير وتثبيت مقصدية استدامة تنمية المال، فإن التأمل المتمعن في رحاب تلك النصوص الشرعية يهدى المرء إلى تقرير القول بأن العزوف عن استنماء المال لا يعدو أن يكون في حقيقته تعطيلاً لفريضة الزكاة، ولا يخفى ما في ذلك من خطورة على الوجود الإٍسلامي في نهاية المطاف .
وبناء على ما سبق ، فإنه يمكننا الانتهاء إلى القول بأن الأمر بإيتاء الزكاة وإخراجها تقرير أكيد لمقصد استدامة تنمية المال في المنظور الإسلامي، كما أنه حفاظٌ على أصل المال الذي لا ينبغي تدميره ولا تبديده، وهو ما أشار إليه رسول الله _ e _ في أمره وليّ اليتيم بالاتجار في ماله حتى لا تأكله الصدقة، ومراده بالصدقة الزكاة . وأيًّا ما كان الأمر ، فإن ما أوردناه من توضيح لتقرير هذه الفريضة المقصد المذكور، لا يحتاج إلى مزيد إيضاح .
3:3 تحريم الاكتناز تقرير لمقصد استدامة تنمية المال :
إن الشرع الحكيم لم يكتف بإيجاب إيتاء الزكاة تحقيقًا لمقصد استدامة تنمية المال، وإنما تكفل أيضًا بوضع جملة من التدابير الوقائية التى تسهم في الحفاظ على هذا المقصد، ومن تلك التدابير الأساسية تحريمه الاكتناز في قوله جل جلاله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34)ِِيَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُون} (التوبة: 35 ، 36) . وجاء تأكيد هذا التحريم في الحديث الذي أخرجه الإمام أبو داود في سننه في كتاب الزكاة أن رجلاً من أهل الصُّفة مات، فلما هموا بغسله، وجدوا في مئزره دينارًا، فقال رسول الله _ e _ كيَّة، ثم مات رجل آخر من أهل الصفة، فوجد في مئزره هو الآخر ديناران، فقال e : كيتان .
إن هذه الآية الكريمة والحديث النبوي الشريف يقرران بجلاء كون الاكتناز حرامًا أنى كان نوعه، سواء أكان احتفاظًا بالمال دون أداء ما وجب فيه من الزكاة، أم كان احتفاظًا بالثروة أية ثروة بغير استثمار(1) .
إن تحريم الاكتناز يعود إلى كونه تصرفًا بغيضًا يحول دون الحفاظ على مقصد استدامة تنمية المال وزيادته؛ لأنه يقوم على حجب المال وتعطيله عن المشاركة في النشاط الاقتصادي؛ مما ينتج عنه زيادة وارتفاع نسب العطالة والبطالة في المجتمع؛ وذلك لأن حجب المال عن التنمية والتثمير في حقيقته حجب لبعض الأفراد من المشاركة في الحياة الاقتصادية، فبقدر ما يدفع بالمال في أوجه النشاط الاقتصادي، بقدر ما تنجو المجتمعات من البطالة والعطالة، ولا يخفى ما فيهما من شر ووبال وخطورة على استقرار المجتمع وصفائه، وفي هذا يسلط الأستاذ سيد قطب _ رحمه الله _ الضوء على دور الاكتناز في تعطيل وظيفة المال وما ينتج عن ذلك من حرج للجماعة التى هي في ( .. حاجة إلى تداول أموالها العامة لتنمى الحياة في شتى مظاهرها ، وتضمن الإنتاج في أوسع ميادينه، وتهيئ للعاملين وسائل العمل، وللإنسانية طريق النشاط .. وحبس الأموال يعطل هذا كله، فهو حرام في نظر الإسلام؛ لما فيه من تعطيل للصالح الخاص والصالح العام .. (وهذا بلا شك) يسبب للحياة الاقتصادية جميع الأمراض الحاملة لجرثومة سوء التوزيع وقلة الإنتاج وتضخم الثروات وتكدسها في يد القلة ونضوب الأعمال وقلة الأشغال ، وإحاقة الظلم بالفئات غير القادرة على الادخار ..)(1) .
وأما الأستاذ محمود أبو السعود _ رحمه الله _ فيؤكد هو الآخر كون الاكتناز أحد العوامل الأساسية وراء تفشي البطالة والعطالة في المجتمع، وفي هذا يقول ما نصه : (إذا أمسك الفرد بالنقود واحتجزها دون أن يصرفها أو يستثمرها ، وأخذت تتجمع لديه مقادير كبيرة منها، أصبح مكتنزًا لجزء من السيولة النقدية، وحجبها من التداول، مما يعوق غيره عن إتمام معاملاتهم الاقتصادية نتيجة لنقص النقود المتداولة، وبصفة خاصة رءوس الأموال المنتجة..)(2) ونتيجة لذلك، فإن حركة النشاط الاقتصادي تخف وتقل فتنتشر في المجتمع جميع الأمراض الحاملة لجرثومة سوء التوزيع وقلة الإنتاج وقلة الأشغال وإحاقة الظلم بالطبقة العاملة التى تتعطل عن العمل .
بناء على ما سبق، فإن تحريم الاكتناز يعد تدبيرًا من التدابير الرشيدة التى اتخذها الشارع الكريم للحفاظ على مقصد استدامة تنمية المال وزيادته .
3: 4 تحريم الربا تقرير لمقصد استدامة تنمية المال :
لئن حرم الشارع الاكتناز حفاظًا وتقريرًا للمقصد المذكور، فإن تحريم الاكتناز وحده ما كان له أن يكون التدبير الوقائي الوحيد الذي يكفى للحفاظ على المقصد المذكور؛ ولهذا، فإن الشارع عني بتحريم الربا بوصفه أحد العوامل التى تحول دون تحقيق استدامة تنمية المال التنمية المقصودة في الإسلام، وقد جاء تحريمه في عدد من النصوص القرآنية والحديثية ، ومن تلك النصوص قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} (البقرة: 278) وقوله جل في علاه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275)يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم} (البقرة: 275 _ 276) ، وجاء تأكيد هذا التحريم في الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه في كتاب البيوع أن رسول الله e قال: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال : هم سواء) .
وانطلاقًا من تلك الآيات الكريمات والحديث النبوي الشريف، فإنه ليس من مرية في أن الربا أنى كان نوعه إن ربا نسيئة أو ربا فضل _ حرامٌ في الإسلام إلى يوم القيامة، وإن تكن ثمة أسباب عديدة ودواع كثيرة وراء تحريم الربا، فإنه من الحري بالقول بأن الحفاظ على مقصد استدامة تنمية المال أحد الأسباب الرئيسية؛ وذلك اعتبارًا بأن تحقيق الرفاهة الشاملة يتوقف على توفر المال، كما أن القيام بمهمة الخلافة لله في الأرض وعمارة الكون لا يمكن له أن يتم إذا لم يكن هنالك استدامة لتنمية مال الجماعة.
وبالنظر في حقيقة الربا، نجد أنه يحول دون تنمية المال تنمية معتبرة إسلاميًّا، وفي هذ يقرر الإمام الدهلوى قائلاً: (.. إذا جرى الرسم باستنماء المال بهذا الوجه _ يقصد عن طريق الربا _ أفضى إلى ترك الزراعات والصناعات التى هي أصول المكاسب..)(1) . ويذهب بعض علماء الاقتصاد الغربي إلى القول بأن (.. معدل سعر الفائدة هو الذي يعرقل نمو رأس المال، ومن الممكن تحقيق نمو سريع في فترة وجيزة لرأس المال في العالم المعاصر في حالة إزلة هذه العرقلة أي رفع سـعر الفائدة عن رءوس الأموال..)(2) .
