– 1 –
د. سيد محمود القمني باحث ماركسي في التراث ، استطاع على مدى عشر سنوات وبتسعة كتب أن يضع <<جملته>> في قلب الخطاب العلماني المعاصر. وعلى مدى السنوات العشر ظل الإعلام العلماني يقدمه كواحد <<من هؤلاء العلماء الواعدين الصارمين الذي يعتمد العلم لا الأساطير>>(1) ، ويقدم <<جملته>> أو مشروعه الفكري على أنه <<فتح وكشف كبير>> و<<اقتحام جريء وفذ>> ، بل <<بداية لثورة ثقافية تستلهم وتطور التراث العقلاني الحر في الثقافة العربية الإسلامية؛ ليلائم الإسلام (وليس التراث) احتياجات الثورة الاشتراكيةالقادمة>>(2) .
ولم يقف التقديم العلماني عند حد هذا الانحياز ، لكنه تعدى نقطة الانحياز؛ ليغلق في وجه العقل باب محاولة المراجعة أو إمكانية النقد ، بحجة أن نقد مشروع د. القمني الفكري <<نقدًا موضوعيًّا أمرٌ مستحيلٌ>>(3) ، وبنفس اليقينية المنفلتة من احتمالية نتائج البحث العلـــــمي قال د. القمني _ بلا تحفظ _ : إنه عاين التراث <<حيًّا بلحمه وشحمه ودمه>> وقدمه في كتاباته <<كما كان حقًّا>>(4) .
وللحقيقة .. ورغم الموقف العلماني الذي قطـــــــع باستحالة نقد كتابات د. القمني ، في الوقت الذي يؤكد فيه على أن القرآن الإلهي <<يجسد نصًّا تاريخيًّا>> لابد من وضعه <<موضع مساءلة إصلاحية نقدية>>(5) ، رغم هذا الموقف الفج الذي لم يحترم المسافة الفاصلة بين الإلهي والبشري ، فقد أحدث د. القمني -بدون قصد منه – ثقبًا في الباب العلماني الموصد في وجه العقل ، بنزوله حلبــة البحث العلـمي بمهمة نفى عنها – بحدة – شبهة النقدية بقوله القاطع: <<مهمتنا (مهمته) أبدًا ليست تدقيق معلومة (تاريخية) يعطيها لنا علماء>> وأن <<المعلومات سواء كانت خطأ أم صوابًا فهي ذلك المعطى الجاهز لنا من أهل التاريخ>>(6) .
وهي مهمة تكشف لنا عمق الموقف العلماني <<الجهلاني>> . وفي الوقت ذاته تضع أيدينا على المفتاح الحقيقي لمشروع د. القمني . فبجانب تناقضها مع المعلوم بالضرورة عن <<نقد الأصول التاريخية>> في كتب مناهج البحث فهي تؤكد على:
أولاً : خروج د. القمني في كتاباته من رحابة النقد ودخوله – الاختياري – نفق النقل .
ثانياً : أن نقله لم ينحصر في حدود المعقول بنقل المعلومات <<الصواب>> فقط، ولكنه – وبوعي كامل – انفتح على اللامعقول بنقل المعلومات <<الخطأ>> التي بلا حدود .
ثالثًا : بانفتاحه اللامعقول على الخطأ، فقد تعمد تضبيب المساحة العلمية والعقلية الفاصلة بين الخطأ والصواب لينتقل من نفق النقل إلى سرداب الانتقاء تحت مظلة <<ذلك المعطى الجاهز له من أهل التاريخ>>.
وبجانب تأكيدها على ماسبق ، فهي مهمة تفتح لنا نافذة واسعة على مشروعه الفكري وتثير أكثر من سؤال عن ثورية هذا المشروع ، وعن قدراته التثويرية ؟ وتدفعنا إلى فتح الباب للدخول بالعقل إلى حلقات المشروع الفكري لننقب فيها عن إجابة على السؤال الملح: هل سيعيد د. القمني إنتاج الإسلام ماركسيًّا ليلائم – بعد ماركسته – احتياجات الثورة الاشتراكية <<القادمة>>؟!.
ونبدأ – في هذه الأوراق – بإعمال العقل في .. وطرح السؤال على كتابه <<الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية>> :
أولاً : لأنه يتناول تاريخ الإسلام ، وهو عقيدة د. القمني المعلنة .
ثانيًا : لأنه يؤسس به لبقية حلقات مشروعه الفكري ، ولأهميته التأسيسية لم يكتف بحجمه المنشور كمقال – في مجلة <<مصرية>> (العدد التاسع – أكتوبر 1986م من ص6 حتى ص24) فقام بتوسيعه وإصداره في كتاب عام 1990م ليأخذ مكانه ومكانته في مشروعه .
ثالثًا : لأنه في الرأي العلماني يعد <<واحدًا من أهم الإصدارات العربية المعاصرة على الإطلاق>>(7) .
* * *
لاعتقادي بمركزية كتاب <<الحزب الهاشمي>> في المشروع الفكري للدكتور القمني ، ولظني بأن ما قيل عنه كان مجرد محاولة فاشلة للتستر على أخطر ما قيل فيه، أرى لكي نتأهب لطرح السؤال السابق ، ولنؤهل المتلقي ليشاركنا البحث عن إجابة _ أن نحدد نقطة الخلاف التي دفعت د. القمني لمغامرة المراجعة .
لنبدأ – أولاً – بالاتفاق على حقيقة أظنها لن تكون محل خلاف ، وهي أن الجديد الذي جد على واقع عرب الجـاهلية في بداية القرن السابع الميلادي (610م) هو الرسول <<محمد>> والرسالة <<القـرآن>> وأنهما نجـحا في إنبات تضــاريـس دينيـة وسياسـيــــة في خريطة جزيرة العرب ، أثمرت بفتح مكة (630م) دولة العرب الإسلامية.
هذه حقيقة تاريخية . أظن د. سيد القمني لن يختلف معنا فيها ؛ لأن الاختلاف _ هنا – يعني الشك . وبالتالي التشكيك في تاريخية ضلع من أضلاع مثلث (الرسول – الرسالة – الدولة)، وأستطيع القول _ بيقين _ : أنه لم يشك ولم يشكك في الوجود التاريخي لـ<<محمد>> و<<القرآن>> و<<الدولة>>؛ لأن هذا المثلث من المسلمات التاريخية التي لم يتشكك فيها مستشرق واحد ، سواء كان مسيحيًّا أو يهوديًّا أو حتى ماركسيًّا .
ونقر _ ثانيًا – بأن الاتفاق على الوجود التاريخي لـ <<محمد>> و<<القرآن>> و<<الدولة>> لا يعني إطلاقًا وحدة الموقف الإسلامي والمسيحي واليهودي من أضلاع هذا المثلث ، فهذا ضد التاريخ والواقع .
فبين هذه الديانات خطوط فاصلة على المستوى العقيدي يستحيل تناسيها. فالموقف اليهودي من المسيحية وموقفهما من الإسلام وموقف الإسلام منهما أكثر من معروف .
ولأن ذلك كذلك ، فرفض المسيحي واليهودي لنبوة <<محمد>> ولربانية <<القرآن>> هو الموقف المتسق مع عقائدهما الدينية . ويكون بحثهما في الواقع الجاهلي عن أدلة للتشكيك في الرسول والرسالة هو المنتظر . ومن ذلك فهمنا وتفهمنا موقف الكنيسة المصرية بتشكيلها لجنة لدراسة كتاب د. نظمي لوقا <<محمد .. الرسالة والرسول>> ورد القمص سرجيوس بكتابه المعنون بـ<<الدكتور نظمي لوقا في الميزان ردًّا على كتابه>> (دار المنشورات الحديثة – بيروت – 1959م) .
ونشير – ثالثًا – إلى أن ما بين هذه الأديان المؤمنة بالغيب والفلسفة الماركسية المادية يقف حائط الموقف من المسألة الفلسفية الأساسية : أيهما يسبق الآخر في الوجود . الله أم المادة؟.
فالمعروف أن هذه الأديان – رغم اختلافاتها – قالت بأولية الله على المادة، وبقولها انحازت لمبدأ خلق الله للعالم ، وقبلت شكل علاقة الله بخلقه (المرسل – الرسالة – الرسول) . والمعـروف – أيضًا – أن مـــــاركس ((كمؤسس للفلسفة) وأنجلس (كشريك في التأسيس) ولينين (كصاحب إضافة جوهرية) قالوا بأولية المادة على الله .
ولأن المادة – في هذه الرؤية – <<أولية وخالدة ، فإنها لا تفنى ولا تستحدث ، وأنها السبب الداخلي والنهائي لكل ماهو موجود. وفي عالم تشكل المادية السبب والأساس الأوليين لكل شىء . ليس ثمة مكان لقوى أخرى فوق الطبيعة(8) .
وبسيادة – أو تسييد – المادة فقد فرّغت المادية الديالكتيكية السماء من الله ، وبحثت المادية التاريخية عن الله . وعن الدين في تناقضات الحياة المادية . والنزاع القائم بين قوى المجتمع المنتجة وعلاقات الإنتاج ؛ لأن الدين (المرسل – الرسالة – الرسول) <<هو وليد الأرض، لا وليد السماء>>(9) ؛ ولأن <<الإنسان (هو الذي) يصنع الدين . وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان>> فالدين عند ماركس وأنجلس <<هو وعي الذات والشعور بالذات لدى الإنسان الذي لم يجد بعد ذاته أو الذي فقدها>> وهو <<الوعي المقلوب للعالم>>(10) .
ونصل – رابعًا – من كل ما سبق إلى رصد نقطة الخلاف الجوهرية بيننا وبين د. سيد القمني ، والتي في الوقت ذاته هي نقطة التلاقي الجذرية لنتائج <<الحزب الهاشمي>> بالرؤية الماركسية، والتي في – رأينا – تكمن في تحديد مفتاح خريطة جزيرة العرب <<الإسلامية>> أو في العصر النبوي .
فنحن نفتح الخريطة بالحدث المعجز في غار حراء (بداية النبوة والرسالة) ونقرأ تضاريسها كإفراز لجدل المقدس ((القرآن) مع التاريخي (الاجتماعي – السياسي) ونعتقــــــد أنه لولا المقدس ((الإلهي) لظلت عناصر معادلة واقع عرب الجاهلية تؤدي إلى نفـــس النتائج (الوثنية – العصبية – القبلية) .
أما د. القمني الذي يعترف <<أنا مادي>>(11) ، ويرفض ما أسماه بالرؤى الأصولية التي تقول بأن الإسلام <<مفارق سماوي>> وذلك لاعتقاده <<أنه لا شىء إطلاقًا يبدأ من فضاء دون قواعد مؤســسات ماضوية يقوم عليها ويتجادل معها بل ويفرز منها حتى لو كان دينًا>>(12) ، فقد أعاد – بماديته – مفتاح الخريطة بتضاريسها <<الإسلامية>> إلى مرحلة الجاهلية ، وبتعبيره : <<إلى المرحلة القبل إسلامية>> التي – حسب ماديته واعتقاده – <<أفرزت>> قواعدها الماضوية مثلث (الرسول – الرسالة – الدولة) -، وبالتعبير الماركسي – امتلك بناؤها التحتي (المادي – الاقتصادي) قدرات إفراز البناء الفوقي (الديني – السياسي).
الآن ، وبعد أن حددنا نقطة الخلاف – والتي نتمنى أن نكون قد وفقنا في رصد جوهرها – نكبت في عقولنا السؤال عن <<لماذا..؟>> ونفتح كتاب <<الحزب الهاشمي>> لنتعرف على <<كيف..>> أفرزت القواعد الماضوية <<الجاهلية>> مثلث (الرسول – الرسالة _ الدولة) ؟ وذلك ليكون القارئ ثالثنا في هذه المحاولة المتواضعة لمراجعة <<بعض>> ما حواه الكتاب من فروض وأطروحات – في رأينا – خرجت عن حقائق التاريخ . وخرجت على الثوابت المتفق عليها .
* * *
تتلخص رؤية د. سيد <<محمود>> القمني في أن أوضاع جزيرة العرب الاقتصادية والاجتماعية قد دخلت – في نهاية القرن السادس الميلادي – مرحلة متسارعة من التغيرات؛ فتحولت مكة من كونها مجرد استراحة للقوافل ومنتدى وثني على الطريق التجاري إلى <<مالكة لمركز رئاسي لا شك فيه ؛ بعد أن أتاحت لها الظروف الداخلية تجميع التجارة الخارجية في يدها ، وأتاحت لها الظروف الخارجية أن تستغل الأوضاع العالمية لصالحها >> (ص18).
هذا التحول الاقتصادي أدخل مكة في <<مرحلة تحولات بنيوية واضحة في تركيبها الاجتماعي>> فبدأت <<تضمحل في داخلها التركيبة القبلية مع إفراز جديد لمواقع سلطة ومؤسسات لم تكن موجودة من قبل التحول الاقتصادي الذي طوّر <<المجتمع المكي من مجتمع يعيش ديمقراطية ومساواة بدائية إلى مجتمع متمايز طبقيًّا>> (ص26) ، وعليه <<فقد تهيأت مكة لإفراز عناصر قيادية عربية، كما قدرت أحداث الجدل الدائر للكعبة المكية أن تكون الكعبة الأولى والمحج الأقدس دون غيرها من الكعبات. وساعد على ذلك أسواق مكة المختلفة ومواسمها المتنوعة التي وضعت لجذب التجار ، وانتشار لغة قريش وعاداتها بين القبائل الحالة والمرتحلة>> (ص27)، وقد اجتمعت هذه العوامل لتساعد على صعود النجم المكي <<مما أعطى القرشيين الضوء الأخضر للقيام بالدور التاريخي الذي حتمته الظروف عليهم>>(ص28)، وذلك بتوحيد قبائل جزيرة العرب في وحدة سياسية مركزية كبرى.
وفي رأي د. القمني أن الوحدة السياسية كانت مرهونة بالوحدة العقائدية ؛ لأن <<التفرق العقائدي وتعدد العبادات والأرباب قد ساعد بفعالية في زيادة الفرقة القبلية ، بحيث أصبح (تعدد الأرباب) عائقًا دائمًا ومستمرًّا في سبيل المحاولات التي قامت من أجل خلق كيانات سياسية في جزيــــرة العرب>> ((ص24) . وإزاء هذه العوائق العقائدية ولحاجة مكة إلى إلـه فوق الأرباب ودولة فوق القبائل يناسبان تحولها الاقتصادي ، ولحكايات اليهود عن <<مغامرات أنبيائهم القدامي وعن دولتهم الغابرة التي أنشــــــــــــأها النبي داود>> (ص10)، <<لم يجد الآخرون سوى الاهتداء إلى أنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة المرتقبــــة نبيًّا مثل داود>> (ص13) .
ترافق مع ذلك التطور ، صراع أولاد وأحفاد <<قصي بن كلاب>> (الجد الرابع للرسول) على ألوية التشريف والسيادة في مكة ؛ مما انتهى إلى انقسامهم إلى حزبين كبيرين متصارعين <<الحزب الأموي>> – نسبة إلى أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف – و<<الحزب الهاشمي>> – نسبة إلى هاشم بن عبد مناف .
