زرع بييضة من امرأة ملقحة بحيوان منوي من زوجها في رحم امرأة أخرى حتى تلد، مقابل مبلغ من المال، أو دون مقابل مالي، لأسباب متعددة، قد يكون منها أن صاحبة البييضة لا يصلح رحمها للحمل،
أو ليس لها رحم مع وجود المبيضين صالحين أو أحدهما لإفراز البييضات، أو قد يكون تلك لرغبة صاحبة البييضة في أن تحافظ على صحتها، أو على رشاقتها وجمالها، أو لغير ذلك، من دواع ودوافع، لا تجوز شرعًا لعدة أمور:
الأمر الأول : عدم وجود زوجية بين صاحب الحيوان المنوي وصاحبة الرحم البديلة .
فإنه يشترط في جواز الإنجاب بين رجل وامرأة، أن يتم ذلك في ظل عقد زواج مستوف للأركان والشروط، التى بينتها أدلة الشرع، وفي الصورة التى معنا الآن لا توجد صلة زوجية، بين هذه الأم البديلة والرجل صاحب الحيوان المنوى، فيكون حملها لبييضة الأجنبية عنها، الملقحة من زوج المرأة حملاً غير مشروع .
فالذرية، وهم الأولاد ذكورًا كانوا أو أناثًا، مربوطون بالزوجية، أي لكي يكونوا أولادًا شرعيين، لابد أن يولدوا بين زوجين، يشير إلى هذا قول الله تبارك وتعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً }(1) وقوله عز وجل :{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}(2) .
والله عز وجل يمتن علينا في هذا النص الكريم _ بهذه النعم، نعمة جعل الزوجات من أنفسنا، ولسن من جنس آخر غير الجنس الآدمي، ونعمة البنين والحفدة الناتجين عن الزوجية، ونعمة الرزق من الطيبات، وإذا كان الامتنان لا يحدث إلا بالخير والنعم، فإن ضد هذه الأشياء لا يكون خيرًا ولا نعمة .
وقد بين الله عز وجل في كتابه الكريم أيضًا، أن من دعاء الصالحين : {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(3) .
وإذا تبين أنه لابد من وجود زوجية حالة، بين صاحب الحيوان المنوي وصاحبة البييضة، حتى يجوز التلقيح بينهما، وأن الذرية -بنين وبنات- لابد أن يكونــوا من زوجــين، فلا يجـــوز -إذن- أن تحمل امرأة جنينًا لامرأة أخرى.
الأمر الثاني : وجود ارتباط شرعي بين حق الإنجاب من رحم معينة وجواز الاستمتاع الجنسي بصاحبة هذه الرحم.
ونستطيع القول بقاعدة هي : كل من له حق الاستمتاع الجنسي بامرأة له حق شغل رحمها بالحمل منه، وكل من ليس له حق الاستمتاع الجنسي بامرأة ليس له حق شغل رحمها بالحمل منه .
ويحتاج كل شطر من شطري هذه القاعدة إلى دليل يؤيده، أما الدليل على أن كل من له حق الاستمتاع بامرأة له حق شغل رحمها بالحمل منه، فهو أنه لا يجوز لأي زوجة أن تمنع نفسها من الحمل دون موافقة زوجها، فمن حقه أن ينجب منها ولو كانت رافضة لذلك، إلا إذا كان رفضها بسبب أن الحمل يؤدى إلى الإضرار بها .
وأما الدليل على أن كل من ليس له حق الاستمتاع الجنسي بامرأة، ليس له حق شغل الرحم بالحمل منه، فإن الزاني بامرأة متزوجة لا ينسب الولد إليه، بل ينسب إلى زوج المرأة، يؤيد هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” الولد للفراش، وللعاهر الحجر” أي الولد ينسب لصاحب الفراش وهو الزوج .
وفي الصورة التى معنا ونريد التعرف على حكمها، نجد أن البييضة التى وضعت في رحم الأم البديلة _ هي مخصبة بحيوان منوي من رجل ليس له حق الاستمتاع بهذه الأم البديلة، فلا يجوز له _ إذن _ شغل رحم هذه الأم البديلة بالحمل منه .
الأمر الثالث : عدم قابلية الرحم للبذل والإباحة :
من المعروف عند علماء الشريعة، أنه يوجد أشياء قابلة للبذل والإباحة للغير، أي يجوز لصاحبها أن يعطيها ويبيحها لغيره عن طيب نفس، مثل المأكولات، والمشروبات، والملابس، والسيارات، والمساكن، وكتب العلم، ونحو ذلك، فهذه الأشياء وما ماثلها قابلة للبذل والإباحة للغير، ولهذا يجوز بيعها، وإجارة ما يصلح منها للإجارة، وإعارة ما يصلح لإعارته، كما يجوز هبتها، والتصدق بها، وغير ذلك من صور داخلة تحت جواز البذل والإباحة.
وهناك أشياء غير قابلة للبذل والإباحة للغير، أي لا يجوز شرعًا أن تعطى وتباح للغير، أو يسمح له بها، فلا تباع، ولا تؤجر، ولا تعار، ولا توهب، ولا يجوز التصدق بها، مثل استمتاع الرجل بالمرأة، فهو مقصور على الزوج، فله وحده حق الاستمتاع بها، بكل ألوان الاستمتاع التى أباحها الشرع له، من تقبيل، أو اتصال جنسي، أو غير ذلك مما هو مبين وموضح في كتب الفقه الإسلامي، ولا يجوز للزوج أن يسمح لأحد غيره بتعاطي هذا الشيء الذي قصره الشرع عليه، كما لا يجوز للمرأة نفسها أن تسمح لأحد غير زوجها بتعاطي هذا الشيء الذي قصره الشرع على زوجها، سواء أكان هذا السماح على صورة إجارة، أو هبة، أو إعارة، أو إهداء، أو تصدق ؛ لأن هذا الشيء من الأشياء التى لا تقبل البذل والإباحة .