إن النظر الحصيف في حقيقة الزيادة التى ينالها المرابون، يجعل المرء يقرر بأنها زيادة موهومة؛ لأنها ضئيلة مقارنة بالزيادة التى يمكن أن تأتي من الاستثمار المشروع، كما أنها زيادة نسبية وفردية؛ وذلك لأنها تحول في حقيقة الأمر دون تحقيق التنمية المنشودة في المنظور الإسلامي والتى تتمثل في تحقيق أكبر قدر ممكن من الرخاء الاقتصادي والاستقرار الأمني والاقتصادي والرفاهة الشاملة لجميع أفراد المجتمع، فإن تكن هنالك رفاهة أو رخاء ، فإنه لا يتجاوز دائرة أولئك المرابين والمتعاملين معهم، وبالتالي، فإن هذا الاستنماء لا يعدو أن يكون وهميًّا غير شامل ولا محقق المقصد الشرعي الأسمى من استثمار الأموال في الإسلام.
وفضلاً عما سبق، فإن الربا في حقيقته _ سواء أكان ربا قرض أم ربا بيع _ يعتبر عائقًا أساسيًّا لاستدامة تنمية المال؛ إذ إن ارتفاع نسبة الفائدة المجنية من اقتراض النقود مقابل فائدة كما هو الحال في القروض الإنتاجية التى تقدمها المؤسسات الربوية للراغبين في الاستثمار والإنتاج ، يؤدى هذا الارتفاع إلى ارتفاع نسب البطالة والعطالة والتضخم في المجتمعات؛ وذلك لما ينتج عنه من عزوف أكثر المستثمرين عن الاقتراض من تلك المؤسسات، فضلاً عن إصابة الحياة الاقتصادية للمجتمع بحالة من التضخم الناتج عن هذا الارتفاع الظالم، وبالتالي، فإن محصلة اقتراض النقود مقابل فوائد ربوية تحول دون استدامة تنمية المال وزيادته الزيادة التى تجلب الرفاهة والرخاء الشامل لجميع أفراد المجتمع، وفي هذا يقول العالم الاقتصادي سير توماس كلبيبر ( .. إن ارتفاع سعر الفائدة يجعل الناس كسالى في مهنهم، ويصيرهم مرابين .. وأي انخفاض في سعر الفائدة، فإن ذلك ينتج عنه تطوير الزراعة، وإعادة الروح في صناعاتنا الميتة بسبب توقفها عن التصنيع..)(1) .
إن الربا بأصنافه يكسب المرابي حالة من الشعور بالبطالة والكسل والعطالة عن الإنتاج؛ مما يجعله فردًا هزيلاً وضعيفًا معنويًّا في المجتمع، وفي هذا يقول الإمام الرازي معللا حكمة تحريم الربا: ( إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب؛ وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدراهم الزائدة نقدًا كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة ..)(1) .
وعلى العموم، فإنه لا تحقيق لاستدامة تنمية المال التنمية المقصودة في الإسلام ما لم يُسَدّ باب الربا، وتغلق جميع المنافذ المفضية إليه بوصفه وسيلة تنموية موهومة لا تحقق الرخاء الاقتصادي ولا الرفاهة الشاملة لأفراد المجتمع .
وعليه، فلئن خُيِّل للبعض أن الربا يحقق للمال تنمية وزيادة، فإن ذلك لا يعدو أن يكون توهمًا لا اعتداد به من المنظور الإسلامي .
3: 5 تحريم الإسراف والتبذير والتقتير تقرير لمقصد استدامة تنمية المال:
لئن اعتبر الشارع الربا وقبله الاكتناز تصرفات مفضية إلى الحيلولة دون استدامة تنمية المال التنمية المعتبرة في المنظور الإسلامي، فإن الشارع لم يكتف بتحريم ذينكما التصرفين، وإنما أردف ذلك بتحريم جملة من التصرفات التى تأتي على أصل المال بالتقويض والإفناء والتبديد، وحفاظًا على مقصد استدامة المال، كان لابد من تحريم الإٍسراف والتبذير والتقتير بوصفها ثالوثًا خطيرًا لا تحقيق لتنمية المال إذا لم تسد أبوابها جملة وتفصيلاً؛ ولهذا، فقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على تحريم هذه التصرفات المفنية لأصل المال والحائلة دون تحصيل نمائه. وهذا عرض لتلك النصوص الشرعية المحرمة لكل من الإسراف والتبذير والتقتير .
وأما الإسراف فيقول الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله : {لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْـــرِفِينَ هُمْ أَصْحَــــــابُ النَّار } (غافر:43) ويقول أيضًا _ جل جلاله: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف: 31) .
وأما التبذير، فقد ورد فيه قوله عز من قائل : {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26)إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الإٍسراء : 26 ، 27) .
وأما التقتير، فقد جاء فيه قوله جل جلاله : {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَـانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَـــوَامًا} (الفرقان: 67) .
وثمة نصوص عديدة في السنة تؤكد تحريم هذه التصرفات الثلاثة، ولعل ثمة حكمًا كثيرة وراء تحريم هذه التصرفات الثلاثة، كما أن هنالك أسبابًا متعددة وراء تحريمها، ومن الممكن القول بأن الحفاظ على مقصد استدامة تنمية المال التنمية المقصودة للشارع يقف أحد الأسباب القوية وراء تحريم هذا الثالوث الذي يمثل خطورة على المستوى البقائي للمال الذي يفترض فيه أن يدفع به في مختلف أوجه الأنشطة الاقتصادية؛ تحصيلاً لنمائه، وتحقيقًا للرخاء والرفاهة الشاملة؛ إذ إنه ليس من الوارد في شيء بقاء أصل المال عند وجود هذا الثالوث الخطر.
فالإسراف كما يقول خبراء الاقتصاد: (.. يفسد الأخلاق ويحطم القيم؛ لأنه يؤدى إلى الترف والانحلال ويحمل على سلوك كل طريق للحصول على المال، فتشيع في المجتمع الوسائل المحرمة للكسب، وقد تصير مقبولة . والإسراف إلى جانب أضراره الأخلاقية يحول دون توافر أهم وسائل التنمية الاقتصادية وهو تكوين رءوس الأموال، فهو يبددها ويضعها في غير مواضعها وبذلك لا تقوى الأمة على مواجهة متطلبات البناء والقوة، وتكثر فيها مشكلات البطالة، ونقص ضروريات الحياة؛ مما ينجم عنه عادة إثارة القلاقل والاضطرابات ، وهذا يضاعف من الأضرار وانتشار الخلل في الحياة الاجتماعية . فالإسلام حين حرم الإسراف إنما أراد حماية الأخلاق وحماية الإنسان من أوزار الترف والانحلال، وأن يكون للأمة رصيدها الذاتي من الثروة التى تكون سلاحها في القضاء على كل ما يعترض سبيل نهضتها وعزتها ..)(1).
وأما التبذير سواء أكان صرفًا للمال في غير ما ينفع في الدين والدنيا، أم كان صرفًا للمال في المنافع المحرمة كمهر البغي، أم كان صرفًا للمال في غير مصارفه المعروفة عند العقلاء(2) ، فإن كل تصرف يأتى على المال بالإفناء والتدمير يعتبر محرمًا في الإٍسلام؛ ذلك لأن تدمير المال وتبديده يحول دون تحقيق الرخاء الاقتصادي المأمول والرفاهة الشاملة المنتظرة للفرد والمجتمع، فضلاً عن أنه يمثل أخطر تصرف يخرج المال عن وظيفته التى خلق له والتى تتمثل في صيرورته الوسيلة التى يتم بها التبادل والتقايض والتعامل المالي وفق المنهج الذي رسمه الشارع الكريم؛ ولهذا، فلا غرو أن يحرم الإسلام التبذير لما يحمله من جرثومة الحيلولة دون استدامة تنمية المال التنمية المقصودة في الشرع .
