تلازم الموضوعية والمعيارية في الميتودلوجيا الإسلامية
أ. محمد أمزيان. العدد 59
1- يقرر الأستاذ الفاضل محمد أمزيان بشكل مباشر وغير مباشر سعى علماء الاجتماع الغربيين بل تأسيسهم لعلم الاجتماع على أساس وصفي وليس معياري، وهذا مما لاخلاف عليه. لكن الأستاذ الفاضل ينتقد هذا الاتجاه ويرفضه رفضاً تاماً. ثم يقرر مع ذلك أن علماء الاجتماع الغربيين ما كانوا أبدا وصفيين فقط بل عنصريين والتزموا النظرة المعيارية في علمهم، ودلل على ذلك في كثير من المواقع منها ما جاء في صفحة 60: ” .. إلا أن الكتابات الاجتماعية تدل دلالة واضحة على أن الباحث الغربي ظل في كل ما يكتب معبراً عن القيم الغربية وملتزماً بالنظرة الاستعلائية لهذه القيم تجاه بقية الشعوب…”.
” … ولم تكن الدراسات الاجتماعية لتأخذ شكلاً مغايراً لطبيعة هذا الموقع بحيث استقر في ذهن الباحث الغربي وجود نوع من التلاوم…”، “… ولقد ظلت هذه الخلفية حاضرة في ذهن الباحث الغربي..”. إذاً نحن أمام مشكلة تعريف لمصطلح وصفي، وهل يمكن للإنسان أياً كان أن يكون وصفياً. موضوعياً تقريريا بالمعنى المطلق أم أن النسبية أيضاً تحكم أيضاً هذا الأمر، وكما ورد في كلام الأستاذ مما أشرت إليه من قبل ثلاثة عوامل هي الأساس في ديمومة النسبية وهي:
طبيعة الموقع + الخليفة الثقافية + الزمن (الحساسية التاريخية) إذاً مادام مقرراً على وجه نهائي أن علماء الاجتماع الغربيين ما كانوا أبداً موضوعيين وصفيين فلا يمكن محاكمتهم ولا محاكمة علمهم علي أساس هذا المبدأ بل ربما على أساس أنهم أعطوا أنفسهم وعلمهم صفة لا تطابق الحقيقة… وهذه قضية لا اختلاف عليها مع الأستاذ الفاضل أمزيان.
إذاً فلا يمكن لنا أن نحكم على علم اجتماع وصفي موضوعي من خلال علماء الغرب فهم شئ وعلم الاجتماع الوصفي الموضوعي شئ آخر ولهذا نتيجة سآتي إليها فيما بعد.
الأمر الآخر الذي يجعلني أؤكد خطأ الحكم على علماء الاجتماع الغربيين على أساس أنهم وصفيون موضوعيون على ما يؤكده الكاتب نفسه ويدلل عليه لغيره من علماء الغرب فيقول في صفحة 60 : ” لقد عمل علماء الاجتماع على تأكيد سيادة وتفوق النمط الغربي على المستوي الثقافي والسياسي والاجتماعي على مستوى السلوك والأخلاق والقيم والنظم… ومن العبث أن نقول إن محاولاتهم هذه كانت محاولات علمية ومحايدة وتستبعد الأحكام المعيارية وتتجرد عن المقاييس الأخلاقية”.
فما داموا غير وصفيين ولا موضوعيين ولا متجردين فلماذا أحكم على خطأ الموضوعية والتجرد من خلال أعمالهم ومختلف نظرياتهم؟!
وكذلك لا يمكنني أن أطالب – وبإلحاح كما جاء في كثير من فقرات المقال – باستبعاد علم اجتماع وصفي موضوعي تقريري من خلال تجربة علماء اجتماع الغرب فقط ولهذا أيضا ما بعده.
2- ومن بين ما يرد في مقال الأستاذ الفاضل ما يلي:
ص: 59: “ظلت بحوثهم (علماء اجتماع الغرب) ذات صفة معيارية تنطلق في دراستها وتحليلها من واقع القيم الغربية وذات نزعة إصلاحية تسعى إلى تغيير نمط اجتماعي معين بنمط آخر مغاير…).
