هذه السطور ليست مقالاً مرسلاً أفرغت معانيه على الورق في انطلاق واسترسال، ولكنها ثمرة معاناة طويلة مع التردد، وإخلاف وعود عديدة بالكتابة طال أمدها منذ عقد صاحب هذا القلم عزمه منذ ما يقرب من عام على أن يسجل لنفسه ، وللقراء بعض الخواطر والتأملات حول مسيرة الفكر الإسلامي المعاصر ، ومسيرة الحركات التي تستمد منه أو ترفع شعاراته أو تقوم عليه ، فهذه السطور إذن ليست إلا قطوفًا وخواطر متفرقة من فكر يعانيه كاتبها في مراجعات متواصلة وصبر وأناة طويلين ، لا يتحكم فيهما الاستعجال الذي فرض نفسه على هذه السطور ، وقد وعد صاحبها أن يفرغ من كتابتها في أيام معدودات ، قبل أن يدق اليوم الأول من القرن الجديد أبوابنا وأبواب جميع الناس .
ويحتاج القارئ قبل أن ندخل إلى صميم الموضوع أن ننبهه إلى أمور ثلاثة مهمة تعينه على فهم الحدود التى رسمناها لمناقشة هذا الموضوع :
الأمر الأول : أن الحركات الإسلامية التى نطل معه عليها من خلال هذه السطور ليست هي «الجماعات» أو«جماعات التطرف والعنف» التى امتلأت الصحف ووسائل الإعلام بالحديث المعاد عنها ، وتتبع أخبارها ، وإدانة الفكر الذى تقوم عليه ، والسلوك الاجتماعي والسياسي الذي تمارسه ، واصفة إياها بالحق والدقة أحيانًا ، وبالتعميم الفاسد أحيانًا أخرى ، بأنها جماعات التكفير أو جماعات الإرهاب أو جماعات الإسلام السياسي !!
وقد آثرنا من جانبنا أن نسميها جماعات الغلو في الفكر والانحراف عن مبادئ الإسلام وضوابط السلوك الجائر في الحركة والنشاط . ذلك أن هذه الجماعات على ما شغلته _ ولاتزال تشغله _ من اهتمام الناس والحكومات ، فإنها لا تمثل _ عند التأمل الهادئ والرصد الموضوعي ، إلا هامشًا ضئيلاً ، وإن يكن عالي الصوت شديد الضجيج _ على جانبي تيار واسع عريض هو تيار الفكر الإسلامي والسلوك الذي تحكمه عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه .. والذي هو فكر وسلوك مئات الملايين من المسلمين الذين أقاموا حضارة الإسلام ، وعاشوا ثقافته عبر القرون ، والذين تستقر عقلوهم وقلوبهم في هذا الزمان على مبادئ الإسلام الإنسانية السمحة التي جاء بها خاتم النبيين لتكون رحمة للناس ، تحررهم من الجوع والخوف وتدفع عنهم أسباب القلق ودواعي العسر والحرج .. وتضبط علاقات بعضهم ببعض على دعائم من العدل ، والتكافل ، وتبادل الفضل والعطاء ..ولقد وقع ظلم هائل لا يغتفر لحضارة الإسلام وثقافته ومسيرة أهله كلهم ، حين اختزلت تلك المسيرة _ عن نقص في العلم والوعي ، أو نقص في روح العدل والإنصاف _ إلى أن تكون هي مسيرة تلك الحفنة من الغاضبين الذين يخرجون على الأمة كلها بين الحين والحين ، يكفرون مؤمنها ، ويفسقون صالحها ، وتمتد أيديهم بالعدوان والأذى إلى برها وفاجرها .. ولقد آن الأوان _ فيما نرى _ لاستنقاذ «الثقافة الإسلامية» ومعها الكثرة الغالبة من الحركات الإسلامية المعاصرة، من آثار هذا الاختزال الظالم ، ومن آثار الخطيئة الكبرى التى وقع فيها بعض المثقفين والمؤرخين، حين فوتوا على أنفسهم وعلى الناس فرصة التأمل الموضوعي المنصف في مسيرة «التيار الإسلامي العام» الذي تمثله جموع المسلمين الذين لا تربطهم رابطة بتلك «الجماعات» التي أوشك الحديث المتواصل المعاد عنها أن يكون «عقبة» حقيقية في طريق التاريخ الهادئ لمسيرة المسلمين ، والتأمل الجاد فيما يمكن أن يكون للمسلمين وحضارتهم من مكان أو مكانة على خريطة المستقبل القريب الذي يمثله هذا القرن الحادى والعشرين.
الأمر الثاني : أننا في هذه الإطالة لا نطيل التوقف عند ما جرى في القرن العشرين، بقدر ما نشد الانتباه إلى ما ينتظر تلك الحركات ، وينتظر المسلمين جميعًا في القرن الحادي والعشرين . لذلك فإن هذه السطور لا تقدم تسجيلاً تحليليًّا للحركات الإسلامية التى ظهرت في القرن المنصرم ، أولاً : لأن كاتبها ليس من الؤرخين المتخصصين. وثانيًا : لأن تقديم مثل هذا التسجيل يحتاج إلى قاعدة معلومات كاملة وإلى نظام توثيق دقيق لا يملكهما الكاتب ولا تتسع لهما هذه السطور . ثم إن شاغلنا الشاغل عند هذا المنعطف التاريخي بين قرنين ليس تقييم الحركات الإسلامية التى ظهرت خلال المائة عام الاخيرة ، أيًّا كانت معايير ذلك التقييم ، بقدر ماهو التنبيه إلى شروط النهضة ومتطلبات الانبعاث ، وإلى مانراه المنهج السليم في فهم الإسلام كله وفهم رسالته ومنهج الدعوة إليه ، وتوظيف مبادئه وشرائعه لخدمة المجتمع ، ومعالجته همومه وشئونه على نحو يحقق التواصل مع الناس ، ويضع نهاية لمرحلة «الجمود على الموجود» التى طبعت فكر كثير من المثقفين المسلمين ، كما طبعت جوانب عديدة من حياة جموع المسلمين ، وألقت ظلالاً قاتمة وسحبًا عقيمة على أوضاعهم السياسية والاجتماعية .
الأمر الثالث : أننا نكتب هذه السطور في وعي كامل بالتغيرات التي طرأت علي حياة الناس جميعًا ، مسلمين وغير مسلمين ، شرقيين وغربيين ، نتيجة الآثار الهائلة التى تركتها على حياة أولئك الناس ثورات العلم والتقنية في جميع المجالات ، وعلى رأسها مجالات الحركة والاتصال والمعلومات .. ذلك أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا بمعزل عن شئ من هذه التغيرات ، بعد أن سقطت الحواجز وانهارت السدود ، والتقى ماء الحضارات والثقافات على أمر قد قدر… ومسلمو هذا الزمان لا يملكون أبدًا أن يصوغوا لأنفسهم تاريخًا منفصلاً عن تاريخ العالم الذي يعيشون فيه ، كما لا يملكون أن يدخلوا القرن الجديد ، كما يتوهم البعض من باب خاص بهم لا يدخل منه أحد سواهم . أو أن يصنعوا لأنفسهم مستقبلاً منعزلاً عن مستقبل سائر الشعوب ، ذلك أنهم وإن لم يدرك بعضهم ذلك ، جزء من عالم «سائر الناس» متأثر به ومؤثر فيه ، إذ الناس في منطق الإسلام كلهم «عيال الله» تجرى عليهم القوانين والسنن الإلهية الثابتة التي تجرى علىسائر الناس، وإله المسلمين الذي يعبدونه هو رب الناس .. ملك الناس .. إله الناس .. ورسولهم الذي يصدقونه ويتبعون سننه ويهتدون بهديه هو بشر مثلهم يوحى إليه ، وقد علمهم أنه وسائر الأنبياء من قبله « أبناء علات ، أمهاتهم شتى وأبوهم واحد» .. والمسلمون جميعًا في المنطق الإلهي ، أمة من الأمم ، إلا أنها صارت بما تحمله من دعوة الحق والخير والعدل والسلام ، «خير أمة أخرجت للناس» ، ولهذا فإن تاريخ المسلمين ، قديمه وحديثه ، ليس إلا جزءًا حيًّا من تاريخ سائر الناس ، تتفاعل في ظله ثقافة المسلمين وأفكارهم وثمرات إبداعهم وأنماط سلوكهم ، مع كل ما يحيط بهم من ألوان العقائد والأفكار والرؤى والثقافات .. لهذا يحتاج المسلمون ، عند هذا المنعطف التاريخي الخطير ، إلى أن يدركوا أنهم حين يعبرون إلى القرن الحادي والعشرين ، فسوف يعبرون في موكب واحد تجتمع معهم فيه سائر الأمم والشعوب .. وهو موكب تحيط به مشكلات وهموم مشتركة ، وتجمع السائرين فيه أشواق مشتركة تتطلع إلى تزكية ما حملته الثورات العلمية من خير «ينفع الناس» ، وإلى مقاومة الآثار الجانبية المدمرة التى حملتها للإنسانية كلها رؤى حضارية توشك أن تقدم الشئ «على الإنسان» ولاتكاد تعرف للسعادة طريقًا إلا طريق حيازة الثروة ، ومزاحمة الآخرين عليها مزاحمة تستحل فيها جميع الوسائل ، ويستباح من أجل تحقيقها الجور علي حقوق الآخرين واستئصالهم إذا لزم الأمر وتطلبته ملابسات الصراع .
