عرض ونقد كتب

قراءة في كتاب “السيرة النبوية” أبي الحسن الندوي

العدد 80

يُشكل المقدمة التي كتبها الأستاذ الندوي للطبعة الأولى من مؤلفه القيم عن السيرة النبوية([i]) مفتاحًا، أو مدخلاً، لابد من التوقف عنده قليلاً لفهم ما الذي أراد أن يقوله أو يفعله وهو يؤلف كتابه هذا.

ومن أجل ذلك فإن من الضروري – كما يقول النقاد البنيويون – «تفكيك النص» في محاولة للتأثير على العناصر الأساسية للمقدمة باعتبارها مرتكزًا للعمل ومبررًا لإخراجه في الوقت نفسه.

إن هذه العناصر – والحق يقال – لتمنح القارئ، حتى قبل مطالعة فصول الكتاب، القناعة بمبرر ظهور بحث جديد عن السيرة – بقلم الأستاذ الندوي – بل بضرورته.

فلم يكن الأمر– كما قد يتوهم البعض – مجرد رغبة مخلصة لإضافة كتاب جديد إلى قائمة المؤلفات الحديثة في سيرة الرسول المعلم عليه أفضل الصلاة والسلام، وإن كانت هذه الرغبة في حد ذاتها، تحمل، على المستوى الديني في الأقل، مبرراتها ودوافعها المقنعة، إنما بالنسبة لباحث متمرس كالأستاذ الندوي، فإن خطوة كهذه ما كان لها أن تشق طريقها إلى التحقق لو لم يعرف الرجل مسبقًا أنها ستقدم إضافة جديدة إلى مكتبة السيرة، إن على مستوى المنهج أو مستوى الموضوع. ويكفي أن يقع الاختيار على كتاب الندوي، من بين عشرات وربما مئات من الأبحاث في السيرة لنقله إلى الإنكليزية، وعدد من اللغات الحية، ومخاطبة العقل الغربي بمفردات هذه السيرة ودلالاتها، مهندسة وفق منهج الندوي وأسلوبه؛ لكي يتبين أن هذا من بين عوامل عديدة متشابكة كالتي سنؤشر عليها، ما يجعل الكتاب إضافة جادة وليس تقليدًا أو تكرارًا.

ومهما يكن من أمر فإننا لو قمنا بإعادة ترتيب العناصر الأساسية للمقدمة، في سياقات رئيسية من أجل وضع اليد على قيمة الكتاب؛ فإننا سنجد محاولة الندوي هذه تقوم على المحاور التالية:

أولاً: بيئة ثقافية ذات توجه إسلامي ينشأ فيها المؤلف، فيجد نفسه، منذ تفتح وعيه على الحياة، قبالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة ومعايشة وتعلمًا.. وبمرور الوقت فإنه يسعى لتنمية خبراته عن السيرة بمزيد من القراءة والدراسة في المصادر (القديمة) والمراجع (الحديثة) بالعربية وغيرها من اللغات. هذه المتابعة الفكرية التي لم تنفصل يومًا عن بطانتها الوجدانية، بسبب من عقيدة الرجل وانتمائه البيئي، وبالتالي فإنها بصيغتها الشمولية هذه والقائمة على ما يسمى في العصر الحديث بـ (المعايشة التاريخية): كانت أقدر على تحقيق المقاربة بين الندوي وبين عالم السيرة الخصب المؤثر، المتجذر في الغيب، والذي لن يقدر باحث من الخارج، أو من بعيد، على فهمه وإدراكه.

ويجب أن نضيف ها هنا أن الندوي من أجل استكمال أبعاد تجربة المعايشة هذه، ذهب أكثر من مرة إلى أرض النبوة واجتازها شبرًا شبرًا، وكان وهو يعاين المعالم والمواقع ويدققها، يعيش في الوقت ذاته المناخ الذي تخلفت فيه مفردات السيرة، ونسجت خيوطها. ويكفي أن نرجع إلى كتاب (الطريق إلى المدينة)([ii])؛ لكي نتلمس طبيعة المعاناة الوجدانية التي حملها الرجل بين جنبيه وهو يتقلب هناك.

