فى قصد الله ومشيئته أن يخلق الإنسان ليضيف إلى الخلائق التى يحملها هذا الكوكـب الأرضى مخلوقات يختلف عنهـا ويسمو عليها, وليس مناط هذا التفرد اختلاف فى تركيب جسم الإنسان فهو كغيره من المخلوقات مركب من تلك العناصر التى تشتمل عليها طينة الإرض.
وإذا قارناه بما يسمى الحيوانات العليا وجدناه يشاطرها نفس الوظائف من دورة دم وتنفس وتغذية وحركة وتناسل, ومع ذلك فلسنا بحيوانات. نحن أعلى منها لا بتركيب كيميائى ولا بوظائف بيولوجية, ولكننا وحدنا صعدنا خطوة لم تصعدها الحيوانات هى أننا رغم جسمنا الطينى جاوزنا عالم البيولوجيا إلى عالم القيم .. وفى هذا العالم زودنا بمفهوم الخير والشر وبطاقة العلم والتعليم وبملكة التحليل والاجتهاد ثم بالإِرادة التى تختار اختيارها الحر الذى يفضى بها إلى موقف المسئولية. الإنسان إذن مسئول عن تصرفاته فى حدود طاقته.
الموقف الإسلامى صرّح فى تثبيت هذه المسئوولية, ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ), ( ومن شاء فليكفر ), والنبى مذكر لا مسيطر, و ( لا إكراه فى الدين ), ( ولا تـزر وازرة وزر أخرى ), ومـا دمنــا نؤمـــن بالحساب ( إن إلينا إيابهم, إن علينا حسابهم ) فلا بد إذن من أن نؤمن بداهة بالحرية, لأن فكرة الحساب وعدالته تسقطان إن لم يكن المحاسب حراً, حراً فى صواب علمــه وحــراً فى خطـــأ ارتكبه .. وأساس الحساب إذن الحرية, والإِنسان إذن ليس مخلوقا مبرمجا بغرائزه ولكن بإعمال عقله فيها وإنفاذ إرادته الحرة, فمن قسرة على شر أو على خير كان هذا القسر عدوانا على إنسانيته لأنه عدوان على حريته. وإذا كان على القوانين الوضعية أو الشرعية أن تأخذ مجراها من حيث هى ضرورات لتنظيم المجتمع, فما هى ببديل عن الضمير المستجيب لهدى الله والمتجاوب مع الحكمة والموعظة الحسنة, وفى كافة الأحوال الاختيار ويظل جوهر الإنسانية هو الحرية.
بهذه المقدمة أنظر إلى الجماعات الإسلامية على وجه الإجمال فيخيل لى أنها فى الغالب الأعم لم يتضح لها هذا الموقع المحورى للحرية فى أصل خلق الانسان كما أراد الله له وكما بينه القرآن الكريم. لازال الكثيرون فى غموض من أن طبقة الأوامر والنواهى فى الدين مسبوقة بطبقة أعمق وأسبق وهى طبقة الحرية, وأن الأوامر والنواهى لا تلغى غائية الحرية فى نواة جبلة الإنسان. ولقد أدى غياب الفهم الصحيح لهذه الحقيقة إلى محاذير لعل أهوانها التمهيد للماحدين أن يتهموا الدين بأنه يصادر الحرية مع أن الدين يعلمنا أن الله قصد بخلق الإِنسان أن يخلق كائنا حرا ولهذا فهو مسئول … أو كائنا مسئولا فلهذا هو حر, والحرية والمسئولية فى منطق الدين المنزل والعقل المجرد والفطرة السليمة وجهان لعلمة واحدة. ولهذا وجدنا لدى الجمعيات الإسلامية ـــ أفرادا أو جماعة ـــ ضيقا بالرأى الآخر وتضييقا عليه. ومن لم يكن رأيه نسخة طبق الأصل من رأى الجماعة فهو إما منشق عليها أو معاد لها.
ورأينا كثيرا من الاجتهادات المخلصة تثير الهجوم الحاد أو الدفاع الحاد ويصف أصحابها فى مراتب منها الخيانة أو الهمالة أو المروق من الدين أو ابتغاء الفتنة أو تفريق الصف, فى غياب كامل لمفهوم الحوار الموصل الهادىْ الذى ينشد الحقيقة ويرى أن لها أكثر من باب, وأن للطرف الآخر حقا فى أرى آخر ولا بأس بذلك ما لم ينكر معلوما من الدين بالضرورة أو يحل حراما أو يحرم حلالا, وأن الطرفين قد يتبادلان وجهات النظر فإذا لم يتفقا فلا بأس ولا حرج ولا خصام ولا قطيعة وما زالت البسمة على الثغر والأخوة فى القلب والتعاون قائما فيما سوى ذلك ومداده طويل وعريض. وننره اللسان المسلم والقلم المسلم والقلب المسلم عن اللجاجة والطعن والتجريح وإفساد ذات البين فذاك هو الحالقة لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين.