وإذا كان الاستمتاع الجنسي غير قابل للبذل والإباحة، لتحريم بضع المرأة على غير زوجها، فإن رحمها يكون هو أيضًا غير قابل للبذل والإباحة من باب أولى ؛ وذلك لأن الاستمتاع ببضع المرأة حرمه الشرع على غير زوجها؛ لأنه يؤدى إلى شغل رحم هذه المرأة التى استمتع ببضعها، بنطفة لا يسمح الشرع بوضعها فيها، إلا في إطار علاقة زوجية يقرها الشرع .
فالرحم غير قابلة للبذل والإباحة لغير الزوج، وإلا ما اطمأن أحد إلى صحة انتساب أولاده إليه، ولا اطمأن أحد إلى صحة انتسابه إلى أبيه وأمه ؛ ولهذا كان عدم قابلية الرحم للبذل والإباحة أمرًا ضروريًّا، للمحافظة على صحة الأنساب ونقائها، والبعد عن اختلاطها المحرم في شريعة الإسلام وفي كل الشرائع الإلهية، وأصرح دليل على هذا هو تحريم الزنا، ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن هذه الصورة فيها معنى الزنا، لوضع حيوان منوي في رحم امرأة ليست زوجة لهذا الرجل، والزنا محرم لهذا المعنى، ولا يغير من الحكم أن الحيوان المنوي لغير الزوج أدخل الرحم مصاحبًا بييضة لقحت به ؛ لأن الممنوع إدخال حيوان منوي إلى رحم امرأة ليست زوجة لصاحب الحيوان المنوي، سواء أكان الحيوان المنوي أدخل إلى رحم هذه المرأة وحده، أم أدخل مصاحبًا بييضة لقحت به، فالتحما وأصبحا خلية واحدة .
الأمر الرابع : الشرع حرم كل ما يؤدى إلى حدوث النزاع والخلاف بين الناس :
حرم الشرع كل أمر يؤدي إلى حدوث الخلاف والنزاع بين الأفراد أو الجماعات؛ ولهذا وجدنا أن كثيرًا من الشروط التى اشترطها الشارع في صحة العقود التى تحدث بين الناس، إنما يراد بها سد أبواب الخلاف والنزاع بينهم، ودفع الأضرار عنهم، كاشتراط إمكان تسليم الشيء المبيع للمشتري، فلا يصح بيع سيارة سرقت مثلاً من صاحبها، ولا يعرف مكانها، ويتعذر على البائع تسليمها للمشتري، فهذا نوع من الغرر، أي الخطر على المشتري، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر.
وإذا كان الشرع نهى عن كل ما يؤدي إلى حدوث النزاع والخلاف بين الناس، فإن تأجير الأرحام سيؤدى في الغالب إلى حدوث هذا النزاع بين المرأتين، أيهما هي الأم، هل هي صاحبة البييضة الملقحة، أم هي التى حملت وولدت؟ بل الاحتمال قائم بصورة قوية أن يمتد الخلاف بين أطراف أخرى، ممن يمكن استفادتهم من ثبوت نسب الطفل إلى جهتهم، وخاصة إذا كان للطفل حقوق مادية، كالميراث من أبيه مثلاً، ومن أهداف الشريعة الإسلامية كما أشرنا، سد الأبواب التى تؤدى إلى حدوث النزاع والخلاف بين أفراد المجتمع، فكل ما يؤدي إلى حدوث نزاع بين الأفراد يكون غير جائز شرعًا .
وهذا النزاع والخلاف بين الأم البديلة والمرأة صاحبة البييضة الملقحة من زوجها، وقع بالفعل، فقد استأجر زوجان أمريكيان امرأة أمريكية متزوجة، لتقوم باستضافة البييضة الملقحة من الزوجين، حتى يكتمل نمو الجنين وتتم الولادة، مقابل أجر معين، وتم بالفعل هذا العمل الطبي، حتى حدثت الولادة، وكانت المفاجأة أن المولود طفل معاق، ومصاب بنقص بالغ في حجم الدماغ، بحيث إن من المؤكد أنه سيظل طوال حياته يعيش متخلفًا عقليًّا، وكان رد الفعل من زوج المرأة صاحبة البييضة أن رفض الاعتراف بالطفل، بل رفض أيضًا أن يدفع الأجر المتفق عليه، مدعيًا أنه ليس أبًا لهذا الطفل المعاق، وصُعِّد الأمر للقضاء فحكمت المحكمة بإثبات بنوة الطفل لزوج المرأة صاحبة البييضة، بناء على التحاليل الطبية واختبار الجينات، ومن المؤسف أن الزوجين أصرا على رفض استلام الطفل، وأودع في النهاية دارًا للحضانة، وتحملت مصاريف إيوائه بدار الحضانة شركة من شركات التأمين(1).
وحدث عكس هذا في بريطانيا، وأمرت المحكمة الأم البديلة في يناير سنة 1985م بعد ولادة الطفــل أن تحتفظ به(2)، ويلاحظ هنا تضارب في الأحكام عند اللجوء إلى القضاء .