وفي رصده لخطط زعماء الحزب الهاشمي في صراعهم مع الحزب الأموي الذي اهتم زعماؤه بالتجارة وجمع المال. يقول د. القمني : <<إن تكتيك هاشم اتجه منحنى آخر تمثل في اكتساب القلوب>> (ص42)، وبموت هاشم تولى أخوه <<المطلب>> منصبي السقاية والرفادة <<واتبع أسلوب أخيه وسياسته في اجتذاب القلوب بالكرم والعطاء والبذل>> (ص43)، ولم يطل العمر بالمطلب سيدًا <<فقد رحل تاركًا استكمال المهمة الجليلة (والخطيرة) لابن أخيه عبد المطلب>>(ص43) – الذي تربى في يثرب <<حيث كان كل التاريخ الديني يتواتر هناك في مقدسات اليهود>> (ص43) .
بتولي عبد المطلب أمر السقاية والرفادة وإدارة الصراع ضد الحزب الأموي ، استدعى كل ما رضعته ذاكرته – في يثرب – عن حكايات الأنبياء الملوك الذين أسسوا وحكموا دولة اليهود الغابرة ؛ لينقل – في مكة – سياسة حزبه الهاشمي في إدارة الصراع نقلة جذرية تتجاوز مرحلة <<التكتيك>> وتتحرك بثقل نحو الهدف الذي استلهمه من يثرب وأعلنه في مكة <<إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء>> وحدد <<هؤلاء>> بأبنائه وحفدته (ص9) ، وبدأ استكمال المهمة الجليلة والخطيرة بـ<<وضع أيديولوجيا متكاملة لتحقيق أهداف حزبه>> (ص45)، ولأنه استوعب ذكرياته في يثرب <<حيث يتواتر التاريخ الديني في مقدسات اليهود>> واستوعب حاضره في مكة فقد أدرك أن داء جزيرة العرب <<فرقة قبلية وعشائرية، ولأسباب تعدد الأرباب وتمــــاثيل الشــفعاء، ومن هنا انطلق عبد المطلب يؤسس دينًا جديدًا يجمع القلوب عند إله واحد>>(13) ، كمقدمة توحد العقائد في دين ؛ لتتهيأ جزيرة العرب لقبول فكرة توحيد القبائل في دولة .
بتطابق خطــــــــــة الحزب الهاشمي (باستحداثه لآليات أيديولوجية ودينية لردع الخصم الأموي) مع الطفرة الاقتصادية التي احتاجت أيديولوجية توحيدية ، فقد حتمت الظروف وتضافرت الأحداث بحيث صبت الأقدار في يد قريش (تحت ضغط الاقتصاد) وفي يد البيت الهاشمي (تحت ضغط الصراع) أن يأخذ على عاتقه تحقيق مهمة توحيد الأرباب والأنساب لإزالة عوائق التوحيد السياسي . لأن القراءة القرشية والهاشمية لواقع جزيرة العرب – وأن اختلفت دوافعها – انتهت إلى التحليل نفسه ، بل وإلى الحل نفسه الذي استلهم التجربة اليهودية.
وبجانب تطابق التحليل والحل ووحــدة المنبع ، فقد اجتمعت في يد عبد المطلب زعامة الحزب الهاشمي وزعامة قريش ؛ مما شجعه على المضي في تحقيق أهداف حزبه ، فبعد أن أسس <<دينه الجديد>> وأرجع العرب جميعًا وقريش خصوصًا إلي سلسلة النسب الإسرائيلية، نشط في نشر <<توحيد الأرباب>> في قبائل العرب المتفرقة و <<أتت مخططات عبد المطلب أثمارها واتبعه كثيرون>>(14) ، كونوا حركة الحنفاء التي تحولت إلى تيار قوي قبل الإسلام بفضل جهود أستاذ الحنيفية الأول – عبد المطلب – واثنين من تلاميذه الكبار هما : زيد بن عمرو ابن نفيل ، وأمية بن أبي الصلت .
وليبقى أمر التنفيذ – كما في أمر التخطيط – محصورًا في البيت الهاشمي . فقد علم عبد المطلب علمًا يقينيًّا بأن حفيده محمد <<هو نبي الأمة وموحدها المنتظر>> (49)، وسعى لتحقيق علمه اليقيني بالزواج من بني زهرة ؛ لأن فيهم <<الملك والنبوة>> (ص52)، وذلك لسد الطريق في وجه أتباعه الحنفاء الذين <<يتنافسون في التقوى والتسامي الخلقي عَلَّ أحدهم يكون نبي الأمة وموحد كلمتها>> (ص54) .
بانتهاء مرحلة التخطيط (للدين – للنسب – للنبي الملك – للدولة) بموت عبد المطلب تولى الحفيد محمد مرحلة التنفيذ <<واتبع محمد خطى جده كما اتبع خطواته إلى غار حراء من قبل ، وأعلن أنه نبي الفطرة>> (ص96) ، وكما اتبع خطى جده فأخذ عنه دينه الجديد . اتبع – أيضًا – خطى أتباع جده ، فأخذ عن زيد بن نفيل تسـمية دينه بالإسلام ((ص66) ، ومن شعر أمية بن أبي الصلت استمد الحفيد <<محمد>> بعض الآراء والمعتقدات والتراكيب اللغوية في وصف يوم القيامة والجنة والنار .. الخ . وقد نفى د. القمني بشدة مجرد الظن بأن يكون أمية اقتبسها من القرآن . لأن هذه الأشــــعار كتبت << قبل المبعث >> (ص73) .
وبعد نصف قرن – تقريبًا – من إعلان الجد <<إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها هؤلاء>> نجح الحفيد – محمد – الذي يعي مكانه المرحلي ودوره التنفيذي في الخطة الهاشمية .. نجح في تحقيق <<أهداف الحزب الهاشمي>> بتكوين دولته في المدينة (يثرب) فيقول د. القمني على لسان الحفيد الهاشمي: <<وكأني بمحمد ينادي طيف جده ، أي جدي هآنذا أحقق حلمك>> ، وينتقي من أشعار <<الروافض>> هذا البيت ليكون القول الأخير في دراسته :
لعبتْ هاشمُ بالملك فلا
ملك جاء ولا وحي نزل
(ص100)
* * *
أخيرًا .. وبعد أن تعرفنا بإجمال على كيف <<أفرزت>> القواعد الماضوية مثلث <<الرسول – الرسالة _ الدولة>> ، وبعد أن علمنا من الموقف العلماني أن نقد هذا الكتاب <<نقدًا موضوعيًّا أمرٌ مستحيلٌ>> تبقى محاولة المراجعة مشروعة، ويبقى السؤال بـ<<كيف>>..؟ هو المتاح والمباح رغم الموقف العلماني ومحاولاته لتسويق د. القمني كواحد من <<هؤلاء العلماء الواعدين الصارمين الذي يعتمد العلم لا الأساطير>>.
وللإجابة . نتوسل بالعقل – الذي لا نملك سواه – ونحتكم إلى التاريخ، ونحن نحاول – في الصفحات التالية – إعادة قراءة ما كتبه د. القمني في كتابه ، ولأن محمدًا (الحفيد الهاشمي) بنى على ما أسسه عبد المطلب (الجد الهاشمي) ونفذ ما خططه ، ولأن دوره معلوم – بتفاصيله – للجد ، ومحكوم بما تأسس ، فنحن سنحاول البحث في حقيقية القواعد الماضوية <<الجاهلية>> التي في رأيه <<أفرزت>> مثلث (الرسول – الرسالة – الدولة) .. وتحديدًا سنبحث في حقيقية فكرة الدولة الموحدة وتاريخيتها ودور عبد المطلب التأسيسي للدين وللدولة ، واحتمال اقتباس <<محمد>> من شعر أمية ابن أبي الصلت ؛ وذلك لنعرف هل – فعلاً – لعب هاشم (محمد) بالملك فلا مـــلك جــاء ولا وحي نزل .. أم أن د. القمني لعب بالعقل وبالعلم لمركسة الإسلام ..؟
ونبدأ بفكرة الدولة ..
* * *
– 2 –
لاعتقــاد الدكتــــور سيــد القمني – كمادي – أن الدين (الإسلام) مجرد <<إفراز>> أفرزته القواعد الماضوية <<الجاهلية>> ، ولأنه – حسب الرؤية المادية – لا يمكن تفسير الظهور التاريخي للإسلام (كبناء فوقي) وفقًا لوعيه الديني المثبت في قرآنه ، بل ينبغي تفسيره بتناقضات الحياة المادية (كبناء تحتي)؛ لذلك فقد رجع د. القمني – في كتابه <<الحزب الهاشمي>> – عشرات الأعوام في عمق الحقبة الجاهلية لينقب في وقائعها عن جذور <<جاهلية>> لمثلث (الرسول – الرسالة – الدولة) .
وليقين د. القمني أن اللحظة التطورية (الاقتصادية – الاجتماعية) في الزمن الجاهلي لحظة بدائية أو بدوية لن تسعفه وقائعها في <<جهلنة>> المثلث الإسلامي . خصوصًا وأن هذه الوقائع – في رأيه – قد تم <<أسطرتها>> بزيادة هائلة ومكثفة <<عند تدوين التراث الإسلامي في سجلات الإخباريين>>(15) ، فلم يبدأ – كباحث – دراسته للقواعد الماضوية بنقد الوقائع المدونة في سجلات الإخباريين لتخليصها من النسبة الأسطورية <<الهائلة والمكثفة>> في معلوماتها ، وإنما تخلى عن عقله النقدي وتجنب الوقائع العقلانية في السجلات التراثية . وذلك ليوسع رقعة <<الأسطرة>> كضرورة أيديولوجية – وليست علمية- تمكنه من تفكيك المثلث الإسلامي ، وإعادة ترتيبه ليوافق احتياجات الثورة الاشتراكية (الماركسية) القادمة والتي تؤسس لأن يكون الإسلام (الرسالة) مجرد <<إفراز>> أرضي وليس وحيًا سماويًّا.
وليتناسق د. القمني مع ماديته ورؤيتها الفلسفية للدين فقد استقر على إنتاج أسطورة أن تكون <<الدولة>> هي الغاية العربية ، وفي الوقت ذاته هي الخطة الهاشمية ، وأن يكون <<الدين>> هو الوسيلة التي سيتوسل بها الحزب الهاشمي كجزء في خطته ، ولخلو تناقضات الحياة المادية الجاهلية من وقائع حقيقية توحي بإمكانية إفراز الدولة كغاية أو كخطة أو حتى كهاجس ، فقد بدأ د. القمني بفرض فكرة <<الدولة>> على عقل القارئ كتأسيس أول يمهد به لطرح (الدولة والدين والرسول) كحتميات اقتصادية . وهذه البداية القمنية تفرض علينا ، أولاً: مراجعة الدولة كفكرة تأسيسية ، ثانيًا : مراجعة الدولة كحتمية اقتصادية .
* * *
بدأ د. سيد القمني كتابه <<الحزب الهاشمي>> بالعرض لرؤيتين من التراث الجاهلي للواقع الجاهلي.
الرؤية الأولى: محددة بحدود بيت قائلها : (أبنائه وحفــدته) وهي قول عبد المطلب بن هاشم : <<إذا أراد الله إنشاء دولة خـــــلق لها أمـثال هؤلاء >>((ص9) ، والرؤية الثانية : تسع مكة وتتسع لتشمل عرب الجزيرة ، وقد مثل لها بقول الأسود بن عبدالعزى : <<ألا إن مكة لقاح لا تدين لملك>>(ص11)، وقول النعمان بن المنذر الذي يرصد ســبب ترك العرب << الانقياد إلى رجل (منهم) يسوسهم ويجمعهم>> بأنه <<يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم ، فيلقون إليهم أمورهم وينقادون لهم بأزمتهم ، أما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين>>(ص11) .
علق د. القمني بأنه <<كان هناك من هو على رأى عبد المطلب من ذوي النظر الثاقب والفكر المنهجي المخطط الذين استطاعوا أن يصلوا إلى النتيجة نفسها بعد قراءة واعية للخريطة السياسية والظروف الاجتماعية والاقتصادية>> (ص9) ، ورغم اعترافه بوجود <<من هو على رأي عبد المطلب>> فالدكتور القمني لم يجد في الأرشيف الجاهلي مَا أو مَنْ يضيفه إلى قول واسم عبد المطلب الذي اختزل خريطة الجزيرة (الاقتصادية – الاجتماعية – السياسية) في خريطة بيته فلم تسع رؤيته أو تتسع سوى لأبنائه وحفدته فقط ؛ لذلك فقد اعترف بأن <<الكثرة الغالبة لم تكن مع هذه الرؤية . حتى اليهود الذين كانوا يعيشون بين ظهراني العرب – كعرب – ماخطر لهم هذا التوقع قط>> (ص9) ، وأن <<بقية الناس – حتى داخل مكة – (معقل عبد المطلب وعشيرته وقبيلته) ممن كانوا يعتبرون أنفسهم عقلاء لم يكونوا مع هذا التفاؤل>>(ص11) .
فالكثرة الغالبة ، وبقية الناس – حتى داخل مكة – كانوا مع رؤية الأسود بن عبد العزى والنعمان بن المنذر لتأسسها على حقائق مادية منها :
1- سيادة النظام القبلي والعصبية العشائرية .
2- هذه القبلية وتلك العشائرية ولدتا إحساسًا بالمساواة <<جعل البدوي واعيًا تمامًا لفرديته ، مصرًّا على الاعتداد بنفسه بإسراف تمثله دواوين العرب في الحماسة والفخر والاعتزاز بالفرد أو بالقبيلة أو بالنسب>> (ص12) .
3- أن الظروف الخارجية لم تكن بقادرة على تهديد الوضع داخل مكة، سواء بالاحتلال الأجنبي المباشر أو بفرض النفوذ الخارجي على الداخل العربي <<فإن منطقة الحجاز بمدينتيها الرائدتين ( مكة ويثرب ) كانت تتمتع باستقلال نقي هيأه لها وضعها الجغرافي ووعورة الطريق إليها ، فكانت هي البيئة العربية الخالصة البعيدة عن مجال الصراع الدولي>>(ص12) .
هذا كله – وباعتراف د. القمني _ <<إنما هو دعم حقيقي لرأي الأسود بن عبد العزي>> (ص13) ، ورغم كل هذا – فهو بخفة _ يستبعد هذه الرؤية بحقائقها الاجتماعية والسياسية والجغرافية، وينحاز لقول عبد المطلب بسكوته التام عن مناقشة منطقية صدور هذا القول في بيئة متشعبة ومشعة بالقبلية وبتغييبه لحقيقته كنبوءة وليس كرؤية أو حتى كرأي ، وإصراره على تغليفه بأوصاف <<النظر الثاقب>> و <<القراءة الواعية>> و<<الفكر المنهجي المخطط>> وذلك – في رأينا – ليستطيع د. القمني الارتكاز على قول عبد المطلب وتوليده بما يريد من دلالات وتحميله ما سيتأسس – في مستقبل الجزيرة – من نتائج غيرت تاريخ العالم .