وأما التقتير ، فإنه فضلاً عن كونه اكتنازًا خفيًّا للمال، ( .. يؤدى إلى الانكماش(1) والركود في الحياة الاقتصادية؛ ذلك لأن التقتير هو نقص في الاستهلاك، ونقص الاستهلاك يؤدى إلى حدوث الدورة الانكماشية وعدم تصريف المنتجات، وهذه الأزمات اتخذت صفة الدورية في النظام الرأسمالي؛ إذ إن رجال الأعمال في جهودهم الرامية إلى الوصول إلى أكبر ربح ممكن يلجئون إلى زيادة إنتاجهم وخفض التكاليف، وبما أن أجور العمال تشكل نسبة كبيرة من تكاليف الإنتاج، فيلجئون إلى خفضها . ويعنى هذا بالضرورة نقص الاستهلاك بالنسبة لهذه الطبقة، وبالتالي نقص الاستهلاك على المستوى القومي. ونقص الاستهلاك يؤدى إلى عدم قدرة رجال الأعمال على تصريف المنتجات، فيضطر بعضهم إلى الانسحاب من دائرة الإنتاج، والبعض الآخر يخفض من مستوى إنتاجه ، وهذا يؤدى إلى حدوث بطالة عمالية، وخفض جديد في مستوى الأجور الكلية؛ وبالتالي نقص في القوة الشرائية ، فنقص في الاستهلاك، فانخفاض في مستوى الطلب الفعلي، وهكذا تتفاقم الأزمة . وعلى ذلك ، نخلص إلى أن الحد الشديد من الاستهلاك قد يؤدى إلى تبديد نسبي في المصادر الإنتاجية؛ ومن هنا أكد الإسلام على التوسط والوسطية في سلوك الفرد بصفة عامة، وسلوكه الاستهلاكي على وجه الخصوص)(2) .
ومهما يكن من شيء فإنه يمكننا الانتهاء إلى القول بأن الشرع إنما حرم تلك التصرفات المذكورة؛ لأنها في حقيقتها تبديدٌ وقضاءٌ مبرمٌ على ثروة المجتمع، وللحيلولة دون وقوع تلك التصرفات كان لابد من أن يعتبر الإسلام المسرفين والمبذرين والمقترين في المجتمع سفهاء يجب رفع أيديهم عن الأموال التى بين أيديهم لئلا يبددوها ويدمروها ، وفي هذا يقول جل جلاله {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُـوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} (النساء: 5) .
وبهذ يتضح لنا دور تحريم هذه التصرفات في تقرير مقصد استدامة تنمية المال في المنظور الإسلامي والحفاظ عليه بعد وجوده .
وعلى العموم، عند هذا القدر، نأمل أن يكون قد أصلنا القول في تقرير الشارع مقصد استدامة تنمية المال، ورسم التدابير الكفيلة بتحقيق هذا المقصد في أرض الواقع. ولا يفوتنا في هذا المقام من أن نشير إلى أن هذا المقصد يبدو في ظاهره كأنه مقصد مادي بحت، ولكن الحقيقة التى لا مرية فيها هي أن هذا المقصد يتوافر على الجانب المادي والجانب الروحي، فتنمية المال ليست مقصودة لذاتها، ولكنها مقصودة لغيرها؛ لأنها تعد من الركائز الأساسية التى يتوقف على توافرها القيام بمهمة الخلافة لله وعمارة الأرض وفق مراد الله؛ ولذلك، فإن أية تنمية أو زيادة لا توصل أو تعين على تحقيق المهمة المذكورة، فإن الشرع لا يعتد بها بتاتًا .
وبناء على ذلك، يمكننا الخلوص إلى القول بأن التنمية المنشودة للمال في الإسلام تنمية مقصودة وموجهة وليست هائمة ولا سائبة، ولا مادية بحتة. ولئن اعتبرت بعض النظم هذا المقصد كأحد أهداف الاستثمار، فإن ذلك لا يضير الإسلام في شيء، ذلك لأن التشابه بين شيئين لا يعنى بالضرورة مساواتهما مساواة مطلقة. فإذا كان النظام الرأسمالي _ مثلاً _ يجعل تنمية الثروة هدفًا أساسيًّا من أهداف الاستثمار، فإن ذلك ينبغي أن لا يفهم منه تساوى النظامين _ الإسلامي ، والرأسمالي _ ذلك أن المنطلقات وطرق التحقيق مختلفة اختلافًا تامًا، فالنظام الرأسمالي ينطلق من سعيه إلى تحقيق تنمية الثروة واضعًا في الاعتبار أن تلك هي الغاية الأولى والأخيرة للاستثمار ، ويسلك كل السبل بغض النظر عن كونها ضارة أو نافعة في تحقيق ذلك فلا الاكتناز ممنوع، ولا الاحتكار مرفوض ، بل هذه الغاية تبرر صلاحية كل وسيلة تؤدى إلى تحقيقها .
وأما النظام الإسلامي ، فإنه على الرغم من إيمانه بهذا المقصد، إلا أنه لا يجعله المقصد النهائي، كما أنه لا يفتح الباب على مصراعيه لتحقيقه، بل إذا كان تحقيقه مرهونًا بإباحة الاكتناز أو الاحتكار ، فإنه يصبح مرفوضًا في الإسلام، الأمر الذي يعنى أن الغاية لا تبرر الوسيلة إذا لم تكن الوسيلة مشروعة وحميدة، ولا يتوصل إلى ما هو مشروع بأمر غير مشروع البتة. وبهذا نخلص إلى القول بأن التشابه القائم بين الإسلام وغيره من النظم في هذا الهدف لا يعدو أن يكون تشابهًا شكليًّا وظاهريًّا .
4_ الحفاظ على ديمومة تداول المال مقصد شرعي معتبر
لئن أثبتنا كون استدامة تنمية المال مقصدًا من مقاصد الاستثمار في المنظور الإسلامي، فإنه حقيق علينا أن نؤصل القول في مدى كون ديمونة تداول المال مقصدًا آخر من مقاصد الشرع في تشريعه الاستثمار واعتداده به واجبًا من الواجبات التى يثاب المكلف على فعلها ويعاقب على تركها بلا عذر .
وبدء بذي بدء، نود أن نشير إلى أن ديمومة تداول المال في حقيقته مقصد امتدادي لمقصد استدامة تنمية المال، وثمة ترابط قوي بينهما، مما سيلاحظه القارئ عند الحديث عن التدابير التى وضعها الشارع للحفاظ على هذا المقصد .
وإذ الأمر كذلك، فإننا نبادر إلى القول بأننا نروم من ديمومة تداول المال أن يظل المال متقلبًا بين أيد متعددة بحيث يتجاوز به من أن ينحصر في أيدي فئة قليلة في المجتمع دون سواهم من الناس، وقد عبر عن هذا التداول الإمام ابن عاشور بأنه عبارة عن( .. انتقال المال بأيد عديدة في الأمة على وجه لا حرج فيه على مكتسبه، وذلك بالتجارة وبأعواض العملة التى تدفع لهم من أموال أصحاب المال. فتيسير دوران المال على آحاد الأمة وإخراجه عن أن يكون قارًّا في يد واحدةٍ أو متنقلاً من واحد إلى واحد مقصد شرعي..)(1) .
فلئن كانت التنمية المقصودة للمال في المنظور الإٍسلامي تهدف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الرخاء الاقتصادي والرفاهة الشاملة لجميع أفراد المجتمع عونًا لهم على القيام بمهمة الخلافة لله في الأرض وعمارة الكون، فإنه لا تحقيق لهذه التنمية ما لم يغد المال متداولاً ومتقلبًا في أيد متعددة يتم من خلاله تحصيل كل فرد نصيبه من الرخاء والرفاهة .
تقريرًا لهذا المقصد، نجد أن القرآن الكريم عني بالتنصيص عليه في قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} (الحشر: 7) .