رأينا كثيرا من الجمعيات ـــ كبيرة وصغيرة ـــ تحشد الأتباع والأنصار وتأخذ منهم العهد على السمع والطاعة لا على تكريم الإنسان والمطالبة بحريته … وآنسـنا فى البعض منها تكريسا للولاء للجمعية ينافس الولاء للإِسلام مع أن الإسلام غاية والجمعية وسيلة من الوسائل .. ولو سئلت رأيى فى مسألة السمع والطاعة لأجبت بما صارحت به فى مسألة السمع والطاعة لأجبت بما صارحت به فى الأربعينات من أن مفكرا واحدا هو للدعوة خير من ألف جندى, وإنما تجب السمع والطاعة فى جيش يحتشد لحرب أو يخوض معركة عسكرية, أما فى سياق الدعوة الطويل فالمطلوب إعداد رأى عام مسلم لا قوة ضاربة مسلمة .. ولعل المتفكر المتدبر لدروس الماضى القريب والبعيد يدرك أن هذا هو الطريق الوحيد وإن كان الطريق البعيد. ولكننا نكاد نحرم أنفسنا من الاستفادة من دروس الماضى القريب والبعيد. ليس من اهتمامات الحركات الإسلامية أن تنظر نظرة علمية تحليلية دراسة إلى حركات إسلامية سابقة لترى أين أخطأت وكيف داست على الألغام التى وضعت لها فى طريقها وكيف كان من الممكن أن تتقى وتستنبط من ذلك هاديا ليومها وغدها .. وحتى لا تكون الحركات الإسلامية موجات من الفراش تندفع مجذوبة لبريق النار فيكون نصيبها الاحتراق .. موجة إثر موجة .. وإذا كان هذا مقبولا فى عالم الفراش فليس بمقبول لدى الشر. إن الاكتفاء باتخاذ موقف المعصوم الذى لم يخطئ أو موقف الحتمية فى ما كان فليس فى الإمكان إلا ما كان يحرم الإِسلام من الاستفلده من التجارب كما يحرم الجماعة من التخطيط السليم للمستقبل.
وهذا خطأ شائع فى بلادنا فما رأينا حكومة ولا حزبا ولا جماعة تعترف بخطأ سابق, ومن المزعج أيضا أن المؤرخين الذين تصدوا للكتابة عن الحركات الإسلامية كتبوا من منطلق أحكام مسبقة فكان المؤرخ إما محامى دفاع أو محامى هجوم بحسب موقفه العتيد من الإِسلام أو من الحركات الإِسلامية. ولعل الحركات الإِسلامية القادرة والمستنيرة تحسن صنعا لو حشدت أو استأجرت من يقوم بهذه الدراسات المجردة والمتخصصة ولو من خارج صفوفها ومن خارج صفوف أعدائها كذلك, مع شئ من التواضع من القيادات إن لم تكن ذات دراية بالدراسات التاريخية أو التحليل السياسى, ومع الحكمة والإخلاص اللازمين لمواجهة النتائج ثم الاستفادة منها.
ونعود فنؤكد أنه لا مستقبل للحركات الإِسلامية إلا إذا كان أسلوب إرادتها وتعاملها مبنيا على نظام عام ولا على أفراد, وقراراتها صادرة عن المشورة والحوار لا على أمر القيادة فردا أو أفراد. ويجب أن تكون القاعدة الشعبية ذات كلمة مسموعة ومطاعة فى تسير الأمور واستنباط النظام الذى يكفل ذلك. والقاعدة دائما غنية بالمثقفين والعلماء والمقتدرين ممن لا يسمح الاتجاه الهرمى بوجودهم فى قمة القيادة الضيق والذى رأيناه فى بعض الأحوال يقع فى غلطة الاستحواذ على السلطة .. إن اتجاه السمع والطاعة يجب أن يتغير فيصب من القاعدة إلى القيادة وليس العكس, وإلا استحالت القاعدة إلى عناصر سلبية تستسهل أن تأتمر وتلقى بعبء التفكير على القيادة وتنفض عنها العناصر الفعالة والإيجابية الفكرية المفيدة التى تحترم نفسها ولا تستطيع الإِبداع والإثمار خلال نظام دكتاتورى .. ويظل صحيحا أن ما ننتقده فى حكوماتنا نمارسه نحن فيما بيننا وبين غيرنا, وظللنا نبذل الوقت والطاقة والجهاد نعالج أمور الإِسلام وأمور الأمة وأمورنا دون أن نتصدى للداء الأصيل والمرض الأساسى الذى يؤودنا وهو الاستبداد.