فحتم انحيازه أن يقول _ بعد نقله لنبوءة عبد المطلب مباشرة : إنه (عبد المطلب) <<استطاع أن يقرأ الظروف الموضوعية لمدينة مكة بوجه خاص وأن يخرج من قراءته برؤية واضحة هي إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة تكون نواتها ومركزها مكة تحديدًا>> (ص9)، وأيضًا حتم انحيازه كبت السؤال المنطقي الباحث عن <<الظروف الموضوعية لمدينة مكة>> في قول عبد المطلب المكون من تسع كلمات لا توحي – مجرد إيحاء – بما استخرجه د. القمني من <<إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة>> واشتراط أن <<تكون نواتها ومركزها مكة تحديدًا>> ..؟
ولأنه لم يجد من ينـــاصر نبـــوءة عبد المطلب ، سواء داخل مكة أو خارجها، ووجد أن التاريخ والجغرافيا والسياسة تؤكد رؤية ابن عبد العزى وابن المنذر ، ولأن د. القمني – في ظننا – لم يشغله حديث التاريخ وشغله إنتاج أسطورة الدولة فقد استسهل التدخل في وقائع التاريخ وأباح لنفسه تقويل الأستاذ عباس العقاد ما لم يقله ، فيقول (القمني) مبررًا استنتاجه بإمكانية قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة من نبوءة عبد المطلب ومبررًا انحيازه الفج لهذه النبوءة <<أجاز الأستاذ العقاد لنفسه وهو رجل متزن ومتوازن أن يجزم قاطعًا – بأن شأن اليهودية في توضيح هذه الحقائق كان أعظم من كل شأن لها في جزيرة العرب ، وهذه الحقائق (الكلام للقمني) التي يعنيها الأستاذ العقاد هي أنه برغم عدم قراءتهم الصحيحة لإفرازات الواقع على الأقل بالنسبة لمكة ، فإن حكاياتهم عن مغامرات أنبيائهم القدامي، وعن دولتهم الغابرة التي أنشأها الملك داود وما لحقها من تهويلات ومبالغــات كانت وراء الحلم (بإنشاء دولة عربية موحدة) الذي داعب خيال سراة العرب وأشرافهم ، حتى بدا لكل منهم طيف زعامته للدولة الموحدة>> (ص9 /10) .
ولأن د. القمني قد أجاز لنفسه أن يجزم قاطعًا بأن ما قاله هو بعينه ما فهمه عن العقاد ، ولخطورة ما قاله (الذي يدل على <<تهويد>> منابع فكرة الدولة العربية ، والذي يذهب إلى وصول <<بدو الجاهلية>> بقيادة وتخطيط عبد المطلب – قبل ميلاد الرسول بسنوات – إلى الحل المتهود <<أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيًّا مثل داود>> (ص13)) لخطورة ما قاله فقد رجعنا إلى مرجعه (كتاب <<طوالع البعثة المحمدية>>) لنرى بأنفسنا من منهما (العقاد أم القمني) أجاز لنفسه القطع بما لا يجوز .
وبعد مراجعة دقيقة لما كتبه العقاد في باب <<مقدمات النبوة>> لم نجد ما نقله أو فهمه د. القمني ، فلا وجود – إطلاقًا – لحكايات اليهود عن مغامرات أنبيائهم القدامي أو عن دولتهم الغابرة، وإنما الموجود من الحقائق التي يعنيها الأستاذ العقاد ما نصه : <<أن معجزة الإسلام في جميع مقدماته ونتائجه أن هذه النتائج لم تكن قط منقادة مسخرة لتلك المقدمات. فإن العصبية اللغوية والدينية قد آلت في يد الإسلام إلى دعوة إنسانية عالمية لا تنكر شيئًا كما تنكر العصبية الجاهلية>> ولتأكيد هذه الحقائق يكمل العقاد << إن شأن اليهودية في توضيح هذه الحقائق أعظم من كل شأن لها في جزيرة العرب، فمما لا نزاع فيه أن أناسًا من اليهود قدموا إلى الجزيرة بلغة غير اللغة الحجازية ، فاحتفظوا بلغة الدين للدين ولم يمض عليهم زمن طويل حتى عم التفاهم بينهم وبين سائر العرب بلغة الحجاز وتهامة ونجد>> ، ويقطع العقاد <<هذه حقيقة تاريخية مسقطة لكل دعوى يتحذلق بها أدعياء العلم>>(16) .
هذا ما قاله الأستاذ العقاد . فأين ما فهمه د. القمني ..؟
لا شك في أن د. القمني لم يرد إجهاد عقله أو استنفار علمه بالمادة التاريخية وبمنهج البحث العلمي ليفهم قول عبد المطلب في حدود النقد الباطني الإيجابي ؛ لأن الفهم الجاد والعقلاني كان سيهدد تاريخية هذه النبوءة ، وسيهدد أسطورة الدولة التي اختلقها ، وهذا ما لم يقبله د. القمني وقبل – بقصد – اقتراف الحرام العلمي بالتقول على العقاد ، والتضحية بأول شروط البحث العلمي وهو <<الأمانة>>(17).
ولا شك – أيضًا – في أن د. القمني بكذبه قد أهدر – بتعمد – فرصة جيدة للاختلاف المنهجي مع قامة فكرية كالعقاد في رؤيته التي عبر عنها بقوله: <<إن معجزة الإسلام في جميع مقدماته ونتائجه ، أن هذه النتائج لم تكن قط منقادة مسخرة لتلك المقدمات>> ؛ وذلك ليثبت بالبرهان العقلي والدليل التاريخي تهافت رؤية العقاد <<السلفية>> ، وأيضًا ليثبت علمية وتنويرية رؤيته <<المادية>> .. لكنه – للأسف – تهرب من فرصة الاختلاف الجاد ، واكتفى بنزع جملة العقاد من نسيجها الدلالي وترقيعها بمعلومات خيالية تباين السياق <<العقادي>> لتناسب – بعد ترقيعها – السياق <<القمني>> المنفلت من كل المعايير العلمية والثوابت التاريخية .
والذي يحتاج إلى تأكيد – بعد ما سبق وقبل ما سيأتي – ، وحتى لا نخلط بين نقد د. القمني <<للرؤية الإستاتيكية للتراث التي لا تربطه بواقع ما .. وتعتبره شيئًا فضائيًّا جاء من فراغ>> واتهامه لأنصارها بالسقوط <<دون وعي في شباك التاريخ الإسرائيلي>>(18) ، وبين رؤيته المادية الجدلية التي انتهت به إلى <<شباك التاريخ الإسرائيلي>> نفسها وإلى كتابته لليهود نيابة عنهم (وتحت ضغط المادية الديالكتيكية) <<أمجد تاريخ>> بتهويده لمنابع الدين والدولة ، الذي يحتاج إلى تأكيد أن تهويد فكرة الدولـة (حكايات اليهود عن دولتهم الغابرة) وحل النبي الملك (أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيًّا مثل داود) في بداية كتابه <<الحزب الهاشمي>> وتحت عنوان <<تأسيس!>> لم يكن سقطة أيديولوجية سقطها د. القمني لنقول بإمكانية انحرافه عن رؤيته المادية وانزلاقه في فضاء وفراغ الرؤية الاستاتيكية (السلفية) للتراث، وإنما (التهويد) كان بقصد استبعاد – تمهيدًا لنفي – حدث <<الوحي>> (الغيبي)، وكبداية – تحتمها الأيديولوجية المادية – لجهلنة الإسلام بإرجــــاع فعل التوحيد (الديني في عقيدة والسياسي في دولة) إلى منابع جاهلية أو إلى أصل مادي ، والذي لابد أن يكون اقتصاديًّا لقول ماركس مع <<تغير الأساس الاقتصادي يحدث انقلاب في كل البناء الفوقي>>(19) ، ولأن الأساس الاقتصادي <<الجاهلي>> كان _ أساسًا بدائيًّا _ وبدويًّا لن يسعفه في أقصدة المثلث الإسلامي ، فكان لابد أن يقترف الحرام العلمي (التقول – التحريف) لينتقل إلى الحـــرام التاريخي – وتحديدًا – كان لابد من التهويد كمقدمة لأقصدة أسطورة الدولة .
وهنا ينقلنا – وننتقل مع – د.القمني من الدولة كفكرة يهودية إلى الدولة كحتمية اقتصادية .
* * *
يقول د. سيد القمني <<مع نهاية القرن السادس الميلادي نجد مكة تقف على الطريق مالكة لمركز رئاسي لا شك فيه ، بعد أن أتاحت لها الظروف الداخلية تجميع التجارة الخارجية في يدها، وأتاحت لها الظروف الخارجية أن تستغل الأوضاع العالميـــــــة لصالحها>> (ص18) .
فجدل السياسة الدولية ، وما تبعها من تغيرات هائلة على المستوى الاقتصادي – في رأي د. القمني – لعب <<دورًا خطيرًا لصالح عرب الجزيرة، وبخاصة في يثرب ومكة ، حيث أخذت أوضاع الخط التجاري تضطرب وتتقلب، مما أثر على بنية التركيب الاجتماعي في المدينتين ، وبخاصة مكة التي تطورت كمحطة مرور على طريق القوافل التجارية>> وبتطور مكة <<بدأت تضمحل في داخلها التركيبة القبلية، مع إفراز لمواقع سلطة ومؤسسات لم تكن موجودة من قبل ، وهو – عند القمني – إفراز طبيعي للاستقرار والملكية، وما يتبعه بالضرورة من صراع حول امتلاك وسائل الإنتاج ثم السلطة السياسية بعد أن اشتدت الحاجة إلى استقرار أمثل للقيام على شئون هذا العمل التجاري ، وتقسيم الأدوار حول هذا العمل ، ثم الحاجة إلى حراسة وحماية القوافل التجارية التي أصبحت تجارة المكيين أنفسهم وأموالهم هم ، وتوفير جو من الأمن العام وما يترتب على ذلك من ضرورة إنشاء جيش منظم للقيام بالأمر>> (ص26) ، وكانت <<طبقة العبيد>> أهم عناصر وركائز الجيش المكي .
ولمزيد من الاستقرار والملكية والحماية <<حتمت مصالح القرشيين التجارية عليهم اليقظة والاهتمام بما يجري حول جزيرتهم من أحداث ، لتأثير هذه الأحداث المباشر على ما بأيديهم ، وكان هذا الوعي دافعًا لنزعة قوية من التسامح الديني ، ولنضوج ميزهم عمن حولهم من أعراب فاستضافوا في كعبتهم المكية الأرباب المرتحلة برفقة أصحابها التجار. وقاموا بتبني هذه الأرباب تدريجيًّا، فكان أن تركها أصحابها في كعبة مكة ليعودوها في مواسمها ، فكثرت المواسم المكية بالاحتفالات الدينية بالأرباب المختلفة، وكثر أيضًا الخير والبركة من التجـارة>> (ص27) .
وبتطور <<المجتمع المكي من مجتمع يعيش ديمقراطية ومساواة بدائية إلى مجتمع متمايز طبقيًّا>> (ص26) ، فكان تركز الثروة بيد أفراد دون آخرين داخل القبيلة (المكية) دافعًا لتناقض الشكل القبلي والمحتوى الطبقي ، وكان مفترضًا وصول التناقض لمرحلة التفجر لصالح المحتوى الطبقي الساعي – تحت الضغط الاقتصادي – نحو التوحيد السياسي للقبائل ؛ ليواكب ويناسب توحد مصالح الأرستقراطية التي تجاوزت حدود القبيلة، واتسعت لتمسك بعنان تجارة العالم . ولكن كان ما وضح لدى أي باحث _ في رأي د. القمني – أن <<التفرق العقائدي وتعدد العبادات والأرباب قد ساعد بفعالية في زيادة الفرقة القبلية ؛ بحيث أصبح (تعدد الأرباب) عائقًا دائمًا ومستمرًّا في سبيل المحاولات التي قامت من أجل خلق كيانات سياســــــية في جزيرة العرب>> (ص24) .
باكتشاف هذا <<العائق الدائم والمستمر>> الذي أجهض محاولات تكوين كيانات سياسية موحدة في جزيرة العرب . فقد ذهب د. القمني _ لإزالة العائق _ إلى القول بأن القرشيين أخذوا <<الضوء الأخضر للقيام بالدور التاريخي الذي حتمته الظروف عليهم>> ((ص28) ؛ وذلك بتوحيد الأرباب في إلـه – كحل وحيد – لتوحيد القبائل في دولة .
هذا – في كتاب <<الحزب الهاشمي>>- بعض ما حدث في مكة ولمكة <<مع نهاية القرن السادس الميلادي>> (وقبيل الإسلام) قد التزمنا في نقله بحرفية أقوال د. القمني الذي استهدف منها <<أقصدة>> فكرة الدولة بتطعيم سياق تحليله بوقائع مشكوك في تزمينها ؛ وذلك ليوتر بها <<دراما>> صعود النجم المكي ، وليصل إلى قانونه الأخطر الذي يواصل به – ليس دعم أسطورة الدولة فقط وإنما – سحب الدين من السماء إلى الأرض ، ومن القرآن (الذي سيتم جهلنته) إلى الاقتصاد الذي يفرز – في حدود تطوره – التصور الإنساني لله فيقول د. القمني: <<عندما كان المجتمع في الابتداء مشاعًا كان أرباب السماء في متعة الشيوع تمرح، وعندما تحول المجتمع الأرضي إلى مشتركات ترأسها مجامع ديمقراطية بدائية أصبح للآلهة ذات المجامع. وعندما تم تقسيم العمل على الأرض ، تحول مجتمع السماء إلى آلهة شغيله وآلهة للتفكير والتدبير . وعندما تمكن الإنسان من الابتكار وصنع الجديد، تمكنت آلهة السماء من الخلق والتكوين>>(20) ، كذلك فبفعل التطور الاقتصادي تمايز المجتمع طبقيًّا ونحت شريحته الارستقراطية نحو التوحد المصلحي الذي احتاج أدلجة أفرزت اعتقادًا في إله واحد يرعى تلك المصالح ويوحد القبائل في دولة .
ولأنه – في حدود علمنا المتواضع – لم يقل أي باحث عربي أو غربي بتسبب تعدد أرباب جزيرة العرب في تفرق قبائلها ، ولأن د. القمني نفى تفرده باكتشاف هذا السبب، وقدمه بقوله : <<واضح لدى أي باحث>> مما يعني بديهية هذا السبب . ولأن د. القمني علمنا أن <<البحث العلمي ليس نوعًا من الإبداع الإلهامي ، والباحث العلمي لا يكتب إنشاءً قلقشنديًّا>>(21) ، فكان ينتظر منه توثيق هذا السبب حتى لا تشوب قوله -اليقيني- شائبة القلقشندية، وحتى يضمن دخول القارئ تحت مظلة الإجماع والتسليم له بقانونية ارتباط تفرق القبائل بتعدد الأرباب ، وارتباط تعدد الأرباب وتوحيدها بالوضع الاقتصادي . أو حتى يوفر لنا فرصة جادة لإمكانية اختلاف جيد على أرضية محترمة علميًّا .
والمشكلة – في رأيي – ليست في ارتباط تفرق قبائل الجزيرة بتعدد أربابها، أو حتى في ارتباط تعدد الأرباب وتوحيدها بالوضع الاقتصادي ، فهذا يمكن – بدراسته – الوصول فيه إلى رأي ، فالمشكلة كلها ليست في المختلف فيه أو عليه . وإنما المشكلة في المختلف معه ، في د. القمني نفسه الذي لم يتفق مع نفسه على <<تزمين>> واحد للوقائع التاريخية ، ولم يتفق مع نفسه على نتيجة واحدة يستخلصها من هذه الوقائع (المقدمات) . وعدم اتفاقه مع نفسه لا يتيح لنا فرصة الاختلاف معه ؛ لأنه لا يتيح لنا فرصة الإمساك به متلبسًا برأي واحد ، سواء في تزمين الوقائع أو في الاستنتاج منها .