وفي ألمانيا عرض على القضاء قضية تعد هي الأولى من نوعها، حتى إنها لفتت الأنظار إلى نقص في التشريع هناك، فقد حدث أن امرأة اتفقت مع امرأة أخرى على استضافة بييضة منها مخصبة من زوجها حتى تتم الولادة، نظير أجر وصل إلى سبعة وعشرين ألف مارك ألماني يستحق الدفع عند الطلب، وبعد تمام مدة الحمل وهي الأشهر التسعة، ولدت طفلة، وتم تسليمها لأبويها وفقًا لما هو متفق عليه، وقبضت الأم البديلة المبلغ الذى تم الاتفاق عليه بين الطرفين، ولم يحصل أي شك عند جميع الأطراف في نسب الطفلة، إلى أن حدث أن أجرى تحليل لدم الطفلة بعد عام من حدوث الولادة، وهنا حدثت المفاجأة، فقد أكدت البحوث أن الطفلة نتجت عن العلاقة العادية بين الأم البديلة وزوجها، وأن عملية زرع البييضة الملقحة من الزوجين صاحبي البييضة والحيوان المنوي لم تنجح، وعلى الرغم من ذلك فإن الأم البديلة لم تسترد طفلتها؛ لأنها كانت تسلمت المبلغ المتفق عليه، فأدى هذا العمل إلى سوق للنخاسة جديد يتفق مع العصر الحديث، وهو أن يبيع الإنسان أطفاله نظير ثمن معين !!(1) .
ومن القضايا التى حدثت في هذا المجال _ كما ذكر لي الدكتور جمال أبو السرور أستاذ أمراض النساء والولادة وعميد كلية الطب بنين بجامعة الأزهر شفاهة _ أنه حدث اتفاق بين زوجة وزوجها من ناحية وامرأة من ناحية أخرى لتوضع البييضة الملقحة من الزوجين في رحم المرأة الأخرى، وزرعت البييضة الملقحة في رحمها، ونما الجنين، وبالفحص الطبي تبين أن الجنين به بعض العيوب الخلقية التى يمكن علاجها بالتدخل الجراحي أثناء فترة الحمل، فرفضت الأم الحاضنة هذا الإجراء؛ نظرًا لأنه سيعرضها لمخاطر التخدير والجراحة، وضربت بعرض الحائط ما قد يحدث للجنين من أضرار نتيجة عدم علاج العيب الخلقي الذي شخصه الأطباء أثناء فترة الحمل. فأدى هذا النوع من التعاقد الغريب إلى عدم علاج إنسان كان يمكن علاجه بيسر لو كان في رحم أمه الطبيعية، هكذا نجنى على الأطفال بهذا العقد الغريب .
ويضاف إلى ما ذكرناه أن الأم البديلة قد تحمل بتوأم مختلفين في البييضة والحيوان المنوي، بأن تؤخذ بييضة ملقحة من زوج صاحبة هذه البييضة، وبييضة أخرى من امرأة أخرى ملقحة من زوجها، وتزرع البييضتان الملقحتان المختلفتان في المصدر في رحم الأم البديلة، فتحمل بتوأم مختلفي المصدر، مما يؤدى إلى النزاع بعد الولادة، لتعيين نسب كل طفل إلى أبويه الحقيقيين، وهذا ما حدث بالفعل، فقد نشرت صحيفة، “الجارديان” البريطانية، فضيحة من فضائح استئجار الأرحام حول السيدة “إنجيلا” التى تعاقدت معها أسرة غير قادرة على الإنجاب، لكن لم يقتصر الأمر على هذه الأسرة، بل قام الطبيب المختص بغرس بييضة أخرى ملقحة من زوجين آخرين، وقد تم هذا في شهر سبتمبر 1996م، ونما الجنينان نموًّا طبيعيًّا في رحم هذه المرأة، ومن الغريب أن “إنجيلا” دافعت عن نفسها وتذرعت بأنها تقوم بإدخال السرور على الأسر العاجزة عن الإنجاب(1).
الأمر الخامس : القاعدة الشرعية : الأصل في الدماء والنساء التحريم ما لم يرد إباحة :
من القواعد الشرعية الأصولية قاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد حظر، والأصل في الدماء والنساء التحريم ما لم يرد دليل يدل على الإباحة.
فتناول كل شيء نافع في الطعام والشراب، وكذا المعاملات واستثمار الأموال وغير ذلك مباح كله إلا إذا ورد في الشرع دليل يحرمه، أما في جانب النساء والدماء فالأمر مختلف، فإن الحكم معكوس بالنسبة للنساء والدماء؛ لأن الأصل فيها التحريم ما لم يرد دليل يبيحها، ولهذا قال العلماء : إذا تقابل في المرأة جانب الحل وجانب الحرمة، غلب جانب الحرمة، ومن أجل ذلك يمتنع الاجتهاد فيما إذا اختلطت امرأة يحرم زواجها منه _ كبنته، وأخته، وعمته _ بنساء قرية مجاورة، فلا يجوز الاجتهاد، ويتزوج من غلب على ظنه أنها ليست من محارمه ؛ لأن النساء في هذه الصورة ليس أصلهن الإباحة، وقال العلماء : إنما جاز الزواج في صورة النساء اللاتي يكون عددهن غير محصور رخصة من الله _ عزل وجل _ لئلا ينسد باب الزواج على الرجل(2) ؛ ومما يلفت النظر أن جانب النساء لا يقتصر الحظر فيه على الناحية الجنسية، بل هو أعم من ذلك، فيشمل النظر، واللمس، والخلوة، ولا يباح شيء من هذا إلا بدليل يبيح، وهذا مما يقتضى الحذر في إباحة أمر من أمور النساء، وضرورة بنائه على دليل شرعي .
وإذا ثبت أن الأصل في النساء والدماء الحظر حتى يقوم الدليل على إباحة النساء والدماء، فإننا لو طبقنا هذه القاعدة في القضية التى نتكلم فيها، وجدنا أنها تؤدى إلى تحريم استخدام رحم امرأة غير زوجة لرجل، لتضع في رحمها نطفته التى لقح بها زوجته ؛ لأنه لا يوجد دليل يبيح هذا العمل، والأصل أن كل ما يتصل بالنساء بخصوص وظيفة حفظ النوع يكون حرامًا، إلا ما قام الدليل على إباحته، وهو ما بينه الشرع من قصر ذلك على الزوجين وحدهما.
