هدفنا من هذا البحث هو بيان المبادئ التأسيسية العامة للنظرية الإسلامية في مجال العلاقات الدولية، والمقصود بالمبادئ التأسيسية هنا هو مجموعة القيم، والموجهات العقدية، والأخلاقيات العملية، المستمدة من المصدر الأساسي للإسلام (القرآن والسنة)، وهي التي تشكل إطارًا مرجعيًّا ومعيارًا عامًّا؛ من المفترض أن تستند إليه النظريات والرؤى والمواقف التي تتبناها الجماعات والنظم والحكومات المسلمة في علاقاتها الدولية، وأن تلتزم بها قبل أن تدعو غيرها إليها من ناحية، وأن يُقاس على هذا الإطار سلوكها الفعلي في هذا المجال من ناحية أخرى.
وليس من مهمتنا -هنا- التطرق إلى النظريات والرؤى والمواقف الاجتهادية التي قال بها فقهاء الإسلام وعلماؤه ومفكروه، كجهد تنظيري منهم لتنظيم العلاقات الدولية للمسلمين في سياق مرحلة محددة جغرافيًّا وتاريخيًّا أو مكانيًّا وزمانيًّا، بكل ما أحاط بها من ملابسات داخلية وخارجية، وتوصلوا في ضوئها إلى تبني خيارات نظرية فقهية بعينها، من قبيل قسمة المعمورة في مرحلة من المراحل الماضية إلى ثلاث دور هي: دار الإسلام، ودار العهد، ودار الحرب.
وليس من مهمتنا -هنا أيضًا- أن نتطرق إلى تحليل السلوك الدولي الفعلي لجماعة أو حكومة أو دولة مسلمة -في هذه المرحلة أو تلك من تاريخ العالم الإسلامي- لمعرفة مدى اقتراب الممارسات السياسية العملية فيها من الأطروحات النظرية التي كانت سائدة خلالها.
مهمتنا تنحصر إذن في الكشف عن منظومة القيم الإسلامية العليا التي تشكل في مجموعها المبادئ العامة للنظرية الإسلامية في العلاقات الدولية، مع محاولة تأصيلها معرفيًّا (إبستمولوجيًّا)؛ استمدادًا من المصدرين الأساسيين في التشريع الإسلامي (القرآن والسنة)، واستنادًا إليهما.
ولكن قبل الانتقال إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى ملاحظة أساسية في هذا السياق، هي أنه كثيرًا ما يقع الخلط بين هذا المصدر الأعلى (القرآن والسنة النبوية الصحيحة)، وبين مصادر التشريع الإسلامية الأخرى -وفي مقدمتها الفقه- والممارسة السياسية للدولة الإسلامية عبر مراحلها التاريخية المختلفة، وقد يصل الخلط إلى حد إلغاء التمييز بين الإسلام والمسلمين، وبين نظريات الفقه واجتهادات العلماء من ناحية، وممارسات الدولة وقرارات الحكام والسلاطين من ناحية أخرى، ومن ثم يكون من اليسير الاستدلال بخطأ في الاجتهاد أو في الممارسة على بطلان المبدأ أو عدم جدواه، والأكثر خطأ من ذلك أن يتم حبس المبادئ والقيم المجردة التي جاء بها الإسلام في حقبة تاريخية محددة لا تتعداها.
ولتفادي مثل هذا النوع من الخلط فإنه من المفيد التأكيد على الآتي:
- أن القرآن والسنة هما أصل شريعة الإسلام، وفيهما بيان الإرادة الإلهية التي نزل بها الوحي على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكون منهاجًا يهتدي به البشر في ترتيب شئون حياتهم، وفي تنظيم علاقاتهم بعضهم ببعض، وفي تحقيق مصالحهم العامة منها، والخاصة.
وشريعة الإسلام بهذا المعنى هي الأصل، وهي المرجعية العليا للحكم على تصرفات البشر وتقييم أعمالهم وسلوكياتهم في كل زمان ومكان.
وإن وصف أمر ما بأنه أصولي أو شرعي، معناه أن الأساس الذي بني عليه مستمد من القرآن والسنة، وبالنسبة لموضوعنا فإن قواعد التعامل الدولي أو الخارجي شأنها في ذلك شأن قواعد التعامل الداخلي، إنما تستمد شرعيتها في المنظور الإسلامي من ارتباطها بتعاليم الإرادة الإلهية المعبَّر عنها في أصل الشريعة، وليس من ارتباطها بالإرادة الخاصة بالحكام، فتعاليم الإرادة الإلهية تتسم بالثبات والصلاحية لكل زمان ومكان، أما تقدير الظروف والملابسات التي تحيط بعملية صنع القرار واتخاذه؛ اهتداء بتلك الإرادة الإلهية فمستوى آخر له طابع عملي، ويتسم بالتغير والاختلاف والتنوع حسب ظروف الزمان والمكان.
- أن تراث الفقه الإسلامي هو حصيلة الاجتهاد البشري الذي قام به العلماء؛ وهم يسعون لاستنباط الأحكام الشرعية التي تتعلق بتفاصيل الحياة العملية اليومية، وتكييفها وفق مقتضيات المبادئ والقيم الإسلامية الأصولية، بما يسمح في النهاية بصياغة حياة الأفراد والجماعات والأمم على هداها.
وعليه فإن موضوع الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وذلك عبر النظر العقلي في النصوص وبذل الوسع في فهمها واستخراج الحكم منها، أو استنباط حكم جديد لأمر مستحدث (لا نص فيه)؛ من خلال عمليات التمثيل، أو الاستقراء والاستدلال القياسي[1].
وإذا نظرنا إلى الفقه -بهذا المعنى- في مجال العلاقات الدولية، فسوف نلاحظ أنه لم يكن مساويًا للقرارات والسياسات الفعلية للدولة الإسلامية في أي مرحلة من مراحلها التاريخية -بعد العهد النبوي- مع الإقرار بأن تلك القرارات والسياسات قد استندت إليه، وأسهم هو بدرجة أو بأخرى في بلورتها وصياغتها، وبالطبع في تقويمها والحكم عليها من الوجهة الشرعية.
- أن ممارسات الدولة الإسلامية في مجال العلاقات الخارجية -كما هي في مجال الشئون الداخلية- هي عبارة عن اختيارات للسلطات المسئولة، وهي محددة من حيث الزمان والمكان والوقائع، وهذه الممارسات يمكن الحكم على شرعيتها بمعرفة مدى التزامها أو ابتعادها عن الإجماع الشرعي الذي يحيط بها في كل مرحلة من مراحلها.
وكما أن احتمالات الخطأ في الاجتهاد الفقهي واردة، فإنها واردة أيضا في الممارسات السياسية المبنية علي اختيارات محددة، بل إن من المنطقي في هذا المستوى العملي أن تزيد احتمالات مجانبة الصواب؛ حتى في ظل توفر الاقتناع بالمبدأ العقيدي، والأخذ بمقتضيات الاجتهاد الفقهي؛ إذ إن ثمة عوامل أخرى كثيرة -داخلية أو خارجية وموضوعية ونفسية أو ذاتية- تؤثر بلا شك في عملية اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات.
إن ما نود قوله -باختصار- هو أن معطيات الممارسة التاريخية للسياسة الإسلامية في مجال العلاقات الدولية لا ترقى إلى مستوى المعطيات الفقهية الاجتهادية في التأصيل لنظرية العلاقات الدولية الإسلامية، وأن هذه المعطيات الفقهية ذاتها -على أهميتها- لا ترقى إلى مستوى المعطيات الأصولية العامة التي جاءت بها الشريعـة في أصلها الأول (القرآن والسنة)، وأن هذه العلاقة التراتبية بين أصل الشريعة، والاجتهادات الفقهية، والممارسات التاريخية، يجب أن تكون واضحة تمام الوضوح في الأذهان من حيث حجية كل منها، ومدى إلزامية ما تقدمه من معطيات تخص عملية التأصيل للعلاقات الدولية من المنظور الإسلامي، كما أنه من الأهمية بمكان في هذا السياق التمييز بين الثوابت التي تقدمها أصول الشريعة والمتغيرات التي تتضمنها آراء الفقهاء واجتهاداتهم، وخاصة فيما يتعلق بالممارسات التاريخية لتطور الدولة الإسلامية، وأنه لا يمكن أن يحل أحد المتغيرات محل أحد الثوابت؛ لا من حيث حجيته، ولا من حيث إلزاميته ووجوب العمل به.
