يظن معظم العلماء المعاصرين أن الاجتهاد المطلوب حاليًا يقتصر على الإفتاء في المسائل المستجدة كأحكام التأمين ونقل الأعضاء مما تقوم به المجامع الفقهية المعاصرة.
وهدف هذا البحث هو عمل إطلالة موجزة مبدئية على هذا الموضوع من خلال بحث عدد من المسائل المحورية.
– 1 –
توسيع مجال الاجتهاد عن المفهوم التقليدي الفقهي
أ – الاجتهاد قرين الإبداع، أو هو نوع من أنواعه في مجال خاص. والإبداع يقوم به المبدعون ، وأهم سمتهم استعدادهم الفطري ، فالإبداع ليس وظيفة ولا تخصصًا وإنما هي ملكة يؤتيها الله من يشاء من عباده ، وسنعود إلى مزيد من معالجة هذه الفكرة.
ب ـ وأول ما يتبادر إلى الذهن – ولم يعد يمارى فيه أحد – هو ضرورة الاجتهاد في المستجدات من المسائل سواء علي المستوى الجزئي كفوائد البنوك أو نقل الأعضاء أو التأمين على الحياة أو زكاة المستغلات، أو على المستوى الكلي كدور الدولة في مجال الاقتصاد.
جـ ـ ومما ينبغي أن يتسع له نشاط الفقيه المعاصر أن يقوم بالمعالجة الواقعية للأوضاع المعاصرة ، فلا يقف نشاطه عند البحوث النظرية المثالية وإنما ينزل إلى الواقع ليبدى فيه رأي الشريعة ، فلم يعد يكفي الاقتصار على أحكام الزواج التقليدية فهناك أوضاع طرأت على واقع العلاقات الزوجية تحتاج إلى دراسة تبنى عليها أحكام جديدة كحالة عمل المرأة وإسهامها في أثاث المنزل وتكاليف المعيشة ، وكحالات الزواج غير الموثق وغير ذلك ، ولم يعد الناس يتبايعون بالذهب والفضة ، ولم يعودوا يقيسون بالفرسخ والذراع ومسيرة اليوم والليلة ، ولم يعودوا يزنون بالمثقال والأوقية أو يكيلون بالوسق والقلة إلى غير ذلك من المقادير التي كانت مستعملة في الماضي.
د ـ ولكن الذي لا يتنبه له الكثيرون هو ضرورة إعادة النظر مجددًا في المسائل القديمة فإن من المقرر أن لتغير ظروف الزمان والمكان والأشخاص أثره في تغير الاجتهاد والفتوي ، ولا نوافق علي حصر دور المجتهد في هذه الحالة على الإنتقاء من بين الآراء القديمة رأيًا يكون أصلح أو أرفق ولو كان مرجوحًا في نظر أهل الترجيح من القدماء فللمجتهد المعاصر أن يصل إلى رأي لم يقل به الأقدمون طالما أن له مستنده الشرعي في هذا الاجتهاد. ونحن لا نوافق على مقولة أنه إذا كان للقدماء ثلاثة آراء في المسألة (أو أربعة)فللمجتهد المعاصر أن يختار أحدها وليس له أن يقول برأي رابع (أو خامس)لم يقل به أحد ممن قبله ، على أساس أن الآراء القديمة استنفذت بالقسمة العقلية جميع الاحتمالات ، فهذا حجر علي المجتهد لا أساس له من الشريعة.
هـ ـ لقد واكبت العلوم الشرعية تطورات الحياة ، ولم يقتصر علماء الإسلام على العلوم التي بدىء بها كالتفسير والحديث والفقه بل تتالى تفجر العلوم فنشأت علوم العربية وعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلم أصول الفقه والسياسة الشرعية وعلوم الكلام والجدل والمناظرة والأخلاق والتصوف والقواعد وغيرها، وفي مرحلة متأخرة ظهرت كتابات متخصصة في مقاصــد الشريعة (كالمــوافقات) وفـي فلسفة الـتاريـخ (كالمقدمة) وفي التربية ، وغيرها.
واليوم نجد كتابات متخصصة في الاقتصاد الإسلامي وعلم النفس الإسلامي والأدب الإسلامي وغيرها.
وبعض هذه الكتابات إنشاء جديد ـ وإن جمعت بعض مادته من القديم ـ وبعضها توليد من تفاعل علمين مما يسمي الآن بالعلوم البينية.
وأمام هذا الانفجار المعرفي علي الساحة الإسلامية نجدنا بحاجة إلى وضع ضوابط شرعية لهذه العلوم الجديدة تحدد مقاصد كل منها في ضوء مقاصد الشريعة العامة ، وتوضح الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب والسنة التي تحكمها ، وتثري مادتها بالقواعد الشرعية التي تنطبق عليها ، وتنشئ من هذا كله نظريات إسلامية في كل علم من هذه العلوم ، وتعقد المقارنات مع مثيلاتها في الأديان والفلسفات الأخرى، وهذه كلها عمليات مستمرة لا تقف عند حد وهي جزء من توسيع مجال الاجتهاد المعاصر (1).
و ـ ونشير أخيرا إلى أن الفقه ينبغي أن يحتل دوره كقائد للدورة الحضارية للأمة ، وأن يكون الفقيه رائدًا مصلحًا وليس تابعًا محافظًا.
-2-
الحاجة إلى تجديد المنهج
أ – من المعروف عند علماء مناهج البحث أن الإلتزام بمنهج واحد يؤدي إلي جمود العلم ، حتى أن أحدهم (فويرأبند) دعا إلى عدم الالتزام بالمنهج.