هنا – وقبل أن تشغلنا النتيجة <<الواضحة لدى أي باحث>> – نتوقف مع مشكلة تزمينه للوقائع التاريخية التي طعم بها تحليله السابق . والتي طرحها كمقدمات تؤهل القارئ لتلقي النتيجة . ولخشية الإطالة سنكتفي بتزمينه لواقعتي إنشاء جيش مكة واستضافة الأرباب في كعبتها .
حدد القمني – في الفقرات السابقة- تاريخ إنشاء الجيش واستضافة الأرباب بـ<< نهاية القرن السادس الميلادي>>، ففي هذا التاريخ تحولت مكة من كونها مجرد محطة على طريق القوافل التجارية إلى مركز تجاري تنطلق منه القوافل المكية إلى الممالك الأخرى . وترتب على هذا التحول <<ضرورة إنشاء جيش منظم>> لـ <<حراسة وحماية قوافل التجارة التي أصبحت تجارة المكيين أنفسهم وأموالهم هم>> ولمزيد من الحماية والتجارة <<استضافوا في كعبتهم المكية الأرباب المرتحلة>> .
هذا ما قالــــــــــه في الفصل الرابع (ص26، 27) للتدليل على الإفراز الاقتصادي <<لمواقع سلطة ومؤسسات لم تكن موجودة من قبل>> ، والمدهش أنه بعد سبع صفحات فقط وفي الفصل التالي مباشرة أعاد تاريخ إنشاء الجيش واستضافة الأرباب من <<نهاية القرن السادس>> إلى <<منتصف القرن الخامس>> ومن تشكيلة (اجتماعية – اقتصادية) إلى تشكيلة أخرى مختلفة في التاريخ وفي درجة التطور .
ففي رأيه أن مكة في عهد قصي بن كلاب (ولد سنة 400م) كانت <<محطة مرور على طريق القوافل>> ولوعي قصي الأمني <<كان الإفراز الأخطر لجدل الأحداث>> في عهده هو <<بناء جيش قوي يمكنه من الوفاء للملوك بالعهود وتأمين التجارة>> (ص35) ، وأن قصي <<طوّر في خططه لرفع شأن دولته المكية عن طريق الكعبة واستضافتها أرباب القبائل الأخرى>> (ص33).
بعد رصدنا لهذا المستوى من التزمين، ولنمسك – أكثر – بعصب الحالة القمنية نلجأ إلى المراجع التي اعتمد عليها د. القمني في بحثه لنراجع هذه الوقائع في لحظتها التاريخية ، وبإجمال شديد نقول:
* عن جيش مكة : أجمعت المراجع على أن قصي بن كلاب (في منتصف القرن الخامس) كان يتولى لواء جيشه المكي، وبعد موته تولاه ابنه عبد الدار <<وتوارث بنو عبد الدار اللواء فلا يعقد لقريش لواء حرب إلا هم>>(22) ، حتي فتح مكة في عهد الرسول سنة 630م.
* عن استضافة مكة لأرباب القبائل الأخرى في كعبتها ، فالمعلومات المتوفرة لا تشير إلى حدوث هذه الاستضافة، سواء في نهاية القرن السادس (بعد أن أصبحت التجارة تجارة مكية) أو في منتصف القرن الخامس (أثناء كون مكة مجرد محطة – استراحة – على الطريق التجاري) ، والذي قالت به المراجع التراثية أن الاستضافة تمت في زمن ولاية قبيلة خزاعة للكعبة التي استمرت <<ثلاثمائة سنة وقيل خمسمائة>>(23) ، أي في حدود القرن الأول أو الثاني الميلادي، والذي قام بالاستضافة من الخزاعيين هو عمرو بن لحي ، فيقول المسعودي: <<أكثر عمرو بن لحي من نصب الأصنـام (الأرباب) حول الكعبة>>(24) ، وأكد ابن كثير هذا القول بقوله : << أن مكة – في عهد قصي – تسلمت بيتهم العتيق بما أحدثت خزاعة من عبادة الأصنام ونصبها إياها حول الكعبة>>(25) ، وبهذا الرأي أخذت الدراسات الحديثة فيقول د. أحمد إبراهيم الشريف أن عمرو بن لحي عمل على <<جلب الأصنام من الجهات الأخرى وإقامتها حول الكعبة حتي يرغّب القبائل العربية – وبخاصة قبائل الشمال – في الحج إلى بيت مكة للتقريب لأصنامها>>(26) .
في ضوء هذه المعلومات نستطيع رؤية تزمين د. القمني -المتناقض- لواقعتي إنشاء الجيش المكي واستضافة الأرباب حول الكعبة على أنه تزمين لم يستهدف ربط الوقائع التاريخية بواقعها الموضوعي بقدر ما استهدف ترقيع ذلك الواقع بوقائع منتزعة من زمانها البعيد مئات السنين . وذلك لاستنطاق اللحظة التطورية البدوية (قبيل الإسلام) بأن ما كان في العهد النبوي كان بفعل نطفة الاقتصاد في رحم المجتمع المكي في العهد الجــاهلي الذي كان لابـد – في تحليل د. القمني – أن يصــل إلى لحظة المخاض (الصراع الطبقي) ، ليصل إلى حل التوحيد الديني والسياسي .
والمثير في أمر د. القمني أنه – بجانب إشكالية التزمين – قدم مبادرة الاستضافة المكية لأرباب القبائل الأخرى بتأكيده على وجود <<نزعة قوية من التسامح الديني>> لدى المكيين ، وختمها بقوله إنهم <<قاموا بتبني هذه الأرباب تدريجيًّا>> ، وفي دراسة أخرى يقدم فهمه للتسامح الديني ولليبرالية التعامل المكي مع تعدد الأرباب كقـاعدة << سنًّها ملأ (ســادة) قريش وقعّدها الأســــلاف منذ قصـي بن كلاب في حرية الاعتقاد>>(27) ، وفي ضوء هذا <<التسامح الديني>> و<<حرية الاعتقاد>> كان يجب أن يتحول تعدد الأرباب من عامل <<تفريق>> للقبائل إلى عامل <<تجميع>> يفتح الباب لتوحيد سياسي لا يشترط أن يكون على جثة الأرباب المحتفى بهم في كعبة مكة .
ولكن، ولأنه لا يريد سوى <<جهلنة الإسلام>> فقد تجاهل فهمه للتسامح الديني ولحرية الاعتقاد ، ولجأ إلى فانتازيا <<الأقصدة>> ليتسق مع ماركسيته المادية، وليصل من <<حرية الاعتقاد>> و <<تبني الأرباب>> إلى لحظة توتر <<عقده>> في السياق الدرامي تبرر له إعطاء <<الضوء الأخضر>> للقرشيين للتعامل الثوري الانقلابي مع أو ضد <<التفرق العقائدي وتعدد العبادات والأرباب>>، لأنه <<ساعد بفعالية في زيادة الفرقة القبلية>> .
ولأنها لحظة مفصلية في السياق الدرامي كنا نود أن يخبرنا د. القمني ببعض مظاهر تسبب <<تعدد الأرباب>> في <<الفرقة القبلية>> لعلنا نفكر بجدية في حتمية <<توحيد الأرباب>> كشرط – أو كوسيلة – لإتمام <<توحيد القبائل>> لكنه – للأسف – ضن علينا بما كنا نوده . وربما ضنت عليه مراجعه بما كان يتلهف عليه، ولأن هذه الـ<<ربما>> احتمالية ونحن نبحث عن حقيقة نبني عليها موقفنا من هذه الجزئية الخطيرة والتى بالاتفاق أو بالاختلاف معه فيها سيتحدد الموقف من نتيجة الدولة (والدين) كحتمية اقتصادية .
لكن _ وكما قلت _ فالدكتور القمني لا يتيح لنا فرصة الاختلاف أو حتى الاتفاق الجاد والجيد معه ، الفرصة <<الوحيدة>> التي يمنحنا إياها هي فرصة <<الاختيار>> من بين نتائجه المتناقضة ، فهو في دراسته <<الحزب الهاشمي>> التي نشرها مقالاً في مجلة <<مصرية>> (العدد التاسع – أكتوبر 1986م ص8) ونشرها في كتاب (الطبعة الأولى 1990م ص24 – الطبعة الرابعة 1996م ص66) يتبنى الرأي السابق والقائل بتسبب تعدد الأرباب في تفرق قبائل جزيرة العرب ، ويبني على هذا السبب حتمية توحيد الأرباب لتوحيد القبائل في كيان سياسي <<دولة>> .. وفي دراسته المعنونة بـ <<هل بنى الفراعنة الكعبة؟>> المنشورة في مجلة القاهرة (15 مارس 1988م ص8) والتي أعاد نشرها في كتابه <<رب الزمان>> (طبعة أولى 1996م ص69) يذهب إلى عكس هذا الرأي تمامًا .
فعند ما رأى د. سيدكريم( عالم المصريات ) أن التفرق العقائدى وتعدد الآلهة (الأرباب) لدى المصريين مثلبة ونقيصــة تعيب الحضارة المصرية فأراد – كغيره من علماء المصرلوجيا – أن ينزهها عن نقيصة التفرق والتعدد وأن يثبت توحيدها لله ، رد عليه د. القمني بأن التفرق العقائدي وتعدد الآلهة في مصر الفرعونية <<كان أمرًا طبيعيًّا سواء كان آلهة بالمئات ، أم تثليثًا أو تتسيعًا ، أم تسبيعًا كما حدث لدى الرافدين من قدامى الساميين ، ولم يكن له (لتعدد الأرباب) أثر مباشر في تخلف اجتماعي أو حضاري. بل كانت مصر رائدة في كافة الميادين العلمية>> ، ومضى د. القمني – في رده – يعمم هذا الرأى كقانــون إنساني تاريخي فيقول : لعل د. كريم <<يعلم أن العالم المتقدم اليوم _ سواء في الغرب الذي يعتقد بالتثليث ، أو في الشرق الذي يدين بالاشتراكية العلمية – يسمى العالم المتقدم لإنجازاته في العلوم الدنيوية، ولو قسناه بمنطق د. كريم لكان أشد تخلفًا أو يصـــبح عليه (على د. كريم) إثبات أن الأمريكان والسوفيت موحدين (لله) وهو أمر لا شك عسير>>.
وبالفعل لا شك في عسر إثبات توحيد الأمريكان والسوفيت لله . وعليه فلابد من تصديق قول د. القمني – في رده على د. كريم – أن تعدد الآلهة في مصر الفرعونية وأن التثليث في أمريكا الحديثة <<لم يكن له أثر مباشر في تخلف اجتماعي أو حضاري>> وبالتالي فلابد أن نذهب – بعقولنا – إلى أن توحيد أقاليم مصر وولايات أمريكا في كيانين سياسيين لم يشترط – إطلاقًا – توحيد الآلهة في إله .
والسؤال المنطقي الذي يفرض نفسه في هذا الموضع هو : لماذا تعدد الأرباب كان العائق الدائم والمستمر في سبيل توحيد جزيرة العرب وبالذات قبيل الإسلام ؟ ولأنه مع <<تغير الأساس الاقتصادي يحدث انقلاب في كل البناء الفوقي (الديني – السياسي) – كما يقول ماركس – فهل إذا قسنا الاقتصاد الإمبراطوري في مصر والعراق – قديمًا – وفي أمريكا والسوفيت – حديثًا – بالاقتصاد المكي (في الزمن الجاهلي) سيكون الاقتصاد الإمبراطوري متخلفًا، لأنه لم يوحد آلهة هذه الدول كمقدمة لازمة لتوحيد أقاليمها وولاياتها في دولة. أم أن التوحيد الديني للأرباب في إله ابن التخلف الاقتصادي والحضاري . إذا قلنا بالحقيقة التاريخية أن جزيرة العرب بكل المقاييس (الاقتصادية – الحضارية – السياسية) كانت متخلفة عن إمبراطوريات مصر والعراق وأمريكا والسوفيت؟
وأخيرًا : ما يبدو لنا الآن أن تحليل د. القمني في كتابه <<الحزب الهاشمي>> يذهب بنصوصه ودلالاته إلى منطقة شائكة اضطرته إلى خلـــــــط الأوراق – وهو عالم بما يفعل – تحقيقًا لهدف مقصود هو فرض أسطورة الدولة وحل النبي الملك – في البداية – كغاية عربية استلهمت من التراث اليهودي وحتمها الاقتصاد المكي ؛ ليدور عقل القارئ في الطريق المرسوم له أن الدولة والرسول والدين آليات توسل بها <<الحزب الهاشمي>> في صراعه مع <<الحزب الأموي>> .
وهذا ينقلنا – بقوة – إلى خطة <<الحزب الهاشمي>> الفريدة لمحاولة التعرف على حقيقتها .
* * *
_3_
انتهى أهل التاريخ الذين خبروا مراجع التاريخ العربي الذي يفصل بين زمن حدوث وقائعه وتدوين رواياته مئآت السنين ، انتهوا إلى وجوب <<دراسة الروايات(التراثية) على حذر . والتفتيش – على قدر الإمكان – عن روايات متعددة>> وذلك <<للمقارنة والمقابلة>>(28) ، ولعدم وجود المنبع القديم المكتوب والمعاصر للوقائع الجاهلية اتفقوا على أنه لا يسع الباحث إلا أن يقرأ هذه الروايات بتحفظ شديد و <<أن يتردد كثيرًا في أخذها كحقائق تاريخية أو حتى كروايات موثوق منها>>(29) .
ولكن د. القمني تجاهل هذه الخبرة التي نظنها أصبحت ملزمة للباحثين في التاريخ العربي ، وللمتعاملين مع مراجعه. وتعامل مع الروايات التراثية عن الصراع الهاشمي – الأموي <<كروايات موثوق منها>> و <<كمعطى جاهز له>> لا يحتاج منه إعمال أدوات البحث العلمي في هذه الروايات لتدقيقها وتنقيتها من الخطأ الذي – حتمًا – سيهدد نتائجه بعدم الدقة . وأيضًا تعامل مع الصراع الهاشمي – الأموي (نفسه) كحقيقة تاريخية لا يجوز اختبارها بالشك فيها ، فلم يؤرقه – علميًّا – سكوت ابن إسحاق وابن هشام وابن سيد الناس وابن كثير عن ذكر هذا الصراع في مؤلفاتهم التي صنفت ككتب <<أصول>> في التاريخ العربي . ولم يشر – مجرد إشارة – إلى شك <<أهل التاريخ>> وتشكيكهم (مثل : د. أحمد إبراهيم الشريف في كتابه <<مكة والمدينة في الجــاهلية وعهد الرسول>> ص145، ود. حسين مؤنس في مقدمة تحقيقه لكتاب المقريزي <<النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم (ص61) في تاريخية هذا الصراع . والخطير في أمر د. القمني أن حاسته البحثية والنقدية لم يستفزها تناقض من قالوا بتاريخية الصراع بين هاشم بن عبد مناف وأمية ابن عبد شمس بن عبد مناف . فقد أكدوا <<أن هاشمًا وعبدشمس توأمان>> ، وفي ذات الصفحات أكدوا أنه <<كان لهاشم يوم مــات خمـس وعشرون سنة>>(30)، وبالتالي لم يسأل <<إذا كان عبد شمس (والد أمية) توأم هاشم فكم تكون سن أمية حين صارع عمه ؟.
