كتب الكثير عــن “الاستشراق” منهجاً وفكراً, وثمة فـى هـــذا الكثــير سياقان أغلب الظن أنهما انحسرا ـــ لحسن الحظ ـــ فى حيز محدود.
السياق الأول : يتمثل فى الرفض المقفل لمعطيات الحركة الاستشــراقية كافـة. والسياق الثانى : يتمثل فـى التقبل المستسلم لهذه المعطيات.
والمنهج العدل يمضى لكي يتعامل مع المــادة الاستشراقية دون أن يتقبلهـــا بالكليـة أو يلغيهـا من الحساب, فعـن طريق التبصر الواعي بهــذة المــادة, وفـى ضوء التمحيص العلمـي المتـأني الدقيق يمكن أن يتحقق الأخذ والرفض. فهـذه المــادة تقــوم على اثنتين : أولاهما : “المنهج” كــأداة عمل, وثانيتهمــا : “الموضوع” الذى يتمخض عن اعتمــاد هذه الأداة فى هذا الحقل أو ذاك من حقول المعرفة التاريخية.
وستكون مناقشة “الموضوع” الذى يتمثل بحشود كبير من البحوث والمؤلفات الاستشراقية فى هذا الجانب أو ذاك من التاريخ والحضارة الإسلامية ضرباً فى غير هدف, أو فى الأقل, جهداً منقوصاً إن لم تسبقه محاولة التعرف على المنهج الذى تتولد عنه هذه البحوث والدراسات, وفق هذه الصيغة أو تلك, مما قد يخدم الحقيقة العلمية حيناً, وقد يصدمها حيناً آخر.
إن السيطرة على الحالة المرضية فى ميدان الطب لا تمضى إلى الحصر الأعراض قبل أن تسعى للكشف عن الأسباب, ها هنا أيضاً ليس بمقدور باحث أن يصدر تقويماً دقيقاً للمعطى الاستشراقى مالم يعرف, أولاً, خصائص المنهج الذى يصبغه ويشكله.
وهذا يقودنا إلى ملاحظة أخرى قد تأخذ طابع التساؤل عما إذا كان هناك منهج استشراقى أم مناهج شتى؟
والراجح أن الجواب سيختلف باختلاف المنظور. فإذا نظرنا إلى المادة الاستراقية باعتبارها تعاملاً رؤيوياً غريباً مع الشرق الإسلامى, قلنا بأن هناك منهجاً استشراقياً واحداً. فها نحن هنا بإزاء ثنائيات أساسية شاملة تتضمن البعد الحضاري, والديني, والجغرافى (القــارى) حيث يصــير النشــاط الاستشراقى محاولة للاكتشاف فـى بيئة أخرى تنطوى على تغاير عميق مع بيئة المكتشف أو الباحث.
ولكننــا إذا نظرنــا إلى المــادة الاستشراقية من زاوية رؤيتها المتميزة داخل العقل الغربى نفسه ـــ قدرنا أن نقول بأن هناك مناهج شتى, أو فـى الأقل صيغ متغايرة فى التعامل مع الواقعة التاريخية.
وعلى سبيل المثال, فإن المنهج الذى يعتمده رجـل لاهوت مثل (لامانسـى) يختلف عن المنهج الذى يعتمده (بلاييف) المفسر المادى للتاريخ, أو الذى يعتمده (مونتغمرى وات) الذى يحرص على الأكاديمية ..
فها هنا نجد تنوعاً فى سياق الوحدة المنهجية, أو بعبارة أدق, نجد قاسماً مشتركاً أعظم يتحرك بموجبه مستشرقو المذاهب المذكورة كافة, ونجد تغايراً يجعل كل مذهب يصوغ نسيجه الخاص المتميز الذى ينسجم وقناعاته الفكرية, ولكنه يلتقى فى نهاية التحليل بالخطوط العريضة للمنظور الاستشراقى الشامل باعتباره تعاملاً غريباً مع الشرق بالمعايير التى ألمحنا إليها قبل قليل.
فى الجهة الأخرى, ولما كان التاريخ والحضارة الإسلامية يختلفان فى درجة حساسيتهما خلال تعامل “الآخر” معهما, فإن المنهج الاستشراقى الذى ينطوى على التغايرات المذكورة فى سياق وحدته الأساسية, يختلف هو الآخر فى طبيعة الاستنتاجات التى سيوصل إليها, وحدتها, ودرجتها اللونية من حيث تصادمها مع المعطيات الإسلامية فى التاريخ والحضارة, أو تأكيدها لهذه المعطيات.
وثمة فارق كبير ـــ مثلاً ـــ بين التعامل الاستشراقى مع “السيرة النبوية” المتجذرة فى الغيب, والممثلة لجوهر الخبرة الإسلامية كمنظور عقيدى للعالم, وبين تعامله مع هذا النظام الإدارى أو ذاك ( الوزارة أو الديوان أو الجيش أو المالية ) فى عصر أموى أو عباس أو مملوكى.
