تنظير السلطة السياسية: دراسة تحليلية في كتاب أبي الحسن الماوردي (تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك)
العدد 97
تتناول هذه الدراسة بالتحليل نصًّا سياسيًّا للإمام الماوردي، – وللقسم الثاني منه تحديدًا – محاولة اكتشاف رؤيته وتأصيله لظاهرة السلطة : مفهومها، وتأسيسها، وطبيعتها، ونشأتها وتكونها أى تاريخها العام والإطار الذي يحكمه ووظائفها أى الأهداف التي تسعي _ أو يجب أن تسعي _ لتحقيقها وتسيطر على حركتها وممارساتها الفعلية من ناحية ثانية، ومآلات السلطة
وتطورها واختلالها وتدهورها وانهيارها من ناحية ثالثة، والواقع أن هذه الكليات التنظيرية الثلاثة تتداعى عند التعرض لظاهرة السلطة عمومًا مشكِّلة محاور أي تفكير أو تساؤل جدي حولها، وكذا تمثل أعمدة حقيقية بصدد إقامة أي بناء تنظيري بصددها يضع الاتجاهات والقوانين العامة التي تحكمها في حركتها وممارساتها (1)، وفي هذا النص السياسي يتناول الماوردي هذه الكليات الثلاثة برؤية واقعية تحليلية، وليس من خلال الرؤية الفقهية أو الدستورية كما فعل في دراسات سابقة له بصدد نفس الظاهرة (2)، سنحاول اكتشافها، وتقديم قراءة سياسية معاصرة لها مركزين على رؤيته لوظائف السلطة ( أو السلطان أو الملك بتعبير الماوردي )، ملتزمين منهجيًّا _ قدر الطاقة _ بقواعد قراءة النصوص السياسية وتحليلها خاصة تلك النصوص التاريخية والتراثية التي تصنف في إطار التراث السياسي الإسلامي (3)، وتأتي هذه الدراسة في خمسة نقاط: ففي البداية هناك مقدمة حول كيفية الاقتراب المنهجي من هذا النص السياسي التراثي.. أما موضوع الدراسة ذاته فيأتي في ثلاثة مباحث يتناول المبحث الأول مفهوم السلطة وتأسيسها وطبيعتها، بينما يتناول المبحث الثاني، وظائف السلطة وأدوارها، والمبحث الثالث : اختلال السلطة وتدهورها وانهيارها، وفي النهاية خاتمة تتناول أهم نتائج الدراسة الأساسية.
أولاً : كيفية الاقتراب المنهجي من النص السياسي التراثي : ـ
لا تعود أهمية هذا النص الذي بين أيدينا فقط إلى كونه نصًّا مهجور التناول من غالبية الباحثين في إطار فكر الماوردي وإسهاماته السياسية (4)، وإنما أيضًا لكونه يمثل جهدًا متميزًا ويكاد يكون متفردًا في إطارها بصدد تناوله للظاهرة السياسية ـ ظاهرة السلطة ـ وذلك من زاوية فلسفية وتنظيرية (5) هذا التناول يعطي إمكانية كبيرة لإقامة بناء تنظيري حول «وظائف السلطة وأدوارها العملية» تحاول هذه الدراسة تقديمه – وهو بناء بالغ الأهمية بصدد أية حديث جاد عن «نظرية السلطة » إذ يمثل « حلقة الوصل » ما بين «التأسيس» ومستوى « الفعالية » ولن نفيض في هذا الصدد ـ وإنما نكتفي هنا بوضع مجموعة من الأطر التحليلية والقواعد العامة التي يمكن أن تكون ضرورية للتعامل مع هذا النص التراثي. ونكتفي في هذا الصدد بنقاط ثلاثة :
أولاً : طبيعة النص وسياقه الفكري والحضاري :
يقع هذا النص السياسي ـ الذي قدر له النشر مؤخرًا (6) ـ في إطار الإسهامات الفكرية السياسية للماوردي والتي يرصدها بعض أهل الاختصاص بخمسة مؤلفات أساسية (7) هي : أدب الدنيا والدين (420 هـ )، نصيحة الملوك (425 هـ )، قوانين الوزارة وسياسة الملك (427 هـ )، تسهيل النظر وتعجيل الظفر (432 هـ )، الأحكام الســــلطانية والولايات الدينية (445 هـ )، ولعل قراءة إجمالية لهذه النصوص السياسية توضح موقع وتسهيل النظر وتعجيل الظفر ـ في إطارها ـ أي أنها تقدم السياق أو البيئة الفكرية السياسية العامة له، بالطبع فإن هذه النصوص تتفاوت في أصولها الفكرية ومدى تعبيرها عن المثالية الإسلامية، وذلك طبقًا لطبيعة الموضوعات والقضايا التي تعالجها ودرجة اتصالها بالواقع السياسي المعاش.. فقد تطرقت إلى السلوك الملوكي، وموضوع الوزارة، كما حاول الماوردي أن يشرح فن الحكم وفقا للمباديء الإسلامية، وإذا كان البعض يري « أن الماوردي بكتابه الأحكام السلطانية » ولج باب النظرية السياسية الإسلامية والفقه السياسي الدستوري فقد اهتم بتجميع كل الأحكــام الشرعية المتعلقة بإدارة البلاد (القانون العام ) وصنفها في كتاب واحد دون الولوج في جدل فلسفي مع الفرق الأخرى : الأمر الذي يجعل الكتاب مصدرًا رئيسيًّا يُعتمد عليه عند التعرض لمشكلة الخلافة والولاية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية المتعلقة بالحكومة الإسلامية، خصوصًا وأنه لا يقف عند مجرد العرض النظري بل يتجاوزه إلى محاولة شرح الواقع الفعلى وبالذات من خلال مناقشة رؤيته في إمارة الاستيلاء » (8) فإن الأمر يحتاج مراجعة ـ لأن هذه الموضوعات لا تدخل في جوهر النظرية السياسية أو لا تقدم تنظيرًا للسلطة السياسية و« إنما تتناول الشكل الإسلامي للسلطة أو الدولة الاسلامية، وقد قارب الماوردي نفس الموضوع في تركيزه على أحد أشكال السلطة أو دولها المحددة في كتابيه: «نصيحة الملوك» و« قوانين الوزارة»(9) أما الكتاب الذي يمكن أن يصنف بحق أنه يقع في قلب دراسة النظرية السياسية فهو نص «تسهيل النظر وتعجيل الظفر»، فهو ـ كما يري رضوان السيد ـ يبحث في ماهية السلطة ( = الملك ) وبنيتها، وفلسفتها، وقوانين صيرورتها… وهي كليات ـ كما أوضحنا فيما سبق ـ بناء نظرية سياسية حول ظاهرة السلطة كوحدة تحليلية والتي سوف نزيدها تفصيلاً في الصفحات القادمة وربما تكون المحاولة في هذا الصدد إضافة علمية للدراسات حول نظرية الماوردي السياسية من خلال نص سياسي لم يُقدر له تحليل عميق من زاوية النظرية السياسية حتى الآن. أما السياق الحضاري الذي أنتج في إطاره هذا النص السياسي، وكان ـ بدرجة من الدرجات ـ استجابة له، فهو الإنهيار الذي شهدته الخلافة العباسية وزوال سلطتها في مناطق كثيرة وانتقاص أطرافها ـ وبدا ذلك واضحًا مع بدايات القرن التاسع الميلادي، وقد اتخذ هذا الانهيار صورة نشأة حكم السلالات وإحكام سيطرتها على دول العالم الإسلامي ـ كما حدث في المغرب، إسبانيا، مصر، وسوريا، ومع مجئ القرن العاشر كانت السلطة العباسية بالكاد تتجاوز مدينة بغداد، بل وحتى في بغداد نفسها كان الخليفة العباسي عاجزًا عن التصرف في أموره الخاصة. وقد أصبحت الخلافة منذ حكم الخليفة المستكفي (333 ـ 334 هـ / 944 ـ 945 م ) تخضع بصورة مطلقة لسيطرة الأمراء المستقلين الذين كانوا على قدر كبير من القوة بحيث وضعوا جميع الأمور المتعلقة بإدارة دار الخلافة تحت سيطرتهم الفعلية، وأول هذه السلالات كانت سلالة بني بويه الشيعية التي أحكمت سيطرتها على بغداد عام 334 هـ / 945 م، ومنذ ذلك الحين ـ وحتى سقوط بني بويه بعد مجئ السلاجقة ـ انتقلت جميع السلطات الإدارية إلى يد الأمراء البويهيين الذين مارسوها حوالي قرن من الزمان. هذا الوضع الذي شهده العصر العباسي الثاني ـ من تدهور وخضوع الخلفاء للأمراء العسكريين وتدني الأدوار والوظائف السياسية للأول في مقابل ازدياد وتوسع الأدوار والوظائف السياسية للعسكريين، كما أن البويهيين ـ وهم شيعة ـ سيطروا على منصب الخلافة فعليًّا وإن أبقوا عليه بشكله السني، وذلك تفاديًا لإثارة الرأي العام السني إذا ما تم إبعاده أو خلعه، وقد حكم هؤلاء الأمراء البويهيون ( وكانوا السلطة السياسية الفعلية ) وذلك باسم الخليفة العباسي الذي استمر الاحتفاظ به كرمز للوحدة الدينية ( أي نوع من السلطة العباسية الرمزية أو الشكلية ) وقد أوجد هذا الوضع من الإنفصال بين السلطة الفعلية والسلطة الإسمية أو الرمزية الشرعية ـ وضرورة وجود قاعدة مقبولة وشرعية تفسر وجود قوتين على رأس السلطة السياسية وتبررها، وكان هذا الوضع يمثل اشكالية من نوع معين يتعين على الفكر السياسي مواجهتها، ويبدو أنه حتى وقت الماوردي ـ فإن الكتاب والفقهاء فضلوا عدم التعرض لهذه المسألة ـ بأي شكل من الأشكال ـ في الفصول المتعلقة بالإمامة في كتاباتهم، وإن البعض يرى ـ أنهم من الناحية الواقعية قبلوا بهذا الوضع واعترفوا به مـن خـلال « الإجمـاع السكـوتي» أو «الإجماع الصامت»(10) غير أن الأمر بقى خاليًا من وجود قاعدة شرعية تحكمه أو تبرره أو تفسره، وهذا من وجهة نظرنا تزيد من هذا البعض يمكن مناقشته في موضع آخر، وقد تعامل الماوردي مع هذه الإشكالية إذ احتك عمليًّا ـ كما سيأتي تفصيلاً ـ مع السلطة السياسية الحاكمة _ سواء الفعلية الواقعية أو الإسمية الرمزية ـ ومن هنا كان اللجوء لمبدأ « الضرورة » و«المصلحة » في تأصيل « إمارة التغلب» أو «الاستيلاء »، ونرى أ
ن التركيز على الوظائف أو الأدوار التي يمكن أن تقوم بها السلطة السياسية الحاكمة ـ بغض النظر عن كيفية الوصول إلى هذه السلطة وطريقتها ـ في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، قد تم التعويل عليه واقعيًّا في تبرير شرعية هذه السلطة، فالشرعية لا ترتبط فقط بلحظة التأسيس والنشأة، وانما تمتد إلى مجالات الواقع والممارسة الفعلية، وقد يفسر هذا الأمر تركيز الماوردي في نصوصه السياسية المختلفة على ما يمكن أن يدخل تحت مضمون الوظائف الأساسية للسلطة السياسية سواء لحراسة الدين أو سياسة الدنيا به، وذلك من منظور واقعي بحيث أننا يمكن أن نجعل ذلك الأمر منطلقًا لبناء نظريته حول السلطة السياسية وتأصيلها في مجال الفكر والنظرية السياسية الإسلامية، وهكذا فإن تنظيره للسلطة السياسية ـ يمكن أن نجد فيه درجة من درجات الاستجابة للسياق الحضاري الذي كان يعاني من الاضطراب السياسي والتدهور ووجود سلطتين فعلية واقعية، ورمزية إسمية شرعية، فكان التركيز على المنطق الوظائفي في تبرير وجود السلطة السياسية وتسويغ شرعيتها.
وينقلنا ذلك إلى طبيعة منتج هذا النص وهو « أبو الحسن الماوردي »* إذ أنه نوع من المفكرين الذين انشغلوا بقضية الواقع وكانت لهم ألوانًا من الممارسات السياسية، وبالتالي فإن تأصيل رؤيتهم لا يكتفي فيها بما كتبوه ـ أي بأقوالهم ـ ولكن الأمر يتعدى إلى مواقفهم وأفعالهم وممارستهم السياسية وتحويلها إلى أنواع من « أفعال الكلام» وتدلنا سيرة الماوردي ـ على أنه كان على اتصال دائم بالسلاطين ـ مما لابد أنه ترك بصماته على مؤلفاته السياسية التي تدل على تجربة ودراية وتبصر بأمور الحياة، وعلى فهم لحقائقها ولطبائع البشر بوجه عام…
ويمكن أن نذكر مستويات ثلاثة لممارسات الماوردي والتي تركت آثارًا على رؤيته وتوظيفه السياسي ودراسته لظاهرة السلطة :
أ ) ولايته القضاء : فقد تولى الماوردي القضاء ـ خلال الثلاثة أو الأربعة عقود من حياته العملية ـ خلال خلافة القادر بالله في عدة مدن، منها مدينة استوا، ولا تذكر المصادر التاريخية الإسلامية بأية معلومات إضافية حول المناصب الإدارية والقضائية التي وليها الماوردي، أو حول فتاواه القضائية، اللهم إلا فتواه حول لقب ملك الملوك وتخاصمه مع الأمير البويهي جلال الدولة حول هذه النقطة » (11)، ورغم أن فترة خلافة القادر بالله تقترب من أربعين عامًا ـ لم تذكر المصادر الماوردي في هذا الصدد سوى مرة حين طلب الخليفة العباسي أن يكتب مختصر لأصول الفقه الشافعي.. فكتب كتابه « الإقناع ».
ب) الأدوار السياسية المباشرة : وبوفاة الخليفة ـ القادر ـ دخل الماوردي في خدمة الخليفة الجديد ـ القائم بأمر الله ـ الذي استند إليه في حل كثير من المشاكل العالقة بينه وبين أمراء بني بويه ومع السلاجقة في أواخر حياة الماوردي، وذلك حين لعب دور المبعوث الدبلوماسي بين الأطراف المتنازعة مع الخليفة العباسي.
كما أن الماوردي أرسل إلى الأمير البويهي ـ كاليجار ـ لأخذ العهد بالطاعة والولاء للخليفة، ولإعادة اسمه لخطبة الجمعة فوافق مقابل منحه لقب «مالك الأمم» فرفض الماوردي، وتم الاتفاق على لقب آخر هو « ملك الدولة ». كما أن الخليفة أرسله أيضًا في نوع من الوساطة السياسية بين الأمير جلال الدولة وابن أخيه كاليجار وقد نجح الماوردي في مسعاه وتم الاتفاق بين الأميرين.
وهناك الكثير من الأدوار السياسية التي تذكرها المصادر التاريخية غير أن الدلالة السياسية الأساسية لذلك هو أن تأصيله لظاهرة السلطة السياسية ليس فقط نتاج اطلاع على مصادر أو معاناة فكرية وإنما أيضا نتاج ممارسة عملية واقعية في الحياة السياسية.
وهو الأمر الذي ينبغي ـ أو يتعين أخذه في الاعتبار عند التعرض بالدراسة للأمر..
ثانيًا : منهجية قراءة النص وضوابطها :
الواقع أن تحليل هذا النص يتطلب تضافر جهود مجموعة كاملة من أهل الاختصاص في : فقه اللغة من جانب أول، ثم يأتي فيكمله الجهد التأريخي لهذه المرحلة من جانب ثان، قبل أن يأتي دور التحليل السياسي من جانب ثالث ليقوم بعملية الاستخلاص والتأصيل والمقارنة..
فالنص هو «التعبير، ومجموعة الملامح اللفظية هي الصياغة، أما الشعور فيظل خفيًّا غير واضح حتى يأتي المحلل الذي يستطيع أن يتغلغل في ذلك الشعور، وبحيث يستوعب أيضًا ذلك القسط الذي في بعض الأحيان لم يكن يدركه إدراكًا كاملاً صاحب النص نفسه(12)».
وسوف نحاول ـ قدر الإمكان ـ قبل أن ندخل إلى تحليل المواضع التي سنركز عليها في هذا النص السياسي ـ الاستفادة من فقه اللغة خاصة أن دراسة التراث السياسي الإسلامي تتطلب قدرًا من الإحاطة والإلمام بقواعد اللغة العربية ـ حيث تتعدد دلالة الألفاظ في الاستخدامات المختلفة ومنها ما تكون دلالته مركزية، ومنها ما تكون دلالته هامشية بصدد المفهوم المعين. فألفاظ مثل : الملك، والسلطان، والنظر، والظفر لها دلالات معينة ـ في إطار النص السياسي ـ يجب فهمها وأخذها بعين الاعتبار.
أما السياق التاريخي للمرحلة التي أنتج فيها هذا النص السياسي وشكل نوعًا من الاستجابة لها ؛ فقد سبق التعرض وبيان كيفية هذا التاثير في طبيعة هذا النص، والأمر الذي يمكن الإشارة إليه في هذا الصدد ويثير مسألة المقارنة الحضارية ـ ذلك أن الماوردي في كثير من كتاباته السياسية يعتمد على تراث الحضارات السابقة ـ إغريقية أو فارسية ـ « المتصل بسلوك الملوك القدامى، وتباين أهمية هذا السلوك الملوكي لاتصاله بقضايا العدل الاجتماعي، أو الكفاءة الإدارية، في هذه المؤلفات يعطي الماوردي حيزًا كبيراً ليشرح طبيعة الحكم الساساني القديم ويرجع ذلك إلى أن الظروف التي عاشها الماوردي ـ تحت سيطرة حكام بني بويه ذوي العقيدة الشيعية والاعتقاد بأصولهم الفارسية، مما يعطي بعض التفسير أو العذر للماوردي في الإكثار من استخدام لفظ الملوك بدلاً من الخلفاء مثلاً، إضافة إلى الشرح المتزايد للمباديء الساســانية في الادارة الحكومية»(13)… ولعل هذا الأمر مما يعطي للباحث مشروعية عقد بعض أنواع من المقارنات من سياقات حضارية مختلفة، وعلى مستويات متعددة، ومتباينة حول هذه الظاهرة موضع الدراسة ( السلطة السياسية ).
وبشكل عام فإن الباحث يتفق مع الذين يذهبون إلى أن الماوردي ـ في هذا النص السياسي ـ يتناول « ظاهرة السلطان » (= السلطة السياسية ) بنظرة المحلل الاجتماعي السياسي الذي يرصد الظاهرة في تكونها، وتطورها العمودي والأفقي ويشبهه في هذا المسلك ـ ابن خلدون الذي جاء بعده ونقل الكثير من أفكاره، فقد نظر الماوردي إلى أنماط قيام السلطان وقارن بينها ونظر إليها في سياقها الاجتماعي الثقافي بنظرة تحليلية» (14).