ولم يبح الاتصال بين الرجل والمرأة بالضوابط الشرعية إلا لأنه يؤدى إلى حفظ النوع، وكان في مقدور الله عز وجل أن يخترع الأشخاص اختراعًا، لكن إرادته وحكمته سبحانه اقتضت أن يرتب المسببات على الأسباب، فأباح الاستمتاع بشروطه ليحصل شغل الرحم بالأولاد، فيبقى النوع إلى ما شاء الله عز وجل .
من كل ما سبق نرى أنه لا يجوز تأجير الأرحام، للأدلة التى بيناها، ومن أبرزها أن الرحم ليست قابلة للبذل والإباحة، فلا تصلح أن تكون محلاًّ للإجارة؛ لأن الإجارة كما عرفها العلماء هي : “عقد على منفعة مقصودة، معلومة، قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم”.
“ومثل العلماء للشيء الذي لا يقبل البذل والإباحة ببضع المرأة، فإن الاتصال به قاصر على الزوج، ولا يجوز إباحة هذا الاتصال لغير الزوج، فلا يجوز أن يكون محلاًّ للإجارة(1)، فالرحم ليست محلاًّ قابلاً للبذل والإباحة، فلا يصح إجارتها .
وإذا كانت منفعة الرحم لا يجوز أن تكون محلاًّ للإجارة، فلا يجوز أيضًا أن تبذل المرأة منفعة رحمها على سبيل الصدقة، كأن تكون قد قامت بهذا العمل على سبيل التطوع ومساعدة الآخرين ؛ لأن الصدقة لابد في صحتها من كون الشيء المتصدق به قابلاً للبذل والإباحة، والرحم _ كما بينا _ ليست قابلة للبذل والإباحة، فلا تصح الصدقة بمنفعتها .
بل ولا يجوز أن يكون هذا العمل من المرأة البديلة على سبيل الهدية، ولا على سبيل الهبة، أما أنه لا يجوز أن يكون على سبيل الهدية، وهي تمليك الغير شيئًا دون أخذ عوض منه، إكراما له، وتوددًا إليه، فلأنه لا يجوز شرعًا إهداء ما لا يجوز بذله وإباحته؛ ولهذا لا يجوز لأحد أن يهدى زوجته إلى آخر للاستمتاع بها، وأما أنه لا يجوز أن يكون هذا العمل على سبيل الهبة، وهي تمليك الغير شيئا دون أخذ عوض منه، لا طلبا للثواب، ولا إكرامًا وتوددًا فلأن الضابط في الهبة، هو أن كل ما جاز بيعه جاز هبته، والرحم لا يجوز بيع منفعتها فلا يجوز هبتها .
فاتضح _ إذن _ أن زرع بييضة من زوجة ملقحة من زوجها في رحم امرأة أخرى حتى تلد، لا يجوز شرعًا _ لا على أنه إجارة، ولا على أنه صدقة، ولا على أنه هدية، ولا على أنه هبة.
إلى من ينسب الطفل؟
إذا حدث الإنجاب بهذه الطريقة، فمع كونها عملاً محرمًا لا يجوز شرعًا، فإننا نبحث أيضًا في نسب الطفل من حيث الأبوة والأمومة إلى من ينتسب؟ كما بحث العلماء في ولد الزنا _ مع كون الزنا حراما _ إلى من ينتسب؟.
أما من ناحية الأبوة فإنني أرى أن الطفل الذي يولد عن طريق تأجير الأرحام، ينسب إلى زوج المرأة صاحبة البييضة المخصبة منه، إذا كانت الأم البديلة غير متزوجة، وتثبت له كل الحقوق المترتبة على ثبوت النسب، كالميراث، وكذا تثبت له صلات القرابات، كالأخوة، والعمومة، والجدودة، فأخو الأب هو عم له، وأبوه جده، وهكذا، ويترتب على ذلك المحرمية الثابتة بهذه القرابات، فلا يجوز للابن الذي نتج عن هذه العملية أن يتزوج إحدى بنات زوج المرأة صاحبة البييضة ؛ لأن أية بنت من بنات هذا الزوج هي أخت لهذا الابن، ولا يجوز كذلك أن يتزوج أخت هذا الزوج، لأنها عمة هذا الابن، وغير هذا مما يرتب على ثبوت النسب لأي إنسان.
هذا الحكم نقول به بناء على أمرين تخريجًا على حكمين في الفقه القديم، وتأسيسًا على حقيقة علمية حديثة :
الأمر الأول : التخريج على حكمين في الفقه القديم :
(1) من المألوف في علم الفقه الإسلامي أنه إذا حدثت قضية جديدة لم يجد الفقه المعاصر حكمًا لها في كتب الفقه، لكنه وجد حكمًا لأحد أئمة الفقه في قضية مشابهة، فإن الفقيه الباحث عن حكم القضية الجديدة يعطي لهذه القضية الحكم الذي أعطاه الإمام السابق، لكون القضيتين متشابهتين.