ولأن د. القمني تجاهل كل ما سبق ، لأن كل ما سبق كان سيعقلن روايته للصراع الذي انتقاه من بين <<ألف وسبعمائة حرب>> وصراع(31) ؛ ليكون شرارة البدء لتحريك المجتمع المكي على جسر الدين (الوسيلة) نحو الدولة (الغاية) . فنحن قبل أن تستوقفنا تفاصيل الخطة الهاشمية. نرى أهمية تقديم حديثنا عن الخطة ببعض الملاحظات السريعة على رواية د. القمني لوقائع الصراع. وهي ملاحظات أحسبها قادرة على وضع أيدينا على حقيقة الصراع الذي أرجع مقدماته إلى زمن قصي بن كلاب.
يقول د. القمني باستيلاء قصي على السلطة بعد تحرير مكة من الخزاعيين <<استطاع أن يجمع بين يديه كل الوظائف الرئيسية والدينية والتشريعية ، فكان أول سيد مطلق النفوذ في دولته الصغيرة مكة>> (ص35) ، و <<إيمانًا منه بفردية الحكم المطلق ، وحتى لا تتفرق مكاسبه وتتناثر ، ترك قصي بن كلاب كل سلطاته ووظائفه وسنته الذكية لولــده البــكر عبــد الدار دون أخيه عبد مناف ورحل إلى عالم الأسلاف بعد أن أسس لقريش دولتها الواحدة في مكة . ولكن قصي ما كان يعلم أن الحقد سيتملك قلب عبد مناف على ملك عبد الدار وما حظي به من تشريف>> (ص37) ، ونتوقف قليلاً مع هذه المقدمات .
أولاً : ذكر القمني <<عبد مناف>> فقط في قرار الحرمان من وظائف وسلطات قصي، وتناسى ذكر <<عبد شمس>> و<<عبد>> ابنى قصي. وكأن قصي منحهما من سلطاته ومكاسبه ما جعل د. القمني يخص عبد مناف بالحرمان من سلطات والده وبالحقد على أخيه عبد الدار .
ثانيًا : نقل د. القمني عن كتاب <<البداية والنهاية>> ما يوثق به قوله السابق ، ولم ينس التدخل في رواية ابن كثير للخبر ، بحذف سبب منح قصي كل سلطاته ووظائفه لولده البكر عبد الدار دون إخوته . لأن د. القمني رأى في ذكر السبب التاريخي إفسادًا لخطة تصعيد الصراع .
يقول ابن كثير: <<لما كبر قصي فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه من رئاسات قريش وشرفها من الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة إلى ابنه البكر عبد الدار ، وكان أكبر ولده، وإنما خصه بها كلها لأن بقية إخوته عبد مناف وعبد شمس وعبدًا كانوا قد شرفوا في زمن أبيهم وبلغوا في قومهم شرفًا كبيرًا ، فأحب قصي أن يلحق بهم عبدالدار في السؤود ، فخصصه بذلك . فكان إخوته لا ينازعونه في ذلك . فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم>>(32) ، وراجع <<الحـــــــــزب الهاشمي>> الطبعة الأولى ((ص37) والطبعة الرابعة (ص89) .
ثالثًا : أخفى د. القمني رضاء الأخوة الثلاثة أبناء قصي بحكم أبيهم بتوريث أخيهم عبد الدار سلطاته ووظائفه ، فبجانب ما ذكرناه من قول ابن كثير <<كان إخوته لا ينازعونه في ذلك>> يقول ابن هشام : << أقــامت على ذلك (الإرث) قريش معهم (أبناء قصي) ليس بينهم اختلاف ولا تنازع>>(33) .
بعد هذه الوقفة السريعة مع مقدمات (جذور) الصراع نواصل المضي مع رواية د. القمني لدراما الصراع ، يقول: <<قام أبناء العمومة يستعدون القبائل على بعضهم ، وتجمع بنو عبد مناف مع مؤيديهم في حلف المطيبين . فرد عليهم بنو عبد الدار بحلف الأحلاف ، وتجمع الفريقان للقتال من أجل السيادة على مكة>> (ص37) .
وبانتزاع أبناء عبد مناف ألوية الشرف (السقاية – الرفادة) من بني عبد الــــدار انتــهى الصــراع – وفي رأي د. القمني .. ولد صراع جديد داخل بيت عبد مناف ، لأن السقاية والرفادة <<استقرت في يد هاشم بن عبد مناف دون بقية إخوته ، لذا فما أن رحل عبد شمس عن الدنيا حتى ساورت ولده أمية الأطماع في أخذ ما بيد عمه (هاشم) من ألوية الشرف بالقوة>> (ص39) ، ويكمل <<وكادت الحرب تقطع صلات الرحم وتهدر الدم الموصول ، ومرة أخرى تفادى القوم الكارثة ، فرضوا بالاحتكام إلى كاهن خزاعى ، فقضى الكاهن بنفي أمية بن عبد شمس عشر سنوات>> (ص39) .
هذه هي رواية د. القمني لأصل الصراع الهاشمي – الأموي ، ومرة أخرى نتوقف مع وقائع الرواية القمنية لنتفادى الكارثة العلمية ونرضى بالاحتكام إلى العقل والوثيقة .
أولاً : أخفى د. القمني سبب استقرار الألوية في يد هاشم بن عبدمناف دون شقيقه وتوأمه عبد شمس. قال ابن هشام عن سبب زهد عبدشمس (والد أمية) في اقتسام ألوية الشرف: إنه كان <<رجلاً سفارًا قلما يقيم بمكة . وكان مقلاًّ (فقيرًا) ذا ولد ، وكان هاشم موسرًا>>(34) .
ثانيًا : أخطأ في قوله : <<فما إن رحل عبد شمس عن الدنيا حتى ساورت ولده أمية الأطماع في أخذ ما بيد عمه>> ولنمسك بخطأ د. القمني نتعرف من ابن كثير والطبري على ترتيب موت الأخوة الأربعة أبناء عبد مناف <<كان أول بني عبد مناف هلكًا (موتًا) هاشمًا بغزة من أرض الشام ، ثم عبد شمس بمكة ، ثم المطلب بردمان من أرض اليمن ، ثم نوفلاً بسلمان من ناحية العراق>>(35) . ومن هذا ا لترتيب نخرج بأن هاشمًا مات في حياة عبدشمس وزهد عبد شمس أيضًا في ألوية الشرف ، وحل محله شقيقه الأصغر <<المطلب>> ولم يصلنا نص تاريخي يوحى بغضب – ولن نقول بثورة – عبد شمس على أخيه هاشم أو المطلب .
والسؤال الذي يفرض نفسه ! لماذا أمات (د. القمني) عبد شمس قبل هاشم؟ والثابت تاريخيًّا أنه مات بعده .. ولماذا جعل ثورة أمية بن عبد شمس على عمه هاشم بعد رحيل والده عن الدنيا..؟ والثابت أن ثورة أمية كانت في حياة والده . والحكم بطرده من مكة صدر في حياة والده أيضًا . ولم يخرج الأب عن الإجماع المكي بطرد ولده أمية (هذا إذا قلنا – فرضًا – بحقيقية الصراع) .
ثالثًا : لم يكتف د. القمني بما سبق – رغم شذوذه – لكنه تعمد الوصول بالشذوذ العلمي والمعلوماتي إلى منتهاه، فهجم على عقولنا <<البسيطة>> شاهرًا معلومة جديدة <<تنويرية>> يقول فيها <<يتضح لنا وعي عبدالمطلب السياسي وبعد نظره وحسه القومي في قيادته وفدًا إلى اليمن برفقة ابن أخيه أمية ، قبل النزاع المشار إليه>>(ص45) .
وشذوذ هذه المعلومة <<التنويرية>> لا يكمن فقط في حديثها عن الحس القومي.. وإنما يكمن في نسفها لكل ما قاله د. القمني عن صراع هاشم وأمية ، وتأكيدها أن هذا الصراع وقعت وقائعه <<بعد>> رحلة عبد المطلب <<برفقة ابن أخيه أمية>> .
فالثابت أن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف ليس <<عم>> أمية بن عبد شمس بن عبد منـــاف . لأن عبد شمس (والد أمية) <<شقيق وتوأم>> هاشم (والد عبد المطلب) ولم يكن – في التاريخ – ولن يكون – في العقل والمنطق – عبدالمطلب شقيقًا لعبد شمس ليكون <<عمًّا>> لأمية ؛ لأننا لو قلنا بهذا الشذوذ <<التنويري>> لوجب علينا ليس فقط إسقاط وقائع الصراع بين هاشم وأمية من (ص 39) من كتاب د.القمني، وإنما لوجب إسقاط شخصية هاشم من التاريخ ليحل محله ابنه عبدالمطلب في عمومته لأمية، ولينتقل نزاع وصراع وثورة أمية من زمن هاشم ليوضع في زمن عبد المطلب ، وليكون مع وضد عبد المطلب و<<بعد>> الرحلة <<القومية>> إلى اليمن .
أمام هذا المستوى من الكتابة الشاذة والموصوفة – زورًا – بأنها محاولة لإعادة <<قراءة ذلك التاريخ قراءة أخرى تربط النص بالواقع . وتعيد النتائج إلى مقدماتها وأصولها الحقيقية لا الوهمية من أجل تشكيل بنية العقل ومنهجه>>(36)، أتفق تمامًا مع د. القمني على أن قراءته لذلك الصراع <<قراءة أخرى>> ولكن في خروجها عن وعلى <<العقل والمنهج>> واستهدافها تشويه <<بنية العقل>> بهذه المعلومات <<القلقشندية>> ، وكل ذلك ليتلقى القارئ باستسلام – وبدون قلق السؤال – <<الخطة الهاشمية>> التي وضعها ونفذها <<البيت (الحزب) الهاشمي>> وللدقة التي اختلقها د. القمني .
وحتى لا نستهلك المساحة في كشف الأخطاء الطلابية الكثيرة ندخل مباشرة إلى <<الخـــطة>> التي أراد القمني – بشذوذه – أن يوصلنا إليها ، وبوصولنا إليها نتعرف – أولاً – على ملامحها كما أراد القمني أن نراها .
مهد القمني لحديثه عن <<الخطة الهاشمية>> (بجانب ما سبق) بتقعيد قاعدة أن الدور التاريخي لمكة منذ قصي بن كلاب (مؤسس دولة مكة في منتصف القرن الخامس الميلادي – والجد الرابع للرسول) <<قد تم وفق خطة مرسومة مدروسة منظمة قامت على أساس من وعي سياسي نافذ هادف نحو غاية وسائلها الدين (…) والمال>> (ص35) .
ولأن قصي توسل بالدين الوثني <<لرفع شأن دولته المكية>> (ص33) ، والمطلوب حسب ظروف بداية القرن السابع الميلادي أن يكون التوسل بدين توحيدي لإنشاء دولة عربية موحدة، فقد ابتدأ د. القمني قراءته لحركة الدور المكي في التاريخ بتحديد الغاية الهاشمية ونسب إعلانها إلى عبد المطلب (حفيد قصي _ والجد الأول للرسول) <<إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء>> وأشار – للتحديد – إلى <<أبنائه وحفدته>> (ص9) – وابتكر ما أسماه بـ<<الحزب الهاشمي>> لتحريك الغاية والخطة المرسومة والمدروسة والمنظمة في الواقع الجاهلي ولتخليق <<وسيلة>> الدين.
و<<الحزب الهاشمي>> وجُدَ كنتيجة للصــراع الأخــوي بين أبناء قصي <<عبد منــــــاف مع شقيقه عبد الدار>> (ص37) ، وتوارثه الأبناء والأحفاد <<أمية مع عمه هاشم>> (ص39) ، إلا أن الحزب في بداياته لم يكن فاعلاً بشكل جذري ؛ لأنه – في أهدافه – كان ملتزمًا بخط قصي (الجد) ويدور في دائرته الوثنية ؛ لذلك كان الصراع يحل سلميًّا <<حرصًا على المصالح التجارية وما سبق وحققــه قصي من هيبة لقريش>> ((ص38) .
وبتولي عبد المطلب بن هاشم أمر <<الحزب الهاشمي>> بعد موت عمه <<المطلب>> الذي <<رحل تاركًا استكمـال المهمة الجليلة لعبد المطلب>> ((ص43)، فقد نقل الصراع مع أبناء عمومته <<البيت الأموي>> من المناوشات المحدودة إلى المواجهة الشاملة ، وبتعبير د. القمني <<من التكتيك إلى الأيديولوجيا>> (ص42) ، واستكمالاً للمهمة الجليلة أو للخطة المرسومة بدأ عبد المطلب <<في وضع أيديولوجيا متكاملــــــــــة لتحقيق أهداف حزبه>> (ص45) ، ارتكزت على ، وأدت إلى :
أولاً : تحديد الداء ووصف الدواء <<والداء (المكي – العربي) فرقة قبلية عشائرية ، والأسباب تعدد الأرباب وتماثيل الشفعاء>> وتوصله إلى أن الدواء من داء <<الفرقة القبلية>> يكمن في إزالة أسبابه <<تعدد الأرباب>> ، فَهْمٌ يجمع القلوب عند إله واحد>>(ص46)، و<<انطلق عبد المطلب يؤسس دينًا جديدًا>>(37) كخطوة أولى في اتجاه الدولة.
ثانيًا : ملء المساحة الفاصلة بين نقطة الوســــيلة ( الدين ) ونقطة الغاية (الدولة) بحركة جماهيرية تكون بمثابة الجناح الديني للحزب الهاشمي . وبالفعل – في رأي د. القمني – <<فقد أتت مخططات عبد المطلب أثمارها واتبعه كثيرون>>(38) ، كونوا حركة الحنفاء <<حتى شكلوا تيارًا قويًّا خاصة قبل ظهور الإسلام بفترة وجيزة>> (ص54) ، وكان عبد المطلب هو <<أستاذ الحنيفية الأول>> و<<الرجل الأول>> في حركة الحنفاء (ص63) .
ثالثًا : ليبقى أمر التنفيذ – كما في أمر التخطيط – محصورًا في البيت الهاشمي ولتوصله – مع غيره – إلى <<أنه لا حل (للفرقة القبلية) سوى أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيًّا مثل داود>> ولعلم <<عبد المطلب اليقيني المسبق بأن حفيده محمد هو نبي الأمة>> (ص49) ، فقد سعى (تنفيذًا لقول الحبر اليهودي) لتحقيق هذا <<اليقين>> على أرض الواقع بالزواج من بني زهرة ؛ لأن فيهم <<الملك والنبوة>> (ص52) .
بوضعه لهذه الأيديولوجية استطاع عبد المطلب <<ذاك العبقري الفذ>> أن يغير – بجذرية – الواقع العربي الجاهلي، وأن يؤثر – بعمق – في <<كل>> المستقبل الإنساني بدوره التأسيسي للدين (الحنيفية – الإسلام) وللدولة (العربية – الإسلامية) ولنبوة حفيده (محمد) .