ثالثاً : مستويات قراءة النص السياسي :
في دراستنا لهذا النص ـ من التراث السياسي الاسلامي ـ كنموذج واقعي سنقدم قراءات ثلاث متكاملة :
أ ) القراءة الأولى :
هذا النص الذي كتبه الماوردي للأمير البويهي جلال الدولة (415 ـ 435 هـ ) وهو يترجم واقعًا سياسيًّا معيناً بكل أوضاعه وظروفه وماله وما عليه، يسعي ومن منطلق مدركات سائدة لأن يفسر ويبرر التعامل مع ذلك الواقع السياسي.. هذه القراءة الأولى تسمح للباحث باكتشاف الإطار الفكري الموجود في ذلك الوقت والذي يتعامل مع هذا الواقع الذي يعايشه الماوردي ويحلله، ولا شك أن هذا الكتاب يمثل مرحلة ناضجـة في فكـر المــاوردي السيـاسي ؛ « فقد جاء بعد نصيحة الملوك » لأنه يتضمن رؤى وتصورات كانت ما تزال أولية وبدائية في هذا الأخير ثم نضجت في « تسهيل النظر » كما أنه جاء بعد « أدب الدنيا والدين » بل يمكن اعتباره مجمعًا تأليفيًّا لأدب الدينا والدين، ونصيحـــة الملوك»(15).
2 ـ القراءة الثانية : وفيها نحاول من خلال قراءة هذا النص اكتشاف المسكوت عنه والمضمر فيه – أي اكتشاف باطن النص وغاياته تلك التي لم يكتبها الماوردي مباشرة في النص، وإنما عبر عنها بأساليب ووسائل غير مباشرة، وترك للقارئ أن يستنتج تلك المفاهيم والتصورات من خلال ألفاظه ومفاهيمه وتصوراته (16).
3 ـ القراءة الثالثة : وفيها نحاول اكتشاف المنطق الكلي الذي تنطلق منه كتابات الماوردي في هذا النص ـ أي كيف وصل إلى جوهر الظواهر، والكليات التي تحكم حركتها وتنظمها، وبالتالي نحاول أن ندخل باب التنظير للظاهرة موضع الدراسة.
وكما قلنا ـ فإن الباحث ـ سوف يركز على القسم الثاني من هذا النص السياسي ـ محاولاً عبر القراءات الثلاثة له استخلاص نظرية السلطة السياسية لدى الماوردي أو بناء جهد تنظيري حولها.
المبحث الأول
تأسيس السلطة وطبيعتها
الحديث عن السلطة : مفهوماً، وطبيعة، وتأسيسًا في هذا النص السياسي نجده واضحاً في القسم الثاني منه ـ إذ يقسم الماوردي كتابه : إلى قسمين واضحين، الأول في الأخلاق التي ينبغي أن يتسم بها الملك أو السلطان، والثاني في السياسة التي ينبغي أن يسلكها أو يسير عليها، وكما يرى ـ رضوان السيد ـ أنه « ربما كان هذا التقسيم وراء إضافة النساخ فقرة جديدة لعنوان الكتاب إذ سموه : ( تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك »(17).
وهذا التقسيم يرجع إلى الفكرة السائدة ـ في تلك الفترة الزمنية عن ارتبـــاط فضيلــة الدولــة أو السلطــة « سياسة الـمُلك » بفضائل الحاكم الشخصية « أخلاق الـمَلك ».
والرابط كما ذكر الماوردي ـ أن يكون الكتاب مشتملاً على « معتقد، ومفعول، ومصلحًا لعامل ومعمول ». غير أن الماوردي في هذا الجزء من النص يقدم رؤية ـ على درجة من التكامل لأصل السلطة، وأشكالها، وعلاقاتها، وتطوراتها وخضوعهــا لقوانين وسنـن « مما يحيل معه نوايا السلطان الطيبة ومهارة مستشاريه، إلى أمور ثانوية لا تؤثر تأثيراً محسوسًا في مسار الأحداث أو مصائر الدولة » (18).
ولنتوقف أمام البنية أو الإطار الفكري الذي يقدمه لنا الماوردي في هذا النص بصدد ظاهرة السلطة :
أولاً : المفهوم : السلطة والسلطان والملك :
يفتتح الماوردي بقوله «… إن الله جل اسمه ببليغ حكمته، وعدل قضائه جعل الناس أصنافًا مختلفين، وأطوارًا متباينين، ليكونوا بالاختلاف مؤتلفين، وبالتباين متفقين، فيتعاطفون بالإيثار تابعاً ومتبوعًا، ويتساعدون على التعاون آمرًا ومأمورًا، فوجب التفويض إلى امرة سلطان مسترعي، ينقاد الناس لطاعته، ويتدبرون بسياسته ليكون بالطاعة قاهراً، وبالسياسة مدبراً، وكان أولى الناس بالعناية بما سيست به الممالك، ودبرت به الرعايا والمصالح، لأنه زمام يقود إلى الحق، ويستقيم به أود الخلق».
ودون دخول في بيان السلطة باعتبارها واقعة اجتماعية ـ مما سنرجع إليه فيما بعد ـ فإن هذا الجزء من النص يوضح مفهوم السلطة وماهيتها، كما يقدمها الماوردي.. فهـي مــن ناحيــة « علاقة تبعية » « فيتعاطفون بالإيثار تابعاً ومتبوعاً وهي من ناحيــة أخــرى « علاقة خضوع » « ويتساعدون على التعاون آمرًا ومأمورًا».
غير أن جوهر المفهوم والظاهرة يتضح في تلك التفرقة بين الـمُلك والدولة ـ فالـمُلك الذي يفيد ـ لغة ـ اتساع المقدور.. وقوة اليد في القهر للجمهور الأعظم، أما الدولة فهي تفيد ما ينال من المال بالدولة فيتداوله القوم بينهم هذا مرة وهذا مرة»(19).
فالملك أو السلطان يمثل الاستمرارية والبقاء والجوهر، أما الدولة فيمكن أن تتغير أو تتبدل أو تنتقل، فالدولة شكل من اشكال السلطة أو السلطان، إنها شيء أقرب إلى مفهوم الحكومات أو الوزارات في واقعنا الحديث في إطار الدولة الوطنية أو القومية المعاصرة.. هذا التحديد لجوهر فكرة السلطة ومفهومها يتضح فيه أمرين : طبيعة المصادر الفكرية للماوردي والتى يبرز فيهالفكر السياسي الإسلامي عامة، وتشكل خلفيته ونقاط تميزه، والثاني : مدى تعبيره وفهمه لواقعه التاريخي على نحو ما أسلفنا.
فبالنسبة للأمر الأول تقدم الأصول الإسلامية المنزلة تحديدًا لمفهوم السلطة يدور حول مفاهيم ومدركات ثلاثة:
أ) الحجة والبينة والبرهان : وقد جاء في التنزيل قوله : {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِين} (إبراهيم :10) وقوله : {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُـــــــــــــلْطَانٍ مُبِين} (النمل:21)، وقوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْـطَانٍ مُبِين} (هود : 138).
والسلطلة الحجة والبينة والبرهان _ وقيل للحكام السلاطين لأنهم تقام بهم الحجة والحقوق..
ب) القدرة أو اتساع المقدرة : يقول تعالى : {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} (الأعراف : 7) قال الليث : قدرة الملك، وقدرة من جعل ذلك له وإن لم يكن ملكًا كقولك قد جعلنا لك سلطانًا على أخذ حقي من فلان..
جـ) التدبير والتصرف في الأمر: يقول تعالى : {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (النساء: 91) ولو بإطلاق {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (النساء : 144).
هذه المدركات أو المفاهيم الكلية الثلاثة: الحجة والبرهان، القدرة أو اتساع المقدرة، التدبير أو التصرف في الأمر تشكل جوهر فكرة السلطة وأساسها كما تترجمها كتابات تراث الفكر السياسي الإسلامي وتتضح من هذا النص الذي بين أيدينا(20) كما يتضح منه بنفس الدرجة فهم ظاهرة السلطة كعلاقة واقعية بجانبيها : علاقة الرئاسة والتبعية _ أي العنصر الرئاسي الذي يقوم بعملية الضبط وإصدار الأوامر وتحديد سلوك الاتباع من ناحية _ وعلاقة الخضوع _ وتلك التي تظهر في أن عدم الامتثال لأوامر تلك السلطة يخضع الأفراد والمجتمع لجزاءات معينة ومحددة، ويتضح ذلك من نص الماوردي «إمرة سلطان مسترعي، ليكون بالطاعة قاهرًا، وبالسياسة مدبرًا» فالسلطة جوهرها التدبير والرعاية والطاعة التي تقتضي الخضوع لجزاءات محددة _ وهذا هو لب وجوهر فكرة السلطة كعلاقة كما تقدمها الجهود التنظيرية في التقاليد المعاصرة(21)، ولعل هذا التحليل لطبيعة السلطة هو _ بدرجة من الدرجات _ ترجمة لمجمل الأوضاع السياسية في ذلك الوقت من حيث تدهور الأوضاع، وانقسام بين سلطة واقعية فعلية يمثلها ( بني بويه)، وسلطة اسمية رمزية يمثلها (الخلافة العباسية في مراحلها الأخيرة) مما أسلفنا الحديث عنه فيما سبق، وبهذا يكون الماوردي قد عرف السلطة وحدد ماهيتها، وننتقل بعد ذلك إلى بيان تصور الماوردي لواقعة نشأة السلطة.
ثانيا : نشأة السلطة وتطورها :
_ البحث هنا ينصب على تحديد رؤية الماوردي في هذا النص لواقعة نشأة السلطة بعد تحديد ماهيتها، أي كيف تنشأ السلطة في الواقع العملي كتنظير كواقعة الماوردي في هذا النص، وهنا سوف أتناول ثلاثة مسائل :
المسألة الأولى: الأساس الاجتماعي للسلطة : السلطة كواقعة اجتماعية :
دون دخول في الجدل النظري الدائر حول التفرقة بين السلطة «الاجتماعية» و«السياسية»(22) _ كما يقدمها الفقه الدستوري _ فإن الماوردي _ كما يظهر من تحليل نصه _ يعالج نشأة السلطة في واقع المجتمع البشرى على أساس أنها جماع عاملين:
أ) العامل المرتبط بالطبيعة البشرية الانسانية، فهو يرصد أن « الله جل اسمه ببليغ حكمته وعدل قضائه جعل الناس أصنافًا مختلفين، وأطوارًا متباينين ليكونوا بالاختلاف مؤتلفين،وبالتباين متفقين» فهو يرصد ظاهرة الاختلاف التى تقود إلى التآلف، والتباين المفضية إلى الاتفاق، وهي ظاهرة تعود إلى طبيعة مدنية البشر(23) فهو بمثابة اتجاه متصل بطبيعة البشر أنفسهم إذ يشعرون بنقصهم وأن كل منهم لا يكتمل إلا بالآخر _ وما يصدق على الفرد يصدق على المجموع _ فإذا كان اجتماع الأسرة أو العشيرة كافيًا لقضاء حاجاتها الطبيعية الأولية (الضروريات)، فإن الاجتماع الحضري (المديني) لا يقوم على روابط الدم _ وإنما لأن كل عشيرة مكملة للأخرى، ويسهب الماوردي في تحليل النشأة الأولى _ أو الأساس الاجتماعي للسلطة بتعبيرنا مؤكدًا على «وظيفة» هذه العوامل في الاجتماع البشري الطبيعي أو الأول(24)، وذلك في نص آخر هو « أدب الدنيا والدين» ويتكلم عن عناصر ثلاثة تتعلق بالحقيقة البشرية المكونة للسلطة السياسية والمتصلة بحقيقة مكوناتها ويميز بينها وهي(25) :
1) النفس المطيعة… أي النفس المفطورة على الأنس (إنسان) بالآخر، والركون إليه _ نفسيًّا _ قبل النظر العقلي «إن الله خلق الإنسان بالطبع يميل إلى الاجتماع والأنس..» ويضيف الماوردي إلى ذلك جانب «بصيرة الضرورة» إذ الإنسان ينظر إلى حقائق الأمور فيرى الرشد رشدًا ويستحسنه، ويرى الغي غيًّا ويستقبحه…».
2) الألفة الجامعة… وهي ليست فطرة وإنما دليل سمو الإنسانية فالمؤمن كما يقول صلى الله عليه وسلم «آلف مألوف» ثم يحدد أسباب «الألفة» بخمسة : الدين، والنسب، والمصاهرة، والمودة، والبر _ ولن نطيل في التفصيل _ إذ أن هذه الألفة الجامعة بعناصرها الخمسة هي التي تقيم بنية اجتماعية تأسيسية _ هذه العناصر ليست ضد الشرذمة والانقسام، بل محاولة للعيش معها أو إحداث نوع من التوازن بين عناصر التنافر والانسجام.
3) المادة الكافية… وهي القاعدة الثالثة « لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى منها بشر..» ويشرح الماوردي تعدد حاجات الإنسان وتنوعها وتجددها وكيف لا يستطيع إشباعها بمفرده فيتصل ويتعاون مع الآخرين في هذا الاشباع، وهكذا ينشأ تقسيم تلقائي للعمل « فلما كانت الزواد مطلوبة لحاجة الكافة إليها.. وأسباب المودة مختلفة.. وجهات المكاسب متشعبة، ليكون اختلاف أسبابها علة الائتلاف بها وتشعب جهاتها توسعة لطلابها، كي لا يجتمعوا على سبب واحد فلا يلتئمون، أو يشتركوا في جهة واحدة فلا يكتفونِ».
ب) الدين المتبع وهو العامل الثاني الذي يقوم عليه الاساس الاجتماعي للسلطة _ وقد ذكره في نصوص ثلاثة : «أدب الدنيا والدين»، «قوانين الوزارة»، « تسهيل النظر». و« الدين المتبع» من أولى القواعد التى بها صلاح الدنيا، يقول الماوردي في تسهيل النظر «يصلح الله سرائر القلوب.. ويبعث على التأله والتناصف، ويدعو إلى الألفة والتعاطف، وهذه قواعد لا تصلح الدنيا إلا بها، ولا يستقيم الخلق إلا عليها».
والدين _المقصود هنا _ معناه الذي يفهمه المجتمع _ ولذلك فإن المهم في الدين هو تسليم المجتمع له ليقوم عليه، ويبرر قيامه، وبالتالي شمول إيمان الناس به، وتعاليه عن تمثيل مصلحة مجموعة معينة، وقابليته للتجديد، دون أن يفقد أصله الذي هو أصل الاجتماع البشري في الوقت ذاته..
وهكذا فإن الماوردي يربط المجتمع بالدين فلا مجتمع بلا دين في نظره، فالعرف العام والشامل (الدين) هو الشرط الضروري لاستمرار الاجتماع البشرى وتأسيس القاعدة الاجتماعية للسلطة وليس السلطة ذاتها كما يذهب البعض من الذين يربطون ربطا زمنيًّا وسببيًّا بين ظاهرة السلطة وظاهرة النبوة والرسالات السماوية(26) والذي يظهر للباحث أن الماوردي إنما يريد بالدين أن يكون للمجتمع مرجعية معينة، أو محور ونقطة توجه ولذلك يرى «الكفر تدين بباطل، والإيمان تدين بحق، وكلاهما دين ومعتقد، وإن صح أحدهما يبطل الآخر» وهنا تظهر أوضح درجات واقعية الماوردي في تحليله لهذا العامل أو المكون الفعلى في الأساس الاجتماعي أو السلطة كواقعة اجتماعية وعلى العاملين السابقين تتحدد السلطة كواقعة اجتماعية أو يتعين التأسيس الاجتماعي للسلطة.
المسألة الثانية : تأسيس السلطة وأنواعه :
يتحدث الماوردي عن ثلاثة أشكال لتأسيس السلطة أو ثلاثة صيغ _ وهو لا يختلف في ذلك عن بقية شوامخ الفكر السياسي الإسلامي _ ففي بداية نصه «سياسة الـمُلك» يتحدث الماوردي عن «إن الدين والملك توأمان لا قيام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أس والملك حارس، ولابد للملك من أسه، ولابد للأس من حارسه، لأن ما لا حارس له ضائع، ومالا أس له منهدم»
ثم يستعرض الأنواع الثلاثة يقول الماوردي «إن قواعد الملك مستقرة على أمرين : سياسية وتأسيس، فأما تأسيس الملك فيكون في تثبيت أوائله ومباديه، وإرساء قواعده ومبانيه، وتنقسم ثلاثة أقسام : تأسيس دين، وتأسيس قوة، وتأسيس مال وثروة»(27) فنحن إذن أمام ثلاثة أشكال أو أنواع لتأسيس السلطة:
النوع الأول : «تأسيس دين» أو «السلطة الشرعية» :
وهي تأسيس سلطة معينة على دعوة دينية، والمثال الحي على ذلك تأسيس الدولة الإسلامية الأولى في ظل الدعوة.. ومعظم مفكري الإسلام السياسيين يتفقون على أن هذه السلطة أو الدولة الشرعية هي النموذج المثالي، أو الخلافة الراشدة.. وهي النموذج المتكامل القياسي للسلطة الشرعية، ويمكن أن نقارن بين رؤية الماوردي في هذا الأساس وبقية المفكرين السياسيين كابن خلدون وغيره.
يقول الماوردي عن هذا التأسيس أنه« أثبتها قاعدة، وأدومها مدة _ وأخلصها طاعة » ثم يستعرض بعد ذلك _ كيفية إعمال هذا التأسيس في الواقع وتحويله إلى مجموعة من الممارسات مما سنتعرض له فيما بعد في تناولنا للوظائف وبالذات.. الوظيفة العقيدية والاتصالية، ويختتم ببيان كيف يتدهور هذا التأسيس وينهار مما سنتعرض له في المبحث الثالث من الدراسة..
النوع الثاني : « تأسيس قوة» أو «السلطة الجبرية السلطانية»
وهو تأسيس سلطة معينة على قوة قاهرة _ قوة السيف في الماضي والمؤسسة العسكرية في الحاضر _ وهي نوع من شرعية القوة _ إذا جاز الوصف _ وهو ما عرف في تاريخنا بأنه « سلطة التغلب أو الاستيلاء » وأحيانا بـ «الدولة السلطانية» _ وقد بدأت في تاريخنا مع البويهيين الديلم، وبلغت أوجها مع السلاجقة المماليك(28)، ورغم أن غالبية مفكري الإسلام السياسيين اعتبروا النموذج الأول هو الأمثل، والخلافة الحقة، فإنهم اعترفوا بوجود الثاني فترة من الزمن، ثم نظّروا بعد ذلك لضرورته من باب « سلطان غشوم ولا فتنة تدوم»، ثم لشرعيته من باب قيامه بالوظائف الأساسية للسلطة الشرعية _ابتداء _ والتى تتمحور كما سنرى حول « حراسة الدين وسياسة الدنيا به».. والماوردي في هذا الصدد يعترف بوجوده _ إذ عاشه واقعًا تاريخيًّا واتصل به، وعمل معه وله _ ثم حاول ربطه بالشرعية إذا ما قام بالأدوار والوظائف الأساسية اللازمة لحفظ الدين وحراسته ورعاية الدنيا وصيانتها، وتنفك عنه هذه الشرعية إذا ما فعل النقيض وقام بالضد.. وذلك ما توضحه عبارة الماوردي «… ينتدب لطلب الملك أولو القوة، ويتوثب عليه ذوو القدرة، إما طمعًا في الملك حين ضعف، وإما دفعاً للظلم حين يستمر، و هذا يتم لجيش قد اجتمعت فيه ثلاث خلال، كثرة العدد، وظهور الشجاعة، وتفويض الأمر إلى مقدم عليهم إما لنسب أو أبوة، وإما لفضل رأي وشجاعة، فإذا توثبوا على الملك بالكثرة واستولوا عليه بالقوة، كان ملك قهر، وإن عدلوا مع الرعية وساروا فيهم بالسيرة الجميلة صار ملك تفويض وطاعة فرسا وثبت وإن جاروا وعسفوا، فهي جولة توثب، ودولة تغلب يبديها الظلم، ويزيلها البغي بعد أن تهلك بهم الرعايا وتخرب بهم البلاد»(29).