وفي ضوء ما سبق، سوف نركز على بيان المبادئ العامة للنظرية الإسلامية في العلاقات الدولية، كما ترشد إليها أصول الشريعة من القرآن والسنة النبوية الصحيحة، دون الدخول في المستويين الآخرين: الفقهي والتاريخي؛ وفقًا للتوضيح السالف ذكره، مع ملاحظة أساسية هي أن ما يرد بشأن العلاقات الخارجية من قيم ومبادئ عامة، لا يقتصر الأمر به على هذا الشأن الخارجي فقط، وإنما ينصرف أيضا إلى كافة الشئون الداخلية (الفردية والجماعية)؛ حيث إن من أهم خصائص نظرية القيم الإسلامية هي وحدة معايير التعامل على كافة المستويات، فإذا كانت العدالة إحدى قيم العلاقات الخارجية، فهي أيضا وبالأساس إحدى قيم العلاقات الداخلية بمختلف تفريعاتها وتفاصيلها، وكذلك بالنسبة لمبدأ الوفاء بالعهد، والحرية، والتعاون،.. إلخ، ولا تعرف النظرية الإسلامية ظاهرة ازدواجية المعايير التي تتسم بها معظم السياسات الدولية المعاصرة.
وحتى تأتي منظومة القيم الإسلامية في مجال العلاقات الخارجية ضمن إطارها النظري العام، سوف نبدأ في القسم الأول من هذا البحث ببيان أصول الرؤية الإسلامية للعالم، ويلي ذلك في القسم الثاني الحديث عن منظومة القيم الخارجية أو الدولية؛ ثم ننهي بخاتمة نشير فيها إلى أن انحراف الأوضاع الدولية الراهنة عن منظومة القيم الإسلامية يؤثر سلبيًّا على السلم والاستقرار، ويضعف من فرص التعاون أو العمل المشترك في مجال العلاقات الدولية، وأن الواقع يتطلب ضرورة رد الاعتبار للقيم والمبادئ الإسلامية علي الساحة العالمية من أجل الإسهام في تصحيح هذا الانحراف، والقضاء على مصادر النزاعات والصراعات وعدم الاستقرار، وتحقيق الأمن والتقدم والرفاهية لشعوب العالم.
أصول الرؤية الإسلامية للعالم والعلاقة مع الآخر
تنبع الرؤية الإسلامية للعالم Islamic Weltanschauung من أصل عقيدي إيماني هو التوحيد؛ الذي يعني الإقرار بوجود الله وبوحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه هو خالق هذا الكون ومالكه الحقيقي الوحيد ولا شريك له، وهو الذي خلق الإنسان، وجعله خليفة في الأرض ليعمرها، وليتصرف فيها طبقًا لأوامره عز وجل، وامتثالاً لإرادته سبحانه: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير)[2]، ويتضمن الإقرار بوحدانية الله كمال العقيــدة من جهــتي الربوبية (الخلق والتربية) والألوهية (العبادة).
ولكن كيف تؤثر هذه العقيدة التوحيدية على رؤية العالم في المنظور الإسلامي؟
إن تأثيرها يبدو من خلال هيمنة مبدأ الوحدة Unity والوئام على الرؤية الإسلامية للعالم، ومن ثم نبذ التجزئة والصراع مع عدم التواني عن ردع أو منع الاعتداء من المحيط الخارجي، ولا يعبر مبدأ الوحدة عن مجرد فكرة نظرية أو فلسفة مثالية Utopia، وإنما هو متجذر اجتماعيًّا في وحدة الجنس البشري، وروحيًّا في وحدة الدين ورسالته، من حيث مصدرها وغايتها معًا، وبيان ذلك كالآتي :
- وحدة الجنس البشري:
قرر الإسلام وحدة الجنس والنسب للبشر جميعًا؛ فالناس لآدم، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، وحكمة التقسيم إلى شعوب وقبائل إنما هي التعارف لا التخالف، والتعاون لا التخاذل، والتفاضل بالتقوى والأعمال الصالحة التي تعود بالخير على المجموع والأفراد، والله تعالى رب الجميع يرقب هذه الأخوة ويرعاها، وهو يطالب عباده جميعًا بتقريرها ورعايتها، والشعور بحقوقها والسير في حدودها.
ويعلن القرآن الكريم هذه الحقيقة بمعانيها جميعــًـا في وضـوح فيقـول: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[3]، ويقول: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[4]، ويقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أشهر خطبة له في حجــة الـوداع: “إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بالآباء والأجداد، الناس لآدم، وآدم من تراب” ويقول: “ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية”[5].
وبهذا التقرير نفى الإسلام أية شرعية لكل دعاوى التعصب للأجناس، أو الألوان، أو الأعراق، وعقيدة الإسلام وحدها هي التي تقرر على هذا النحو -بوضوح وقطعية- وحدة الجنس البشري في إطار التنوع البناء، أو بالتعبير الماليزي[6] Bhinneka Tunggal IKA
- وحدة الدين:
قرر الإسلام وحدة الدين في أصوله العامة، وأكد على أن شريعة الله تبارك وتعالى للناس تقوم على قواعد ثابتة من الإيمان والعمل الصالح والإخاء، وأن الأنبياء جميعًا مبلغون عن الله تبارك وتعالى، وأن الكتب السماوية جميعًا من وحيه، وأن المؤمنين جميعًا في أية أمة كانوا هم عباده الصادقين الفائزين في الدنيا والآخرة، وأن الفرقة في الدين والخصومة باسمه إثم يتنافى مع أصوله وقواعده، ويتناقض مع غايته ومقاصده.
وإن واجب البشرية أن تتدين، وأن تتوحد بالدين، وأن هذا الدين الموحد هو الدين القيم وفطرة الله التي فطر الناس عليها، وفي ذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيه)[7]، ويقول الله تعالى مخاطبًا النبـي محمـــدًا (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير)، وفي قول للنبي صلى الله عليه وسلم تصوير بديع لهذا المعنى حيث يقول: “مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بني بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه[8]، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة! فأنا تلكم اللبنة وأنا خاتم النبيين”[9].
وهكذا نرى الإسلام يقدم للإنسانية مبدأ “وحدة الدين”، ويدعو إليه في وقت كانت الدنيا تشتعل بنيران الأحقاد الدينية، وتضطرم بسعير الخصومات المذهبية، وفي هذا المعترك الروحي المتأزم بفعل الخصومات والجهالات يطلع القرآن على الناس بهذه الدعوة الجديدة؛ دعوة التآخي في الدين والاجتماع على أصوله الحقة، والإيمان به كوحدة ربانية؛ إن اختلفت فيها الفروع بحسب الأزمان، فقد اتفقت فيها الأصول الخالدة الباقية؛ لأنها من الفطرة التي لا تقوم إنسانية الناس إلا عليها.
ونظرًا للأهمية البالغة لمبدأ وحدة الدين ودورها في بناء الرؤية الإسلامية للعالم وانعكاسها على منظومة القيم العليا الحاكمة للعلاقات بين الأمم والشعوب من منظور هذه الرؤية؛ فقد يكون من المفيد الاستطراد قليلاً في بيان الأسس المعرفية العقيدية لهذه الوحدة، وأهم مجالاتها التطبيقية المفترضة في إطار العلاقة مع الآخر غير مسلم .
