الأبعاد السياسية للأمن في الإسلام
تقع هذه الدراسة ضمن سلسلة الدراسات التي تهتم بتسليط الضوء على أهمية التنظير السياسي الإسلامي لمفاهيم الحركة السياسية من حيث هو مجموعة المدركات التي يمكن من حصيلتها ابتداع التصور الذي يستطيع أن يسود الممارسة السياسية الإسلامية.
والأمن في أبسط معانيه هو حالة الطمأنينة وعدم الخوف والتي لا غنى للوجود السياسي عنها والتي لا يستطيع المجتمع السياسي المسلم أن يستمر في أداء وظيفته الحضارية دونها سواء كانوا أفرادًا أم جماعات حكامًا أم محكومين مسلمين أو غير مسلمين داخليًا أو خارجيًا. ويجد أساسه في الأصل العقيدي التوحيدي الذي يقام عليه أسس المجتمع المسلم والذي يزكي فيه روح المراقبة المستمرة لإنمائه والتصدي لمحاولات الاعتداء عليه فهو إذن أمن عقيدي في محتواه وهو أمن يتجه إلى المسلم باعتباره امتدادًا لأمة التوحيد وهو أمن لا يعرف تعصبًا أو عنصرية في وجهته.
والأمن هو موضوع دراسة للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والتي تقدم بها مصطفى محمود منجود المدرس المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية والتي شارفت على الألف صفحة ناهيك عن المجهود الشاق الذي بذل فيها والذي استمر زهاء الخمس سنوات لتجلية الغموض عن مفهوم الأمن في الإسلام وأبعاده ودلالاته المختلفة ولسد ثغرة من الثغرات في البحث العلمي الإسلامي في هذا المجال الحيوي.
أهمية موضوع الدراسة:
وتنبع أهمية الموضوع وخطورته في الآتي:
1- أن الانتكاسة الأمنية التي يعاني منها المجتمع المسلم المعاصر الآن ليست إلا وجهًا آخر واستمرارًا –ولو بصورة مختلفة- للانتكاسة التي حدثت في صدر الإسلام مع الأخذ في الاعتبار الفارق الزمني والتفاوت في مدى الالتزام الديني وطبيعة التكوين الحضاري. وفي زحمة الحديث عن مخرج للأمة المسلمة يحفظ لها أمنها وبقاءها قدمت الحلول على المستوى الرسمي في كثير من البلدان الإسلامية إلا أن الحل الإسلامي لمشكلة الأمن ظل حبيسًا ضيق الأفق أحيانًا والتجهيل أحيانًا أخرى وكأنما أريد للإسلام أن يظل بعيدًا عن واقع الأمة رغم أن استبعاده من معالجة المشكلة تعبير عن الابتعاد عن المنهج الأمثل للخروج منها.
2- يعد الأمن من أحد الأسباب الهامة التي تذهب عن الأمة كثيرًا من عناصر الضعف والسقوط لأنه من ناحية يغرس فيها حميّة الوعي بأهمية توفير كل مصادر القوة المتاحة لها والقادرة على ردع أية محاولة لانتهاك أمنها، ومن ناحية أخرى يزكي فيها الإحساس بأنها في رباط دائم ومن مستلزماته الاستعداد واليقظة اللتان تتطلبان القوة والبعد عن الضعف والعجز.