ومن الأمور الأساسية بالنسبة للعمل الإِسلامى أن يدرك القائمون به أن تاريخ الاستبداد لدينا طويل. لقد جاء الإِسلام ايحرر الإنسان وقد حرره فعلا. ولكن دعونا نتصارح ونعترف بأنه منذ الفتنة الكبرى بين على ومعاوية وقعت الأمة فى قبضة الدكتاتورية فلم تزل فى قبضتها إلى الآن. الملك الذى أقامه السيف لم يزال محروسا بالسيف. قد يكون الحاكم صالحا فتنصلح الأمور وقد كان ذلك فعلا فى فترات من تاريخنا, وقد يكون الحاكم غير ذلك فتسوء الأمور, ولكن على الحالين كان الحاكم هو السيد المطاع والآمر الناهى على عهد الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ كان الواحد من المسلمين لا يتحرج أن يراجع الرسول فى تصرفه كما حدث قبيل بدر ويسأله إن كان وحيا فيطاع أو رأيا فيراجع, وكان الرسول يتقبل ويستمع ويمثل للرأى الوجيه.
ثم انتقل الرسول إلى جوار ربه فانتقلت القيادة إلى أبى بكر بعد نقاش وحوار وتقليب للرأى واختلاف فيه ثم مبايعة من قبل السقيفة من المسلمين على اعتبار أنهم يمثلون من ورائهم فلم يتمرد على تلك البيعة أحد. وتم استخلاف عمر وعثمان وعلىٌ بصور مختلفة ولكن الدرس المستوعب منها أنه لا يوجد قالب معين على الأمة من بعد أن تتقيد به فلها أن تتخير الأصلح, وأن انتقال السلطة من يد إلى يد لم يكن عنوة, وأن الحاكم أجير لدى الأمة, وأنها رقيبة عليه لا تتورع عن تقويمه كمثال المرأة التى ردت قول عمر وهو يحث على اختصار المهور والرجل الذى أنبأه أن لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا, وكانت البيعة مشروطة ومقيدة كما قال أبو بكر أطيعونى ما أطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لى عليكم, فاستقر بذلك أن الأمة التى تعطى البيعة تملك أن تسحب البيعة.
انتقض ذلك كله بقيام الحكم الأموى. ومن يومها وكرسى الحكم محروس, وانتقال السلطة من يد ليد يتم بمعزل عن رأى الأمة .. واستمر ذلك حتى يومنا هذا. وبينما تمكن الناس فى أوربا ومن بعد أمريكا على استنباط وسائل تكفل انتقال السلطة سلميا وبدون انقلابات وبدون إراقة دماء واستنادا إلى اختيار الأمة عن طريق ممثليها بقى ذلك عندنا معطلا. ولا يخالجنى ريب فى أن الأمة الاسلامية لو استمرت فى تطورها الطبيعى دون أن تعترضه الفتنة الكبرى لاستنبطت نظاما قد يكون أشبه الأشياء بالديمقراطية المعاصرة لولا أنه يؤمن بالله ويلتزم بالإِسلام بعكس الديمقراطية الغربي التى لا تحلل ولا تحرم إلا على أساس أغلبية الأصوات. وفى هذا المناخ الديمقراطى فعلا المفاهيم الإِسلامية بما فيها الحري وكرامة الإِنسان والسعة للآراء المختلفة وسلامة الحوار ومباشرة الأمة ينبغى أن تحمله أمة لا فرد. وقامت حضارة الإِسلام فرادت كل المجالات من علم ولغة وفن وفقه وفلسفه وفتح .. مجال واحد ظل ضامرا هو ما نسنيه الحقوق الدستورية للأمة ولأفرادها .. فظلت هذه النقيصة هى المرض الكامن الذى سيفعل فعله مهما طالت فترة الحضانة, والقنبلة الموقوتة التى انفجرت فيما بعد فأدت إلى المظالم وإلى الانقلابات المُسلَّمة وإلى تفتيت الدولة إلى دول ودويلات وإلى ذواء معانى الخلافة لصالح مطالع الملك الدنيوية التى لم تجد عليها رقيبا ولا حسيبا. ومرت قرون نسيت فيها الأمة حقوقهـا وسلطاتها ودورها. ولقنت أن الاستسلام للسلطان الظالم أجدر بها من إيقاظ الفتنة وتعريض دماء المسلمين للإِهدار, بدلا من تذكيرهم بقول النبى إذا جاء على أمتى يوم لا تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم ولبطن الأرض خير لهم من ظهرها.