و د. القمني بتخيله وتخييله لعبد المطلب بهذا الدور الفريد والذي يحسر ويحصر دور حفيده في دائرة التنفيذ المحدودة والمحددة بما أسسه <<الجد>> ، يدفعنا أولاً : إلى الإقرار بحقه الكامل في السؤال والبحث وأن يجرد (في إجابته) الحفيد (محمد) من الهالة التي تخيلها السلف – بمثالية – وصدقها الخلف – بتقليدية – وأن يعيد كل ما ظنناه محمديًّا أو إسلاميًّا إلى الجد – عبد المطلب -. ويدفعنا ثانيًا: وقبل أن ننحاز مع أو ضد ما تخيله د. القمني وخيّله في كتابه ، أن نتريث قليلاً وأن نفكر بعقل في نقطتين جوهريتين أظنهما ستمكنا من الإمساك بحقيقة ما تخيله د. القمني . وهل ما تخيله هو فعلاً <<اقتحام جريء وفذ لإنارة منطقة حرص من سبقوه على أن تظل معتمة>>(39) ، أم هو اقتحام ماركسي متهور لإظلام منطقة حرص من سبقوه على أن تظل منيرة؛ لأنها إيماننا (العقلي والقلبي) ، وسلاحنا الوحيد والرادع لتتار العولمة ..؟
النقطة الأولى : عن دور عبد المطلب التأسيسي للدين ، لأنه في حدود علمنا أن تــراث البيت الهاشمي ، أو ما أسماه د. القمني بـ <<الحزب الهاشمي>> يخلو من الثورة العقيدية ومن الأفكار الانقلابية والمضادة للتعــددية الوثنية لالتزام البيت (الحزب) بسنة الجد قصي الذي <<أقر للعرب ما كانوا عليه (من وثنية) وذلك أنه كان يراه (التعدد الوثني) دينًا في نفسه لا ينبغي تغييره>>(40) ، وأن <<الأيديولوجية الهاشمية>> ترتكز وتنطلق من <<ملة عبد المطلب>> كأساس ، ولأن عبد المطلب – في كتاب د. القمني – لم ينقلب على سنة جده قصي سواء الدينية أو السياسية (ص45) ، فالذي يجب أن نبحث فيه هو دليل د. القمني الذي استدل به على تاريخية <<الملة التوحيدية>> التى أسسها عبد المطلب .
يقول د. القمني : إن عبد المطلب بعد أن حدد الداء (الفرقة القبلية) ووصف الدواء (توحيد الأرباب) <<انطلق يضع أسس فهم جديد للاعتقاد، وهَمَّ يجمع القلوب عند إله واحد يتميز بأنه يلغي التماثيل والأصنام وغيرها من الوساطات والشفاعات ، لأنه لا يقبل من أحد وساطة ولا شفاعة إلا العمل الصالح>> (ص46) ، وبيقينية يقول بأن <<ابن كثير يؤكد أن عبد المطلب كان مؤسسًا لملة واعتقاد فيروي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة – عن ديانة أبي طالب بن عبد المطلب – هو على ملة الأشياخ ، هو على ملة عبد المطلب>> (ص47) .
يذهب د. القمني – هنا – إلى أن لعبد المطلب ملة لم يعتقدها فقط ، وإنما <<كان مؤسسًا لها ، ويقطع بأن ما ذهب إليه هو نفس ما يؤكده ابن كثير بما رواه عن ابن عباس، ولنتفق أو نختلف معه على صواب أو خطأ ما ذهب إليه نبدأ بدليله النقلي .
في كتابه <<البداية والنهاية>> وفي فصل بعنوان <<وفاة أبي طالب عم رسول الله>> وفي تعليقه على قوله تعالى {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} (القصص آية 56) ، يروي ابن كثير <<قال عبد الله بن عباس وابن عمر ومجاهد والشــــــعبي وقتادة : إنها (الآية) نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله أن يقول لا إله إلا الله. فأبى (أبو طالب) أن يقولها ، وقال : هو على ملة الأشياخ ، وكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب>>(41) .
ومن سياق ما رواه ابن كثير نفهم أن الحفيد (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب روى أن عمه (أبو طالب) رفض أن يقول بلا إله إلا الله ، وتمسك (ضد هذه الملة التوحيدية) بملة الأشياخ (آباء البيت الهاشمي) وبملة عبد المطلب التي حسب ظــاهر وباطن السياق لا تقول ((أي لا تؤمن) بلا إله إلا الله . وموقف (رواية) الحفيد (ابن عباس) استشهد به ابن كثير لتأكيد موقفه الذي سجله في أكثر من موضع في كتابه ، فمثلاً في الفصل الذي خصصه لتناول وفاة آمنة أم رسول الله يقـــول بثقــــة : إن <<عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية>>(42) . وهو موقف حاد في تناقضه مع ما قاله د. القمني ولا يبيح له الوصول بخياله – مهما كان واسعًا – إلى هذا الحد من الشذوذ الاستنتاجي الذي لا يستند على علم أو منهج أو حتى عقل .
هذا عن الدليل النقلي الذي عمد فيه د. القمني إلى الإسقاط والحذف؛ لأن المحذوف كان ممكنًا – كما رأينا – أن يتعارض مع فروض الكاتب وما يريد الوصول إليه – وللدقة – ما يريد توصيل القارئ إليه ، أن عبد المطلب لابد أن يكــون متـديّنًا . والأهــم من التــدين – كحالة فردية – أن يكون مؤسسًا لملة (دين – اعتقاد) توحيدية لتكون الأساس <<الجاهلي>> لإسلام الحفيد <<محمد>> .
النقطة الثانية : عن علم عبد المطلب بنبوة حفيده وسعيه لتحقيق هذا العلم ، وبدون أن نغرق عقل القارئ بتعريفات لمصطلحات <<العلم>> و<<الأسطورة>> و<<الحقيقــــة>> و<<الوهــم>> التي قــالها د. القمني عن كتابه ، وقيلت عنه بلا تحديد دلالي ، وربما بقصد إرهاب القارئ. ندخل مباشرة في المادة المعلوماتية التي انتقاها د. القمني ونقشها – بلا نقض أو حتى تحفظ – كمعلومات <<متواترة>> لم تشبها <<الأسطرة>> التي – في رأيه – شابت الوقائع الجاهلية بزيادة هائلة ومكثفة <<عند تدوين التراث الإسلامي في سجلات الإخباريين>> .
أول هذه المعلومات ما نقله عن اللقاء السري الذي تم بين عبد المطلب وبين سيف بن ذي يزن (الملك اليمني) قال سيف لعبد المطلب ، <<إني مفوض إليك من سر علمي أمرًا غيرك كان لم أبح له به . ولكني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه ، فليكن مصونًا حتى يأذن الله فيه>> إلى أن يقول : <<إذا ولد مولود بتهامة ، بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة إلى يوم القيامة (..) هذا حينه الذي يولد فيه ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه . وقد وجدناه مرارًا، والله باعثه جهارًا ، وجاعل له منا أنصارًا (المقصود هنا أهل يثرب فهم من أصل يمني) يعز بهم أولياءه ، ويذل بهم أعداءه، ويفتتح بهم كرائم الأرض. ويضرب بهم الناس عن عرض ، يخمد النيران ويكسر الأوثان ، ويعبد الرحمن ، قوله حكم وفصل ، وأمره حزم وعدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله ، والبيت ذي الطنب والعلامات والنصـــب ، إنــــــك يا عبد المطلب لجده من غير كذب ، فخر عبدالمطلب ساجدًا>> (ص51) .
اعتمد القمني هذه المعلومة للتدليل على علم عبد المطلب <<التفصيلي>> بنبوة حفيده ، وبكل مراحل حياته من موت الأب والأم وكفالة الجد والعم (تحديدًا)، ومن بعثه وجهر بالدعوة ، واضطهاد وهجرة (إلى يثرب تحديدًا) وانتصار للدعوة وفتوحاته الإسلامية، ولاعتماد هذه المعلومة أغلق نافذة السؤال وأوصد أبواب الشك أمام عقله، وذلك ليفتح نوافذ وأبواب النقل بلا عقل للمعلومة الثانية للتدليل على سعي عبد المطلب لتحقيق <<علمه اليقيني المسبق>> بنبوة حفيده (محمد) فينقل عن العباس <<قال عبد المطلب : قدمت من اليمن في رحلة الشتاء فنزلنا على حبر من اليهود يقرأ الزبور ، فقال : من الرجل ؟ قلت : من قريش ، قال : من أيهم ؟ قلت : من بني هاشم ، قال : أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك . قلت : نعم مالم يكن عورة ، قال (عبد المطلب) ففتح إحدى منخريّ فنظر فيها ثم نظر في الأخرى فقال الحبر: أنا أشهد أن في إحدى يديك ملكًا وفي الأخـرى نبوة، وإنما نجد ذلك (أي كلا من الملك والنبوة) في بني زهرة. فكيف ذاك؟ قلت : لا أدري. فقال : إذا تزوجت فتزوج منهم ، فلما رجع عبدالمطلب إلى مكة تزوج هالة بنت وهيب بن عبدمناف . فولدت له حمزة وصفية ، وزوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب أخي وهيب . فولدت له رسول الله . فكانت قريش تقول: فلح عبدالله على أبيه ، أي فاز وظفر، ثم رأيت في أسد الغابة ، أن عبدالمطلب تزوج هو وعبدالله (ابنه) في مجلس واحد . وجاز أن يكون الملك والنبوة اللذان قال عنهما الحبر هما نبوته وملكه – صلى الله عليه وسلم – لأنه أعطيهما>> (ص52)، وأشار إلى مرجعه <<السيرة الحلبية، جـ1 ص73>> .
صدّق د. القمني (الذي يعتمد العلم لا الأساطير) عمليـــة <<قـراءة كف>> عبد المطلب كعملية تنبوئية فذة تستحق الاحتفاء بها والاستناد عليها للبرهنة على حقيقية <<علم>> وتاريخية <<سعي>> عبد المطلب لإنجاح عملية <<قراءة الكف>> بزواجه <<لما رجع>> من بني زهرة بن كلاب (شقيق قصي) وكعملية تالية ومكملة ومؤكدة لما تم في <<اللقاء السري>> بين عبد المطلب وسيف بن ذي يزن ؛ لذلك لم يسأل (كباحث) عن كيفية معرفة الحبر اليهودي بكمون <<الملك والنبوة>> في دماء بني زهرة . واكتفي (كمادي – عقلاني – علمي) بتصديق وجود <<الملك والنبوة>> في خطوط كف عبد المطلب ، وهذا حقه الذي أقررنا – ونقر – به .
ولكن المفزع في أمر د. القمني أنه لم يكتف برفض استخدام حقوقه كباحث بالسؤال ، لكنه رفض – بسكوته – فكرة تفكير مصدر المعلومة (الحلبي) في عملية <<قراءة الكف>> ، وهذا ما اكتشفناه ونحن نراجع المعلومة في السيرة الحلبية . فبجانب ممارسته لعادته بدس العبارة الأخيرة <<وجاز أن يكون الملك والنبوة … الخ>> في كلام الحلبي. تجاهل د. القمني – تمامًا – التساؤل القلق والملاصق لعبارة <<أن عبد المطلب تزوج هو وعبد الله في مجلس واحد>> يقول الحلبي : <<قيــل وفيه (خـــبر زواج عبد المطلب وابنه في ليلة واحدة من بني زهرة) تصريح بأن عبدالله كان موجودًا حين قال الحبر لعبد المطلب أن النبوة موجـــودة فيه . فكيف تكون موجودة (فيه) مع انتقالها لعبدالله؟>> ويزداد قلق الحلبي فيقول : <<من أين أن عبد المطلب تزوج هالة عقب مجيئه من عند الحبر حتى يكون قول الحبر لعبد المطلب . وفيه أن هذا لا يحسن إلا لو كانت أم عبد الله من بني زهرة>>(43) ، وهذا مالم يكن لأن أم عبد الله هي <<فاطمة بنت عمرو من بني مخزوم>> . وبمخزومية أم عبدالله . وبزواجه مع والده في مجلس واحد يبقى تساؤل الحلبي عن كيفية انتقال الملك والنبوة من عبد المطلب إلى عبدالله .؟ يطارد القمني باحثًا عن إجابة علمية وليست أسطورية ، ولأن الكف المقروءة هي كف عبدالمطلب . ولأن <<حمزة>> هو ثمرة زواج عبد المطلب من بني زهرة ، ولأن د. القمني اعتمد هذه الأسطورة كدليل تراثي على <<سعي>> الجد لتحقيق نبوة الحفيد ، فهل سيذهب مع دلالة الأسطورة إلى أحقية حمزة بن عبد المطلب بالملك والنبوة .؟
ونقف عند هذا الحد الذي نظنه قد وضع عقولنا – بيقين – على أسطورية دور عبد المطلب في تأسيسه للدين، وعلمه وسعيه لتحقيق نبوة حفيده محمد. ووضع عقولنا على حقيقة أن د. القمني لم يقصد إعلاء شأن عبد المطلب (الجد) بقدر ما تعمد – ومع سبق الإصرار والترصد – جهلنة الدين والنبوة ، وذلك كخطوة ثانية في انقلاب د. القمني على الثوابت التاريخية
* * *
– 4 –
راجعنا في الأوراق السابقة قانونية <<ارتباط توحيد القبائل بتوحيد الأرباب>> وحقيقة <<سعي>> عبد المطلب لتحقيق <<علمه اليقيني المسبق>> بنبوة حفيده محمد ، وخرجنا بخرافية هذا الارتباط، واستحالة العلم والسعي الهاشمي . والآن نأتي إلى موقف د. سيد القمني من الرسالة (القرآن) .
وللعـــلم نشير إلى أن ما سنراجعـه – هنا – هو جزء من <<كل>> موقف د. القمني من القرآن ؛ لأن <<كل>> موقفه مفرق في كتبه ودراساته التي خلص فيها إلى أن <<الأسطورة>> و<<اليهودية>> – كمنابع قبل إسلامية- شكلتا بعض الوعي المعرفي المطروح في سوره . ونحن – كما قلنا – خصصنا هذه الأوراق لمراجعة كتابه <<الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية>> الذي أضاف فيه – إلى <<الأسطورة>> و <<اليهودية>> – المنبع الشعري>> الذي وجد القمني في قاموسه الشعري – اللغوي (السابق للإسلام) المنبع الجاهلي للصياغة القرآنية. وهذا المنبع هو شعر أمية بن أبي الصلت .
وأمية _ كما قدمه _ د. القمني في كتابه هو <<أمية بن عبد الله بن أبي الصلت الذي تصله أمه رقية بنت عبدشمس بن عبد مناف ببيت عبد مناف بن قصي>>(ص69) ، وجده <<أبو زمعة>> حليف عبد المطلب ورفيقه في رحلته القومية إلى اليمن (ص45) ، وبجانب النسب والتحالف استطاع أمية – رغم تنافس الحنفاء – أن يحتل مكانة بارزة كـــواحد من <<تلامذة الحنيفية الكبار>> (ص63) – بعد عبد المطلب <<أستاذ الحنيفية الأول>> وزيد بن عمرو بن نفيل الذي <<يعد ثاني الرواد الحنيفيين أثرًا وأكــــــــثرهم خطرًا بعد عبدالمطلب>> (ص65) ، <<وحرم على نفسه الخمر وتجنب الأصنام، وصام، والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل ، وكان أول من أشاع بين القرشيين افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بعبارة : باسمك اللهم – استعملها النبي محمد ثم تركها واستعمل بسم الله الرحمن الرحيم- وقد روى الإخباريون قصصًا عن التقاء أمية بالرهبان وتوسمهم فيه إمارات النبوة . وعن هبوط كائنات مجنحة شقت قلبه ثم نظفته وطهرته تهيئــــــة لمنحه النبوة (ص69) .
