الحديث عن إعلام إسلامي – على مستوى النظرية والتطبيق – يعني عند التحليل أموراً ثلاثة:
الأول: أن الإسلام لا يزال فاعلاً في منظومة الحياة عند المسلمين بغض النظر عن مساحة وجوده في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
الثاني: أن الإعلام باعتباره علماً وفنّاً وباعتباره أدوات وسياسات ، أفلت من وطأة التساؤل عن حكمه الشرعي ، وأصبح يحتل مكاناً ومكانة في خريطة المشروع الحضاري للأمة.
الثالث:أن الإعلام القائم في الدول الإسلامية يعاني مأزقاً حرجاً ، فهو في المحصلة النهائية إحدى سلبيات الأنظمة ، سواء في تعبيره عن قلق الشرعية ، أو محنة الدولة القطرية ، أو تراجع الاستقلال لصالح التبعية ، وكلها هموم كبيرة ينوء بها عقل الأمة في الألفية الثالثة.
أولاً: حضور الإسلام:
الإسلام حاضر في حياتنا المعاصرة عند الأنصار والخصوم ، حقيقة واقعة يجهلها البعض للتعتيم العمدي الذي تكلس من حولنا ، ويتجاهلها آخرون لسطوة التغريب الذي ما فتئ هذا الفريق يفكر بمفاهيمه ، وينطق بلسانه ، هذه الفاعلية هي مصدر تفاؤلنا في ردم الفجوة بين الإسلام وأتباعه ، وبين النص والزمان.
والإسلام قوة خالدة ينبغي التسليم بها سنّة من سنن الكون ، وهذا سر بقائه رغم الجسد الإسلامي الواه المثخن بالجراح ، يقول الأستاذ العقاد ، وهو يتحدث عن (الإسلام في القرن العشرين): ((إن العقيدة الإسلامية لم تكن قوة غالبة وحسب إبان النشأة والظهور ، ولكنها قوة صامدة بعد مئات السنين ، ولابد من تفسير لهذه القوة الصامدة ، كما لابد من تفسير لتلك القوة الغالبة؛ فإن القوة التي تصمد أولى بالتفسير من القوة الغالبة ، لأنها تدافع فتقوى على الدفاع ، أي لا عدة عندها للغلبة في معترك الصراع.
وصمود القوة الإسلامية في أحوال الضعف عجيب كانتصارها في أحوال الشدة والسطوة ، ولاسيما الصمود بعد أكثر من عشرة قرون)).
وهذه الديمومة جعلت الإسلام سياجاً يحمي وجود الأمة ويحافظ على هويتها الحضارية ، يقول ((برهان غليون)) وهو مفكر علماني منصف في كتابه عن ((المسألة الطائفية)): (أصبح الإسلام بشكل من الأشكال نظاماً من البنى الاجتماعية التي تحفظ الهوية القومية وتنظمها ، وهذا بغض النظر عن الممارسة الفعلية للشعائر الدينية من قبل السكان ، وعن مدى التطبيق السليم أو التناقص للعقيدة ، …. وبقدر ما استوعب الدين هنا العقلانية ، فاحتوى علم الكلام والفلسفة والعلوم المختلفة ورعاها ، لم يأخذ التأكيد على العلم شكل فلسفة علمانية ، ولم تقم حملة عقلانية مجردة قوية كتلك التي قامت في أوربا لتحرير العلم والعقل ، وما زالت الدعوة العقلانية تبدو فارغة لدى الجماعة الشعبية التي لا تجد في العقلانية أي تعارض مع الدين الذي يشجع على استعمال العقل ، ويبدو الجدل حول العقلانية والدين كقضية مصطنعة ومستوردة ليس لها أسس حقيقية واقعية تستند إليها).
وبغض النظر عما يعتور المؤسسة الدينية – هنا وهناك- من مد وجزر ، وصعود وهبوط ، ومن تحمل لمكاره القيادة ، وتجمل بوجاهة الموقع ، فإن الإسلام ((حاضر)) بشهادة الواقع ، سواء قلنا بسقوط الأيدلوجية كما يرى أنصار ((التفريغ الأيديولوجي)) ، أو سلمنا ببقائها بعيداً عن الحماس العقائدي ، وفي ظل استراتيجية جديدة للوعي الاجتماعي تتجاوز التعصب والترهل والتبعية ، لابد من القبول بخيار إسلامي تفرضه الدنيا قبل أن يوجبه الدين ، وكما يقول الدكتور كمال أبو المجد في (إعلان المبادئ): ((إن الحاجة إلى رؤية إسلامية معتدلة ومستنيرة… ليست أمراً مرتبطاً بظروف العالم العربي والإسلامي وحدهما ، وإنما هي حاجة يفسرها تطور المجتمعات البشرية في العالم كله ، والظروف الموضوعية التي تحيط بحياة الإنسان المعاصر)).
