(1)تمهـيـد:
يعاني العالم الإسلامي في العصر الحاضر من أزمة طاحنة متعددة الجوانب، ففي الوقت الذي تتلاحق فيه التطورات العلمية والفكرية والحضارية في مناطق العالم المتقدم إذا بنا نرى التخلف بكل أبعاده المادية والمعنوية والعلمية والدينية والفكرية والحضارية يخيم على العالم الإسلامي.
وقد حدا ذلك ببعض خصوم الإسلام في الغرب إلى إلصاق هذا التخلف بالإسلام نفسه، إذ هو في زعمهم دين يشد أتباعه إلى التخلف، حيث يشكل عائقاً أمام التقدم العلمي والتطور الحضاري، وذلك بما يشتمل عليه من تعاليم جامدة، وتشريعات صارمة، تحد من الإنطلاق في مجالات التمدن والحضارة والرقي والتقدم.
ويستدل خصوم الإسلام على مقولتهم هذه بالواقع المشاهد في العالم الإسلامي؛ فهذا العالم الإسلامي كله يقع اليوم في صف دول العالم الثالث المتخلف، فإذا كان الإسلام دين حضارة وتقدم لما وجدنا هذا الوضع المتخلف في عالم الإسلام. وهكذا يرجع هذا التخلف إذن إلى الإسلام ذاته.
ومن هنا فإن المسلمين إذا أرادوا أن يتحرروا من أسر هذا التخلف فإن عليهم أن يتحرروا من الجمود الإسلامي، وأن يأخذوا بالنموذج الغربي الذي دفع بالغرب إلى قمة التقدم والحضارة.
ويبدي – في هذا الصدد ــ أحد المستشرقين المبشرين نصيحة للمسلمين لدفعهم إلى النهوض من وهدتهم بقوله: «إن على الإسلام إما أن يعتمد تغييراً جذرياً فيه، أو أن يتخلى عن مسايرة الحياة»(1). فهذا الدين الذي ظهر في الصحراء لم يعد يستطيع مسايرة الحياة المعاصرة، ومن هنا فلا بد من طرح ما فيه من جمود حتى يمكن للمسلمين اللحاق بركب العصر.
وقد سار خلف هذا الزعم الباطل نفر من أبناء الأمة الإسلامية التابعين للغرب في فكرهم تبعية ذليلة من منطلق مركب النقص والشعور بالدونية إزاء الغرب المتفوق، وكأن الإسلام لم يقدم للإنسانية أى إسهام في مجالات الفكر والعلم والحضارة.
وليس من غرضنا في هذه المحاضرة أن نشغل أنفسنا بالرد على هذه المزاعم، فالاشتغال بذلك يعد لوناً من ألوان ردود الأفعال التي لم يعد يجدر بنا أن نقف عندها طويلاً، بل ينبغي علينا أن نقتحم المشكلات المحيطة بنا بأسلوب عقلاني بعيد عن الانفعالات العاطفية، بصرف النظر عما يقال هنا أو هناك، من أجل البحث عن حلول سليمة لمشكلاتنا المصيرية وعلى رأسها قضية التخلف الحضاري الشامل الذي لا يخفى على أحد، وذلك على الرغم من وجود قشرة حضارية ظاهرية يلمحها المرء هنا أو هناك.
إننا كمسلمين لا نستطيع أن ننكر أن واقع الأمة الإسلامية واقع متخلف ومحزن ويدمى النفس الإنسانية، ولكن لا نستطيع أن ننكر في الوقت نفسه أن هذا الواقع المحزن منفصل عن النموذج الإسلامي بمائة وثمانين درجة، ولم تستطع الصحوة الإسلامية المعاصرة أن تقترب حتى اليوم بطريقة جدية من هذه القضية المصيرية الأولى، بل ظلت حتى يومنا هذا مشغولة بمحيط الدائرة، وببعض المظاهر الشكلية والأمور الهامشية، ومهتمة بالجزئيات دون الكليات، واختلط لديها سلم الأولويات، فانقلبت الضروريات هامشيات والهامشيات ضروريات، وغابت معالم الرؤية الواضحة المتعلقة المستنيرة، وضاعت أصوات المتعلقين من رواد هذه الأمة وسط ضجيج الإنفعالات العاطفية التى تتصف في بعض الأحيان بشدة حدتها، وانفلات وعيها بما يدور حولها في عالم اليوم.
فما هي الأسباب الكامنة وراء هذه الأزمة الطاحنة المتمثلة في هذا التخلف الحضاري الشامل في العالم الإسلامي؟ وما مدى مسئولية الإسلام والمسلمين عنها؟ وما الذي يمكن أن يسهم به الإسلام في صنع الحضارة والتقدم الإنساني؟ وهل يمكن أن تدخل الحضارة في دائرة الواجبات الإسلامية الضرورية التي يمكن أن توصف بأنها فريضة إسلامية؟.
(2) مفهوم الحضارة:
وقبل أن ندخل في تفاصيل الموضوع نود أولاً أن نحدد ما نقصده بمفهوم الحضارة حتى يكون كلامنا مبنياً على أساس. وفي هذا الصدد لا نريد الدخول في متاهات التعريفات الكثيرة بدءاً من ابن خلدون إلى توينبى، ونميل في هذا المقام إلى تعريف شامل أورده «ألبرت شفيتسر» في كتابه «فلسفة الحضارة»(2) يقول فيه: إن الحضارة بصفة عامة هي «التقدم الروحي المادي للأفراد والجماهير على السواء».
وهذا يعني أن الحضارة نشاط إبداعي يسير في خطين متوازيين في وقت واحد، وهدفهما في المحصلة النهائية هو الارتقاء بالإنسان بوصفه يمثل كلاً متكاملاً لا انفصال فيه بين جانب المادة وجانب الروح.
وإذا كنا قد اخترنا هذا التعريف من بين الكم الهائل من التعريفات الأخرى، فليس معنى ذلك أننا نقع أيضاً في نفس الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون وهو الإحتكام دائماً إلى المقاييس والمعايير الغربية. فالحكمة ـ كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:ـ «ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها». ولا ضير علينا إذا أخذنا بشي مما لدى غيرنا مما نرى صوابه وفائدته.والأمر الذي لا جدال فيه أن التراث الإسلامي أخذ وعطاء، وليست هناك أمة عريقة في التاريخ إلا وقد أعطت كما أخذت من هذا التراث. فلنترك أمر الحساسيات التي لا مبرر لها جانباً، وليكن دليلنا في ذلك قول الله تعالى:«فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض»
(3) مقومات الحضارة:
وإذا كنا قد حددنا مفهوم الحضارة على النحو الذي رأينا فإن علينا أن نبين بصورة عامة مقومات الحضارة، أو الشروط الضرورية التي لابد منها لقيام حضارة من الحضارات.
لقد صور لنا المرحوم مالك بن نبي الحضارة على شكل معادلة رياضية تقول:
الحضارة = إنسان+ تراب + وقت.وبذلك فإن المشكلة الحضارية تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية هي: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت، وتقوم الفكرة الدينية بعملية المزج بين هذه العناصر الثلاثة(3).
ولمالك بن نبي تحليلات طيبة ونظرات ثاقبة في هذا الصدد، ولسنا هنا نريد أن نكرر ما قاله، ولكننا نود أن نشير إلى أن المشكلة الحضارية الرئيسية في نظرنا هي مشكلة الإنسان، فالإنسان هو العنصر الفاعل الإيجابي في العملية الحضارية كلها، وما عداه مسخر لخدمته ومجال لنشاطه.
وإذا قلنا إن الإنسان هو كل شئ فنحن نعني ما نقول تماماً، وهذا يقتضينا أن نحدد ما نعنيه بمفهوم الإنسان، وإن كان ذلك ربما يعد من أظهر الأمور.
فالإنسان هو الكائن الوحيد في هذا الكون الذي وصفه الفلاسفة والمفكرون كل في مجال تخصصه بأنه كائن عاقل، أو كائن اجتماعي، أو حيوان متدين، أو حيوان أخلاقي، بمعنى أن كل صفة من هذه الصفات لا توجد في كائن آخر في هذا الوجود غير الإنسان. فالإنسان وحده هو الذى ينفرد بها.
ولكن هذه الصفات ليست هي كل شئ في الإنسان، فهناك صفات أخرى فريدة يختص بها وهي: التقنية والتراث والتقدم.
وتتمثل التقنية أساساً في صنع الإنسان لآلات معينة واستخدامها لغرض معين، فإنتاج الآلات المعقدة المحددة الأهداف عن طريق عمل طويل وشاق هو عمل إنساني خالص.
ولكن هذه التقنية التي يختص بها الإنسان كان من الممكن ألا تتطور إذا لم يكن الإنسان في الوقت نفسه كائناً اجتماعياً ينمو في المجتمع عن طريق التراث. وهذا التراث ليس أمراً فطرياً فيه، ولكنه يتعلمه، وذلك بفضل اللغة المعقدة التى يمتلكها، وبفضل ذلك كله يتقدم الإنسان فهو يتعلم، ويضيف إلى ما تعلمه جديداً عن طريق قدرته على الإبداع والإختراع.
وفضلاً عن ذلك فإن تفكير الإنسان دائماً مرتبطاً بغرض مادي عملي، فهناك مجالات لا تخضع لهذا الغرض تشغل اهتمام الإنسان، فتطلعه الدائم لاكتساب المعارف واكتشاف المجهول لا يقف عند حد(4).
ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أن مشكلة الإنسان تتفرع إلى جوانب عديدة تتكامل فيما بينها ولا تتناقض، ويمكن إجمالها في العناصر الآتية:
العقلبكل ما يحمل هذا المصطلح من معنى، وبما له من قدرة على الإبداع، والتدين، والأخلاق، والنزعة إلى الإجتماع، وهذه النزعة تشمل ما يترتب عليها من النظام الذى يحفظ المجتمع ويتمثل في القوانين، واللغة، والتراث، والتقنية، والتقدم.
والإبداع الحضاري في هذا كله يتمثل بصفة عامة في الفلسفة والعلم بجميع فروعه، والتقنية والفن انطلاقاً من قاعدة أساسية هي الدين، والمتتبع لتاريخ الحضارات السابقة وما تركت لنا من آثار لا تزال قائمة يستطيع أن يتعرف بسهولة على ما كان للفكرة الدينية في هذه الحضارات من دور كبير وأثر عظيم.
وهكذا نجد أن مركز الدائرة الحضارية هو الإنسان، وأهم خصائصه العقل، والعقل يعني الكرامة الإنسانية واستقلال الشخصية، ويعنى المسئولية، ويعنى الحرية.
وإذا كانت الحرية ضرورية للتحضر: فإنها تصبح عديمة المعنى إذا لم تتوفر للإنسان وسائل العيش من القوت والكساء والمأوى، وإذا لم يتوفر له من الأمن على نفسه وماله وعرضه وعقيدته. وفي هذه الحرية تكمن كرامته الفريدة وفرصته في تحقيق وجود إنساني يليق بكرامة الإنسان.
ولا يمكن في حقيقة الأمر فصل حريتي عن حرية الآخرين؛ لأن الحرية لا يدركها المرء إدراكاً حقيقياً إلا بممارستها عن طريق علاقته بالآخرين. فالعلاقة بين الأشخاص هي وحدها التى تجعل الحرية أمراً ممكناً(5).
والحضارة في صلتها بالعقل ذات طبيعة مزدوجة،فهي من ناحية تحقق نفسها في سيادة العقل على قوى الطبيعة، ومن ناحية أخرى في سيادة العقل على نوازع الإنسان، وهذا يعنى أن تتجه إرادة الأفراد والجماهير إلى الخير المادي والروحي للكل وللأفراد الذين يتألف منهم الكل(6).
فإذا توافرت الشروط الضرورية لقيام حضارة من الحضارات، وقامت الحضارة بالفعل:ـ فإنها تكون حضارة ذات طابع إنساني برغم ما لها من صبغة خاصة تحكمها عوامل الزمان والمكان. ومن هنا فإن الحضارة الحقيقية هي حضارة إنسانية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ولا نعدو قول الحق إذا قلنا إن الحضارة تنتهي عندما تفقد في شعورها معنى الإنسان.
فالحضارة الصحيحة توسع الأفق، أو هي بالأحرى نتاج أفق واسع، تسع الإنسان أينما كان؛ إذ هي في جوهرها تعبير عن التزام أخلاقي ينعم الأفراد والجماعات في ظله بروح التسامح والتفكير الحر ومراعاة الاعتبار البشري لكل فرد من الأفراد.
وقد يفكر المرء في اتجاه خاطئ، ولكن لفت نظره إلى الاتجاه الصحيح لا يكون عن طريق الإرغام أو القهر، وإنما يكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وهكذا ينتفي التعصب الأعمى، ويختفي العنف الجهول، والإرهاب الفكري في ظل الحضارة الحقيقية(7).
والحضارة الصحيحة بصفة عامة هي تلك الحضارة التى تشتمل على توازن بين الحضارة الشيئية (المادية) وحضارة السلوك الأخلاقي، أي تلك التي تتوازن فيها الطاقات المادية مع الطاقات الروحية.
ومن هنا نجد فلاسفة الحضارة في الغرب يشيرون إلى أن الخطر الحقيقي الذي يهدد الإنسان المعاصر يكمن في أن قدرته على تشكيل ذاته على المستوى الفردي والجماعي قد تراجعت تراجعاً حاداً خلف قدرته على تشكيل بيئته تشكيلاً مادياً، الأمر الذي يشكل خللاً لابد من تداركه إذا أريد للحضارة المعاصرة أن تتفادى عوامل الانهيار(8).
(4) الحضارة فريضة إسلامية:
لقد عرضنا حتى الآن بإيجاز شديد للملامح الأساسية التي تمثل الشروط الضرورية لقيام حضارة من الحضارات، أو التي ينبغي أن تقوم عليها الحضارة بصفة عامة. وعلينا الآن أن نتجه نحو الإسلام لنرى ما إذا كان يشتمل على هذه الشروط الضرورية أم لا؟
ولعل هناك من يعترض علينا في هذا الصدد على اعتبار أن هذا البحث ربما يفهم منه افتراض أن الإسلام لم يصنع حتى الآن حضارة، وهذا أمر مخالف للواقع: فالإسلام قد أقام حضارة زاهرة كانت من أطول الحضارات عمراً في التاريخ، وقد امتدت من أقصى الصين شرقاً إلى أقصى الأندلس غرباً. وهذا يعني أن الإسلام فيه كل المقومات الأساسية لبناء الحضارة.
وهذا اعتراض له وجاهته، ولكننا لا نبحث الآن تاريخاً مضى وانقضى، ولكننا نبحث في مشكلة واقعية نعيشها، ولابد من مواجهة الأمر الواقع لنرى ما إذا كانت المشكلات الحضارية بمعطياتها المعاصرة تجد لها حلولاً أم لا وذلك من منطلق أن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان؟
ومن هنا فإن من الأهمية البالغة تبيان هذا الأمر بمنتهى الوضوح حتى لا يتطرق هناك لبس أو يتسرب شك إلى عقل المسلم في مدى صلاحية إسلامه للبناء الحضاري الإنساني في أي وقت وفي أي مكان.
ونحن نزعم في هذا الصدد أن الحضارة بالمفهوم الذي ارتضيناه تعد فريضة إسلامية، وأن الخروج من هذه الوهدة التى ترددت فيها الأمة الإسلامية يعد واجباً دينياً لا يجوز للمسلمين أن يتهاونوا في شأنه بأى حال من الأحوال.
ولعلنا بهذا المصطلح نثير مشكلة فقهية حول مصطلح الفريضة في الإسلام. ولكننا لا نريد ان نضيع وقتنا في هذه المناقشات اللفظية فسيتضح لنا من خلال ما سنعرضه هنا ان استخدامنا لهذا المصطلح استخدام سليم؛فإن استعادة العزة التي كتبها الله للمؤمنين والتمكين لهم في الأرض من الأمور التي لا تقل في أهميتها عن فريضة الصلاة والصيام، بل هذه العزة وهذا التمكين يمثلان الضمان لإقامة فرائض الإسلام كلها، وصدق الله العظيم القائل:«الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر» }سورة الحج:41{.
ويكفي أن نشير هنا في البداية إلى القاعدة الأصولية المعروفة التي تقول: إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(أ) الإنسان محور اهتمام القرآن:
وإذا كان الإنسان بصفة عامة هو العنصر الفاعل الإيجابي في العملية الحضارية كلها:ـ فإن هذا يقتضينا أن نبحث موقف الإسلام من الإنسان لنتعرف على مكان الإنسان ومكانته في تعاليم الإسلام. ومن خلال ذلك نستطيع أن نتعرف على موقف الإسلام من الحضارة.
إننا إذا تأملنا في القرآن الكريم وهو في حقيقته كتاب جاء لنتدبر معانيه ونتأمل فيها وصولاً إلى معرفة الحق الذي لا مراء فيه، وإلا حق علينا قول القرآن نفسه }أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها{]سورة محمد: آية 24[.
نقول: إذا تأملنا في القرآن الكريم فسيتضح لنا أن الإنسان هو محور اهتمام القرآن؛ فالقرآن الكريم كله إما حديث إلى الإنسان أو حديث عن الإنسان.
وقد تكررت كلمة الإنسان في القرآن ثلاثاً وستين مرة، وجاء الحديث بلفظ بني آدم ست مرات، وبلفظ الناس مائتين وأربعين مرة.
وإذا تدبرنا أول ما نزل من الوحي القرآني على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسيتضح لنا التركيز على العناية بشأن الإنسان بصفة خاصة، ويتجلى ذلك بوضوح من ذكر لفظ الإنسان مرتين في الآيات الخمس الأولى من الوحي، مع التركيز أيضاً على العلم وأدواته: }اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علًم بالقلم علًم الإنسان ما لم يعلم {(9).
ولا غرابة في ذلك، فالإنسان قد جعله الله خليفة في الأرض، وكرمه وفضله على سائر المخلوقات، وميزه بالعقل والإدراك، وحمله أمانة عمارة الأرض، وصنع الحضارة فيها.
وإن مسئولية الإنسان الكبرى التي ارتضى أن يتحمل أعبائها بعد أن أشفقت من حملها السموات والجبال ـ هذه المسئولية تعد تكريماً للإنسان؛ لأن تحمل المسئولية يعنى الحرية، ويعني استقلال الشخصية. وتتركز هذه المسئولية الكبرى ـ التي تتمثل في الخلافة عن الله في الأرض لعمارتها ـ على مسئولية الإنسان عن نفسه. ومن هنا فعليه نحو نفسه كفرد واجبات لا يجوز أن يفرط فيها. وهذه الواجبات تتمثل في استخدام كل ما وهبه الله له من قوى وطاقات فيما خلقت من أجله. فالعقل وظيفته التفكير والفهم والإدراك، والحواس وظيفتها إدراكية في مجالاتها، ووقت الإنسان ثمن لابد أن يقدر قيمته، ويشغله فيما يفيد، وصحته لا يجوز له أن يفسدها، أو يهمل فيها؛ وإلا لن يكون قادراً على تحمل مسئولياته نحو نفسه ونحو الآخرين، وعلمه لابد أن يحسن استخدامه، ويؤدي حقه؛ فطلب العلم إذا كان فريضة على كل مسلم ومسلمة كما قرر رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلًم ـ فإنه من ناحية أخرى مسئولية سيحاسب الإنسان عما فعل بها يوم القيامة، كما سيسأل أيضاً عن ماله كسباً وإنفاقاً، وفي ذلك كله يقول النبي عليه الصلاة والسلام:«لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم»(10).
وفضلاً عن ذلك فالإنسان مسئول عن استخدامه أو عدم استخدامه لوسائل الإدراك العقلية والحسية، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: }إن السمع والبصر والفؤاد كل ذلك كان عنه مسئولاً{(11).
ومن هنا سيقول الكافرون يوم القيامة:} لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم{(12). وهذا يبين لنا أن عدم استخدام وسائل الإدراك من عقل، وحواس فيما خلقت من أجله يعد ذنباً من الذنوب، وينزل بالإنسان من مرتبة الإنسانية إلى مرتبة الحيوانية بل إلى أسفل منها. وفي ذلك يقول القرآن الكريم:} ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضّل{(13).
وليس هناك دين من الأديان رفع من شأن العقل، وأعلى من قدره مثلما صنع القرآن، وقد حرص الإسلام على إزالة كل العوائق التي تعترض سبيل العقل البشري حتى يستطيع ممارسة دوره كاملاً في هذا الوجود. ومن هنا رفض الإسلام التبعية الفكرية والتقليد الأعمى، ولم يرتض رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكون المسلمون إمعات يسيرون وراء كل ناعق؛ بل عليهم أن يحكموا عقولهم ويميزوا بين ما يضرهم وما ينفعهم، فلا حجية لأحد في الإسلام بعد كتاب الله وسنة رسوله، وكل إنسان يؤخذ من كلامه، ويرد ماعدا صاحب الشريعة. وكذلك حرر الإسلام العقل من الخرافات والأوهام والشعوذات، وجعل المسئولية فردية في أساسها فليست هناك خطيئة موروثة. وهذه المسئولية الفردية لا تقوم إلا على أساس من حرية الفرد واطمئنانه إلى حقوقه في الأمن على نفسه وعقله وماله. وقد جعل الإسلام الأمن على العقل من بين المقاصد الضرورية التي قصدت إليها الشريعة الإسلامية لقيام مصالح الدين والدنيا، وهذه المقاصد الضرورية هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال(14).
وغرس الإسلام في نفس المؤمن العزة وقرنها بعزة الله وعزة رسوله }ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين {(15(، وقرر الإسلام ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن المؤمن لا يخشى في الحق لومة لائم؛ وبذلك صان الإسلام كرامة الإنسان.
وأكد القرآن الكريم الكرامة الإنسانية في قوله تعالى:}ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً{(16).
وعقيدة التوحيد وعقيدة ختم النبوة في الإسلام تعنيان أيضاً رفع الوصاية عن العقل البشري. وبذلك ينفتح المجال أمام العقل ليمارس وظيفته دون عوائق.
وقد كان مبدأ الاجتهاد في الإسلام من المبادئ التي فتحت الباب أمام العقل ليصول ويجول في مجال استنباط الأحكام الشرعية. وإذا كان الإسلام قد أجاز للعقل هذا الحق في مجال الأحكام الشرعية فمن باب أولى يكون ذلك أمراً حتمياً في مجال الأمور الدنيوية، والاجتهاد في حقيقته دعوة إلى الإبداع في كل مجالات العلوم والفنون والصنائع.
(ب) مجالات النشاط الإنساني:
وهكذا يتضح لنا أن الإسلام قد هيأ المجال الملائم أمام الإنسان لاستخدام كل طاقاته الإبداعية، ووفر له كل الشروط الضرورية التى تساعده على القيام بمهمته الكبرى المتمثلة في خلافته لله في الأرض، والنهوض بمسئوليته في عمارة الأرض، وجعل الله الكون كله بسمائه وأرضه وما بينهما مجالاً لنشاط الإنسان؛ فكل ماعدا الإنسان في هذا الكون مسخر لخدمة هذا الإنسان ومجال لنشاط الإنسان، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: }وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون{(17)، كما يقول أيضاً:} سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق{(18).
وقد حدد الحق تبارك وتعالى مهمة الإنسان الحضارية في هذا الكون بقوله:} هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها{(19). وهذا يعني أن الله قد فوض إلى الإنسان عمارة الأرض، والعمارة نقيض الخراب، وتعنى تمهيد الأرض وتحويلها إلى حال يجعلها صالحة للإنتفاع بها وبخيراتها، والإستعمار في الآية الكريمة هو طلب العمارة. فالإنسان مطلوب منه ـ طبقاً للمشيئة الإلهية ـ أن يجعل الأرض عامرة تصلح للإنتفاع بها، وأن يبحث عن أفضل السبل لتيسير الحياة فيها، وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات وكنوز وخامات من أجل خير البشرية جمعاء.
وقد أعطى الله الإنسان من الطاقات والاستعدادات والإمكانات ما يتناسب مع ما في هذه الأرض من قوى وطاقات وكنوز وخامات؛ فهناك تناسق بين القوانين الإلهية التي تحكم الأرض وتحكم الكون كله ـ والقوانين التي تحكم الإنسان، وما حباه الله به من قوى وطاقات، حتى لا يقع التصادم بين هذه القوانين وتلك، وحتى لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون.
وعمارة الأرض تتحقق بالعلم الذي هو فريضة إسلامية، وبالتقنية التي هي تطبيق للعلم، ومن أجل ذلك تدخل تحت مفهوم الفريضة؛ ولكن العمارة على هذا النحو المشار إليه ليس هي الحضارة بإطلاق، وكذلك ليست هي العمارة بإطلاق، بل هي أحد جوانب الحضارة، ويمكن أن يطلق عليها مصطلح الحضارة الشيئية أو المادية. أما الجانب الآخر الذي به تكتمل الحضارة ـ أو عمارة الأرض بالتعبير القرآني ـ: فإنه يشمل كل القيم الدينية والعقلية والأخلاقية والجمالية.
ومن هنا فإن الحضارة في المفهوم الإسلامي تعني المشيئة الإلهية في عمارة الأرض مادياً ومعنوياً، وبذلك يحقق الإنسان ذاته بوصفه خليفة لله في الأرض.
وهكذا نجد أن سيطرة الإنسان على قوة الطبيعة لا تكفي وحدها لبناء الحضارة؛ بل لابد أن ينضم إلى ذلك أيضاً سيطرة الإنسان على نوازعه الداخلية، وأهوائه وشهواته حتى تكون منضبطة بالقيم الدينية والعقلية والأخلاقية والجمالية، وبذلك تتم عمارة الأرض كما أراد الله، وبذلك يكون الإنسان في صلة مستمرة بالله خالق الكون تصحح له دائماً مساره على الأرض حتى لا يضل الطريق، فيظن أنه سيد هذا الكون مع أن دوره لا يعدو أن يكون سيداً في هذا الكون، وهذا هو معنى خلافته لله في الأرض.
(جـ) القيم الحضارية المنسية:
مما تقدم يتضح لنا أن الإسلام بما يشتمل عليه من تعاليم قد هيأ السبيل أمام المسلمين لعمارة الأرض أو بناء الحضارة على أفضل الوجوه، غير أننا في صلتنا بالإسلام قد ضيقنا رحمة الله الواسعة، وحصرنا الإسلام في مجموعة من الشعائر المعروفة؛ فاختفت من حياتنا ـ أو كادت ـ مجموعة القيم الحضارية المشرقة، وأصبحت في واقعنا الإسلامي قيماً منسية، لا أثر لها في حياتنا ولا تأثير.
ونود في هذا الصدد أن نشير مجرد إشارات عابرة إلى بعض النماذج من هذه القيم المنسية على سبيل التذكرة بها ومن هذه القيم:
أولاً: قيمة التفكير:
وهي من القيم التى حث عليها القرآن الكريم، وأشار إليها في صيغ عديدة دليلاً على أهميتها، وما تؤدى إليه من إبداع في شتى أنواع العلوم والفنون والصنائع. ولكننا بنظم التعليم لدينا قد نجحنا في تعليم أبنائنا الخوف من التفكير، وقمنا بصبهم جميعاً في قالب واحد يربطهم بحرفية المكتوب، وأغلقنا أمامهم فرص الإبداع والإنطلاق. وأصبح الفكر لدينا في اللسان الشعبي أمراً مرادفاً للغم والهم بحيث لا تجد الأم التي تحنوعلى أبنائها دعوة أفضل من أن تدعو الله أن يبعد عنهم الفكر.
ونحن مطالبون بأن نفكر، وأن يقض التفكير مضاجعنا ويقلقنا في سبيل البحث عن مخرج لنا من أزمتنا الطاحنة.
ثانياً: قيمة العمل:
الذي يرتبط في القرآن الكريم بالإيمان، ويرتبط بقيمة أخرى هي قيمة إتقان العمل واستمراريته، حتى ولو قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم(20). ويرتبط بقيمة العمل قيمة الوقت، وأسلافنا كانوا يقولون: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وكانوا يقولون أيضاً: الوقت من ذهب. ولكن هذه القيمة قد تحولت على أيدينا إلى شئ أرخص من التراب، وتفيد التقارير الرسمية أن متوسط عمل العامل في بلادنا لا يتجاوز نصف ساعة في اليوم. وقد نسينا أن الله سبحانه قد أقسم بالعصر، وبالفجر، وبالضحى، وبالليل، وبالنهار؛ وهي تمثل أجزاء من الوقت دليلاً على أهمية هذه القيمة، وليلفت أنظارنا إليها، ويوجهنا لاستغلال أوقاتنا الاستغلال الأمثل؛ فنحن مسئولون يوم القيامة عما صنعنا بأوقاتنا.
ثالثاً: قيمة النظافة:
ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى الحديث الشريف القائل:«الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»(21)؛ فقد جعل النبي إماطة الأذى عن الطريق جزءاً لا يتجزأ من الإيمان، ولو حقق المسلمون هذا الجزء من الحديث النبوي لكانت شوارع المسلمين في قراهم ومدنهم أنظف الأماكن في الدنيا كلها.
رابعاً: قيمة مراعاة شعور الغير:
وهنا نشير أيضاً إلى هذا التعليم النبوي الرائع في قوله عليه الصلاة والسلام:«إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه»(22).
خامساً: قيمة النظام:
فإن حياتنا قد أضحت خليطاً عجيباً من الفوضى على المستوى الفكري والديني والعلمي والحياتي في حين أن تعاليم الإسلام في الصلاة وفي الجهاد ـ على سبيل المثال ـ قد أعطت لنا مثالاً رائعاً في النظام.
سادساً: قيمة الجمال:
الإسلام دين الجمال يكره القبح، وينفر المسلمين منه، وتعاليم الإسلام كلها تحث على الجمال في كل شئ، والحديث الشريف الصحيح يقول: «إن الله جميل يحب الجمال»(23)، والمسلم مأمور بأن يأخذ زينته عند كل مسجد. وكما يكون الجمال مادياً كما نراه في الأجسام والأشياء من حولنا ـ: يكون أيضاً جمالاً معنوياً يتمثل في الأخلاق الجميلة والصفات النبيلة.
والكون بما فيه من تناسق وإحكام أعظم مثال على الجمال الإلهي في هذا الوجود، وأوصاف الجنة في القرآنالكريم تعد لوحات فنية رائعة الجمال.
إننا نفتري على الإسلام إذ نجعل منه ديناً ينفر من الجمال ويدعو إلى الكآبة والتجهم.
إننا نظلم الإسلام حين نجعل منه ديناً عدواً للعواطف والوجدانيات، وعدواً للتعبير الجمالي عن هذه العواطف بقصيدة جميلة، أو أغنية ذات كلمات عفيفة أو لحن موسيقى يرقق المشاعر، أو رسم جميل يبرز آيات الله في الكون.
لماذا ننسى أن أبا بكر رضي الله عنه قد دخل على عائشة في يوم عيد فوجد عندها جاريتين تغنيان فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال له النبي الكريم: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا»(24).
ولماذا ننسى أيضاً ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها زفت جارية يتيمة كانت في حجرها لرجل من الأنصار، فدخل رسول الله ولم يسمع الغناء، فقال «يا عائشة: ألا بعثت معها من يغني فإن الأنصار قوم يحبون الغناء، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم»(25).
تلك كانت بعض الإشارات العابرة من تعاليم الإسلام في مجال القيم الحضارية، وما أكثرها. وهذا مجال واسع يطول شرحه.
(د) نحو حضارة إسلامية معاصرة:
والسؤال الآن هو: إذا كان هذا هو موقف الإسلام من الحضارة: فما بال المسلمين قد تخلوا عن ركب الحضارة، وارتضوا لأنفسهم منذ قرون أن يكونوا في مؤخرة الركب لا يشاركون في صنع الحضارة، وإن كانوا يستخدمون منتجاتها؟ إن الحضارة المعاصرة إن باعتنا منتجاتها: فلا يمكن أن تبيعنا روحها وأفكارها، وكل المعاني التي لا تلمسها الأنامل. فعملية التحضر عملية منبعثة من الداخل أساساً، وهذا يعني أن هناك شيئاً ذاتياً أساسياً يجب أن يقود عملية التحضر، ولهذا يمكن أن نرى فرداً من الأفراد يستخدم كل منتجات الحضارة، ولكنه لا يسلك سلوكاً حضارياً. ومثل هذا الفرد لا يمكن أن يقال عنه إنه متحضر، رغم الأكوام الهائلة التي يحيط بها نفسه من منتجات الحضارة. ومن هنا فعدم مشاركة المسلمين في صنع الحضارة يعني أنهم قد تخلوا عن مسئوليتهم في عمارة الأرض وتركوها لغيرهم وهي تلك المهمة التى أكدها القرآن الكريم.
فماذا يريد المسلمون؟
هل ينتظر المسلمون انهيار الحضارة المعاصرة حتى يقيموا حضارتهم على أنقاضها؟ إذا كان الأمر كذلك فسيطول بهم الإنتظار.
أم يرى المسلمون أن واجبهم في المشاركة في صنع الحضارة يتمثل في الإهتمام بالجانب الروحي الذي أهملته الحضارة الحديثة حتى يقيم المسلمون بذلك التوازن الذي اختل في الحضارة الحديثة؟
إن هذه مهمة جزئية ليست هي ما يريده الإسلام من أبناءه؛ فالإسلام لا يفصل الجانب المادي عن الجانب الروحي. والنموذج الذي ينبغي أن نسعى إليه ونقدمه لأمتنا ولغيرنا لابد أن يكون جامعاً للأمرين وإلا كنا خائنين لرسالتنا نرتضي لأنفسنا أن نكون لقمة سائغة في فم القوى العظمى. إننا في عالم اليوم ـ: في عصر لم يعد يعترف إلا بالقوة. وقوة اليوم لم تعد هي قوة السلاح فقط أو قوة الإيمان فقط؛ وإنما هي القوة التي تجمع بين الأمرين، وهذا هو جوهر تعاليم الإسلام.
فلا يجوز لنا إذن أن نتخلى عن فريضة العلم، وما يرتبط به من تقنية بجوار قيامنا بفرائض الروح والقلب.
ومن هنا فإنه لا مناص لنا من أن نتمكن من حضارة العصر بكل منجزاتها المادية، وتطوراتها العلمية والتقنية، في الوقت الذى نراجع فيه موقفنا من الإسلام وتعاليمه؛ لنزيل الغبش الذي غطى على تعالم الإسلام فحجب عنها الرؤية السليمة الواضحة لهذه التعاليم على مدى القرون الماضية، وهذا يتطلب تحولاً جذرياً في العقلية الإسلامية لتنسجم مع تعاليم الإسلام، تصحيحاً للأوضاع الغربية، والتقاليد البالية، والقصور العقلي، والفهم السقيم الذي أراد أن يشد تعاليم الإسلام لتنسجم مع ما درجنا عليه من عقلية متخلفة؛ فالعيب إذن فينا نحن المسلمين وليس في الإسلام. فالإسلام سيظل شامخاً بتعاليمه، إذا اشرأبت أعناق المسلمين وقلوبهم وعقولهم نحوه بصدق: جذبهم إلى أعلى، وإذا أرادوا أن يخضعوه إلى فهمهم السقيم: ـ تخلى عنهم وتركهم يسقطون في وهدة التخلف.
لقد ركزت الصحوة الإسلامية على أمور العبادات وهذا أمر مطلوب، واهتمت بالكثير من المظاهر والشكليات وهذا من قبيل الهزل في وقت الجد.
إن المسألة الملحة اليوم هي البحث عن مخرج للمسلمين من وهدة التخلف الشامل؛ وذلك لن يكون إلا باستعادة الوعي بالإسلام.
والصحوة الإسلامية تظل مجرد كلمة خالية من المضمون طالما لم تصل إلى مرحلة عودة الوعي بالإسلام؛ وعودة الوعي هي الحالة التي يمكن أن تكون المنطق الحقيقي للفهم الشامل للإسلام بوصفه دين العزة والكرامة، ودين التقدم والحضارة، دين العلم والمدنية، دين الدنيا والآخرة، دين التوازن بين الجسم والروح، دين الإعتدال والسماحة، دين السمو المادي والمعنوي، وبصفة عامة دين السلوك المسئول على جميع المستويات الفردية والاجتماعية والدينية، والسلوك المسئول هو دائماً سلوك حضاري. والتعاليم التي تنتج هذا السلوك المسئول: هي التعاليم التي تدفع معتنقيها إلى صنع الحضارة والمشاركة فيها، لابوصفهم مجرد مستهلكين أو متفرجين؛ ولكن بوصفهم فاعلين مؤثرين.
والتعاليم التي تستطيع أن تصنع ذلك كله هي تعاليم الإسلام.
إن ديناً بهذا الوصف لا يمكن أن يجعل أمر الحضارة من المسائل الهامشية ضمن اهتماماته، وإنما يجعلها في قائمة أولوياته.وهذا ما فهمه المسلمون في السابق، وبذلك استطاعوا في فترة زمنية قصيرة أن يقيموا أعظم حضارة في التاريخ. ومن هنا يمكننا مرة أخرى أن نقرر أن الحضارة فريضة اسلامية، وواجب دينى لا يجوز للمسلمين أن يتخلوا عنه، بل عليهم أن يجعلوه في قمة اهتماماتهم حتى يعودوا مرة أخرى أعزة، ويستعيدوا مكانهم الريادى ومكانتهم العليا في عالم اليوم.
والله من وراء القصد، وهو يقول الحق ويهدي السبيل.
الهــوامـش
(1)راجع: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي للدكتور محمد البهي.
(2) ترجمة د.عبدالرحمن بدوى ـ ص 34 (دار الأندلس 1980م).
(3)شروط النهضة لمالك بن نبي ص 65 وما بعدها ـ ترجمة عمر كامل مسقاوي ـ دار الفكر1969م.
(4) انظر: مدخل إلى الفكر الفلسفي لبوخينسكي ومن ترجمتنا ص 113 وما بعدها مكتبة الأنجلو المصرية 1980 م.
(5) انظر كتابنا: دراسات في الفلسفة الحديثة. ص 264 وما بعدها دار الطباعة المحمدية 1988م.
(6) فلسفة الحضارة ص 35 وما بعدها.
(7) انظر كتابنا: دراسات في الفلسفة الحديثة ص 261.
(8) المرجع السابق ص 270 وما بعدها.
(9) سورة العلق. (راجع: الخصائص العامة للإسلام للدكتور يوسف القرضاوي ص 61 ـ مكتبة وهبة 1977م).
(10) رواه الترمذي.
(11) سورة الإسراء: آية (36).
(12) سورة الملك: آية (10، 11).
(13) سورة الأعراف: آية (179).
(14) الموافقات للشاطبى جـ 2 ص 10 ـ دار المعرفة ـ بيروت.
(15) سورة المنافقون: آية (8).
(16) سورة الإسراء: آية (70).
(17) سورة الجاثية: آية (13).
(18) سورة فصلت: آية (53).
(19) راجع: في ظلال القرآن لسيد قطب جـ 1 ص 56 ـ دار الشروق، وراجع
أيضاً الميزان في تفسير القرآن للسيد محمد حسين الطباطبائي جـ 10 ص 321
طبعة مؤسسة الأعلمى للمطبوعات، بيروت.
(20 ) مسند الإمام أحمد بن حنبل جـ 3 ص 191 (طبعة إسطنبول بعنوان الكتب الستة
مجلد 22).
( 21 ) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائ (فيض القدير جـ 3 ص 185) ـ دار
المعرفة ـ بيروت.
(22 ) رواه البخاري ومسلم وغيرهما (فيض القدير جـ 1 ص 435).
( 23 ) رواه مسلم في صحيحه 2/89 (دار إحياء التراث العربي ـ بيروت 1972 م).
(24 ) رواه ابن ماجه في سننه جـ 1 ص 612 طبعة عيسى الحلبى . تحقيق محمد فؤاد
عبد الباقي.
( 25 ) رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده جـ3 ص 391 ، طبعة بيروت.