إن آيات القرآن تنص صراحة على وحدة الدين، وتـأمر النبي وأصحابه بأن يكونوا أول المؤمنين بهذه الوحدة، فالمسلم يجب عليه أن يؤمن بكل نبي سبق، ويصدق بكل كتاب نزل، ويحترم كل شريعة مضت، ويثني بالخير على كل أمة من المؤمنين خلت، قال تعالى: {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[10] ثم يقفي على ذلك بأن هذه هي سبيل الوحدة، وأن أهل الأديان الأخرى إذا آمنوا كهذا الإيمان فقد اهتدوا إليها، وإن لم يؤمنوا به فسيظلون في شقاق وخلاف، وأن أمرهم بعد ذلـك إلى الله فيقــول: {فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}[11].
وثمة أساسان قويان لدعم الوحدة الدينية وإزالة كل شبهة يمكن أن تؤدي إلى جعل تعدد الرسالات السماوية مصدراً للصراع أو الحرب باسم الدين، وقد نص القرآن على هذين الأساسين كالآتي :
الأول: أن ملة إبراهيم هي أساس للدين ومرجع الأنبياء الثلاثة الذين عُرفت رسالتهم وهم: موسى وعيسى ومحمد عليهم – جميعًا – السلام.
الثاني: تجريد الدين من أغراض البشر وأهوائهم والارتفاع بنسبته إلى الله وحده.
نقرأ عن ذلك في سورة البقرة قول الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} إلى آخر الآيات (من 130 – 141 من سورة البقرة)، ونقرأ في آيات أخرى من سورة الأحزاب (آية 69)، ومن سورة النساء (آية 75)، ومن سورة آل عمران (آية 46)، ومن سورة المائدة (آية 44 وآية 75)، وفي آيات أخرى من سور أخرى؛ حيث نجدها تثني على الأنبياء جميعًا، وتقول: إن التوراة والإنجيل فيهما هدى ونور وموعظة للمؤمنين، ومن تلك الآيات ومن غيرها نخرج بنتيجتين تطبيقيتين في مجال علاقة المسلمين مع غيرهم، هما :
- أن التعامل بين المسلمين وغيرهم من أهل العقائد والأديان إنما يقوم على أساس المصلحة الاجتماعية والخير الإنساني، يقــول الله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [12].
- أن الحوار، أو الجدال بالتي هي أحسن ـ وليس الحرب ـ هو الوسيلة المثلى للتفاهم بشأن قضايا الإيمان والعقيدة، قال تعالى: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون}[13].
وإذا كان الحوار هو الوسيلة المعتمدة في مثل هذه القضايا على خطورتها وأهميتها؛ فإنه يكون أولى بالتطبيق فيما دونها من القضايا والمشكلات، وأولى أن يكون مبدأً عامًّا من مبادئ معالجة معضلات العلاقات الإنسانية بما فيها العلاقات الدولية.
ومما سبق يتضح أن الأصول المعرفية للرؤية الإسلامية للعالم تنفي كل مصادر الفرقة والحقد والخصومة والنزاع بين الناس من أي دين كانوا[14]، ولم تقف عند حدود التمهيد النظري، أو الخطاب العاطفي؛ بل فتحت باب التعاون العملي والتواصل الفعلي والعمل المشترك والتعايش السلمي، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها -مثلاً- ما يشير إليه قول الله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[15].
أصالة السلام الإسلامي
إن مقتضى الرؤية الإسلامية للعالم -التي تقوم كما أسلفنا على أساس عقيدة التوحيد الديني، ووحدة البشرية- هو أن تكون رسالة الإسلام عالمية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين)[16]، وليست قطرية، أو إقليمية، أو عرقية، وأن يكون “السلام” مركبًا هيكليًّا في صلب البناء العالمي الذي ينشده الإسلام، وليس أمرًا طارئًا أو استثنائيًّا، وبالتالي فإن الحرب هي الاستثناء، والصراع هو الخروج على القاعدة.
ونؤكد -مرة أخرى- على بنيوية فكرة السلام وأصالتها في الرؤية الإسلامية على كافة المستويات؛ ابتداء من الفرد، ومرورًا بالأسرة والجماعة والمجتمع والدولة، وصولاً إلى النطاق العالمي بأسره[17]. إنها رؤية متكاملة يدعو الإسلام للنظر من خلالها إلى العالم باعتباره كلاً متناسقًا، والسلام قرين التناسق، ولا تأتي الحرب إلا بالخروج من هذا التناسق بالبغي والظلم، أو بالفساد والتنازع؛ فترده الحرب الموقوتة إلى السلام الدائم من جديد.
وليس يكفي لتحقيق هذا السلام العالمي الذي يدعو إليه الإسلام أن تكون مثاليته معلقة في السماء، ولا أن يكون التزام المسلمين التزامًا دينيًّا ومصلحيًّا[18]؛ بل لا بد من معرفة طرق تحقيقها على الأرض، وفي حياة الناس والمجتمع الدولي، وهذه الطرق تخضع للاجتهاد حسب اختلاف ظروف الزمان والمكان، ولكنها في كل الأحوال يجب أن تكون منضبطة في إطار منظومة من القيم والمبادئ المعيارية المجردة؛ التي تكون حاكمة لها وليست محكومة بها، وهذه المنظومة هي موضوع القسم التالي.
منظومة القيم الإسلامية في العلاقات الدولية
لكي يجد السلام الإسلامي Pax Islamica طريقه إلى التطبيق وفقًا للرؤية الإسلامية للعالم – التي شرحناها في القسم السابق – فإن كافة السياسات والمواقف والقرارات والإجراءات التي تتخذها السلطات الإسلامية على المستوى الدولي يجب أن تأتي في إطار الالتزام بمنظومة من القيم والمبادئ المعيارية، التي تضمن الوصول إلى هدف السلام العالمي، ويمكن تطبيقها على هذه السياسة أو على ذلك الموقف أو القرار بطريقة تجريبية؛ لمعرفة ما إذا كان العمل يصب في الاتجاه الصحيح أم لا، فليس كل سلام يمكن تحقيقه هو سلام مقبول في النظرية الإسلامية ما لم تأت جميع خطواته متسقة مع رؤية العالم من المنظور الإسلامي، ومنضبطة وفقًا لقيم هذا المنظور ومبادئه العليا.
ولتوضيح هذه المقدمة -وقبل الدخول في تفاصيل منظومة القيم الإسلامية في العلاقات الدولية- نقول: إن النظرية الإسلامية ترفض سلامًا عالميًّا من نمط السلام الروماني Pax Romana القديم؛ لأنه كان قائمًا على فلسفة مؤداها أن القوة تخلق الحق وتحميه، وأن البشر ينقسمون إلى أحرار وعبيد، كما ترفض النظرية الإسلامية سلامًا عالميًّا من نمط السلام الأمريكي Pax Americana الذي تسعى إليه الولايات المتحدة في ظل العولمة الراهنة؛ لأنه ينطوي على كثير من المظالم والفساد، ويعتمد في تحقيقه على القوة العارية من الأخلاق.
إن السلام الإسلامي يمر عبر نظام للعلاقات الدولية تحكمه قيم العدالة والمساواة والحرية، وتحوطه أخلاقيات الوفاء بالعهود، والأمانة والصدق، وتقوده مبادئ التعاون والاعتماد المتبادل والعمل المشترك، وبيان هذه المنظومة من القيم والمبادئ كما يأتي :
- العدالة:
تعني العدالة في أبسط معانيها إعطاء كل ذي حق حقه، دون تأثر بمشاعر الحب لصديق، أو الكراهية لعدو، وقد أمر الله المؤمنين أن يلتزموا بهذا المعنى للعدالة وأن يطبقوه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}[19].