4: 1 فرضية إخراج الزكاة للأصناف تقرير لمقصد ديمومة تداول المال:
وفضلاً عن هذه الآية الكريمة التى تؤصل هذا المقصد وتدل على وجوب الحفاظ عليه، فإن الشارع الحكيم أوجب إخراج الزكاة من أموال الأغنياء في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} (التوبة : 103) وفي قوله أيضًا : {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُــــولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} (النور: 56) ، وثمة آيات وأحاديث نبوية عديدة تدل على هذا الوجوب، غير أن الجانب الذي نود الالتفات إليه في تلك النصوص هو ما يتمثل في إيجاب الشارع إيتاء ذلك القدر الذي يؤخذ من الأغنياء سنويًّا لعدد من الأفراد في المجتمع محتاجين إلى أصول مالية تعينهم على النهوض بحياتهم الاقتصادية مستقبلاً ، وفي هذا يقول الباري جل في علاه : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} ( التوبة: 60) .
إن الأمر بإيتاء الزكاة لهؤلاء الأصناف، قصد منه تقرير مقصد ديمومة تداول المال، إذ لولا الزكاة لبقيت كل الأموال في أيدى الأغنياء ، ولن تصل إلى الفقراء، كما أنه لولا فرضيتها لما كان في الإمكان إزالة عارضة الفقر والعوز والحاجة عن بعض أفراد المجتمع، ولأصبح الأغنياء أغنياء إلى الأبد، والفقراء فقراء على الدوام، حتى إذا ما أخذ من الأغنياء صدقة وأعطيت لأولئك الأصناف ، فإذا الفقر والعوز والحاجة جميعها تبارح ساحة كثير من أولئك الذين وقعوا تحت وطأته نتيجة عدم توافره على رءوس أموال تعينه على القيام بواجب الاستثمار والتنمية .
وعليه ، فيمكننا الانتهاء إلى القول بأن فرضية الزكاة استهدفت تقرير مقصد استدامة تنمية المال من جهة، كما استهدفت _ من جهة أخرى _ تفتيت الثروة التى تتكدس في بعض الأيدى التى ما كانت لها لأن تعطى صدقة أو هدية لولا تقريرها لمقصد ديمومة تداول المال وتقلبه في أيد متعددة من أفراد المجتمع، وفضلاً عن ذلك، فإن في فرضيتها تربية نفسية وتعويدًا عمليًّا لبعض الأيدى على العطاء والتبرع والتى ما كانت لتتعود على ذلك لولا فرضية الزكاة ووجوبها .
4: 2 الأمر بتوزيع الميراث تقرير لمقصد ديمومة تداول المال:
ولئن اعتبرنا فرضية إعطاء الزكاة للأصناف التى ورد ذكرها في القرآن الكريم وسيلة من وسائل تقرير مقصد ديمومة تداول المال، فإن ثمة وسيلة أخرى يمكن اعتبارها إحدى الوسائل المعينة على الحفاظ على المقصد المذكور، وتتمثل تلك الوسيلة في نظام الميراث، ذلك النظام الفريد الذي حدده الباري في كتابه في قوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء:11).
إن ثم حِكَمًا متعددة وراء فرضية الميراث، بيد أنه يمكن اعتبار الحفاظ على مقصد ديمومة تداول وتقلب المال في أيدٍ متعددة إحدى الحكم الرئيسية التى رنا الشارع إلى تحقيقها من هذا النظام؛ وذلك لأنه ينطوى على صيرورة المال متداولاً بسبب التوزيع بين أكبر عدد من الناس إن وجدوا، أو على الأقل يتم نقله من يد إلى أخرى ، وفي هذا يقرر الإمام ابن عاشور أن الشريعة نفذت مقصدها من توزيع الثروة تنفيذًا لطيفًا بسبب نظام المواريث؛ وذلك لأن مكتسب المال يكون ( .. قد قضى منه رغبته في حياته، فصار تعلق نفسه بماله بعد وفاته تعلقًا ضعيفًا .. ولم يجعل لصاحب المال حق في صرفه بعد موته إلا في ثلث ماله أن يوصي به لغير وارث، فتم مقصد التوزيع بحكمة وهي جعل المال صائرًا إلى قرابة صاحبه؛ لأن ذلك مما لا تشمئز منه نفسه، ولأن فيه عونًا على حفظ المال في دائرة القبيلة. وإنما تتكون الأمة من قبائلها، فيؤول ذلك إلى حفظه في دائرة جامعة الأمة)(1) .
وعلى العموم، فإن الشرع يوجب على أولئك الورثة الذين يستخلفون في إدارة مال مورثهم أن يقوموا بواجب الاستنماء والاستثمار عبر سائر السبل الاستثمارية المتاحة، ولا يخفى ما ينتج عن ذلك من تحقيق لمقصد استدامة التنمية ومقصد التداول والرواج. وبناء على ما سبق، فإنه يمكننا الانتهاء إلى القول بأنه لو لم يكن التداول والرواج مقصدًا لما كان ثمة حاجة إلى تشريع نظام المواريث، ونظام النفقات والصدقات وهكذا .
وبطبيعة الحال، لا يتسع المقام لتفصيل القول في كل ما يتعلق بأهمية هذا التشريع ودوره في تحقيق التوازن الاقتصادي بين الأفراد في المجتمعات ، فضلاً عن دوره الواضح في الحفاظ على مقصد ديمومة تداول المال في أيدٍ متعددة مختلفة .
4: 3 تحريم الاحتكار تقرير لمقصد ديمومة تداول المال :
ولئن اعتبرنا توزيع الإرث، وقبله إعطاء الزكاة للأصناف الثمانية فريضتين مقررتين مقصد ديمومة تداول المال، فإنه من الجدير بالذكر أنّ الشارع الكريم لم يكتف بتقرير هذا المقصد عبر تلكما الفريضتين، وإنما عنى بحظر جملة من الأساليب الاستثمارية لمخالفتها لهذا المقصد، ولكونها منطوية على تجاوز هذا المقصد، ومن تلك الأساليب الاستثمارية الموهومة التى تحول دون تحقيق هذا المقصد، الاحتكار بوصفه تصرفًـا يحول دون تحقيق هذا المقصد الإسلامي الناصع في الاستثمار .
إن الإسلام يحرّم الاحتكار، سواء أكان احتباسًا للطعام أو القوت، أم كان احتباسًا لكل ما يتضرر الناس من احتباسه من طعام وقوت ونقود عن التداول؛ انتظارًا لوقت ارتفاع ثمنه، فـ (كل ما أضر الناس حبسه فهو احتكار، وإن كان ذهبًا أو فضة، ومن احتكره بعد … فقد أساء استعمال حقه فيما يملك ..)(1) وقد ورد تحريمه في عدد من أحاديث المصطفى _ e _ كقوله في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب المساقاة: (لا يحتكر إلا خاطئ) ، أي آثم . وقوله _ e _ في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة: (من احتكر على المسلمين أربعين يومًا ضربه الله بالجذام والإفلاس) .
فهذه النصوص النبوية الشريفة تؤكد كون الاحتكار في الإسلام حرامًا، وذلك لما ينطوى عليه من ظلم لعامة الناس من أجل تحصيل منفعة لفئة من الناس. ولئن كانت استدامة تنمية المال مقصدًا أساسيًّا ، فإن التنمية المعتبرة هي التى تحقق الرخاء الاقتصادي، والرفاهة لجميع أفراد المجتمع، وليست تلك التى تحقق الرخاء لبعض الأفراد على حساب عامة الناس . وعليه، فإنّ تحريم الاحتكار ما كان له لينحصر في دائرة الأقوات والألبسة والأطعمة وإنما يشمل احتكار النقود وحصرها في أيدي فئة معينة في المجتمع دون سواهم من الناس.