وهذا الخيار الإسلامي في ظل (العالم القرية) لا تحقه عزلة للدين داخل جدران دور العبادة المزركشة المتلألئة الأضواء ، وإنما يتدفق عبر مناهج ومؤسسات تأتي في مقدمتها وسائل الإعلام الجماهيري.
ثانياً: مشروعية الإعلام:
لا شك أن الإسلام منذ بواكيره الأولى كان له منهجه في البلاغ ، وأدواته في الإعلام ، وأساليبه في الدعوة ، ولكن الإعلام المعاصر لم يعد أدوات فحسب ، وإنما شبكة غازية من الفنون ، والتي تعبئ في لقطة واحدة الكلمة والحركة والصورة ، ويحتاج الحكم الفقهي فيها إلى فصل ألوان قوس قزح كل على حدة ، ولما استحال ذلك أصبح التترس بالرفض والمنع ، هو وسيلة النجاة من الطوفان الكاسح الذي لا نعرف مبدأه ، ولا نستشرف منتهاه. والفقيه دائماً يتعامل مع الوقائع المفردة ، والنوازل المفرزة ، فكان مبدأ سد الذرائع ، وقاعدة درء المفسدة يقدم على جلب المصلحة ، كان ذلك مدخلاً أصولياً لرفض جانب من الفقه الواقع المعاصر لوسائل الإعلام ، وليس لذلك صلة بالتقدم والتخلف – كما يروج البعض – ولكنها الصدمة الحضارية أو الخوف من المجهول ، وقد رفض ((غاندي)) منجزات العلم الغربي حتى يصنع الهند الحديثة ، وظل يقودها بفكر نهضوي ثاقب رغم حياته اليومية البدائية ، والرأي عندي أن فقه المنع مهما كانت مبرراته لا يعبر عن الحضور الإسلامي ، ولسنا في حاجة إلى (التشرنق) حتى نحتمي بالإسلام أو نحميه ، وإنما علينا أن (ننطلق) في الآفاق لنصك بأيدينا بطاقة انتمائنا الإسلامي.
وقد اقترح البعض فقه الضرورة للتعامل مع عصرنا: مؤسسات وإعلاماً وأنظمة ، وتلك نظرة قاصرة ، إن وسائل الإعلام تحيط بنا من كل جانب ، والتعامل معها يبدأ من كونها طبيعة عصر لا ضرورة مجتمع ، والإعلام نظام كغيره من النظم ، له سلبياته وإيجابياته ، فكيف نبتعد بإسلامنا عن مئات القنوات الفضائية التي تنفذ إلى بيوتنا دون إذن ، وتتحكم في العقول بغير برهان ، إن فقه المنع يفضي بنا إلى قطيعة متوهمة مع الواقع ، وازدواجية غير محمودة في الفكر والحياة ، إن الإعلام رافد مهم في حياتنا ، بل إنه من أعظمها أثراً ، وأكثرها خطراً ، ولا بد من الإحساس الواعي بأهمية الفنون في شخصية الإنسان ، فالغناء والتمثيل ، والرسم والموسيقى ، والوسائل الإعلامية التي تستوعبها من مسرح وسينما ومذياع وتلفاز ، أي كل وسائل الإعلام مسموعة ومرئية ومقروءة ، لابد أن تكون ميداناً لحركة الإسلام بنسقه في القيم ، ونظمه في المعرفة ، وقدراته في الإبداع ، وقد فطنت الجماعة منذ فاجأتها الوسائل الإعلامية الجديدة إلى أهمية الفنون – قادتها إلى ذلك الفطرة قبل العقيدة – فاستقبلت الفن ، ولكنها لم ترحب بالفنان – الممثل والمطرب والموسيقي – ولم تدخله في وسطها الاجتماعي إلا بحذر شديد ، ولم يتح للفن أن يتحول من شارع إلى مدرسة إلا بعد عدة عقود ، وربما لا تزال النظرة الاجتماعية للفنان رغم (النجومية الإعلامية) تختلط بالشوائب في الضمير الجمعي.