وتمر القرون ويتقدم الناس ونزداد اقتناعا بأن الاستبداد يئد الأمم .. وأن المستبد حتى وإن عدل فهو يحرم الأمة ممارسة واجبها ويزدها جهلا به وعجزا عنه, والمصارع القوى إن كف عن التدريب والتمرين والممارسة ارتخت عضلاته ووهنت قوته وصار ضعفها مهينا, فهذا ما آلت إليه الأمة, ولا زال هناك من الحكام من ينادى بأن أمته لم تتهيأ بعد للديمقراطية فإذا هو كإنسان يحمل طفله لم يتعلم المشى وينسى أن الطفل بهذه الطريقة لن يتعلم المشى. ولا وال هناك من يحاول أن يكسو الدكتاتورية بغلالة من المناظر الديمقراطية وهو يعلم أن حقيق الديمقراطية غائبة وإن وجدت صورتها. ولا يزال هناك من يقول بأن الشورى غير ملزمة للحاكم وتاريخ الإِسلام كله إن أعطانا درسا بليغا واحد فهو ضرورة إيجاد الضمانات التى تكفل الرقابة على تصرفات الحاكـم وتعديلهـا أو تقويمها أو عزله واستئجار غيره إذا دعت الحال, فإنما كانت الفجعة الكبرى والمستمرة من يوم أن وقعنا فى برائن الاستبداد.
ولعل هناك من يستغرب أن نطنب هذا الإِطناب فى الحديث عن الحرية وعن الديمقراطية وموضوع الحديث هو الحركات الإِسلامية. ولكننا لا نندم على هذا ولا نعتذر عنه وسنظل نكرره. إن طيور الزينة الملونة التى استنبتت داخل أقفاصها لمئات من الأجيال أو الآف قد لا تحسن الطيران حتى وإن فتح لها باب القفص فهذا ما أوصلتنا إليه الديكتاتورية على مدى القرون. والمطلوب إصلاح ذلك. المصلح المطلوب هو النفسانى الذى يحل هذه العقدة النفسيــــــة, عقــــــدة القفص, عقدة الاستبداد. والناظر إلى سجل الحكام فى البلاد التى تنتسب إلى الإِسلام لا يستطيع أن يتوسم أن الحكام هى التى ستؤدى هذه المهمة العلاجية .. ولو طاوعت خيالى فتصوررت أن الحاكم أوكل إلى الحركات الإِسلامية عدا فلا أحسبها ستقدم للأمة هذا العلاج المطلوب لأن فاقد الشئ لا يعطيه. وأحسبها على أحسن الفروض وأجمل الظنون ستكون دكتاتورية أخرى ولكن فى الاتجاه الآخر. ولا يشفع للدكتاتورية عندى أن تكون إسلامية فإن الدكتاتورية مرض مهما كان وينبغى أن يبؤأ منه الحكم الإِسلامى لأ أن يصاب به. المسألة مبدأ وهو أن السيادة يجب أن تكون للأمة على الحاكم فهو موظف لديها لا أن تكون للحاكم على الأمة يأمر وينهى بما يشاء. المسألة مسألة نظام لا مسألة أفراد .. وتيقى بعد هذا عملية تكوين الأمة المسلمة الواعية بإسلامها والحارسة لها والمسئولة عن إنقاذه .. وهو تكوّن لا يمكن أن يكون بالقهر ولا بالعصى ولا بالقانون, بل هو ثمرة الإِقناع والاقتناع بالحكمة والموعظة الحسنة وبهذا وحده كون الرسول أمة الإِسلام عندما دعا إلى الإِسلام.
الآن أشعر أننى رسمت الدور المطلوب من الحركات الإِسلامية أن تؤديه .. وبدايته أن تفقهه وأن تقتنع به, ثم أن تعمل به وتتعامل وتقدم النموذج الذى يجذب الانتباه والإِقناع, وتكون المدرسة التى تُقدّم المعرفة به والتدريب عليه ولعلها تطبع عليه الجيل الجديد إن زاوله المسلم فى بيته وأسرته أو أقامت له الجمعيات الإِسلامية المدارس والمعاهد التى تهيئ الثمرة المطلوبة .. على الجمعيات الإِسلامية أن تعرف قدر الحرية فتطالب بها وتجاهد فى سبيلها, لأنها تدرك مغبة غيابها مهما أغرانا الإِصلاح المنشود باختصار الطريق إلى الإِصلاح على حساب حقوق البشر وفى طليعتها الحرية.