ويقتضي تطبيق العدالة في مجال العلاقات الدولية أن تُبنى كافة العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية على أساس كفالة العدالة لكافة الأطراف، وعدم الجور على طرف فيها، فضلاً عن تحريم إلحاق الظلم بجماعة، أو فئة، أو أقلية ما، من جراء هذا الاتفاق، أو تلك المعاهدة.
كذلك فإن القوانين المنظمة للشئون الدولية وللعلاقات بين أشخاص القانون الدولي -دولاً ومنظمات وهيئات وأفرادًا- يجب أن يكون أساسها وهدفها هو تحقيق العدالة.
إن إقرار العدالة -النافية للظلم والاستغلال والقهر- يوفر ضمانة كبرى لكل مظلوم، فردًا كان أو جماعة أو أقلية أو شعبًا؛ بأن حقه لم يذهب سُدى، وأن بإمكانه المطالبة به واسترداده، ومن ثم يبقى الأمل قائمًا والسعي مستمرًّا من أجل إعادة الحق إلى نصابه؛ سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
وثمة علاقة وثيقة بين إقرار العدالة، وإقرار السلام؛ فإذا اختلت العدالة فإن السلام يصبح بطريقة تلقائية في خطر، الأمر الذي يتطلب اتخاذ كافة التدابير الكفيلة بإزالة مصدر الخلل بكل وسيلة مشروعة؛ ومنها استخدام الجهاد الذي يعني في المجال الدولي بذل ما في وسع الدولة الإسلامية -بما في ذلك استخدام القوة المسلحة- للقضاء على الظلم والبغي، والإكراه، أو أي مصدر آخر من مصادر الخلل؛ دفعًا للضرر وجلبًا للمصلحة على قاعدة العدالة التي تعطي كل ذي حق حقه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجهاد هو وسيلة لإقرار العدالة والسلام، وليس غاية في ذاته؛ سواء كان هذا الجهاد حربًا دفاعية أو هجومية[20]؛ تقوم بها الدولة الإسلامية في سياق ممارستها لسياستها الخارجية.
أما عن التساؤلات عما يشكل وجه العدالة إزاء أمر معين، وكيف يمكن الوصول إلى حكم محدد أو الفصل فيه على نحو عادل في ظل نظام دولي سائد، وأية سياسات يجب على الدولة الإسلامية اتخاذها حتى تحقق العدالة في علاقاتها الخارجية؛ فالإجابة على هذه التساؤلات وأمثالها متروكة للنظر فيها والاجتهاد من خلال معطيات ذلك النظام والظروف والملابسات المحيطة بكل مرحلة من المراحل، أو قضية من القضايا[21].
- المساواة في الأخوة الإنسانية:
سبق أن رأينا أن النظرة الإسلامية للعالم تؤكد على وحدة البشرية من حيث انتماؤها إلى أصل واحد، وفي ظل هذه الرؤية المبدئية تأتي قيمة المساواة بتطبيقاتها المتعددة؛ التي يجب أن تلتزم بها الدولة الإسلامية في سياستها الداخلية وفي علاقاتها الخارجية.
إن وحدة الجنس البشري تقتضي في نظر الإسلام المساواة التامة بين كافة أفراده وجماعاته وشعوبه، من حيث إتاحة فرص متساوية للحصول على الحقوق الأساسية للإنسان وللتمتع بها؛ فإذا توفرت الفرص المتساوية أمام الجميع يكون التفاوت النسبـي بينهم بعد ذلك راجعًا إلى ما يبذلونه من جهد وعمل، وإلى ما يحققونه من إنتاجية متميزة، وإلى ما يملكونه من قدرات على التحصيل العلمي والتقدم الحضاري.
وفي ضوء ذلك؛ لا تعترف النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية بأية نزعة أو سياسة عنصرية تميز بين الشعوب على أساس الانتماء العرقي أو على أساس الاختلاف في حجم الجمجمة أو لون البشرة[22]، إن مبدأ المساواة يفرض على الدولة الإسلامية في سياستها الخارجية ألا تقبل أي وضع ينتقص من الحقوق الأساسية لشعبها، وأن تبادر بتقديم الأفكار واقتراح الحلول والسياسات التي تسهم في إزالة كافة أشكال التمييز العنصري أو العرقي، وألا تدخل أو تشارك في أية علاقة دولية -في صورة معاهدة أو تحالف، أو اتفاقية… إلخ- تستهدف الإخلال بمبدأ المساواة، أو يكون من شأنها تكريس وضع ما من أوضاع التفرقة العنصرية، أو مساعدة جماعة أو دولة على ممارسة سياسة التطهير العرقي، أو الاضطهاد المذهبي أو الطائفي أو الديني.
وتدلنا وقائع التاريخ وتجارب الأمم والشعوب الخاصة بعلاقاتها الدولية على أنه ما من مرة حدث فيها الإخلال بمبدأ المساواة بين البشر -بالمعنى السابق شرحه- إلا وتعرض السلم والأمن للخطر، على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وقد يصل الأمر إلى حد نشوب الصراعات والحروب المدمرة.
ومما يؤسف له أنه تمت في العصر الحديث صياغة إيديولوجيات ومعتقدات دوغمائية تستند على أصول وهمية من دعاوى التفوق العنصري أو الديني أو السلالي، وتدعي أن شعبًا ما هو شعب الله المختار، أو أن جنسًا من الأجناس فوق الجميع، وكل هذه الادعاءات ظهرت من قلب حضارة الغرب، وذاق العالم منها ويلات كثيرة من المنازعات والصراعات والحروب، وما يزال يعاني منها في مواضع شتى.
- الحرية:
ينبع مبدأ الحرية -في أحد أبعاده الرئيسية- من قيمة المساواة بين بني البشر التي قررها الإسلام؛ فانتماؤهم إلى أصل واحد يقتضي السواسية بينهم، وهذه بدورها تقتضي أن الناس جميعًا يولدون أحرارًا، ويظلون كذلك ما داموا على قيد الحياة، ومن ثَم فاستعباد الإنسان لأخيه الإنسان أمر طارئ؛ لا هو من إرادة الله، ولا من الطبيعة السوية للبشر.
ولما كان هذا الاستعباد واردًا بحكم النزعات العدوانية والرغبة في السيطرة على الآخرين وتحقيق مصالح اقتصادية محددة، فقد جاء الإسلام لإزالة كافة صوره، وأشملها وأكثرها سوءًا هو أن يكون الإنسان عبدًا لغير الله تعالى؛ ولذلك كانت كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” هي نفسها الإعلان الإسلامي للحرية، أو لفك الرقبة؛ وهي إسقاط لكافة أشكال القهر والإكراه والاستتباع القسري لفرد، أو لجماعة، أو لطائفة أو لشعب أو لأمة، وكثيرًا ما ردد الفاتحون المسلمون الأوائل عبارة “جئنا لنخرجكم من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد”، وبعبارة أخرى: جئنا لاستعادة الحرية.
ليست “الحرية” في النظرية الإسلامية بابًا للفوضى أو لممارسة العدوان؛ وإلا انقلبت إلى “حرب الجميع ضد الجميع” على حد تعبير فيلسوف الحداثة توماس هوبز، وإنما هي الحرية المسئولة والمنضبطة بضوابط “العدالة” وحدود “المساواة”، وفضائل “الأخلاق”، وهي قيم مرتكزة في فطرة الإنسان التي فطره الله عليها[23]، وليست مجهولة المصدر أو بنت الطبيعة كما يذهب كثير من الفلاسفة الطبيعيين والماديين.