وعجيب أمر بعضنا مع الإعلام اليوم ، فئة تتعصب ضده ولا تريده أن يوجد في الإسلام[1].
وفئة تتعصب له ولا تريد أن يكون للإسلام وجود فيه[2].
الفئة الأولى ترى في الإعلام سرطاناً تفشى في الأمة من أقصاها إلى أقصاها ، ولابد من استئصال كل خلاياه منعاً للفتنة ، وسدّاً لأبواب الفساد.
والفئة الثانية ترى الإسلام المعاصر في وسائل الإعلام مصدر البيئة التي تحتضن التطرف ، فهو ينتشر عبر هذه القنوات الفضائية ،وتلوم المسئولين عن وسائل الإعلام الذين يشتتون أفكار الجمهور بتأسلم ينافسون فيه أسلمة المتأسلمين ، وتدعو هذه الفئة السلطة إلى حذف التأسلم من الخريطة الإعلامية منعاً لتطرف ، وحسماً لأسباب الإرهاب.
وهؤلاء وأولئك قلة في النسيج العام للجماعة والتي يدعو مفكروها إلى استخدام كل الوسائل الإعلامية باجتهاد يحفظ للأمة دينها بكل عطائها الحضاري ، ويدخل بها الألفية الثالثة غير معزولة عن إسلامها ، وغير معتزلة عصرها ، فمشروعية وسائل الإعلام لا تقبل الجدل في التيار الفقهي العام ، يقول الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية): ((إن المبالغة في سد الذرائع قد تحرم الناس من خيرات كثيرة ، ومصالح كبيرة ، كما أن المبالغة في فتحها تؤدي إلى شر مستطير وفساد كبير ، …. ، فالتلفاز ذلك الجهاز الخطير الذي بات أقوى المؤثرات في حياة الناس وتوجيه أفكارهم وميولهم وأذواقهم ، ونقل العالم إليهم وهم في عقر دارهم ، هل يتصور أن نحرم المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية من هذه الأداة الجبارة لأنها تقوم على التصوير ؟ في حين يستخدمه أعداؤنا بقوة وجدارة ؛ لما له من تأثير ساحر يجمع بين الصوت والصورة)).
والرأي عندي أن وسائل الإعلام بما تستدعيه من فنون وأجناس قلمية ، ومهن جديدة ، لا يلائمها – فقهاً – اعتمادها على قاعدة سد الذرائع أو فتحها ، فما لا تغطيه قاعدة الذرائع قد تغطيه قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، وقاعدة الأصل في الأشياء الإباحة ، وقواعد أخر كثيرة يتسع بها صدر الفقه للنوازل الجديدة أفكاراً وأفعالاً ووسائل ، فمشروعية الإعلام مكفولة في الفقه الحديث ، ولكنه يعاني من قلق الشرعية الذي أصبح القاسم المشترك لكل الأنظمة في العالم الثالث.
ثالثاً: أزمة الإعلام المعاصر:
الإعلام – وسائل ونظريات – تتقلص شرعيته من خلال فرضية تقول – كما طرحها د. بسيوني حمادة[3] – : المتآكلة ، والهيمنة الكاملة ، والمغتربة عن ذاتها قد خلقت نظاماً اتصالياً تابعاً لها يضفي عليها الشرعية لتأمينها ، ويعضد هيمنتها الشاملة ، ويعيد إليها ذاتها المفقودة ؛ ونتيجة لذلك سادت أنماط للعلاقة بين الإعلاميين والسياسيين غير سوية في معظمها ؛ ولذا كانت محصلتها النهائية اغتراب الإنسان العربي عن ذاته ، وانتهاك حقوقه ، وفقدان الثقة في هذين النظامين معاً ، السياسي والإعلامي ، وانتهى الباحث بعد تطوافه وتحليله إلى قبول هذه الفرضية[4].