إن هذه الخطوات كافة منحت الندوي، كما منحت قلة ممدودة من الباحثين المعاصرين، السلاح الذي مكنهم من دخول الساحة، والقدرة على التعامل مع السيرة بأكبر قدر ممكن من النفاذ والصدق.

ثانيًا: لم يقدم الندوي مباشرة على الكتابة في السيرة، كمشروع شامل، قبل أن يمارس البحث في جوانب منها، كانت أشبه بخطوات على الطريق بتمرينات أولية، إذا صح التعبير، تمهيدًا للعرف الجامع الأخير([iii]) وكان فضلاً عن هذا يمارس التعامل مع السيرة باتجاه مواز آخر: الاستمداد من مادتها الخصة وتعاليمها الغنية في الكثير من كتاباته ومحاضراته.

ثالثًا: بمرور الوقت يتبلور لديه إحساس متزايد بضرورة كتابة مؤلف شامل عن السيرة، وكانت تغريه بذلك – فضلاً عن المؤثرات الذاتية والثقافية والمنهجية آنفة الذكر خصائص – ومواصفات كان يرى، محقًا، أن أية دراسة في السيرة لا تستكمل أسبابها بدون حضورها جميعًا، فكيف إن غاب عامل أو أكثر عن رؤية الباحثين، كما حدث ويحدث لدى العديد من الذين تناولوا الموضوع من المستشرقين، والمنتمين لعالم الإسلام نفسه؟ كيف إن غاب معظمها أحيانًا؟ ألا يتحتم في مقابل هذا أن تتعزز المحاولات المنهجية التي تسعى جهدها لاستكمال الأسباب، وأن تزي وتتكاثر، على الأقل لمجابهة هذا السيل من الأعمال الناقصة وموازنتها؟

إذن «فالسيرة» التي ينادي الندوي بها ويسعى إلى تنفيذها في مؤلفه الذي بين أيدينا، يتحتم قيامها على الخصائص وصيغ العمل التالية:

(1)    أن تبنى بأسلوب عصري علمي، فما من شك في أن مناهج البحث المعاصرة ومعطيات العلوم الحديثة تقدم وسائل جيدة للمؤرخ ما كان يملكها الباحثون القدماء؛ وبالتالي فإنها تساعد على الاقتراب أكثر من طبيعة الحدث التاريخي وتركيبه وعرضه بالصيغ الأكثر دقة. ويبدو أن من فضول القول، أن نشيرها هنا إلى أن هذه المناهج وتلك المعطيات العلمية ترتد في أصولها وبدرجة كبيرة إلى معطيات الحضارة الإسلامية في هذه المجالات، وهي مسألة أكدها الباحثون الغربيون أنفسهم في العديد من مؤلفاتهم.

وبمقدور المرء أن يلقى نظرة على السياق المنهجي للكتاب وعلى تهميشاته؛ لكي ما يلبث أن يتبين له ما يتميز به مؤلف الندوي من تركيز، وتماسك، ومتابعة للحدث التاريخي الأساسي، دون خروج إلى تفاصيل جانبية، وما يلتزم به من توثيق للمعلومات من خلال تثبيت المصادر والمراجع بأجزائها وصفحاتها، وبشرح المفردات وتحديد الأعلام. أما اللغة فهي سلسلة واضحة تسعى إلى التوصيل بأكبر قدر من الوضوح وتتجاوز التعقيد والإغماض حتى في تعاملها مع النصوص المستمدة من المصادر القديمة وقد يختلف المرء مع المؤلف في أمر واحد، وهو أنه لم يعتمد منهج التقسيم الموضوعي لأحداث السيرة ومفرداتها، وإنما التزم خط التسلسل الزمني للأحداث رغم تقاطعها النوعي من حين لآخر، وهو منهج اعتمده معظم الباحثين المعاصرين في السيرة.