النوع الثالث : تأسيس مال وثروة _ سلطة أصحاب الثروات :
وهو إمكانية وصول النخبة المالكة اقتصاديا واستحواذها على السلطة وربما يقصد الماوردي _ كما يقول رضوان السيد _ وصول أغنياء التجار، أو كبار الملاك للرئاسة ولم يقع في تاريخنا مثال على ذلك، وربما كانت إمكانية «عقلية» اهتدى إليها الماوردي(30) وإن كان الباحث يرى أنها ربما كان خطرًا يحذر الماوردي _ من احتمالات وقوعه في ذلك العصر _ الذي عرف فئات في مجتمعه بالغة الثراء والسفه مما أفرز ظاهرة الترف والانحلال والمجون، وظاهرة الزهد والانعزال والتصوف، ويرصد الماوردي هذه الظاهرة بقوله : تأسيس المال والثروة فهو أن يكثر المال في قوم، فيحدث لهم بعلو الهمة طمع في الملك، وقل أن يكون هذا الأمر إلا فيمن له بالسلطنة اختلاط، وبأعوان الملك امتزاج… وبعيد أن يتم ذلك إلا عند ضعف الملك ووهائه، وفساد أعوانه وزعمائه… »(31).
وغير بعيد عن الأذهان أن هذا النمط من أنواع السلطة تعرض له أرسطو في تقسيمه لأنواع الحكومات «حكم الأقلية الأرستقراطية» أو الأقلية الاقتصادية على القرار السياسي من أهم أشكال السلطة – على الأقل – غير المباشرة.
هذه الأنواع التنظيرية الثلاثة التي قدمها الماوردي في «تسهيل النظر..» باعتبارها أشكالاً وأنواعًا للسلطة… وبدهي أن واقع التأسيس لا يمكن أن يكون خالصًا، إذ يمكن أن تختلط هذه الأنماط ببعضها البعض في الواقع والممارسة، وإن بقي النموذج الأول _ وهو النمط أو النموذج المرجعي أو القياسي. يبقى بعد استعراض مسألتي : المفهوم، والتأسيس بالنسبة للسلطة، تناول الثالثة تطور السلطة وتحولاتها.
المسألة الثالثة : تطور السلطة وتحولاتها :
وإذا كان الماوردي قد وضع قواعد قيام السلطة وتأسيسها، فإنه يكون من المنطقي بيان كيف تتطور السلطة وتتحول من تأسيس لآخر، ومن نموذج أو نمط لآخر.. قبل أن نعود في المبحث الثالث من هذه الدراسة لنوضح قواعد أو قوانين اختلال السلطة وانهيارها.
ففي خاتمة الفصل الذي عقده الماوردي لبيان أقسام التأسيس والتى أسلفنا الحديث عنها _ فإنه يختمه بمراحل تطور السلطة ويرصدها في مراحل ثلاثة: « واعلم أن الدولة تبتدئ بخشونة الطباع، وشدة البطش، لتسرع النفوس إلى بذل الطاعة، ثم تتوسط باللين والاستقامة لاستقرار الملك وحصول الدعة، ثم تختم بانتشار الجور وشدة الضعف لانتقاص الأمر، وقلة الحزم».
وهنا يقسم الماوردي أطوار السلطة _ في ثلاثة متقلبة وهي :
الطور الأول : والذي تكون فيه محتاجة إلى تثبيت الأركان واستقرار الأمر، وبالتالي فإنها تسرع باستخدام الشدة لكي تتحقق لها الرهبة والمنعة _ «تبتدي بتخشونة الطباع، وشدة البطش، لتسرع النفوس إلى بذل الطاعة».
الطور الثاني (الوسيط) : وهنا تتصف السلطة بالاستقامة واللين وحدوث الرخاء والرفاه.
الطور الثالث (الأخير) : والذي يختتم بانتشار الجور، وشدة الضعف لانتقاض الأمر، وهنا تكون نهاية السلطة وانهيارها والتى سوف نتوسع في تحليلها وبيان متغيراتها وأسبابها كما أسلفنا، وينقل الماوردي عن المتقدمين تشبيهًا لهذه الأطوار الثلاثة التى تمر بها السلطة «وقد شبه المتقدمون الدولة بالثمرة، فإنها تبدو حسنة الملمس، مرة الطعم، ثم تدرك فتلين وتُستطاب، ثم تنضج فتكون أقرب إلى الفساد والاستحالة»(32).
وهكذا فإن السلطة في تطورها وحركيتها تنتقل في _ أشكال معينة _ وذلك في إطار هذه المراحل الثلاثة، ولم يوضح لنا الماوردي كيفية الانتقال بين الأنواع الثلاثة من التأسيس للسلطة _ ولكن يبدو أنه كان يقدم تنظيره بصفة أساسية للنوع الثاني من التأسيس _ تأسيس القوة والتغلب _ وهو السائد والمنتشر في العصر الذي عاشه، وقد أعقب الخلافة الراشدة مع الأمويين،أما النوع الثالث _ فلم يشهده تاريخنا حتى الآن على الأقل كما سبق أن ذكرنا.
وبهذا نكون قد استعرضنا في هذا المبحث هذا الجانب من نظرية السلطة : مفهومًا، ونشأة، وتطورًا، كما يوضحه الإطار الفكري للماوردي، ويتجلى في كتابه المهم الذي نحلله بين أيدينا.
المبحث الثاني
وظائف السلطة وأدوارها
بعد أن أوضح الماوردي قواعد تأسيس الملك أو السلطة والتي تعرضنا لها في المبحث السابق، أبان قواعد سياسة الملك أو الممالك وغايتها فيها تحقيق الاستمرار والاستقرار، ومنع الاختلال والتدهور والانهيار، وهنا نحاول تناول قواعد سياسة الملك أو كيفية سياسة السلطة أو قيامها بواجباتها ووظائفها..
يقول الماوردي «أما سياسة الملك بعد تأسيسه واستقراره فتشمل على أربعة قواعد…».
لا يختلف الماوردي في رؤيته كثيرًا عن سياق الأفكار السياسية الإسلامية لبقية المفكرين، إذ يرى أن هذه الوظائف والأدوار تتمحور حول منطقين كبيرين يمكن تسمية كل منهما بوظيفة إطارية تجمع داخلها عدد من الوظائف والأدوار الجزئية(33) وهما :
الوظيفة العقيدية : وتدور حول سياسة الدين وحمايته، وتشمل الكثير من الأدوار والوظائف الاتصالية الجزئية المتعلقة بها.
الوظيفة الاستخلافية : وتدور حول سياسة الدنيا وتشمل : وظيفتي العمران والعدل وداخلهما وظائف جزئية أخرى.
وسوف نحاول تقديم قراءة للماوردي من خلال نصه السياسي في هذا الإطار..
أولا : حراسة الدين : الوظيفة العقيدية.
_ بداية فإن هذه الوظيفة وإن كانت قد ارتبطت نشأة وتطبيقًا بتأسيس السلطة على الدين، وما أسماه الماوردي « تأسيس دين» إلا أنها كوظيفية _ مستمرة أو يجب أن تكون مستمرة _ في النوعين الآخرين من التأسيس أو على الأقل في النوع الثاني «تأسيس القوة أو ولاية التغلب »، إذ أن قيامه بهذه الوظيفة مما يساعد على استقرار الملك، واعطائه نوعًا من الشرعية الواقعية أو شرعية الممارسة، وإن كان قد افتقد هذه الشرعية لحظة القيام والتأسيس وتم تسويغه بحكم الواقع والضرورة، هذا إذا قلنا بتدرج الشرعية، وليس تجزؤها..
بيد أننا قبل الدخول في الموضوع نلفت الانتباه إلى مضمون مفهوم الوظيفة أو الأدوار _ كما نستخدمه _ ويعني مجموعة السلوكيات والأفعال والأنشطة التى تقوم بها السلطة لتحقيق الأهداف والغايات المنضوية تحت مقصد حفظ الدين وحراسته، وبعبارة أخرى هي : «الواجبات»، و« القروض الجماعية » أو ما يطلق عليه فروض الكفاية… إلخ(34) وهي أيضًا «أمانة الله التي أمّن من تقلد أمور الرعية عليها، ورعيته التى استرعاه فيها واستخلفه على أمورها»(35) وتبلغ هذه الوظيفة في تأصيلها التنظيري _ مكانة الوظيفة الاطارية أو المركزية الحاكمة _ يقول الماوردي :
«إن الدين يصلح سرائر القلوب، ويمنع من ارتكاب الذنوب، ويبعث على التأله والتناصب، ويدعو إلى الألفة والتعاطف، وهذه قواعد لا تصلح الدنيا إلا بها ولا يستقيم الخلق إلا عليها، وإنما السلطنة وماتم لحفظها، وباعث على العمل بها».
ويرى ارتباط مصلحة الجماعة بالقيام بهذه الوظيفة « فلذلك وقفت مصالحهم على دين يقودهم إلى جمع الشمل، واتفاق الكلمة وينقطع به تنازعهم، وتنحســم به أطمــاعهم واختلافهم…»(36).
وقد سبق أن أوردنا المقولة المشتهرة _ والمنسوبة إلى عهد أردشير _ «واعلموا أن الملك والدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أس والملك عماده، ثم صار الملك بعدُ حارس الدين، فلابد للملك من أس، ولابد للدين من حارسه، لأن ما لا حارس له فضائع، وما لا أس له فمهدوم»(37).
وهذه المقولة تؤكد طبيعة التلازم بين هذه الوظيفة والسلطة القائمة عليها، وهنا يلفت الماوردي أنظار صاحب السلطة أو الطرف الثاني (المستقبل) في الرسالة الاتصالية إلى أنه « ينبغي للملك أن يأنف من أن يكون في رعيته من هو أفضل دينًا منه، كما يأنف أن يكون فيهم أنفذ أمرًا منه »(38) ويضيف الماوردي مخاطبًا الجوانب النفسية في الأمير الذي يوجه إليه هذه الرسالة الاتصالية الواضحة المعالم والأركان :
«قيل : الملك خليفة الله في بلاده، ولن يستقيم أمر خلافته مع مخالفته، فالسعيد من وقي الدين بملكه، ولم يوق الملك بدينه، فأحيا السنة بعدله، ولم يمتها بجوره، وحرس الرعية بتدبيره، ولم يضعها بتدميره، ليكون لقواعد ملكه موطدًا، ولأساس دولته مشيدًا، ولأمر الله في بلاده ممتثلاً، فلن يعجز الله استقامة الدين عن سياسة الملك، وتدبير الرعايا…»(39).
فغاية السلطة في تحقيق الاستقرار وتوطيد الأركان، وتدبير الأمور أمر منوط باستجابتها وقيامها بأمر الدين وحراسته، إذ جوهر القيام بهذه الوظيفة هو تحقيق مقصد (حفظ الدين)؛ والذي بدوره التعبير العملي عن الحفاظ وإنجاز قيمة (التوحيد) في واقع الممارسة العملية.
وجوانب تحقيق هذه الوظيفة وأبعادها العملية يمكن إيجازها فيما يلي حسب النص السياسي الذي نقوم بتحليله.
1 ـ إقامة السلطة وتأسيسها على الدين ـ وقد سبق أن تعرضنا لذلك في موضعه، ولكن الأمر يرتبط بأن يظل هناك ترابطًا واضحًا بين الأمرين على المستوي الفردي حيث تمكن السلطة المسلم من أن يعيش حياته وفق ما تمليه عليه مثاليته الدينية وعقيدته وشريعته، وأن تظل السلطة محتفظة – ولو على المستوى الاتصالي أو الرمزي – بصلتها بالدين ورموزه، وفي هذا يذكر الماوردي – في أسباب تحول السلطة وتدهورها وانحلالها – « أن يخرج الملك من منصب الدين حتى يتولى عليه غير أهله، ويظهر منه خلاف عقده ـ فتنفر منه النفوس إن لان وتعانده إن خشن، تعطيه القلوب وإن أطاعته أجساد »(40)، وسوف نعود لذلك في موضع آخر…
2 ـ حماية الدين وقواعده الأساسية، وذلك من تحريف المبتدعين ومن تخريب المنافقين والمرجفين، ولعل في ذلك حفاظ على حقيقة كيان المجتمع وثوابته الأساسية المستمدة من عقيدته وشريعته.. ويرى الماوردي أيضًا أن من الأسباب المفضية إلى انحلال الملك وتدهوره « أن يكون الملك ممن قد أحدث بدعة في الدين شنعة، واختار فيه أقوالاً بشعة يفضي استمرارها إلى تبديله، ويؤل إلى تغييره وتعطيله..»(41).
3 ـ إقامة الكيان الاجتماعي وتأسيسه على القيم الأساسية للعقيدة والمنهج المنبثق منها… وقد عالج الماوردي ذلك أيضاً في إطار تبصيره للأمير بأن يراعي طبيعة الجسد الاجتماعي والسياسي الذي يحكمه… لأن المجتمع هنا هو مداد الممارسة والحكم على تصرفات السلطة يقول الماوردي « أن يكون الملك ممن قد استهان بالدين، وهوّن أهله، فأهمل أحكامه، وطمس أعلامه، حتى لا تؤدي فروضه، وتوفي حقوقه، إما لضعف عزمه في الدين، وإما لانهماكه في اللذات، فيرى الناس أن الدين أقوم، ولحقوقه وفروضه ألزم فيصـير دينه مدخولاً، وملكه محلولاً…»(42)، وسوف نعود لذلك فيما بعد.
والذي يبدو لنا أن الماوردي كانت نظرته إزاء مجتمعه إيجابية بشكل عام، ويري أن واجب السلطة ازاء هذا الكيان من ناحية الدين، متمثلاً في حراسة الرعية : « حملهم على موجب الشرع في عباراتهم ومعاملاتهم، وإقامة حدود الله تعالى وحقوقه فيهم…»(43).
ولم يظهر كثيرًا في هذا النص انعكاس أوضاع المجتمع الثقافية والدينية وأحوالهم على ما قدمه الماوردي.
4 ـ وقد غابت في كتاب الماوردي أحد أهم جوانب الوظيفة العقيدية وأبعادها المتعلقة بكيفية التعامل مع العالم الخارجي وموقع السلطة منه… أين منطق الدعوة والاتصال.. بل أين مبدأ عالمية الدعوة.. وأين موضع الجهاد في إطار الوظيفة العقيدية ؟
صحيح أن الماوردي ـ كما سنرى ـ تكلم عن « تدبير الجند » ولكن بأي معنى.. يقول عنهم « بهم يقهر حتى يسوس، وإذا عجز بفسادهم صار مقهورًا، وإن ساسهم بحزمه حتى انقادوا كان لهم بالقوة سلطانًا،وكانوا بالطاعة له أعوانًا ».
لا يفسر هذا الأمر من وجهة نظرنا سوى تراجع الدولة وانهيارها ـ كما أسلفنا في المقدمة ـ فالدولة قد انكمشت وتقوقعت بل وغزيت من أطرافها، بل وتمزقت من داخلها وصار خليفتها إسمًا وشكلاً لا يملك من خاصة أمره ـ ذاته ـ شيئًا، وازدهرت الشعوبية.. وانتشرت إمارات وحكام التغلب.. فمن المنطقي ألا يذكر مؤلفنا الواقعي عن هذا الجانب شيئًا خاصة في ضوء ما ذكرنا عن طبيعة هذا النص السياسي وأهدافه الاتصالية.
وهكذا فإن الماوردي قدم رؤية تنظيرية مركزة لما فصله من الأحكام السلطانية حيث يقول « إن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا » ويذكر عشرة وظائف ما يتعلق منهم أو يندرج في اطار الوظيفة العقيدية هي :
ـ حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذ بما يلزمه من الحقوق، ليكون الدين محروسًا من الخلل والأمة ممنوعة من الزلل.
ولكنه يعود هنا ليذكر ما لم يذكره في « تسهيل النظر » الذي نقوم بتحليله.
ـ جهاد من عائد الإسلام بعد الدعوة حتى يســـلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله في إظهاره على الدين كله(44).
ولكن يبدو أن ذلك كان جريًا ـ في هذا المؤلف ـ على عادة بقية المؤلفين ومسألة المقارنة بين كتابه وأبو يعلى الفراء أسلفنا الحديث بصددها تشير إلى شئ من هذا القبيل.
ثانياً : الوظيفة الاستخلافية :
ـ وتشمل هذه الوظيفة على سياسة الدنيا وحسب الماوردي « سياسة الملك بعد تأسيسه واستقراره، وتشمل على أربعة : عمارة البلدان، وحراسة الرعية، وتـدبير الجند، وتقدير الأموال!! (45).
وهذه الوظيفة مساندة للوظيفة العقيدية وتابعة لها، وهي مركبة من وظيفتين كل منها بدورها تنقسم إلى وظائف فرعية كالتالي :
أ ) وظيفة العمران :
وقد ذكر الماوردي في قواعد سياسة الملك « عمارة البلاد » ـ وقد استخدم ابن خلدون فيما بعد مفهوم العمران البشري، ويحدثنا التنزيل عن المفهوم في قوله تعالي : { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} ( هود / 61)، وهو مرتبط بالوظيفة العقيدية ـ كما أسلفنا ـ وإلى ذلك يشير التنزيــل {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَءَاتَى الزَّكـَاةَ وَلَمْ يَخْـشَ إِلاَّ اللَّهَ } (التوبة : 18).
ويفصل الماوردي في ذكر وظيفة العمران «… فإما القاعدة الأولى وهي عمارة البلدان، فالبلاد نوعان : مزارع، وأمصار.. فأما المزارع فهي أصول المواد التي يقوم بها أود الملك، وتنتظم بها أحوال الرعايا، فصلاحها خصب وثراء، وفسادها جدب وخلاء.. وأما الأمصار فهي الأوطان الجامعة.. وهي نوعان : مصر مزارع وسواد، ومصر فرصة تجارة… ».
ويري الماوردي أن هذه الوظيفة منوطة بشكــل أساسي بالسلطة، يقــول: «وحفظ السلطان في عمارة البلدان والأوطان أو في من حفظ رعيته، لأنه أصل هم فروعـه، ومتبـوع هـم أتباعـه»(46).
ونلاحظ أن الماوردي لم يركز على المزارع ـ قدر تركيزه على الأمصار أو «الأوطان الجامعة » والتي يقدم بصددها رؤية ـ على قدر معقول من التفاصيل ـ فهو يذكر :
ـ غايات عمارة المدينة : السكون والدعة، وحفظ الأموال، وصيانة الحريم، والحصول على المتاع والصناعة، والتعرض للكسب وطلب المادة.
والأهداف الثلاثة الأول ـ كما يقول رضوان السيد ـ تشير إلى أن الريف الإسلامي في ذلك الوقت كان يعاني مشكلة أمنية مستعصية ـ وذلك بمفهوم ومنطق المخالفة ـ ولكي تستطيع المدينة أن تحقق الأهداف المرجوة منها ثمة مجموعة من الشروط منها : توافر المياه، وإمكان الميرة من الريف القريب، واعتدال مناخ المكان، ووجود ضواحي خصبة، وحصانة الموقع.
فإذا توافرت هذه الشروط استقر لمصر واستمر، واستحال زواله (47) ووظيفة العمران تتحقق من خلال وظيفتين فرعيتين هما : الوظيفة الانمائية، والوظيفة الأمنية، وحينما طالب التنزيل المسلمين بتحقيق غايات الوظيفة العقيدية والاستخلافية قرن ذلك بأنه حـقق لهــــــــــم ( الإنماء ) من جانب و(الأمن) من جانب آخر {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (48) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَءَامَنَهُـمْ مِنْ خــَوْفٍ } (قريش/ 3).