ب ـ وفي خصوص الفقه الإسلامي بالذات نجد أن علمه المنهجي (أصول الفقه)قد نما وتطور في القرون الأولى ثم توقف عن النمو والتطور أو نضج واحترق كما يقولون ، وظن البعض ألا مجال فيه للإضافة ، بل أنكر بعضهم مجرد التفكير في الاجتهاد فيه (2) ، فضلاً عن أن النظرة إلى دراسته لا تعدو أن تكون لغرض فهم كيف توصل الفقهاء إلى الآراء التي قالوا بها ، وليست بأية حال لغرض استخدامه حاليًا والاجتهاد المعاصر في إطار قواعده. ونظرًا لعدم اتساع آليات علم الأصول لمواجهة المستجدات المتسارعة والمختلفة جذريًّا عن بيئة التشريع الأولى، فقد اتجه البحث إلى تجديد هذا العلم بما يحقق الغرض منه.
جـ ـ ولأن البحث الحالي لا يهدف إلى رسم إطارًا لتجديد علم أصول الفقه فضلا عن استقصاء المسائل التي تحتاج إلى تجديد : فإننا نكتفي هنا ببيان نماذج من هذه المسائل تاركين لفرصة أخرى أو لغيرنا المعالجة التفصيلية لها.
-3-
بلورة و«مأسسة»
السلطة التشريعية
أ – أولى هذه المسائل : هي تحويل الاجماع والاجتهاد والشوري إلي مؤسسات أو المأسسة إن صح هذا الاشتقاق. وفكرة المؤسسات واردة منذ القديم، فقد أنشيء بيت مال الزكاة والمسجد للصلاة والمحتسب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن الإجماع والاجتهاد والشورى لم تتحول إلى مؤسسات فافتقدنا بذلك في تاريخنا الطويل مؤسستان هامتان تمثلان السلطة السياسية والسلطة العلمية، وإن كانت هناك إرهاصات في عصر الرسالة والخلافة الراشدة في صورة أهل الحل والعقد وصورة المجتهدين على ما تذكره رواية ميمون بن مهران أحد كبار التابعين وأورده ابن القيم من أن أبا بكر كان يستشير «علماء» الناس ، ومن قبلهما كان في عصر الرسالة للنقباء وللعشرة المبشرين بالجنة وضعهم.
ولعل الفصام الذي نشأ بين الحكام والعلماء ـ بدءًا من الدولة الأموية ـ هو الذي أدى إلى عدم حدوث التطور في الاتجاه الإيجابي المنشود طيلة التاريخ الإسلامي.
لقد حاول الحكام من جانبهم استيعاب العلماء في جهاز القضاء فاستجاب البعض ورفض آخرون وتعرضوا بسبب رفضهم لصنوف من العذاب والاضطهاد.
كما انصرف العلماء من جانبهم إلى تنظيم السلطة العلمية بتأسيس علم أصول الفقه أولاً ثم ـ بعد الركود الذي حدث لحركة الاجتهاد – إلى تصنيف العلماء إلى درجات من المجتهدين والمقلدين ، والاهتمام بنصوص كبار المجتهدين وتوثيقها وشرحها بما جعل لنص الفقيه ما يقارب قداسة نص الشارع.
ولعل من أهم الدراسات التي حاولــت تتبـع هـــذا الموضــوع وتحليلـه كتاب عبد المجيد الصغير «الفكر الأصولي وإشكاليـة السلطة العلميـة في الإســلام» (1).
ب ـ واستمر وضع العلماء في التدهور كجزء من حالة التدهور العامة التي شملت جميع مظاهر الحياة ، في الوقت الذي بدأ فيه الغرب نهضته الحديثة وبدأت أفكار الديمقراطية والتنظيم الدستوري للدولة الحديثة وحركة التقنين في ظل العلمانية بحيث أصبح للدساتير الوضعية قداستها العلمانية ونظمت السلطات التشريعية في إطار الدساتير ، واستمر تخلف علماء المسلمين عن مواكبة هذا التطور من منطلق إسلامي بتطوير مباديء الشورى والاجتهاد والاجماع إلى صورة مؤسسية، فاتجه دعاة النهضة في العالم الإسلامي إلى أخذ النموذج الغربي في تنظيم الدولة وسلطتها التشريعية ، وبدأ الوعي لدى العلماء والجماهير بالقطيعة مع النموذج الإسلامي رغم أنه لم يكن مطبقًا في الحياة العملية إلا في صورة القضاء « الشرعي».
جـ ـ ومع نشوء الصحوة الإسلامية الحالية وتعاظم شأنها والمواقف المناهضة لها من المفكرين « العلمانيين»والحكومات « العصرية»أثيرت ضمن الاعتراضات علي فكرة الدولة الإسلامية ـ مساويء الدولة الدينية في مسيحية أوروبا العصور الوسطي وانبرى المدافعون عن الصحوة لتفنيد ذلك بتوضيح أنه ليس في الإسلام مفهوم الدولة الدينية وأنه ليس في الإسلام رجال دين بالمفهوم الكهنوتي المسيحي مما أدى إلى تكريس الموقف الإنفصالي بين العلماء والحكام وليس بين الدين والدولة فحسب ، وهكذا بقيت مجهودات تجديد الفقه في صورة اجتهادات فردية، وحتى الاجتهادات التي اضطرت الحكومات إلى القيام بها ـ تحت الضغط الشعبي ـ هامشية محدودة متمثلة في النص في الدساتير علي أن الشريعة مصدر القوانين ، فدخلت بذلك الشريعة تحت مظلة الدستور والسلطة التشريعية بالمفهوم العلماني الديمقراطي.
د ـ وقد انطلقت الكتابات المعاصرة عن مفهوم الدولة الإسلامية ـ إلى جانب نفي نموذج الدولة الدينية ـ في تحديد التصور الإسلامي عن السلطة التشريعية من أحد المبدئين الإسلاميين : الاجتهاد والإجماع.