و<<يعتبر أمية أحسن الحنفاء حظًّا في بقاء الذكر ، فقد بقي كثير من شعره، وحفظ قسط لا بأس به من أخباره، وسبب ذلك (ينقل عن د. جواد علي – بتحريف-) هو بقاؤه إلى ما بعد البعثة، واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالاً مباشرًا ، وملاءمة شعره _ بوجه عام _ لروح الإسلام، برغم أنه حضر البعثة ولم يسلم، ولم يرض بالدخول في الإسلام، لأنه كان يأمل أن تكون له النبوة. ويكون مختار الأمة وموحدها؛ ولذلك برز كنموذج للاستقامة والإيمان والتطهر والزهد والتعبد، وقد مات سنة تسع للهجرة بالطائف كافرًا بالأوثان وبالإسلام>> (ص70) .
بجانب ما سبق ، فأمية – في رؤية د. القمني – ليس كأي فرد – قاعدي – في جيش الحنفاء ، لكنه واحد من أهم مجتهديهم لاستطاعته – بتفرد – نحت قاموسه الشعري – اللغوي الذي مكنه باقتدار من صياغة تعاليم ملة عبد المطلب الحنيفية ، لذلك ينقل بانبهار من شعر أمية حول عقيدته في البعث والحساب :
باتت همومي تسري طوارقها
أكف عيني والدمع سابقها
مما أتاني من اليقين ولم
أوت برأة يقصي ناطقها
أم من تلظى عليه واقدة النـ
ـار محيط بهم سرادقها
أم أسكن الجنة التي وعد الأبـ
ـرار مصفوفة نمارقها
..الخ (ص69) .
وفي رب الحنيفية ينقل :
إله العالمين وكل أرض
ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتني سبعًا شدادًا
بلا عمد يرين ولا حبال
.. الخ (ص69) .
وعن عذاب الدار الآخرة ينقل :
وسيق المجرمون وهم عراة
إلى ذات المقامع والنكال
فنادوا ويلنا ويلاً طويلاً
وعجوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا
وكلهم بحر النار صالي
وحل المتقون بدار صدق
وعيش ناعم تحت الظلال
..الخ (ص72)
وبدون أن يكاشف قارئه بدوافع انبهــــاره بشــــعر أميـــة ، وهل عاش _ كباحث ـ القلق العلمي بمراحل شكه وسؤاله وبحثه المحايد الموضوعي في آراء العلماء في شعر أمية والحنفاء لنرى انبهاره – في الحدود المعقولة – كنتيجة علمية .. أم نتيجة لدوافع أيديولجية .؟
لم ير د. القمني ضرورة علمية لهذه المكاشفة ، واكتفى بتقديم هذه الأشعار المقلقة بقوله: <<ليلحظ قارئنا أننا نستند هنا في أمر هذا الشعر إلى مصادره الأصلية ، إضافة إلى العودة إلى حل مسألة الانتحال فيه ، والأخذ بما انتهى إليه الباحثون لتأكيده غير منحول ، فهي مهمة لها رجالها المتخصصون . وإليهم مرجعنا في الأمر ، وينسحب ذلك على كل ما أوردناه من أشـــــعار الحنفاء >> (ص67) ؛ ليوحي بأن شــــــــعر أمية (والحنفاء) خارج المناقشة ، وأن <<عدم انتحاله>> هو الرأي الذي انتهى إليه <<أهل التخصص>> ، وذلك بغرض تأهيل القارئ لتلقي ما سينقله عن د. جواد علي <<في أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات ، ووصف ليوم القيامة والجنة والنار ، تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلاً لما ورد عنها في القرآن الكريم ، بل نجد في شعر أمية استخدامًا لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله والحديث النبوي قبل المبعث ، فلا يمكن – بالطبع – أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن ، لأنه لم يكن منزلاً يومئذ ، وأما بعد السنة التاسعة الهجرية . فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضًا ، لأنه لم يكن حيًّا ، فلم يشهد بقية الوحي ، ولن يكون هذا الفرض مقبولاً في هذه الحال.. ثم إن أحدًا من الرواة لم يذكر أن أمية ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه ، ولو كان قد فعل لما سكت المسلمون عن ذلك ، ولكان الرسول أول الفاضحين له>> ويضيف د. القمني لتأكيد ما نسبه إلى د. جواد <<وهذا – أيضًا – مع رفض أن يكون شعره منحولاً أو موضوعًا من قبل المسلمين المتأخرين ، لأن في ذلك تكريمًا لأمية وارتفاعًا بشأنه ، وهو ما لا يقبل مع رجل كان يهجو نبي الإسلام بشعره. ولا يبقى (في رأي د. القمني) سوى أنه (أمية) كان حنيفيًّا مجتهدًا استطاع أن يجمع من قصص عصره ، وما كان عليه الحنفاء من رأي في شعره خاصة مع ما قاله بشأنه ابن كثير – وقيل إنه كان مستقيمًا ، وأنه كان أول أمره (في الجاهلية) على الإيمان . ثم زاغ عنه (بعد الإسلام) – ولا ريب (الكلام للقمني) أن الاستقامة تفرز الاستقامة وتلتقيها . وربما كتب (أمية) ماكتب إبان هذه الفترة التي حددها لنا ابن كثير. ولا ريب أنها كانت قبل البعثة النبوية . لأنه بعده – ولا شك – زاغ عن إيمانه واستقامته . إذ رأى الملك والنبوة تخرج من بين يديه بعد أن أعد نفسه لها طويلاً >> (ص73-74).
هذا – بالحرف الواحد – ما قاله د. القمني عن أمية بن أبي الصلت. وما قاله يحاصر عقل القارئ بأن أمية أولاً : <<برز كنموذج للاستقامة والإيمان والتطهر والزهد والتعبد>> ، ثانيًا : أنه كان حنيفيًّا مجتهدًا استطاع – بجهده الفذ – أن يكتب ما كتب من أشعار. ثالثًا : أن ما نقله من شعر أمية <<غير موضوع>> . رابعًا : أن ما كتبه أمية (والذي جاء مطابقًا لما ورد في القرآن) كتبه قبل البعثة النبوية، أي قبل نزول القرآن ، ربما بسنوات ، وكل ذلك يحصر عقل القارئ في دائرة التسليم بالاحتمال المسكوت عنه وهو استعانة النبي محمد بشعر أمية في كتابة قرآنه .
ونكرر إقرارنا بحق د. القمني في ممارسة الشك بلا سقف يحدد مداه ، وأن يصل شكه – كمادي – إلى حد التشكيك في القرآن وإلى حد طرح شعر أمية كمنبع جاهلي لكتاب الإسلام المقدس ، فهو في شكه في قدسية القرآن لم يكن الأول ولن يكون الأخير ، لكن الفارق بينه وبين غيره من الباحثين الذين اتفق معهم في النتائج ، أنهم طرحوا كل الاحتمالات على بساط البحث وناقشوا أدلة كل احتمال وخرجوا برأي يميل إلى أخذ محمد في قرآنه من شعر أمية ، وصاغوا هذه النتيجة في أسلوب واضح ومعبر – بدقة – عن مقصودهم بحيث لا يحتمل تأويلاً أو معنى آخر غير الذي قصدوه ، ومن هؤلاء الباحثين: كليمان هوار – بور – فردرش شولتيس – وبوضوحهم أتاحوا لعلماء الغرب فرصة مراجعة هذا الرأي ونقده ، ومن أشهر العلماء العرب الذين نقدوا هذا الرأي الاستشراقي د. طه حسين في كتابه <<في الشعر الجاهلي>> ، ود. شوقي ضيف في كتابه <<تاريخ الأدب العربي>> المجلد الأول <<العصر الجاهلي>> ود. جواد علي في موسوعته <<المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام>> .
أما د. القمني فقد ناقش بتوسع ونفى بيقين شبهة استعانة أمية بالقرآن وسكت بلا مبرر منطقي أو علمي عن استكمال بحث شبهة استعانة النبي محمد بشعر أمية ، وحجته وحجة أنصاره من التنويريين أن <<الحالة الراهنة للثقافة السائدة في المجتمع لا تحتمل التصريح بالاحتمال المسكوت عنه ؛ لذلك سكت ؛ لأنه – كما قيل على لسانه -: <<ليس من الضروري أن أستنتج ولكن القارئ يمكن أن يستنتج ما انتهى إليه . وبالتالي أعتمد كثيرًا على القارئ في استنتاج كثير من النتائج>>(44) وحسب هذه الحجة <<التنويرية>> فأبسط العقول ذكاء تستنتج من نفي الاحتمال الأول إثبات الاحتمال الثاني. وهو أن الحفيد الهاشمي ( محمدًا ) كما ورث دين جده (عبد المطلب) التوحيدي، وكما أخذ تسمية دينه بـ<<الإسلام>> من زيد بن عمرو بن نفيل ، فقد استعان بشعر أمية واقتبس منه تراكيبه وألفاظه ، وادعى أن ما اقتبسه ما هو إلا وحي إلهي .
وللحقيقة نحن لا نستطيع تعليق عدم مناقشة د. القمني للاحتمال الثاني على مشجب الحالة الراهنة للثقافة السائدة في المجتمع المصري. أولاً : لأنه قيل في التسويق العلماني لكتاب د. القمني : إنه <<بداية لثورة ثقافية>> أي أنه كتبه لتثوير <<الحالة الراهنة>> ، ثانيًا : لأن <<كل>> الكتاب قائم على الصراع الهاشمي – الأموي . وهو صراع – كما بيّنا – اقترف د. القمني لتأكيد محوريته كل أنواع الحرام العلمي بدءًا من التزوير والتحوير والتحريف للنصوص التراثية وانتهاءً باخــــتلاق خرافــات <<ملــة عبد المطلب>> و<<الأيديولوجية الهاشمية>> و<<أهداف الحزب الهاشمي>> في صراعه مع <<الحزب الأموي>> فإذا كان النبي محمد هو الحفيد الهاشمي الملتزم بخطط جده وأهداف حزبه ، فأمية (الشاعر) هو ابن رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف و <<خاله>> أمية بن عبد شمس بن عبدمناف الذي ساورته <<الأطماع في أخذ ما بيد عمه (هاشم) من ألوية الشــرف بالقوة >> ( ص39 ) ، أي أنه (الشاعر أمية) جزء من الحزب الأموي فضل الكفر على الإسلام بسبب علاقته بسادات هذا الحزب (راجع ص70) .
وعليه . فإذا صدقنا حجة د. القمني في نفي الاحتمال الأول أن أمية لو كان ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه <<لما سكت المسلمون على ذلك . ولكان الرسول أول الفاضحين له>> وهي حجة قوية وعقلانية . ولخصوصية علاقة أمية بالحزب الأموي فالعقل والمنطق والبحث العلمي كانوا يفرضون على د. القمني بحث الاحتمال الثاني لكشف موقف أمية وحزب أخواله الأمويين من الحفيد الهاشمي الذي – حسب الاحتمال المسكوت عنه – يستعين بأشعار ابن أختهم في كتابة قرآنه . وهل سكت أمية على ما يفعله محمد الهاشمي وهل سكت الحزب الأموى وضحى بهذه الفرصة لإجهاض الخطط الهاشمية بكشف المنبـــع الأمــــوي للقرآن.؟ كان يجب – علميًّا ومنطقيًّا – على د. القمني بحث هذه الجزئية الخطيرة والتنقيب في كتب التراث عن وقائع ترصد موقف أمية والحزب الأموي . ولكن – وللأسف – لم يرد القمني اقتحام هذه المنطقة لإنارتها، وفضل أن يتحسس القارئ بعقله ما سكت عنه الدكتور التنويري . ونحن أمام هذه الرغبة القمنية رجعنا إلى المراجع التاريخية للبحث والتنقيب عن الموقف الأموي (الشاعر والحزب) لنمسك بالموقف القمني ، ولنبدأ بموقف أمية الذي رواه ابن كثير والذي لا نشك في علم د. القمني به ، والذي – أيضًا – لا نشك في تجاهله المتعمد لهذه الواقعة التي تسجل اللقاء الوحيد الذي جمع بين النبي محمد والشاعر أمية ، فقد روى ابن كثير أن أمية لما قدم من البحرين إلى مدينته الطائف قال لأهلها : ما يقول محمد بن عبد الله.؟ قالوا : يزعم أنه نبي. هو الذي كنت تتمنى .. فخرج أمية حتى قدم مكة فلقيه ، فقال : يا ابن عبد المطلب ما هذا الذي تقول .؟ (رد الرسول) أقول : إني رسول الله، وأن لا إله إلا الله . قال أمية : أريد أن أكلمك فعدني غدًا . قال الرسول : فموعدك غدًا . قال أمية : فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك.؟ فقال الرسول : أي ذلك شئت . قال أمية : فإني آتيك في جماعة فأت في جماعة .. فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش . وغدا رسول الله معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة .. فبدأ أمية فخطب ثم سجع ثم أنشد الشعر (كل ذلك لإظهار قدراته وتعجيز النبي) حتي إذا فرغ الشعر قال أمية : أجبني يا ابن عبد المطلب . فقال رسول الله : بسم الله الرحمن الرحيم {يس والقرآن الحكيم .. حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه . فتبعته قريش يقولون : ما تقول يا أمية .؟ قال : أشهد أنه على الحق>>(45) .
هذا هو اللقاء الذي تجاهله د. القمني (ولم يجهله) والمعروف أن الآية 69 من سورة يس تقول {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِين} والمفهوم من سياق رواية ابن كثير أن أمية استمع إلى هذه الآية من الرسول نفسه ، ولم يكتشف (رغم كفره) ما اكتشفه الدكتور التنويري (رغم إسلامه) التشابه الكبير والتطابق في الرأي جملة وتفصيلاً بين شعره والقرآن. لذلك شهد بأن محمد <<على الحق>>، وبعد سبع سنوات من هذا اللقاء وهذه الشهادة ، ذهب ليعلن إسلامه <<ولكن بعض أهل مكة علموا بمسيره فأرادوا رده عن غايته>> ليس بكشفهم له استعانة النبي محمد بشعره ، وإنما بإحياء العصبية الجاهلية في قلبه وتذكيره بمن قتل في غزوة بدر من زعماء الحزب الأموي .
وهذه الواقعة تضع عقولنا على حقيقة أن د. القمني لم يتحرك بحياد – للبحث ، ولم يحركه العلم ، وإنما تحرك وحركه هدف واحد ووحيد هو التشكيك في فكرة الوحي <<الغيبية>> لتناقضها مع ماديته ؛ ولذلك لم يكتف بتجاهل معلومة تاريخية كانت – على الأقــل – كفيلة بترشيـــد رأيه ، لكنه – بقصد – اقترف جريمة تحريف نصوص مرجعه ليوهم القارئ بأن <<د. جواد علي>> يشاركه هذا الرأي في القرآن .