وفارق كبير أيضاً بينهم وهم يتحدثون عن الفتوحات الإسلامية زمن الراشدين (رضى الله عنهم) والتى تجيىء امتداداً لسياسات الرسول ( صّلى الله عليــه وسلم ) وخططه العقيدية, وبينهم وهم يتحدثون عن الصراع المغول مع المماليك ـــ مثلاً ـــ فى الجزيرة والشام.
فى الحالــة الأولى ينعكس المنهج بوضوح, وبهذه الدرجة أو تلك, وفى الحالة الثانية تضعف حدة التغاير فى مسألة “تاريخيى” صلافة, ويجد المستشرق نفسه يسعى إلى تحييد المنهج وتوظيف تقنياته المتفق عليها عالمياً, والتى يعمل بها الشرقيون أنفسهم, ولكن بكفاءة أقل أحياناً, للوصول إلى نبض الواقعة التاريخية أو مقاربته فى الأقل.
وها هنا نجد أنفسنا إزاء منهج عالمى ـــ إذا صح التعبير ـــ يعرفه طلبة التاريخ جيداً باسم “منهج البحث التاريخى” ذلك الذى يستوى فى اعتماده مؤرخ من عالم الإسلام, أو مستشرق من أوربا وأمريكا, كما يستوى فى اعتماده العاملون فى دائرة الحركة الاستشراقية ـــ مهما كان انتماؤهم المذهبى ـــ جنباً إلى جنب مع مطالب مناهجهم المتميزة, ولكن بشكل أقل تكشّفاً ووضوحاً.
مهما يكن من أمر فإن مناهج البحث الاستشراقية بخصائصها المتميزة لا يمكنها بحال أن تقدم تفسيراً معقولاً دقيقاً ومتماسكاً لتاريخنا الإسلامى فى مساحاته ذات الصبغة العقيدية. ذلك أن هذه المناهج لا تقوم على أساس “متوازن” ينظر إلى القيم الروحية والمادية كعوامل فعالة مشتركة فى صنع التاريخ, بل إنها تسعى إلى ترجيح الجانب المادى وتقليص مساحة المؤثرات الروحية فى حركة التاريخ وصيرورة وقائعه, وربما طمسها وإنكارها أساساً.
وهذه المناهج ـــ من جهة أخرى ـــ تسعى لأن تقدم تاريخ العالم كله, وبضمنه تاريخنا نحن ـــ من زاوية نظر غربية تجعل أوربا مركزاً للعالم, ونقطة صدور للتاريخ تدور حول قطبه حل المساحات الأخرى فى الأرض وما عليها من دول وشعوب وحضارات, وتنعكس على مرآته.
فمنذ عهد اليونان والرومان, مال المفكرون والمؤرخون الأوربيون, كما يقول المفكر النمساوى (ليوبولد فاييس) “إلى أن يتبصروا بتاريخ العالم من وجهة نظر التاريخ الأوربى والتجارب الثقافية الغربية.
أما المدنيات غير الغربية فلا يعرف لها إلا من حيث أن لوجودهــا, أو لحركات خاصة فيها, تأثيراً مباشراً فى مصائر الإنسان الغربى, وهكذا فـإن تاريخ العالم وثقافاته العديدة لا يعدو أن يكون فى أعين الغربيين تاريخياً موسوعاً للغرب. وطبيعى أن النظر من هذه الزاوية الضيقة لابد أن يوقع العين على مشهد مشوه غير سليم. إن الأوربى أو الأمريكى العادى, بما اعتاد أن يطلع من الكتب التى تعالج أو تبحث مسائل مدنيته الخاصة بتبسيط وتوسيع يضيفان عليها ألواناً حية, دون أن تلقى على سائر أجزاء العالم سوى نظرات هنا أو هناك, لسيتسلم ويرضخ بسهولة ويسر إلى الوهم الخادع الذى يصور أن الخبرات الثقافية الغربية, ليست أسمى من سائر الخبرات الثقافية فى العالم كلـه فحسب, بل لا تتناسب معها على الإطلاق, وبالتالي إن طريقة الحياة الغربية هى النموذج الصحيحٍ الوحيد الذى يمكن أن يتخذ مقياساً للحكم على سائر طرائق الحياة؛ لأن كل مفهوم ثقافى أو مؤسسة اجتماعية أو تقييم أدبى, يتعارض مع النموذج الغربى, إنما ينتمى ـــ حتماً ـــ إلى درجة من الوجود أدنى وأحط. ومن هنا نرى أن الغربى ـــ تمثلاً باليونان والرومان ـــ يجب أن يعتقد أن جميع تلك المدنيات ليست ـــ أو لم تكن ـــ إلا تجارب متعثرة فى طريق الرقى, هذا الطريق الذى تتبعه الغرب بكثير من السداد والعصمة من الخطأ. أو أنها ـــ فى أفضل الأحوال ـــ كما هى الحال فى مسألة المدنيـات السالفة التى سبقت مدنية الغرب الحديث مباشرة ـــ ليست أكثر من فصول متتابعة فى كتاب وحيد فريد آخره عن غير شك ـــ المدينة الغربية”(1).