1 – أما الذين انطلقوا من مبدأ الاجتهاد فيرون الجمع بين صورتي الاجتهاد الجماعي (لا الفردي)والاجتهاد الخاص (لا المطلق)وهذا هو الاتجاه السائد سواء في الكتابات الفردية أو بحوث المؤتمرات العلمية.
2 ـ وقد انطلق كل من د. حسن الترابي ود. توفيق الشاوي من مبدأ الإجماع علي أساس أن الإجماع ينعقد بالأكثرية وهو قول الطبري والجصاص والخياط وبعض المعتزلة وابن حنبل في إحدى روايتين عنه ، أو على أساس أن قول الأكثر ليس بإجماع ولكنه حجة ظنية ، أو أن اتباع الأكثر أولى.
هـ ـ ولم تتعرض الكتابات المعاصرة ـ إلا لمامًا ـ للتفاصيل التطبيقية للسلطة التشريعية في وضعنا المعاصر من حيث تحديد كيفية اختيار أعضائها ، ومكانهم المؤسسي في أجهزة الدولة ، واختصاصات المجلس الذي يضمهم ، ومدة عضويتهم ، وغير ذلك من المسائل التي تحتاج إلى استكمال إذا أردنا لمبدأ الإجماع أو الاجتهاد أن يتحول إلى حقيقة مؤسسية في واقعنا المعاصر.
– 4 –
موقف المجتهد من النصوص
في العصر الحاضر
أ – ونقصد بالعصر الحاضر : نهاية عصر التقليد لمذهب معين ، واتباع ما ورد في كتبه من أحكام ، ومحاولة تخريج المسائل الجديدة التي لم ترد في كتب المذهب بقياسها (1) علي مسألة منصوص علي حكمها في أحد كتب المذهب ، وقد كان ذلك هو حال معظم البلاد الإسلامية ولعدة قرون ، ووضعت قواعد وأصول لمعرفة رأي المذهب إذا اختلف فقهاء المذهب فيما بينهم ووضعت كتب في كل مذهب تناقش الآراء المختلفة فيه يختار ما يعتبر وفقًا لهذه القواعد هو الرأي الرسمي المعتمد للمذهب كما هو الحال بالنسبة لحاشية ابن عابدين في المذهب الحنفي ولحاشية الدسوقي في المذهب المالكي وهكذا.
ب ـ ثم تبين مع مرور الوقت وتغير الأحوال أن بعض الآراء في كتب المذاهب لا تحقق المصلحة التي هي أساس التشريع ، فعدل عن الرأي الراجح في المذهب إلى رأى آخر مرجوح من نفس المذهب ولكنه يحقق المصلحة بصورة لا يحققها الرأي الراجح. وحدث ذلك في عدة مسائل عند وضع مجلة الأحكام العدلية التي هي تقنين للمذهب الحنفي، لم يخرج فيها عن الرأي الراجح إلى الرأي المرجوح إلا في بضعة مسائل ، وكما حدث في تشريعات الأحوال الشخصية في مصر سنة 1920م وما تلاه من تعديلات.
وكان هذا أول خروج عن قاعدة التقيد بالرأي الراجح في المذهب ، ولذلك احتاج إلى تبرير من وجهة نظر المذهبيين ـ بأن قالوا أن هذه السلطة قاصرة على ولي الأمر فقط ، وباستعمالها ـ أي باختيار ولي الأمر رأي مرجوح ـ يصبح هذا الرأي المرجوح راجحا.
جـ ـ ثم سار التحرر من المذاهب خطوة أخرى حين بدأت تشريعات الأحوال الشخصية المبنية أصلا على مذهب معين ، تقتبس أراء من مذاهب إسلامية أخرى تعتبرها أكثر تحقيقًا للمصلحة من رأي المذهب الذي تعتمده هذه التشريعات. وفي إطار هذا الاتجاه أخذ التقنين التونسي للأحوال الشخصية سنة 1957م برأي الحنفية خلافًا للمذهب المالكي السائد في تونس بالنسبة لأهلية البنت لعقد زواجها بنفسها ، كما أخذ التقنين السوري للأحوال الشخصية سنة 1953م ، برأي المالكية خلافًا للمذهب الحنفي السائد في سوريا بالنسبة لحق الزوجة في طلب الطلاق للضرر ، كما أنه في كلا التشريعين أخذ برأي الحنابلة خلافًا للمذهبين الحنفي والمالكي بالنسبة للشروط التي تشترطها الزوجة على زوجها عند عقد الزواج ، كما أخذ القانون العراقي سند 1963م برأي الشيعة في الميراث وعممه على جميع العراقيين من سُنَّة وشيعة وأصبحت البنت الوحيدة ترث كل التركة ولا شيء لابن عمها.
د ـ غير أن هذا التطور ـ علي أهميته ومخالفته للالتزام المذهبي الذي ظل طابع الفقه الإسلامي عدة قرون ـ لم يكف لمواجهة الجديد من العلاقات الاجتماعية الناشئة عن نظم الحياة في المجتمع الحديث بعد تقدم الصناعة وتداخل العلاقات التجارية وتنوعها وما تبع ذلك من صور جديدة للمجتمعات لم تكن موجودة عند وضع المذاهب حتي يرد بشأنها رأي فيها. ولو وجد أئمة المذاهب الفقهية الإسلامية في عصرنا لكان لهم في كل ذلك آراء وأحكام وفتاوى ونظريات. لذلك قام زعماء الإصلاح الديني ينادون بفتح باب الاجتهاد وضرورة اهتمام القادرين من علماء المسلمين باستنباط الأحكام الشرعية لهذه الحوادث الجديدة بطريق القياس على ما ورد في نصوص الكتاب والسنة كما كان الشأن في المذاهب الفقهية عند نشأتها ، وشعر بعض العلماء بواجبهم وبدأت تظهر الفتاوى الجديدة في مسائل الشركات والبنوك والتأمين وغير ذلك مما جد في حياة الناس ، وكان للشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ عبد الرحمن تاج والشيخ أحمد ابراهيم والشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ على الخفيف وغيرهم كثير ، كان لهم فتاوى وآراء في المسائل المستحدثة ، بنوها على أصول الاجتهاد المعروفة في أصول الفقه من القياس والمصالح المرسلة والاستحسان والعرف وغير ذلك من الأصول أشرنا إليها فيما سبق.