وفي ضوء هذا المضمون الإسلامي للحرية يمكننا متابعة تطبيقاتها العملية على صعيد العلاقات الدولية – وأيضًا في العلاقات الداخلية الفردية والاجتماعية -ولكننا نقتصر هنا على موضوعنا-، ومن أهم هذه التطبيقات ما يأتي :
أ – الإقرار بسياسة الأبواب المفتوحة في محيط العلاقات الدولية، ورفض سياسة العزلة والانغلاق إلا لضرورة قهرية “والضرورة تقدر بقدرها”؛ ذلك لأن سياسة الباب المفتوح هي التي تتيح فرصًا متساوية وعلاقات متكافئة للأفراد والجماعات والشعوب لكي تمارس حريات التنقل، والإقامة، والدخول والخروج، والعمل، والتملك… إلخ، أما سياسة العزلة والانغلاق فإنها تتضمن بالضرورة قيودًا على ممارسة مثل هذه الحريات إلى حد الحرمان منها في بعض الحالات.
ب- الاعتراف “بالتعددية” الحضارية والثقافية والسـياسية والعقائدية[24]؛ ذلك لأن التنوع والاختلاف من سنة الحياة الاجتماعية، وأن محاولة طمس الاختلافات وتنميطها في قالب واحد أمر لا يأتي إلا عن طريق الجبر والإكراه، وهما والحرية ضدان لا يجتمعان.
جـ- بطلان الأوضاع التي تنشأ نتيجة للقسر والإكراه؛ حتى لو تكرست عبر اتفاقيات أو معاهدات أو بحكم الأمر الواقع، فهذه كلها تتنافى مع قيمة الحرية، ولا بد للسياسة الإسلامية الدولية أن تعمل لتصحيح الأوضاع بما يتفق مع هذه القيمة.
وثمة تطبيقات أخرى لقيمة الحرية في النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية، ولكنها ليست محل جدل كبير شأنها شأن النماذج الثلاثة السابق ذكرها.
والواقع أن ما أثار الخلاف الكبير والجدل الفكري والفقهي الواسع -ولا يزال في هذا المجال- هو تطبيق مبدأ الحرية في موضوع العقيدة الدينية، والسؤال الأساسي هنا عن موقف النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية من حرية العقيدة؟.
ولسنا بصدد استعراض ومناقشة الرؤى الفقهية المختلفة حول هذه المسألة، ولكننا نود التأكيد فقط على أن الموقف الأساسي فيما يتعلق بحرية العقيدة الدينية واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي}[25]، وقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُـكُمْ وَلِيَ دِين}[26].
إن “الحرية” -في بعدها العقيدي الديني- لا تعتبر فقط موضوعًا داخليًّا في المجتمعات الإسلامية، ولكنها تتصل اتصالاً مباشرًا بجوانب مهمة من علاقاتهم الدولية مع الشعوب والأمم الأخرى[27]، أو بالأحرى مع الهيئات والمؤسسات والسلطات التي تمثلها وتعبر عن مصالحها، وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما تمليه الرؤية الإسلامية للعالم، مع ما تأمر به منظومة القيم والمبادئ النابعة منها -وفي مقدمتها قيم العدالة والمساواة- فإن النتيجة الصحيحة لذلك هي أن السياسة الإسلامية الدولية ليس من أهدافها إجبار الأفراد ولا الشعوب الأخرى على الدخول في الإسلام، كما أنه ليس من أهدافها إكراه أحد على تغيير معتقده الديني، حتى إن كان من غير أتباع الديانات السماوية، والله تعالى يقول: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }[28]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[29].
إن الإسلام يعتبر الرقابة الروحية، والوصاية على الضمير والمعتقد الديني إهانة لكرامة الإنسان، وإهدارًا لحقه في الحرية؛ بل وتعديًّا على إرادة الله سبحانه وتعالى[30]، وعليه فإن سياسة خارجية تتبنى شيئًا من ذلك تكون فاقدة للشرعية، ويجب مقاومتها من المنظور الإسلامي؛ سواء كان ذلك على الصعيد المحلي الداخلي، أو على الصعيد الخارجي الدولي.
- الوفاء بالعهود والمواثيق:
حتى لا تظل قيم العدالة والمساواة والحرية مجرد أمنيات فإنه من الضروري ترجمتها إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع: في التصرفات الفردية، والسلوكيات الاجتماعية، وفي السياسات والعلاقات الدولية كذلك، وتتم هذه الممارسات في الأحوال العادية بطريقة تلقائية لتحكم وتنظم مختلف العلاقات الاجتماعية في كافة المجالات، وعلى كل المستويات، ويكون الالتزام الطوعي بمعايير العدل والمساواة والحرية وفاء لتلك القيم العليا وللفضائل الإنسانية في مجملها.
ولكن كثيرًا ما تقتضي المعاملات -فيما بين الأفراد وبين الدول والهيئات والمنظمات المختلفة أيضا- أن توضع هذه القيم في صورة عقود أو عهود ومواثيق تمليها اعتبارات عملية ونفسية وأخلاقية متعددة ومتغيرة حسب ظروف الزمان والمكان، وفي مثل هذه الحالات جاء الأمر صريحًا ومباشرًا -بأكثر من صيغة وفي أكثر من موضع في آيات القرآن الكريم- باحترام العهود والوفاء بالعقود والالتزامات على أكمل وجه، كما وردت آيات قرآنية كثيرة تحذر من الغدر والخيانة ونقض العهد.
وفي بعض الآيات نجد تأصيلاً معرفيًّا وعقيديًّا لقيمة الوفاء بالعهد ولأخلاقيات الالتزام به، وإشارة إلى النتائج المترتبة على الالتزام بها أو عدمه، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الرعد: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) إلى قوله تعالى: {… أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِـكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[31]، ومن هذه الآيات يمكننا أن نتعرف على النموذج الأساسي للوفاء بالعهد والميثاق، وهو الوفاء بالعهد مع الله تعالى، وما يترتب عليه من بلوغ أفضل النتائج: {عُقْبَى الدَّار}، واستحقاق نعمة السلام وهي من أعظم النعم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ).
وعندما يتعلق الأمر بالمعاملات والعلاقات بين البشر -وينطبق ذلك على الأفراد والجماعات والهيئات والدول- فإن مبدأ الوفاء يتجه الأمر به مباشرة إلى المعاهدات والعقود المبرمة بين أطراف العلاقة؛ ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُـــوا أَوْفُوا بِالْعُقُود}[32].
والحاصل أن المرجعية الشرعية الإسلامية تؤكد بقوة وبوضوح على أن الوفاء بالعهود والمواثيق يعد عاملاً أساسيًّا وحاسمًا في عملية التفاعل المنظم[33] في العلاقات الداخلية والخارجية على السواء. كما توضح لنا هذه المرجعية أن قاعدة الوفاء والأخلاقيات المرتبطة بها لا تقتصر فقط على الجوانب الشكلية أو القانونية، وإنما تمتد لتصبح أداة من أدوات ترسيخ مبادئ التعاون والتعايش[34]، وعاملاً أساسيًّا لترسيخ ثقافة السلام، حيث إن الإخلال بالتعهدات ونقض المواثيق هو أحد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى الحرب وتجدد النزاعات، ومتى نشبت الحرب فإن معظم المعاهدات والاتفاقيات تسقط تلقائيًّا إلى أن تضع الحرب أوزارها، ويتم الاتفاق من جديد من أجل إقرار السلام، وهكذا إلى أن يتم الالتزام بالعهود والوفاء بالعقود على أسس العدالة والمساواة والحرية.
- التعاون والاعتماد المتبادل:
جاء الأمر في القرآن الكريم “بالتعاون” المبني على فضائل الأخلاق؛ الهادف إلى تحقيق الخير الإنساني العام والقرب من الله تعالى، كما جاء فيه أيضا النهي عن “التعاون” المؤدي إلى انتهاك تلك الفضائل؛ الهادف إلى الاعتداء أو إلحاق الأذى بالآخرين، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[35].