3- أن الحديث عن مفهوم الأمن كمفهوم قيمي حركي يضع قيودًا عديدة على كل قيادة مسلمة تسعى إليه ليكون واقعًا معاشًا فلابد أن يرتكز المفهوم على القرآن والسنة والخبرة التاريخية فهم المقياس الذي يمكن من خلاله الحكم على ما قد يرتكب من تجاوزات باسم الحفاظ على الأمن داخليًا وخارجيًا وهم المحك الأساسي الذي يأبى تحول الأمن إلى واجهة تعلق عليها انتهاكات حقوق الإنسان بقدر ما يقبل الحفاظ عليها ورعايتها وتدعيم وجودها والتزام المجتمع المسلم حاكمًا ومحكومًا بها
وتحاول هذه الدراسة الإجابة على عدد من التساؤلات أهمها:
1- هل تداعى عوامل الخوف والاضطراب وعدم الأمن على الأمة المسلمة –الأمر الذي أحدث هزائم متتالية وانتقاصًا لأطرافها في أكثر من موقع منذ أحداث الفتنة الدامية في عصر الخليفة الثالث عثمان حتى الآن مع تعاظم إمكانات النهوض وبناء المشروع الحضاري المتكامل- وما صاحبها من انكسار في جدار أمن الأمة المسلمة مرجعه غياب التصور الواضح للأمن أم مرده تعطيل أو تغييب هذا التصور عن واقعها؟
2- أين الخلل الحقيقي هل يكمن في القياس الخاطئ للواقع من خلال الأصول الفكرية أم في القياس الخاطئ للأصول من خلال الواقع؟ أم أنه نتاج القياسين معًا وقد أثر سلبيًا على شروط ومنهج وقيم فقه الواقع؟
3- على من تقع التبعة في ذلك؟ هل على قيادات الأمة أم على علمائها أم على شعوبها أم هي مسئولية مشتركة؟
4- ما السبيل إلى تدارك الخلل؟ وكيف يمكن الاستفادة من نماذج الخبرة السياسية خاصة في عصر الخلافة الراشدة باعتباره أكثر العصور التزامًا بعصر النبوة؟
وللإجابة على هذه التساؤلات اعتمد الباحث على المصادر الأصيلة المستندة إلى الوحي مباشرة قرآنًا وسنة ثم المصادر المشتقة وهي محصلة التفاعل والتأثر بالوحي عبر الزمان والمكان وأهمها التراث الحضاري في مختلف جوانب الإبداع والعطاء السياسي وغير السياسي والخبرة الإسلامية عبر عصورها الرائدة مع عدم الإغراق في التجريدات النظرية التي تهمل النظم والحركة أو الإغراق في الواقعية على حساب النماذج التي تسيرها بل حاول الباحث إيجاد دوائر اتصال بين الفكر وهو التصور الذي يؤصل للنظم لتكون المحصلة الحركة التي تخرج في شكل مجموعة ممارسات والتي تؤثر بلا شك في الفكر سلبيًا وإيجابًا لتدور الدورة مرة أخرى.
بالإضافة إلى الارتكان إلى الأصل العقيدي في تأسيس وبناء مفهوم الأمن مع الاقتراب من الظاهرة السياسية اقترابًا كليًا للإلمام بمكوناتها وتفاعلاتها العامة ومحاولة اكتشاف قوانينها.
النطاق الزمني للدراسة:
اتخذت الدراسة تجربتي الخبرة الإسلامية في عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة إطارًا زمنيًا لها باعتبار أن هذه الفترة تعد رائدة لخير القرون الإسلامية وخيريتها نابعة من التزامها بالأصول المنزلة، كما أنها فترة تقدم نماذج متنوعة لحالة الأمن التي يمكن أن يمر بها المجتمع المسلم ففيها من نماذج الازدهار وفيها من نماذج التصدع خاصة أواخر عصر الخلافة كذلك شهدت هذه الفترة تطورات مختلفة للنظام السياسي الإسلامي، ولاشك أن كل تطور شهد صياغة أمنية اتفقت وملامح كل منها فكان من متابعة هذه الصياغات وتحليلها ومقارنتها ما مكن من معرفة دلالات مفهوم الأمن وتطور الأشكال المؤسسية التي يتجسد من خلالها.
افتراضات الدراسة:
المنطلق الأساسي للافتراضات أن الإسلام يقدم للبشر أسس ومقومات الوجود في جميع أوجه النشاط والحياة من خلال التوحيد وهو إذ يفعل ذلك يربط بين أمرين منبثقين منه الإيمان به والأمن في جواره، فثمة رباط قوي بين الإيمان كحقيقة لازمة والأمن كأثر مستتبع منها، هذا الرباط هو ما تحدث عنه الإسلام باسم العمل الصالح ومن ثم اهتمت هذه الدراسة واختبار مدى صدق أربعة افتراضات:
1- أن مفهوم الأمن من المفاهيم ذات المعاني المتعددة وأن تعدد معانيه لا يمنع عن صدورها عن أصل واحد ذي دلالات غير متناقضة الأمر الذي يجعل الأصول المنزلة تملك رؤية واضحة للأبعاد المختلفة للمفهوم.