وواضح أن هذا الاتجاه وإن أخذ بفكرة فتح باب الاجتهاد في الفقه إلا أنه التزم بأصول الفقه بوضعه التقليدي ولم يتجه إلى فتح باب الاجتهاد في أصول الفقه نفسه كذلك.
هـ – ومن المعلوم أن للمذاهب الفقهية المختلفة آراء مختلفة في أصول الفقه هي التي أدت ـ ضمن أسباب أخرى ـ إلى اختلافهم في فروع الفقه ، وأنه إذا جاز للمتقدمين أن يختلفوا في الأصول فكذلك المتأخرون لهم أن يجتهدوا في الأصول كما لهم أن يجتهدوا في الفروع.
وبذلك نكون قد وصلنا إلى ذروة التحرر من المذهبية : فروعها وأصولها ، وبدأت الكتابات الإسلامية المعاصرة تجتهد اجتهادًا مطلقًا هو أقرب ما يكون إلى مرحلة فقه الرأي التي سبقت نشوء المذاهب المختلفة. وقد اتجهت هذه الكتابات اتجاهًا أساسيًّا هو الاستنباط المباشر من النصوص القرآنية والنبوية سعيًا إلى تكوين فقه جديد أو نظريات إسلامية معاصرة تمتد كذلك إلى علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة وغير ذلك من الشئون. ويمكن أن يدخل تحت هذا النوع كتابات الأساتذة المودودي وعبد القادر عودة وسيد قطب ومحمد الغزالي وغيرهم من الأجيال اللاحقة التي كتبت في هذا الاتجاه الساعي إلى تغطية كافة أمور الحياة بنظريات إسلامية.
وقد شمل هذا الاتجاه أسلوبين :
1 ـ أسلوب الاستنباط المباشر من النصوص العامة التي قررت العدل والإحسان والرحمة والبر والإصلاح.. الخ.
2 ـ وأسلوب إقامة نظريات من أحكام الفروع.
3 ـ وقد جمع بين الأسلوبين عبد القادر عودة حيث أقام نظرية إسلامية كاملة في التشريع الجنائي من أحكام الفروع ، كما دعا في المقدمة إلى إقامة نظريات من النصوص العامة كالعدل والمساواة وغيرهما.
و – وهناك اتجاه آخر يذهب إلى عدم التقيد بالأحكام الفرعية الواردة في النصوص ، وإنما إلى التقيد فقط بالمباديء الكلية (القواعد)والمقاصد العامة للشريعة المستمدة من النصوص صراحة أو استنباطًا ، وبسط نطاق تطبيقها على كافة أمور الحياة.. ومن أمثلة المباديء والمقاصد العامة المقصودة بهذا الرأي ما نصت عليه المواد المائة الأولى من مجلة الأحكام العدلية ، والتي سبق إلى استنباطها الأصوليون في كتب القواعد والأشباه والنظائر وغيرها.
وممن ذهب إلى هذا الرأي ـ دون الإشارة إلى مواد المجلة العدلية ـ الدكتور محمد أحمد خلف الله في تعليقه بمجلة الطليعة (المصرية) على حركة المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية.
ز ـ غير أن البعض رأي رأيًا آخر مقتضاه أن الأصل في أمور المعاملات هو الإباحة ما لم يــرد حكم منصوص عليه (بخلاف الحال في العبادات حيث الأصل هو الاتباع) ينظم مسألة ما ، أما حيث لا نص فالمسلمون على أصل الإباحة يشرعون ما يرونه محققًا لمصلحتهم.
وقد عبر عن هذا الاتجاه بوضوح الشيخ محمد محمد المدني رحمه الله في محاضرة بموسم محاضرات الأزهر ، وهو نظر فيه تعميم لرأي الحنابلة في الشروط والعقود.
ح ـ وفي سياق الآراء الداعية إلى تضييق نطاق النصوص ، نجد أن الفقهاء والأصوليين بحثوا بالنسبة للسنة فيما يعتبر من أقوال الرسول صلي الله عليه وسلم وأفعاله تشريعًا عامًّا ملزمًا لجميع البيئات والأزمنة وما يعتبر غير ذلك إما لكونه مسألة تتعلق بالطبيعة البشرية أو مادل الدليل الشرعي على أنه خاص به أو كان تشريعًا زمنيًّا خاصًّا ببيئة.
وقد عرض العلماء لأمثلة من هذه الأنواع (2) غير أنهم لم يحصروها فبقى الباب مفتوحًا للمجتهدين في أن يستبعدوا من النصوص ، ومن هذا الرأي الدكتور محمد النويهي (3) ، وانبرى للرد عليه آخرون موضحين أن عمر لم يكن معطلاً للنصوص وأنما فهمها في ضوء نصوص أخري وقواعد عامة في الإسلام كتعطيله حد السرقة عام المجاعة وإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم وغير ذلك.
