لا أعرف من في امتنا مشغول بتحليل واقع الصحوة الإِسلامية ومستقبلها, على مستوى استراجي, لكن افهم أن ذلك أمر ينبغي أن يحتل حيزا مهما في وعى مختلف الباحثين الذين يعنيهم أمر الصحوة, سواء كانوا معها أم ضدها.
وما أعرفه ايضا أن عديدا من الدارسين ومراكز البحث الغربية يشغلهم هذا الموضوع على نحو جاد, سواء لأنه وثيق الصلة بحاضر هذا الجزء من العالم, أو بمستقبله. وفي الحالتين فهو وثيق الصلة بمصالحهم العاجلة و الآجلة, القائمة, والمحتملة.
وعندما مولت المخابرات الامريكية أكثر من 120 ندوة في أنحاء العالم ـــ سنة 1982 ـــ لدراسة موضوع الصحوة الاسلامية, فإنها كانت بمسلكها ذاك تجسد الموقف الغربي, فضولا كان أم قلقا.
وبينما جهد الدرس والتحليل والرصد مستمر على جبهات علمية وامنية بغير حصر في أنحاء العالم, فإن المرء يلاحظ استغراقات نوع آخر على جبهتنا, لا يوحى بأن هناك من يأخذ الأمر مأخذ الجد. فمنذ أوائل السبعينيات ونحن نعيش في دوامة الصحوة, ونشغل بقشورها لا لبابها, وبشذوذها لا حقيقتها. لقد شغلنا بالتفكير والجاهلية والعنف والنقاب وشرعية الجلابيب وأهمية اللحى, وحرمة الموسيقى والأغاني والتصوير, وغير ذلك ما سلبى وهامشى, الأمر الذى حجب عن العقل العام أى تناول استراتيجي للظاهرة. لم يحاول أحد ـــ على مستوى استراتيجي. لا مناقشة كليات الظاهرة, ولا ترشيد تلك الطاقة الايمانية الضخمة, ولا استثمارها فيما هو مفيد ومجد لصالح الحاضر والمستقبل.
ولست ادعوا إلى ترك التفاصيل وأهمالها, ولست ادعو إلى غض الطرف عن مختلف مظاهر السلوك السلبي في الصحوة الاسلامية المعاصرة, ولكن ادعو إلى أمور أربعة هي :
1 ـــ الا ننجر جميعا إلى التعامل مع ذلك الوجه السلبي دون غيره.
2 ـــ أن نتعامل مع هذا الوجه الايجابي بما يستحقه من فهم ومسئولية.
3 ـــ الا نتعامل مع هذا الوجه أو ذاك من منظور أمنى فقط.
4 ـــ أن يحاول نفر منا الارتفاع فوق التفاصيل ورؤية القضية من زاوية كلية وتاريخية في حاضرها ومستقبلها.
نحن أولى باجراء الحوار حول قضية المستقبل, لان مستقبلنا نحن وغدنا نحن, وهؤلاء الذين ننظر إليهم بالأمل أو الامتعاض هم رموز الغد وصناعه, رضينا أم كرهنا.
ولست هنا في مقام التنبؤ بالمستقبل ولا أن ارسم ملامحه, لكنى فقط احاول وضع افكار تفتح باب المناقشة حول الموضوع, الــــذى أدرك تمامـــا أننـــا جميعا شركاء في تحمل مسئوليته.
ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن المستقبل أو نتطلع إليه إذا لم نبدأ من الحاضر. فالغد هو ابن شرعى لليوم, ومانزرعه الآن هو في الاساس ما نجنى ثماره غدا ..
ومن أسف أن الرؤية الموضوعية للحاضر, باتت متعذره على كثيرين من أنباء امتنا, لأن ظاهرة الصحوة الاسلامية تعرضت ـــ وتتعرض كل يوم ـــ لحملات ضارية من اعداء هذه الأمة وبعض ابنائها, تستهدف تشويهها وتقديمها للناس في اتعس وابأس صورة, مما يجعل الربط بين هذه الصحوة وبين المستقبل, بمثابة كابوس يخيف الناس ويؤرقهم.