ص 61 / 62: ” إن دور كايم – كما يشير إلى ذلك نقاده – يؤمن بالتقدم الأخلاقي ويعتقد في إمكان وصوله في دراسته إلى منظومة جديدة يمكن أن تكون صحتها مؤيدة بالعلم وقد كان يأمل في أن يكون علم الاجتماع قادراً على إحداث بني اجتماعية أمتن لكي يقوم البني التي تداعت بسقوط النظام الأمبراطوري السابق”. ” لقد سخر دور كايم علم الاجتماع لأهداف إصلاحية تقوم أساسا على أسس علمانية وإلحادية ومادية؛ قصد إحداث تغييرات عميقة داخل البنية الاجتماعية الثقافية الغربية ولم يمنعه التزامه العلمي من التصريح بأن علم الاجتماع لم يكن يستحق ساعة من الاهتمام إذا لم يمكننا من تحسين المجتمع”.
ص 62: ” … على أن هذه النظرية الإصلاحية لم تكن من تقاليد الرواد الأوائل فحسب، بل امتدت عند الأجيال التالية..”.
ص 67 / 68: ” أما الميتودلوجيا الإسلامية فهى لا ترى وجود هذا التعارض مطلقاً فالمسألة ليست مسألة تعارض وتقابل بقدر ما هي مسألة تكامل وتطابق، بمعني أن هناك تلازماً بين المعيارية والوضعية..”.
ص 69: ” إن الاقتصار على الدراسة الوصفية الاستطلاعية يجعل من العلم أداة عقيمة يفقد معها دلالته ووظيفته فالباحث الاجتماعي لابد أن يتخذ موقفاً بالنسبة لما يعلم وما ثبت له من الحقائق وهو أولى وأحق بهذه العملية من السياسيين والمتعصبين والعامة والجهال”.
إذاً ما الفرق في تحديد غائية علم الاجتماع كما ورد في موقف علماء الاجتماع الغرب في ص 59 و 61و 62 وغيرها مما أشرت إلى بعضه سالفاً؟! فدور كايم يصرح بأن علم الاجتماع لم يكن ليستحق ساعة من الاهتمام إذا لم يمكننا من تحسين المجتمع والأستاذ الفاضل محمد أمزيان يصرح: ” فالباحث الاجتماعي لابد أن يتخذ موقفاً بالنسبة لما يعلم وما ثبت له من الحقائق…”.
إذاً المشكلة في الادعاء والمصطلح فهم ادعوا أن معنى مصطلح الموضوعية ينافي المعنى المباشر والمحدد للكلمة لكنهم لم يختلفوا عما ورد في نظرة الأستاذ أمزيان لعلم الاجتماع مع إضافة الفرق الحتمي الثاني والمنطقي أن مقصود الإصلاح هنا يختلف عنه هناك.
3- يقول الأستاذ الفاضل أمزيان في ص 71 / 72: ” إن علم الاجتماع الإسلامي لابد أن يهتم بالقيم باعتباره يقوم بدراسات مقارنة بين الحالة المدروسة وبين النمط الاجتماعي المثالي أو النموذج الإلهي وهو المجتمع الذي ينشد تحقيقه، وفي ضوء هذه المقارنة يجد نفسه مضطراً لكي يطرح البديل النافع فمهمته التغيير نحو الأحسن، وكل عمل من هذا القبيل لن يتأتي في التزام الحياد”.
كما أنه رفض من قبل إلا أن يتخذ عالم الاجتماع موقفاً بالنسبة لما يعلم وما ثبت له من الحقائق وجعله أولى وأحق من السياسيين والمتعصبين والعامة والجهال.
وكما ورد بشكل مباشر مثل هذه المعاني في ثنايا المقال، ورد شئ آخر يوحي بإعطاء صفة الشمولية لعلم الاجتماع على صعيد البحث والدراسة وعلى صعيد المهمة والتغيير… وهذا ما ينطبق على بعض العلماء الغربيين بل هذه الرغبة التى جعلت علماء الاجتماع يتجاوزون مهمتهم الوصفية الموضوعية كما هي محددة من قبل لينوء بمهمة علوم أخرى كان الأولى أن تشكل مع علم الاجتماع شمولية تعني بكليات الحياة وأن تنفرد بها وحدها.