ي – وأخيرًا نجد البعض لا يرى التقيد لا بروح النص كما في الرأي و ، ولا بلفظه كما في الآراء د ، هـ ، ز ، ح ، ط ، ويرى إطراح ذلك كله ـ في دائرة المعاملات ـ وإعمال العقل مطلقًا من كل قيد إلا قيد مراعاة المصلحة التي يراها هي روح النصوص جميعًا ، محتجًّا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة تأبير النخل « أنتم أعلم بأمور دنياكم».
د – لقد حاولنا تصنيف الآراء المختلفة في هذه القضية دون نظر إلى أصحاب هذه الآراء وما قد يضمره بعضهم تجاه الشريعة الإسلامية ، إذ أن لبحث مواقف الأشخاص مجال آخر ، إنما اضطررنا إلى ذكر بعض الأسماء لضرب الأمثلة على الاتجاهات الفكرية موضوع البحث.
ل – ولعله قد تبين لنا ـ بعد هذه الرحلة بين المواقف المختلفة من النصوص، والأبعاد المختلفة للاجتهاد ـ أهمية رسم الحدود التي يسير ضمنها المجتهدون والسلطة التشريعية التي يحددها دستور كل بلد إسلامي بعد تقدير ظروف كل بلد والمرحلة التي يمر بها.
ولا يكفي في هذا الصدد استبعاد الدرجات المتطرفة في كل من اتجاهي الالتزام المذهبي (الآراء أ ، ب ، ح)والتحرر من النصوص (الآراء و ، ط ، ي)فإن الأمر بقي مترددًا بين عدة مواقف (الآراء د ، هـ ، ز ، ح)ويحتاج إلى حسم حتي ينطلق الاجتهاد متبينا طريقه بين النصوص والآراء.
1ـ وقد أخذ دستور الجمهورية العربية اليمنية الصادر في 28/12/1970 باتجاه عدم التقيد بالمذهبية حين نصت المادة 152 منه على أن تقنين الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمعاملات يكون بما لا يخالف نصًّا ولا إجماعًا ، فجعل النص (من قرآن وسنة)والإجماع هما القيد الوحيد على التقنين. (قريب من الرأي ز ).
2 ـ وكذلك أخذت الجمهورية العربية الليبية باتجاه عدم التقيد بالمذهبية حين نصت المادة 2 من قرار قيادة الثورة الخاص بمراجعة التشريعات وتعديلها بما يتفق مع المباديء الأساسية للشريعة الإسلامية الصادر في 10/28/ 1971، نصت على إزالة ما يناقض الأحكام القطعية والقواعد الأساسية للشريعة الإسلامية بإعداد التشريعات البديلة آخذة من مختلف المذاهب مع تخير أيسر الحلول حسبما تقتضيه المصلحة العامة ومع مراعاة ما جري عليه العرف في البلاد (الرأي جـ ).
3 ـ وأرى شخصيًّا الأخذ بالرأي هـ بأسلوبيه 1 ، 2 ، حيث أنه يجمع بين التقيد بالثوابت من النصوص والمرونة في المتغيرات بما يحافظ كذلك على روح الشريعة وليس على نصها فحسب.
– 5 –
مشكلة تكوين المجتهدين
أ – تعدد كتب أصول الفقه التقليدية شروطا للمجتهد ليس من بينها « معرفة الواقع».
1 ـ وقد تنبه إلي أهمية ذلك من المتقدمين الإمام أحمد أنه قال : «لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتي يكون فيه خمس خصال :…. الخامسة: معرفة الناس».
ويضيف ابن القيم : « وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى ، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه. وقال في شرح الخامسة : وأما قوله الخامسة معرفة الناس فهذا أصل عظيم ، يحتاج إليه المفتي والحاكم ، فإن لم يكن مما يصلح ، فإنه إذا لم يكن فقيهًا في الأمر ، له معرفة بالناس ، تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه ، والمحق بصورة المبطل وعكسه ، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال ، وتصور له الزنديق في صورة الصديق ، والكاذب في صورة الصادق ، وليس كل مبطل ثياب زور تحتها الإثم والكذب والفجور ، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا ، بل ينبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم ، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال. وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه وبالله التوفيق».
2 ـ ويوسع الدكتور القرضاوي هذا الشرط إلى معرفة الناس والحياة فيقول : « وهذا شرط لم يذكره الأصوليون في شروط الاجتهاد ، وهو معرفة المجتهد بالناس والحياة من حوله ، وذلك أنه لا يجتهد في فراغ ، بل في وقائع تنزل بالأفراد والمجتمعات من حوله ، وهؤلاء تؤثر في أفكارهم وسلوكهم تيارات وعوامل مختلفة : نفسية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية فلابد للمجتهد أن يكون على حظ من المعرفة بأحوال عصره وظروف مجتمعه ومشكلاته وتياراته الفكرية والسياسية والدينية ، وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى ومدى تأثره بها وتأثيره فيها».
ثم نقل كلام ابن القيم ، وتابع :
« وهذا في الواقع ليس شرطًا لبلوغ مرتبة الاجتهاد ، بل ليكون الاجتهاد صحيحًا واقعًا في محله. وأكثر من ذلك أن نقول أن على المجتهد أن يكون ملمًا بثقافة عصره ، حتي لا يعيش منعزلاً عن المجتمع الذي يعيش فيه ويجتهد له ، ويتعامل مع أهله. ومن ثقافة عصرنا اليوم أن يعرف قدرًا من علوم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والسياسة والقوانين الدولية ونحوها من الدراسات الإنسانية ، التي تكشف له الواقع الذي يعايشه ويعامله ، بل لابد له كذلك من قدر من المعارف العلمية ، مثل الأحياء والطبيعة والكيمياء والرياضيات ونحوها ، فهي تشكل أرضية ثقافية لازمة لكل إنسان معاصر. وكثير من قضايا العصر وثيقة الصلة بهذه العلوم بحيث لا يستطيع الفقيه المسلم أن يفتي في قضايا الإجهاض ، أو شكل الجنين ، أو التحكم في جنسه ، وغير ذلك من القضايا الجديدة إذا لم يكن لديه قدر من المعرفة مما كشفه العلم وتكون الخلية الواحدة منهما. وقضية الجينات وعوامل الوراثة… الخ هذه القضايا العلمية التي قد ينكرها بعض المشايخ الذين لم يدرسوا هذه العلوم الكونية.