ولسنا ننكر أن بين فصائل الصحوة الاسلامية نماذج تسىء إلى الاسلام والمسلمين. ولسنا ندافع عن خطأ أو انحراف يرتكب هذا الفصيل أو ذك. لكنى أزعم من خلال الواقع الذي احتك به في عديد من بلدان العالم العربي أن هناك من يحاكم الصحوة الاسلامية منذ لاحت ارهاصاتها. وأن هناك من يسلط الاضواء الكثيفة على اخطاء بعض الشباب وشذوذ افكارهم, ويبالغ في احجامهم وافعالهم. في حين لا يلقي الأسوياء من الاسلاميين عشر معاشر ذلك الاهتمام. والكل علم أن لكل مجتمع استثناءاته وشواذه, وأننا إذ اطلقنا منطق ادانة كل جماعة بشرية بشواذها, فلن يبقى في الأرض خير, ولن يبقى لنا في الغد أمل.
وهنا اسجل اننى صرت أحد الذين باتوا في كل مناسبة يعنون بلفت الأنظار إلى أهمية تحديد حجم الفاعلين, وضرورة الفرز بين سلوك شاذ يمارسه البعض, وبين ظواهر عامة في الحركة الاسلامية ككل.
خلل ومفارقات في الواقع الراهن
ما أريد أن نخلص إليه من هذه النقطة, هو الالحاح على أن نصحح نظرتنا وانطباعاتنا عندما نتحدث عن الصحوة. واكرر انى لست أعنى حماقات ارتكبها بعض الشباب في مصر أو في السعودية أو في الجزائر. وإنما ادعو الجميع إلى توجيه الاهتمام والانتباه إلى المحيط الاسلامي الواسع, الذى يعرف سماحة الدين ووسطيته, وينكر العنف المادي والفكري, ويريد أن يعيش في طاعة الله ورضاه, ولئن سعى نفر منه إلى خدمة دين الله, فبالحكمة والموعظة الحسنة, وربما نعرف من أدب الاسلام وخلقه.
أحب أن انبه أيضا إلى أن الصحوة الاسلامية تتحرك في فراغ. ولكنها جزء من واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي وحضاري نعيش في ظله. وهو واقع مازوم بكل المعايير. وإذا أردنا أن نلخص أزمة ذلك الواقع في كلمات, فقد نقول إن الصحوة تعيش تحت سقف امة تابعة في كل الميادين. وأن قضية الاستقلال مطروحة الآن بقوة في واقعنا, في صيغته العسكرية والاقتصادية, إلى صيغته الثقافية والحضارية.
ومن هنا تبرز أهمية المد الاسلامي الراهن, إذ هو يبدو من زاوية, اقبالا على الله وتعلقا باهداب العقيدة وسعيا إلى تطبيق الشريعة, لكنه يبدو من زاوية أخرى ـــ لا تقل أهمية ـــ مشروعا متكاملا للاستقلال الحضاري.
فالظاهرة ليست دينية فقط كما يتصورها البعض, لكنها في جوهرها حضارية أيضا. واحسب أن هذا البعد غائب عن الكثيرين, ليس فقط خارج الحركة الاسلامية, بل ازعم أنه غائب عن كثيرين أيضا من أطراف الحركة وعناصرها.
وربما لهذا السبب فإن قطاعا عريضا من المشتغلين بالعمل الاسلامي ليسوا واعين بأهمية الدور الحضاري المنوط بهم, الأمرالذى يجعلهم على استعداد للانشغال بالعديد من التفاصيل والجزئيات الهامشية التي لا تخدم ذلك الهدف الكبير, وإنما قد تفسد وتشوش عليه أيضا.
وبسبب تلك الغيبة, فإن قضية الاستقلال الحضاري بعناصره ومقتضياته المختلفة باتت غائبة في أولويات تلك الفصائل الاسلامية. وذلك جزء من الخلل في ترتيب الأولويات الذي تعاني منه الحركة, الذي أصابها إما لقصور في بنية بعض فصائل تلك الحركة, أو بسبب من الظروف الضاغطة التي أحاطت بها.