في إطار هذه المقدمات الطويلة التىلم يكن من عرضها بد، ننتقل إلى استعراض أمور ثلاثة :
أولا : نظرة سريعة إلى مجمل الحركات الإسلامية التى ظهرت خلال القرن العشرين ، وإلى موقف سائر الناس منها .
الثاني : الدعوة إلى تصحيح العلاقة بين تلك الحركات وبين الأنظمة الحاكمة في تلك المجتمعات ، وفض الاشتباك العدائي القائم بين طرفي تلك العلاقة .
الثالث : تصور التوجهات الأساسية للحركات الإسلامية ، كما تحددها روح الإسلام ، في إطار الظروف الموضوعية للواقع الإنساني الذي نستطيع استشراف معالمه في القرن الحادي والعشرين .
1_ وأول ما يلفت النظر ويستوقف الباحث والمؤرخ أن الحركات الإٍسلامية التى ظهرت في مطلع القرن العشرين وحتى أواسطه قد كانت لها أهداف سياسية متطابقة تمامًا مع الأهداف السائدة في المجتمع ، حتي تكاد تكون موضع إجماع من جماهير الناس ، فأهداف هذه الحركات لم تكن بهذا المعنى أهدافًا خارجة على التوجهات السياسية للجتمع ، ولا مخالفة لها أو متناقضة معها .. كما يلفت النظر أن هذه الأهداف قد كانت في الغالب الأكثر منها أهداف تحرير وطني ومقاومة للنفوذ والتسلط الأجنبي ، وبهذا وبسببه دخلت جميع تلك الحركات تاريخ بلادها السياسي ، باعتبارها حركات تحرير وطني وقومي وثقافي . وعلي سبيل المثال ، فإن حركة دينية سياسية كالحركة السنوسية التي ظهرت في ليبيا علي يد محمد بن علي السنوسي المتوفي 1860م خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر والتي امتد تأثيرها وتعاظم مدها خلال النصف الأول من القرن العشرين ، قد كانت إلى جانب طابعها الصوفي والدعوى المعروف حركة تحرر جهادي من الاستعمار الإيطالي ، كذلك كانت الحركة المهدية التي أسسها محمد أحمد المهدي في السودان حركة تحرر من النفوذ الاستعماري البريطاني ، وحتي حركة «الجماعة الإسلامية» في باكستان، كانت إلى جانب معالمها الفكرية المحافظة في قراءتها للنصوص الإسلامية المقدسة ، حركة تستهدف تمكين المسلمين في شبه القارة الهندية من ممارسة حقهم في تقرير مصيرهم السياسي والثقافي ، وبهذا المعنى _ وفي حدوده _ كانت تلك الحركة واحدة من حركات التحرير الوطني ، وفي مصر فإن حركة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا عليه رحمة الله ، كانت عند نشأتها حركة ذات طبيعة مركبة، فيها قدر من التوجه الصوفي عبر عنه مؤسسها في مناسبات عديدة من خلال إشادته بالطريقة الصوفيه الشاذلية ، وفيها قدر كبير من التوجه السلفي ( في أمور العقائد التي عرضها حسن البنا عرضًا واضحًا شديد البساطة ، ولكنه دائر في فلك النظرة السلفية التي يمثلها الفكر الأشعرى ، وكان فيها توجه للإصلاح السياسي والاجتماعي الداخلي علي أسس ومنطلقات إسلامية.. كما كان فيها أخيرًا _ وهو ما يعنينا هنا _ جانب سياسي تمثل في شقه الخارجي في تحرير مصر من الاستعمار الإنجليزي ، كما تمثل بعد عام 1947م في العمل على تحرير فلسطين من الاغتصاب اليهودي .. وفي إطار هذا التوجه السياسي كان اشتراك أعداد غير قليلة من شباب تلك الجماعة في الأعمال الفدائية الموجهة ضد المعسكرات البريطانية في ضواحي القاهرة ، وفي منطقة قناة السويس ، كما كان اشتراكهم عام 1948م في كتائب المتطوعين التى دخلت الأراضي الفلسطينية تحت قيادة القائمقام أحمد عبد العزيز ، ولعلنا نلاحظ هنا أن قيام التنظيم شبه العسكرى الخاص لجماعة الإخوان المسلمين في مصر بعدد من أعمال العنف داخل مصر ، وهو ما ورطهم في النهاية في صدام مباشر مع القانون ومع الشرعية القائمة .. هذا التوجه الخاطئ قد كان في بدايته الأولى موجها ضد المصالح الأجنبية واليهودية فى مصر ، وكان في نظر أصحابه _ أيًّا كان الرأى في شرعيته ومدى جوازه _ عملاً من أعمال التحرير الوطني والمقاومة الشعبية يشتركون فيه مع جماعات أخرى عديدة خارج التيار الإسلامي .
والذي نصل إليه من هذه الملاحظة هو ما انتهي إليه مؤرخ معاصر ثقة من أنه «قبل ظهور الدعوات العلمانية المتأثرة بالغرب ، كانت الدعوات الإسلامية مندمجة في حركات التحرير الوطني عامة ، وفي الدعوات العامة للإصلاح والنهوض ، فلما انفرزت حركة وطنية علمانية تدعو للاستقلال بصورة للمجتمع المستقل مستعارة من نماذج الغرب وأسسه الشرعية ، لما حدث ذلك ظهرت الدعوة الإسلامية تؤكد أن الإسلام دين ودولة معًا»(1) .
وعلى الصعيد الفكرى لا يملك الباحث ، إلا أن يلاحظ التوجه التحررى الواضح في أفكار كثير من رواد حركة الانبعاث الإسلامي خلال النصف الأول من القرن العشرين ..
ومن أوضح الأمثلة علي هذا الاندماج الفكرى بين «الرؤية الإسلامية» والموقف الوطني التحررى ، ما نقرؤه في كتابات السيد جمال الدين الأفغاني ، وإن كان الفكر عند الأفغاني قد كان مصاحبًا ومواكبًا طول الوقت للعمل السياسي وللحركة النضالية .. كذلك يلاحظ الباحث مدى الارتباط الوثيق بين دعوة ابن باديس وجمعية العلماء الجزائريين إلى بعث تعاليم الإسلام والدعوة إلى التمسك بالثقافة العربية واللغة العربية في مواجهة الاستعمار الفرنسي ، الذي أخذ يعمل بهمة ونشاط وإصرار علي طمس الهوية الثقافية للشعب الجزائري ، سعيًا إلى تيسير خضوعه للنفوذ السياسى والثقافي الفرنسي .. وبذلك كان لجمعية العلماء الجزائريين وجهها الوطني التحريري ، إلى جانب وجهها الإسلامي الإصلاحي.. وشبيه بهذا ما قام به الثعالبي في تونس ، جامعًا في دعوته وفي أفكاره التوجه الإسلامي الواضح ، والتوجه القومي إلى الاستقلال عن النفوذ الغربي الذي مثلته فرنسا ، وهو ما انتهي عام 1920م إلى تأسيس الحزب الحر التونسي على أسس إسلامية وعربية في ذات الوقت .