ودلل الأستاذ أمزيان على بعض ما قرره لعلم الاجتماع بالآية الكريمة (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ) [التوبة: 98]، وهذا الدليل يؤكد تصور الأستاذ أمزيان لمهمة علم الاجتماع وهي الوصفية والمعيارية معاً وفي آن واحد، كما لايرى أن يترك للسياسيين الأمر ولا لغيرهم مهمة اتخاذ المواقف والتغيير..
وهذا ما أختلف حوله الأستاذ أمزيان فمهمة علم الاجتماع محصورة في الوصفية الموضوعية تتكامل مع عناصر أخرى تربوية وأخلاقية وفلسفية وسياسية دون تضاد؛ سواء أخطأ المهمة أم أصاب علماء الغرب، أنصفوا أم انحازوا… وبالتالي فالقرآن ليست مهمته تحقيق علم اجتماع لأن فيه الوصف أولاً ثم المعيار أو الاثنين معاً أو المعيار دون وصف مع وجود تربية أو سياسة أو الأمرين معاً داخل أي من المعيار أو الوصف أو كلاهما مجتمعين.. فهو شأن آخر ومهمة أخرى يلتقي علم الاجتماع مع أجزاء منه.
ونحن – الإنسانية – اليوم أحوج ما نكون لعلم الاجتماع وصفي تقريري فقط ليحدد بالأرقام ويصف بالوقائع والأحوال حياة الأمم والشعوب .. وأنا علي يقين أن ذلك لو تحقق بتجرد وإخلاص من أي فريق من الفرقاء أو إنسان من الناس لقدم للبشرية كما من المعلومات الأولية التي تمكن أولى الألباب من علماء الاجتماع أو علماء السياسة أو علماء التربية من أن يقوموا بدورهم بعد أن هيئت لهم الأسباب.. ولكان المنتفع الأول والأخير من هذه المعلومات هم المسلمون..
فالمشكلة ليست في مكنون علم الاجتماع الوصفي ولكنها في من استخدم الشعار وأقام تحته علماً آخر أو علم الاجتماع معياري غائي بعد أن سماه بغير ذلك..
وأنا هنا أوكد مع ذلك أنني لا أعترض على قيام علم اجتماع معياري يقوم بالوصف والتقرير ثم المعيار والتقويم كما جاء في حديث الأستاذ أمزيان: قيام علم الاجتماع وصفي موضوعي تقريري فقط… دون إخفاء الشرعية والمعيارية والمثالية على ذلك كما أساء الاستخدام علماء الغرب.
وليكن علم الاجتماع المرحلة الأولى التي على أساسها تنطلق العلوم الأخرى كعلم السياسة أو التربية أو التعليم… فمصور الأشعة هو الذي يقدم تحديداً أو أشكالاً مختلفة للمشكلة ليأتي الطبيب والصيدلاني، والأستاذ أمزيان يريد لعلم اجتماع إسلامي أيضاً أن يكون كذلك رغم انتقاده لما قام به الغربيون.. مع اختلافه المذهبي عنهم.. وفي هذه الحالة نكون ظلمنا علم التصوير وهو برئ مظلوم ممن استخدمه لتحقيق غايات أخرى.
الانطلاق من ردود الأفعال لإنشاء علم اجتماعي إسلامي خطأ غير مقصود وكذلك لايقلل خطأ القياس على خطأ الغرب من خطأ الغرب نفسه، فالنظرة الكلية الشمولية لمقال الأستاذ أمزيان لا تخرج عن ضرورة إيجاد علم اجتماع إسلامي آخر غير الغربي لكنه عند البحث في المضمون لا يختلف عن الآخرين إلا في اللون وفي فعل مضاد يبنى وهو ينظر لما يقابله من تجربة، وينطلق من كل هذا لإقامة صرح جديد، والأفضل الانطلاق من تجرد لا من ردود أفعال مع الاستفادة من التجربة أولاً وتحديد الهدف والوسائل مع إدراك ساحة باقي العلوم لإقامة صحيحة مستقلة متميزة لعلم اجتماع إسلامي.