ومع أن هذا العمل العلمي في البحث عن الأحكام الشرعية هو قياس مسألة جديدة، لم يتبين الفقيه حكمها، على مسألة قديمة أفتى فيها عالم من العلماء بحكم شرعي، فإن العلماء يعبرون عن هذه العملية العلمية بالتخريج، ولا يعبرون عنها بالقياس، فيقولون مثلاً : حكم هذه القضية هو كذا تخريجًا على ما قاله الإمام أبو حنيفة، أو مالك، أو الشافعي، أو أحمد أو غيرهم من كبار علماء الفقه الإسلامي، في قضية سابقة هي كذا، ولا يقولون: إنهم يفتون بهذا الحكم قياسًا على ما قاله الإمام السابق، وهذا نوع من الاصطلاح في التعبير، ولعلهم في هذا يريدون التفرقة بين “عملية القياس” المصدر الرابع من مصادر التشريع في الإسلام، وهو إلحاق أمر لم يرد في الكتاب الكريم، أو السنة، أو الإجماع، بأمر ورد حكمه في أحدهما ؛ لاشتراك الأمرين في علة الحكم، نقول : لعلهم يريدون التفرقة بين عمل القياس والعمل الجديد، فالأصل في عمل القياس : إما نص قرآني، أو حديث نبوي، أو إجماع من علماء الأمة المجتهدين على حكم شرعي بعد عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل في التخريج ليس ما ذكرنا، وإنما هوحكم أفتى به أحد أئمة الفقه الإسلامي، فلعل علماءنا رأوا التفرقة في التعبير بين هذين العملين، نظرًا إلى هذا المعنى الذي بيناه.
بعد هذا نقول : إن ثبوت نسب الطفل المولود إلى زوج المرأة صاحبة البييضة المخصبة منه، نقوله تخريجًا على حكمين موجودين في المصادر الفقهية القديمة :
الحكم الأول: ما أفتى به فريق من العلماء من صحة نسبة ولد الزاني إلى الزاني، إذا كانت الزانية غير متزوجة، فبعد أن أجمع العلماء على أنه إذا ولد طفل من زوجين، فادعاه آخر لا يجوز إلحاقه به(1) لأن الولد لصاحب الفراش، استنادًا إلى ما ورد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : “الولد للفراش وللعاهر الحجر” .
وهذا الحديث له سبب ورود، فقد اختصم سعد بن أبي وقاص ورجل آخر اسمه عبد بن زمعة، أخو سودة بنت زمعة، إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم على غلام، ولدته جارية كان يملكها زمعة والد عبد بن زمعة، فادعى سعد بن أبي وقاص أن هذا الغلام هو ابن أخيه عتبة بن أبي وقاص ؛ لأن أخاه عتبة عهد إليه أنه ابنه، وأنكر عبد بن زمعة هذا الادعاء، فترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم الرسول بأن الولد ينسب لصاحب الفراش وهو هنا سيد الجارية، روى البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن عائشة رضى الله عنها قالت : فقال سعد : يارسول الله، ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة، هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى شبهًا بيّنًا بعتبة فقال : هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة : واحتجبي منه ياسودة بنت زمعة، فلم ير سودة قط” .
وفي رواية أخرى: هو أخوك يا عبد، وفي لفظ للبخاري : “الولد لصاحب الفراش”(2).
فهذا حديث يبين أن الولد ينسب لصاحب الفراش، وهو الزوج .
ويرى ابن قيم الجوزية أحد كبار فقهاء الحنابلة، أن في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعاة للشيئين، واعمالاً للدليلين؛ لأن الفراش دليل لحوق النسب، والشبه بغير صاحب الفراش دليل نفي النسب، وأعمل الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الفراش بالنسبة إلى المدعى لقوة الفراش، فأعمل الشبه الظاهر بعتبة بن أبي وقاص بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة بنت زمعة، قال ابن القيم بعد هذا البيان : “وهذا من أحسن الأحكام وأثبتها وأصحها، ولا يمتنع ثبوت النسب من وجه دون وجه، فهذا الزاني يثبت النسب منه بينه وبين الولد في التحريم والبعضية، دون الميراث، والنفقة، والولاية، وغيرها، وقد تتخلف بعض أحكام النسب عنه مع ثبوته لمانع، وهذا كثير في الشريعة(1) فلا ينكر من تخلف المحرمية بين سودة وبين هذا الغلام لمانع الشــبه بعتبة، وهل هذا إلا محض الفقه”(2).
نقول : بعد أن أجمع العلماء على أنه إذا ولد طفل من زوجين، فادعاه آخر لا يجوز إلحاقه به ؛ لأن الولد للفراش، اختلفوا فيما لو كان الطفل من زنا على غير فراش، أي بامرأة غير متزوجة، فجمهور العلماء، أي غالبيتهم، يرون أيضًا عدم جواز إلحاق ولد الزنا في هذه الصورة بالزاني، ويرى فريق آخر من العلماء غير هذا الرأي، فقال الحسن البصري : يلحق بالزاني إذا أقيم عليه الحد، ويرثه، وقال إبراهيم النخعي : يلحق بالزاني بأحد أمرين : إذا أقيم عليه الحد، أو ملك الموطوءة بالــــزواج أو ملك اليمين(3).
وذهب إسحاق بن راهويه إلى أن المولود من الزنا إذا لم يكن مولودًا على فراش يدعيه صاحبه، وادعاه الزاني ألحق به، وأوّل قول النبي صلى الله عليه وسلم : “الولد للفراش” على أنه حكم بذلك عند تنازع الزاني وصاحب الفراش، قال ابن القيم _ بعد أن ذكر هذا _(4) : “وهذا مذهب عروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، ذكر عنهما أنهما قالا : ” أيما رجل أتى بغلام يزعم أنه ابن له، وأنه زنى بأمه، ولم يدع ذلك الغلام أحد فهو ابنه، واحتج سليمان بن يسار بأن عمر بن الخطاب كان يليط “أي يلحق” أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام” .