بل أن الثنائية التى ظهرت في المواقف الفكرية لعدد من رواد الفكر الإسلامي تجاه الدولة العثمانية تكشف عن أمر بالغ الأهمية ، وهو أن كثيرًا من تلك القيادات رغم توجهها الإسلامي الواضح، فإنها قاومت السيطرة العثمانية علي العالم العربي من منطلق تحررى وإسلامي في آن واحد، فبالإضافة إلى استفزاز حركة التتريك وإحياء القومية الطورانية للمشاعر العربية ، فإن هذه القيادات الإسلامية قد استقر لديها الإحساس بأن الدولة العثمانية قد تراخت قبضتها وترهل بنيانها ولم تعد بسبب جمودها وتخلفها النسبي ، قادرة علي حماية المسلمين في مواجهة النفوذ السياسي والعسكرى المتعاظم للقوى الكبرى في أوروبا ، وهوما يعني أن الموقف الفكرى لهذه القيادات الإسلامية قد كان في جانبه السياسي موقف مقاومة ، وسعيًا للتحرر ، حتى حين تتوجه تلك المقاومة إلى دولة ترفع شعارات الإسلام والخلافة الإسلامية .
وإلى جانب هذا الموقف التحررى تميز الرواد والعلماء في تلك الفترة بانتباههم إلى دور العقل في تحقيق النهضة .. ولم يكن هذا موقفًا جديدًا بقدر ما كان عودة إلى الأصول الثقافية الإسلامية ، بعد أن طرأ عليها جمود مؤقت .. وحسبنا إثباتًا لهذه الحقيقة أن نشير إلى قول كاتب سياسي شهير ينتمي إلى القرن الخامس الهجرى هو أبو الحسن الماوردى ، إذ يقول في كتابه «أدب الدنيا والدين» : أعلم أن لكل فضيلة أساسًا ولكل أدب ينبوعا ، وأسس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل الذي جعله الله تعالي للدين أصلا وعمادًا ، فأوجب التكليف بكماله وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه ، وألف بين خلقه مع اختلاف مذاهبهم ومآربهم وتباين أغراضهم ومقاصدهم ، وجعل ما تعبدهم به قسمين : قسمًا وجب بالعقل فوكده الشرع ، وقسمًا جاز في العقل فأوجبه الشرع ، فكان العقل لهما عمادًا»(2)، ثم يقول : «اعلم أن الله سبحانه جعل ماتعبدهم به (أي الناس) مأخوذًا من عقل متبوع وشرع مسموع . فالعقل متبوع فيما لا يمنع منه الشرع والشرع مسموع فيما لا يمنع منه العقل ؛ لأن الشرع لا يرد بما لايمنع منه عقل ، والعقل لا يتبع فيما يمنع منه الشرع ، فلذلك توجه التكليف إلى من كمل عقله»(3) .
أما محمد عبده فقد كان _ فيما نرى_ مجدد هذا القرن بما انتهي إليه وماعبر عنه في مؤلفاته وفتاواه من ضرورة الاجتهاد العقلي ، وهو اجتهاد مارسه بنفسه حين قام بتفسير ماتيسر له تفسيره من القرآن الكريم وفي دعوته القوية لإصلاح مناهج التعليم في الأزهر الشريف .
على أن هذا الموقف السياسي التحررى للفكر الإسلامي وللحركات الإسلامية لم يلبث أن تغير مع بداية النصف الثاني للقرن العشرين .. متجهًا بتلك الحركات إلى موقف المعارضة الحادة للنظم السياسية وللحكومات القائمة .. ودافعًا بالطرفين إلى مواجهات ومصادمات غير مسبوقة وإلى اتجاه كثير من حكومات الدول العربية والإسلامية إلى السعي لتصفية تلك الحركات تصفية سياسية أول الأمر ، وجسدية إذا اقتضت الظروف والملابسات ، وهو اتجاه قابله اتجاه من جانب بعض تلك الحركات يسعى لزعزعة الاستقرار السياسي النسبي الذي تتمتع به تلك الحكومات .. ورغم التأييد الشعبي الذي تمتعت به بعض تلك الحركات ، فإن طول فترة المواجهة مع الحكومات واتصال حلقاتها ، وتصاعد موجات العنف المتبادل بين طرفي المواجهة ، وما دفعته الجماهير من ثمن باهظ من دمائها وأمنها وحريتها بسبب ذلك كله .. قد نقل كثيرًا من الحركات الإسلامية إلى موقف جديد هو موقف العمل «خارج» الإطار السياسي وخارج «الشرعية القانونية» وانتهى الأمر إلى اختفاء تدريجي للخطوط الفاصلة بين الروافد المختلفة للعمل الإسلامي .. وسعت دوائر عديدة بعضها داخل المجتمعات الإسلامية ، وبعضها خارج تلك المجتمعات إلى تثبيت هذا الخلط ، وإشاعة الاعتقاد باستحالة التمييز بين تلك الروافد ، استنادًا إلى مقولة مؤداها أن تلك الجماعات جميعها تحمل بذور العنف والتطرف ، وأنها جماعات إرهاب .. تشكل في الحال أوفي المآل خطرًا شديدًا على أمن المجتمع واستقراره وعلى مسيرة التنمية المتواصلة التي هي القضية الأولى لجميع الدول العربية والإسلامية النامية .
وهكذا ، وفي مفارقة تاريخية مؤسفة تحول العمل الإسلامي المنظم كما تحول الفكر الإسلامي كله في نظر أكثر الحكومات من قوة تبعث على النهضة ويضاف جهدها إلى جهد الحكومات في تحقيق تلك النهضة وفي تحرير الشعوب وتوكيد استقلالها في مواجهة القوى الأجنبية ، إلى مصدر خطر داهم على استقرار المجتمع ، وإلى عقبة تهدد مسيرته نحو النمو والرخاء .. وإلى مشكلة أمنية مزمنة يكاد حلها يستعصي على العقلاء والحكماء وبسيادة هذه النظرة الأمنية إلى مشكلة سياسية وثقافية بالغة التعقيد وقعت أضرار جسيمة وفات على الأمة بكل طوائفها خير كثير.
وأهم ما يعنينا في هذه السطور أن نكتشف الأسباب التى أدت إلى هذا التحول ، وما إذا كانت هذه الصورة الجديدة للحركات الإٍسلامية صورة نهائية لارجعة فيها وعلينا أن نتعامل معها على هذا الأساس أم أنها مرحلة «عارضة» أدت إليها أسباب طارئة ، ومن ثم ينبغي العمل على إنهائها في أقرب وقت والعودة إلى السياق الطبيعي الذي تتفاعل فيه الأفكار والمذاهب والرؤى المختلفة تفاعلاً عضويًّا صحيًّا يوظف في النهاية لمصلحة المجتمع كله .