ويتضمن الأمر “بالتعاون” تقرير الاعتماد المتبادل كسياسة عامة في تسيير العلاقات بين مختلف أطراف الوجود الاجتماعي -الأفراد والجماعات والدول- ذلك لأن التعاون لا يكون إلا بين أكثر من طرف، واللجوء إليه يعني أن كل طرف لا يستطيع بمفرده القيام بأداء مهمة ما، أو تحقيق هدف معين، ومن ثم فإن كلاًّ منهما يعتمد على الآخر في تحقيق بعض أهدافه، وإذا قام هذا التعاون أو “الاعتماد المتبادل” على أسس البر والتقوى، فإن الحصيلة النهائية له ستصب في الصالح الإنساني العام، أو بالأقل لن تلحق الضرر بالأطراف الأخرى غير الداخلة في هذا التعاون بعينه.
ونفهم من ذلك أن التعاون الذي تنشده النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية يجب أن يكون منضبطًا بمقتضيات قيم “العدالة” و”المساواة في الأخوة الإنسانية” و”الحرية” و”الوفاء” بالعهود والالتزامات، وإن أي إخلال بهذه القيم حتى لو أخذ شكل علاقة تعاونية معناه الحكم ببطلان هذه العلاقة وفقدانها للشرعية؛ حيث إن “القيم” في -النظرية الإسلامية- لا تتجزأ “ولا ينفي بعضها بعضًا”[36].
إن هذا النمط من “التعاون” ضمن -النظرية الإسلامية العامة للعلاقات الدولية- هو أحد عوامل التطور الاجتماعي والحضاري العام، وهو الذي يؤسس لبناء السلام الحقيقي بين مختلف الأمم والشعوب، ويحد من إمكانيات حدوث النزاعات أو نشوب الحروب والصراعات فيما بينها، وذلك بفضل شبكة المصالح المتبادلة، التي يؤدي التعاون المستمر إلى تكثيفها بين مختلف أطراف العلاقات الدولية في كافة المجالات؛ وفقًا لمعايير تمتزج فيها القيم والأخلاقيات المجردة مع المنافع والمصالح المادية من جهة، ويلتزم بها الجميع من جهة أخرى.
وتدلنا الوقائع التاريخية في مجال العلاقات الدولية على أن مبدأ التعاون قد يتخذ وسيلة للعدوان أو لممارسة سياسات الاستغلال والظلم؛ ذلك عندما يقوم – في جوهره – على أسس نفعية أو مصلحية بحتة، أو مجردة من القيم والمبادئ الأخلاقية.
ونعرف من أدبيات العلاقات الدولية أن هناك أنماطًا متنوعة لمثل هذا النوع من التعاون: منها “الأحلاف العسكرية”، و”التكتلات الإيديولوجية والسياسية”، و”المحاور الإقليمية والدولية”، وقد ذاق العالم منها ويلات كثيرة -قديمًا وحديثًا- ومثل هذه الأنماط هي التي ترفضها النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية؛ لأنها تقع ضمن النهي الوارد في قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان).
- التناسق والتصاعد في منظومة القيم الإسلامية:
من البيان السابق لمنظومة القيم الإسلامية نلحظ بسهولة ويسر أن مكوناتها تتسم بالتناسق والانسجام التام فيما بينها، كما أنها تتسم بالتدرج من حيث الشمول والأولوية، إذا تصورناها مرتبة على درجات سلم يصعد إلى أعلى.
فالتناسق – أو الانسجام – واضح حيث تمهد كل قيمة للتي تليها وتؤدي إليها، ومن ذلك على سبيل المثال: نجد أن “قيمة العدالة” تتسق تمامًا مع قيمة المساواة، وتؤدي إلى الإقرار بها وحمايتها بالضرورة، وهذه تتسق مع “الحرية” و”الوفاء” و”التعاون”، وتؤدي إليها كذلك، وتكفل حمايتها وصيانتها من الاضطراب ومن عوامل الخلل.
وإذا طبقنا هذا التصور النظري على موقف عملي على صعيد العلاقات الدولية يتضح لنا -مثلاً- أن مراعاة العدالة في إبرام معاهدة ما، يعني بالضرورة مراعاة قيمة المساواة بمعناها الإنساني العميق، ويعني أيضا احترام الحرية النابعة من هذه المساواة والمركوزة في أصل التكوين الإنساني؛ مهما اختلفت الأجناس أو تعددت الألوان أو تباينت المصالح، فإذا ما تتوج ذلك كله بالوفاء بالالتزامات وأداء ما تم الاتفاق عليه، كانت هناك فرصة حقيقية لممارسة علاقات تعاونية بناءة وفعالة ومثمرة لصالح التقدم الإنساني، وعلى طريق التطور الحضاري العام، وخلاف هذا التناسق لابد أن تنتج آثار في الاتجاه المعاكس للتعاون، وللتطور، وللسلام.
أما بالنسبة لخاصية التصاعد في هذه المنظومة القيمية – التي تناولناها – فهي ترتبط بأصول رؤية العالم من المنظور الإسلامي على النحو السالف ذكره، ومؤداها أن مفردات هذه المنظومة القيمية تتدرج من حيث مدى الشمول ومن حيث الأولوية؛ بما يعني أنها ليست كلها على مستوى واحد؛ فالعدالة هي القيمة العليا، وفي الوقت نفسه هي الأشمل والأولى من حيث مراعاة التطبيق، وتليها المساواة ثم الحرية، فالوفاء بالعهد، فالتعاون، وهكذا يكون الترتيب والتدرج النظري من الأشمل والأولى (الأعلى) إلى الأقل شمولاً والأدنى.
أما على المستوى التجريبي العملي فإن البحث عن هذه القيم يبدأ بفحص أسس علاقات التعاون والاعتماد المتبادل، وبيان مدى الالتزام أو عدم الالتزام بالعهود والاتفاقات عبر استقراء أوضاع أطراف هذه العلاقات من حيث تمتعها بالإرادة الحرة وبعدها عن عوامل الضغط والإكراه، ومن ثم يمكن التحقق من مراعاة قيمة المساواة في أصل الأخوة الإنسانية، واحترام قواعد العدالة التي تقضي بإعطاء كل ذي حق حقه.
وبالتأمل في خاصيتي التناسق والتصاعد في منظومة قيم النظرية الإسلامية – في مجال العلاقات الدولية – نلحظ بسهولة ويسر كذلك أن “السلام” هدف أصيل ومتغلغل في جميع مفردات هذه المنظومة، وفي كل مواقفها العملية وسياساتها الفعلية.
نظرة في الواقع ونظرة إلى المستقبل
إن التحدي الأساسي الذي تواجهه النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية -بأصولها المعرفية، وبمنظومتها القيمية التي شرحناها فيما سبق- يتمثل في اختلال الواقع الراهن للعلاقات فيما بين الدول الإسلامية بصفة خاصة، وفيما بين أعضاء المجتمع الدولي بصفة عامة، هذا من جهة، وفي كيفية الخروج من هذا الواقع والإسهام في بناء نظام عالمي عادل للعلاقات الدولية؛ وفقًا لرؤية مستقبلية مبنية على معايير النظرية الإسلامية في هذا المجال من جهة أخرى.
ويحتاج كل من سؤال “الواقع” وسؤال “المستقبل” إلى بحث مستقل -لا تتسع له هذه الخاتمة الموجزة بطبيعة الحال- وسنكتفي بنظرة عامة نبين من خلالها أهم أبعاد هذا التحدي في الواقع والمستقبل معًا.
- نظرة في الواقع: السير[37] في الاتجاه المعاكس:
إذا قسنا الواقع الراهن للعلاقات الدولية بمعايير النظرية الإسلامية التي تحدثنا عنها سنجد أن ثمة فجوة كبيرة تفصله عنها، وأن هذه الفجوة ليست في الحدود المعقولة المقبولة -عادة- بين المثال والواقع، أو بين النظرية والممارسة، ولكنها كبيرة جدًّا، بل وآخذة في الاتساع باستمرار، الأمر الذي يزيد العلاقات الدولية اختلالاً من المنظور الإسلامي.