(2)    أن تعتمد على خير ما كتب في القديم والحديث، ذلك أن البحث الجاد هو، بشكل من الأشكال، عمل نقدي انتقائي، لا يستسلم بسهولة لركام الروايات، ولا يغريه أحيانًا، التضخم في المادة التاريخية. ومعروف أن السيرة قد عانت الكثير بمرور الزمن، من الإضافات في الخبر التاريخي، بموازاة ما كان يحدث في «الحديث» النبوي مما هو معروف، ومن ثم فإن أية محاولة لكتابة السيرة، أو إعادة كتابتها بشكل أدق، يتحتم أن تمارس اختيارًا – مسؤولاً بطبيعة الحال وليس مجرد هو عشوائي – لخير ما قدمته المصادر القديمة عن السيرة من روايات موثقة أصيلة، ولأحسن ما طرحته الدراسات الحديثة من تحاليل ومواقف واستنتاجات قد تعين على إضاءة أشد تركيزًا لموضوعات السيرة الخصبة المتشابكة. ولكن تبقى «المصادر الأولى الأصيلة» الأساس الذي يقوم عليه البناء؛ لأن المادة الأولية التي يقام منها الصرح موجودة هناك، ويكفي أن نلقى نظرة على قوائم المصادر التي اعتمدها المؤلف لكي يتبين لنا أنه لم يكد يترك مصدرًا أساسيًا إلا ورجع إليه، وإن كان اعتماده المحوري، كما هو واضح على «سيرة ابن هشام» و «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية، فضلاً عن كتب «الصحاح»([iv]).

(3)    أن تحقق تطابقًا مدروسًا بين مفرداتها كافة وبين ما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة الموثقة. ذلك أن المصدرين الأخيرين يحملان الصدق المطلق في تعاملها مع الواقعة التاريخية، سواء بالنسبة للمنظور الإسلامي، أو حتى بالنسبة للمنظور المنهجي العام الذي أخذ يدرك، أكثر فأكثر، مصداقية المعطى التاريخي للقرآن والسنة، وهذا يعني بالمقابل رفض واستبعاد كل ما يتعارض مع هذين المصدرين من مفردات أُقحمت على السيرة عبر الزمن فيما أصابها بالتضخم وأضاف إليها الكثير مما لم يكن فيها ابتداءً. ولهذا السبب يدعو الندوي إلى تجاوز ما يسميه «الأسلوب الموسوعي الحاشد للمعلومات في غير نقد وتمحيص»، فإن بعض مؤرخينا القدماء، أسوة ببعض أدباءنا القدماء، كان مغرمًا في سياق نزعة موسوعية جماعة، إلى أن يضيف ويحشد وينوع، مؤثرًا الحصيلة الكمية على حساب التركيز النوعي، مفتقدًا – أحيانًا- المنهج النقدي، الانتقائي، الممحص. وهذا المنهج يقتضي أول ما يقتضي الإحالة المنضبطة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن اعتماد معطيات المناهج الحديثة لما يمكن اعتباره إعادة للأمور إلى نصابها الحق فيما يتعلق بنسيج السيرة. ويكفي أن يلقى المرء نظرة على هوامش الكتاب؛ لكي تتبين له المساحات الواسعة التي اعتمد فيها المؤلف على المعطيات التاريخية عن السيرة في كتاب الله وأحاديث رسوله عليه الصلاة والسلام.

ومن أجل ألا يتصور أحد، أو يخطر على باله، بأن دعوة الندوي هذه قد تقود العمل باتجاه الانسياق وراء الاتجاهات الغربية المعاصرة في دراسة السيرة، فإنه يدعو إلى رفض تقليد هذه الاتجاهات أو «الخضوع لكتابات المستشرقين وأقوال المشككين»([v]).

وها هنا بصدد النقطة الأخيرة فإن منهج البحث الغربي، في حق السيرة بالذات، قد يتعامل بصيغ نقدية حادة ومبالغ فيها، تقود بالضرورة إلى التشكيك بالكثير من أهم وقائع السيرة ومرتكزاتها، خاصة إذا تذكرنا المنظور المادي للرؤية الغربية، أو العلماني على أحسن الأحوال، هذا المنظور الذي يرفض البعد الغيبي في تعامله مع التاريخ، أو يدفعه إلى الظل، الأمر الذي يلحق بالسيرة أذى كبيرًا.