وجعلت مسألة تحقيق الغاية له منوطه بتوفير أسابها { رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكــــــــــُرُون} ( إبراهيم / 37).
وقد اتضح ذلك مما أورده الماوردي بصدد حراسة الرعية ـ وضمنها عشرة أشياء منها :
أ ) تمكين الرعية من استيطان مساكنهم وادعين، والتخلية بينهم وبين مساكنهم آمنين.
ب) كف الأذي والأيدي الغالبة عنهم.
جـ) أمن سبيلهم ومسالكهم.
د) القيام بمصالحهم في حفظ مياههم وقناطرهم.
هـ ) تقديرهم وترتيبهم على أقدراهم ومنازلهم فيما يتميزون به من دين وعمل، وكسب وصيانة، إذ تدور هذه الحقوق حول الوظيفتين ( الإنمائيـة )، و(الأمنية) لتسهمان بعد ذلك في تحقيق عمارة البلدان أو وظيفة العمران والذي يبدو لنا أن ما ذكره الماوردي بصدد تدبير الجند يتعلق أساس بالوظيفة الأمنية ـ أي بالتأمين الداخلي للسلطة الحاكمة ـ ولا يدور حول أية أبعاد تتعلق بالفيضان الخارجي أو الجهاد أو نشر الدعوة ـ كما أسلفنا القول ـ فالماوردي يعيش في إطار دولة سلطانية، وإمارات قامت على أساس الاستيلاء والتغلب فهي تستند على القوة المجردة التي يمكن أن تهدد كل لحظة ـ إذا كانت عصبية القوة قد ضعفت بعد المرحلة الأولى لصعود السلطان ـ ولذلك لابد من تعامل من نوع معين مع الجند ـ حفظة النظام وسدنته ـ إذ ينبه الماوردي السلطان إلى ضرورة قضاء حاجات الجند بدقة وسرعة لتظل هيبته فيما بينهم، ثم يطلب إليه إنصافهم ـ حسب أقدارهم وغنائهم لا حسب الحب والبغض ـ وأخيرًا فإن الماوردي ينصح السلطان بضرورة بناء استخباراتي محكم يأتيه بأخبارهم كلها خشية حدوث مؤامرات عليه في صفوفهم أو بين ضباطهم (49).
يقرر الماوردي في ذلك « أما القاعدة الثالثة ـ وهي تدبير الجند ـ فلأن بهم ملك حتى قهر، واستولى حتى قدر ؛ فإن صلحوا كانت قوتهم له، وإن فسدوا صارت قوتهم عليه.. وتدبيرهم الذي يحفظ عليهم طاعتهم ويستخلص به نصرتهــم يكــون بأربعــة شـــروط.. »(50).
وفي النهاية فإن الماوردي يرى أن السلطان إذا قام فيهم بهذه الحقوق فهي السياسة العادلة والسيرة الفاضلة التي تستخلص بها طاعة الرعية، وينتظم بها المملكة.
2 ـ وظيفة العدالة :
وهي وظيفة تعبر عن قيمة محورية في بناء القيم الإسلامي، فالعدالة قيمة كلية محورية وفريضة، فعلى السلطة التزام مبدأ العدالة في جميع تصرفاتها داخليًّا وخارجيًّا ـ مع المسلم وغير المسلم { إِنَّ اللَّهَ يــــَأْمُرُ بِالْعــَدْلِ وَالإِحْســــَان } (النحل / 90 )، { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ( المائدة / 8)، وبالتالي فإن هذه الوظيفة تقدم الإطار الذي يحمي ممارسة بقية الوظائف ويسهم في فعالية هذه الممارسة.
والعدالة – ليست كما يقدمها التصور الغربي – والتي تعني ما هو مطابق للقانون وحتى وإن تطور هذا القانون لكي يصبح تعبيرًا عن واقع الدولة وحياتها، فسوف يظل مفهومها شكليا وقاصرًا ومرتبطًا بولاية القضاء.
فالعدالة – في الرؤية الإسلامية – تعني: إعطاء كل ذي حق حقه حتى في حالة الاختلاف والبغض، والشعور بالاستقرار، والمعرفة المسبقة بالحقوق والواجبات.. وهي عنصر من عناصر ممارسة وظائف الدولة، والقيام بهذه الوظائف ينبغي أن يكون مرتبطًا ومختلطًا بمفهوم العدالة، كما أن السياسة الإسلامية توصف بالعادلة ـ فهي منطق كلي يأطر جميع المفاهيم(51).
ويحاول الماوردي أن يحدد مقومات وظيفة العدل في اطار أربعة مفاهيم ومدركات أساسية هي : الرغبة، والرهبة، والانصاف، والانتصاف «وأصل ما تبنى عليه السياسة العادلة في سيرة الرعية بعد حراسته الدين وتخير الأعوان أربعة : الرغبة والرهبة والإنصاف والانتصاف، فأما الرغبة فتدعو إلى التآلف، وحسن الطاعة، وتبعث على الإشفاق، وبذل النصيحة، وذلك من أقوى الأسباب في حراسة المملكة، وأما الرهبة فتمنع خلاف ذوي العناد وتحسم سعي أهل الفساد حذرًا من السطوة وإشفاقًا من المؤاخذة، وذلك أقوى الأسباب في تهذيب المملكة، وأما الإنصاف فهو عدل يفصل بين الحق والباطل يستقيم به حال الرعية وتنتظم به أمور المملكة، فلا ثبات لدولة لا يتناصف أهلها، ويغلب جورها على عدلها.. وأما الانتصاف فهو استيفاء الحقوق الواجبة، واستخراجها بالأيدي العادلة، فإن فيه قوام الملك، وتوفير أمواله، وظهور عزه، وتشييد قواعده وليس في العدل ترك ما من وجهه، ولا أخذه من غير وجهة، بل كلا الأمرين عدل، لا استقامة للملك إلا بهما »(52).
هذه المدركات والمفاهيم الأربعة تحدد مقومات وظيفة العدالة ـ كوظيفة كليـــة كمــا يقدمهــــا المـــاوردي.. « فالسياسة العادلة والتي تتم في إطار حراسة الدين » تقوم على أساس المقومات الأربعة السالفة الذكر والتي تعني :
أ ـ تحقيق حالة من الشعور بالاستمرارية والاستقرار على المستوى المجتمعي، فالرغبة تؤدي إلى التآلف والطاعة والانسجام فيحدث نوع من حسم أهل الفساد وردعهم وزجرهم وذلك بالرهبة.
ب ـ المعرفـة المسبقـة بالحقـوق والواجبـــات.. هــو جـــوهر قيمـــة « الإنصاف » ؛ « ويفرق الماوردي ما بين العدل والإنصاف في الحقوق الخاصة، وليس يخرجان بهذا الفرق من الاشتراك في الحق، كما أن بمثله يكون ما بين الجور والحيف، ولا يمنع من الاشتراك في الباطل، وقد قيل : من عدل في سلطـــــانه استغني عـن أعوانه».
جـ ـ إعطاء كل ذي حق حقه حتى في حالات البغض والاختلاف وهو جوهر قيمة « الانتصاف »، فهو كما يرى الماوردي « استيفاء الحقوق الواجبة، واستخراجها بالأيدي العادلة فإن فيه قوام الملك… وليس في العدل ترك مال من وجهة، ولا أخذه من غير وجهة، بل كلا الأمرين عدل، لا استقامة للملك إلا بهما.. » ويضيف أن الأوضاع قد تجبر السلطة في بعض الأحيان بعكس ذلك «… تلجئه الحوادث إلى ترك ما يستحق إلى أن يأخذ ما لا يستحق، فيصير في الترك جائرًا على ملكه وفي الأخذ جائرًا على رعيته، فلا ينفك في الحالين أن يكون خاطئا ملوما، وجائرًا مذمومًا»(53).
والسياسة العادلة ـ كما سبق القول ـ والتي تتم في إطار حراسة الدين، تعد منطلقًا ومنطقًا كليًّا يسيطر على جميع المدركات والممارسات المتعلقة بوظائف السلطة السياسية..
والذي يبدو لنا أن هذه الوظيفة إنما تتحقق في مضمونها ومدركاتها الكلية من خلال وظيفتين فرعيتين هما : الوظيفة التوزيعية، الوظيفة الجزائية تتكاملان معًا في تحقيق وظيفة العدالة وترجمة المدركات والقيم الكامنة خلفها على النحو التالي :
1 ـ الوظيفة التوزيعية ( تقدير الأموال ) :
العدالة في النظرة الإسلامية ـ مساواة إنسانية ينظر فيها إلى تعادل جميع القيم ـ بما في ذلك القيم الاقتصادية البحتة، وترك المواهب تعمل في الحدود التي لا تتعارض مع الأهداف العليا للحياة ـ فهذه النظرة لا تقر بالمساواة ـ بمعناها الحرفي الضيق، إذ تنطلق من تفاوت الجنس البشري كحقيقة مطلقة من ناحية، وأن العمل هو أساس الملكية ومالها من حقوق من ناحية أخرى.
والوظيفـــة التوزيعيــة تعـني منطـــق (التوازن ) ـ في مستوي المعيشة ـ وليس في مستوى الدخل ـ بحيث يكون المال موجودًا ومتداولاً بين أفراد المجتمع ككل، ويمنع أن يكون المال دولة بين الأغنياء فقط { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُم } (الحشر / 7 ) أو أن يسخر لتحقيق مــآرب سياسيــة { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْم } ( البقرة / 188) بحيث يعيش جميع أفراد المجتمع مستوي معيشي ـ هو حد الكفاية ـ مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى تتفاوت بموجبها المعيشة(54) حسب القدرات ـ ولكنه تفاوت « درجة » محكومة، وليس تناقصًا كليًّا.
وقدم الماوردي رؤية تحليلية لهذه الوظيفة التوزيعية والتي أسماها «تقدير الأموال»، ففي البداية يوضح أهميتها، ومدى علاقتها بوظيفة العدل أو ما يطلق عليه « السياسة العادلة »، يقول الماوردي : « أما القاعدة الرابعة وهي تقدير الأموال ؛ فلأنها المواد التي يستقيم الملك بوفورها. ويختل بقصورها، وتقديرها على الملوك مستصعب لأنهم يرون بفضل القدرة بلوغ كل غرض، ودرك كل مطلب، فإن وصلوا إليه بالأسهل الألطف وإلا توصلوا بالأصعب الأعنف ».
ويربط الماوردي بين وظيفة العدالة وكيفية القيام بالوظيفة التوزيعية وتحقيق السعادة يقول : « أقاموا بفضل الحزم على السياسة العادلة حتى وقفت بهم القدرة على تقدير الأموال أن يعتبر بما استدام حصوله، ويسهل وصوله، ولم يحتج معه إلى التماس معوز، وارتياد متعذر اعتدلت ممالكهم، وتعدلت مطالبهم، فلم يعجزوا عن حق، ولم يتعدوا إلى باطل، وكان الظافر بهذه الحال منهم هو الملك السعيد، ورعيته به أسعد الرعايا »(55).
ويقدم الماوردي تأصيلاً نظريًّا للوظيفة التوزيعية على درجة كبير من التكامل :
فالأموال – كما يقول – تقديرها معتبر من وجهين، أحدهما تقدير دخلها، وذلك مقدر من أحد وجهين، إما بشرع ورد النص فيه بتقديره، فلا يجوز أن يخالف، وإما باجتهاد ولاة العباد فيما أداهم الاجتهاد إلى وضعه وتقديره، ولا يسوغ أن ينتقض، وإذا ردت إلى القوانين المستقرة ثمرت بالعدل، وكان إضعافها بالجور ممحوقًا».
فهذا الجانب يتعلق بإيرادات السلطة ( أو دخلها ) وهو يأتي من أحد طريقين محددين ومقررين :
1 ـ ما ورد فيه نص من الشرع بتقديره : كالزكاة، والركاز.. ألخ وهذا لا يجوز أن تحدث فيه أية مخالفة لأنه نص واضح.
2 ـ ما يخضع في تقديره لسلطة ولاة الأمور واجتهادهم، وليس هناك مبرر لرده(56).
ثم يربط الماوردي ـ مرة أخري ـ هذا الجانب بوظيفة العدل والسياسة العادلة في قوله « وإذا ردت إلى القوانين المستقرة ثمرت بالعدل، وكان إضعافها بالجور ممحوقاً.. »
ويضيف الماوردي الجانب الثاني ـ في تقدير الأموال ـ والمتعلق بـ « النفقات » يقول « والثاني تقدير خرجها، وذلك مقدر من وجهين، أحدهما بالحاجة فيما كانت أسباب لازمة أو مباحة.
والثاني : بالمكنة حتى لا يعجز منها دخل، ولا يتكلف معها عسف »(57) هذا الجانب يتم التصرف فيه في أحد طريقين أو بحدين :
1 ـ لتغطية الحاجات التي أسبابها لازمة أو مباحة كشراء الغذاء أو المساكن.. الخ.
2 ـ في إطار الإمكان ( أو قدر الطاقة ) التي يكفيها الإيرادات ولا يكون الإنفاق فيه أي قدر من الظلم.
ويحدد الماوردي ـ في مقابلته بين الإيرادات والنفقات ـ بالنسبة للسلطة أحوال ثلاثة نستعرضها فيما يلي :
يقول الماوردي « ثم لا يخلوا حال الدخل إذا قوبل بالخرج من ثلاثة أحوال.. ».
الأول : زيادة الايرادات عن المصروفات :
يقول الماوردي « أحدهما : أن يفضل الدخل عن الخرج، فهو الملك السليم، والتقدير المستقيم، ليكون فاضل الدخل معقدًا لوجوه النوائب، ومستحدثات العوارض، فتأمن الرعية عواقب حاجته، ويثق الجند بظهور مسكنته، ويكون الملك قادرًا على دفع ما طرأ من خطب، أو حدث من فرق، فإن للملك فنونًا لا ترتقب، وللزمان حوادث لا تحتسب »(58).
يري الماوردي أن هذه الحالة التي تزيد فيها الإيرادات عن النفقات هي الحالة التي تكون فيها السياسة مستقيمة والسلطة سليمة، إذ أن فائض الإيرادات يمكن الاستعانة به لمواجهة الظروف الطارئة بكل ما يترتب عليها من مخاطر غير متوقعة.
الثاني : نقص الإيرادات عن المصروفات :
يقول المارودي «… والحال الثانية أن يقصر الدخل عن الخرج، فهو الملك المعتل والتدبير المختل لأن السلطة بفضل قدرته يتوصل إلى كفايته كيف قدر، فيتناول ما وجب. ويطالب بما لا يجب، وتدعو الحاجة إلى العدول عن لوازم الشرع وقوانين السياسة إلى حرف يصل به إلى حاجته ويظفر بإرادته، فيهلك معه الرعايا، وينبسط عليه الأجناد، وتدعوهم الحاجة إلى مثل ما دعته فلا يمكن قبضهم عن التسلط وقد تسلط، ولا منعهم من الفساد وقد أفسد، فإن استدرك أمره بالتقنع، وساعده أجناده على الاقتصاد، وإلا فإلى عطب ما يؤول الفساد »(59).
وهذا الحالة عكس الأولى تقل الايرادات عن المصروفات، وتكون السياسة مختلة وغير منضبطة بأية حدود أو ضوابط، والسلطة معتلة قد أصابها الوهن والأمراض، فالسلطان يستخدم قدرته للحصول على ما يريد بدون وجه حق؛ فيجور على الرعية، ويتجرأ أجناده على التسلط والفساد لأنهم رأوه يفعل الشئ ذاته… وبذلك تؤول الأمور إلى فساد…
الثالث : تساوي الإيرادات والمصروفات :
يقول الماوردي «… والحالة الثالثة، أن يتكافأ الدخل والخرج حتى يعتدل ولا يفضل، ولا يقصر، فيكون الملك في زمان السلم مستقلاً، وفي زمان الفتوق والحوادث مختلاً ؛ فيكون لكل واحد من الزمانين حكمه، فإن ساعده القضاء بدوام السلم كان على دعته واستقامته، وإن تحركت به النوائب كده الاجتهاد، وثلمه الأعوان، فيجعل الملك ذخيرة نوائبه في مثل هذه الأحوال الإحسان إلى رعيته، وتحكيم العدل في سياسته، ليكون بالرعية مستكثرًا، وبالعدل مستثمرًا »(60).
وفي هذه الحالة تتساوى الإيرادات مع المصروفات، وهناك يفرق الماوردي بين زمان السلم والذي تكون فيه السلطة مستقرة ومستقلة في أمورها، وإذا ساعدت الظروف السلطة باستمرار هذا الوضع فإنها تستمر على هدوئها واستقرارها.
وبين زمان الفتوق والحوادث تكون السلطة مختلة، وهنا يداوي السلطان حالة الاختلال هذه بالإحسان إلى رعيته، وإقامة العدل بينهم وفي سياسته..
هكذا قدم رؤية على درجة عالية من التكامل والتجديد، وإزاء الوظيفة الأخيرة لنا وقفة..
2_ الوظيفة الجزائية :
تخلق الوظيفة الجزائية الاطار الذي يسمح باحترام بقية وظائف السلطة، ويحقق لها فعالية الممارسة وبالتالي إنجاز أهدافها ومقاصدها، كما أنها ترتبط بتحديد ما يقع على عاتق الدولة بخصوص الإخلالات التى تحدث في ممارسة الوظائف الأخرى، والقيام بها، والواقع أن احتكار السلطة للجزاء _ بقسميه السلبي والإيجابي _ وبالذات استخدام أدوات العنف في الإطار المشروع _ يقترب من مبدأ « إقامة حدود الله » و« القصاص» في الرؤية الإسلامية وكليهما في تعبيرهما النظامي منوط بالسلطة الشرعية، وليست الوظيفة الجزائية _ ذات طابع تنفيذي _ منوطة بالسلطة التنفيذية كما قد يتبادر إلى الأذهان ؛ ولكنها وبالأساس ترتبط بالنواحي التشريعية والقضائية، فالتشريع يحدد الجزاء، والقضاء ينزله على الواقعة المعنية حكمًا، والحاكم والأمة يكفلان عملية إنفاذه..
وإذا كانت العملية الأخيرة _ التنفيذ بإقامة الحدود أو القصاص.. الخ _ ليست مما يُختلف بصدده، فإن العمليتين التشريعية والقضائية تحتاجان لفهم من نوع معين في ضوء الخبرة الإسلامية وكتابات الفكر السياسي المعبرة عنها :
أ ) عملية تحديد الجزاء هي عملية _ تشريعية _ ترتبط بإحراز مؤهلات علمية موضوعية _ ولا ترتبط بظاهرة التصويت أو الإرادة العامة _ وإنما يتولاها الفقهاء من أهل الاختصاص _ بالمعنى العام لهم _ وتدور حول « تخريج الأحكام » أي مقابلة ما يستجد في حياة الناس من وقائع وأحداث بأحكام شرعية بحيث تبقى واقعات الحياة وأحداثها محكومة بالإطار الشرعي..
إذ أن لكل واقعة حكم _ لو عن طريق القياس وتعدية حكم واقعة على أخرى تأسيسًا على العلة المشتركة المنضبطة بينهما _ وتظل محاولات تحديد نطاق معين لهذه العملية مرنًا وخاضعًا لمستجدات الوقائع وتطوراتها، بحيث تظل الحياة دومًا محكومة بضوابط الشريعة(61).