والشرعية الغائبة هي جوهر أزمة إعلامنا العربي ، وهي أزمة لا يتطلع إلى حلها وإن أحس بها ، فشرعيته المفقودة مصدرها ارتباطه العضوي بالشرعية المتآكلة للسلطة ، وقد جعله جزءاً من هذه (الماكينـة) يتحرك معها ولها ، وارتبطت مصالحه (بالنخبة الحاكمة) فأصبح ذيلاً لها – شاء أو أبى – ولأن وسائل الإعلام احتكار لمصلحة الدولة ، فإن ديمقراطية الإعلام – وهو مبدأ إعلامي أصيل لا يرتفع بناء إعلامي سليم بعيداً عنه أو مضاداً له – يصبح منذ البداية محلاًّ للتساؤل والاستبعاد؛ لأن النخبة الإعلامية – إذا جاز هذا التعبير – أصبحت وعاءً فارغ المضمون كثير التلون في الأفكار ، سريع التغير في المواقف ، وضاعت قدرتها على صناعة العقل.
والملفت للنظر أن هذه المؤسسات الكثيرة العاملة ، عجزت عن أن تقدم مُنَظّراً إعلامياً واحداً؛ فخلا الميدان من الابتكار والإبداع ، وطغى على السطح جيل طائع – أو ضائع[5] يمثل هرماً من القيادات يفتقد الثقة الرصينة ، ويفتقر إلى التماسك الأخلاقي ، ويخلو من الموهبة أو يكاد ، وأصبح الإعلامي الجيد – وليس الممتاز – عملة نادرة ، وإذا حرم الإعلامي من الخلفية الثقافية ، والقدرة على المبادرة ، والموهبة التي تثب به إلى منضدة الحوار والمناظرة والقدرة على إدارة الأفكار ، وقبل ذلك الحرية التي تطير بجناحيها بذلك كله في الأفق الفسيح الممتد فيصبح الإعلام كالشمس حقّاً للجميع ، إذا حرم الإعلامي من هذه المقومات فلن تبعثه من مرقده أبواق عالية ، أو قنوات فضائية جديدة ، ويظل الإعلام العربي في أزمته حبيس مشكلات ثلاث:
1) مشكلة الكوادر:
فالإعلام العربي – كما وصف في أحد دوله – يتمتع بحماية نظام ((هيراركي)) يتيح له وصول عمله إليه في مكتبه في شكل معلومات وتكليفات وتوجيهات معدة ولا ينقصها إلا الصياغة ، هذا النظام يعفيه – بسبب تعدد مستويات الرقابة الخارجية والداخلية والذاتية – من مسئولية الرأي والانحراف عن الخط. فالدائرة الوظيفية في الإعلام يعتورها نقص متعمد يجعلها جزءاً من البيروقراطية العامة وما فيها من فساد إداري ، ويدخل الحرم الإعلامي – وهذا ما يدنس حرمته – أجيال من العاملين تقودهم في الكهف السري للإعلام قرابات معتلة ، وعلاقات فاسدة ، ومصالح غير إعلامية ، وأغلب من دخل من غير هذا الطريق ، شخصيات مأزومة أو مهزومة ألقى بها الحظ العاثر إلى طريق مسدود ، والأمل في الحل يكاد يكون معدوماً لاعتبارات هي:
أ- التكدس الوظيفي حيث الغالبية بما فيهم بعض الرؤساء – يعمل واقفاً- لأن شجرة العائلة لابد أن تضم كل أبنائها في علب السردين الإعلامية يستوي في ذلك الصالح والطالح.
ب- تراجع معايير الاختيار الحقيقي ، حيث تعد سلفاً قائمة الناجحين أو الناجين – بفضل الواسطة – من البطالة بعد مسابقات هي في ذاتها هزيلة وهزلية. ويسود مبدأ ((القريب هو النجيب)).
ج- التفاوت الغريب بين العاملين في القنوات والشبكات – حسب نوعية العمل لا الكفاءة – فبينما أصبح للإعلام الرياضي في بلادنا نجوم وقنوات وصحف وتمويل ، ونقابات وجماعات ضغط ، فكلهم ((ابن بطوطة)) يرتحلون في دنيا الله ، ويعودون بغنم لا غرم فيه ، على تهافت ثقافتهم ووهن قدراتهم ، وجفاف معلوماتهم حتى في المعرفة الرياضية ذاتها ، وفي المقابل توجد مجالات أخرى كالبرامج الدينية يحس العاملون بها كأنهم في منفى لا يشعر بهم أحد.