أما الموقف (الإسلامي) الأصيل من السيرة، «الموقف المتوحد الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين، والذي يجد في السيرة تعبيرًا متكاملاً عن العقيدة التي ينتمي إليها، فإنه يجد في الدراسات الاستشراقية الخارجية عن السيرة، تغربًا عن مسلماته، وخروجًا صريحًا على بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعمدة لإصابة هذه المسلمات والبداهات بالجروح والكسور، وهي – لحسن الحظ – لن تفعل فعلها في يقينه، إلا في حالات معينة، بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمها إلى الاشمئزاز والنفور. هذا مع أن معالجة واقعة تمتد جذورها إلى عالم الغيب، وترتبط أسبابها بالمساء، ويكون فيها (الوحي) همزة وصل مباشرة بين الله سبحانه ورسوله الكريم، ويتربى في ظلالها المنتمون على عين الله ورسوله ليكونوا تعبيرًا حيًا عن إيمانهم، وقدوة حسنة للقادمين من بعدهم.. واقعة كهذه لا يمكن بحال أن تعامل كما تعامل الجزئيات والذرات والعناصر في مختبر للكيمياء، أو كما تعامل الخطوط والزوايا والمنحنيات والمساحات والكتل على تصاميم المهندسين، بل ولا حتى كما تعامل الوقائع التاريخية التي لا ترتبط بأي بعد ديني أصيل، إننا هنا بمواجهة تجربة من نوع خاص، وشبكة من العوامل والمؤثرات تند عن حدود مملكة العقل الخالص وتستعصى على التحليل المنطقي الاعتيادي المألوف، ومن ثم فإن محاولة قسرها على الخضوع لمقولات العقل الصرف ومعطيات المنطق المتوارثة لا يقود إلى نتائج خاطئة حينًا، ولا تستعصى عليه بعض الظواهر حينًا آخر فحسب، بل إنه قد يقوم بما يمكن اعتباره جريمة قتل بشكل من الأشكال، أو محاولة لتفحص الجسد البشري كما لو كان في حالة سكون مطلق بعيدًا عن تأثيرات الروح وتعقيدات الحياة.

إن الدين، والغيب، والروح، لهي عصب السيرة وسداها ولحمتها، وليس بمقدور الحس أو العقل أن يدلي بكلمته فيها إلا بمقدار، وتبقى المساحات الأكثر عمقًا وامتدادًا بعيدة عن حدود عمل الحواس وتحليلات العقل والمنطق. إننا، ونحن نتعامل مع هذا المستشرق أو ذاك في حقل السيرة النبوية يجب أن ننتبه إلى هذه المسألة مهما كان المستشرق ملتزمًا بقواعد البحث التاريخي وأصوله. فإنه من خلال رؤيته الخارجية، وتغربه، وعلمانيته أو ماديته، يمارس نوعًا من التكسير والتجريح في كيان السيرة ونسيجها، فيصدم الحس الديني ويرتطم بالبداهات الثابتة، وهو من خلال منظوريه العقلي والوضعي يسعى إلى فصل الروح عن جسد السيرة ويعاملها كما لو كانت حقلاً ماديًا للتجارب والاستنتاجات وإثبات القدرة على الجدل، وهو في كلتا الحالتين لا يمكن أن يخدم الموقف الإسلامي الجاد من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يحتل موقفًا جادًا منها بوجه من الوجوه([vi]).

فلم يكن الندوي مبالغًا إذن باعتباره هؤلاء الباحثين «من المشككين» الذين يتحتم أن نحذرهم، ونحن نسعى للإفادة من أعمالهم واستنتاجاتهم في هذا الموضوع أو ذاك من مواضيع السيرة، ونحاول – بدلاً من ذلك – أن ننطلق من منهج إسلامي أصيل يضع النبوة والغيب موضعهما الحق.