ب) عملية تطبيق الجزاء بمعنى إنزال الحكم الشرعي على واقعة معينة _ وهي كما سبق القول _ وظيفة القضاء _ ولن نفيض في ضمانات استقلالية القضاء في الشريعة والخبرة الإسلامية التي لم تشهد واقعة لسلطة عزلت قاضيًا أو عدلت حكمًا له(62)، وقد عرف القضاء المتخصص «ولاية النظر في المظالم»، وكذلك «القود» ومسألة تفريد العقاب(63).
_ أما مسألة توقيع العقوبة أو إنزال الجزاء فإنها تظل في الواقع منوطة بسلطة ولي الأمر التنفيذية.
_ ولا يذكر الماوردي تفصيلاً لهذه الجوانب المتعلقة بالوظيفة الجزائية _ وإنما يشير إليها سريعًا _ ففي القاعدة الثانية : (حراسة الرعية) يرى : «والذي يلزم الملك في حقوق الاسترعاء عليهم عشرة أشياء.. «.. الرابع : استعمال العدل والنصفة معهم، والخامس : فصل الخصام بين المتنازعين منهم، والسابع : إقامة حــــدود الله تعالى وحقوقه فيهم»(64).
_ فثمة تركيز على قيمة العدل، وإعطاء كل ذي حق حقه من الرعية بالإضافة إلى إقامة حدود الله تعالى وحقوقه في الرعية، وذلك كله يدور حول الجوانب أو الأبعاد (التنفيذية) أو السلطة التنفيذية المنوطة بالأمير أو الوالي وهي ما يطلق عليه لبعض الأبعاد الإجرائية للعدالة..
_ كما يعرض الماوردي أيضا لعملية تطبيق الجزاء وإنزال الحكم الشرعي على واقعة معينة بقوله «.. والخامس : فصل الخصام بين المتنازعين منهم.. » وتلك وظيفة القضاء كما أسلفنا القول.. ويظهر من كلام الماوردي عن القضاة _ أو السلطة القضائية _ وهي أحد أهم أعمدة السلطة فهم « عماد مملكته، وقواعد دولته..» _ أنه ينوط بوظيفتهم مكانة رفيعة يقول :« هم موازين العدل، وحراس السنة باتباعها في أحكامهم، وبهم ينتصف المظلوم من الظالم في رد ظلامته، والضعيف من القوي في استيفاء حقه».. ولذلك فإن الماوردي يذكر شروطًا لاختيار القضاة «والذي تقتضيه السياسة في اختيارهم بعد الشروط المعتبرة فيهم بالشرع أن يكون القاضي حسن العلانية، مأمون السريرة، كثير الجد، قليل الهزل، شديد الورع، قليل الطمع، قد صرفته القناعة عن الضراعة، ومنعته النزاهة من الشره، وكفه الصبر عن الضجر، وصده العدل عن الميل، يستعين بدرسه على علمه، وبمذاكرته على فهمه، لطيف الفطنة، جيد التصور، مجانبًا للشبه، بعيدًا عن الريب، يشاور فيما أشكل، ويتأتى فيما أعضل »(65).
غير أن ما يلفت الانتباه في هذا الصدد أن الماوردي لم يشر في هذا النص لا إلى عملية تحديد الجزاء _ والتى هي لب العملية التشريعية _ ولا إلى القائمين عليها من الفقهاء، والمجتهدون.. فلماذا هذا الغياب؟
الواقع « إن الوظيفة التشريعية كانت مستوعبة في الشريعة الإسلامية، ولم تكن تصدر بأحكام الشريعة قوانين يطبقها القاضي، الذي كان يستقى أحكامه مباشرة من كتب الفقه الخاصة بمذهبه»(66).
كما أن الفقهاء أو المجتهدين _ لم يكونوا أو على الأقل لم تكن مذاهبهم واجتهاداتهم يتم الالتزام بها على أساس أنها نابعة من سلطة وإنما بمقدار مالها من إقناع وحجية وقبول لدى جمهور المسلمين، فمدار الالتزام بها على أساس مقدار حجيتها وليس كونها صادرة عن سلطة معينة، ولذلك نجد أن الماوردي عندما تحدث عن أربعة طبقات هم « عماد مملكته، وقاعدة دولته» أي أنهم أعمدة السلطة وأركان الدولة _ ذكر « الطبقة الأولى : الوزراء، الطبقة الثانية : القضاة والحكام، الطبقة الثالثة : أمراء الأجناد، الطبقة الرابعة : جباة الأموال وعمار الأعمال» ولم يذكر من بينهم الفقهاء وأهل الاجتهاد الذين يمكن القول أنهم كانوا أقرب إلى « مؤسسات الأمة» منهم إلى بنية السلطة الحاكمة في ذلك الوقت ولذلك لم يرد لهم ذكر في نص الماوردي.
وخلاصة الأمر فإن منطق العدل هو الذي يسود ممارسة الوظيفة الجزائية، بحيث تعتبر قيمة عليا تستند إليها كافة الاجراءات والتدابير وترتبط بها برباط وثيق..
وفي النهاية فإن الوظيفتين الجزائية والتوزيعية كما يقدمها الماوردي يتكاملان معا ليتحقق منطق وظيفة العدل، والتى تتكامل بدورها مع وظيفة العمران وتحكم ممارساتها (سواء الانمائية، والأمنية) ليشكلوا جميعًا الوظيفة الاستخلافية _ والتى تعد _ كما أسلفنا القول _ وظيفة تابعة ومساندة للوظيفة العقيدية»(67).
_ وباستقراء كل ما سبق يمكن الوصول إلى تنظير الماوردي _ كما ورد في هذا النص السياسي _ لوظائف السلطة، هذه الوظائف التي تستبطن منظومة القيم الإسلامية وممارستها تترجم مقاصد هذه القيم وغاياتها..
وإذا كانت القيم تتصاعد لكي تصب في قيمة عليا ومحورية ( قيمة التوحيد )، وكذلك الأمر بالنسبة للمقاصد ( مقصد حفظ الدين ) ؛ فإن الوظيفة العقيدية للسلطة _ حسب التحديد السابق _ جوهرها قيمة التوحيد ومقصــدها حفظ الدين، وقياسًـــا على ذلك فإن وظــائف الســلطة تشكل منظومـــة متصــاعدة لتصــب في الوظيفة الأسـاســية والمحورية للسلطة، وهي الوظيفة العقيدية أو في بعض التنظيرات الوظيفة الاتصالية للسلطة..
المبحث الثالث
اختلال السلطة وانهيارها
«فساد الزمان، وتغير الأعوان»
إذا كان استقرار السلطة منوطًا بالقيام بالوظائف _ التى أسلفنا الحديث عنها _ فإن عدم القيام بها أو القيام ببعض الجوانب والتقصير في البعض الآخر، يؤدي إلى تعرض السلطة لمجموعة من الاختلالات يمكن أن تقود في نهاية الأمر إلى انهيارها، والماوردي يرى أن ظاهرة السلطان _ أو السلطة _ ظاهرة بشرية وطبيعية وبالتالي «يجري على السلطان سنن الأكوان، حيث يعيش القوة والمنعة، ويعتريه الضعف، ويصاب بالاختلال والاعتلال» وقد تناول أكثر المفكرين السياسيين الإسلاميين _ هذا الموضوع بل إن الماوردي قد تناوله بطريقة أكثر عمقًا في نصوص سياسية أخرى وليس في هذا النص موضع التحليل(68)، ورغم أن الماوردي يعالج الموضوع بشكل مباشر ويجمله في أمرين هما : فساد الزمان، وتغير الأعوان _ إلا أننا يمكن أن نلحظ أن الاسباب الأكثر عمقًا في هذا الصدد هي تلك التى تتعلق بتدهور قدرات السلطة وعدم قيامها بوظائفها _ خاصة أنه يؤسس شرعية «سلطة التغلب» هذه على القيام بتلك الوظائف، وسوف نتعرض لهذه المتغيرات الثلاثة بالتحليل، يقول الماوردي، « وأشد ما يمنى به الملك في سياسة ملكه شيئان : أحدهما أن يفسد عليه الزمان، والثاني أن يتغير عليه الأعوان»(69)، ورغم عمومية هذا التفسير أو التنظير لاختلال السلطة وانهيارها إلا أننا سوف نتناوله واقعيًا..
أولاً : فسادالزمان :
يذكر الماوردي أن من أسباب اختلال السلطة وانهيارها ما يطلق عليها «فساد الزمان» ويفصله :« فأما فساد الزمان فنوعان، نوع حدث عن أسباب إلهية، ونوع حدث من عوارض بشرية..
أ) فالأسباب الإلهية لفساد الزمان:
قد يكون لأسباب «إلهية» كالقحط والسيول.. وهنا يكون علاجها كما يرى الماوردي _ إصلاح السريرة : سريرة السلطان وسريرة رعيته، بالإضافة إلى دعاء الله _ عز وجل _ «فأما الحادث عن الأسباب الإلهية فينبغي أن يقابلها الملك بأمرين، أحدهما : إصلاح سريرته وسرائر رعيته، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال « إذا جارت الولاة قحطت السماء»، وقال على _ كرم الله وجهه _ من حاول أمرًا بمعصية الله كان أبعد لما رجا وأقرب لمجئ ما اتقي، والثاني، أن يتطامن لها إذا لفحتها، معان في شدتها، فما عن أقضية الله صاد، ولا عن أوامره راد، فالسلم فيها أسلم، ودفاع الله عنها أقوم»(70).
وواضح من استشهادات الماوردي تأثره بطبيعة الواقع السياسي الذي يعيشه في إطار سلطة البويهيين الشيعة، ويتجلى من جانب ثاني مدى انفتاحه وتأثره بالثقافات الحضارية كاليونانية والرومانية، وفي نفس السياق السابق يذكر الماوردي «وجد في عضد الاسكندر صحيفة فيها مكتوب : قلة الاسترسال إلى الدنيا أسلم، والاتكال على القدر أروح، وعند حسن الظن تقر العين، وقد قيل في منشور الحكم : لا تجهدن في ما لا درك فيه تريح التعب، وادحض البخل ,إلا كنت خازن غيرك، ولا تظهرن انكار ما لا عدة معك لدفعه، ولا يلهينك قدره عن كيد وحيلة»(71).
والذي يبدو لنا أن هذه الأسباب الإلهية لفساد الزمان _ مع تقديرها الكامل _ سواء إذا كان قحط شامل، أو الكوارث.. إلخ _ ليست أسبابًا متكررة وإنما هي حوادث عارضة تقع، ولذلك لا ينبغي وضع قوانين أو سنن عامة لها.. كما أن هذه الحوادث لم يثبت أنها أدت إلى إنهيار سلطة _ ربما أحدثت فيها اختلالاً مؤقتًا _ أو أدالت دولة ».
ب) أما الأسباب المتعلقة بسلوك البشر :
سواء كان متعلقًا بالسلطان الذي قد يظلم، أو بالرعية _ التى قد تجور أو تفسد _ وسنعود إلى معالجة ذلك بالتفصيل فيما بعد _ وعلاج هذه المظاهر إنما تكون بعلاج أسبابها وجذورها.. وكما يقول الماوردي «… وأما الحادثات عن العوارض البشرية من أفعال العباد، فهي التى يساس فسادها بالحزم حتى تنحسم، وبالاجتهاد حتى تنتظم، فليس ينشأ الفساد إلا عن أسباب خارجية عن العدل والاقتصاد، ولا تحسم إلا بحسم أسبابها.. فيراعي الملك سبب الفساد، فإن كان حادثًا عن شدة وعسف وعنف حسمه باللين واللطف، وإن حدث عن لين وضعف حسمه بالشدة والعنف، وكذلك ماعداهما من الأسباب تنحسم بأضدادها، فإن حسم الداء بضده من الداء »(72).
ويلحظ الماوردي ظاهرة الاختلاط _ أي أن الأسباب المفضية للفساد قد يكون بينها تمازج واختلاط _ وهنا يتم علاجها بنفس منطقها المختلط، ولكن الصعوبة تكمن في معرفة هذه الأسباب وتمييزها، وربما اختلفت الأسباب لامتزاج الفساد فتحسم الأسباب المتنوعة بأضداد متنوعة، كما تعالج الأمراض المضادة بأدوية متضادة، فيستخرج حسم كل فساد من سببه، وما يصعب من هذه السياسة إلا معرفة الأسباب، فإذا عرفها وقف على الصواب، وإن أشكلت عليه التبس عليه الصواب فتاه عن قصده، وذهل عن رشده(73).
فالماوردي يرى أن علاج الظواهر يكون بعلاج الأسباب المفضية إليها في الواقع العلمي، فظلم السلطان يكون بالتراجع عن هذا الظلم، وسياسة الأمور بالحزم وليس بالعسف.
ثانيًا: تغير الأعوان :
وهو العامل أو السبب الثاني الذي يذكره الماوردي من أسباب اختلال السلطة وانهيارها، وهو في هذا الصدد يربطه بداية بالسبب الأول «فساد الزمان»، فأهل الزمان _ من الرعية وأعوان السلطة _ ينطلق منهم فساد الزمان وإليهم يعود في الوقت ذاته..» وتقلب الزمان بأحوال أهله يعود عليهم بخيره وشره، رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم _ أنه قال : «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاؤكم، وكان أمركم بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وكان أغنياؤكم بخلاؤكم، وكان أمركم إلى نسائكم، فبطــــن الأرض خير لكـم من ظهرها»(74).
ويذكر الماوردي في بيانه لمسألة تغير الأعوان أنه بدوره يحدث في صورتين:
أ) أن يكون لظلم وقع على الأعوان:
فالأعوان قد يقع عليهم ظلمًا فيتغيروا « فإذا كان تغيرهم لفساد تعدى عليهم عوجلوا بحسم أسبابه قبل تفاقمها، فسيجدهم بعد حسمها على السداد، فإن أهملوا فلكل برهة تمضى من زمانهم تأثير في استحكام فسادهم حتى يفضي إلى غاية لا تستدرك ؛ لأن حسم ما استحكم متعذر مستبعد»(75).
وهنا يركز الماوردي على أهمية عامل الوقت في علاج هذا الظلم الذي يجب أن يتم بسرعة حتى لا تتفاقم الأمور ويصعب العلاج بعد ذلك..
ويعدد الماوردي أسباب هذه المسألة:
1_ أن يكون هناك تقصير من هؤلاء الأعوان، وعلاجه بمنع هذا التقصير واقعيًّا.
2 ـ أن يكون هناك عدوان عليهم، وعلاجه يكون بالكف عنهم.
3 ـ أن يكون هناك طمع أفسدهم، وعلاجه ـ كما يري الماوردي ـ من أصعب الأمور، ويحتاج معالجة القلوب وتعديل السلوك.
كل ذلك في نظرنا يدور حول أبعاد الحقيقة أو الموقف السلوكي لهؤلاء الأعوان (76) ويركز الماوردي هذه الأسباب بقوله : « وسبب هذا الفساد واحد من ثلاثة أسباب، إما أن يكون لتقصير منهم فيستدرك بالتوفر عليهم، وإما أن يكون لعدوان عليهم فيستدرك بالكف عنهم، وإما أن يكون لمفسد أطعمهم فهو أخبثها لأن الطمع مصائد للعقول، ومفسدة القلوب، فإن لم يصده حزم أو حذر خبثت به السرائر، فهيج من النفوس سواكنها، وابرز من القلوب كوامنها، وصار كأجيج النار في يابس الحطب، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال « استعينوا بالله من طمع يؤدي إلى طبع » (77).
وهنا قد عالج الحقيقة البشرية معالجة واقعية شاملة أعادها إلى حقيقة متغيراتها النفسية.. أما العامل الثاني الذي يقود إلى مسألة تغير الأعوان أن يكون الفساد حدث من الأعوان أنفسهم.
ب) أن يكون الفساد لظلم وقع من الأعوان :
وهنا يعود الماوردي إلى المقارنة بين الصورتين من فساد الأعوان الطارئ عليهم أو الناشئ منهم، ويرى أن الصورة الثانيــة أخطــر وأصعــب من الأولــى « فالفساد الطارئ منفصل، والناشئ متصل»، أما الوجه الثاني «فإن الطارئ ظهر قبل حلول فيهم فأمكن تعجيل استدراكه، والناشئ ظهر بعد استحكامه فيهم، فتعذر تعجيل استدراكه فلزم لدغل دائه وعضل دوائه أن تقرر في تلافيه، وحسم دواعيه، قواعد كل حالة على قاعدتها ويدبر بموجبها» (78).
فالفساد الناشئ لظلم وقع من الأعوان هو الأخطر لأنه يتصل بطبيعتهم وكيانهم، وهو لا يظهر إلا بعد أن يعمل في الجسد ويستحكم فيه.. وبالتالي يتطلب التدبير والسياسة لكي يتم التعامل معه على أساس واقعي وسليم(79)..
ويتطرق الماوردي في تنظيره لمسألة فساد الأعوان الناشئ منهم إلى المجال الأوسع ـ وهو ما نسميه وقوع الفساد في القاعدة الاجتماعية أو الحقيقة البشرية المكونة للسلطة، وآثار ذلك أو دوره في حدوث الاختلالات في بنية السلطة ذاتها، ومنطق ممارساتها أي مسألة فساد طبيعة العلاقة أو الرابطة السياسية.
فالماوردي ـ يعود ويقرر ـ أن سياسة السلطة تتم بأمور ثلاثة وهي : بالقوة في الحراسة والحفظ، وبالرأي في التدبير والانتظام، وبالمكيدة في التعامل مع الأعداء.. و« هذا أصل معتمد عليه مدار السياسة، ويحمل عليه تدبير الملك» ويعود الماوردي ليؤكد أن للسلطة ثلاثة أوضاع ـ تحقيق الاستقرار، وسياسة أمور الرعية، وتحقيق استدامة الأعوان « للملك ثلاثة أحوال، فالحال الأولي : تثبيت قواعده، والحال الثانية : تدبير رعيته، والحال الثالثة : استقامة أعوانه»(80).
ولن نتطرق إلى الحالة الأولى والتي عالجتها في تأسيس السلطة وأنواعه وبالذات تأسيس القوة والتغلب. ولكننا سنتاول فساد العلاقة أو الرابطة السياسية، وذلك بفساد طرفيها ونمط العلاقة بينهما، ويرصد الماوردي أربعة صور للمسألة بالنسبة لعلاقة السلطة مع الرعية أو المجتمع.
الأولى : صلاح السلطة والمجتمع أو الرعية ( نمط العلاقة العادلة ) :
وهي الصورة الإيجابية فكما يرى الماوردي « ملك صلحت سريرته، واستقامت رعيته، فأعين على صلاح السيرة باستقامة رعيته، وأعينت الرعية على الاستقامة بصلاح سيرته فهذا هو العدل منهما» (81).
فطرفي العلاقة يتدبر الأمر بمنطق الاصلاح والاستقامة ومن هنا فجوهر العلاقة هو سيطرة العدالة وسيادتها..
الثانية : صلاح السلطة وفساد المجتمع ( نمط العلاقة المختلة ) :
وهي صورة مختلّة باختلال أحد طرفيها، وكما يرى الماوردي أننا إزاء « ملك صلحت سيرته وفسدت رعيته، فقد أضاعت الرعية بفسادها صلاح ملكها، وخرجوا من سكون الدعة إلى زواجر السياسة فاحتاج إلى تقويمهم بالشدة بعد لينه، وبالسطوة بعد سكوته، ليقلعوا عن الفساد إلى السداد فليكف عنهم، والعدل في الحالتين مستعمل معهم » (82).
وهنا اختلال أو فساد في أحد طرفي العلاقة ـ الأمر الذي ينعكس على طبيعة العلاقة بينهما… وبالتالي فإن السلطة يمكن أن تأخذهم بالشدة – ولكن في إطار منطق العدل – لكي تعود العلاقة المختلة إلى حالة الاستقرار والاستواء.