فالعدالة -مثلاً- ليست معيارًا في بناء العلاقات بين أعضاء المجتمع الدولي الراهن. صحيح أنها لم تكن كذلك منذ أزمنة بعيدة، إلا أن مضاداتها من الظلم والاستغلال ونزعات الاحتكار والاستئثار تكاد تكون هي المعيار الحاكم لهذه العلاقات على مستويات مختلفة: عالمية بين الشمال والجنوب، وإقليمية بين القوي والضعيف، ومحلية بين الغني والفقير، فهناك -على سبيل المثال- نسبة لا تزيد عن 20% من سكان الأرض تستأثر بأكثر من 80% من ثروات العالم والباقي يعيش معظمهم تحت خط الفقر، ومن هؤلاء يوجد في جنوب شرق آسيا حوالي 170 مليون إنسان، بينما نجد من جهة أخرى أن إنفاق دول المجموعة الأوروبية على تخزين فائض إنتاجها من الأغذية أكبر من إجمالي المعونات التي تقدمها كل دول المجموعة، والتي تقدر بحوالي 20 مليار دولار لدول العالم الثالث[38]، والأهم من ذلك أن دول الشمال الغنية عندما تقدم معونة لا تقدمها بهدف تحقيق شيء من العدالة، ولكن لهدف ذاتي صريح عبر عنه الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون بدقة في قوله: “الهدف من المعونات ليس مساعدة الغير بل مساعدة أنفسنا”، ولماذا نذهب بعيدًا و”قضية فلسطين” بكل أبعادها هي أكبر وأوضح عنوان يدل على اختلال ميزان العدالة الدولية وخراب الضمير العالمي المهيمن على تسيير علاقات الأمم والشعوب.
وقد تدعو بعض النشاطات الإنسانية والتنموية للمنظمات التابعة للأمم المتحدة إلى الحديث عن تطبيق معيار المساواة في الأخوة الإنسانية وحق الجميع في حياة كريمة، ولكن النظرة المتفحصة في برامج هذه المنظمات سرعان ما تكشف عن حقائق مؤلمة لا تمت إلى الإنسانية ولا إلى قيمة الأخوة البشرية بصلة؛ من قبيل استغلال هذه البرامج في ممارسة أعمال غير أخلاقية، أو توظيفها كقناة للتخلص من بعض السلع والمنتجات غير المرغوب فيها أو عديمة الصلاحية، مثلما حدث عندما قام برنامج الأمم المتحدة للتنمية بتزويد الصوماليين الذين يعانون من سوء التغذية بأغذية لتخفيف السمنة(!) وبطاطين كهربائية؛ مع أنهم على مشارف خط الاستواء، وبثلاجات لا تعمل بالتيار الكهربائي الموجود في الصومال؛ فاستخدمها الصوماليون أرائك يجلسون عليها.
أما بخصوص مبدأ الوفاء بالعقود والمعاهدات والمواثيق كضمانة لبناء التعاون الدولي وترسيخ ثقافة السلم؛ فالفجوة هائلة هنا أيضا بين المبدأ والتطبيق، وقد شهد عالمنا طيلة القرن الماضي -ولا يزال يشهد- كثيرًا من الانتهاكات والنكث بالعهود والمواثيق؛ بدافع من شهوة العدوان، ونزعات الظلم، وغطرسة القوة، ولا تزال نصيحة ميكافيللي هي القانون الفعلي في تسيير العلاقات الدولية، لقد قال لأميره وهو يعظه: “التجربة تدلنا على أن أولئك الأمراء الذين أتوا أعمالاً عظيمة هم الذين لم يراعوا الوفاء إلا قليلاً، ومن ثَم تمت لهم الغلبة على أولئك الذين جعلوا الإخلاص قاعدة لهم”[39].
وأخيرًا -وليس آخرًا- نجد أنه بدلاً من أن يتم توظيف الثروة الهائلة في نظم الاتصالات الحديثة، ووسائط نقل المعلومات في تعميق “التعارف” بين الشعوب والأمم، وفي إغناء بعضها بمعرفة ثقافات وخصوصيات البعض الآخر، فإنه يتم تسخير هذا التقدم في خدمة أغراض ومصالح أنانية، وفي ممارسة الهيمنة بالقوة الناعمة إلى جانب القوة الخشنة، وتجاهل التعرف على الأطراف الأضعف في هيكل النظام الدولي، بل والسعي لطمس هوياتها وثقافاتها لصالح القوة المهيمنة.
- نظرة إلى المستقبل:
إذا كانت النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية تهدف أساسًا -كما أسلفنا- إلى إقرار السلام العالمي الإسلامي Pax Islamica فإن منظومة القيم المعيارية لهذه النظرية تبين -بيقين- أن هذا السلام ذو طابع إنساني عام، وليس دينيًّا بالمعنى الكهنوتي الضيق لكلمة “الدين”، وأنه يحتل موقعًا مركزيًّا في صلب النظام العالمي الذي ينشده الإسلام.
إن النظرية الإسلامية -بهذا المعنى الذي قدمناه- تمتلك الكثير الذي تسهم به في صياغة مستقبل أفضل للعلاقات الدولية على كافة مستوياتها الإقليمية والعالمية، وفي كل مجالاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، وخاصة أن جميع محاولات التجديد -في صيغة نظام عالمي جديد، أو بدعوى العولمة- على مستوى النظام الدولي قد باءت بالفشل[40]، ولم تؤد إلا إلى تغذية مصادر التوتر والصراعات القائمة، وفتحت أبوابًا جديدة لعدم الاستقرار، والإخلال بقيم العدالة والمساواة في الأخوة الإنسانية والحرية والتعاون المتبادل.
وحتى يمكن الخروج من أسر سلبيات الواقع الراهن للعلاقات الدولية إلى المستقبل المرغوب من منظور قيم النظرية الإسلامية الإنسانية[41]، ووفقًا لمبادئها العامة؛ فإن الأمر يتطلب وضع إستراتيجيات جماعية “تستند إلى منظومة القيم النظرية المشتركة بين كافة الأمم والشعوب أينما كانت في الشرق أم في الغرب، في الشمال أم في الجنوب؛ بحيث لا تنفرد قوة وحيدة، أو مهيمنة، بوضع هذه الإستراتيجيات، وأن تسعى لقلب ودحض معايير القـوة المحضـة، والتمييز (العنصري والديني والثقافي… إلخ) وازدواجية السلوك الدولي، وانفصام الأخلاق عن السياسة؛ باعتبار أن هذه هي المعايير السائدة والمسيرة لمجمل العلاقات الدولية الراهنة، والمتسببة -في الوقت نفسه- في خلق مصادر التوتر والنزاعات، وفي وقوع الصراعات والحروب وإلحاق المظالم بالشعوب المستضعفة.
وما لم ينجح “المجتمع الدولي”[42] في قلب ودحض تلك المعايير السائدة، وفي إزالة ما يترتب عليها من أطروحات نظرية وعملية تدعو للانقسام والعنف والقبح والظلم، وما لم ينجح كذلك في أن يحل محلها قيم “العدالة”، و”المساواة على أساس الأخوة”، و”الحرية”، و”التعاون”، و”التعارف”، وأن يدعم وينمي ما يترتب عليها من أطروحات -نظرية وعملية أيضًا- تدعو للوحدة العالمية مع احترام التنوع والإقرار بالتعددية، وإعلاء شأن الكرامة الإنسانية؛ ما لم ينجح المجتمع الدولي في ذلك فإن المستقبل لن يكون أفضل من الواقع، وربما كان أسوأ منه.