(4)    أن يكون النص، أو الرواية التاريخية، هو الحكم، هو مادة البناء الأساسية.. أن يحرر من أية محاولة لتقييده بحكم مسبق، أو إغراقه بالتعليل والتحليل على حساب الواقعة نفسها.. أن تترك له حرية التعبير عن ذاته لكي ينطق بما كان فعلاً لا بما يراد له أن يكون. وبما أن النصوص التاريخية للسيرة على قدر كبير من الاستيعاب للدقائق والتفاصيل، فيما لم يتهيأ بهذا الخصب والغنى لأية سيرة أخرى في تاريخ البشرية، وذلك بفضل الروافد العديدة التي قدمت هذه التفاصيل، وغذتها، وحمتها من الضياع في الوقت نفسه (وبخاصة القرآن الكريم، ومجاميع الحديث، وكتب السير والشمائل، فضلاً عن كتب المغازي والمدونات (التاريخية).. فإن النشاط المحوري في كتابة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهمته الأساسية تنصب على العرض والترتيب والتركيز، واعتماد منهج سليم في العمل، ولغة مناسبة قديرة على التوصيل بشروطه المعاصرة.

وبالتالي فإن التأليف في السيرة لا يجابه، بالضرورة وكما يؤكد الندوي، صعوبة وغموضًا ولا يقتضي افتراضًا ولا قياسًا، كما هو الحال في التراجم الأخرى حيث تشح المادة، وتتضارب الروايات، وتنتشر الفجوات الزمنية، وتتناقض الشواهد التاريخية. ولعل هذا هو الذي يفسر ما يلحظه القارئ في سياق الكتاب من اعتماد متزايد على النصوص (الحرفية)، ذلك أن هذه النصوص إذ تستكمل شرطيها الأساسيين وهما الوضوح في العرض والغنى في التفاصيل، لا تحتاج في كثير من الأحيان إلى بيان أو إضافة أو تعليل.

ورغم ذلك كله فإن تقديم صورة مطابقة أمر مستحيل، لا سيما وأننا نتعامل ها هنا مع ظاهرة النبوة ذات الارتباطات الغيبية المتشابكة، فكل ما كتب، وما سيكتب لا يعدو أن يكون محاولات للمقاربة في نهاية الأمر.

ولعل هذه المسألة الأساسية، إلى جانب عوامل ثانوية أخرى، هي التي جعلت المؤلف يتردد حينًا من الزمن في الكتابة عن الموضوع، لولا أن إلحاح المخلصين، وإلحاح الحاجة إلى مؤلف بالعربية يتعامل مع الأجيال الجديدة على مستوى المنهج واللغة دون وقوع في سلبيات المحاولات المعاصرة، فضلاً عن تمرس الندوي في كتابه الترجمة التاريخية، هي التي تغلبت في نهاية الأمر وجعلت الرجل يقدم على تنفيذ المشروع.

(5)    هنالك أيضًا محاولة لتحقيق توازنات بين ثنائيات شتى وبخاصة:

أ-  الموضوعية والوجدان الديني.

ب-        العلمية والضرورات التربوية.

ج-        التوجه بالخطاب إلى المسلم وغير المسلم.

فلا يكفي بالنسبة للمسألة الأولى أن يكون الباحث في السيرة (موضوعيًا)، أي أن يتعامل معها من الخارج، بل لابد أن تكون هناك مساهمة على مستوى الذات.. مشاركة وجدانية تغرس الباحث أكثر فأكثر من صميم حدث تاريخي ليس كالأحداث، وتجعله ينفعل به ويقدر بالتالي طبيعته التكوينية.. نبضه وإيقاعه.. يلمس، قدر ما يستطيع، الخيوط التي نسجتها فيعرف مكوناتها([vii])، وهذا بالنسبة للسيرة بالذات، ليس نقيض الموضوعية، بل هو مع الموضوعية ومن شروطها، فإن النبوة ليست تجربة وضعية لا يتحقق فهمها إلا بالانفصال والمعاينة من بعيد.. بالعكس.. إن الاندماج، والتأثر، والمعايشة الوجدانية لهي من ضرورات الإدراك والمقاربة، ومن ثم فإن المؤرخ المسلم. المتسلح طبعًا بسلاح المنهج العلمي، أقدر من غير المسلم على خوض غمار التجربة وتقديم بحث أكثر أصالة وأعمق تعبيرًا عن هذه الواقعة التاريخية المتفردة. لنحاول أن نقرب المسألة أكثر، إن العمل المعماري الكبير إذا أقيم على أسس خاطئة فإنه سيفقد شرطين من شروطه الأساسية: التأثير الجمالي الذي يمكنه من أداء وظيفته الوجدانية، والمقومات العلمية التي تمكنه من أداء وظيفته العملية.