وفي تقديرنا أن أسبابًا رئيسية قد ساهمت في حدوث هذا التحول :
1_ أولها أن الحوار الفكرى الخلاق الذي كان دائرًا داخل المجتمعات العربية والذي كان حوارًا وطنيًّا داخليًّا بين مناهج مختلفة في الإصلاح وتحقيق النهضة قد تسللت إليه قوى وتأثيرات خارجية رأى بعضها في التيار الإسلامي خطرًا داهمًا يهدد مصالحه ، ويقف في إصرار ضد محاولات التغريب التى تفقد الأمة هويتها الحضارية وتيسر دخولها بعد ذلك في مجال التبعية والانقياد لتلك القوى الأجنبية ، وقد عبر عن هذا التحول باحث معاصر محقق منبها إلى أن دخول هذا الطرف الأجنبي في دائرة هذا الحوار قد غير طبيعة الحوار ، وأخل بالتوازن الذي كان قائمًا بين أطرافه، فلم تعد النخبة العلمانية وحدها في مواجهة مع المشروع الإسلامي ونخبته وجماهيره ، ولم تعد مؤسسات الدولة القُطرية هي التى تحمل وحدها عبء مواجهة الحركات الإسلامية وإنما دخلت التبعية التى تشد الدولة القطرية إلى الغرب في هذا الصراع الأمر الذي زاد من حدة الاستقطاب بين العلمانيين وبين الإسلاميين على نحو غير مسبوق.. وخلال السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين ، وبسبب انتشار ظاهرة الإرهاب العالمي من ناحية وفي أعقاب انهيار المعسكر الاشتراكي فكريًّا وسياسيًّا وعسكريًّا ، ارتفعت فجأة في الأدبيات السياسية الغربية نغمة أن الإسلام هو العدو الجديد، وحدث تداع مؤسف في الفكر وفي السلوك السياسي للغرب ، بين محاربة الإرهاب وهو هدف مشروع تمامًا ، ولا خلاف عليه داخل المجتمعات العربية والإسلامية ، وبين مقاومة التيار الإسلامي بكل صوره وروافده وعلى اختلاف منطلقاته .. وكان من ثمرة هذه الملابسات المعقدة أن وقع التقاء بين جبهات ثلاث لكل منها رؤيتها وأهدافها الخاصة .. الجبهة الأولى هي جبهة القوى الخارجية الغربية التى ترى في نمو التيار الإسلامي ، ونمو روافده المعتدلة بصفة خاصة خطرًا يهدد المصالح الغربية ويقف في طريق تحقيق تبعية العرب والمسلمين للغرب .. فضلاً عما يمثله ذلك التيار نظريًّا على الأقل من القدرة علىتقديم بديل حضاري منافس لحضارة الغرب .
أما الجبهة الثانية ، فهي جبهة الحكومات التى سيطرت على أكثرها رؤية أمنية خالصة ألقت ظلالها الكثيفة على فكر كثير من الساسة العقلاء والحكماء .. فرأت بسبب ذلك أن التعامل غير الأمني مع روافد التيار الإسلامي أمر غير مجد وغير ممكن وغير مأمون .. وأن الإجراءات الأمنية والعقابية هي الطريق الوحيد الصالح للتعامل مع تلك الروافد .. وبعبارة موجزة قررت تلك الحكومات أن التصفية النهائية الشاملة هي الحل . وقد أدى هذا الموقف من جانب كثير من الحكومات العربية والإسلامية إلى إجهاض الحوار الخلاق الذي كان يمكن أن يتم داخل التيار الإسلامي ، ذلك أن سوء الظن العام الذي استولى على تلك الحكومات بجميع روافد التيار الإسلامي، قد أدى إلى وضعها عمليًّا في سلة الخطرين على أمن المجتمع واستقراره وإلى وضع علامة شك وسوء ظن فوق رءوس جميع العناصر النشطة فكريًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا داخل هذا التيار، فحيل بين أكثر العناصر اعتدالاً وتحررًا وإيمانًا بالتعددية والديمقراطية وحقوق الآخرين وبين ممارسة دورها التاريخي في ترشيد الفكر وإصلاح العوج . وتأخرت بذلك كله تحولات أساسية بالغة الأهمية والأثر كان يمكن وقوعها داخل تلك الحركات ابتعادًا حاسمًا عن التطرف والغلو ، واستردادًا للفهم السوى المعتدل لمهمة الفرد المسلم والجماعة المسلمة ، وإرساء لعلاقة حميمة بين تلك الحركات وبين المجتمعات التى تعمل فيها ..
ولما كان تحقيق مثل هذه التحولات هو الضامن الحقيقي لأمن المجتمع واستقراره ، والضامن كذلك لانتفاع المجتمع بكل تيارات الفكر والعمل العام على اختلاف توجهاتها فإننا لا نتردد من خلال هذه الإطلالة التى أردناها عامة موجزة ، فإذا بها تتسع وتتشعب على النحو الذى نرى ، لا نتردد في تقديم تصور إجمالي لوسائل إنهاء هذه الحالة التى ترفع درجة التوتر والقلق في حياتنا السياسية والاجتماعية .. وهذا التصور يقوم على مجموعة من المطالب نتوجه بها إلى النخبة القائدة أو المثقفة الرائدة داخل التيار الإٍسلامي أو التى تتحدث عن مشروع إسلامي للنهضة العامة ، كما يقوم على مجموعة مقابلة من المطالب والتوصيات نتوجه بها إلى الحكومات وإلى النخبة المثقفة داخل التيار العلماني للإصلاح السياسي والاجتماعي .
أما الجبهة الثالثة : فهي النخبة من الكتاب والمثقفين العلمانيين الذين يرون أن إقحام الإٍسلام في أمور المجتمع ونظمه السياسية والاقتصادية شر خالص.. وإن النضال للحيلولة دون ذلك التدخل بين الدين والمجتمع نضال مقدس لا ينبغي أن يتوقف حتى تتم التصفية النهائية لجميع الحركات الإسلامية .. ومن المؤسف أن بعض هؤلاء قد وضع نفسه ، من حيث لا يدرى، في خندق واحد من الطرف الأجنبي الذي لازال تأثيره على مجريات الأمور في العالمين العربي والأسلامي يتعاظم سنة بعد سنة .. وذلك مع تباين المنطلقات والبواعث بين الفريقين.. إن دخول الطرف الأجنبي في محاولة الصراع الثقافي والحوار الوطني قد عقد الصورة تعقيدًا شديدًا.. بحيث لم يعد ممكنًا في ظل هذا الدخول تصور مستقبل الحوار بين التياريين الإسلامي والعلماني بعيدًا عن رصد وفهم حقيقة الدور الأجنبي ومدى تأثيره على ذلك الحوار .
2_ وإذا كنا لا نغفل عن حقيقة الخلاف القائم منذ بدايات القرن العشرين بين التيارين «الإسلامي» والعلماني داخل المجتمعات العربية والإسلامية ، فإن الذي يحزننا على المستويين الشخصي والموضوعي أن نرى هذا الخلاف وقد تحول إلى «حرب أهلية ثقافية» هدفها الأوحد تصفية الفكر «الآخر» تصفية كاملة ، والتعاون من أجل تحقيق هذا الهدف ، مع قوى ومؤسسات ودوائر وطنية وأخرى خارجية، على نحو يشتت الكيان الفكرى للنخبة المثقفة . ويبدد قواها ، ويغلق _ إلى أمد بعيد في المستقبل _ فرص التعاون بينها .. رغم أن «الفرز الموضوعي» لمحتويات موقف كل من الفريقين من شأنه أن يؤدي إلى تبين عناصر الاشتراك والاتفاق بين مجمل تلك المحتويات .. مما يفسح المجال لتعاون حقيقي ، يخدم القضايا الكبرى للأمة بدلاً من استهلاك طاقة النخب المثقفة في أتون «حرب الاستئصال الثقافي» التىقد تؤدى في مستقبل غير بعيد إلى استئصال الفريقين جميعًا من جانب قوى أخرى تستخدم أحدهما ضد الآخر ، ثم تعود فتصفى هذا الذي استخدمته لتخلو لها الساحة كلها، وخصوصًا أنها منذ البداية ، لا تنحاز انحيازًا حقيقيًّا لأي قوة وطنية يمكن أن تقف في وجه امتداد نفوذها وبسط هيمنتها.
إن مما يبعث على الدهشة والأسف معًا أن هذه الرؤية الموضوعية لحقيقة الخلاف بين التيارين الإسلامي والعلماني قد حجبت عن «النخبة» داخل التيارين رؤية «الملحمة» الفكرية القائمة داخل كل من التيارين ، بين عناصر التطرف والغلو من ناحية ، وعناصر الاعتدال والتسامح والوعى بحق الآخرين في الوجود والممارسة من ناحية أخرى .. وعلى سبيل المثال ، فإن «التيار الإسلامي» يشهد في داخله صراعًا حقيقيًّا بين قوى التطرف والجمود والذهول عن رؤية الواقع وحركة التاريخ ، والانقطاع الاختيارى عن مسيرة ذلك التاريخ .. وبين قوى الاعتدال التىتنظر إلى مقاصد النصوص والأحكام الدينية وإلى ترتيب الأولويات في إطارها ، كما تؤمن بالتعددية وتحترم حقوق الآخرين ، وتمد بصرها وبصيرتها عبر كل الحدود لتنتفع بتجارب أولئك الآخرين .. وقد كان المتوقع والمنطقي أن تنحاز «النخبة العلمانية» إلى هذا الرافد من روافد الفكر الإسلامي ، وأن ترى في هذا الإنحياز ما يشد قوى الاعتدال والتنوير داخل ذلك التيار .. وبدلاً من هذا الموقف المنطقي وجدنا كثيرًا من الأقلام والألسنة التى تتحدث باسم تيار «العلمانية» والتنوير وقد نذرت نفسها لتخص تيار «التنوير الإسلامي» بالنصيب الأوفي من سهام النقد واللوم والاعتراض والتجريح .. وهي سهام قد تؤدى _ لا قدر الله _ إلى هزيمة العلم في مواجهة الجهل ، وتراجع الاعتدال لحساب الغلو والشطط .. ليتراجع بذلك إسلام النهضة والعقلانية وتحرير العقول والتسامح الفكرى والسلوكي تجاه الآخرين.. ولترتفع في ساحة الحرب الأهلية القائمة بين «النخب الثقافية» أعلام الجمود والانتكاس والانغلاق .