وروى على بن عاصم، عن أبي حنيفة أنه قال : لا أرى بأسًا إذا زني الرجل بالمرأة، فحملت منه، أن يتزوجها مع حملها، ويستر عليها والولد ولد له(5) .
ويرجح ابن القيم المذهب المخالف للجمهور ويقول : ” وهذا المذهب كما ترى قوة ووضوحًا، وليس مع الجمهور أكثر من الولد للفراش، ثم رد ابن القيم على الاستدلال بهذا الحديث الشريف، بأن الذين يقولون بلحوق ولد الزنا بمن يدعيه إذا لم يكن مولودًا على فراش يدعيه صاحبه، يقولون بما يوجبه الفراش، لكن الكلام فيما لو لم يكن هناك فراش، ثم بين ابن القيم أن القياس يقتضي صحة هذا الرأي القائل بإلحاق ولد الزنا بمن يدعيه، وإذا ولد على غير فراش ؛ وذلك لأن الأب أحد الزانيين، فالزنا حادث من أبي الطفل وأمه، وإذا كان الطفل يلحق بأمه، وينسب إليها، وترثه، ويرثها، ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به، وقد وجد الطفل من الزانيين، وقد اشتركا فيه، واتفقا على أنه ابنهما، فما المانع من لحوقه بالأب، إذا لم يدع غير الأب هذا الطفل؟ (1) .
فإذا كان فريق من العلماء بهذه الدرجة من العلم والفقه لأحكام الشريعة يقولون بلحوق ولد الزنا بمن يدعيه، إذا لم يكن مولودًا على فراش يدعيه صاحبه، فإننا نقول تخريجًا على هذا الحكم _ بلحوق الطفل الذي ولد بطريقة تأجير الأرحام، بصاحب الحيوان المنوي، الذي لقحت به البييضة التى وضعت في رحم امرأة ليست صاحبة البييضة.
والحكم الثاني : الذي نقول بهذا الحكم تخريجًا عليه، هو ما قاله بعض العلماء من أن النسب يشترط فيه المشروعية أثناء إنزال المني، ولا يشترط فيه المشروعية أثناء الإدخال في المرأة(2)، وفي هذه الصورة التى نتكلم فيها، كان إنزال المني مشروعًا، لأنه كان بين رجل وامرأة تربطهما علاقة زوجية صحيحة . فالبييضة من المرأة ملقحة من زوجها، وليس من المحرمات تلقيح البييضة من الزوج، وإنما عدم المشروعية في تأجير الأرحام كان في الإدخال، فإن البييضة الملقحة من زوجين لا يجوز شرعًا إدخالها في رحم امرأة أخرى، ولا يشترط في ثبوت النسب _ كما يرى بعض العلماء _ المشروعية أثناء الإدخال.
هذا ما يتصل بتخريج هذا الحكم على حكمين ذكرهما الفقهاء القدامى، وهو الأمر الأول من الأمرين اللذين بنينا الحكم عليهما كا قلنا سابقًا وهما أولاً: التخريج على حكمين في الفقه القديم وثانيًا : التأسيس على حقيقة علمية حديثة، وإليك الكلام عن الحقيقة العلمية الحديثة التى تؤدي إلى القول بأن صاحب الحيوان المنوي _ وهو زوج المرأة الأولى _ هو أبو الطفل .
الأمر الثاني : التأسيس على الحقيقة العلمية الحديثة :
أدت الاكتشافات العلمية الحديثة واختراع المجهر (الميكروسكوب) إلى تبين أن أنسجة الجسم مكونة من خلايا، وكل خلية تحتضن نواة هي المسئولة عن حياة الخلية ووظيفتها، كما بينت هذه الاكتشافات الحديثة أن النواة في كل خلية تحوى المادة الإرثية بداية من الخواص التى تجمع بين الجنس البشري، وانتهاء بالتفصيلات التى تختص بالفرد فلا يشاركه فيها آخر، منذ خلق الإنسانية إلى انتهائها .
وتوجد المادة الإرثية في نواة الخلية من أجسام صغيرة جدًّا يسميها العلماء : الصبغيات (الكروموزومات) وهي تراكيب تشبه الخيوط في نواة الخلية حينما تكون على وشك الانقسام، ويوجد في كل خلية من خلايا الجسم الإنساني 46 كروموزوما، وهي على صورة ثلاثة وعشرين زوجًا، هي فرد من الأب وفرد من الأم، وقد تمكن العلماء من التعرف على هذه الأجسام الصغيرة، وترتيبها حسب تسلسلها، ابتداء من الزوج الأول وانتهاء بالزوج الثالث والعشرين(1) .
وتنقسم الكرومزومات إلى مجموعتين:
إحداهما : الكروموزمات الذاتية، وهي 22 زوجًا تتشابه تشابها تامًّا في كل من الذكر والأنثى، وهي التى تؤثر في الصفات الجسدية، كطول القامة، ولون الشعر، ولون العين، ولون البشرة، والقابلية للأمراض.
والمجموعة الثانية : هي الكروموزومات الجنسية، وعددها زوج واحد، وهو متماثل في الأنثي يسمى كرموزوم س X بينما يختلف هذا الزوج في الذكر، فرد من هذا الزوج يسمى كروموزوم X وهو مماثل لكروموزوم X الموجود عند الأنثي، والفرد الآخر الأقصر يسمى كروموزوم ص Y .
والكروموزومات الجنسية هي المسئولة عن الصفات الجنسية، وبينت البحوث العلمية أن العوامل الوراثية تنتقل من خلية إلى خلية أخرى أثناء الانقسام الخلوي .