إن البحث في (السيرة) بوجه خاص، ليستلزم أكثر من أية مسألة أخرى في التاريخ البشري، هذين الشرطين اللذين يمكن أن يوفرهما منهج متماسك سليم يقوم على أسس علمية موضوعية لا تخضع لتحزب أو ميل أو هوى ويمتلك عناصر جماليته الخاصة التي تليق بمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم المتفردة، ودوره الخطير في إعادة صياغة العالم بما يرد إليه الوفاق المفقود مع نواميس الكون والحياة. وقد كانت مناهج البحث الغربي الاستشراقي في السيرة تفتقر إلى أحد هذين الشرطين أو كليهما، وكانت النتيجة أبحاثًا تحمل اسم السيرة وتتحدث عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحلل حقائق الرسالة، ولكنها – يقينًا – تحمل وجهًا وملامح وقسمات مستمدة من عجينة أخرى غير مادة السيرة، وروحًا أخرى غير روح النبوة، ومواصفات أخرى غير مواصفات الرسالة.

إن نتائجها تنحرف عن العلم؛ لأنها تصدر عن الهوى، وتفقد القدرة على مسامته عصر الرسالة وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل تأثيراتها الجمالية بالمستوى العالي نفسه من التحقق التاريخي، لأنها تسعى لأن تخضع حقائق السيرة لمقاييس عصر تنسخ كل ما هو جميل، وتزيف كل ما هو أصيل، وتميل بالقيم المشعة إلى أن تفقد إشعاعها وترتمي في الظلمة، وقد تؤول إلى البشاعة([viii])!

وتكاد المسألة الثانية التي يسعى الندوي إلى تنفيذها، أن تكون امتدادًا للأولى، ولكن المعنى بالتوازن هذه المرة هو القارئ وليس الموضوع، فإلى جانب ضرورة التزام الجانب العلمي بالبحث في السيرة، فإن هناك ضرورة لا تقل أهمية هي الضرورة التربوية.. أن تقدم السيرة بصيغة عمل ذي رسالة تربوية تملك قدرتها على التأثير في القارئ وكهربته بتيار الرسالة القادم من السماء([ix]).

وها هنا يمكن أن يكون اعتماد منهج حيوي مؤثر بجانب الجمود والجفاف، ويتشكل بالمؤثرات التي مرت بنا عبر الفقرات السابقة، مسألة ضرورية لتحقيق الهدف، وها هنا أيضًا يرفض الندوي ما يسميه «بالتجميل الخارجي أو التزيين الصناعي» لأن هذا في نهاية الأمر نقيض للجمال الباطني ولقوة التأثير وصدقه.

يبقى التوازن الثالث وهو التوجه بالخطاب إلى المسلم وغير المسلم، وهي مسألة محسومة بمجرد أن نتذكر إلحاح الندوي على اعتماد مناهج البحث الحديث وأدوات التوصيل المعاصرة.. فإن هذا بحد ذاته يعقد جسرًا بين مفردات السيرة وبين القارئ الحديث، مسلمًا كان أم غير مسلم، ولعل اختيار كتابه هذا لكي يترجم إلى الإنجليزية، وعدد آخر من اللغات الحية، إنما كان اقتناعًا بقدرته على التواصل مع غير المسلمين([x]).

(6)    يرى الندوي ضرورة تسليط الضوء على البيئة التي ظهر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وتشكلت سيرته على أرضيتها.. البيئة ببعديها التاريخي والجغرافي، وبامتداديها المحلي والعام (ويمكن أن تكون الخرائط الدقيقة التي أرفقت بالكتاب امتدادًا لهذه الضرورة).