وعلى الجانب الآخر جانب التيار الإسلامي ، عجزت كثير من القيادات الفكرية داخل هذا التيار عن «رؤية» المشترك بين التيارين ، وعن إعادة ترتيب أولوياتها بما ييسر «العمل المشترك» بينها وييسر الصمود الوطني في مواجهة قوى الجمود والتراجع داخليًّا ، كما تجاهلت بدورها ، تعدد الروافد داخل ذلك التيار العلماني ، ومنها روافد عديدة ذات وزن وتأثير لا ترى بينها وبين التيار الإسلامي في عمومه تناقضًا أساسيًّا يتعذر تجاوزه . بل إنها تجاهلت أن ذلك التيار شأنه في ذلك شأن كل تجمع فكرى يحمل في داخله رؤى متباينة وأنه تتم داخله تحولات وتطورات فكرية حقيقية جديرة بالانتباه والملاحظة .
لهذا فإن في مقدمة المهام التى تواجه النخب الثقافية في مطلع القرن الجديد مهمة البحث الموضوعي الهادئ عن صيغة للتعايش والتبادل الفكرى بين التيار الإسلامي وتيار «التنوير» العلماني . حتى تعود العلاقة بين النخب الثقافية إلى ما كانت عليه ، علاقة حوار وطنى تستفيد منه التجربة المصرية وتجارب العالمين العربي والإسلامي وسط الظروف الإقليمية والعالمية المعقدة التى تحيط بها .
3_ وأخيرًا فإن تعدد الجماعات الإسلامية التى ترفض مجتمعاتها وتتهمها بالكفر والجاهلية ولا ترى في الغرب إلا شرًّا خالصًا يتآمر على العرب والمسلمين، وترفض الأخذ منه والاستفادة من تجاربه ، وما تورطت فيه بعض تلك الجماعات من ممارسات طابعها العنف والامتداد بالعدوان والأذى إلى بعض رموز المجتمع السياسية والثقافية ، فضلاً عن تورط بعضها في صور من العنف العشوائي الذي ينزع الأمن عن المجتمع كله بما فيه ومن فيه ، ويضع تلك الجماعات في مواجهة مع سائر عناصر تلك المجتمعات .. هذا كله قد ساهم في تثبيت الصورة التىحرصت علىتثبيتها دوائر عديدة خارج العالم الإسلامي وداخله، والتي مؤداها أن التوجه الإسلامي في العمل الاجتماعي والسياسي يحمل في داخله بذور عنف كامن واستبداد أصيل ، وأن كل تعاظم لتأثير هذا التيار مهما كان هذا التعاظم منسوبًا إلىأكثر الروافد اعتدالاً وسماحةوعقلانية ، يمثل خطرًا داهمًا على حريات الآخرين وحقوقهم ، كما يمثل تهديدًا للمسيرة الديمقراطية ، وعقبة كبرى في وجه جهود التنوير وإشاعة العقلانية.
وصاحب تلك النماذج من السلوك العدواني لبعض تلك الجماعات ، ذيوع خطاب ديني إسلامي شديد الانغلاق ، مسرف في التفسير «الحرفي» لنصوص القرآن والسنة ، غافل عن مقاصد الإسلام وقيمه الكبرى المهيمنة على الشريعة .. وتزامن ارتفاع نبرة هذا الفكر «الحرفي» مع موجة معاكسة تمامًا بدأت تنتشر في العالم كله وهي موجة الإيمان بالتعددية الثقافية أو الدعوة النشطة إلى حوار الحضارات والأديان.. والسعى الدءوب لاكتشاف القواسم المشتركة بين الثقافات .. سعيًا إلى ممارسة جهد مشترك يحفظ على مسيرة الشعوب قيم وأخلاقيات العلاقات الإنسانية التى تقوم على الاحترام المتبادل للخصوصيات الثقافية والالتزام الصارم بقيم العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان .
لهذا كله لم يكن غريبًا أن تقع المفارقة المؤسفة التى أشرنا إليها بين مارأيناه خلال النصف الأخير من القرن العشرين وبين ما ساد خلال النصف الأول منه ، من اعتبار الحركات الإسلامية جزءًا عضويًّا أساسيًّا من أجزاء حركة التحرر الوطنى ومقاومة النفوذ الأجنبي الذي يحمل طابع الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية.
ومن خلال هذا الرصد لما وقع عند نهاية القرن العشرين ننتقل إلى ما نراه منهجًا أساسيًّا لفض الاشتباك المعقد القائم بين الحكومات والحركات الإسلامية من ناحية وبين التيار الإسلامي وتيار التنوير العلماني من ناحية أخرى، والمنهج الذي نقترحه يقوم على تقديم مجموعة من المطالب والتوصيات نتوجه بها إلى القيادات والنخب الواعية والمؤثرة داخل التيار الإسلامي أو تلك التى تتحدث عن مشروع أو مشروعات إسلامية للنهضة، كما يقوم علىمجموعة مقابلة من المطالب والتوصيات نتوجه بها إلى الحكومات وإلى النخبة المثقفة الرائدة داخل التيار العلماني في الإصلاح السياسي والاجتماعي .
أما القيادات الفكرية الواعية والتى تنشط في مجال العمل الإسلامي فإنها فيما نرى مطالبة عند هذا المنعطف التاريخي بعدة أمور :
1_ أن تحدد بحسم وبوضوح كاملين، وبنبرة عالية لا تردد فيها موقفها من أفكار وتصرفات الجماعات المنظمة التى تجمعها روح العزلة عن المجتمع ، وإدانتها لسائر الناس ، وللدولة ومؤسساتها ، كما يجمعها التفسير الحرفي للنصوص الدينية ، وقلة الاحتفال بالديمقراطية ، وغياب الإيمان بالتعددية الفكرية والسياسية ، واستباحة الوسائل الانقلابية في الوصول إلى مواقع التأثير وممارسة السلطة في المجتمع .. وبغض النظر عن المحاولة المشروعة لفهم البواعث الحقيقية التى تحرك تلك الجماعات أو الأسباب المجتمعية لنشأة هذا النموذج المنحرف من نماذج الفكر والسلوك ، فإن محاولة التفهم هذه لا يجوز أبدًا أن تحول دون إعلان موقف واضح وصريح من هذه الجماعات .. حتى لا تختلط الأوراق ، وتتداخل المواقف ، وتتميع الحدود الفارقة بين التيار العريض للفكر الإسلامي وبين فكر هذه الجماعات ، وهو اختلاط من شأنه أن يمنح فرصة ذهبية للذين يحرصون على إدانة التيار الإسلامي بروافده كلها ، كما يمنح عذرًا ظالمًا لمن يصرون على وضع الفكر المعتدل مع الفكر المتطرف والمنحرف في سلة واحدة .
2_ أن تعلن رأيها واضحًا وصريحًا ومفصلاً وموثقًا في عدد من القضايا الأساسية التى يحتاج الناس حكامًا ومحكومين خاصة وعامة ، إلى استجلاء الرأى في شأنها :
أ _ وعلى رأسها الموقف من الديمقراطية في أسلوب الحكم ، دون تعقيد للقضية بالإلحاح علىاختلاف الرؤى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية، إذ إن الإلحاح على هذا الاختلاف يفضى عملاً إلى الابتعاد عن الشورى الإسلامية وعن الديمقراطية بجميع صورها لصالح أنظمة استبدادية ظالمة يضيق عنها صدر الإسلام ، كما لايتسع لها صدر الديمقراطية الحديثة.