ولا يخالجنى ريب فى أن باب الحرية إن فتح للجميع فالنصر فى نهاية الطريق الطويل للإِسلام, لأن البقاء للأصلح, ويمتاز الخبيث من الطيب, ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض ) .. وإذا أقفل باب الحرية فالخاسر هو الإِسلام لأن شجرته لا تنمو فى غياب الحرية. فإن اتفقنا على ذلك فرحنا نجمع حوله الأمة بطولها وعرضها ورأيها العام ـــ وليس قوة ضاربة منعزلة عن الأمة ـــ فلنعلم أن أساس الدعوة المحبة.
إن المفتاخ النفسى لأكثر المنتمين للحركات الإِسلامية اليوم هو أن هناك عدوا نكرهه ونهاجمه ونقاومه ونشتمه ونفرغ عليه غضبتنا ونقمتنا. لا بد من هذا المكروه لنكرهه ونحاربه .. وهو موقف يستحق المراجعة المستأنية .. إن الكره سلاح فعال فى الهدم ولكنه لن يعين أبدا على البناء. الكره يمكنك من خلع ملك أو امبراطزر أو القــضاء على الخصوم والمعارضين, ولكن بناء الأمم ونشر الدعوات لا سلاح له إلا الحب. ورحم الله الأستاذ حسن البنا بالحب. ومادام الداعية داعية فليعلم أن سلطانه الوحيد على الناس هو أن يحبوه فيحبوا ما يدعوهم إليه. من حق الدعوة على الداعية أن يكون محبوبا .. لا أقصد محبوبا من نفسه ولكن من الآخرين. من هؤلاء الذين يراهم على خطأ وعلى ضلال ويريد أن يهديهم أن يكسبهم للإِسلام لا بأمره السامى ولكن بطول الأناة والمصابرة والمثابرة والتآلف والبسمة التى لا تخبو والإِحسان الذى لا ينقطع. ولقد أتيح لى فى حياتى أن أشهد نماذج من هؤلاء الدعاة الهادين المهديين, ولكن أنظر إلى الساحة الآن فأجد هذا الطراز أندر من الكبريت الأحمر. ألا فليعلم أبناء الحركات الإِسلامية أن غلطة السابقين ـــ ولا زالت تتربص باللاحققين ـــ هى أنهم اصطدموا وما زالوا فريقا من الأمة وكان الأجدى على الإِسلام وعليهم أن يصبروا حتى يكونوا هم الأمة.
لقد أسهبت أقلام مخلصة فى نقد بعض تصرفات الجماعات الإِسلامية .. منها إنفاق العمر والطاقة فى فرعيات مختلف فيها بدلا من كليات متفق عليها, ومنها الجنوح إلى العنف من غير أى سند إسلامى, ومنها المرارة والغلظة وحسبانها من أساليب الدعوة, ومنها محاولة بناء البيت من أعلاه لا من أساسه بالاهتمام بالشكليات والمظهريات وإضفاء صفة الفريضة على ما ليس فى الدين بفريضة, ومنها الانكفاء على الماضى ومآسيه والانحباس فيها دون التداعى إلى التخطيط لمستقبل وقضايا المصير, ومنها الإِغراق فى الدعوة نظريا والتنكر لأخلاقياتها فى الحياة اليومية العلمية, ومنها الحساسية المرَضية إزراء المرأة وضد المرأة والخلط بين ما هو تراث مظلم وبين الدين, وفى رؤيانا أن أغلب العاملين فى الحقل الإِسلامى اليوم ما زالت على أعينهم عشاوة تحجبهم عن الرآى الإِسلامى الصحيح فيما يتعلق بالمرأة.
وواضح أننا سردنا كل هذه المشاكل سرداً سريعاً مع أن كلا منها يصلح بابا بحاله دراسة ونقاشا وكتابة .. ولكننا قصدنا قصدا إلى استعجالها لإِنها فى نظرنا أعراض للمرض الأصيل. هذه أعراض الانغلاق .. وستظل معنا حتى نؤدى ديناَ ظل فى ذمتنا قرونا متطاولة, وهو أن نكتب الفصل الذى وئد من فصول فقهنا : فقه الحرية.