2- أن المقومات التي يرتكز عليها بنيان المفهوم تتكامل فيها النواحي الفكرية والحركية والنظمية ومن ثم فأي صياغة للمفهوم تسقط من اعتبارها هذا التكامل مآلها إلى القصور.
3- أن هناك علاقة ثابتة بين الوظيفة الحضارية للأمة المسلمة سواء في توجهها الداخلي أو الخارجي أساسها إما أن الأمن ضرورة من ضرورات هذه الوظيفة أو أنه أثر من آثارها أو حالة ملازمة لها أو أنه يجمع هذه الصفات الثلاثة معًا.
4- أن جدارة الاقتداء بالخبرة السياسية لعصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة باعتبارها خير قرون التطور السياسي الإسلامي نابعة من كونها تقدم لصياغة مفهوم الأمن نماذج متنوعة له سواء في حالة استقراره وهيمنته على الحياة السياسية أو في حالة اضطرابه واضطراب الوجود السياسي به.
المنهج المتبع في الدراسة:
اقتضى التأصيل الفكري والحركي لمفهوم الأمن في الإسلام استعانة الباحث بأكثر من أداة ثم توظيف كل منها وفق حدود منهاجية شكلت ضوابط ملزمة للأدوات كلها منها:
1- المنهج التاريخي: وتم استخدامه في رصد التطورات السياسية واستخلاص دلالاتها وفي متابعة تطور دلالات مفهوم الأمن واكتشاف الثابت والمتغير فيه.
2- المنهج المقارن وقد وظفه الباحث بشكلين أحدهما تمت فيه المقارنة الداخلية حيث تمت مقارنة بعض المفاهيم التي عرفتها الأصول المنزلة أو التي عرفتها الخبرة التاريخية والثاني تمت فيها المقارنة الخارجية بين بعض المفاهيم الإسلامية وبعض مفاهيم أخرى قدمتها الخبرة السياسية المعاصرة.
3- بناء النماذج القرآنية والتاريخية واستخدم في بناء الصياغة الفكرية لمفهوم الأمن في محاولة لإيجاد نُسق قياسية تكون سوابق في الاقتداء بها وبكيفية بنائها في معالجة مفاهيم وقضايا أخرى من وجهة نظر إسلامية.
4- تحليل النصوص وقد عمد الباحث إلى التوقف عند النصوص سواء «المنزلة أو الفقهية أو الوثائقية» لاستنطاق ما هي محملة به من معان ودلالات أمنية في اختلاف أنواعها.
ولقد حرص الباحث على تنويع مصادر تفسير القرآن الكريم بحيث شملت الحديث والقديم وفي السنة الاعتماد على كتب الصحاح والشروح لها، ومن الملاحظ أن الباحث لم يسر وراء مزالق الفكر الدفاعي في عرض مقولات الدراسة وذلك لقناعته أن ذلك يجعل الأمة الإسلامية في موقع التهمة الواجبة الرد.
ولقد تم تقسيم الدراسة إلى بابين أساسيين تسبقهما مقدمة وتلحقها خاتمة وفي الباب الأول الذي حمل عنوان «التأصيل الفكري لمفهوم الأمن» حاول الباحث استخلاص مجموعة المبادئ والأسس السياسية العامة التي يستند إليها البناء الفكري لمفهوم الأمن وعالج فيه التعريف بمفهوم الأمن ودلالاته المتعددة التي غطت الدلالات اللغوية، الأصولية، السياسية ودلالات الخبرة السياسية الإسلامية لمفهوم الأمن.