ب) ومن أهمها كذلك قضايا الحرية وحقوق الإنسان وبصفة خاصة الحقوق الثلاثة الآتية:
1_ حقوق الأقليات السياسية والدينية وحرية أصحاب الأديان الأخرى وبصفة خاصة الإخوة المسيحيين في ممارسة شعائرهم الدينية والتمتع بمساواة حقيقية قانونية وفعلية مع المسلمين، ورفض جميع صور التفرقة في الحقوق المدنية والشخصية والسياسية وفي الوظائف العامة ، وفرص العمل والترقي فيه إلى أعلى مواقع القيادة .
2_ حق التعبير عن الرأى في المسائل السياسية والاجتماعية وممارسة ذلك التعبير في أمان من الملاحقة القضائية أو السياسية ، ورفض المسلك الفاسد الذي تفشى أخيرًا ، والذي يصادر حق الناس في التفكير والتعبير ، عن طريق ممارسة القسر والإكراه ، بسوق المخالفين في الرأى إلى القضاء .. بتهم غامضة، يصعب معها دفاعهم عن حقوقهم وحرياتهم ، كما تتراجع _ في ظلالها القاتمة _ فرص انتعاش الفكر والإبداع .. وهو تراجع يهدد أمل الأمة في أن يكون لها إسهام حقيقي في صنع حضارة القرن المقبل كما يهدد أملها في تحقيق نهضة داخلية حقيقية لا يقدر على تحقيقها إلا أصحاب الرءوس المرفوعة ، والقلوب الآمنة ، والعقول المتفتحة .
3_ حق المرأة في مشاركة الرجل أعباء الحياة العامة ، إلى جانب قيامها بدورها الأساسي في بناء الأسرة ورعايتها ، وهي مشاركة لا تزال تقف في طريقها رؤى بعض القيادات الفكرية الإسلامية التى انطبع فكرها ومزاجها بأعراف محلية فاسدة لا تزال سائدة في كثير من المجتمعات، فإذا بهذه الأعراف تقدم للأمة العربية والإسلامية كما تقدم للدنيا كلها كما لو كانت «حكم الإسلام» في هذه القضية ذات التأثير الحاسم على مستقبل التنمية الشاملة في مجتمعات العرب والمسلمين.
جـ) أن يعلنوا _ في وضوح كامل كذلك _ إدانتهم للعنف الذي تمارسه جماعات التطرف والغلو _ والتزامهم الكامل بأسلوب العمل الديمقراطي ، وبقواعد النظام الدستورى والقانوني القائم في ممارسة دعوتهم لتغيير أوضاع المجتمع توجها نحو برنامج الإصلاح الذي يتبنونه .. كذلك لابد أن تؤكد ممارساتهم اليومية صدق هذا الإلتزام باعتباره موقفا مبدئيًّا نابعًا من إيمان حقيقي ، وليس موقفًا تكتيكيًّا أو مرحليًّا يتخذونه انتظارًا لفرصة سانحة يتخلون فيها عنه حين يكون هذا التخلي خادمًا لمصالحهم وتطلعاتهم السياسية في صراعهم مع سائر القوى السياسية والاجتماعية التى تزاحمهم ساحة العمل العام .
د) ألا يتعجلوا الأمور في مطالبتهم بتطبيق الشريعة، وأن يدركوا طبيعة العمل الاجتماعي وشروط الإصلاح التشريعي .. حتى لا تكون الدعوة إلى تطبيق الشريعة نوعا من إكراه الجماعة السياسية على أمر لا تريده ، أو لا ترى تطبيقه تطبيقًا فوريًّا شاملاً معجلاً .. ذلك أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة في كثير من المجتمعات الإسلامية تجعل من الضرورى البدء بإصلاح سياسي عام .. يسترد به الشعب سلطته في اختيار حكامه ونظمه وشرائعه ، وتمارس فيه الحقوق والحريات ممارسة حقيقية لا شكلية . وحين يتحقق ذلك ويجرى الحوار الوطني في جو من الحرية والموضوعية وتقبل الآراء المخالفة . فسوف تجد الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية فرصة حقيقية نابعة من اختيار الجماعة ، كما سوف يطمئن الجميع الموافق منهم والمخالف ، إلى أن تطبيق الشريعة إنما يعنى تحقيق الإنسجام بين الاستقلال الوطنى والسياسي من ناحية وبين الاستقلال الثقافي من ناحية أخرى.. كما يطمئن الجميع إلى أن القصد النهائي من تطبيق الشريعة إنما هو تحقيق المصالح وحماية الحقوق وإشاعة العدل وليس إدخال العسر والحرج باسم الدين علىالمجتمع وأفراده.. ولا يتم ذلك إلا بعد دراسات علمية واسعة واجتهاد فقهي جسور .. ترصد فيه الحاجات الاجتماعية والسياسية للجماعة .. ويمارس فيه الاجتهاد الفقهي بوعي من ضرورة استجابة ذلك الفقه لهذه الحاجات إيمانًا بأن الفتوى لابد أن تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال .
أما الحكومات .. فإنها مطالبة بأمور ثلاثة من شأن الالتزام بها أن يفتح أبوابًا واسعة لتحقيق «تصفية حقيقية دائمة» لظواهر العنف والإرهاب الذي يرفع أصحابه رايات وشعارات إسلامية وأن يرد التيار الإسلامي العريض إلى مكانه ومكانته اللتين كان عليهما خلال النصف الأول من القرن العشرين .. رافدًا أصيلاً مندمجًا في مجمل حركة المجتمع نحو التحرر الوطنى والاستقلال السياسي والثقافي..
الأمر الأول : التعامل مع ظواهر العنف والتطرف بسلطان القانون ، إذ لايتصور أن يوجه اللوم أو الانتقاد إلى حكومات تحارب الخارجين على القانون بسيف القانون وسلطانه ، ولا يجادل أحد في أن من خرج على الجماعة يضرب بسيفه برها وفاجرها ، ويروع أهلها ، وينزع الأمن من حياتهم فهو مستحق للعقوبة بلا هوادة ولا التماس للأعذار .. ولكن فاعلية هذا الأسلوب وشرعيته تتوقفان جميعًا على التزام أجهزة الدولة بسيادة القانون ،وسلامة إجراءات المحاكمات أمام قضاء طبيعي مستقل .. يوقع الجزاء المستحق على الخارجين على القانون .. بلا ترخص ولا تجاوز للحدود .. وسيظل الخيط الرفيع الذي يفصل بين السيادة الحقيقية للقانون .. وبين رفع شعار تلك السيادة والخروج عليها في الممارسات .. سيظل ذلك الخيط فاصلاً حاسمًا بين الشرعية ومخالفة الشرعية.. فالشرعية هي وحدها التى تكفل لسلطة الدولة ولقراراتها وأفعالها تأييد الجماهير ، أما مخالفة الشرعية من جانب الدولة فإنها تمنح الخارجين على القانون تعاطفًا لا يستحقونه ، وقد تصور لبعضهم أنه في معركة بين فصائل متحاربة متساوية في نصيبها من الشرعية، لا أنه يقف في خندق الخروج على القانون في مواجهة الشرعية الحقيقية التى تمثلها الدولة وأجهزتها الأمنية والقضائية .
الأمر الثاني : الانتباه إلى أن تعقب المداخل الفكرية والثقافية للتطرف الديني هو السبيل الحقيقي إلى تصفية الروافد المنحرفة في تيار الفكر الديني .. والتعقب الذي نتحدث عنه عمل سياسي وثقافي في آن واحد .. والحوار هو أداته الوحيدة الفعالة .. ومهما بذلت أجهزة الأمن من جهود في محاربة التطرف فستظل المنابع الثقافية للفكر الديني المنحرف تزود المجتمع بأجيال من حملة البذور الأولى لهذا الفكر المنحرف وأعجب العجب وأدعاه للدهشة والأسف أن يعترض البعض على هذه الدعوة للحوار احتجاجًا بأن الحوار مع المتطرفين الخارجين على القانون أمر لا يجوز ، ولا يتصور أن تقبله دولة تحرص على هيبتها وسلطان القانون فيها .. وموضع العجب .