الثالثة : فساد السلطة وصلاح المجتمع ( نمط العلاقة المختلة ) :
وهذه الحالة المقابلة للحالة السابقة، فنحن إزاء صلاح المجتمع والرعية من ناحية، وفساد السلطة من ناحية أخرى فيحدث اختلال في طبيعة العلاقة بينهما وإما أن يتغلب المجتمع والرعية على صاحب السلطة فيقومون بإصلاحه وإرجاعه لمنطق العدل والاستقامة، وإما أن يخلعوه وينصبوا غيره، وكما يري الماوردي فإن هذا القسم الثالث نحن بصدد « ملك فسدت سيرته واستقامت رعيته فإن استدرك صلاح ملكه بعدل مسيرته وصحة سياسته، وإلا تطاولت عليه الرعية بقوة الاستقامة» (83)، ويحدد الماوردي احتمالين لعملية اصلاح وتصحيح هذه العلاقة المختلة « كان معهم بين أمرين : أحدهما : أن يصلحوه حتى يستقيم، فيصير مأمورًا بعد أن كان آمرًا، ومقهورًا بعد أن كان قاهرًا، وتزول هيبته، وتبطل حشمته، ولا يبقي له من الملك إلا اسم مستعار قد استبقوه تفضلاً، والثاني : أن يعدلوا إلى غيره فيملكوه عليهم فيكونوا له أعوانًا إن نوزع، وأنصارًا إن قورع ».
وهكذا نصل إلى النتيجة المنطقية وهي أن السلطة بهذا الفساد وذلك النمط من العلاقة السياسية تؤدي بها إلى الاختلالات وأيضًا إلى الانهيار، فيصير بفساد سيرته مزيلاً لملكه، ومعينًا على هلكه، كما ينص الماوردي.
الرابعة : فســاد السلطة والمجتمـع (نمط العلاقة المتداعية ) :
وهذه الحالة مقابلة للحالة الأولى وضدها، فنحن إزاء فساد الطرفين الراعي والرعية، السلطة والمجتمع…. وبالتالي إزاء علاقة فاسدة قوامها الفساد ومنطلقها الظلم.. ومن ثم لابد أن تتداعى وتنهار السلطة، ويوضح الماوردي ذلك بعبارة صريحة في حديثه عن القسم الرابع : ملك فسدت سيرته، وفسدت رعيته » فاجتمع الفساد في السائس والمسوس، فظهر العدوان من الرئيس والمرؤوس، فلم يتقاصر عن فساد، ولا دعا إلى صلاح، فخرجت الأمور عن سبيل السلامة، وزالت قوانين الاستقامة، وهو بمرصد من تأثر يصطلم، وقاهر ينتقم » ثم ينتقل الماوردي ما ينسبه إلى أردشير بن بابك: « بمثل هذا الملك، وهذه الرعية تختم الدول، وتستقبل الفتنة، وتذال الدهـور » (84).
وهكذا يضع الماوردي حالات الاختلال والانهيار من خلال استقراء واقعي لطبيعة طرفي العلاقة السياسية، ولنمط التفاعل بينهما ولكن أين ما أشرنا إليه في البداية من موقع القوى الوسطية ( أو الأعوان بتعبير الماوردي ) من هذا كله ؟؟
يرصد الماوردي في هذا الصدد أمرين « استقامة الأعوان ضربان أحدهما : حالهم في السكون والدعة، فيساسون بالرأي وحده في تدبيرهم بالرغبة والرهبة حتى تستقر أمورهم على السيرة العادلة « أما النمط الثاني ـ والذي يهمنا في هذا الصدد وركز عليه الماوردي – حالهم في تغيرهم وفسادهم على ضربين أحدهما أن يكون الفساد خاصًّا في بعضهم فيساس من فسد منهم بأمرين : بالقوة في إصلاحهم بمن سلم، وبالرأي في تدبير أمورهم كالمسالم ليسيروا جميعًا على السيرة « العادلة »، ويلمح الماوردي ظاهرة تحزب الأعوان وأخطارها وعلاقتها بالفساد، فإن انتشار فسادهم من كثرة رؤسائهم المتنافسين في الرتب، فيجتذب كل رئيس حزبًا يدعوهم إلى طاعته، ويبعثهم على نصرته، فيصيرون أحزابًا مختلفين، وأضداداً متنافرين فهذه حاله إن كثروا، وهم بالضـــد منها إن قلوا»(85).
ولعل الماوردي في هذا النقطة ينظر من الواقع المعاش الذي شهده في عصره وعاش في إطاره.
وينتقل الماوردي إلى النوع الثاني من الفساد وهو العام في جميع الأعوان، وقد يظهر منهم وقد يستروه فإن ستروه فسياستهم ـ كما يرى الماوردي ـ تكون بالرأي وحده، وإن أظهروه أي الفساد إنه يأخذ صورًا ثلاثة عددها الماوردي :
1 – الفساد المتعلق بانتهاك حقوق الرعايا واستباحة أموالهم، ويرى علاج ذلك من قبل السلطة بالقيام باجتذاب فريق من هؤلاء باللين، فعساه يقوى فيمنع ويشتد فيدفع وإلا فالملك واه، والفساد متناه.. »
ولعل الماوردي في هذا الصدد ناطق بلسان الأوضاع المنتشرة في عصره في ظل أمراء التغلب.
2 ـ الفساد المتعلق بالإسراف في مطالبة السلطان بما لا يستحق الأعوان ـ سواء أن يكون قادرًا عليه، أو عاجزًا عنه ـ ففي حالة قدرة السلطان عليه تكون مطالبة الأعوان له بما لا يستحقون فيه نوع من الاستطالة على السلطان وإسقاط الحشمة.. ويرى الماوردي ـ بواقعية ـ أنهم يساسون بالرأي والخداع، ويتوصل إلى رضاهم سرًا وجهراًً بما يختلفون، أما حالة عدم مقدرته وعجزه عما اقترحوه فيساسون بالرأي والمكيدة لأنهم لا يقفون على حالهم المستحيلة.
3 ـ الفساد المتعلق بالتعرض للسلطة ذاتها ولصاحبها ـ ويراها الماوردي أخطر أنواع الفساد إلا إذا كان السبب راجعًا لسوء سيرة صاحب السلطة ذاته، ولأنهم ملوا منه بسبب طول مكثه وهنا كما يقول الماوردي فإنه يسوسهم باللطف والتأمين واستصلاح فريق بعد فريق.. ويشير إلى سبب ثالث وهو حدوث إغراء من عدو وهناك ينبغي لملك أن لا يتراخي حتى لا يستأصل.
ويفصل الماوردي ويتقصي في أوضاع فساد الأعوان لينتهي بصياغة اتجاه عام فحواه أن فساد الأعوان ملازم لفساد الراعي والرعية، وصوره متنوعة بقدر تنوع صور فساد الأولين على ما أسلفنا الحديث.
وننتقل إلى الجانب الثالث من جوانب فساد السلطة وانهيارها وهو المتعلق بالقيام بالوظائف الاساسية للسلطة، وهو ما خرج به الباحث وأكد عليه فيما سبق..
ثالثاً : عدم القيام بالواجبات والأعمال (الوظائف) :
كما أسلفنا فإن مدار شرعية سلطة التغلب وإماراته ـ منوطة بقيامها وممارساتها لمجمل الوظائف الأساسية التي قدم لها الماوردي رؤيته التي أوضحنا قواعدها، ومستوياتها، وشروطها.. الخ في الصفحات الماضية.
وإذا كان تمتع السلطة بالشرعية مُفضيًا إلى استقرارها، فإن نقصان هذه الشرعية ـ والذي يُبنى بدوره على إهمالها أو عدم قيامها بوظائفها ـ يفضي إلى حدوث عدم استقرار، ودرجات من الاختلال يمكن أن تصل إلى الانهيار الكامل حينما تتخلى السلطة عن وظائفها أو تقوم بممارسة نقيض هذه الوظائف في واقع الممارسة العملية.
أ ) فبالنسبة للوظيفة العقيدية ـ والتي تقوم على المنطق الاتصالي وتخلق الرابطة العضوية بين كافة عناصر الجسد السياسي وأجزائه كما أسلفنا ـ وكما يقول الماوردي « فالسلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب حتى يرى أهله الطاعة فيه فرضاً، والتناصر عليه حتماً، لم يكن للسلطان لبث، وكان سلطان قهر، ومفسد دهر.. فالملك بالدين يبقـي، والـديـن بالملــك يقوى»(86).
فبدون تفعيل دور الدين حتى يصبح قاعدة اجتماع، ومبرر الطاعة، ودافع للممارسة والحركة ـ أي يشكل الأساس الحقيقي للسلطة من الناحية الاجتماعية ـ فإن السلطة لن تستقر، وإن استقرت فسيكون استقرارها مصطنعًا..
ويأخذ التحلل من القيام بالوظيفة العقيدية وممارستها من قبل السلطة عدة أوجه أو جوانب يؤدي كل منها إلى نوع من الاختلال أو التدهور في قدراتها وشرعيتها وممارساتها على النحو التالي:
( أ ) إهمال الدين وتوظيفه في خدمة السلطة :
يرى الماوردي أن إهمال الانطلاق من الدين في الممارسة والسلوك ـ سواء على المستوى الجزئي أو الكلي ـ بحيث يصبح هو منطلق العملية الاتصالية بكافة أبعادها، أو محاولة إبعاده، وتحييده تؤدي إلى تدهور السلطة وتحللها وفي بعض الأحيان انهيارها.
1 – فعلى المستوى الجزئي : السلطان أو صاحب السلطة ـ الملك بتعبير الماوردي – « ينبغي للملك أن يأنف من أن يكون في رعيته من هو أفضل دينًا منه، كما يأنف أن يكون فيهم أنفذ أمرًا منه.. » وقد قيل «الملك خليفة الله في بلاده ولن يستقيم أمر خلافته مع مخالفته»(87).
2 ـ وعلى المستوى الكلي : فإن السلطة لا يجب أن تهمل القيام بأمر الدين وجعله منطقها الاتصالي في جميع أمورها، وأن توظف سلطتها في خدمة الدين والعكس يؤدي إلى الانهيار حتى لو كان سند التأسيس هو « القوة » في بعض الاحيان ـ يقول الماوردي « وربما أهمل بعض الملوك الدين وعول في أموره على قوته، وكثرة أجناده، وليس يعلم أن أجناده إذا لم يعتقدوا وجوب طاعته في الدين كانوا أضر عليه من كل مباين، لا قتراحهم عليه ما لا ينهض به، وتحكمهم عليه بما لا يلبث له… وقد قيل : من جعل ملكه خادمًا لدينه انقاد له كل سلطان، ومن جعل دينه خادمًا لملكه طمع فيه كــل إنسان»(88).
وهذا هو السبب الأول الذي ذكره الماوردي ـ في أسباب انتقال السلطة وقد عبر عنه الماوردي « وليس يخلو انتقال الملك به من ثلاثة أسباب أحدها : ان يخرج الملك من منصب الدين حتى يتولى عليه غير أهله، ويظهر منه خلاف عقده »، ويشرح خطورة هذا الأمر بالتفصيل حتى يصل إلى النتيجة وهي أن السلطة تكون مرشحة للانهيار « لايزال الجائر من الملوك ممهلاً، حتى يتخطى إلى أركان العمارة، ومباني الشريعة فإذا قصــدها اقـــتربت مدتــه»(89).
ب ) أما السبب الثاني من أسباب انتقال السلطة وانهيارها ـ كما يذكر الماوردي ـ أن لا تقوم السلطة أو تمكن مجتمعها من القيام بواجبات الدين ولا تستهين به، وأن تحترم شعائره وعلمائه؛ فكما يقول الماوردي « أن يكون الملك ممن قد استهان بالدين، وهون أهله، فأهمل أحكامه، وطمس أعلامه حتى لا تؤدي فروضه، وتوفى حقوقه، إما لضعف عزمه في الدين، وإما لانهماكه في اللذات، فيرى الناس أن الدين أقوم، ولحقوقه وفروضه ألزم، فيصـير دينـه مدخــولاً، وملكه محلـــولاً » (90).
وهنا فإن الرعية أو المجتمع ـ كما يشرح الماوردي ـ تذهب إلى الدين لأن طريقة هو الواجب الاتباع، وحقوقه وواجباته هي الأجدر بالرعاية ويحدث الافتراق بين السلطان والقرآن.
جـ ) أما السبب الثالث من أسباب انتقال السلطة وانهيارها فهي الابتداع في الدين، والتبديل في أحكامه، والتغيير في قواعده وتعطيله… إلخ (91). يقول الماوردي « أن يكون الملك ممن قد أحدث بدعة في الدين شنعة، واختار فيه أقوالاً بشعة يفض استمرارها إلى تبديله، ويؤول إلى تغييره وتعطيله، فتأبى نفوس الناس بغير دين قد صح لهم معتقده، واستقرت في القلوب أصوله وقواعده، فيصير دينه مرفوضًا، وملكه منقوضاً » (92).
فالابتداع في الدين يؤدي إلى تبديله وتغييره وتعطيله ـ كما يرى الماوردي ـ وتكون النتيجة العملية أن من الناس الذين يعتقدون في صحة مواقفهم واختياراتهم الدينية، ويكون هذا الأمر مستقرا لديهم… يتحركون في مواجهة ما يرونه انتقاصًّا في الدين.. مما يؤدي ـ في بعض الأحيان – إلى تداعي السلطة وانهيارها.
والذي يراه الماوردي أن هذه الاسباب الثلاثة ـ إذا توافرت ـ فإنما تترجم تخليًّا من قبل السلطة عن القيام بوظيفتها العقيدية وممارستها، فتتحرك الرعية إلى القيام بما تعتبره واجبها الكفائي الذي تخلت عنه السلطة وقد تتحرك فئات ومجموعات لكي تقوم بتلك الوظيفة بل وتسعي لالـــزام الســلطة ذاتهــــا بهـــا. وهذا ما يوضحــه الماوردي «فإذا طرأ على الدين هذه الأسباب الثلاثة، ونهض إلى طلب الملك من يقوم بنصرة الدين، ويدفع تبديل المبتدعين، ويجري فيهم على السنن المستقيم أذعنت النفوس لطاعته، واشتدت في مؤازرته ونصرته، ورأوا أن بذل النفوس له في من حقوق الله المفترضة وأن النصرة له من أوامره..».
فهذه الأسباب الثلاثة – والتي هي مستويات عدم قيام السلطة بوظيفتها العقيدية – تجعل من يتحرك ضد السلطة القائمة لالزامها بالقيام بتلك الوظيفة يلقي قبولاً من القاعدة المجتمعية والرأي العام لأن الصورة التي يتقدم بها للناس هي صورة من يقوم بـ « نصرة الدين، ودفع تبديل المبتدعين، وإجراء الصراط المستقيم.. ».
ب ) وينطبق نفس الأمر بالنسبة للوظيفة الاستخلافية ـ سواء كانت وظيفة العمران أو وظيفة العدالة ـ والتي تقوم على إقامة الأبنية وخلق الروابط الواقعية بين كافة عناصر الجسد السياسي ومكوناته ـ وهي الأساس الذي يقف خلف الوظيفة العقيدية، وعليه تقوم وبه تتم ممارستها.
1 ـ فوظيفة العمران : إذا لم تقم السلطة بعمارة البلاد، خربت وكما يرى الماوردي « فإن نال أهله فيه حيف، فرقهم الحيف في سواده، فأصابوا عيشًا، ودافعوا عن زمان الحيف وقتًا، وإن جار السواد على أهله كان لهم في المصر أمن وملاذ، ويكون كل واحد منهم للآخر معاذ »(93).
فالانتقال يكون بين أنواع الأمصار مما يعني تدهور أوضاع السلطة في قيامها بهذه الوظيفة المهمة ( وظيفة الإنماء )، أما الوظيفة الثانية الأمنية فإن نقصانها يعني انتشار الخوف، وقلة هيبة السلطة أو انعدامها إذ أنه بها يحدث ثلاثة على الأقل من حقـوق الاسترعاء وهــي : «تمكين الرعية من استيطان مساكنهم وادعين، والتخلية بينهم وبين مساكنهم آمنين ـ بالاضافة إلى أمن سبلهم ومسالكهم.. ألخ وفي عدم القيام بذلك أو نقصانه ما يؤدي إلى اضطراب وعدم استقرار واضح للسلطة.. وهو ما كان يوضحه بجلاء العصر الذي عاشه الماوردي خاصة أوضاعه السياسية.
فمن العناصر المقوضة للسلطة عجزها عن إدارة البلاد وعمارتها وحسن تسييرها وتدبيرها، ولذلك فإن الماوردي ينصح الملك « وليهتم الملك كل الاهتمام بأمن السبل والمسالك وتهذيب الطرق والمفاوز لينتشر الناس في مسالكهم آمنين، ويكونوا على أنفسهم وأموالهم مطمئنين، ولا يقتصر على حماية ما يستمده من بلاده وسواده».
ويوضح الآثار العكسية لعدم القيام بذلك على السلطة « فلم يستقم أمر بلاد كانت المسالك إليها مخوفة، لأنها تفتقر إلى مجلوب إليها، ومجتلب منها، ليكثر جلبهم فيما ليس لهم، وتخصب بلادهم بما ليس عندهم، فيكون نفعهم عامًّا وأخصبهم دارًا» (94).
فعجز السلطة عن القيام بالأدوار المتوقعة منها من قبل الرعية أو المجتمع في هذا الجانب يؤدي إلى انتشار الخوف والفزع وعدم الأمن وهو الأمر الذي يرجعه الماوردي جزئيًّا إلى تولية غير الكفاة المناصب العليا » من استعان بأصاغر رجاله على أكابر أعماله، فقد ضيع العمل وأوقع الخلل، ومن استوزر غير كاف خاطر بملكه » (95).
بل إن هذه التولية ـ ذاتها ـ هي أحد مظاهر الفساد الذي يلحق بالعمران وأحد أوجهه الكثيرة « وليحذر الملك تولية أحد بشفاعة شفيع أو لرعاية حرمة إذا لم يكن مضطلعًا بثقل ما ولي، ولا ناهضًا بعبء ما استكفي فيختل العمل لعجز عامله» (96).
والخلاصة بهذا الصدد أن عدم القيام بوظيفة العمران – سواء تمثل ذلك في الوظيفة الإنمائية أو الأمنية يؤثر على السلطة بدرجة كبيرة ويعرض قدراتها للتدهور، وفي بعض الأحيان إلى الانهيار.
ب) وظيفة العدالة :
نقيض القيام بوظيفة العدل، ممارسة الظلم بمعناه الشامل، وهو أمر يمثل مدعاة لانهيار السلطة وتقوضها، فالظلم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي عنصر أساسي لتحلل السلطان – يقول الماوردي في إمارة التغلب وسلطة القوة « فاذا توثبوا على الملك بالكثرة، واستولوا عليه بالقوة، كان ملك قهر.. وإن جاوزوا وعسفوا فهي جولة توثب، ودولة تغلب يبيدها الظلم ويزيلها البغي، بعد أن تهلك بهم الرعايا، وتخرب بهم البلاد » (97).
فهذه السلطة يؤثر على استقرارها الظلم ـ بدرجة كبيرة ـ بل إن هذا الظلم يؤدي إلى اهلاك الرعايا، وخراب البلاد، ولذلك فإن الماوردي بصدد هذه الوظيفة ـ سواء منطق الوظيفة الجزائية، أو منطق الوظيفة التوزيعية كما أسلفنا القول ـ أن عدم القيام بها يعني انتشار الظلم كقيمة، وترسيخه كنظام حياة « فلا ثبات لدولة لا يتناصف أهلها، ويغلب جورها على عدلها، فإن الندرة من الجور تؤثر، فكيف به إذا كثر »(98).