فالبعض منا قد يعنى باقامة لافتة الخلافة, ولكنه لا يدرك خطورة أن تستورد امتنا خبزها من اعدائها. والبعض قد يمض حياته في اعلان الحرب على الصوفية أو القبور وصناديق النذور, لكنه لا يؤرقه أن تحتل أراضي المسلمين, أو أن تنتهك حقوق الانسان في بلده ..
وامثله الخلل كثيرة, لكننا نفضل الانتقال الى نقطه أخرى تهمنا ونحن نستشرف آفاق المستقبل ..
فالصحوة الاسلامية التي نتحدث عنها, والتي يعني العالم الخارجي بتتبع اخبارها ودقائق أحوالها, هذه الصحوة, في الشق الحركي منها مازالت خارج الشريعة بشكل أو آخر, في أكثر بلدان وطننا العربي. أعني أن النشاط الاسلامي المؤسس والسياسي لم يكتسب مشروعية بعد في تلك البلاد. فهو إما مقيد أو محجوب. يقولون للاسلاميين احيانا تحركوا ولكن لا تشتغلون بالسياسة, وركزوا على الآخرة ولا علاقة لكم بالدنيا, ومكانكم المساجد والموالد, أما المعامل والمصائر فخارجه عن اختصاصكم.
يقولون للاسلاميين أيضا إن كونتم منبرا سياسيا فتحت أبواب الفتنة, ثم تجاز الأحزاب اليسارية والشيوعية في بلاد المسلمين ـــ تونس مثلا ـــ ولا تكون هناك خشية من الفتنة !
هذا الوضع الشاذ وضعنا أمام مفارقة مدهشة, فنحن نتعامل مع كيان اجتماعي وفكري ضخم, لكنه يفتقد إلى القنوات الشرعيه التي تعبر عنه.
هو كيان موجود واقعا, منعدم قانوناً. الأمر الذى دفع وزير الداخلية المصري ـــ مثلا ـــ لأن يصرح مرة بأنه لا يوجد شيء في مصر اسمه الاخوان المسلمون. بينما للحركة جمهورها الذى نعرفه, ولها في مجلس الشعب أكثر من 25 نائبا.
الخلاصة هنا أننا نتحدث عن ظاهرة لم يكتسب شقها الحركي شرعية بعد. وسواء حدث ذلك بسبب المخاوف التي اثارتها أنشطة بعض الفصائل الاسلامية, أو بسبب الموقف التقليدي للأنظمة وأجهزة الأمن العربية من النشاط الاسلامي, وهو موقف قائم على الشك والارتياب .. سواء لهذا السبب أو ذاك, فالنتيجة أن الشق الحركي من الظاهرة الاسلامية ظل رهن حقا الامنية والقانونية, منذ لاحت بوادر الصحوة, بل قبل تلك البوادر بسنوات عدة.
تجرنا هذه النقطه إلى عنصر آخر الفت النظر اليه, ونحن بصدد الحديث عن المستقبل. وهو أن امتنا العربية تعيش في ظل أنظمة يتفاوت موقفها من الإسلام, بحيث أننا لا نبالغ إذا قلنا أن نسبة غير قليلة من تلك الأنظمة لم تحسم خيارها الحضاري بعد. اعنى لم تقرر ما إذا كان عليها أن تمضي في تلك المشروع الحضاري الغربي, أم عليها أن تغير وجهتها لتنحاز إلى الخيار الحضاري الإِسلامي. وأزعم أن كفة المشروع الغربي هى الراجحة إلى الآن في أغلب الأنظمة العربية, الأمر الذي يشكل تحديا لهما لمستقبل الصحوة الاسلامية, ويضيف عبئا جيدا إلى الاعباء التي يتعين عليها أن تواجهها.