والانقسام الخلوي يتنوع إلى نوعين :
أحدهما : انقسام خيطي، أي فتيلي، أو غير مباشر، وهو يؤدى إلى إيجاد خلية تماثل الخلية السابقة، الخلية الأم، وتحتوى نفس عدد الكروموزومات، أي 46 كروموزومًا، وهذا النوع من الانقسام الخلوي يحدث في كل خلايا الجسم الإنساني، عدا الخلايا الجنسية، أثناء النمو، والتئام الجروح، وتعويض الفاقد .
والنوع الثاني من الانقسام الخلوي : هو الانقسام الاختزالي، وهو يؤدى إلى إنتاج خلايا مختلفة عن الخلايا الأم، وبه يتم اختزال الكرموزومات الـ 46 إلى نصفها، وهو 23 كرموزومًا، وهذا النوع من الانقسام يحدث أثناء تكوين الأمشاج(1) في كل من خصية الرجل ومبيض الأنثي(2) ؛ ولهذا فإن النواة في كل من البييضة والحيوان المنوي تحتوى العدد النصفي من الكروموزومات، فإذا تم تلقيح البييضة بالحيوان المنوي فإن الخلية الناتجة، أي الملقحة، أو بتعبير آخر المخصبة تكون النواة فيها محتوية للعدد الكامل للكروموزومات، وهو 23 زوجًا، أي 46 كروموزومًا(3) .
ومما سبق يتبين أن انتقال البييضة من المرأة الملقحة بالحيوان المنوي من زوجها، إلى رحم امرأة أخرى ستكون حاملة للصفات الوراثية لكل من الرجل والمرأة الزوجين، ولا يغير من هذه الصفات الوراثية لهذه البييضة الملقحة انتقالها إلى رحم امرأة أخرى، فالرحم ليس إلا وعاء لغذاء الطفل، ولهذا فإننا نقول: إن الطفل الذي سيكون نتيجة تأجير الرحم، هو ابن للزوجين اللذين أخذت منهما البييضة الملقحة، وليست المرأة صاحبة الرحم المنقول إليها البييضة المخصبة أمًّا للطفل من النسب، وإنما هي أمه من الرضاع، تسرى عليها كل الأحكام التى تسرى على الأم من الرضاع، من تحريم الزواج، وجواز النظر الذي يجوز للمحارم والخلوة وغير ذلك.
وهذا إذا كانت المرأة صاحبة الرحم المنقول إليها البييضة المخصبة ليست زوجة وإنما خلية من الزواج، وأما إذا كانت زوجة فلا نستطيع أن نفتى إلا بنسبة الولد لها ولزوجها، اعتمادًا على الحديث : ” الولد للفراش وللعاهر الحجر” .
ومما يستأنس به في هذا المجال أننا وجدنا بعض الأحكام الشرعية تثبت على خلاف الظاهر، فقد نص العلماء على أنه إذا أتت المرأة بولد بعد ستة أشهر فقط من حين تزوجها فإن الولد يلحق بزوجها مع ندرة الولادة بهذه المدة، ولو زنا إنسان، ثم تزوجت الزانية، وأتت بولد لتسعة أشهر من حين الزنا، ولستة أشهر من تاريخ الزواج، والزوج ينكر أنه حدث بينه وبينها اتصال جنسي، فإن الحكم كما قال العلماء هو إلحاق الولد بالزوج مع ظهور صدقه لأمرين :
أحدهما : الأصل، لأن الأصل عدم ثبوت نسبته إليه إلا بسبب .
والأمر الثاني : هو الغالب في أمر الحمل، لأن الغالب أن الولادة تكون بعد تسعة أشهر لا بعد ستة، فمع ظهور صدق الزوج لهذين الأمرين اللذين بيناهما فإن الولد لا ينسب إلى الزاني مع ظهور كونه منه؛ لأنها وضعته على تسعة أشهر، وذلك لحكمة هي أن الزوج يمكنه أن يدفع هذا عن نفسه باللعان(1)، وإنما المشكل أن يلزم بضرر لا يمكن له أن يدفعه عن نفسه(2) .
شبهات والرد عليها :
– قد يقال إن الطفل يجب أن ينسب إلى التى ولدته؛ لأن الأم هي التى حملت وولدت، ولأن الله _ عز وجل _ قال : {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُم}(1) . والرد على هذا أن الآية الكريمة جاءت في سياق الرد على المظاهرين، والمظاهر يقول لزوجته : أنت على كظهر أمي، فيدعى بهذه الكلمة أن زوجته أصبحت أما له، ويحرمها على نفسه بناء على هذه الكلمة، فجاء الرد من الله _ عز وجل _ بما يفيد أن زوجاتكم ليست أمهاتكم، وإنما أمهاتكم هن اللائي ولدنكم، فهذا النص الكريم يمكن أن يفهم على أنه من باب القصر الإضافي وليس قصرًا حقيقيًّا، والقصر الإضافي لا يفيد النفي في الحقيقة عن ما عدا المقصور عليه، فكأن معنى الآية يفيد خطاب المظاهر بأن زوجتك ليست أمك التى ولدتك، وهذا لا ينفى أن تكون هناك أُمٌّ أخرى غير التى جاء القصر الإضافي عليها، ففي مجال الشعر مثلا يمكن أن نقول : ما شاعر إلا شوقي، فهذا من قبيل القصر الإضافي وليس القصر الحقيقي، وذلك أن هنالك شعراء آخرين لكنهم ليسوا في قامة شوقي، وهكذا شأن القصر الإضافي، بخلاف القصر الحقيقي، فإن المعنى الذي يراد قصره فيه لا يحتمل إثباته فيما عداه ولو بأدنى صورة، كما نقول: إنما الله إله واحد، فهذا قصر حقيقي، والألوهية الواحدة مقصورة على الله _ عز وجل _ قصرًا حقيقيًّا، وعلى هذا فيمكن أن يكون القصر في قوله _ عز وجل _ { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُم…} الآية، قصرًا إضافيًّا ردًّا على من يزعم أن زوجته أم له وتكون محرمة عليه في الاستمتاع كزوجته، وبالتالي لا يصح في رأيي التمسك بهذا النص الكريم في نفي الأمومة عن صاحبة البييضة … .