2) مشكلة الإنتاج:
لدينا كم وليس لدينا نوع ، وفي مجال الإنتاج العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول ، والجانب الأهم من الإعلام يكاد يتمحور حول القابض على زمام السلطة ، وهو في عالمنا العربي فرد تحيط به البطانة ذات الوظيفة الوحيدة في التخت السياسي فهي تسبح بحكمة السلطان ، أو تزين له ما يريد ، وما بقى من الإرسال – قل أو كثر –يتخلله إنتاج عقيم يقدم فيه ((الكتبة)) على ((الكتاب)) معبراً في الجزء الأكبر منه عن مجموعات موظفة ، وشللية منظمة ، والقليل المتروك أعمال مرتجلة كل همها ملء الفراغ على الخريطة ،وأصبح البرنامج الذي يصل إلى الجمهور تفرزه ثلاثية جوفاء ، فالموضوع مستهلك أو محيّد ، والضيف مقيّد أو مستأنس ، والمذيع ليس له إلا حنجرته ، وهذا مجرد مثال يجسد لواقع إعلامي يتعذر تلافيه لما يأتي:
أ- مصالح سياسية واجتماعية ومالية قد ارتبطت بالوضع الراهن ، فالسلطة تريده على ما هو عليه لأنه دميتها ، والمجتمع أصبح مستسلماً له فهو من ضحاياه ، أما هيئات المنتفعين فإنها الدجاجة التي تبيض لها ذهباً ، فهي تغترف منه وسوف تقاتل دونه.
ب- إن مهناً جديدة خلقها الإعلام المعاصر ، فالكاتب الذي كان يحمل أمانة الكلمة ارتفع فوقه كاتب السيناريو ، والكاتب الإذاعي ، والكاتب التلفزيوني ، وغيرهم ، ثلة من الكتاب ، تكتب أضعاف أضعاف ما تقرأ ، وتشكل الرأي العام ، وتؤثر في جمهور المستقبلين ، بقدرات محدودة ، وأهدافها الكسب السريع على حساب المستقبل العقلي للأمة. والمهن الجديدة يكفي لمعرفة بعضها قائمة الأسماء التي تتصدر كل حلقة مسموعة أو مرئية ، وكلهم أقل ثقافة وأمانة من أصحاب المهن الأصلية ، واستبدل الربح بالرسالة في العمل الإعلامي.
ج- التقاليد الغالبة في محيط الإنتاج الإعلامي التي جعلت بعض حملة الأقلام يتخذ مركزه وسيلة للاتجار والكسب غير المشروع ، وأصبح المؤلف لا يقبل عمله إلا إذا قاسمه المخرج في الأجر ، وأصبحت الصداقات تفعل فعلها في اختيار النصوص ، وعدد الحلقات ، والأسماء اللامعة – كما قيل – سواء عن جدارة أو زيف تفرض نفسها فرضاً ، وكل هذه الأوضاع ما كان ينبغي أن يترك لها العنان. بل إن مشاهير الفن والرياضة – ولأسباب غير إعلامية – تشغل الحيز الكبير من الوقت الإعلامي ، فيكفي تواجدها في الأعمال الفنية ، والمباريات الرياضية بما تعطيه من نجومية وانتشار ، وإنما تملأ المساحات الباقية في أغلب البرامج ، للحديث عن سيرة الحياة وعن آرائهم في الحب والسياسة والدين ، ولا شك أن للفن قيمته ، ولأصحابه الملتزمين احترامهم ، وللناشئة الذين تتوجهم أقدامهم ملوكاً وعباقرة وأفذاذاً أهميتهم في الواقع المأزوم ، ولكن المجتمع لا يقوده هؤلاء ، وإنما يعلو بعلو شأن نخبته من الفقهاء والعلماء والسياسيين العسكريين ، وهم المثل الذي ينبغي التعريف بكفاحهم وأفكارهم ، وهم القدوة التي بها يرتفع شأن الأمة ، وليس بمنتزعي الضحكات من الجمهور بالنكات الحادة والفجة ، أو بركلة قدم تفجر آهات المدمنين.