وعالج الفصل الثاني من الباب الأول الركائز السياسية للأمن في الإسلام واهتم الباحث بالعقيدة كأساس للمثالية السياسية، والخلافة كمنطلق للقيادة الحاكمة والأمة ككيان حضاري غير إقليمي، ثم القوة كأداة للدفاع عن الأمن وحمايته. ولقد عالج الفصل الثالث من الباب الأول موقع الأمن بين التزامه بالقيم السياسية الإسلامية واندراجه في المصلحة الشرعية مع الاهتمام بنماذج من الخبرة الإسلامية التي جاءت محملة بكثير من الضوابط القيمية الأساسية.
أما الباب الثاني فقد حمل عنوان «التأصيل الحركي لمفهوم الأمن» ولقد سعى الباحث من خلاله إلى عرض أهم الأساليب الحركية والنظمية التي يمكن من خلالها للمجتمع المسلم تحويل الأمن إلى واقع معاش وحقيقة ملموسة داخليًا وخارجيًا.
لذلك فقد قسم هذا الباب إلى فصلين:
الأول تعرض فيه الباحث لموقع الأمن في حركة التعامل الداخلي وذلك من خلال عرض أهم المبادئ التي تحكم الأمن، ووجهات الأمن في هذه الحركة، ومصادر تهديد الأمن ووسائل التصدي لها.
أما الفصل الثاني فقد تعرض لموقع الأمن في حركة التعامل الخارجي وذلك من خلال عرض المبادئ التي تحكم حركة التعامل الخارجي، ووجهات الأمن المتعددة في هذه الحركة ومصادر تهديد الأمن فيها ووسائل التصدي لها.
وفي خاتمة الدراسة يؤكد الباحث على عدة نقاط أهمها:
1- أن الأمن يوثق جذور الصلة بين الجانب الداخلي والخارجي لوظيفة المجتمع المسلم الحضارية مادام أن رابطها العقيدي ومن ثَم القيمي واحد لا انشطار فيه، ومادام مقصدها النهائي هو تحقيق الاستخلاف الإعماري في الأرض والتمكين لدين الله فيها.
2- أثبتت الخبرة الإسلامية أن الصياغة الفكرية والحركية للأمن حين يقدر لها أن تجد واقعًا يتعانق معها تؤدي ثمارها في حفظ ضروريات الحياة الإنسانية وكما أرادها الشارع الحكيم، وحين يقدر لهذه الصياغة أن توضع أمامها العراقيل لا تؤتي من الثمار شيئًا.
3- أن مفهوم الأمن يصلح أن يكون أحد المداخل المنهاجية في التنظير السياسي مع ضرورة توفير بعض المستلزمات الفكرية والحركية التي تجعل منه حقيقة لها معنى ووجود، والثانية إزالة بعض المعوقات التي تأخذ نفس الطابع الفكري والحركي. ويقوم الأمن كمدخل للتنظير السياسي حقيقة وظيفة الدولة ومفهومها الحضاري وتكامل وجهتيها الداخلية والخارجية، وفي مجال العلاقة السياسية يقدم الأمن إعادة النظر في مفهومها والنظر النقدي لأقطار العلاقة بين الحاكم والعلماء والرعية. وفي مجال نظرية القيم يقدم منهج صياغتها وأشكال علاقة الأمن بالقيم كحالة لازمة لها أو كأثر من أثرها. وأخيرًا فإن مدخل الأمن يقدم في نظرية حقوق الإنسان مصدرها المنزل لا الوصفي ومشمولها الإنسان بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه وضمانات رعايتها والعقوبات الشرعية على انتهاكها حسب الجرم المرتكب وربط الحق بالواجب فيها ليتحقق التبادل في الالتزام بتحصيلها. ولقد سلط الباحث الضوء على ما يحتاجه المفهوم من مسهلات لإتمام بنائه وما يعترضه من عقبات تستلزم المواجهة دون تثبيط العزم أو التراجع عنه.
***
(·) دراسة مقدمة للحصول على درجة الدكتوراه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة- 1990، إعداد أ/ مصطفى محمود منجود.