ومن هنا أدخل الأزهر هذه العلوم في معاهده ومناهجه من عهد بعيد ؛ لأنها ضرورية لفهم الدين والكون والحياة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهي امتداد لما كان عليه علماء المسلمين في عصور الازدهار. وأي معهد ديني يستبعد هذه العلوم الكونية من مناهجه لا يمكن أن يعد رجالا قادرين علي الاجتهاد في قضايا عصرهم (1).
3 ـ أقول :
هذا الذي ذكره الدكتور القرضاوي ليس كافيًا لإعداد المجتهد المعاصر ، وإنما هو ضروري لإعداد الداعية المعاصر.
أما المجتهد المعاصر فلا يكفيه أن يدرس نتفًا من هذه العلوم التي ذكرها ، والتي أصبحت الآن تخصصات عامة تشمل تخصصات دقيقة داخل كل منها.
ب – إن المجتهد المطلق لم يعد موجودًا ، كما لم يعد من المنتظر وجوده، وإنما الذي يوجد الآن أو يتصور وجوده هو المجتهد الجزئي أي الذي يتمكن من استنباط الحكم في مسألة دون غيرها أو في باب فقهي دون غيره.
2- وهذا المجتهد المتخصص لابد لوجوده وقيامه بمهمته من إعداده إعدادًا تخصصيًّا لا في الجانب الشرعي فحسب، وإنما في جانب التخصص الذي يتجه إليه، سواء في الاقتصاد أو الطب أو الاجتماع أو علم النفس أو غير ذلك من المجالات.
ولا يكفي في إعداد المجتهد المتخصص في الاقتصاد مثلاً دراسة كتاب أو مقرر واحد من مقررات الاقتصاد ، وإنما يلزم أن يشتمل برنامجه الدراسي في المرحلة الجامعية الأولى على 30 إلى 45 ساعة من نظام الساعات المعتمدة ، وأن يوجه بعد ذلك إلى الدراسة العليا ، حيث يحصل على عدد آخر من الساعات ، في دراسة متعمقة في الاقتصاد إلى جانب الدارسة الشرعية المتخصصة ، ولا يتسع المجال هنا لأكثر من هذه الإشارة الموجزة.
4- كما ينبغي كي تؤتي هذه الدراسة أُكُلها أن تتم بصورة مقارنة بين الاقتصاد الوضعي والشريعة بحيث يتم التفاعل في ذات المادة التي تدرس ولا يتم تدريس المادتين منفصلتين لأن ذلك يؤدي إلى قيام ازدواج ثقافي داخل عقل الطالب ، مع أن الهدف هو إزالة هذا الازدواج.
5- أن الحل الذي لجأت إليه المؤسسات المختصة بالاقتصاد أو بالطب أو بغير ذلك من إقامة مجالس أو لجان تضم متخصصين في الاقتصاد أو الطب ومتخصصين شرعيين إنما هو حل مؤقت لا يحل المشكلة جذريًّا بل إنه يكرس عملية الازدواج الثقافي.
ولا مناص من إنشاء التخصصات البينية التى أشرنا إليها.
– 6-
العلة والحكمة
مسألة أخرى من مسائل التجديد في أصول الفقه تتمثل في اللجوء عند القياس إلى الحكمة من حكم الأصل لتطبيقه في الفرع إذا لم تحقق العلة الحكمة المقصودة، إذ من المعلوم أن العلة هي مجرد وسيلة منضبطة لإجراء عملية القياس وتحقيق مقصد الشارع من حكم الأصل في الفرع ، وقد ذهب إلى جواز ذلك بعض الأصوليين ومنهم الرازي في المحصول. (الجزء الثاني القسم الثاني ص 389 – 400).
وهذه المسألة لم تكن ظاهرة الفائدة في البداية حيث كانت ظروف الحياة قريبة من ظروف عصر الرسالة بحيث يسهل وجود نص تقاس عليه الوقائع الجديدة ، ولكن مع تطور الحياة وجدت وقائع بعيدة كل البعد عن الاشتراك في علة حكم الأصل ، ومن هنا بدأ التفكير في صورة جديدة من القياس أطلق عليها أصحابها القياس الكلي ، القياس المصلحي ، القياس المرسل ، القياس الواسع ، القياس الإجمالي ، قياس المصالح المرسلة إلى غير هذه الأسماء التي يجمعها جميعًا محاولة التحرر من الشروط التقليدية للقياس خاصة موضوع العلة وأن يستعاض عنها بالحكمة ، ولكن دائمًا مع البقاء في إطار نقل حكم الأصل الجزئي إلى الفرع الجزئي.
– 7 –
الاستنباط من القواعد
أ – مسألة أخرى تتمثل في الاستنباط من القواعد ، فقد درج الأصوليون والفقهاء على القول بأن القواعد لا تستخدم في الاستدلال بها إلا إذا كانت منصوصًا عليها كقاعدة «لا ضرر ولا ضرار»ويكون الاستدلال بها في الحالة لا بصفتها قاعدة وإنما بصفتها نصًّا ، وفيما عدا ذلك تنحصر فائدة القواعد في ضبط أحكام الفروع التى تنطبق عليها.