وفي اعتقادنا أن هذا التحدي المستقبلي يتطلب جهودًا مكثفة ومخلصة من كافة أطراف المجتمع الدولي، وفي هذا السياق نعتقد أيضا أن الأمة الإسلامية -بشعوبها وعلمائها ودولها ومنظماتها الحكومية والأهلية- تتحمل مسئولية كبيرة تجاه ذاتها أولاً، وتجاه بقية أمم العالم ثانيًا، وذلك بحكم عالمية الرسالة الإسلامية التي تحملها، وبحكم ما تقدمه هذه الرسالة من قيم ومبادئ عامة كفيلة بإخلاء العالم من الفساد قدر الإمكان، وبناء نظام عادل وآمن تتطلع إليه كافة شعوب الأرض؛ ليحقق لها الاستقرار والتقدم وتسود فيه قواعد التنسيق والتعاون، وتنتفي منه قواعد الإخضاع Subordination والاستتباع القسري.
إن السلام العالمي هو الهدف النهائي للنظرية الإسلامية في العلاقات الدولية -كما قدمنا- والوصول إلى هذا الهدف هو مطلب المستقبل لجميع الأمم، والطريق إليه مليء بالتحديات التي تفوق طاقة كل أمة بمفردها، وإن الإسلام يعلم كافة البشر أن باستطاعتهم دومًا أن يتشاوروا وأن يتحاوروا ويتعارفوا من أجل اكتشاف الحقول المشتركة فيما بينهم، ولكي يعمقوا إدراكهم للمثل الإنسانية الفطرية التي تجمعهم، وليسهموا معًا في بناء علاقات دولية بناءة تتسم بالإيجابية والموضوعية والمستقبلية، وبالعدالة قبل ذلك كله.
[1] ولمزيد من التفاصيل حول الفقه كمصدر للتنظير في العلاقات الدولية انظر: د. عبد العزيز صقر: الفقه الإسلامي والعلاقات الدوليـــــة، مدخل منهاجي. في: د. سيف الدين عبد الفتاح (وآخرين): المداخل المنهاجية للبحث في العلاقات الدولية في الإسلام (القاهرة: 1996)، ص 157.
[2] سورة الأنعام آية رقم (18).
[3] سورة النساء آية رقم (1).
[4] سورة الحجرات آية رقم (13).
[5] رواه أبو داود.
[6] انظر في ذلك:Anwar Ibrahim: The Asian Renaissance (1996:Singapor. Kuala Lumpor) P-135 والتعبير الماليزي المشار إليه هو بالإنجليزية Unity in Diversty
[7] سورة الشورى آية رقم 13.
[8] سورة الشورى آية رقم 15.
[9] رواه البخاري ومسلم.
[10] سورة البقرة آية رقم 136.
[11] سورة البقرة آية رقم 137.
[12] سورة الممتحنة، الآيتان رقم 8،9.
[13] سورة العنكبوت آية رقم46.
[14] يؤكد البعض على أن الأديان تهدف إلى إقامة مشروع حضاري واحد، انظر على سبيل المثال: سمير سليمان: الصراع الحضاري والعلاقات الدولية، قراءة في فكر الإمام الخميني والفكر السياسي الأمريكي، مجلة “قضايا إسلامية معاصرة”، العدد الخامس (بيروت 1419 هـ – 1999م) ص219 – ص245.
[15] سورة المائدة آية رقم 5.
[16] سورة الأنبياء آية رقم 107.
[17] انظر: سيد قطب: السلام العالمي والإسلام (القاهرة: مكتبة وهبة 1386 هـ – 1967م) ص128 وص129.
[18] انظر مقدمة إسماعيل الفاروقي لكتاب عبد الحميد أبو سليمان: النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية (الرياض: 1992، ط1) ص19.
[19] سورة المائدة آية رقم 8.
[20] انظر: سيد قطب، مرجع سابق، ص27 وص130 وص131.
[21] انظر: عبد الحميد أبو سليمان، مرجع سابق، ص230.
[22] في سنة 1899م أصدر العالم الفرنسي الشهير فاشيه دو لابوغ كتابًا بعنوان “الإنسان الآري ودوره الاجتماعي” تنبأ فيه بأن القرن العشرين سيشهد مذابح مروعة بسبب بعض الاختلافات الطفيفة في شكل الرأس ومقاييس الجمجمة، وتحقق في التسعينات من القرن العشرين نفسه ما توقعه “دو لابوغ” بشكل فاضح في حروب التطهير العرقي التي شهدتها منطقة البلقان.
[23] أدرك بعض المفكرين الذين غالوا في الدعوة إلى الفوضوية من أمثال بيتر كروبتكين أن الحرية لا تعني ارتكاب الجرائم أو تسويغ العنف والعدوان على الآخرين، وإنما هي دعوة للإخاء الإنساني والتعاون بين البشر، وكان كروبتكين صريحًا في نقده لما تنطوي عليه الماركسية من إلغاء للحرية أو تهميشها، وحاول أن يوجه العمال في عصره خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى العناية بحريتهم، انظر في ذلك: علي أدهم: التعاون المتبادل لكروبتكين، مقال في مجلة “تراث الإنسانية” (القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر. بت) – المجلد الخامس ص895 – ص912.
[24] لمزيد من التفاصيل حول مفهوم التعددية الدينية وأبعادها من المنظور الإسلامي انظر: الشيخ جعفر سبحاني: التعددية الدينية؛ نقد وتحليل. دراسة في مجلة “التوحيد”، (قم – إيران)، خريف 1421 هـ – 2000م، ص35 – ص70.
[25] سورة البقرة، آية رقم 256.
[26] سورة الكافرون، آية رقم 6.
[27] انظر: أبو سليمان، مرجع سابق، ص203، وص206.
[28] سورة الكهف، من الآية رقم 29.
[29] سورة يونس، الآية رقم 99.
[30] 30 (3) انظر: الفاروقي، مرجع سابق، ص50.
[31] سورة الرعد، من آية رقم 20 إلى الآية رقم 25.
[32] سورة المائدة، من آية رقم 1.
[33] انظر: أبو سليمان، مرجع سابق، ص240 وص243.
[34] انظر: صبحي الصالح: الإسلام ومستقبل الحضارة، (بيروت: دار الشورى، دمشق: دار قتيبة، ط2، 1990) ص228.
[35] سورة المائدة، من الآية رقم 2.
[36] د. سيف الدين عبد الفتاح: العلاقات الدولية في الإسلام – الجزء الثاني: مدخل القيم – إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1999م) ص27.
[37] كلمة “السير” لها دلالة اصطلاحية في مجال العلاقات الدولية من المنظور الإسلامي، فقد استعملها علماء المسلمين للتعبير عن مسلك الدولة في كل ما يتعلق بتنظيم شئونها الخارجية وبخاصة في الحروب والمغازي وفي متابعة سير العلاقة مع الدول غير الإسلامية.
[38] انظر: جراهام هانكوك: سادة الفقر، ترجمة: د. ناصر السيد، (بيروت: دار الحداثة، 1994م).
[39] انظر النص المذكور وغيره من النصوص المتعلقة بهذا الموضوع في: ميكيافيللي، ترجمة وتعليق: محمد مختار الزقزوقي (القاهرة: الأنجلو المصرية، 1958) ص283.
[40] للمقارنة بين شعار “النظام العالمي الجديد”، و”العولمة” على الصعيد الدولي انظر: حسنين توفيق إبراهيم: العلاقة بين أطروحتي نظام عالمي جديد وعولمة، مجلة منبر الحوار (بيروت) العدد 37 – شتاء 1999م (ص70 – ص90).
[41] يرى البعضٍ أن البعد الإنساني هو العنصر الأساسي الذي تفتقده العولمة، انظر على سبيل المثال: محمد مهدي شمس الدين: العولمة وأنسنة العولمة، مجلة منبر الحوار (بيروت) العدد 37 – شتاء 1999م، ص25 – ص26.
[42] ثمة جدل كبير حول مفهوم المجتمع الدولي، انظر على سبيل المثال:
Philipe Moreau Defaryes: La Communaute Internationale (Paris: P.U.F., 2000).