ثم إن هذه المناهج ـــ من جهة ثالثة ـــ عندما تدرس تاريخنا بالذات تتحكم فيها عصبيات شتى, ورواسب نفسية, ومخلفات ثقافية تاريخية, وأطمـاع سياسية واقتصاديـة واستراتيجية, وتحزبات دينية ومذهبية وعرقية؛ لكونها نمت وتبلورت فى القرن الذى بلغت فيه حركة الاستعمار لعالم الإسلام ذروتها. والواقـع أن المستشرقين الأولين, كما يقول (ليوبولد فانييس) “كانوا مبشرين نصارى يعملون فى البلاد الإسلامية, وكانت الصورة المشوهة التى اصطنعوها من تعاليم الإسلام وتاريخـه مدبـرة على أساس يضمن التأثير فى موقف الأوربيين من (الوثنيين).
غير أن هذا الالتواء العقلى قد استمر مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير, ولم يبق لها عذر مـن حمية دينيـة تسـيئ توجيهها. أمـا تحـامل المستشرقين علـى الإسلام فغريـزة موروثة, وخاصة طبيعية تقوم علـى المؤثرات التى خلفتها الحروب الصليبية, بكــل مالهــا مـن ذيـول, فـى عقول الأوربيين”(2).
ولن نكون مبالغين إذا قلنا أن المحصلة النهائية التى يمكن أن نصل إليها من خلال التعامل مع جل الدراسات الاستشراقية, أيا كان موقعها فى الزمن أو فى المكان, أنه لا يمكن لهذه الدراسات (وبالتأكيد العقلى غير الانفعالى على هذه العبارة الأخيرة). أن ترقى إلى مستوى المراحل ذات الحساسية العقيدة فى تاريخنا وحضارتنا فتكون قديرة على التعامل معها والتوغل فى نسيجها, ورسم الصورة الموضوعية العادلة لها.
ذلك أن هناك أكثر من خلل فى (منهج العمل) ولن يتمخض هذا الخلل إلا عن حشود من نقاط سوء الفهم والأخطاء على مستوى الموضوع. نعم : ثمة فرق بين مستشرق وآخر, فنحن إذا قارنا (مونتغمرى وات) بـ (لامانس) مثلاً أو حتى ب (فلهاوزنذ) وجدنا هوة واسعة تفصل بين الرجلين .. يقترب أولهما ويقترب حتى ليبدو أشد إخلاصاً لمقولات التاريخ الإسلامى من أبناء الإسلام نفسه, ويبعد ثانيهما, ويبعد, حتى ليبدو وشتاماً لعاناً وليس باحثاً جاداً يستحق الاحترام.
ومع ذلك فهو فارق فى الدرجة وليس فى النوع, فلقد أتيحٍ لى أن أقف بعض الوقت دارساً ممحصاً عند كتاب (محمد فى مكة)(3) لأكثر المستشرقين المعاصرين حيادية كما أكد هو نفسه فى مقدمته(4). وكما قال عنه (هـاملتون غب) البريطـانى و (مكسيم رودنسون) الفرنسى, فإذا بـى أقـع على بعض جوانب الخلل فى منهج العمل فى حق السيرة النبوية, نزعة نقدية مبـالغ فيها تصل حد النفـى الكيفى وإثارة الشك حتى فى بعض المسلمات, تقابلها نزعة افتراضية تُثْبت بصيغ الجزم والتـأكيد ما هو مشكوكَ بوقوعه أساساً .. وإسقاط للتأثيرات البيئية والثقافية المعاصرة, وتغليب للعامل المادى المنظور, وإعمال للمنطق الوضعى فى واقعة تكــاد تستعصى على مقولات البيئة وتعليـلات العقل الخالص.
من ثم فإنه ليس بمقدور مستشرق ـــ فى الأعم الأغلب ـــ ومهما كان من اتساع ثقافتــه, واعتــدال دوافــعه, وحياديته, وتمكنه من تقنيات البحث, ونزوعه الموضوعى, إلا أن يقدم تحليلاً للمراحل الحساسة من تاريخنا الإِسلامى لابد أن يرتطم, هنا أو هناك, بوقائعة وبداهاته ومسلماته, ويخالف بعضاً من حقائقه الأساسية, ويمارس ـــ متعمداً أو غير متعمداً ـــ تزييفاً لروحه وتمزيقـاً لنسيجه العام(5).
الهوامش
(1) الطريق إلى مكة, ترجمة عفيف البعلبكى, الطبعة الأولى, دار العلم للملايين, بيروت ـــ 1956م (ص 17 ـــ 18).
(2) الإسلام على مفترق الطرق, ترجمة عمر فروخ, الطبعة السادسة, دار العلم للملايين, بيروت ـــ 1965م (ص 60 ـــ 61).
(3) تعريب شعبان بركات, المكتبة العصرية, بيروت (بدون تاريخ).
(4) محمد فى مكة, ص 5 ـــ 6.
(5) انظر بالتفصيل : عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة النبوية ( بحث مـقارن فى منهج المستشرق البريطانى المعاصر : مونتغمرى وات ), صدر ضمن مجلد مناهج المستشرقين 1/ 115 ـــ 201 (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ـــ تونس, مكتب التربية العربية لدول الخليج, الرياض ـــ 1985م).