والسبب في هذا التضييق هو أن القاعدة أغلبية بمعنى أنها لا تنطبق على جميع الفروع أي يوجد لها استثناءات ، وبالتالي لا يعرف إن كانت الحالة التى يراد الاستدلال عليها بالقاعدة في حكم أغلبية الحالات أم أنها من قبيل الاستثناء، شأن باقي استثناءات القاعدة.
ب – ونرى أن هذا التبرير ترد عليه الاعتراضات الآتية :
1- أن معظم الأحكام الفقهية مبنى على الظن الغالب ولا يشترط فيه القطع، وكون القاعدة مبنية على الأغلبية لا يفيد أكثر من كونها ظنية وهذا لا يقدح في صلاحيتها للاستدلال بها.
2- أن الاستثناءات التى ترد على القاعدة تكون عادة إما منصوصًا على حكمها بما يخالف حكم القاعدة ، وأما خاضعة لقاعدة أخرى اقتضت إعطاءها حكمًا مخالفًا للقاعدة ، وفي كلتا الحالتين لا يقدح هذا السبب أو ذاك في صحة القاعدة.
3- أن الحالة المفترضة التى نحتاج إلى الاستدلال بالقاعدة فيها هي حالة فراغ تشريعي ليس فيها نص كتاب أو سنة أو إجماع ولم يمكن قياسها على حالة منصوص عليها ، وبالتالي يكون إدراجها تحت حكم القاعدة مع حالات الأغلبية الأخرى موضوع القاعدة أولى من اللجوء بشأنها إلى المصلحة المرسلة ، وأقرب إلى الاطمئنان على اتساقها مع النسق الفقهي المقرر بالقاعدة طالما أنه لا يردها أصل مقطوع به مقدم عليها من الكتاب والسنة والإجماع.
– 8 –
تطوير مباحث مقاصد الشريعة
أ – مسألة أخرى تتمثل في تطوير مباحث مقاصد الشريعة ، فمنذ كتاب الموافقات للشاطبي الذي يعتبر قفزة في تاريخ المقاصد كتب في نفس الموضوع كل من الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي في منتصف هذا القرن، ثم تجدد الاهتمام فصدرت خلال السنوات العشر الأخيرة عدة كتب وبحوث وما زال الاهتمام متواصلاً.
ب – وقد كتبت في الآونة الأخيرة كتابًا هو الآن قيد المراجعة تمهيدًا لنشره تناولت فيه المسائل التالية(1) :
1- التفرقة بين مقاصد الخلق ومقاصد الشريعة ونتائج هذه التفرقة.
2- محاولة صياغة مقاصد الشريعة العالية.
3- اشتمال المقاصد على مجموع رتب الضروري والحاجي والتحسيني وتعلق هذه الرتب بالوسائل وليس بالمقاصد.
4- افتقاد الدراسات القانونية لمباحث المقاصد وافتقاد الدراسات الشرعية لمباحث وظيفة القانون في تنظيم المجتمع ومدى تدخل الدولة في حريات الأفراد.
5- محاولة تطوير الكتابة في المقاصد الخاصة المتعلقة بأقسام الشريعة أو بالعلوم الحديثة.
6- محاولة تحديد دور العقل في تحديد المقاصد.
7- تطوير فكرة حصر الكليات في خمس وإضافة المقاصد الاجتماعية.
8- بحث ترتيب المقاصد الكلية فيما بينها وإشكاليات هذا الترتيب.
9- محاولة البحث عن معيار اعتبار حكم معين أو وسيلة معينة من مرتبة الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، وملاحظات تطبيقية.
10- أن المراتب خمس لا ثلاث ، إضافة ما دون الضروري وما وراء التحسيني وآثار ذلك.
11- نسبية تحديد الوسائل وتسكينها في المراتب بحسب الزمان والمكان والأشخاص والأحوال ، وأمثلة تطبيقية.
12- إزالة اللبس الخاص بالنسل والنسب والعرض ، ووضع كل منها في موضعه المناسب.
13 – تحديد المقاصد في إطار أربع مجالات تختص الكليات الخمس بمجال الفرد ، وإضافة مقاصد لكل من الأسرة والأمة والإنسانية.
– 9 –
الاستدلال بالمقاصد
أ – مسألة أخرى تتعلق بالاستدلال بالمقاصد عن طريق المصالح المرسلة ، ولتوضيح الصورة نضرب بعض الأمثلة :
1- أصل حفظ العقل بتحريم شرب الخمر يمكن نقل حكمه بطريق القياس العادي إلى باقي أنواع المسكرات بجامع الإسكار في المقيس عليه وهو الخمر وفي المقيس وهو الأنواع الأخرى.
2- باستخدام القياس الواسع بأسمائه المختلفة التى أشرنا إليها يمكن أن نترك علة الإسكار ونصعد إلى حفظ العقل فننقل حكم التحريم إلىكل ما يؤثر في العقل – وإن لم تسكر – كالمخدرات.
ويمكن أن نتوسع أكثر فننقل حكم التحريم إلى كل ما يضر بالعقل كالخرافات ، والشعوذات ، وعمليات غسيل المخ ، وتقليد الأسلاف دون برهان… الخ.
3- باستخدام النصوص العامة التى تمنع الضرر كحديث لا ضرر ولا ضرار يمكن أن نصل إلى حكم التحريم لهذه الصور دون الإنطلاق من نص تحريم الخمر ، وبالتالي نكون قد تركنا طريق القياس بصورتيه العادية والواسعة.
4- باستخدام آلية المصلحة المرسلة – والابتعاد أيضا عن آلية القياس بصورتيه، يمكن أن ننطلق من مقاصد شرعية عرفت بأدلة كثيرة لا حصر لها ، أو مندرجة تحت أصل غير معين دون معارض لها ، كمقصد تكوين العقلية العملية والاستدلال العقلي وطلب العلم، والتفكير ، والنظر.. الخ.