إن أزمة الإعلام في بلادنا تعبير عن أزمة مجتمع بكل مؤسساته السياسية والتعليمية والتربوية ، وارتباط النخبة الإعلامية بالحكم الباحث عن الشرعية يجعلها نخبة ((مائعة)) تقوم بمهمة مستحيلة ، وهي أن تكون مصدراً للشرعية بحسبان أنها تعبر عن الرأي العام وتقوده ، خاصة – وكما يقول ماكس فيبر – فإن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تظل قلقة ومصدر ضعف للسلطة والوطن معاً إلى أن يقتنع المحكوم بجدارة الحاكم وأحقيته في أن يحكم.
فاقتناع الأمة بجدارة السلطة هي جوهر الشرعية ومغزاها ، ومهما حاول فن الإقناع بما له من وسائل الإمتاع ، وبما يحوزه من سلطة معنوية طاغية أن يستبدل التأييد الإعلامي بالموافقة الشعبية ، فإن الأمة ستظل دائماً مصدر الشرعية الأول والأخير.
رابعاً: نحو إعلام إسلامي:
إن الإعلام أصبح سلاحاً يستخدم في خدمة السياسة والمصالح على المستويين الجماعي والفردي ، وأزمته تعلن أن العقل المسلم على مفترق طرق ، وكلها – عند الصدق مع النفس – تعلى من أهمية الإعلام الإسلامي.
والإعلام الإسلامي – كما سبق وأشرنا في دراسات عديدة – ليس هو المادة الدينية التي تبث من وسائل الإعلام مسموعة ومقروءة ومرئية ، وهو في تعريف موجز: تحكيم الإسلام في الإعلام. والإسلام ليس تجربة تاريخية معينة ، ولا هو زمن إليه نعود ومنه دائماً البداية ، إنه ليس الجمود الذي لا يرضى سواه المتعصبون ، وليس التغير الذي لا يرى غيره المعارضون ، إنه تحكيم الإسلام بأصوله الثابتة وقواعده المرنة ، من الغلاف إلى الغلاف فيما يقرأ ، ومن بداية الإرسال إلى نهايته فيما نسمع ونشاهد ، وسواء في ذلك الأحكام الفقهية والنشرة الإخبارية والحديث الحواري والمسلسل والبرامج الرياضية والمواد الفنية الثقافية والعلمية ، الكل يشارك في الإبداع والكل يشارك في السماع ، والنوافذ مفتوحة أمام الجميع للتلقي ، وحرية الانتقال مكفولة ، من موجة إلى موجة ، ومن قناة إلى قناة ، فجميعها أطراف لها صلة مباشرة بالمركز الأم التي يجعل الغرس إسلاميّاً والثمرة إنسانية.
نقطة الخلاف مع جماعات كثيرة تتحدث عن الإسلام أنها ضعيفة الوعي بالتاريخ ، فلا تدرك المسافة بين النص والواقع ، وتختلط لديها التجربة البشرية المتزمتة بالنص الإلهي المتعالي ، تلك نظرة تعلق النص في تجربة يصبح ما عداها محل شك ، ومن يتجاوزها يتهم بالخروج ، والأولى بنا أن نضع النص فوق التجربة ، يحاكمها هي وغيرها بقانونه ، فلا قداسة لتجربة بلا وحي ، ولا حرج من المراجعة والتقويم ، وباب الاجتهاد بضوابطه مفتوح ، والتجديد في الاستنباط يفرضه التجدد في الأحداث.
وفي مجال الإعلام يصبح الأمر أدق وأصعب؛ لأنه مرتبط بحركة المجتمع ، وهموم الناس وحقوق الإنسان بكل طوائفه وفئاته ، فكيف يتحقق إعلام إسلامي؟
ليس الأمر سهلاً – كما يظن البعض –فأهون الأمور أن تكون لك قنوات فضائية ، أو محطات إذاعية وتليفزيونية ، عامة ومتخصصة ، فالجغرافيا ليست الهدف ، ولكن صناعة العقل ، وصياغته على نحو إسلامي ،والتأثير في الرأي العام ، وإحداث تحولات لصالح الإسلام الصحيح ، هي الغايات القريبة والبعيدة.