ويرى الماوردي أن الظلم وعدم العدل تظهر آثاره باستمرار على الرعية مما يؤثر على استمرار السلطة، ففي الجور وأكل أموال الناس بالباطل « ثم هو بين نفور رعيته واشتطاط أعوانه، وليس مع هذين ملك يستقر ».
فظلم الرعية يؤدي إلى نفورهم وبالتالي بعدهم ونفورهم من السلطة مما يؤدي إلى فقدانها لأساسها الاجتماعي، ومن ثم تكون معرضة للمزيد من الاختلالات وعدم الاستقرار أو الأنهيار، بل إن المارودي يحذر من عدل العدو، ومن جـــور النفس وآثارهمـا « فليخش على نفسه من عدل عدوه إنه عونه، وليحذر جور نفسه فإنه موهنه»(99).
كما يحذر من الجور والتجاوز فيما يتعلق بالوظيفة التوزيعية « وإن تجاوز حكم الشرع في طلب ما لا يستحق نفرت منه النفوس، فلم يجب إلى بذله إلا بالعنف الخارج عن قوانين السياسة… ثم هو بين نفور رعيته واشتطاط أعوانه، وليس مع هـذين ملـك يستقــر» (100).
إذ يترتب على عدم القيام بالوظيفة التوزيعية – على وجهها السليم والصحيح – اللجوء إلى العنف في تحصيل الحقوق الأمر الذي يؤدي إلى نفور الرعية من السلطة، وعدم الاتزان في سلوك الأعوان.. مما يفضي بالأمور حالة من حالات عدم الاستقرار، وتزايد احتمالات تعرضها للانهيار.
وهكذا رأينا أن اختلال السلطة وانهيارها ـ كما يقدمها الماوردي في هذا النص السياسي ـ منوطة بمتغيرات ثلاثة :
أولها : ما يتعلق بفساد الزمان من أسباب إلهية وأخرى من سلوك البشر.
وثانيهما : ما يتعلق بتغير الأعوان أيًّا كانت مصادره وأسبابه ومتعلقاته.
وثالثها : ما يتعلق بممارسات السلطة ذاتها وعدم قيامها بوظائفها وأداء واجباتها.
كلها تتكامل في إحداث الاختلال، والتدهور، والانهيار لظاهرة السلطة في المجتمعات البشرية.
خامساً : نتائج الدراسة :
هذه الدراسة التي حاولنا فيها – في حدود المكنة والطاقة – تقديم رؤية تحليلية لأحد النصوص السياسية البالغة الأهمية التي تركها لنا المفكر السياسي أبو الحسن الماوردي والمعنونة « تسهيل النظر وتعجيل الظفر » ملتزمين بالضوابط المنهجية لتحليل النص التراثي السياسي الإسلامي، ولقد وجدنا أنها تنظيرًا تقدم على درجة كبيرة من التكامل لظاهرة السلطة، يحتاج فقط لمن ينقله إلى لغة العصر ومدركاته ويضعه موضع المقارنة المنهجية المنضبطة مع تلك المفاهيم والمدركات السائدة في علوم السياسة، وبالتحديد في النظرية السياسية.
ـ ولا يمكن للباحث أن يدعي أنه استطاع أن يقوم بهذه المحاولة على وجه يرضيه، وينفي عنه مآخذ التقصير، ولكن ربما يكفيه في هذا المضمار فضل الكشف، وبذل سعة الجهد ـ وهو جهد المقل ـ في المحاولة..
فهذا النص السياسي ـ والذي حللنا القسم الثاني منه فقط لاعتبارات عملية ـ يقدم رؤية الماوردي المتأثرة بأوضاع وظروف عصره وفترته الزمنية، وبيئته المكانية.. والفاقهة لكل ذلك والمتفاعل معه، وفي ذات الوقت المنطلقة من الأصول الإسلامية المنزلة بقدر كبير من الاجتهاد والمنفتحة في نفس الوقت على الخبرات الحضارية المختلفة التي كانت تحتك بها وتتفاعل معها وتهضم ما تأخذ وتوظفه في سياقه العلمي السليم.
ـ لقد انطلقت الدراسة من أن تنظير ظاهرة السلطة – وهي الوحدة التحليلية الأساسية لعلم السياسة الحديث – يقتضي البحث والتنظير لكليات أو مفاهيم إطارية ثلاث كبري ـ عنونت بها مباحث هذه الدراسة.
وقد وجدنا أن الماوردي في نصه السياسي الحالي والذي تعرضنا له هنا بالتحليل ـ قدم رؤية تنظيرية على درجة كبيرة من العمق التحليلي، والإحاطة بأبعاد الظاهرة موضع الدراسة.
أ ) قدم الماوردي تأصيله لمفهوم السلطة ذاته، وبيانه لأنواع التأسيس الثلاثة للسلطة، وتحليل طبيعتها ونشأتها كواقعة اجتماعية وتكونها كعلاقات اجتماعية، ونظرته بهذا الصدد للسلطة كممارسة ـ أي كظاهرة حركية ـ أي الإطار الذي يحكم عملية تطورها.
ب ) وقدم الماوردي رؤية تحليلية عميقة لكافة وظائف السلطة وأدوارها، حاولنا قراءتها وتحليلها في إطار تلك المقولة الشائعة قديمًا « حراسة الدين وسياسة الدنيا » أو الرائجة في الوقت الحــــــالي « الوظيفــــة العقيديــــة » و« الوظيفــة الاستخلافية ».
وفي هذا الإطار حاولنا تقديم قراءة الماوردي لهذه الوظائف.. والوظائف الجزئية المندرجة في إطارها مثل : الوظيفة الإنمائية، والأمنية، والتوزيعية، والجزائية، والاتصالية.. الخ.
وفي حقيقة الأمر فإن هذا النص السياسي يقدم إطاراً متكاملاً لمنظومة وظائف السلطة يمكن تجريده من واقع اصوله الفكرية، وانعكاسات خبراته الحضارية واتخاذه إطاراً للمقارنة مع تلك النماذج التي تقدمها الخبرات الحضارية الأخرى المختلفة، وبدهي أن الشئ ذاته يمكن أن نقوم به ـ بالنسبة للمستوى السابق ـ الأول ـ والمستوى اللاحق ـ الأخير.
ج ) وقدم الماوردي ـ صراحة ـ في خاتمة نصه، ومن خلال تحليل مضمون النص بامتداده ـ رؤيته حول اختلال السلطة وانهيارها مما يدخل في باب دينامية السلطة وتطورها وحدد أسباب وعوامل حدوث ذلك في ثلاثة عوامل أساسية نص على اثنين منها صراحة أما الثالث فمستفاد من خلال تحليل المسكوت عنه ـ والمصرح به أحيانًا كثيرة في هذا النص..
وهذه هي الكلية التنظيرية الثالثة المكملة لأية بنية تنظيرية حقيقية حول ظاهرة السلطة.
لقد آن للكثير من الباحثين أن يراجعوا نظرتهم للأهمية النسبية للنصوص السياسية للمــاوردي، ففي اعتقادنــا أن « تسهيل النظر وتعجيل الظفر » هو النص الذي يقع في لب النظرية والفلسفة السياسية ـ كما أنه كتاب يحتوي مضمون ثلاثة مؤلفات للماوردي – أما كتاب « الأحكام السلطانية والولايات الدينية » فهو أدخل في الفقه السياسي وأقرب إلى دراسات القانون الدستوري.. ولعل الباحث يستميح لهؤلاء الذين كتبوا في الفكر السياسي للماوردي، ورفعوا هذا الكتاب الأخير إلى مصاف أنه أصبح علامة ودلالة على الماوردي ـ في أنهم إما جاءوا من حقل الفقه والدراسات الإسلامية أو من حقل القانون العام والدستوري وكليهما لا يعطي أهمية حقيقية لواقع الحياة السياسية العملية والانطلاق منها في إطار عملية التنظير، وإنما يقدم قراءة بالغة الفقر والشكلية لواقع الفكر السياسي الإسلامي من خلال قراءة بعض مؤلفات شوامخه الأوائل.
وفي النهاية فإن الباحث يدعو إلى الانفتاح على تراثنا العربي والإسلامي وقراءته بأبجدية سليمة في إطار عملية إحياء شاملة للجسد العربي الإسلامي، وأن تنتهي حالة الهجر لهذا التراث الخالد لكي تستعاد الثقة في الهوية المفقودة.
إن عقلية التقليد وذهنية التبعية لكل ما يأتي من الخارج آن أن يوضع لها ضوابط وحدود خاصة في علوم الحياة والسياسة في موضع الرأس منها والتنظير تاجها.
والله الموفق..
المراجع :
(*) بحث مقدم إلى ندوة «الفكر السياسي في التراث العربي والإسلامي» – القاهرة في 3 – 4 مايو 1997، التي عقدها مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
(1) راجع حول هذا المعنى :
1 – ناصيف نصار. منطق السلطة _ مدخل إلى فلسفة الأمر، بيروت دار أمواج، ط 1995. ص 10 _ 25 وقارن : د. عبد الله العروي، مفهوم الدولة، الدار البيضاء : المركز الثقافي العريي، 1981 م ص 9 _ 13 والواقع أن دراسة نظرية السلطة تثير الكثير من الأسئلة من قبيل : _
_ هل السلطة مجرد مؤسسة تقوم بأدوار ووظائف معينة، أم هي مفهوم قانوني يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة المشروعية من جانب والشرعية من جانب آخر.. هل هي مرادفه لفكرة القانون والنظام أم لفكرة الحجية والاقتناع ؟ هل هي من الناحية الاجتماعية ميدان لتصارع قوي اجتماعية معينة.. او ما هي طبيعة الكيان الاجتماعي للسلطة.. هل كيان قائم بذاته منبثق من المجتمع ولكنه مركب فوفه؟ وما طبيعة العلاقة بين كل ذلك… ؟ متي تتصف السلطة بالسياسة ومتي تنخلع عنها هذه الصفة؟ هل تخترق ظاهرة السلطة كافة الاجتماعات البشرية ؟ وفيم تختلف السلطة السياسية عن الدولة، وعن الحكومة، وعن النظام السياسي، والمجتمع ؟ لماذا توجد السلطة؟ ولماذا يجب أن نطيعها ؟ ولماذا يجب في بعض الاحيان أن نرفع راية العصيان في وجهها ؟ =
= راجع حول ذلك :
– نيكولاس بولنتزاس، حاشية للبحث العلمي في الدولة والمجتمع ( ترجمة : د. حسين النجار) المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد (45 ) السنة 12، أكتوبر _ ديسمبر 1981 م ص ص 21 ـ 32.
(2) يقدم الماوردي قراءة فقهية أقرب إلى القانون الدستوري والإداري ( أي أنه يركز على شكل السلطة السياسة ) في كتابه «الأحكام السلطانية » راجع.
لأبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، القاهرة : مكتبة البابي الحلبي، 1966.
(3) حول كيفية تحليل النصوص السياسية عامة راجع.
د. نهاد رزق الله، دراسات في منهاجية تحليل النصوص، بيروت : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط 1، 1984وحول نموذج رائد لتحليل نص سياسي تراثي تاريخي راجع :
د. حامد عبد الله ربيع ( تحقيق وتعليق وترجمة). سلوك المالك في تدبير الممالك تأليف العلامة شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع، القاهرة : مطابع دار الشعب، 1412 هـ 1982 م ( ثلاثة أجزاء ).
(4) لم يحظ هذا النص ـ رغم أهميته في فلسفة السياسة وتنظيره للظاهرة السياسية ـ بنفس الاهتمام الذي حظي به مؤلفه حول «الأحكام السلطانية والولايات الدينية » والذي يندرج في إطار الفقه السياسي أو القانون الدستوري، الذي أصبح علمًا علي الماوردي ـ ولنا أن نذكر أمام هذه الحقيقة أمرين :
ـ انه حتى الرسائل الجامعية التي تناولت الفكر السياسي للماوردي ـ والتي يفترض فيها الإحاطة والشمول بأهم مصادره الفكرية.
ـ بعضها لم يشر إلى كتاب « تسهيل النظر وتعجيل الظفر » وكأنه غير موجود راجع :
د. سعيد بن سعيد، الفقه والسياسة : دراسة في التفكير السياسي عند الماوردي، الدار البيضاء : دار توبقال، 1989 وبعضها أشار إلى وجوده وإن لم يرجع إليه، راجع :
د. أحمد مبارك البغدادي، الفكر السياسي عن أبي الحسن الماوردي، بيروت، مؤسسة الشراع للنشر والتوزيع، 1983 م.
ـ د. صلاح بسيوني رسلان، الفكر السياسي عن الماوردي، القاهرة دار الثقافة للنشر والتـوزيع، 1983 م؛حيث ذكــر في ص36= =« كتاب تسهيل النظر وتعجيل الظفر وتوجد منه نسخة مخطوطة في غوطة، ويبحث هذا الكتاب في السياسة وأنواع الحكومات»والجدير بالذكر أن هذا الكتاب محقق ومطبوع وعلى الأقل هناك نسختين بين أيدينا لطبعتين مختلفتين منه :
– الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك » ( تحقيق ودراسة : رضوان السيد ) بيروت : دار العلوم العربية. ط 1، 1987 م. ـ الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في اخلاق الملك وسياسة الملك » ( تحقيق محي الدين السرحان) القاهرة / دار النهضة العربية, 1981.
الأمر الثاني : وهو كتاب « الأحكام السلطانية والولايات الدينية » ذاته رغم شهرته الفائقة فإن نسبته محل تنازع، إذ يوجد كتاب له نفس الاسم لأبي يعلي الفراء، ويلاحظ المحقق الأشهر / محمد حامد الفقي هذا الأمر ففي مقدمته لكتاب لأبو يعلي الفراء يقول «لولا أن أبا يعلي يذكر فروع مذهب الامام أحمد بن حنبل ورواياته، ويذكر الماوردي مذهب الشافعي وخلاف الحنفية والمالكية من ناحية، وأن الإمامين ـ الفراء والماوردي ـ عاشا في بغداد في عصر واحد علي ما يغلب علي الظن، فقد كانت وفاة الماوردي (450 هـ ) عن 86 عام، وتوفي أبو يعلي (458 هـ ) ويكبره الماوردي بـ 16 عاما، ولا ندري أيهما بدأ الكتابة أولاً وهذا الأمر الثاني ضروري لم أقف على ما يحقق ذلك، ويبين وجهة الحق فيه».
وقد عرض لنفس القضية د. محمد الحاج عبد القادر في رسالته للدكتوراه عن الفراء وأيد فيها أسبقية الفراء وكذلك فعل الشيخ مصطفي المراغي، علي حين ذهب د. صبحي الصالح في رسالته للدكتوراه ص ص 516 ـ 541 إلى عكس ذلك ـ ويتفق الباحث معه في أن كتاب الماوردي هو الأصل راجع :
حامد عبد الماجد، الوظيفة العقيدية للدولة الاسلامية ( رسالة ماجستير في العلوم السياسية ـ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية 1990 م) ص 146.
وراجع أيضًا للمقارنة :
ابن رجب الحنبلي، الاستخراج في أحكام الخراج، لبنان : دار المعرفة ط1 : د. ت، ص 105 ـ 116.
(5) الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك – تحقيق ودراسة : رضوان السيد، مرجع سابق ص ص 15- 18.
(6) راجع النسختين، الأولى حققها محيى الدين السرحان، ونشرت بالقاهرة 1981م، والثانية حققها وأعد حولها دراسة رضوان السيد، ونشرت في بيروت 1987م.
(7) نصر محمد عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل ( تقديم د. مني أبو الفضل )، هيرندن فيرجينيا : المعهد العالمي للفكر الاسلامي 141 ـ 1994 ص ص 137 ـ 139.
(8) د. أحمد مبارك البغدادي، الفكر السياسي عند أبي الحسن الماوردي مرجع سابق. ص 15.
(9) – الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب، «تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك » ( تحقيق ودراسة: رضوان السيد ) مرجع سابق، ص ص 7-8 .
(10) د. حامد ربيع ( تحقيق وتعليق وترجمة ) سلوك المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع، القاهرة : دار الشعب، 1983 1983 ص 226 ـ 227.
(11) د. أحمد مبارك البغدادي، الفكر السياسي عند أبي الحسن الماوردي مرجع سابق، ص 15-17.
* هو الحسن علي بن حبيب البصري البغدادي الشهير بالماوردي ( 364 هـ ـ 974 هـ ـ 1058 م ) من وجوه فقهاء الشافعية في الدولة العباسية وخاصة في مرحلتها المتأخرة.. وقد أقام في بغداد وتولي القضاء في بلدات كثيرة.. وقد أختير سفيرًا بين رجالات الدولة في بغداد.
راجع حول الماوردي وترجمته كاملة :
ابن خلكان : وفيات الأعيان 2/ 445 ـ ابن العماد : شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 3 /286 ـ ياقوت : معجم الأدباء 15/52.
(12) د. حامد ربيع ( تحقيق وتعليق وترجمة ) سلوك المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع، القاهرة : دار الشعب، 1983 ص 226 ـ 227.
(13) راجع حول المدخل اللغوي في دراسات التراث وأهمية التمييز بين الدلالات المختلفة للألفاظ :
ابراهيم أنيس دلالة الالفاظ القاهرة دار النهضة العربية، 1968 م.
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن العنوان الأصلي لهذا االنص هو « تسهيل النصر وتعجيل الظفر » وقد حدث الاستبدال لكي لا يتم كسر التناسق والوزن بين شطري العنوان.
(14) د. أحمد مبارك البغدادي، الفكر السياسي عند أبي الحسن الماوردي مرجع سابق، ص 9-10.
(15) رضوان السيد ( تحقيق ) تسهيل النظر وتعجيل الظفر للماوردي، مرجع سابق ص 9 ـ 10.
(16) المرجع السابق، ص 81 – 83.
(17) أميمة مصطفي عبود، قضية الهوية في مصر في السبعينيات.. دراسة في تحليل بعض نصوص الخطاب السياسي، ( رسالة ماجستير في العلوم السياسية غير منشورة ) جامعة القاهرة كلية الاقتصاد، 1993، ص 35 – 37.
(18) رضوان السيد ( تحقيق ) تسهيل النظر وتعجيل الظفر للماوردي مرجع سابق ص 83.
(19) المرجع السابق، ص87.
(20) المرجع السابق، ص7، نقلاً عن أبو هلال العسكري : الفروق اللغوية، ص154، 155.
(21) لقد نمت معالجة «ظاهرة السلطة» في الخبرة أو الكتابات المعبرة عن الخبرة التاريخية للواقع الإسلامي في مراحلها المختلفة في «أبواب: الإمامة، والخلافة، والولاية… الخِ » وقد اختلفت بصددها الفرق الإسلامية : كأهل السنة والجماعة، والشيعة الإمامية، والأشاعرية، والماثريدية،و الخوارج وغيرهم… الخ.
(22) يرى جورج بوردو أن فكرة السلطة يتجاوز ويتكامل فيها العنصرين :
أ) علاقة الرئاسة والتبعية، فالعنصر الرئاسي الذي يقوم بعملية الضبط، وإصدار الأوامر، وتحديد سلوك الأتباع.
ب) علاقة الخضوع وهذه تمثل علاقات شرعية ؛ لأن عدم الامتثال لأوامرها يفرض جزاءات محددة، وهذه هي إحدى وظائف النسق القانوني الذي يساند السلطة الشرعية ويدعمها.