في هذا الاحتجاج أن أحدًا لا يدعو إلى كف يد القانون عن الخارجين عليه، اكتفاءً بإدارة حوار فكري معهم رغم تورطهم في العدوان على المجتمع وأفراده ومؤسساته !! هذه دعوة لم يقل بها أحد ، ولا يتصور أن يقول بها أحد .. وإنما الحوار الذي نقول به وندعو إليه هو الحوار مع أولئك الذين لم يتورطوا في الخروج على القانون ، وهو حوار يهدف إلى إصلاح العوج الفكري الذي زُودوا به وإلى كشف عورات التصور الديني الفاسد الذي ألقي في روعهم وإلى ردهم من جديد إلى صحيح الإسلام .. كما يهدف بما يتاح له من علانية إلى توقي دخول أبرياء جدد في دائرة هذا الفكر المنحرف .. وتطعيم عامة الشباب بما يحصنهم من مزالق الدخول في دوامة الغلو والتطرف ومعاداة المجتمع .
الأمر الثالث : تجنب الوقوع في وهم الاعتقاد بأن روافد الفكر والعمل الإسلامي كلها سواء وأنها ـ علمت أو لم تعلم ـ تحمل بذور العوج والتطرف والعنف، ذلك تبسيط شديد للأمور ، وذهول عن أبسط الحقائق المتصلة بالفكر وتطوره ، وتقلب الأفراد بين المعتقدات والأفكار المختلفة .. كما أنه تجاهل لا عذر لأحد فيه لما هو واضح وضوح الشمس من وجود فوارق جذرية بين تيارات الغلو والتطرف والعنف ، وبين روافد للفكر الإسلامي تحمل سماحة الإسلام ، وأدب النبي r وتظللها روح الرفق والرحمة بالناس كل الناس .. وتتوحد بمشاعرها الصادقة مع هموم الأمة ومشاكلها ، وآمالها .. وتؤمن بالديمقراطية إيمانًا نابعًا عن يقين علمي والتزام ديني وتقدس حقوق الإنسان وحريته ، وتعلم علم اليقين أن المسلم لا يستحق هذا الوصف إلا إذا فهم مهمته بين الناس على أنها الدعوة بالكلمة الطيبة ، وبالرفق الذي لا يعرف العنف ، والمواساة عند الشدائد ، وبذل النفس والجهد والمال تخفيفًا عن الأمة وافتداءً لها من آلامها ، إن الذين يصرون علي تجاهل هذه الحقيقة الكبرى – أيًّا كانت مواقعهم _ يساهمون من حيث لا يعلمون في استمرار ظواهر الغلو والتطرف ، ويحولون دون ما يتطلع إليه حملة الفكر الإسلامي السمح المستنير من أداء دورهم التاريخي في اجتثاث هذه الظاهرة وتصفية منابعها الفكرية التي تسيء إلى الإسلام قبل أن تصيب المجتمع بما شاهدناه جميعًا من اهتزاز الأمن وتهديد الاستقرار ، وتعويق مسيرة النمو .
وبعد ، فهذه صورة الفكر الإسلامي والحركات الإسلامية كما نراها عند نقطة العبور من قرن إلى قرن ، وإذا كان فيما قررناه كثير من التعميم والتبسيط فعذرنا أن جوهر ما قصدنا إليه هو ألا ندخل القرن الجديد ، وفي حياتنا هذه الحرب الأهلية الثقافية التي طال أمدها ، وألا تشرق علينا سنواته الأولى ونحن في حيرة من أمرنا نحارب ثقافتنا الخاصة لأننا لا نرضى عن رافد من روافدها وينخلع بعضنا عن حضارته العربية والإسلامية لأن بعض حملتها ورافعي شعاراتها قد أساءوا الفهم وأساءوا التصرف وعرضونا جميعًا لحملة تشويه واتهام لا نريد أن ندخل القرن الجديد ونحن بعد متعرضون لها مشغولون بأمرها.
متطلبات المستقبل :
فإذا تم لنا ما نرجوه ونلح في رجائه وهو فض الاشتباك الطارئ بين الروافد المختلفة لجماعات المثقفين ، وفض الاشتباك الآخر الطارئ كذلك بين الحركات الإسلامية والحكومات .. كان علينا أن نبني تصورًا لشروط الانبعاث العربي الإسلامي كما تتطلبها حقائق القرن الجديد .. وكان علينا – في سبيل ذلك- أن نستعلي على «الانحصار» في إطار كثير من الأفكار وأساليب العمل التي سادت خلال قرن مضى وانقضى وكانت له – هو الآخر – حقائقه وملابساته ومتطلبات التكيف مع تلك الحقائق والملابسات .
وفي هذا الجزء الأخير من هذا البحث أكتفي بسرد قائمة بما أتصوره شروطًا أساسية لهذا الانبعاث ، وللتكيف المحسوب مع حقائق العصر تكيفًا محكومًا بالثوابت الأخلاقية المستمدة من أصول الثقافة العربية الإسلامية.
فعلى صعيد الفكر الإسلامي ، يحتاج الفكر الجديد إلى إبراز الحقائق التالية :
1- إن الإسلام دعوة ونداء ، وأنهما تحددا موضوعيًّا وتاريخيًّا من خلال خطاب إلهي يتوجه إلى عقول قادرة وإرادات حرة ، والدعاء والنداء لا يفرضان على الناس فرضًا ، ولا يكره عليهما أحد {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَـــاءَ فَلْيَكْفُرْ}(4)، {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}(5) ، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِين}(6) .
2- إن المسلمين وإن كانوا أمة متميزة بمعالمها وبعقيدتها وثوابت شريعتها ، وبالمنظومة الأخلاقية المهيمنة على ذلك كله ، فهم حلقة في سلسلة الأمم المؤمنة ، وبينهم وبين سائر الناس وشائج وروابط وثقى ، وإلحاحهم على التميز الكامل قد كان مفهومًا حين كان «صراع استئصال» يهددهم في وجودهم الثقافي والديني والسياسي ، أما في القرن المقبل فإن الإلحاح على ما هو مشترك بينهم وبين سائر الناس يغدو أمرًا لازمًا، لزومًا لا يقل عن لزوم التمسك بثوابت حضارتهم الدينية ، ويترتب على هذا الاعتقاد تصحيح علاقة المسلمين بسائر الأمم والشعوب وتواصلهم مع سائر الحضارات والثقافات .
3- إن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان لا تعني تجميد نصوصه ومبادئه ، وإنما تعني توظيف الأدوات التي اشتمل عليها لتحقيق الاستجابة مع تغير الأمكنة والأزمنة والأحوال ، ولعل كتابات عبدالعزيز جاويش (المتوفي عام 1929م) تقدم نموذجًا فذًّا لإدراك هذه الحقيقة ، وكذلك كتابات موكب موصول الحلقات من مفكري ومنظري الفكر الإسلامي خلال النصف الأول من القرن العشرين ، نذكر منهم علال الفاسي ، وعبدالحميد بن باديس ، ومحمد كرد علي ، وعبدالحميد الزهراوي ، ورفيق العظم ، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا ، ومنصور فهمي ، ومحمد حسين هيكل (في السنوات الأخيرة من عمره) وعبدالرزاق السنهوري وكثيرين غيرهم.