ويكاد يكون مؤلف الندوي، من بين قلة من المؤلفات الحديثة، التي تناولت السيرة، قد أول اهتمامًا ملحوظًا بهذه المسألة وخصص لها مساحات واسعة في كتابه([xi]).

ورغم أن معطيات السيرة، في المنظور الإسلامي، تتجاوز في نهاية الأمر حدود الزمن المرحلي والمكان المحدود، باتجاه كل زمن وكل مكان، ورغم أنها، في هذا المنظور نفسه، تشكلت في جانبها الخاص بظاهرة النبوة، بعلم الله اللدني الشامل الذي يعلو على نسبيات الجغرافيا ومتغيرات الحركة التاريخية، فإنها – أي السيرة – وفي المنظور الإسلامي كذلك، ابنة بيئتها، وليدة زمنها وحغرافيتها، إذ لا يمكن بحال فصل نسيجها عن ارتباطه المتشابك بالبيئة.. بل إننا لو تابعنا مفردات السيرة واحدة واحدة، لرأيناها لا تكاد تتحول إلى (العام) إلا بعد اجتيازها (الخاص) وتعاملها معه. وسنكون غير علميين بالمرة لو أننا أغفلنا هذا الارتباط بحجة عالمية الرسالة وديمومتها وعدم تقيدها بالنسبي أو المحدود، وسنقع كذلك في المظنة التي أسرت الفكر الغربي وهي النظرة أحادية الجانب تلك التي تتشنج على مساحة ممددة من الظاهرة وتتشبث بها دون أن تقلبها على وجوهها لمتابعة الجوانب الأخرى. وها هنا بصدد السيرة، فإننا يجب أن نولي اهتمامًا للوجهين معًا: العام والخاص، المطلق والبيئي؛ لأن إغفال الجانب الأول سيقودنا إلى العلمانية وربما إلى الرؤية المادية، ولأن إغفال الجانب الثاني سيجرنا إلى المثالية بمفهومها التجريدي المنفصل عن الواقع والأرضية.

وإننا بمجرد أن نلقى نظرة ولو سريعة على أسباب النزول في القرآن الكريم، فلسوف نرى بأم أعيننا كيف أن كثيرًا من التعاليم والقيم القرآنية، تخلفت من تفاصيل بيئية صرفة.. من حدث تاريخي عابر أو تحد جغرافي ممدود.. من تجربة هذا الرجل أو ذاك ومن محنة هذه الجماعة أو تلك.. من سؤال أو اقتراح قد يتقدم به هذا الصحابي أو ذاك فيما يعايشونه يومًا بيوم وخطوة بخطوة.. لكن هذه التعاليم والقيم لم تأسرها مواضعات البيئة ونسبياتها، ولا أريد لها أن تكون كذلك، إذ إنها سرعان ما تجاوزت ظروف تشكلها الخاصة صوب العام.. صوب المطلق، بعيدًا عن متغيرات الجغرافيا والتاريخ لكي نتعامل مع الإنسان في كل زمن ومكان.

ولقد شاء علم الله الذي هو سبحانه أعلم بمن خلق ألا يصوغ القيم والتعاليم في كتابه الكريم، وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، في الفراغ أو من الفراغ، إنما جعلها سبحانه تتشكل في البيئة، في الجغرافيا والتاريخ، وبتبادل واقعي منظور بين الطرفين لكي تكون أشد حضورًا وأعمق تأثيرًا. وذلك مذهب خطير من مذاهب التربية العقيدية عبر التاريخ، ونحن نعرف، على سبيل المثال فحسب، لماذا لم تتنزل المقاطع القرآنية الخاصة بمعركة أحد.. المقاطع المترعة بالقيم والتعاليم، إلا بعد هزيمة أحد مباشرة، وليس بعيدًا عنها أو بدونها.. وقل مثل ذلك عن حشود كثيفة أخرى من مفردات السيرة.

إذن فإن سعى الندوي لإضاءة البيئة التي تشكلت فيها هذه المفردات وتأكيده على تأثيراتها المتشابكة في الحدث النبوي، أمر ضروري، وهي يشكل واحدة من أهم الإضافات التي تقدمها دراسته إلى حقل السيرة.