إنه ليس أمرًا منكورًا أن ينظر البعض إلى الاحتكار بوصفه أسلوبًا جالبًا أرباحًا طائلة، بيد أن النظرة الإٍسلامية إلى الأرباح المادية تختلف في أساسها عن نظرات الأيديولوجيات المختلفة؛ ذلك لأن الربح المادي ليس في حد ذاته غاية بقدر ما هو وسيلة إلى غاية أسمى وأعلى، وهي تحقيق الرخاء الاقتصادي والرفاهة الشاملة لجميع أفراد المجتمع؛ عونًا لهم على القيام بمهمة الخلافة لله في الأرض وعمارة الكون . وبالتالي ، فإن الربح المادي الذي يحوزه بعض أفراد المجتمع دون بعضهم لا عن نتيجة عمل وجهد مشترك، وإنما نتيجة عمل احتكاري منغلق، فإن الإٍسلام لا يعترف به ولا يعتبره وسيلة من وسائل تحقيق الغاية السامية من تشريع الاستثمار في الإٍسلام.
ولهذا ، فلئن جلب الاحتكار لأصحابه نماء وزيادة، فإن الإسلام يعتبره نماء ناقصًا غير مكتمل، وذلك اعتبارًا إلى ما ينتج عنه من ضرر بالغ مؤثر سلبًا على حركة التعامل التجاري والاستثماري في المجتمع ، فضلاً عما ينتج عن ذلك من أضرار بالغة على النظام الاقتصادي والمالي في المجتمع برمته.
إن تحقيق الاحتكار تنمية أو زيادة لبعض أفراد المجتمع، يجلب في مقابل ذلك حالة من البطالة الانكماشية(1) للسواد الأعظم من أفراد المجتمع، كما أنه بطبيعته يقف عاملاً قويًّا وراء نشأة التضخم المفضى إلى القضاء على حافز الابتكار والتجديد في المجتمع، ومرد ذلك إلى طبيعة الاحتكار التى تضعف لدى المحتكر في غالب الأحيان حافز التجديد والابتكار؛ لأن الحماية القانونية التى يحظى بها الأفراد المحتكرون والمؤسسات الاحتكارية في العصر الراهن تجعلهم لا يهتمون بابتكار ولا بتجديد لعدم وجود منافس آخر لهم في السوق؛ مما يؤدى إلى هبوط كفاءات أولئك الأفراد وتلك المؤسسات الاحتكارية(2) ، ولا يخفى ما ينتج عن ذلك من أضرار جسيمة في سوء توزيع الموارد .
إن تحريم الإسلام الاحتكار إنما يعود إلى كونه أسلوبًا يحول دون تحقيق مقصد استدامة التنمية المقصودة للمال من جهة، ودون تحقيق مقصد ديمومة تداول المال وتقلبه في أيد متعددة من جهة أخرى آكد، ومرد هذا إلى كون الباعث على الاحتكار في حقيقته الأنانية والأثرة والجشع والطمع، والإضرار بالآخرين ، وإخراج النقود من الوظيفة الأساسية التى من أجلها خلقت، وكل ذلك يتعارض مع مبادئ الإسلام في العلاقات بين الأفراد .
إنّ الاحتكار لا يعدو أن يكون إهدارًا لمقصد ديمومة تداول المال وتقلبه، بل إنه لا يعدو أن يكون إهدارًا حقيقيًّا.. (لحرية التجارة والصناعة، فالمحتكر لا يسمح لسواه أن يجتلب ما يجتلبه، أو يصنع ما يصنعه، وبذلك يتحكم في السوق، ويفرض على الناس ما يشاء من أسعار، فيكلفهم عنتًا، ويحمّلهم مشقة، ويضارهم في حياتهم وضرورياتهم، فوق أنه يقفل باب الفرص أمام الآخرين ليرتزقوا كما يرتزق، وليجودوا فوق ما جود ..)(1).
ولهذا ، فليس من عجب أن يعتبر الإٍسلام المحتكر ملعونًا ومطرودًا من رحمة الله وعطفه، كما ورد ذلك في آثار كثيرة عن الرسول e : ( الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون)(2) .
إن السر في استحقاق المستثمر المحتكر هذه اللعنة الإلهية يعود إلى كونه ممن ينظر إلى (.. مصلحة نفسه ولا يبالي بضرر المجموع، فكلما حدث رخص ساءه وآلمه، وكلما سمع بغلاء سره وأبهجه . فلا غرو أن تتسرب الرحمة من قلبه، وأن تغزوه الأنانية والقسوة التى تعد آفة تنزل بالإنسان من أفق الإنسانية إلى حضيض السبعية أو الوحشية .. ولأن المحتكر يريد أن يوسع ثروته بالتضييق على خلق الله، وأن يبنى قصوره على جماجم البشر، وأن يمص دماءهم لتجري في عروقه أو في رصيده ألوفًا وملايين..)(3) .
وبناء على هذا، فإن ليس من عجب أن تتضافر نصوص حديثية _ كما أسلفنا _ على تحريم الاحتكار وتوعد المحتكر بسوء الخاتمة وخزي يوم القيامة، وفي هذا يقول e : ( من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس) وفي رواية أخرى: (من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم، فإن حقًّا على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة)(4).
وثمة أحاديث أخرى في هذا المعنى، وكلها تدل على بشاعة هذا التصرف ورداءته وأثره السيء على حركة النشاط الاقتصادي على المستوى المجتمعى .
ومهما يكن من شيء، فإنه يمكننا الخلوص إلى القول بأن عدم تداول المال، بسبب الاحتكار أو بغيره، يقود إلى إصابة المجتمعات بالطبقية ، كما يفضى إلى شيوع الجرائم واللا استقرار في المجتمعات؛ وذلك لأنها تغدو ثمة طبقة تموت من التخمة، وطبقة بالمقابل تموت من الجوع والعطش .
4: 4 تحريم الاكتناز تثبيت لمقصد ديمومة تداول المال :
لئن أثبتنا من قبل كون تحريم الاكتناز مستهدفًا تقرير مقصد استدامة تنمية المال، فإن تحريمه استهدف _ فضلاً عن ذلك _ تقرير مقصد ديمومة تداول المال وتقلبه في أيد متعددة؛ وذلك لأن الاكتناز لا يحجب المال عن الاستنماء فحسب، ولكنه يحجبه أيضًا عن التداول والرواج؛ مما يجعله وسيلة من الوسائل الوبيلة التى تحول دون الحفاظ على المقصدين المذكورين ، فالمكتنز في حقيقته يرتكب جرمين خطيرين في حق مجتمعه، أولهما: حجب المال عن أوجه التنمية المشروعة والمنشودة؛ مما يؤدى في النهاية إلى نشر البطالة والعطالة في المجتمع، وثانيهما : حجبه المال عن أوجه التداول والتقلب في أكثر من يد؛ مما يؤدى إلى إصابة المجتمعات بضعف وهزال في مواردها ومشاريعها التنموية . إنه ليس بخافٍ ما ينتج عن هذه الأحوال الكئيبة التى تخلفها آفة الاكتناز وآفة الاحتكار في المجتمعات من ارتفاع في نسبة الجرائم المادية والخلقية نتيجة اختلال التوازن بين العرض والطلب وبين الرغبات والقدرات .
ونظرًا إلى أننا قد عنينا بتسليط الضوء على تلك الآثار الوخيمة التى تنتج عن ظاهرة الاكتناز في المجتمع على المستوى الاقتصادي ، فإننا لا نرى من حاجة إلى مزيد من الإيضاح حول أثر هذه الظاهرة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات التى تفشو فيها. وعليه، فإننا نخلص إلى القول بأنه من واجب المجتمع متمثلاً في ولي الأمر على سائر الأصعدة مكافحة الاكتناز والحيلولة دون صيرورته سلوكًا لأفراد المجتمع؛ تحقيقًا للرخاء الاقتصادي والاستقرار الأمنى للمجتمع برمته .
وعلى كلٍّ، فإننا نود في ختام هذا الحديث، أن نشير إلى أن الشرع الحكيم لم يكتف بتحريم كل من الاحتكار والاكتناز وسواهما من المعاملات التى تأتى على هذا المقصد من الأساس بالاستئصال والإبادة ، وإنما عنى في المقابل بالحث على سائر المعاملات التى تقوم على عنصر التعاون والتكامل والتساند كما هو الحال في عقود المشاركة من عنان، وأبدان، ومفاوضة، ومضاربة، ومرابحة وغيرها، فهذه الشركات وسائل أكيدة لتحقيق مقصد ديمومة التداول، وفضلاً عن ذلك، فإن الشرع اعتبر الأصل في المعاملات الإباحة، كما رجح جانب المصلحة على المفسدة في أكثر الأحيان ، حيث إنه اغتفر في عدد من عقود المقايضة الغرر اليسير، كما هو الحال في المغارسة والمساقاة وغيرها من العقود التى يكتنفها الغرر، وفي هذا يؤكد الإمام ابن عاشور قائلاً: ( .. ومن وسائل رواج الثروة تسهيلات المعاملات بقدر الإمكان، وترجيح جانب ما فيه المصلحة على ما عسى أن يعترضها من خفيف المفسدة .. وشرعت المعاملات على العمل مثل المغارسة والمساقاة، واغتفر ما في ذلك من غرر، قصدًا في جميع ذلك إلى تسهيل المبادلة لتيسير حاجات الأمة)(1) …
ولهذا ، فإن تكن ثمة حكمة في تشريع عقود المشاركة والمرابحة والمضاربة وغيرها، فإن الحكمة الأجل تتمثل في رغبة الشارع في الحفاظ على ديمومة تداول وتقلب المال وتحصيل أكبر عدد من أفراد المجتمع على نمائه وزيادته؛ مما يحقق لهم جميعًا في نهاية المطاف الرخاء الاقتصادي والرفاهة الشاملة.
5_ مقصد تحقيق الرفاهية الشاملة للفرد والمجتمع
لقد أسلفنا من قبل أن الحفاظ على استدامة تنمية المال استهدف الخروج بالمال من عالم الاكتناز الضيق ومن عالم الإسراف المقيت والتبذير المدمر والتقتير المبدد إلى عالم الاستنماء والازدياد والتثمير والتكثيف ، كما أثبتنا أن تقرير مقصد ديمومة تداول المال ورواجه، تغيا الانتقال بالمال من أن يكون منحصرًا في أيدى فئة قليلة من أفراد المجتمع إلى أيدى فئات كثيرة من المجتمع، وبناء على هذا، فإنه يمكن القول بأن استدامة تنمية المال وديمومة تداوله ورواجه لا تكفيان لتحقيق جميع مقاصد الشرع في الاستثمار ، بل هنالك مقصد أعلى لابد للاستثمار من أن يحققه في الاستثمار، ويتمثل ذلك المقصد فيما نصطلح عليه في هذه الدراسة بمقصد تحقيق الرفاهة الشاملة لجميع أفرد المجتمع الإسلامي، ويروم هذا المقصد أن يؤدى الناتج من الاستثمار في المنظور الإٍسلامي إلى (..إشباع كافة الحاجات الإنسانية الأساسية، وإزالة كافة الأسباب الرئيسية للمتاعب والمصاعب، وتحسين نوعية الحياة معنويًّا وماديًّا . )(1) عونًا للفرد والمجتمع للقيام بمهمة الخلافة لله في الأرض وعمارة الكون وفق المنهج المراد له جل جلاله .
فلئن كانت استدامة تنمية المال وديمومة تداوله مقصدين جليلين، فإنهما مقدمتان ضروريتان لمقصد تحقيق الرفاهة الشاملة لجميع أفراد المجتمع، بحيث يتم التخلص من الفقر والفاقة والعوز في حياة الأفراد ، وذلك عبر سائر السبل والأساليب الاستثمارية المعينة على تحقيق هذه الغاية العظمي، وعليه، فاعتبارًا لمكانة هذه الغاية والتفاتًا لما ينبغي أن يحول إليه الأمر بعد تنمية المال وتداوله، فإنه يمكننا القول بأن مقصد تحقيق الرفاهية الشاملة للفرد والمجتمع يشكل أحد أهم المقاصد الأساسية للمعاملات عامة وللاستثمار خاصة من المنظور الإسلامي؛ لذلك، فإن مهمة الاستثمار لا تتوقف عند تنمية المال وتداوله فحسب، وإنما تتجاوز ذلك إلى دائرة تحقيق الرفاهية والسعادة للفرد والجماعة.
وتقريرًا لهذا المقصد، فإننا نجد الإسلام سدّ الباب أمام الرهبانية وتبرأ من سائر صنوف الانقطاع السلبي عن المشاركة في معترك الحياة والعيش في كنف الناس، وفي هذا يقول الباري جل ثناؤه : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد: 27) ، كما نجده يعتبر العمل واجبًا يثاب عليه المكلف ويعاقب على تركه بلا عذر، وفي ذلك يقول _ جل جلاله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون} بل إن الإٍسلام ربط بين الإيمان والعمل الصالح، فما من آية يذكر فيها الإيمان إلا ويذكر بجانبه العمل الصالح؛ مما يؤكد تقرير السعى والعمل من أجل تحقيق الرخاء الاقتصادي والاستقرار الأمنى لجميع أفراد المجتمع الإٍسلامي .
إن تحريم الشرع الكسل والمسألة(2) والدعة وجميع أخلاقيات التخلف استهدف من وراء ذلك تحقيق هذا المقصد الذي يرتهن وجوده وتحقيقه باستدامة تنمية المال وديمومة تداوله وتقلبه، بحيث يكون لكل فرد في المجتمع عمل يشبع من خلاله حاجته الأساسية، ويرفع عن نفسه من خلاله كافة المتاعب والمصاعب .
كما أن سد الإسلام الباب أمام أي أسلوب استثماري يحقق الرفاهية للفرد دون المجتمع، كما هو الحال في الربا والاحتكار والاكتناز وغيرها، استهدف من ذلك كله تحقيق هذا المقصد الذي يحقق للمال وظيفته ودوره في تحقيق الرفاهة للفرد والجماعة . فالرفاهية المنشودة في المنظور الإسلامي رفاهية يجب أن تتحقق للفرد والجماعة معًا ، فإن تحققت لأحدهما دون الآخر، فإنها لا تكون رفاهة معتبرة من المنظور الإٍسلامي؛ ذلك لأن الإسلام يرى في مصالح الفرد والجماعة تداخلاً وتكاملاً وترابطًا، ولا يرى الفصل بينهما على هذا المستوى .
وعلى العموم، فإن ما أوردناه من أدلة مقررة للمقصدين المذكورين، تصلح أن تكون أدلة لهذا المقصد، وذلك بوصف المقصدين مقدّمتين ضروريتين لهذا المقصد العظيم؛ ولهذا، فإننا نرى أن نتجاوز سرد الأدلة التى سبق لنا أن أوردناها من قبل .
على أنه من الأمر الجدير بالتأكيد عليه هو أن تحريم بعض الأساليب الاستثمارية الموهومة من ربا واحتكار يعود في حقيقة الأمر إلى الحيلولة دون تحقيق هذا المقصد، فضلاً عن مقصدى الاستنماء والتداول، ومرد هذا إلى طبيعة هذه الأساليب التى تستعلى عليها الفردية والنرجسية والأنانية والأثرة والطمع، وهذه كلها آفات وأمراض لا بد للاستثمار الإسلامي من التجنب في الوقوع فيها، وذلك عن طريق الابتعاد عنها وعن كل ما يوصل إليها .