4- إن فقه العبادات وفقه الحدود والجنايات ينبغي أن يعودا إلى حجمهما الطبيعي داخل مجمل الفقه لاإسلامي .. ذلك أن العبادات وإن كانت «جوهر الالتزام الديني» وقاعدة الأساس فيه ، فإن الفقه الخادم لها قد تحددت معالمه وأكثر أحكامه منذ قرون عديدة ، وإذا استثنينا مباحث الزكاة ، فإن أركان وسنن الصلاة والصوم والحج قد صارت معلومة للكافة ، متفقًا على أكثرها بين عامة العلماء .. أما فقه الجنايات فهو على ضرورته جزء صغير من أجزاء الفقه الإسلامي لارتباطه بظاهرة مرضية طارئة على المجتمعات الإنسانية وإن كانت ملازمة لها ، وهي الخروج على سلطانها وشريعتها والعدوان على حقوق أفرادها وجماعتها ، وأكثر المؤمنين يولدون ويعيشون ويموتون دون أن يتعاملوا – بوجه أو آخر – مع فقه الحدود والجنايات ، أما الذي يحتاج إلى اجتهاد واسع وإلى منهج علمي لممارسة الاجتهاد فهو فقه المعاملات التي استحدث الناس منها ألوانًا وصورًا لم تكن معروفة للفقهاء الأوائل ، أو كانت أصولها معروفة لديهم ولكن صورها المعاصرة قد صارت تحتاج إلى فقه جديد.
5- إن الاجتهاد الفقهي ينبغي أن يكون محكومًا بمبادئ قال بها الفقهاء القدامي ، ولكنها تحتاج الآن إلى ممارسة نشطة وجريئة لها .. أشير إلى مبدأين اثنين مهمين منها :
أ) مبدأ التيسير في الفتوى .. تخفيفًا عن الناس في عصر معقد تراكمت فيه الأعباء النفسية والمادية علي الناس ، وفقه التيسير باب واسع يحتاج إلى بحث مستقل حسبنا أن نشير فيه إلى مبدأ أن الأصل في الأشياء الإباحة وإلى ضرورة التضييق من قاعدة «سد الذرائع» حتى لا ننتهي بالناس إلى منع ما هو جائز وتحريم ما لم يقم دليل يقيني على تحريمه.. هذا فضلاً عن أن التيسير في الفتوى قد كان منهج رسول الله r، ومنهج التشريع الإسلامي كله كما كان من وصاياه لسفرائه ومبعوثيه للقضاء في الأمصار المختلفة .
ب) مبدأ مراعاة الأولويات عند مخاطبة الناس ووضع النظم والتشريعات.. وليس في هذه المراعاة خروج على ما هو مقرر ومسلم به من أنه لا تعديل ولا نسخ بعد انقطاع الوحي وكمال الدين .. إذ الأمر في هذا ليس أمر تدرج في التشريع ، وإنما هو أمر تدرج في البيان والتنفيذ مراعاةً لأحوال الناس وانتباهًا لأوضاعهم وحفزًا لهم علي احترام التشريع والرضا به ، إذ ليس للجماعة مصلحة في إصدار أوامر ونواهي يتفنن الناس في الخروج عليها ، وهو خروج تدعو إليه أحيانًا المفارقة الكبيرة بين حاجات الناس وبين استجابة التشريع لها .
جـ) الاستئناس بتجارب الأمم الأخرى قديمًا وحديثًا في التشريع ، اطمئنانًا إلى أنه ليس في أصول الإسلام ومبادئ شريعته ما يحول دون ذلك ، مادام ذلك الاستئناس والاقتباس يتم في إطار المبادئ الكلية الحاكمة للتشريع الإسلامي ، ولعل من أحسن ما يقال في هذا المجال ما يذكره أحد مفكري القرن العشرين «خير الدين التونسي» من ضرورة «تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا لمجرد ما انتعش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير والتراكيب ينبغي أن يهجر» وأوضح منه قول أحد متأخري المالكية «الشيخ المواق» : ٍإن ما نهينا عنه من أعمال غيرنا هو ما كان على خلاف مقتضى شرعنا ، أما ما فعلوه على وفق الندب أو الإيجاب أو الإباحة فإنا لا نتركه لأجل تعاطيهم إياه» ، وأوجز العلامة الحنفي ابن عابدين هذا الأمر كله بقوله : «إن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا تضر».
6- الالتفات إلى قيمة الحرية في الحياتين السياسية والثقافية ، ويستوقف النظر أن عددًا كبيرًا من رواد الفكر الإسلامي في بداية القرن العشرين وحتى منتصفه كانوا شديدي العناية بقضية الحرية ودورها في ترشيد المجتمع ، كما كانوا شديدي النقد لكل صور الاستبداد السياسي والاجتماعي .. وحسبنا أن نشير إلى ما قدمه عبدالرحمن الكواكبي (المتوفي سنة 1902م) للفقه السياسي الإسلامي والفقه السياسي بصفة عامة في قضية الحرية ، فهو يرد انهيار المجتمعات وتردي أوضاعها إلى غياب الحرية وانتشار الاستبداد .. فيقول : «وقائل آخر يقول :
الشرق مريض وسببه فقد التمسك بالدين ، ثم يقف . مع أنه لو تتبع الأسباب لبلغ إلى الحكم بأن التهاون في الدين ناشئ عن الاستبداد ، وأن العافية المفقودة هي الحرية السياسية» (من كتابه طبائع الاستبداد) ويقول : «قد تمحص عندي أن أصــــــــل هذا الداء (الانحطاط) هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية».
7- الكف عن تصور «الخلافة الإسلامية» صورة محددة من صور الحكم ، غابت بسقوط الخلافة العثمانية، ويحتاج الأمر إلى بعثها من جديد لينصلح حال الأمة ، وليتم تطبيق الشريعة في ميدان هام من ميادينها، والصحيح أن الخلافة لفظ أطلق تاريخيًّا على أشكال مختلفة من أشكال الحكم ، وأنه ليس للإسلام «نظام سياسي واحد مخصوص متفرد بمعالم خاصة ينبغي بسبب وجودها رفض جميع أشكال النظم والترتيبات السياسية القائمة في عصرنا» .
والصحيح الذي توصل إليه وقال به المحققون في هذا الفن من فنون العلم أن الإسلام أوجب الالتزام بعدد من المبادئ الأساسية المتصلة بإقامة الحكومة وسياسة الرعية ، على رأسها مبدأ الشورى ، ومبدأ العدل في الحكم ، ومبدأ مسئولية الحكام وتقيدهم بحدود النظام القانوني المعمول به ، واستمداد التشريعات والحكم في الأقضية من مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها الجزئية ، واحترام حقوق الإنسان وحريته التي منحها له الله، أما ما عدا ذلك فترتيبات وتراكيب يجتهد المسلمون لإقامتها بمثل ما يجتهد به غيرهم، وليس بعضها بأولى من بعض، ولا هو أقرب إلى حكم الإسلام في هذا الشأن السياسي .. وإنما تتفاضل الترتيبات والتراكيب بمدى تحقيقها للهدف أو الأهداف المرجوة ، وبذلك تتسع دائرة الاجتهاد الجائز والواجب في أمر النظام الدستوري والسياسي للدولة الإسلامية ، ويتحرر الفكر الإسلامي من أسر بعض الصيغ التي طال الحديث حولها في كتب «الأحكام السلطانية» .
وبعد فهذه مداخل نراها ضرورية لينطلق الفكر الإسلامي مع مطلع القرن القادم ، انطلاقًا يعين المجتمعات الإسلامية على إصلاح أوضاعها ، وإحداث نهضة شاملة وانبعاث حقيقي، كما يعين «الحركات الإسلامية» على إعادة النظر إعادة شاملة في منهج تفكيرها وأسلوب حركتها .
فإذا تيسر شئ من ذلك فهو بشير خير يؤذن بمكان ومكانة جديدتين يحتلهما العرب المسلمون بين شعوب الدنيا ، أما إذا ركنت الأمة إلى الجمود على الموجود ، وظلت الحركات الإسلامية في صراعها العقيم مع الحكومات وبقى الفكر العربي السائد أسير الحرب الثقافية بين جماعات المثقفين في عالمنا العربي والإسلامي ، فإن الحديث عن مستقبل أكثر إشراقًا يكون ضربًا من التمني والخيال لا تتحقق به نهضة ، ولا يتغير به حال {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(7).
المراجع
(1) بين الإسلام والعروبة، طارق البشري، دار الشروق، ص 817، 1998.
(2) أدب الدنيا والدين، أبو الحسن الماوردي، تحقيق مصطفى السقا. – القهرة، 1955. ص1.
(3) المرجع السابق ص 78.
(4) الكهف : آية 19.
(5) يونس : آية 99.
(6) العنكبوت: آية 18.
(7) الكهف: آية 49.