ولأن د. جواد علي يعد واحدًا من أهم العلماء العرب الذين نقضوا هذا الرأي بشمولية وحياد وموضوعية العالم الباحث عن الحقيقة، وأفرد لمناقشة هذه الشبهة الاستشراقية عشرات الصفحات في موسوعته الفذة عن تاريخ العرب قبل الإسلام . فنحن سنحاول نقل <<بعض>> ما قاله في فصل <<الحنفاء>> لنقارنه بما نقله د. القمني ، يقول د. جواد <<في أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات دينية ووصف ليوم القيامة والجنة والنار ، تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلاً ، لما ورد عنها في القرآن الكريم ، بل نجد في شعر أمية استخدامًا لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي ، فكيف وقع ذلك (التشابه) ؟ وكيف حدث هذا التشابه؟ هل حدث ذلك على سبيل الاتفاق ، أو أن أمية أخذ مادته من القرآن الكريم ، أو كان العكس ، أي أن القرآن الكريم هو الذي أخذ من شعر أمية فظهرت الأفكار والألفاظ التي استعملها أمية في آيات الله وسوره .؟ فكتاب الله إذن هو صدى وترديد لآراء ذلك الشاعر المتأله (..) أو أن كل شىء من هذا الذي نذكره ونفترضه افتراضًا لم يقع ؛ وأن ما وقع ونشاهده سببه أن هذا الشعر وضع على لسان أمية في الإسلام وأن واضعيه حاكوا في ذلك ما جاء في القرآن الكريم فحدث لهذا السبب هذا التشابه.؟>>
بعد تساؤلاته يبدأ بهدوء في مناقشة هذه الاحتمالات . فيقول عن الاحتمال الأول: <<وهو فرض أخذ أمية من القرآن. فهو احتمال إن قلنا بجوازه ووقوعه . وجب حصر هذا الجواز في مدة معينة ، وفي فترة محدودة تبتدئ بمبعث الرسول . وتنتهي في السنة التاسعة من للهجرة ، وهي سنة وفاة أمية بن أبي الصلت ، أما ما قبل المبعث، فلا يمكن أني يكون أمية قد اقتبس من القرآن ؛ لأنه لم يكن منزلاً يومئذ . أما بعد السنة التاسعة فلا يمكن أن يكون هذا الفرض مقبولاً في هذه الحالة .. إلا إذا أثبتنا بصورة جازمة أن شعر أمية الموافق لمبادئ الإسلام ولما جاء في القرآن قد نُظم في هذه المدة المذكورة . أي بين المبعث والسنة التاسعة من الهجرة (…) ولكن من في استطاعته تثبيت تواريخ شعر أمية وتعيينه. وتعيين أوقات نظمه.؟ إن في استطاعتنا تعيين بعضه من مثل الشعر الذي قاله في مدح عبدالله بن جدعان أو معركة بدر . ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بالغالبية منه ، وهي غالبية لم يتطرق الرواة إلى ذكر المناسبات التي قيلت فيها ، ثم إن بعض هذا الكثير مدسوس عليه ، مروي لغيره، وبعضه إسلامي . فيه مصطلحات لم تعرف إلا في الإسلام ، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في شعره هذا بهذه الطريقة ، ثم إن أحدًا من الرواة لم يذكر أن أمية كان ينتحل معاني القرآن الكريم وينسبها إلى نفسه ولو كان فعل لما سكت المسلمون عن ذلك ولكان الرسول أول الفاضحين له>>.
وبعد نفيه لاحتمال أخذ أمية من القرآن يقول : <<يبقى لدينا افتراض آخر هو أخذ القرآن الكريم من أمية ، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره . فعلى قائله إثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهدًا من القرآن ، وتلك قضية لا يمكن إثباتها أبدًا ، ثم إن قريشًا ومن لف لفها ممن عارضوا الرسول لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه لما سكتوا عنه ، ولقالوا له: إنك تأخذ من أمية. كما قالوا له : إنك تتعلم من غلام نصراني كان مقيمًا بمكة ، وإليه أشير في القرآن الكريم بقوله : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل :103) ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت . ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك أو يظن أن محمدًا إنما يأخذ منه . لما سكت عنه، وهو خصم له ، ومنافس عنيد، أراد أن تكون النبوة له . وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه . ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته . أما هو فلا يتبعه أحد، هل يعقل سكوت أمية لو كان قد وجد أي ظن – وإن كان بعيدًا – يفيد أن الرسول قد أ خذ فكرة منه .؟ لو كان شعر أمية كذلك لنادى به حتمًا >>(46).
ويؤكد د. جواد <<أما أنا ، فأرى أن مرد هذا التشابه والاتفاق إلى الصنعة والافتعال، لقد كان أمية شاعرًا ، ما في ذلك شك؛ لإجماع الرواة على القول به، وقد كان ثائرًا على قومه، ناقمًا عليهم؛ لتعبدهم للأوثان، وقد كان على شيء من التوحيد والمعرفة باليهودية والنصرانية. ولكني لا أظن أنه كان واقفًا على كل التفاصيل المذكورة في القرآن وفي الحديث عن العرش والكرسي، وعن الله وملائكته، وعن القيامة والجنة والنار والحساب والثواب والعقاب ونحو ذلك. إن هذا الذي أذكره شيء إسلامي خالص لم ترد تفاصيله عند اليهود ولا النصارى، ولا عند الأحناف. فوروده في شعر أمية وبالكلمات والتعابير الإسلامية هو عمل جماعة فعلته في عهد الإسلام وضعته على لسانه كما وضعوا أو وضع غيرهم على ألسنة غيره من الشعراء والخطباء>>، ويمضي د. جواد فيقول: <<ولابد وأن يكون هذا الوضع قد صنع في القرن الأول للإسلام؛ لأن أهل الأخبار القدامى يذكرون بعض هذا الشعر، وقد يكون قد وضع أكثره في عهد الحجاج تقربًا إليه ؛ لأنه من ثقيف، وتتبين آية الوضع في شعر أمية في عدم اتساقه وفي اختلاف أسلوبه وروحه، فبينما نجد شعره المنسوب إليه في المدح أو في الرثاء أو في الأغراض الأخرى مما ليس لها صلة مباشرة بالدين في ديباجة جاهلية على نسق الشعر المنسوب إلى شعراء الجاهلية، نجد القسم الديني منه والحكمي في أسلوب بعيد عن هذا الأسلوب، وبعيد عن الأساليب المعروفة عن الجاهليين، أسلوبًا يجعله قريبًا من شعر الفقهاء والصوفيين المتزمتين>> ويقول : << وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيدًا>> ويبرهن على صواب رأيه بقصيدة منسوبة إلى أمية يقول فيها :
محمدًا أرسله بالهدى
فعاش غنيًّا ولم يُهتضم
عطاء من الله أعطيته
وخصّ به الله أهل الحرم
وقد علموا أنه خيرهم
وفي بيتهم ذي والكرم
إلى أن يقول :
أطيعوا الرسول عباد الإلـ
ـه تنجون من شر يوم ألم
تنجون من ظلمات العذاب
ومن حر نار على من ظلم
دعانا النبي به خاتم
فمن لم يُجِبهُ أسر الندم
نبي هدى صادق طيب
رحيم رءوف يوصل الرحم
به ختم الله من قبله
ومن بعده من نبي ختم
يموت كما مات من قد مضى
يرد إلى الله باري النسم
ويختم هذه القصيدة بهذا البيت :
كتابًا من الله نقرأ به
فمن يعتريه فقدمًا أتم
ونقول مع د. جواد للقاريء <<اقرأ هذه المنظومة، ثم أحكم على صاحبها هل تستطيع أن تقول : إنه كان شاعرًا مغاضبًا للرسول ، وأنه مات كافرًا ، وأن صاحبها رثى كفار قريش في معركة بدر ، وأنه ما قال في الإسلام وفي الرسول؟ اللهم لا يمكن أن يقال ذلك أبدًا>>(47).
وأخيرًا : أظن أننا بما قلناه وبما نقلناه عن د. جواد قد استطعنا الإمساك بحقيقة موقف د. القمني من القرآن، ونستطيع أن نقول _ بثقة _ إنه موقف غير علمي، وللدقة يشكل جريمة علمية .
وتبقى كلمة :
هذه كانت مجرد محاولة -متواضعة- لكسر قشرة دعوى <<استحالة النقد>> لنرى بعقولنا حقيقة المشروع الفكري للدكتور سيد القمني. وهل -فعلاً- هو بداية لثورة ثقافية تستلهم وتطور التراث العقلاني الحر في الثقافة العربية الإسلامية… أم هو مرحلة من مراحل الثورة المضادة التي تنخر _ بقصد وبسوء نية _ في ثوابتنا الدينية والتاريخية؟
وهي محاولة _ بصدق _ لم أنشغل فيها بالتفتيش في قلب د. القمني اليقيني، إن التكهن بمكنون النوايا مغامرة غير ممكنة ، وغير مجدية على كل المستويات. وهي مغامرة كفيلة بحرق جسر <<الحوار>> الذي نسعى _ بجهد _ لمده . ونجتهد لامتداده إلى الإقرار <<الفعلي>> و<<المبدئى>> بـ << حق الاختلاف>> بلا سقف يحد من ممارسة هذا <<الحق>> سوى سقف << العلم >> بأخلاقه وآلياته المنهجية . لذلك فقد اكتفيت بالتعامل العقلي مع كتابات د. القمني المطبوعة والمنشورة ( أي التى يستطاع التأكد مما فيها بالحواس ) وتخيرت من كتاباته كتابه <<الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية >> لأسباب ذكرتها في المقدمة. وحاولت البحث في توثيق د. القمني لفروضه . وإعمال عقلي في كيف <<أجبر>> -بمنهجه المادي- النصوص التراثية <<على البوح بمكنوناتها>>(48) الجاهلية لمثلث ( الرسول _ الرسالة _ الدولة) وقد بذلت ما أستطيعه من جهد انتهى بي إلى النتائج التى سطرتها في الأوراق السابقة . وهي نتائج تذهب بي إلى القول بأن الثورة الثقافية التى ابتدأها د. القمني بكتابه <<الحزب الهاشمي>> هي ثورة مضادة تنخر _ بسوء نية _ في ثوابتنا لتلائم _ بعد ماركستها _ احتياجات الثــورة الاشتراكية <<القادمة>>(49) .
(1) مجلة<<أدب ونقد>> – العدد 61 سبتمبر 1990م ص 7.
(2) المصدر السابق – العدد 107 يوليو 1994 م، ص7.
(3) المصدر السابق – العدد 52 نوفمبر 1989م، ص 69.
(4) د. سيد القمني <<الأسطورة والتراث>> – دار سينا – القاهرة – الطبعة الأولى 1992م، ص302، 303.
(5) مجلة <<الطريق>> – اللبنانية- العدد الأول لسنة 1997م ، ص22 ، 23 .
(6) جريدة <<أخبار الأدب>> – العدد 184 بتاريخ 19 يناير 1997م .
(7) جريدة <<الأهالي>> 25 من يوليو 1990م .
(8) أفاناسييف <<أصول الفلسفة الماركسية>> ترجمة حمدي عبدالجواد – دار الثقافة الجديدة – القاهرة – ص40_ 45 .
(9) كيلله -وكوفالسون <<المادية التاريخية>> – ترجمة إلياس شاهين – دار التقدم – موسكو – ص313.
(10) ماركس – أنجلس <<حول الدين>> – دار الطليعة – بيروت – طبعة أولى 1974، ص33 /34 .
(11) الأسطورة والتراث ، ص282 .
(12) جريدة الأهالي 3 من نوفمبر 1993م.
(13) مجلة <<مصرية>> – العدد التاسع – أكتوبر 1986م ، ص12 .
(14) المرجع السابق (ص13) .
(15) د. القمني <<الأسطورة والتراث>> ، ص23.
(16) عباس العقاد : مجموعة إسلاميات – الكتاب الأول <<طوالع البعثة المحمدية>> دار المعارف – القاهرة – الطبعة الثانية ، ص61 .
(17) د. القمني <<رب الزمان>> – مكتبة مدبولي الصغير – القاهرة – الطبعة الأولى 1996م، ص66 .
(18) المرجع السابق ، ص84 .
(19) لينين <<ماركس – أنجلس – الماركسية>> دار التقدم – موسكو- ص20 .
(20) د. القمني <<قصة الخلق .. منابع سفر التكوين>> – دار كنعان – دمشق – الطبعة الأولى 1994م ، ص7 .
(21) أدب ونقد – العدد 62 – أكتوبر 1990م ص120 .
(22) د. جواد علي <<المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام>> – دار العلم للملايين – بيروت ، الطبعة الثانية 1976م – جـ4 ص59 .
(23) ابن كثير <<البداية والنهاية>> – دار الحديث – القاهرة – جـ2 ص190 .
(24) المسعودي <<مروج الذهب ومعادن الجوهر>> – كتاب الشعب – المجلد الأول ، ص335 .
(25) ابن كثير – البدابة والنهاية – جـ2 ص211 .
(26) د. أحمد إبراهيم الشريف <<مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول>> ، دار الفكر العربي – القاهرة – ص116 .
(27) مجلة <<القاهرة>> – العدد 123 ، ص51 .
(28) د. جواد علي – <<المفصل>> – جـ 5 ص342 .
(29) د. أحمد إبراهيم الشريف – <<مكة والمدينة>> – ص4 /5 .
(30) البلاذري : أنساب الأشراف – تحقيق د. حمد حميد الله – دار المعارف – القاهرة ، جـ1 ص63 .
(31) د. جواد على – مرجع سابق – جـ5 ص342 .
(32) ابن كثير : البداية والنهاية ، جـ2 ص213 .
(33) ابن هشام : السيرة النبوية – دار المنار – القاهرة – جـ 1 ، ص71 .
(34) المصدر السابق : جـ1 ، ص73 .
(35) ابن كثير : مرجع سابق – جـ2ص258 – والطبري <<تاريخ الأمم والملوك>> – دار الريان – القاهرة – جـ1 ص505 .
(36) د. القمني <<الحزب الهاشمي>> ، الطبعة الرابعة ، 1996م ، ص9 .
(37) مجلة (مصرية) العدد التاسع ، أكتوبر 1986م ، ص12 .
(38) المرجع السابق ، ص13.
(39) مجلة <<أدب ونقد>> – العدد 52، ص69 .
(40) ابن هشام ، جـ1 ، ص68 .
(41) ابن كثير جـ3 ، ص170 .
(42) المصدر السابق جـ2 ، ص285 .
(43) الحلبي <<السيرة الحلبية>> ، دار المعرفة – بيروت – جـ1 ص73 .
(44) د. القمني <<الأسطورة والتراث>> ، ص281 .
(45) ابن كثير : مرجع سابق ، جـ2 ، ص230 .
(46) د. جواد علي : المفصل ، جـ6، ص490 /492 .
(47) المرجع السابق ، جـ6 ص497 .
(48) مجلة <<أدب ونقد>> العدد 62 ص 121 .
(49) أدب ونقد، العدد 107 ص 7 .