وأيًّا ما كان الأمر، فإنه يمكن الانتهاء إلى تقرير القول بأن هذا المقصد هو الذي يجعل الاستثمار في حد ذاته وسيلة لغرس السعادة في النفوس؛ لما ينتج عنه من تأمين لاحتياجاتهم وانتشالهم من بؤر الحرمان والبؤس والضنك، فيتحقق لهم بسبب ذلك سمو روحي، وتهذيب نفسي يقوم على الإيثار والأخوة والرحمة.
وعليه، فإنه من واجب المستثمر المسلم ومجتمعه الإسلامي التطلع إلى حياة الرفاهية والسعادة والاستقرار، وذلك من خلال الاجتهاد في الإنتاج والاستثمار توليدًا وزيادة .
إن تحقيق هذا المقصد الأسمى من الاستثمار لا يحقق الاستقرار والأمن والأمان للفرد فحسب بل للمجتمع بأسره، بل إن تحقيقه يجعل المجتمع الإسلامي في موقف نموذجٍ يحتذي به أمام المجتمعات الأخرى غير الإسلامية ، فيكون ذلك برهانًا ساطعًا على أن تطبيق المنهج الإسلامي في الجانب الاستثماري كفيل بإيجاد مجتمع ترفرف فيه راية العدالة والاستقرار والطمأنينة والتراحم والتواصل .
وبناء على ما سبق، فإنه يمكننا الخلوص إلى القول بأن هذا المقصد يكاد يكون مقصد المقاصد، فإن تحقق من الاستثمار كان ذلك فتحًا كبيرًا، وإن عجز المستثمر عن تحقيقه، فإنه لا بد من مراجعة أسباب الإخفاق، سعيًا إلى تصحيح المسار وتحقيق هذا المقصد الأجلّ .
وعند هذا القدر، يتبين لنا كون المقاصد الثلاثة التى أوسعناها جانب التأصيل والتحقيق من مهمات مقاصد الشرع العامة من الاستثمار ، وبطبيعة الحال، لا ننكر وجود مقاصد فرعية كثيرة يمكن أن تنبثق أو تتفرع عن هذه المقاصد الأساسية العامة ، كمقصد تخفيف حدة التفاوت في توزيع الثروة، وتحقيق الحد الأدنى من المعيشة لكل فرد من أفراد المجتمع، وتحقيق مطالب الإنسان الروحية والنفسية وغيرها، فهذه المقاصد كلها من الممكن أن تندرج ضمن مقصد تحقيق الرفاهية الشاملة للفرد والمجتمع .
خاتمة
أولاً: في ضوء ما سبق، يمكننا الخلوص إلى القول بأن ثمة حاجة إلى مزيد من الدراسات العلمية المنهجية حول تأصيل القول في هذا الموضوع الهام في هذا العصر، كما أننا ندعو الباحثين في الاقتصاد الإسلامي المعاصر إلى إيلاء البعد المقاصدي جانب الاهتمام والاعتبار عند الهم بتكييف أسلوب استثماري حديث، فبقدر ما تتضح مقاصد الشرع في ذهن المجتهد، بقدر ما يكون تخريجه وتكييفه للمعاملة الحديثة تكييفًا موفقًا ، والعكس صحيح.
ثانيًا : ولئن ضنت الأبحاث الإسلامية الاقتصادية المعاصرة عن الحديث عن هذا الموضوع بصورة علمية مؤصلة، فإنه لا يزال في الوقت فسحة لتناول هذا الجانب المظلوم من دراستنا الاقتصادية الإسلامية المعاصرة .
ثالثًا : إن الحكم على الأساليب الاستثمارية الحديثة، ينبغي أن ينبثق عن اجتهاد معاصر قائم على مراعاة مدى تحقق مقاصد الشرع منها والتى تتمثل فيما أوردناه من مقاصد، بحيث إذا ألفينا الأسلوب الاستثماري غير متعارض مع هذه المقاصد ومحققا لها، عندئذ يعتبر ذلك الأسلوب مشروعًا وحلالاً لمن أراد أن يتخذه وسيلة لاستثمار أمواله، ولا ضير ألا يكون ذلك الأسلوب مشهورًا أو مغمورًا عند الفقهاء الأقدمين، مادام لا يتعارض مع مقاصد الشرع في الاستثمار . وأما إذا وجدنا الأسلوب الاستثماري الحديث متعارضًا مع المقاصد الشرعية المذكورة ، فإنه يجب نبذه والإعراض عنه مطلقًا ولو كان أسلوبًا مشهورًا ومعتبرًا عند الفقهاء الأقدمين .
إن هذا الاعتبار يقوم على النظر إلى الوسائل الاستثمارية بوصفها وسائل ظرفية ذات تأثر بعاملي الزمان والمكان، وبالتالي، فإنها لا ينبغي لها أن تكون ثابتة أو خالدة ، بل هي تتأثر من حيث فعاليتها وعدم فعاليتها بعاملي الزمان والمكان؛ ولذلك فإن الاعتداد بوسيلة استثمارية موروثة ينبغي أن يتوقف على مدى تحقيقها مقاصد الشرع في ضوء الواقع المعاصر، كما أن العمل بوسيلة استثمارية قديمة يتوقف هو الآخر على مدى تقبل البيئة الحديثة لها.
رابعًا: وعليه، فليس من المقبول في شيء أن تظل ثمة دعوات إلى إحياء الوسائل الاستثمارية التقليدية في صورتها التقليدية التى كانت تتم بين الأفراد في هذا العصر دونما تمحيص لمدى صلاحية تلك الوسائل للاستثمار في هذا العصر. ولحكمة ما اكتفى الشارع الحكيم بالإِشارة إلى بعض من الأساليب الاستثمارية التى كانت سائدة دون أن يقرن تلك الإشارة بوجوب أو استحباب في أكثر الأحوال، انطلاقًا من إدراك الشارع بما يطرأ على الوسائل الاستثمارية من تغير وتطور يؤثران في فعاليتها وجدواها .
خامسًا : إنه لا بد من الكف عن البحث عن جذور قديمة لأساليب استثمارية حديثة، وبدلاً من ذلك ينبغي النظر في مشروعية تلك الأساليب في مدى انسجامها مع مقاصد الشرع. فلقد أثبتت الأيام أن معظم التخريجات والتكييفات الفقهية للمعاملات المالية الحديثة والتى يركن إليها علماؤنا المعاصرون في الاقتصاد الإسلامي، تتسم في أكثر الأحيان بانتهاج المنهج الإسقاطي التطويعي المتكلف. فلئن كانت المعاملات المالية تتم في العصور الغابرة في صورة فردية، فإنها غدت في هذه الأيام تتم في صورة مؤسسة في أكثر الأحيان؛ مما يجعل حمل إحداهما على الأخرى محل نظر ونقد، وذلك لانتفاء التماثل والتشابه بين الأصل والفرع من حيث التكوين والتشكل.
وأخيرًا: ومهما يكن من شيء، فإن الأمل معقود في أن تشهد الساحة الإسلامية الاقتصادية في الأيام القادمات دراسات مقاصدية مركزة يقوم بها أفراد أو مؤسسات يؤمنون بضرورة تفعيل الحياة الاقتصادية المعاصرة بتعاليم الشرع الحنيف عن طريق الكشف عن الغايات والأسرار والحكم والمعاني المرادة لله في تشريعاته المالية . هذا ، والله أعلم بالصواب .
المراجع
(1) انظر: مقاصد الشريعة الإٍسلامية _ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور _ تحقيق ودراسة: محمد الطاهر الميساوي ( .. البصائر للإنتاج العلمي، طبعة أولى 1998م) ص 333 .
(1) هذه هي خلاصة ما انتهى إليه ابن عاشور في حديثه عن مقاصد الشرع في الأموال بشكل عام، وثمة تحقيقات رائعة لهذه المقاصد الخمسة، ولكنها تظل تصورًا عامًّا عن مقاصد الشرع في الأموال، سواء المنعقدة منها على الأموال أو على الأبدان؛ مما يتطلب مزيدًا من الدراسة العلمية المركزة . انظر : مقاصد الشريعة ص 338 _ 357 باختصار .
