اللغة وعاء حضاري عجيب يستحق أن يقسم الله عليه ويجعله مثالاً للحق حيث يقول: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، وجعلها الله واسطة التعليم وإقامة الحجة، فقال: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] حتى أطلق القدماء في تعريف الإنسان قولهم: حيوان ناطق حيث يدل النطق على التكفير ويدل وضع الألفاظ بإزاء المعاني على إمكانية التفاهم ونقل الخبرات وإقرار القيم وإقامة البرهان على القضايا، وجعل أصحاب أصول الفقه مبحث واضع اللغة من هو؟ في مسائلهم، فقال بعضهم: هو الله، وقال آخرون: البشر، وذهب فريق ثالث إلى أن الله وضع اللغة في قوانينها الأولى، ثم ولد البشر على تلك القوانين ما سار به التفاهم بينهم، كل هذا الاهتمام باللغة وجعلها في تلك المكانة الكبرى يدل على أنها أساس لكثير من المشكلات ومفتاح لكثير من الحلول عندما يفكر الإنسان، ولقد سار المسلمون عبر قرونهم الماضية على قاعدة أساس تم بها التعامل مع اللغة وأفادت في فهم النص المقدس (القرآن والحديث باعتبارهما مصدري التشريع) هذه القاعدة هي (أن الاستعمال من صفات المتكلم، والحمل من صفات السامع، والوضع قبلهما) وهذه القاعدة تعني أن المتكلم هو الذي يستعمل اللفظ المعين، وهو يقصد معنى معينًا في ذهنه استعمل ذلك اللفظ له، فإذا سمع السامع ذلك اللفظ فقد يحمله على نفس ما قصده المتكلم، وقد يحمله على معنى آخر، فقد يقصد المتكلم الحقيقة ويفهم السامع المجاز، أو العكس، وهنا يختل التفاهم، ومن هنا يجب الرجوع إلى قضية وضع الألفاظ أمام المعاني، وهي موروثة لا دخل للمتكلم والسامع بها، إن هذه الحقائق التي تبدو بسيطة في نفسها لموافقتها للواقع المحسوس أصبحت عند فريق من الناس محل نظر، وترتب على هذا الإنكار أن ثار سؤال: اللغة وظيفتها الأداء أم التلقي؟ فإن كانت وظيفتها الأداء فلابد من البحث عن مراد المتكلم، وإن كان التلقي فيمكن للسامع أن يفهم ما يشاء من فهم، ويحمل ما يشاء من ألفاظ على ما يشاء من المعاني، فإذا رجعنا إلى النص المقدس لنتعامل معه بهذا المدخل لوصلنا إلى أن للسامع لكتاب الله أن يحمل ألفاظه على ما يشاء من معاني يجدها في نفسه، حيث انفصل الكلام عن المتكلم وأصبح ملكًا للسامع يحمله على ما يشاء، فمرة يجعله أسيرًا لأسباب النزول، ومرة يجعله مخاطبًا لأشخاص وأحداث اليوم، ومرة يؤول، ومرة يحمل على الظاهر انطلاقًا من وظيفة اللغة وأنها للتلقي وتحررًا من قاعدة الأصول من أن الوضع قبل الاستعمال والحمل معًا.
إن هذا المذهب يرفضه المسلمون عبر القرون، ولقد أدى في الماضي إلى الباطنية الملحدة، حيث استعمله أصحاب المذهب الغنوصي في تأويل القرآن بما يسقط التكليف عن البشر، أو يقر مجموعة من العقائد الباطلة المخالفة لاتفاق أهل القبلة ولما فهموه من دين الله، وهو يطل برأسه الآن مع المتطرفين من مذاهب ما بعد الحداثة التي تريد التحرر الكامل للإنسان من كل ذي سلطان؛ حتى تتحقق النهضة الثانية، كما تحققت النهضة الأولى بالحداثة، فالنهضة الأولى جعلت مصدر المعرفة الوحيدة هو الحس ومجاله الوجود، وأنكرت الوحي تحت وطأة التحريف والتخريف الفظيع الذي قامت به الكنيسة، فشوهت به كلمة الله والوحي، والنهضة الثانية المزعومة تريد التحرر من الدولة والأسرة والتقاليد والدين واللغة حيث يعدون اللغة عائقًا موروثًا يجب الخروج عنه، فلا نتقيد بمعنى أب، أم، زوج، زوجة، ذكر، أنثى… إلخ حيث إنها تشتمل على قيم يمكن للإنسان أن يخرج منها وعنها ويكون تجمعًا يقترن فيه الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة في تجمع ليس هو الأسرة المعروفة ويقوم كل من يشاء بأي دور شاء من أبوة أو أمومة، فلم يعد الأب بالضرورة ذكرًا ولم تعد الأم بالضرورة أنثى، وليس بالضرورة أيضًا أن يقوم شخص بدور واحد، فقد يكون أبًا وأمًا معًا ذكرًا كان أو أنثى، وعليه فيجب أن نتحرر من اللغة التي فيها هذه الألفاظ ذات معان محددة.
وكما كان أصحاب الغنوص والباطنية في الماضي على خطر عظيم بإزاء الشرع، وكان كلامهم مدخلاً لهدم النظام التشريعي والاجتماع البشري جملة وتفصيلاً، فإن أصحاب هذه الدعوى بهذا الترتيب الخطير لهم نفس الخطورة، ولهم نفس الأهداف، حيث يهدد مذهبهم هذا ليس فقط الدين والشريعة، بل أيضًا الاجتماع البشري والعمران.
فاللغة وعاء حضاري وضرورة اجتماعية ومنحة ربانية يجب الحفاظ عليها والانطلاق منها.
وللحديث بقية…