ويركز – بوردو- في تصوره لعلاقات السلطة على أن هناك تدرجًا في علاقات الخضوع – السيطرة المشكلة للعلاقات السلطوية من الإكراه المادي إلى الامتثال الإرادي، ففي الامتثال الإرادي لا يرى اختفاء علاقات الخضوع، ولكنها تأخذ صفة الإكراه الداخلي الذي يخضع له الفرد تحقيقًا لغاية معينة وليس تحت تأثير عقاب محدد، وبالتالي فإن التطابق التام بين الحكام والمحكومين لا يعني اختفاء السلطة، وإنما يعني تغييرًا في شكل تبلورها فقط، فبدلاً من تحديد علاقات السلطة في التعارض بين طائفتين فإنها تنتج من ازدواج وظيفي تبعًا لما إذا كان – عامل الفرد – الجماعة يشترك في خلق القاعدة أو يخضع لها » وينتهي هذا التصور إلى أن هناك خطًّا واضحًا يحدد الذين يشاركون في ممارسة السلطة في المجتمع، وبين الذين يخضعون للأوامر الصادرة إليهم – فالسلطة تتأثر حقيقة بعملية تقسيم العمل، وأن= = التسلسل الهرمي يعتمد في حقيقة الأمر تدرجًا في الجانب الزائد Plus-side ويشمل أولئك الذين يصدرون الأوامر ويتقلدون مقاليد السلطة – والجانب الناقص Minus-side ويشمل أولئك الذين يخضعون للسلطة أكثر من مشاركتهم، إذن فإن ممارسة السلطة تكمن بين السلطة ومعارضيها، وفي المجتمعات الحديثة هناك توازن داخلي بين السلطة ومعارضيها إلى حد ما…. راجع حول هذا التصور للسلطة وعلاقتها :
جورج بوردو، الدولة ( ترجمة سليم حداد ) بيروت : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1405هـ – 1985م، ص26-32.
وقارن :
د. عبد الله إبراهيم ناصف، السلطة السياسية ضرورتها وطبيعتها، القاهرة : دار النهضة العربية، 1983م.
ريمون بولان، الأخلاق والسياسة (ترجمة د. عادل العوا) بيروت : دار المعرفة، 1988م.
غير أن بوردو يجعل الاستمرارية والثبات لفكرة الدولة – على عكس ما قدمته خبرة التراث السياسي الإسلامي كما يترجمه الماوردي في النص الذي نقوم بتحليله، فهو – أي بوردو – يرى الدولة عبارة عن «فكرة» وإن توافر العناصر الموضوعية للدولة – الأركان والمقومات المعروفة – ليس كافيًا لتفسير نشأة دولة ما، ويضيف بوردو شرطًا ذاتيًّا هو «فكرة الدولة»، «فالدولة هي أكثر وأبعد من أن تكون اجتماع هذه العناصر المكونة لها»، وفي الحقيقة فإن هذه العناصر لا تكون الدولة بل إن أقصى حدود فعلها هو التجسيد لها… يقول بوردو« إننا لا يمكن أن نفقه شيئًا من الدولة – دون تفسير للظاهرة التي نطلق عليها هذا الإسم، فالدولة ليست إقليمًا أو شعبًا، ولا مجموعة من القواعد الملزمة – كل هذه العوامل ليست بالتأكيد غريبة عنها – ولكنها تضعها فوق المعرفة المباشرة، فوجودها لا يتعلق بالظاهرة الملموسة – إنها شأن ذهني – فالدولة بالمعنى الكامل للكلمة «فكرة» وبما أنها ليست لها غير حقيقة إدراكية فهي ليست موجودة إلا لأنها تدرك بالفكرة» ويضيف بوردو « إن فكرة الدولة ليست عملية بناء ذهنية يقصد منها التعرف على حقيقة سلفًا، وإنما هي كل الحقيقة التي تعبر عنها… إن الدولة تندرج ضمن نظام أو عالم الأفكار – وليس الظواهر الملموسة – ولكنها في نفس الوقت – معطى موضوعي من المستحيل التنكر لحقيقته دون الامتناع عن فهم الوقائع المنظورة» راجع :
– جورج بوردو، المرجع السابق، ص 26 – 32.
(23) هناك في فقه القانون الدستوري من يفرق ويميز بين السلطة الاجتماعية والسلطة السياسية، د. عبد الله ناصف، السلطة السياسية… مرجع سابق، ص ص 9 _ 22.
(24) يرى جان وليام لابيار – أن كل التجارب الإنسانية تفيدنا بأن الإنسان جزء من جماعة أي يخضع لاحترام بعض الأنظمة وتنفيذ بعض الأحكام ( وهذا في شكله العام الواقع الاجتماعي للسلطة) فالفرد ينتمي – في واقع الأمر إلى عدة فئات اجتماعية إما عن طريق الانتساب (التنظيم المهني مثلاً)، وإما عن طريق وضعيته التقليدية ( العائلة، والطبقة الاجتماعية، والوطن)… وأيًّا كان سبب الانتماء فإنه يلعب دورًا اجتماعيًّا، ويتكيف مع أنماط السلوك التي تعتبرها الجماعة ذات قيمة إنها قضية الالتزام بالجماعة – بحكم انتمائنا لها هناك واجبات تفرضها قضية علينا، ونرى أنفسنا «ملتزمين بها»…».
– جان وليام لابيار، السلطة السياسية (ترجمة إلياس حنا إلياس) باريس، بيروت: منشورات دار عويدات، ط3، 1983م، ص8-10.
راجع حول هذه ظاهرة السلطة السياسية :
_ ريمون بولان، الاخلاق والسياسة، ص ص 12 _ 35.
Steven Luckes, Power: A Radical view (London : McMillan),
(25) جان وليام لابيار، مرجع سابق، ص ص 6 _ 15.
(26) راجع : رضوان السيد (تحقيق) تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مرجع سابق، ص 9 _ 48 نقلا عن كتاب «أدب الدنيا والدين» للماوردي مواضع متفرقة.
(27) هناك من الباحثين من يربط ربطًا زمنيًّا وسببيًّا بين «ظاهرة النبوة والرسالات السماوية» و«مسألة نشأة السلطة وولادتها فالفترة= = الزمنية من عمر الإنسانية، والتى شهدت مولد ظاهرة السلطة هي نفسها التى شهدت مولد الرسالات السماوية، وكان الرسل هم أول من بادر إلى إقامة دول العقيدة،و قد نشأت بجهد الرسل البشري _ المؤيد بقوة السماء _ وجهد أتباع الرسل المؤيد باتباعهم لمنهج الرسل المنبثق من العقيدة، ويلاحظ في هذا المقام نقطتين أساسيتين :
1_ كل دين هو منهج حياة ينشئ حضارة ذات قواعد قيمية ونماذج سلوكية _ وبالتالي يستلزم وجود دولة ونظام سياسي وسلطة علي منهجه.
2_ كل من جاء برسالة من السماء _ مأمور بتبليغها، وتحويلها إلى نماذج سلوكية ونظام واقعي _ أي شكل من أشكال الدولة وفي التنزيل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز} (الحديد : 25).
ولا يعني ذلك أن كل الأنبياء أو الرسل نجحوا في الأمر، بل إن منهم من استشهد دون هذا الهدف وتقدم رؤية القرآن _ وفقا لهؤلاء الباحثين _ تأصيلاً لهذه النشأة وانطلاقًا من قوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (البقرة :213).
وفقًا لهذه الرؤية هناك ثلاثة مراحل :
أ) مرحلة كان الناس أمة واحدة. ب) مرحلة الاختلاف
جـ) مرحلة إرسال الرسل، وإنزال الكتب ليقيموا الحكم بين الناس وينهوا هذا الاختلاف وهنا تظهر الدولة القائمة على عقيدة التوحيد وشرعتها، عندما يحدث الاختلال أو تتدهور السلطة أو الكيان الحافظ للعقيدة _ يرسل الله الرسل من جديد بالكتاب لتصحيح المسيرة واعادة بناء الدولة… راجع حول هذه الرؤية :
_ ضياء الدين القبانجي، المذهب السياسي في الإسلام، بيروت : دار التعارف، 1985م ص 7 _ 35.
_ عبد الغفار عزيز، العلاقة بين الدعوة والدولة في القرن الأول الهجري، جامعة الازهر _ كلية أصول الدين _ رسالة دكتواره غير منشورة، 1973م.
(28) راجع نص «تسهيل النظر» الفصل الثاني، ص 25 (تحقيق رضوان السيد).
(29) رضوان السيد (تحقيق، مرجع سابق ص 87 _ 88).
(30) المرجع السابق ص 88.
(31) المرجع السابق ص 204 _ 205.
(32) المرجع السابق، ص 205.
(33) المرجع السابق ص 206.
(34) حامد عبد الماجد، الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية، دراسة، النظرية السياسية الإسلامية، القاهرة دار النشر والتوزيع الإسلامية، 1993م ص 35 _ 38.
(35) المرجع السابق ص 54 _ 55.
(36) رضوان السيد، المرجع السابق ص 198.
(37) المرجع السابق ص 199.
(38) المرجع السابق ص 21 وقد أورده نقلا عن جمع كبير من المصادر منها : تاريخ الطبري 1/ 813، سراج الملوك ص 113.
أدب الدنيا والدين ص 129 ـ 130 الاعلام لعامري ص 153.
(39) رضوان السيد نص « تسهيل النظر » مرجع سابق ص 202.
(40) المرجع السابق ص 203.
(41) المرجع السابق ص 204.
(42) المرجع السابق 204.
(43) المرجع السابق ص 203.
(44) المرجع السابق ص 124.
(45) أبو حسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، القاهرة، مكتبة ومطبعة مصطفي البابي الحلبي وأولاده، ط 12، 1386 هـ ـ 1966 م، ص 15 ـ 16.
(46) رضوان السيد ( تحقيق ) نص : تسهيل النظر، مرجع سابق ص 127.
(47) المرجع السابق ص 21.
(48) المرجع السابق ص 90.
(49) المرجع السابق 90.
(50) المرجع السابق 214 ـ 215.
(51) يلاحظ الباحث ان معظم المفكرين السياسيين المسلمين تناولوا هذه الوظيفة بكونها تعبيرًا عن منطق كلي شامل يغلف جميع المدركات السياسية التي تندرج في إطار السلطة السياسية ووظائفها.
فالماوردي يكرر التأكيد في أدب الدنيا والدين على هذه المعاني ( راجع ص 29 ـ 32 ).
وهو يرى في التحفة الملوكية في الآداب السياسية « أول شيْ يجب على ولي الأمر العمل به نشر العدل الذي هو صلاح العالم، إذ هو الاساس الذي ينبني عليه نظام الملك لأنه أساس الدين، وهو ميزان الله في الأرض، ويؤكد أن الجور يفسد ضمائر الخلق، ولكل جزء من الجور قسط من الفساد حتي يستكمل » راجع :
ـ أبو الحسن الماوردي، التحفة الملوكية في الآداب السياسية ( تحقيق ودراسة د. فؤاد عبد المنعم )، الاسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة. د. ت.
أما ابن خلدون فإنه يخصص فصلاً في مقدمته بعنوان « فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران » يقول فيه « إن الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم هي ما ينشأ عنه من فساد العمران، وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري».
ـ عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة ( تحقيق : د. علي عبد الواحد وافي )، القاهرة : مكتبة الآداب، 1964.
أما عبد الرحمن الكواكبي فيقول في مقدمة كتاب ( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) « إن البدع التي شوشت الإيمان، وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض، وتتولد من عرف واحد هو المراد ألا وهو الاستعباد. وقد يبلغ الاستبداد بالأمة بحيث لو دفعت للرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهرمن النور».
– عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، مصطفي الباببي الحلبي وشركاه د.. ت ص 17 ـ 22 وراجع أيضًا :
– حامد عبد الماجد : الوظيفة العقيدية للدولة الاسلامية، رسالة ماجستير، مرجع سابق، ص 194 ـ 199.
(52) رضوان السيد (تحقيق) تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مرجع سابق ص 227.
(53) المرجع السابق ص 227 _ 228.
(54) راجع حول تأصيل الوظيفة التوزيعية.
_ حامد عبد الماجد، مرجع سابق، ص 195 _ 196.
_ محمد أنس الزرقا، عشرون طريقة للتوزيع في إطار الشريعة الإسلامية الكويت، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، عدد (1) 1979م ص 22 _ 38.
(55) رضوان السيد (تحقيق)، تسهيل النظر وتعجيل النظفر…مرجع سابق، ص 221.
(56) راجع حول سلطة ولي الأمر في الشريعة الإسلامية في فرض أعباء مالية على المواطنين :
_ صلاح الدين سلطان، سلطة ولي الأمر في الشريعة الإسلامية في فرض وظائف مالية، (رسالة ماجستير في الشريعة الإسلامية)، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، 1987 م، ص 175 _ 176.
(57) رضوان السيد (تحقيق)، تسهيل النظر وتعجيل الظفر.. مرجع سابق ص 222.
(58) المرجع السابق ص 222.
(59) المرجع السابق ص 223.
(60) رضوان السيد (تحقيق)، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مرجع سابق ص 223.
(61) راجع هذه الدراسة القيمة حول استمرارية الاجتهاد في تطبيق الأحكام الشرعية وتنزيلها على الوقائع المستجدة والنوازل الحادثة :
جلال الدين السيوطي، كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض (حققه : خليل الميس). بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1983م، ص 9 _ 13.
(62) أحمد هريدي، القضاء في الإ سلام، القاهرة : دار النهضة العربية، 1961م ص 80 _ 90.
د. حامد ربيع، نظرية القيم السياسية.. مرجع سابق ص 188 _ 190.
(63) يروي السيوطي _ في القود وهو أحد صور وأشكال الجزاء والمحاسبة على الخطأ في أطار القيام بالوظائف العامة _ واقعة تعدى أحد الولاة على واحد من الرعية.. وكيف رأي الخليفة عمر _ رضى الله عنه _ أن العامل أوالوالي قد خرج عن حدود ولايته، وأن معاملته الشاكي لم تكن موافقة للحق وللعدل، وأن سببها لم يكن ناشئا عن العمل، وليس فيه شئا من النية الحسنة لذلك «ألزم عامله أن يقيد من نفسه للمتضرر، لولا أن الشاكي عفا عنه لأستتم القود» راجع : جلال الدين السيوطي، المرجع السابق ص 32 _ 35.
(64) رضوان السيد (تحقيق)، تسهيل النظر وتعجيل الظفر.. مرجع سابق ص 214.
(65) المرجع السابق، ص 239.
(66) طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة.. الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة : دار الشروق، ط1، 1417هـ _ 1996 م ص 40.
(67) حامد عبد الماجد، الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية.. مرجع سابق، ص 199.. مما يؤيد ما نذهب إليه في هذا الصدد هو رؤية ابن تيمية الذي يرى «جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله إنما خلق الخلق بذلك وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل وعليه جاهد الرسول والمؤمنون»
ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية القاهرة : مكتبة البابي الحلبي، د. ت ص 13 _ 14.
(68) قدم أكثر المفكرين السياسيين المسلمين تحليلات عميقة ومسهبة لموضوع اختلالات السلطة وانهيار الدول، ولعل أوضحهم وأقربهم في التأثر بالماوردي هو ابن خلدون، وما قدمه حول «العصبية» ونظريته في قيام الدول وانهياراها، وأطوار حياتها في نظريته عن العمران… راجع :
ابن خلدون، المقدمة… مرجع سابق ص 35 _ 39 ومواضع متفرقة.
أما الماوردي _ فقد عالج الموضوع بطريقة أكثر عمقا وتأصيلاً في كتابه « نصيحة الملوك» والذي أفرد له فيه « بابًا» خاصًا بعنوان «الابانة عن الاسباب التى من جهتها يعرض الاختلال والفساد في الممالك، وفي أحوال الملوك» وكان ذلك من خلال تحليل واقعي للخبرة التاريخية للتجربة السياسية الإسلامية حاول يرتفع فيه إلى مستوى الوصول إلى درجة من درجات التعميم، والخروج باتحاهات عامة..
يقول علي سبيل المثال في « نصحية الملوك» كان مما جرت عليه أمور العالم..أنه لم تكن مملكة إلا كان أسها ديانة حتى إذا خرج الآتي بشريعتها، والواضح لأركان ملتها _ حقًاكان ذلك أم باطلاً _ من بينها، وقع الاختلاف _ فيما بين أمته، والتنازع من أهل ملته، فربما كان ذلك منافسة في الرياسة وربما كان مخالفة في الدين..».
راجع : _ رضوان السيد (تحقيق)، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، ص 91، 92.
(69) رضوان السيد (تحقيق) تسهيل النظر وتعجيل الظفر.. مرجع سابق، ص 247.
(70) المرجع السابق، 247.
(71) راجع للمقارنة :
محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، بيروت : دار التعاون للمطبوعات، ط2، 1402هـ، 1981م، ص 9 _ 37.
(72) رضوان السيد (تحقيق)، تسهيل النظر وتعجيل الظفر.. مرجع سابق ص 247 _ 248.
(73) المرجع السابق، ص 249.
(74) المرجع السابق، ص 249.
(75) المرجع السابق نفس المصدر.
(76) د. حامد ربيع ( تحقيق وتعليق وترجمة ) سلوك المالك في تدبير الممالك، مرجع سابق ج 1، ص 136 ـ 137.
(77) رضوان السيد (تحقيق ) تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مرجع سابق، ص 249 ـ 250.
(78) المرجع السابق ص 251.
(79) حامد عبد الماجد، مرجع سابق، ص 132 ـ 133.
(80) رضوان السيد ( تحقيق )، تسهيل النظر وتعجيل الظفر.. مرجع سابق، ص 251 ـ 252.
(81) رضوان السيد : مرجع سابق ص 252.
(82) المرجع السابق ص 253.
(83) المرجع السابق نفس الصفحة.
(84) المرجع السابق نفس الصفحة.
(85) المرجع السابق نفس الصفحة.
(86) المرجع السابق ص 254 ـ 255.
(87) الماوردي، أدب الدنيا الدينا.. مرجع سابق، ص 177 ـ 178.
(88) رضوان السيد، المرجع السابق، ص 201 ـ 202.
(89) المرجع السابق، ص 199 ـ 200.
(90) المرجع السابق، ص 203.
(91) راجع حول « الابتداع والتحريف العقيدي إزاء ممارسة الوظيفة العقيدية » :
حامد عبد الماجد، الوظيفة العقيدية للدولة الاسلامية، مرجع سابق، ص 158 ـ 162.
(92) المرجع السابق ص 13 ـ 14.
(93) رضوان السيد (تحقيق ) تسهيل النظر ةتعجيل الظفر.. مرجع سابق ص 204.
(94) المرجع السابق ص 279.
(95) المرجع السابق ص 233.
(96) المرجع السابق ص 234.
(97) الرجع السابق ص 205.
(98) المرجع السابق ص 225.
(99) المرجع السابق ص 282.
(100) المرجع السابق ص 70.
ويلفت الماوردي الانتباه في موضع آخر إلى أهمية المسألة « قد لزم لما بيناه النظر في أمور الدنيا فواجب سير أحوالهها، والكشف= =عن وجهة انتظامها واختلالها، لتعلم أسباب صلاحها وفسادها، ومواد عمرانها وخرابها؛ لتنتفي عن أهلها شبه الحيرة، وتنجلي لهم أسباب الخيرة فيقصدوا الأمور من أبوابها، ويعتمدوا صلاح قواعدها وأسبابها ».
– الماوردي، أدب الدنيا والدين.. مرجع سابق، ص 134.