(2) انظر: علال الفاسي : مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها .. ( دار الغرب الإسلامي ، طبعة خامسة 1993م ) ص 7 .
(1) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها _ مرجع سابق _ ص 41 _ 42 باختصار .
(2) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها _ مرجع سابق _ ص 43 وما بعدها .
(3) انظر: إبراهيم بن موسى اللخمى الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة _ شرح وتخريج الشيخ عبد الله دراز، ووضع تراجمه محمد عبد الله دراز، وتخريج آياته وفهرس موضوعاته عبد السلام عبد الشافي محمد (بيروت ؛ دار الكتب العلمية ..) م1 ج2 ص134 باختصار .
(4) انظر: الموافقات _ مرجع سابق م1 ج2 ص 136 باختصار .
(1) انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور _ مرجع سابق _ ص 171 .
(2) انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور _ مرجع سابق _ ص 300 .
(3) انظر: أحمد الريسوني : نظرية المقاصد عند الشاطبي ( الرياض، الدار العالمية للكتاب الإسلامي ، طبعة ثانية 1992م) ص 7 باختصار .
(4) انظر: نظرية المقاصد عند الشاطبي _ مرجع سابق _ ص 8 باختصار .
(5) انظر: نظرية المقاصد عند الشاطبي _ مرجع سابق _ ص 8 باختصار .
(1) وتحدد المعاجم الفلسفية المعاصرة المعنى المراد بالاستقراء بأنه عبارة عن المبدأ الذي نصل بواسطته إلى حكم ينطبق على جميع الجزئيات أو الحالات المشابهة لما عرفناه، بناء على ملاحظة عدة جزئيات أو عينة من الحالات (انظر : جميل صليبا: المعجم الفلسفي (بيروت ، دار الكتاب اللبناني ، طبعة 1982م) ج1 ص 72 باختصار .
وللعلم فإن الاستقراء يعتبر أهم مسلك يتوصل به إلى مقاصد الشريعة، وقد أكد هذا الإمام ابن عاشور عند حديثه عن طرق إثبات مقاصد الشريعة، وقال ما نصه : ( .. الطريق الأول : وهو أعظمها، استقراء الشريعة في تصرفاتها ) انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور _ مرجع سابق _ ص 125باختصار .
(1) انظر: الموسوعة الاقتصادية _ راشد البراوي _ ( القاهرة ، مكتبة النهضة العربية، طبعة ثانية، عام 1987م) ص 200 باختصار .
(2) انظر: الإسلام والتنمية الاقتصادية _ شوقى دنيا _ (القاهرة، دارالفكر العربي، طبعة أولى، 1978م) ص 95 وما بعدها .
(1) انظر: نحو نظام نقدي عادل في الإسلام _ محمد عمر شابرا _ ترجمة سيد محمد سكر، ومراجعة رفيق المصري ( عمان، دار البشير للنشر والتوزيع، طبعة ثانية، عام 1990م) ص 47 باختصار .
(1) انظر : معجم لغة الفقهاء _ محمد رواس قلعجي وصادق قنيبي _ ( بيروت ، دار النفائس ، طبعة أولى عام 1985م) ص 85.
(1) انظر: معجم لغة الفقهاء – محمد رواس قلعجي وصادق قنيبي (بيروت، دار النفائس، طبعة أولى، عام 1985) ص85 .
(1) انظر: العدالة الاجتماعية في الإٍسلام _ سيد قطب (بيروت ، دار الشروق، طبعة سادسة عام 1979م) ص 144 .
(2) انظر: خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي _ محمود أبو السعود _ ص 20 باختصار .
(1) انظر: حجة الله البالغة _ الشيخ أحمد شاه ولي الله الدهلوي (لاهور، طبعة المكتبة السلفية 1395هـ ) ج2 ص 106 .
(2) See: Employement, Interest and Money. (Mackillan st. Martins press 1970) p. 357.
(1) See: Economic Doctrines of Islam. by Islamic Publications Ltd., (Lahore, second edition 1980) v3 p. 98.
(1) انظر: مفاتيح الغيب الشهير بالتفسير الكبير _ فخر الدين محمد بن عمر (بيروت ، دار الفكر للطباعة والنشر، طبعة ثالثة، عام 1985م) ج7 ص 87 .
(1) انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي (الإمارات ، دبي، المطبعة العصرية، سنة 17، عام 1997م) د. عز الدين فراج _ مقال بعنوان: أثر الإسراف على الحياة الاقتصادية . ص 34 .
(2) انظر: تحرير ألفاظ التنبيه _ النووى _ ص 200 وما بعدها . وانظر : نظرية العقد _ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية _ ص 18 وما بعدها .
(1) الانكماش يراد به اقتصاديًّا : انخفاض حجم الإنفاق النقدي بنسبة تزيد على مثيله في العرض الكلي من السلع والخدمات ، وبعبارة أخرى: هو زيادة العرض الكلي من السلع والخدمات بنسبة أكبر من الزيادة في حجم الإنفاق النقدي . ويكون مصحوبًا عادة بتدهور في الأثمان. انظر: الموسوعة الاقتصادية _ راشد البراوى (القاهرة ، مكتبة النهضة العربية، طبعة ثانية 1987م) ص 87 .
(2) انظر: مقدمة في الأسس الفكرية والتطبيقية للنظم الاقتصادية _ ص 46 وما بعدها .
(1) انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور _ مرجع سابق _ ص 340 باختصار .
(1) انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور _ مرجع سابق _ ص 341 بتصرف واختصار .
(1) انظر: الخراج _ أبو يوسف _ ص 83 باختصار .
(1) يراد بالبطالة الانكماشية البطالة التى تنجم عن انخفاض حجم الإنفاق النقدي بنسبة تزيد على مثيله في العرض الكلي من السلع والخدمات. وبعبارة أخرى: هو زيادة العرض الكلي من السلع والخدمات بنسبة أكبر من الزيادة في حجم الإنفاق النقدي. ويكون مصحوبًا عادة بتدهور في الأثمان، فتدهور في الوظائف والأشغال والأعمال . انظر : الموسوعة الاقتصادية _ راشد البراوي _ ( القاهرة ، مكتبة النهضة العربية، طبعة ثانية 1987م) ص 87 .
(2) انظر: البراوي، راشد : الموسوعة الاقتصادية ( القاهرة ، مكتبة النهضة المصرية، طبعة ثانية 1987م) ص 29 وما بعدها .
(1) انظر: العدالة الاجتماعية في الإسلام _ مرجع سابق _ ص 133 .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (بيروت ، دار إحياء التراث العربي، طبعة 1954م) ترقيم العالمية في كتاب المساقاة رقم 3013.
(3) انظر: دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي _ يوسف عبد الله القرضاوي_ ( القاهرة، مكتبة وهبة، طبعة أولى 1995م) ص 294.
(4) أخرجه أحمد في مسنده في كتاب مسند المكثرين من الصحابة ( مصر، دار المعارف، طبعة 1980م) ترقيم العالمية 4548 .
(1) انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور _ مرجع سابق _ ص 342 _ 343 باختصار .
(1) انظر: نحو نظام نقدي عادل في الإٍسلام – مرجع سابق _ ص 47 .
(2) وقد ورد هذا النهى النبوي الكريم في حديث ذلك الأنصاري الذي أمره الرسول بالغروب عن المدينة خمسة عشر يوما، يحتطب من خلالها. فلما عاد وقد أصاب عشرة دراهم . قال له رسول الله : هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصح إلا لثلاثة : لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع. (أخرجه أحمد في مسنده في كتاب باقي مسند المكثرين رقم 12316 .