ب – وهذه الطريقة – المصلحة المرسلة – ينبغي في تصوري تطويرها بصورة عامة – دون انتظار واقعة جزئية نبحث عن حكمها الشرعي – من خلال مراحل عملية معينة توصلا إلى عملية تنظير شاملة على النحو التالي :
1- التعرف إلى المقاصد التى تنطبق عليها الشروط التى أشار إليها الغزالي(1) بدرجتيها : ما عرف بأدلة كثيرة لا حصر لها ووقع موقع القطع ، وما عرف ولو بأصل غير معين ولم يعارضه معارض مقطوع به.
2- أن تضاف هذه المقاصد وتركب في بناء فكرى تجمع فيه الأشباه والنظائر وتقسم إلى مجموعات وفقًا لموضوعاتها حسب تقسيمات الكتابات الفقهية المعاصرة حتي تستبين معالم التصور الشرعي في كل موضوع(2).
3- أن تضاف إلى كل مقصد من هذه المقاصد الوسائل الموصلة إلى تحقيقه، ويستعان في ذلك بأدوات العصر وأساليبه التى لا تتعارض مع أصل شرعي.
4- أن تضاف إلى مقاصد ووسائل كل مجموعة ما يخصها من القواعد الشرعية ، وكذلك القواعد الشرعية العامة التى تنطبق عليها ، وتعتبر هذه القواعد بنوعيها جزءًا أساسيًّا من هيكل بناء كل مجموعة لأنها تمثل الأحكام الشرعية المتوصل إليها بالأدلة الشرعية الأخرى.
5- أن يتم بناء نظرية متكاملة في كل مجموعة تصلح للتفريع عليها والاستمداد منها بما يحقق التوصل إلى المقاصد وينسجم مع القواعد في نسيج واحد.
6- وفي خصوص المقاصد الخاصة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية والكونية ، أن يضاف إلي المرحلتين 4 ، 5 ما يخص كلاً من هذه العلوم.
– من السنن الإلهية المتعلقة بموضوعه.
– ومن الحقائق العلمية اليقينية التى توصل إليها العلم وذلك حتى يكون بناء نظرية كل علم مشتملة على جميع العناصر المعيارية والموضوعية الخاصة به ، ويدخل في العناصر المعيارية :
– التصور الإسلامي لله والكون والإنسان والحياة.
– القيم الأخلاقية العامة ، والخاصة بكل علم.
– مقاصد الشريعة الخاصة بالعلم.
– القواعد الشرعية الضابطة للعلم.
-10-
علاقة أصول الفقه بالعلوم الأخرى
مسألة أخرى خاصة بعلاقة أصول الفقه بالعلوم الأخرى. وقد كان الغزالى يعتبر علم الكلام هو أعلى العلوم : هو العلم الكلي وباقي العلوم من الفقه والأصول والحديث والتفسير جزئية.
والذي نراه أن علم العقائد – وليس علم الكلام – هو أعلى العلوم ، يليه القيم الأخلاقية العامة ، ثم النظرية العامة للشريعة شاملة علم أصول الفقه ، ثم تأتي باقي العلوم الشرعية وغير الشرعية، مع ما ينتج عن هذا الترتيب من تأثير ما للعلم الأعلى على العلم الأدنى منه مرتبة.
وقد فصلت الكلام في هذه المسألة في كتابي «النظرية العامة للشريعة»ص 77 إلى 99.
– 11 –
تجديد تبويب مادة أصول الفقه
– المسألة الأخيرة خاصة بتجديد تبويب مادة علم أصول الفقه ، وقد أجريت محاولة في هذا الاتجاه في كتابي المشار إليه (النظرية العامة للشريعة) لم اقتصر فيها على تغيير التبويب أو إضافة موضوعات جديدة ، بل امتدت لأكثر من ذلك إلى التفرقة فيما يعرف بأدلة الأحكام بين المصادر كالكتاب والسنة والمناهج كالقياس والاستصلاح والأدوات كالعقل واللغة.
– 12 –
خاتمة
أ- هذه بعض أهم النقاط التى يدور حولها ما يطلق عليه البعض تجديد أصول الفقه أو الاجتهاد في أصول الفقه ، وهي كما نرى مسائل مشروعة لا نرى مبررًا للإنزعاج من بحثها كما يحدث لكثير من العلماء المعاصرين.
ب – والذي يثيره بحث مثل هذه المسائل في نظرنا – بعد تعميق البحث فيها وليس قبل ذلك – هو طرح السؤال التالي : هل يظل إطلاق اسم أصول الفقه على هذه المباحث مطابقًا لمضمونها أم يكون الأولى البحث عن اسم جديد؟
والذي نراه مبدئيًّا هو أن نتيجة البحث هي التى ستحدد الإجابة عن هذا السؤال :
1- فإن كانت محصلة التجديد جزئية فلا بأس من استبقاء اسم علم أصول الفقه وتعريفه التقليدي بأنه العلم بالقواعد التى ترسم المناهج لاستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية ، إذ يتسع هذا التعريف للتجديدات الجزئية داخل العلم.
2- أما إذا كانت محصلة التجديد كلية وشاملة فنرى في هذه الحالة الحاجة إلى إنشاء علم منهجي جديد تكون أصول الفقه جزءًا منه.
3- وقد تدعو الحاجة إلى ما هو أبعد من ذلك وهو إندراج علوم المنــــــاهج (مناهج الأصوليين ومناهج المؤرخين ومناهج الفلاسفة وغيرها)في علم واحد مع احتمال إضافة مناهج جديدة.