وصناعة العقل باعتبارها المهمة الأولى للإعلام الإسلامي ، لها شروط منها:
1) إقامة نسق معرفي بديل ومناظر للأنساق الإعلامية القائمة – أي الأبستمولوجيا أولاً – وفي هذا يصدق ما قاله الدكتور كمال أبو المجد: ((إن كثيراً من الداعين إلى الإسلام والمتحدثين عن مبادئه وقيمه ونظمه وثقافته يتحدثون عن الإسلام في عبارات غامضة عما يسمونه ((الحل الإسلامي)) وعن منهج الله المقابل للمناهج البشرية وعن الحاجة إلى أسلمة الحياة وأسلمة المعرفة وأسلمة العلوم ثم لا يزيدون ، ولا يعرضون على الناس عناصر هذا المنهج ومكونات ذلك الحل ، ووسائل وضعه موضع التنفيذ مما تصور معه بعض الناس – معذورين في ذلك – أن التيار الإسلامي بكل روافده ليس له توجه فكري محدد ، وأن منهجه في الإصلاح لا يتجاوز ترديد العديد من الشعارات المثالية التي تتضمنها نصوص قرآنية أو أحاديث نبوية ، دون محاولة لوصل ذلك بواقع الناس ، وحقائق العصر. وهذا ينطبق على الإعلام كما ينطبق على غيره من مفردات الحل الإسلامي ، فإذا أضفنا إلى ذلك أن عالماً جديداً يتخلق من حولنا ، وأن الجهاز الذهني البشري – كما قال أصحاب كتاب ((عقل جديد لعالم جديد)) – يعجز عن تفهم العالم الجديد – وهو ما سبق أن طرحه ((تولفر)) بمفهوم آخر في ((صدمة المستقبل)) – تصبح العوائق وكأنها طبقات بعضها فوق بعض ، خاصة وقد تدهورت قدرة الحكومات ذاتها على التعامل مع عالم يتغير بشكل متسارع.
2) إن الإعلام اليوم ليس لأجل الإعلام ، فمقصوده يتجاوز التاءات الثلاثة القديمة – تعليم وتثقيف وترفيه – إنه صناعة ثقيلة إنتاجها الإنسان ، وهدفها الرئيسي إعادة التكوين وخلق التأثير ، وهو من العلم الخادم؛ الذي أحياناً يبني وكثيراً ما يهدم ، ولأن الإنسان هو المستهدف ، فالثمن الذي ندفعه عندما يخرج الإعلام عن مداره الصحيح يكون غالياً وجد باهظ.
3) إن أيديولوجيات كثيرة فقدت قدرتها على الإقناع ، وبعضها خرج عن مسرح الأحداث وصمد الإسلام لسبب لا يدلنا فيه ، فهل نستخدم صموده من أجل عالم جديد؟ جديد في نظمه وسياساته ، وفي إعلامه ومنجزاته.
إن الأديان السماوية اليوم نظمت صحوتها في عناقيد غضب ، عنفها يثير ، وخطابها يحذر ، ولكنه قليلاً ما يغير ، إنه خطاب صامت يراهن على بقائه ، ولا يحاور مخالفيه ، وغالباً ما يكون هدفاً لإعلام معاد يخلق منه صورة نمطية للدكتاتورية القادمة ، ولذهنية التحريم ، وهذا الفكر الذي يرى الخلاص في الرصاص ، ينطلق من معرفة ناقصة بالإسلام ، وتصبح البداية الصحيحة لإستراتيجية إعلامية إسلامية هي المعرفة المتكاملة بالإسلام ، الذي يقدم عقيدة شاملة ، وكما يقول العقاد : ((إن شمول العقيدة في ظواهرها الفردية وظواهرها الاجتماعية هو المزية الخاصة في العقيدة الإسلامية ، وهي التي توحي إلى الإنسان أنه ((كل)) شامل فيستريح من خصام العقائد التي تشطر السريرة شطرين ، ثم تعيا بالجمع بين الشطرين على وفاق)).