– وأما ما يقال بقياس جواز الحمل عن طريق الرحم البديلة على جواز الرضاع فغير مسلم ؛ لأن الأصل في الرضاع من أجنبية عدم الجواز، وإنما أجيز للضرورة؛ لأنه قد يتوقف عليه حفظ حياة الطفل بعد ولادته إذا رفض أن يرضع من أمه أو لعدم نزول لبن لها، فالجواز هو الاستثناء من الأصل، والاستثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع فيه، فلا يجوز قياس الحمل عن طريق الرحم البديلة على الرضاع من أجنبية، وأيضًا فإن البييضة المخصبة لا تأخذ حكم الجنين بعد الولادة ؛ لأنها حتى مع وجود الحياة فيها إلا أنها حياة ليست حياة إنسانية وإنما هي كحياة الميكروبات والأميبا والفيروس وما أشبه ذلك، وليست محلاًّ للروح الإنسانية إلا بعد أن تصل إلى مائة وعشرين يومًا أو أربعين يومًا كما بينت بعض الأحاديث ذلك على خلاف بينها، والقول بأن الجنين له الحماية من التعدي عليه بأي نوع من أنواع التعدى لا يبرر جواز وجوده في الأصل، يبين ذلك ويوضحه أن الجنين لو كان من الزنا لا يجوز التعدى عليه أيضًا، لكن هذا ليس معناه أنه يباح وجوده من الأصل، فالجنين بعد ولادته طفلاً يباح استئجار الغير لإرضاعه لضرورة الحفاظ على نفسه، خلافًا للبييضة المخصبة فليست هناك ضرورة لوجودها بهذه الطريقة .
كما أن القول بأن الحيوان المنوي عندما التحم بالبييضة وكونا خلية واحدة أصبحا شيئًا جديدًا غير الحيوان المنوي والبييضة، غير مسلم به ؛ لأن الذي دخل رحم المستأجرة هو بييضة مخصبة بحيوان منوي التحما وكونا خلية واحدة، ومعروف أن الحيوان المنوي محرم في الأصل إدخاله إلى رحم امرأة ليست زوجة لصاحب الحيوان المنوي، ولو قيل بجواز تناول شيء محرم بعد تحويله إلى شيء آخر لكان من الجائز تناول لحم الخنزير إذا حولناه إلى طبيعة أخرى تختلف عن طبيعة لحم الخنزير، فلو أمكن علميًّا أن تحول اللحوم عامة أو لحوم الخنازير والكلاب إلى كبسولات مثلاً، تختلف طبيعتها عن طبيعة تكوين اللحوم في العادة لجاز بناء على ذلك تناول هذه المادة الجديدة التى هي في الأصل مادة محرمة، فالقول بأن الحيوان المنوي عندما التحم بالبييضة وكونا خلية واحدة غير مسلم به، وذلك لأن الخلية الجديدة التى تكونت من الحيوان المنوي والبييضة لا زالت تحمل خصائص كل من الجانبين جانب الحيوان المنوي وجانب البييضة ؛ فمن المعروف والمستقر علميًّا الآن بعد اختراع المجهر “الميكروسكوب” أن الخلية بعد تكونها من الحيوان المنوي والبييضة تحتضن نواة عليها شريط وراثي بواسطة الكروموزومات والجينات، وهذه الكروموزومات 46 كروموزمًا نصفها من الحيوان المنوي ونصفها من البييضة، فلا زالت خصائص الحيوان المنوي ووجوده في رحم الأم حتى النهاية.
المراجع :
1_ القرآن الكريم .
2_ التقنيات الطبية المتعلقة بالخصوبة بين الفكر الأخلاقي والقوانين والشريعة للدكتور عبد الله المصلوت . بحث مقدم إلى ندوة الضوابط الأخلاقية سنة 1997م بالمركز الدولي الإسلامي للدراسات والبحوث السكانية بجامعة الأزهر .
3_ بنوك النطف والأجنة _ دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي للدكتور عطا عبد العاطي السنباطي. دار النهضة العربية (1421هـ _ 2001م) .
4_ طفل الأنبوب للدكتور محمد على البار .
5_ الاستنساخ والإنجاب للدكتور كارم السيد غنيم، دار الفكر العربي (1418هـ _ 1998م) طبعة أولى .
6_ الأشباه والنظائر للسيوطي .
7_ نهاية المحتاج للرملي .
8_ مغنى المحتاج لمحمد الشربيني الخطيب .
9_ المغني لموفق الدين بن قدامة مطبوع مع الشرح الكبير لعبد الرحمن بن محمد بن قدامة المقدسي .
10_ نيل الأوطار للشوكاني .
11_ زاد المعاد في هدى خير العباد لابن قيم الجوزية .
12_ هكذا ألقى الله، رسالة إلى العقل العربي المسلم للدكتور حسان حتحوت.
13_ قراءة الجينوم البشري للدكتور حسان حتحوت، بحث مقدم إلى ندوة الوراثة والهندسة الوراثية المنعقدة بالكويت في 13 _ 15 أكتوبر 1998م .
14_ التشوهات الوراثية في الجنين للدكتور خالد عبد الله العلي، بحث مقدم إلى ندوة الانعكاسات الأخلاقية للأبحاث المتقدمة في علم الوارثة بالدوحة 13 _ 15 فبراير 1993م .
15_ قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام .