حديث مع المفكرين
إن الذين يحملون الهم الفكري في مسيرة الأمة الحضارية، هم بطبيعتهم يحسنون الاستماع، ويحسنون الاستجابة، ولذلك فإن الحديث معهم أمر مرغوب محمود، بقدر ما هو مأمون العاقبة، مرجو الثمرة، وحديثي معهم هنا ذو ثلاث شعب:
الأولى:
أن حَمَلة الأفكار الرائدة يحملون بنفس القدر مسئولية ثقيلة؛ فالفكرة وحدها لن تطعم بين الناس جائعًا، ولن تحقق في الأرض عدلاً، ومجموعة الأفكار التي يتداولها الأذكياء في مجالسهم لن تنقذ الأمة من أزمتها أو تسهم في حل إحدى مشكلاتها؛ بل إن الذي يُحدثَ التغييرَ هو تحريك هذه الأفكار، وتطويرها، ونشرها، وإقناع أهل الرأي والفكر والتوجيه بها، وتحويلها إلى عناصر فاعلة، تمتزج بمناهج التربية وبرامج الإعلام في المجتمع، بحيث تشكل تيارًا مستمرًا، يزداد اتساعًا بتكاتف الجهود وتنسيقها، حتى تستجيب له مراكز القرار، وتتواءم معه، إن أرادت أن تستمر في أداء دورها، كأداة معبرة عن ثقافة هذا المجتمع وخياراته، وإلا وجدت نفسها في عزلة عنه، متخلفة عن آماله وقدراته، وسرعان ما يتجاوزها الزمن وتجرفها الأحداث.
أما أن يظن المثقفون وأهل الرأي، أن انقداح الأفكار فيما بينهم هو قصارى ما يملكون، وعلى الأمة كلها، بمفكريها ومؤسساتها وكتابها وصناع القرار فيها أن يلتقطوا الأفكار الصالحة وأن يتبنوها، وأن يعملوا على تحقيقها، فذلك وهم بعيد.
إن الداعي إلى فكرة إصلاحية عليه أن يكون أول العاملين لها، الواهبين حياتهم لتحقيقها، وإن صرفه عنها شاغل آخر- ضعفت ثقة الناس فيما يقول، وأصبح شأنه شأن من يطلب من المارة أن يعينوه في رفع الحمل الثقيل، فإذا ما شرعوا في العمل- تلفتوا حولهم فلم يجدوه بينهم، فإن سألوه في ذلك قال إنه انشغل بالخروج إلى رأس الطريق لدعوة الآخرين إلى معاونتهم!
الثانية:
أن الفكر لا يؤطره شعار، ولا يحبسه مصطلح، ولا تعوق انطلاقته حروف اللغة ولا تعريفات المعجم.
وآفتنا من قديم أننا نتراصّ أمام مصطلح ندفع عنه سهام المهاجمين، بدلاً من أن نحاورهم حول المحتوى والمضمون، أو أننا نشن هجومًا على صنم أقامه الآخرون، مفترضين فيه كل صفات الكفر والشرك والنفاق. ولو سَألَنا المهاجمون عما نحمل في جعبتنا من أفكار، ولو طلبنا نحن من الآخرين أن يطرحوا ما لديهم من القضايا على مائدة واحدة- لاتضحت الرؤية، وانقشع الضباب، وتحددت مساحة الاتفاق، وتميزت نقاط المفارقة والاختلاف.
لو سألنا –على سبيل المثال- عشرة من المفكرين والكتاب عما يعنيه مصطلح «العلمانية» ومما اشتق اللفظ، وماذا يحتويه المفهوم، لجاءتنا عشرة ردود مختلفة، ولرأينا بأعيننا أن ما اختلفت حوله هذه الردود أكثر مما اتفقت عليه، ومع ذلك نصر على استعمال المصطلح وإطلاقه في أدبياتنا وكأنها قضية محددة المعالم واضحة الحدود، بدلاً من أن نسقطه من حسابنا، ونهتم بما يحتشد خلفه من القضايا التي تستحق منا الانشغال وتستأهل إطلاق طاقاتنا الفكرية لبلورتها وتحليلها وتطويرها والبناء عليها.
ولو أطلقنا بين مفكري الأمة وعلمائها شعارًا «كالإسلامية» أو «الأسلمة» أو «التأصيل الإسلامي» أو «التوجيه الإسلامي» للعلوم والمعارف، لوجدنا الكثيرين منهم قد انشغلوا عن أصل القضية المطروحة، بمناقشة المصطلح، والوقوف إلى جانبه، أو الوقوف في مواجهته، بل إن الذين ينحتون الشعارات –أنفسهم- يفتر حماسهم لها بعد فترة من الزمن نتيجة هذا اللغط، فيتحولوا إلى غيرها؛ لأسباب موضوعية، أو غير موضوعية. وفي كل الأحوال يختل خطابهم الذي كان قائمًا على ما يشبه التقديس للمصطلح المستعمل، وتضطرب معه حجتهم ويقل أثرهم.
أما الذين ينفذون إلى لب القضايا، بحثًا عن أسبابها، وكشفًا عن دوافعها، وتحليلاً لعناصرها، وطرحًا لبدائلها، مارين مرورًا عابرًا بما أطلقه الناس عليها من أسماء وما اختاروه لها من ألقاب؛ فهؤلاء هم الذين يستقيم خطابهم ويمتد أثرهم، متجاوزًا قيود اللغة وعصبية الانتماء.
قد يكون مطلوبًا إطلاق شعار ما –مع شرحه وتدعيمه بالنموذج والمثال- عندما يكون المخاطب بعيدًا عن القضية، غائبًا عن إدراكها، فتلزمه الإفاقة وشد الانتباه.
أما إذا كان المخاطب منشغلاً بالقضية المطروحة، منفقًا فيها عمره، مؤلفًا حولها الكتب والأبحاث، فأقرب الطرق إليه هو الحديث عن المضمون، إذ تصبح مناقشة الشعار معه مضيعة للوقت، مفسدة لما يرجى من تجميع الجهود وحشد الطاقات وتنسيقها في اتجاه الإنجاز.
الثالثة:
أن الله قد أنعم علينا أن هدانا إلى إحياء نظام الأوقاف الذي أوشك أن يندثر مع الانحسار الحضاري للأمة الإسلامية، وأوشك ألا يبقى منه سوى صيغ مشوهة ورثتها الأنظمة الحاكمة، مفرغة من محتواها الإنساني والاجتماعي، محكومة بسياسة الدول وتوجيهها.
ثم التقطت النظم الإدارية الغربية جوهر التجربة، وصاغتها بما يخدم أهدافها، وقدمتها في إطار منظومتها التشريعية تحت اسم NONPROFIT TRUST، فعاد المسلمون المقيمون في الغرب –بتوفيق من الله- إلى شراء بضاعتهم التي ردت إليهم، فأنشأوا من جديد أوقافهم لاتي تتمول من عائداتها مساجدهم ومدارسهم ومراكزهم الدعوية المتعددة.
ومع ازدياد الوعي لدى المحسنين، ازداد التحول من عقلية الصدقة العابرة إلى منهج الوقف، القائم على التدبير والتخطيط وعلى استدعاء الطاقات المالية والبشرية والإبداعية في المجتمع.
لقد كانت الأموال –في تاريخنا- توقف على العديد من الأغراض الخيرية، وكان أصحابها يرفعون أيديهم عنها بعد وقفها، وتنتقل إدارة شؤونها إلى أهل الخبرة الذين هم أدرى بغاياتها ووسائلها وطرق رعايتها وتثميرها. وكان هذا هو سر نجاح الأوقاف في حضارتنا السالفة.
وأحسب أن المشروع الإسلامي المعاصر بوجه عام، وعموده الفكري بوجه خاص، هو أولى المشروعات باعتماد نظام الوقف أساسًا اقتصاديًا له، فكم من المفكرين والعلماء والباحثين من يربط طموحه العلمي بالمشروعات الجماعية، وهؤلاء يحرصون على تنميتها وتطويرها وترشيدها، ويسهمون بدراهمهم –قلت أو كثرت- في دعمها، متى اطمئنوا إلى استقلال مسيرتها سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا.
إن المشروعات الكبرى، كالجامعات والمعاهد ومراكز البحث والإشعاع الفكري، لا ترتبط مسيرتها بأعمار مؤسسيها أو مموليها، وإنما يتوقف نجاحها –في إطار نظام الوقف- على قوة الدفع الذاتي من داخلها، وعلى تجدد دمائها بتجدد أجيال الحاملين همومها وآمالها، الواعين دورها، المستشرفين مستقبلها.
ويبقى للمؤسسين والواقفين فضل المبادرة والسبق، ودعاء الصالحين لهم بخير المثوبة على ما قدموا وبذلوا ابتغاء وجه الله.