ولكن هذه المعرفة المتكاملة باعتبارها من المهام الكبرى أمام الإعلام الإسلامي يعوزها فقه جديد ينطلق إلى آفاق العصر بمركبة النصوص ، يقترب منها ومعه زاد وافر من علوم الأصول واللغة والتفسير وغيره ، أي يكون على دراية بفقه النص وفقه الواقع ، ويعوزها أيضاً فض الاشتباك مع النخب القائمة ، فليس الهدف انتصار طرف على طرف ، وإنما أن يلتقي الجميع على كلمة سواء مع تنوع الرؤى وتعدد المذاهب ، وأيضاً تجسير الفجوة مع النخبة الحاكمة مطلوب ، وكما يقول الشيخ الحكيم (محمد الغزالي): ((إن بعض الناس يريدون أن يكون عمل الداعية – والإعلامي أيضاً – الهجوم على الحكام ، وأن يكون ذلك علكاً في فمه يمضغه باستمرار ، وهذا عمل الفارغين ممن لا يستطيع البناء ، وهذا عمل من لا يعرف الداء ، وهذا عمل ينبغي أن يشتغل به من يطلب وجه الله)).
4) وأخيراً فإن من مهام الإعلام الإسلامي أن يواجه التدفق الإعلامي ، خاصة في عصر الفضاء المسموم ، وهي مهمة تتجاوز قدرة الدول الشظايا في العالم الإسلامي ، لابد من وحدة تقيم البناء الإعلامي ، ويؤدي بها مهامه ووظائفه ، وكما يقول عابد الجابري – الباحث المغربي – في كتابه ((إشكاليات الفكر العربي والمعاصر)): (إن الدولة القطرية عاجزة عن القيام بمهمة مواجهة الغزو الإعلامي ونظام الفكر السائدين ، عجزاً عن توفير الأسلحة الضرورية لمواجهتها ؛ ذلك أن التصدي لهذه الظاهرة الإمبيريالية الجديدة لا يمكن أن تحقق الحد الأدنى من النجاح إلا إذا كانت عملية تحصين الذات العربية تتم هي الأخرى بنفس السلاح ، وتلك مهمة لا تستطيع الدولة القطرية العربية القيام بها ، لابد من عمل مشترك ، … ولا يكفي أن يكون للعرب قناة تلفازية عبر الأقمار الصناعية ، بل لابد أن تكون برامج هذه القناة في مستوى فكري وفني يمكنها من اجتذاب المشاهد العربي ، ومنافسة القنوات الأجنبية ، ولابد لذلك من أن تكون هذه البرامج من نتاج عمل مشترك ، ليجد فيها المشاهد العربي ما يعبر عن خصوصيته القطرية وهويته العربية وطموحاته الإنسانية ،وأهم من ذلك لابد أن يكون مضمون هذه البرامج من النوع الذي يعبر عن أحاسيس المواطن العربي ، وعن طموحاته وآماله) وما يقوله ((الجابري)) عن الإعلام العربي الموحد يحتاجه الإعلام الإسلامي أيضاً. إن المواطن العربي مهزوم في داخل وطنه أو مغترب عن ذاته ، سرقته من أمته أفكار مستوردة ، وأقمار غربية تسبح في فضائه ، ولن يعود إلى أمته الإسلامية إلا إذا احترمت وثيقة حقوقه ، ولن يجتذبه إعلام قائم إلا إذا راعى الله في خصوصيته الحضارية وعقيدته الإسلامية ، وقيمه الأخلاقية ، والمسلم لا يريد إعلاماً يلبي هواه ويلهث وراء رغباته ، بل يستدعي إعلاماً يرتفع به ومعه إلى آفاق الإنسانية العليا حيث يتعانق الدين مع الحياة.
والحمد لله رب العالمين ،
*بحث مقدم إلى ندوة نحو فقه معاصر لإعلام متميز، القاهرة، 7 – 9 سبتمبر 1998م.
[1]راجع عبدالغني بن محمد إبراهيم: الإسلاميون وسراب الديمقراطية، دراسة أصولية، مؤسسة المؤتمن، 1413هـ / ط1، ص 201 وما بعدها.
[2]د. رفعت السعيد: الإرهاب إسلام أم تأسلم، دار سينا 1995م، وللكاتب أكثر من كتاب في الموضوع، وتعصبه ضد الإعلام الإسلامي لا يصدر عن عربي.
[3]د. بسيوني حمادة:العلاقة بين السياسيين والإعلاميين في العالم العربي، مجلة عالم الفكر، م23 محدد 1، 2 سبتمبر – ديسمبر سنة 1994.
[4]المرجع السابق، ص 217.
[5]تحاشيت أن أستخدم العبارة التي قالها ((برديائف)) عن مثل هؤلاء، وهي ((جيل التافهين))، راجع كتابه ((أصول الثورة الروسية)).