حقائق الصحوة وآفاقها
إننا إذا قصدنا نتحسس طريقنا إلى المستقبل, فثمة مؤشرات وقسمات في الحاضر, تضاف إلى ما سلف ذكره, جديره بأن نقف عليها أولا, وهى :
أولا : أن الصحوة التي نشهدها ليست مقصورة على المسلمين وحدهم, ولكنها صحوة عامة لها ظواهرها بين المسيحيين واليهود والبوذيين بل الوثنيين أيضا. وأنها في شق كبير منها جزء من العودة إلى الذات والقبض على الأصول والجذور, في مواجهة اعاصير العالمية الكاسحة, التي فرضها التطور التقني في مجال الاتصال وكاد يحول العالم إلى قريه صغيرة محكومة بآله العصر الجبارة. الأمر الذى كان حافزا لكثيرين على المسارعة إلى محاولة الاحتفاظ بالخصوصية التي تكاد تهددها تلك الاعاصير الكاسحة.
وهنا في شق آخر محاولة لاستعادة التوازن في مواجهة حضاره العصر, بمختلف افرازاتها الخيره والشريرة. بحيث يواجه ذلك الثقل المادي الضخم الذي اغرقتنا به تلك الحضاره, بمقابل آخر يغذي الروح والضمير ويبلي اشواق الانسان التي عصفت بها قيم تلك الحضارة.
وفي الشق المتعلق بنا فلا أحد يستطيع أن ينكر أن تناسى الظاهرة الاسلامية في العقدين الاخيرين وتيق الصله بفكرة العودة إلى الذات والرغبه الاسلامية الدفينة في التحلل من الانسحاق الحضاري, وتوسيع دائرة الاستقلال والانعتاق لتشمل الاستقلال الثقافي والحضاري, مع الاستقلال السياسي والاقتصادي.
وللانصاف فلابد أن نقرر بأن جهود الاحياء في عالمنا الاسلامي ليست وليدة هذين العقدين الاخيرين فقط, ولكنها تتواصل بصياغات مختلفة منذ قرنين من الزمان فالوهابية والسنوسية والمهدية جزء منها, وجهود خير الدين التونسي والأفغانى ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد اقبال وعز الدين القسام وجهود البنا والبشير الابراهيمي والمودودي وسيد قطب حلقة ثالثة, ومالك بن نبى والغزال والقرضاوى وأمثالهم رابعة وهكذا.
ثانيا : أن الصحوة الاسلامية تجاوزت حدود الحركة الاسلامية. اعنى أن المد الاسلامي الراهن صار أكبر من أى حركة إسلامية أو مجموعة حركات منظمة في الوطن العربي. فليس كل الذين التحقوا بالظاهرة الاسلامية كوادر في منظمات بعينها. بل أكاد أزعم ـــ من خلال الاحتكاك العملي ـــ أن الحركة الاسلامية بمختلف فصائلها تظل جزءا متواضعا في المحيط الاسلامي الكبير. وأن هناك قطاعاً عريضاً من الظاهرة الاسلامية خارج دائرة التوجيه الحركى. وهو في تعطشه الى المعرفة الاسلامية …. يعتمد سبيل الجهود الذاتية التي قد تكلل بالنجاح أو الفشل, فضلا عن أنه يتأثر إلى حد كبير بالخطاب الاسلامي العام سواء وجه عبر المساجد أو منابر الاعلام المختلفة في صحافة واذاعة وتليفزيون وغير ذلك.
ثالثا : أن الصحوة الاسلامية نمت وتحركت خارج المؤسسة الاسلامية. وبالتالي فهى نبت الشارع الاسلامي العام, وليست ثمره جهة المؤسسة الاسلامية. واعنى بالمؤسسة تلك الهيئات الحكومية التي تتحمل مسئولية مباشرة العمل الاسلامي.
وإذا قلنا إن الظاهرة الاسلامية تجاوزت الحركات الراهنة, فإننا نقول بنفس القدر إنها تجاوزت أيضا المؤسسات الاسلامية القائمة.
رابعا : أن الصحوة الاسلامية ليست شيئا واحدا واضح المعالم والأساليب والأهداف, ولكنها تيارات وفصائل مختلفة, يصل التناقض فيما بينها احيانا إلى مثله مع اضدادها.
وبصرف النظر عن الاسماء واللافتات, فلعلي اميز بين ثلاث دوائر تضمها ظاهرة الصحوة :
دائرة الاسلام الحركي والتعبوي وتشمل مجموع الفصائل والمنظمات العاملة في مجال الدعوة الاسلامية.
دائرة الاسلام العملي وتشمل المؤسسات التي تحاول تطبيق النظام الاسلامي في مشروعات عملية اقتصادية أو تربوية أو انتاجية. ـــ بصرف النظر عما إذا كانت تلك المشروعات تخدم الاسلام أم تستخدمه.
دائره الاسلام غير الحركي وغير المسيّس وهى تضم محيط الجماهير الواسع ذات المشاعر الاسلامية المتنامية, والتي تمول الأنشطة الأخرى المنتسبة إلى الاسلام بعناصرها وجمهورها.
وهناك دائرة رابعة لها حضورها في الساحة الاسلامية, بصرف النظر عن مدى فاعليه هذا الحضور, واعنى به « الاسلام المؤسسي », الذى يضم كافة المؤسسات الحكومية التي تعمل في الحقل الاسلامي. اعنى تلك التي تخضع لسلطان الحكومات وتلتزم بسياساتها, بصورة أو أخرى. وهو عنوان تندرج تحته وزارات الاوقاف وهيئات الافتاء ومجالس البحوث والشئون الاسلامية.
خامسا : إذا دققنا النظر في دائرة الاسلام الحركي أو التعبوي, التي هى في واجهة الصحوة ومقدمتها, فسوف نرصد التيارات التالية :
ـــ تيار الاسلام الانقلابي, الذى يدعو إلى تغيير كل شيء, وبسرعة وبالكامل دون تمهل أو تدرج, ودون فقه بأمور الدنيا وسنة الله في الكون.
ـــ تيار الاسلام الانتحاري الذى ينتهج سبيل الصدام المستمر مع أجهزة السلطة, مدفوعا إلى الاستشهاد المبكر وغير المبرر, دون اعتبار للمصالح والمفاسد.
ـــ تيار الاسلام الانسحابي الذي يعني بالامور العبادية والاخروية دون الحياتية الأخرى, ويركز على تنقية العقائد وتوثيق العمل بالله, دون صله الناس بالناس.
تيار الاسلام الحضاري, الذى ينطلق من اعتبار الاسلام نظاما للحياة وأن للدين وظيفه اجتماعية وأن الحكومة الاسلامية ينبغي أن تقوم في قلب كل مسلم قبل أن تقوم في أرض الواقع.
سادسا : أن جمهور الاحياء الاسلامي في اكبر بلد عربي هو مصر مرت بثلاثه اطوار في القرن الأخير على الاقل.
ـــ طور في الرابع الأول من القرن الحالي توفرت فيه القيادة ولم تتوفر القاعدة, والمزيد تلك المرحلة التي ظهرت فيها العقول الاسلامية الكبيرة, مثل الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا, لكنها لم تنجح في تأسيس قاعدة شعبية تواصل المسيرة.
ـــ طور في الربع الثاني توفرت القيادة والقاعدة, وأعنى به تجربة الاخوان المسلمين في العشرينيات وحتى الخمسينيات, في مجملها, حيث توفرت القيادة التاريخية, التي استطاعت أن تطرح فكرا, وتبشر به, وتجند له قطاعات ضخمة من الناس.
ـــ طور في الربع الثالث من القرن توفرت فيه القاعدة وغابت القيادة, وهو المرحلة الراهنة التي نلمس فيها اتساع محيط التيار الاسلامي, ونفتقد إلى الفكر القائد, أو التنظيم القائد, أو المنظّر القائد ـــ وهى مرحلة تبدأ منذ الستينيات وإلى الآن.
الأمر السابع والأخير أن مرحلة الثمانينيات شهدت تطورات مهمة في مسيرة الحركة الاسلامية, تقربنا من محاولة استشراق المستقبل, وهى :
· أن التيار الاساسي للحركة الاسلامية قرر أن يخوض معركة الاصلاح من داخل المؤسسات الشرعية. ولذا كان للاخوان المسلمين في سوريا تجربة في هذا المجال لم تستمر, والتي سبق الاسلاميون في السوادان إلى العمل من داخل المؤسسات الشرعية, إلا أن هناك تحولا مهما في مصر تمثل في أن الاخوان خاضوا المعركة الانتخابية, ومثلوا في مجلس الشعب لأول مرة منذ ستين عاما ـــ ثم أن الاتجاه الاسلامي في تونس قدم مشروعا لافتا للنظر في تعامله مع قواعد الممارسة الديمقراطية.
· أن ذلك التيار الأساسي في الحركة الاسلامية حدد موقفه الواضح من قضية العنف السياسي, ورجحت لديه كفة ما نسميه بالاسلام الحضاري.
·أن محيط الاسلام العملي بات يشمل رافدين : رافد المشروعات الاقتصادية والتطبيقية, ثم رافد الدراسات العلمية التي تجاوزت ما كان يسمى بفقه الدعوة والارشاد, إلى الدراسات المتخصصة في شئون القانون والاقتصاد والتربية والطب وما إلى ذلك.
تحديات عشرة تحسم المستقبل
إن مستقبل الصحوة الاسلامية مرهون بكفاءة فصائلها في التعامل مع بعض التحديات التي تواجه واقعنا العربي .. وبقدر نجاحها في التعامل مع تلك التحديات يكون حجم دورها الفاعل في المستقبل.
هذه التحديات هى :
أولا : حسم الخيار الحضاري للانظمة الحاكمة, الذي يشكل التردد في صدوره والاحجام عنه, أحد أسباب التوتر القائم والمستمر منذ حوالي نصف قرن بين الحركة الاسلامية والسلطة.
ثاتيا : البحث عن صيغة للخروج من مأزق الصدام المستمر بين الفصائل الاسلامية وبين انظمة الحكم, الذى تدفع له الحركة الاسلامية وبين انظمة الحكم, الذى تدفع له الحركة الاسلامية دائما ثمنا باهظا للغاية. وإذ أدرك أن الطرف الاسلامي ليس بالضرورة هو الساعي لذلك الصدام, ولكنه مستدرج إليه أو مفروض عليه, لكنني رغم ذلك ادعوا إلى علاج الشق المتعلق بالحركة الاسلامية في تلك المشكلة.
ثالثا : إعادة النظر في ترتيب الاولويات لدى فصائل الحركة الاسلامية, بحيث تحتل هموم الأمة مقدمة هذه الاولويات, وتقف قضية الاستقلال والحرية على رأسها, وبحيث تكون الظافرة بتلك الأولويات هى الركيزة التي يقوم عليها المشروع الحضاري الاسلامي الذي ننشده.
رابعا : ادرك أهمية التركيز على العمل التربوي والرسالي بالمعنى الواعي, والانتباه إلى أن قضية انشاء الفرد الاسلامي ليست أقل أهمية من إقامة الحكومة المسلمة بالمفهوم السياسي العام, و أن الحكم جزء مهم, لكنه ليس الكل بأى حال, اقول ذلك لأننى الاحظ تركيزا كبيرا في بعض الفصائل أخرى على العقيدة, بينما مساحة العوائد والاخلاق, والسلوك الاجتماعي لم تلق من يتصدى لها.
خامسا : التركيز على العلم الاسلامي ليصبح في واقع الناس معادلا في المكانة للارادة أو العاطفة الاسلامية, الأمر الذي يدعونا إلى رد مساحة التعبد إلى صدرتها الأصلية, بحيث تشمل كل الاعمال الصالحات التي تؤدي لخدمة أمة المسلمين ونحن نعلم حجم الأزمة التي يعاني منها شق كبير من المتدينيين الذين يفقدون الوعى بأهمية التعبد بالعمل والبحث والانتاج والخدمة العامة.
سادسا : تجاوز الخلافات بين الفصائل الحركة الاسلامية سواء في القطر الواحد والاقطار الاسلامية الأخرى. إذ يلاحط المرء أن الايمان بالتعددية في العمل الاسلامي الفكري أو السياسي لا يزال ضعيقا وربما منعدما. الأمر الذى يفتح الباب دائما للعديد من صور الخلاف والتمزق في الصف, حتى بين ابناء الحركة الواحدة.
سابعا : فتح قنوات الحوار على التيارات الفكرية والسياسية الأخرى, وهو أمر لا بديل عنه, قطعت فيه الحركة الاسلامية في كل من السودان وتونس شوطا, وبقى أن تتسع دائرته لتشمل الاقطار الاسلامية الأخرى. واعنى بتلك التيارات مختلف فصائل الليبراليين والقوميين وقوى اليسار, التي ادعو إلى التعامل معها باعتبارها جزءا لا يمكن انكاره في واقعنا السياسي, خصوصا إذا ما اعلنت موقفا يعترف بالاديان ولا ينكرها ـــ أى باتفاقها حول أصول المجتمع وأهدافه الكبرى.
ثامنا : تجنب الوقوع في فخ الصراعات المذهبية, التي تتحرك نذرها وشواهدها في العالم العربي الآن, تلك الصراعات التي يراهن غيرنا على تفجيرها, خصوصا بين السنة والشيعة ـــ فضلا عن تلك التوترات التي تطل بين الحين والآخر بين الوهابيين والاباضية والذيدية, وتلك التي تطل في كل حين بين السلفيين والمتصوفة.
تاسعا : مد جسور الحوار مع الطوائف غير الاسلامية التي تعيش وسط مجتمعات المسلمين, وتجاوز خطيئة بعض الفصائل التي تلغى ببساطه شديدة حضور هذه الطوائف, أو تطالبهم بالجزية والعهد.
عاشرا : التعامل مع العالم الخارجي من موقع المصلحة والفهم, وليس من موقف الافكار أو العداء أو الاستعلاء. ليس فقط لأن ذلك موقف غير عملي وغير علمي, ولكن أيضا لاننا نتحرك تحت مظلة دعوة عالمية تخاطب البشر كافة .. ناهيك عن أن هناك مشكلات في العالم الأن لم تعد مواجهتها في مقدور دولة واحدة أو معسكر ايديولوجي واحد .. مثل مشكلات المجاعات والتسلح النووي والتلوث, وانتهاء بمشكلة الايدز.
اسمحوا لى أن اكرر التأكيد اخيراً, على أن فاعلية الصحوة الاسلامية معلقة على امكانية فصائها في التعامل بنجاح وكفاءة مع تلك التحديات.
واضيق أن الجميع بصدد فرصه تاريخية وذهبية. فلست أحسب أن عالمنا العربي والإِسلامي شهد في تاريخه المعاصر صحوة بذلك الحجم الذي نشهده الآن. و بوسع الحركة الاسلامية أن تستثمر ذلك المناخ الايجابي لصالح حلمنا الكبير في مشروع حضاري ناهض ومستقبل, و بوسع الأنظمة الحاكمة أن تلتقط الفرصة وتوظيف ايجابيات تلك الصحوة لصالح تقديم الأمة على أساس من الاسلام وهدى من تعاليمه الجليلة.
وإذا ضيعنا تلك الفرصة في المواجهات والصراعات والمعارك الجانبية, فإن الجميع يرتكبون بذلك جناية فادحه في حق حاجة هذه الأمة ومستقبلها.
علما بأن للتقدم سننا وقوانين, تحققت له الغالبة والسيادة والتمكن ـــ وبنا أو بغيرنا ستمضي عجله الكون, زستتحقق سنن الحياة.