* * *

([i]) طبع الكتاب سبع طبعات كانت أولاها في القاهرة عام 1397 ه 1977 م، وثانيتها في بيروت عام 1399 ه، 1979 م، وقد صدرت بمناسبة انعقاد (المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية) في محرم عام 1400 ه – تشرين الثاني 1979 م، وعنى بطبعها ومراجعتها الأستاذ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، مدير الشئون الدينية في الدوحة – قطر. ثم توالت بعدها الطبعات حتى كان آخرها الطبعة السابعة، المزيدة والمنقحة، التي أصدرتها دار الشروق في جدة عام 1408 ه – 1987 م. وهي الطبعة التي ستعتمد في هذا التقديم.

([ii]) المكتبة العلمية – المدينة المنورة – 1385 ه.

([iii]) انظر بشكل خاص (الطريق إلى المدينة) والفصول الأولى من كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) ورسالة (دراسة للسيرة النبوية من خلال الأدعية المأثورة المروية) التي نشرها المختار الإسلامي مترجمة إلى العربية، وكذلك كتاب (النبي الخاتم) وهو على ما يبدو مجموعة مقالات لا أدري إن كانت قد ترجمت إلى العربية أم لا؟

([iv]) وانظر على سبيل المثال الصفحات 99 – 100 لمتابعة حديثه عن ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تحميله بالمعجزات التي تضخمت بمرور الوقت دونما توثيق تاريخي كاف. وكذلك الصفحات 103 – 105 لمتابعة نقده وتفنيده لرواية لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم أيام رحلته الأولى إلى الشام بالراهب النصراني بحيري. لكن هذا لا يعني – بداهة – رفض المؤلفات لكل الروايات التي تتجاوز المألوف وتستمد مفرداتها من عالم الغيب (انظر مثلاً حادثة شق الصدر صفحة 102).

([v]) انظر على سبيل المثال الصفحات 105 – 108 لمتابعة إحدى محاولاته النقدية للمعطيات الاستشراقية.

([vi]) المستشرقون والسيرة النبوية: بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتغمري وات، لكاتب المقدمة، جزء 1 ص 116 – 117 من مجلد (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية) الذي أصدرته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلم ومكتب التربية العربي لدول الخليج في إطار الاحتفال بالقرن الخامس عشر الهجري (الرياض 1405 ه – 1985 م).

([vii]) انظر على سبيل المثال الصفحات 168، 250 – 252، 327 – 327 – 328، 419 – 451 لمتابعة بعض نماذج هذا النمط من التوازن.

([viii]) المستشرقون والسيرة النبوية لكاتب المقدمة جزء 1 ص 117.

([ix]) انظر على سبيل المثال الصفحات 149 – 150، 221 – 222، 241 – 242، 385 لمتابعة بعض نماذج هذا النمط من التوازن، وانظر كذلك صفحة 6 من تقديم الطبعة السابعة، والمزيدة والمنقحة للكتاب.

([x]) وانظر الصفحات 263 – 264، 317، 373 – 383، 411 – 415، وانظر بشكل خاص المحاضرة التي اختتم بها الكتاب بعنوان (فضل البعثة المحمدية على الإنسانية ومنحها العالمية الخالدة) ص 453 – 486 والتي سبق وأن ألقاها في ربيع عام 1975 بمدينة لكنهؤ بالهند، وحضرها جم غفير من المسلمين وغير المسلمين، للاطلاع على تنفيذ الندوي لهذه المسألة في كتابه.

([xi]) انظر الصفحات 23 – 98 حيث يفرش المؤلف تحليله للبيئة الجاهلية لدى ظهور الإسلام عبر حلقاتها الثلاث: العالم، الجزيرة العربية، ثم مكة، على هذا المدى الواسع من الكتاب. وانظر – كذلك – الصفحات 154 – 158، و 171 – 191 للاطلاع على طبيعة تحليله للبيئة المدنية (في يثرب) ولا ينسى المؤلف أن يعرف القارئ بالملوك والحكام الذين كتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسائله المعروفة يدعوهم فيها إلى الإسلام (انظر الصفحات 290 – 299).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر