يا وجه أمى كيف أجترح القصيدة والـدم الموبـــوء يقلقنـــى وأسمع ألف نبض فى العـــروق يا وجه أمى طال بر عطش الرمــال وفرت الأنغام عن تــرى وخيــل الروم قد زحفــت فقافيتـــى حريـــــق(1)..
فيـــا أم عفــــوا ويا وطــن الهم عفــوا(2)
جفت الأرض من رياح الخما سين وتاقت إلى الثرى الممطور(3)
والأرض تجتر فى أحشائها حمما ما عاد للحر فيها ما يحاذره(4)
اتخذل ربك فى ساعة العسر يا فارسى المرتجى اتخذل هذا الوطن(5)؟
( 1 )
مقدمة :
بدأ الأدب الإِسلامى ( أو ما اصطلح على تسميته بـ (( الإِسلامية )) يخرج من غربة الموت والقرون العجاف إلى غربة الحياة والمستقبل المأمول .. بدأ يتحرك نحو الأمام ويقول كلمته اللانهائية, ويثبت وجوده, ويبرهن على أصالته وعراقته ويدلل على شرعيته وطيب نبتته كما يلوح إلى آفاقه ومستقبلاته مع ارتباطه بالواقع المعيشى وأحداثه الواقعية والزمن المعاصر والتعبير عن ذلك كله مع محاولة تخطيه وتجاوزه لبناء واقع جديد ..
الأدب الإِسلامى كائن حى, وأدب كونى عالمى ( يعايش ) الإِنسان وقضاياه ويرتبط بهما .. ويرافق هذا الكائن البشرى فى دروب حياته فى حله وترحاله .. ويدخل أو ( يقتحم ) عليه طيات نفسه ليكشفه ويعاين حركاته وسكناته, ويتابع تطلعاته / آماله وآلامه, ويفصح عما ينتابه أو يحوم حوله أو يمسه أو يؤلمه .. إنه ـــ فى كلمة واحدة ـــ أدب يلتصق بالإِنسان ولا ينفصم عن خطوات حياته ولا ينفصل إلا ليعود إليه ويتقمصه أو يلبسه (( إنه لباس له وهو لباس له )).
( 2 )
وتناولنا لموضوع (( هموم الأرض فى الشعر الإِسلامى المعاصر )) ليس إلا نقطة واحدة من النقط الكثيرة التى طرحها الأدب الإِسلامى عامة والشعر منه خاصة .. وقد أملته علينا حالة هذا الشعر المغبون والمهضوم حقه حتى إننا لا نجد له أثراً فيما كتب حول هذا الموضوع أو غيره .. كما أملته علينا وقائع وأحداث هذه الأرض المهمومة الحزينة التى أصبحت تفرض نفسها على مبدع كيفما كان مذهبه ومشربه ..
كما أن هذا الموضوع فرضته علينا قضية ( جذرية ) أساسية وهى إعطاء القراء / الجمهور الصورة الحقيقية للأدب الإِسلامى كأدب يواكب الأحداث وتطوراتها, ويرتبط بالأرض والواقع ولا يسبح فى عالم الخيال أو الأسطورة أو يكتفى بالمواضيع الدينية ـــ بالمفهوم الضيق للدين ـــ.
( 3 )
وإذت قلنا (( هموم الأرض )) أو (( الأرض الهموم )) ـــ والفرق بين التركيبين دلاليا واضح لا يخفى ـــ ولا نقصد الأرض فى معناها المادى أو بمفهومها الجغرافى .. وإنما نريد منها المعنى التجريدى للأرض أى كفضاء مكانى له ارتباط بالوجود فى الذهن والواقع, كما أننا نرى فى (( الأرض )) ما تقصده البلاغة العربية من المجاز المرسل المنعوت بالمحلية أى أن ذكر المحل (= الأرض) يعنى ذكر الحال به (=بها) وهو الإِنسان بطبيعة الحال.
فأنا ابن هذه الأرض, قد أعلنت عن ميلاد أمتى السجين
وأنا ابن هذا الشعب أعلنت انتمائى
يوم أعلنت انبثاق الفجر من (طه) و(نون)(6)
كما أن استعمالنا لفظة (( الأرض )) إنما لتؤدى كذلك معنى الديمومة والاستمرار والحيوية لكن الأرض ثابتة الوجود ومستقرة, وعليها تتم صيرورة / سيرورة إنسانية دائمة التغير والتقلب …
ولهذا فارتباط الشعر بالأرض وحديثه عنها هو ارتباط بالحياة وحديث عنها .. وكذلك فإن كل إنسان عاش فوق هذه الأرض إلَّا وهذا الشعر يحادثه, ويناديه, يحاوره ويناجيه, يواجهه ويشكوه ( يشكو إليه ) و( يشكو منه )..
الشعر الإِسلامى وهموم الأرض :
مما يلفت النظر ويثير الاستغراب أن أكثر الشعر الإِسلامى المعاصر إن لم نقل كله ـــ حسب ما علمنا منه والله أعلم ـــ يحمل من ضمن ما يحمل فى طيات قصائده هموم الأرض وكل ما يدور فى فلك هذا الموضوع أو يمسه من قريب أو بعيد بل ويتفاعل معها إلى حد كبير ويحس بها إحساساً وجودياً واضحاً فى مقاطعه وبين أبياته, كما أنه ينوب عنها الآهات .. ويكشف عن هذه المعاناة .. ويرفع صوته / صوتها عالياً ينادى العالمين وينشر بينهم تلك الروائح التى أزكمت الأنوف من كثرة ما عانت هذه الأرض ومن شدة ما تعانى من ظلم العباد .. كما يحمل إليهم صورتها وهى مطعونه بالسكين من الأمام ومن الخلف .. ومن الأمام لصمودها وتحديها ومن الخلف بسبب الغدر والخيانة اللتين مورستا فى حقها أو ضدها ..
خناجر طعنتها وهى مدبرة
ومثلها طعنت فى الصدر لم تحد(7)
إن الشعر الإِسلامى يحمل ثواب هذه الأرض المثقل بالدماء التى نحثت على خدى وجهها المشرق الوديان والأرنهار والروافد .. كما يعلن ـــ هذا الشعر ـــ أن الجراح أوسمة تثخن / تزين صدر الأرض .. كما يوضح أن الوقائع والأحداث الدامية التى تعيشها الأرض فوق الحروف وأكبر من الكلمات وأعتى من كل شعر أو بيان وذلك لهول ما يقع على هذا الوطن الذبيح ولكثرة آلام هذه الأرض ( المخنجرة ) ولشدة أوجاعها وكثرة أحزانها وطول غربتها وابتعاد الخلان عنها .. يقول محمود مفلح(8) :
يا أيها الوطن الذبيح وإنهــا
لخناجر الأخبـار والرهبــان
فى كل ناحية دماء ضحية
وركام بيت غــاب بين دخـــان
ماذا أقول عن الجريمة إنهـــا
فوق الحروف وفوق كل بيان
ماذا أقول وكل حرف فى فمى
حجر فهلا تنطق الشفتــان
ومع ذلك يبقى الشعر الإِسلامى فى علاقة وثيقة (( الأرض )) وارتباط كبير بها, لا يجيد عن ذلك أبداً لأن الحس الإِسلامى والشعور الإِيمان يفرض هذه العلاقة هذا الارتباط, ويفرضهما التمسك بأهداب العقيدة الإِسلامية.
إنه الواجب نحو الأرض والإِنسان على اعتبار أن الأولى وضعت من أجل الثانى, وأن الثانى خلق للخلافة فى الأولى } هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا { (البقرة : 29 ) } ألم تر أن الله سخر لكم ما فى الأرض { ( الحج : 65 ) } هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها { (هود : 61) } ثم جعلناكم خلائف فى الأرض { (يونس : 14).
وهكذا ينصب اهتمامنا على علاقة الشعر الإِسلامى المعاصر بالأرض التى عانت .. وكابدت .. وتعبت .. ولا زالت فى معاناتها وكفاحها .. تجاهد وستبقى حتى يكسو البرد ثراها, ويغسل الغيث بقايا قروحها .. ويحرك النسيم أزهارها .. وتبتسم الشمس على عرصاتها, وينتعش الإِنسان والأحياء بالحياة الحرة الكريمة, وإن شئت فقل ستبقى هذه الأرض تجاهد وتقاتل وتنادى بلسان حالها :
لوددت أنى الآن أقتل ثم أقتل ثم أبعث ثم أقتل(9)
متى يحرس الذئب النعاج. ويمشى الرجل من ؟ إلى ؟ دون أن يخشى ..
إن الشعر سيرافق هذا الجهاد ويزامل هذا القتل / البعث, ويصادف هذا الألم / الأمل بكل شوق وحنان ورحابة / مكــابدة صدر إلى أن تتحقق الأهداف وترسو الغايات على شاطىء الأمان والمحبة والإِخاء والوفاء ..
شوقى إلى الوطن المعذب لا تزاحمه البحار
كالراسايات الصم, كالموج الغزير بلا انحسار
مثل الزمتن بلا انتهاء ـــ يستبين ـــ ولا قرار
وطنى أصلى فى خشوع فى الصباح وفى المساء
حتى أراك بمقلتى نبع المحبة والوفاء(10).
هذه المقطوعة الشعرية رغم بساطة لغتها ووضوحها وسلاستها فى نفس الآن ورغم خفة إيقاعها وطوله فى الوقت ذاته فهى مفعمة بصور فنية / شعرية معبرة وموحية محسوسة ومعنوية تبين عن نفسها وتوضح قصدها كما لا تخفى وسيلتها .. وتنقسم هذه الصور إلى ثلاثة أنواع :
1 ـــ صور نفسية تعبر عن إحساسات الشاعر وانفعالاته وتعاطفه وآماله نحو الوكن المعذب والأرض المهمومة : (( شوقى إلى )), (( أصلى فى خشوع )), (( حتى أراك )) ..
2 ـــ صور طبيعية مادية تحمل معنى القوة والصلابة والرسوخ والشموخ والحركة الدائبة والكثرة والغزارة مع الثبات والمقاومة بلا انحسار : (( البحار )), (( الموج الغريز )) ..
3 ـــ صور معنوية زمانية تعطى للحياة مفهوم اللانهاية وتهبها الصيرورة مع السيرورة والديمومة وعدم التوقف أو الانتهاء : (( الزمـــان بلا انتهاء )), (( الصباح )), (( المساء )) ..
وترتبط هذه الصور فيما بينها بواسطة عملية نفسية بنيوية عاشها الشاعر .. هذه العملية أو الحالة النفسية جعلت من هذه الصور المتعددة المختلفة خيطا جوهويا واحداً متماسكا متينا بل كونت من هذه الصورة جميعا صورة فنية مؤتلفة أركانها متكاملة أطرافها, منسقة مشاهدها, متآلفة جوانبها, هذه الصور المختلفة التى كونت صورة مؤتلفة محملة بانفعال نفسى متوتر يؤمن بالإِيجابية, ويؤمن بالمستقبل ويؤمن بالحياة انطلاقا من إيمان بوجود (( المحبة والوفاء )) ..
إن الصور النفسية هى بؤرة هذا الخطاب الشعرى بها ابتدأ (( شوقى )) وبها انتهى (( حتى أراك )) ونواة هذه البؤرة (( الوطن المعذب )) وهى المحركة للصور الأخرى كلها و ( المتقمصة ) لكل دلالاتها ومعانيها .. فهى تؤكد قوتها وفعاليتها ورسوها ورسوخها وعطشها وتشبثها وثباتها من خلال دلالات الصور ( رقم 2 ) كما أنها تعلن عدم نسبتها أو توقفها فى الزمان وتؤكد صيرورتها ودوامها عبر الحياة الطويلة التى لا تعرف الإِنقطاع أو الفتور حينما تتخذ لها معانى الصور ( رقم 3 ).
إنها رغبة وشوق وحنين راسخات قويات لا تعرف التوانى ولا تعرف الفرار ولا تؤمن بمحدودية الزمان فهى رغبة قوية وشوق أكيد وحنين مستمر وآمال منقطعة النظير من أجل رفع سوط الغذاب عن هذه الأرض وفى سبيل جعلها كذلك (( نبع المحبة والوفاء )).
إن قضية (( هموم الأرض )) قضية قديمة جديدة, لها أوجه تاريخية متسلسلة تعيش فى أغوار التاريخ وتمتد فى زمن واحد طويل إلى الآن وإن تغيرت الأشكال والأزمان .. ولقد واكب الشعر العربى والإِسلامى أحداث الأرض وهمومها .. وما الوجه المعاصر لهذه القضية إلا كما قال يوسف القرضاوى(11) :
عاد الصليبيـــون ثــــا
نيــة وجالوا فى البطـــاح
عادوا وما فى الشرق ( نــور الدين ) يحكم أو صلاح
كنا نسينا ما مضـــى
لكنهم نكئوا الجـــراح
ما تعيشه الأرض من هموم هو امتداد اما كان من قبل قرون مضت .. فهو لون من ألوان الصليبية أو غيرها ممن أذاق هذه الأرض مرارة العيش وشظفه .. ولكن الفرق الذى بين القرون التى مضت وبين ما نحن عليه فى هذا القرن هو أن الزمن الذى مضى كان له أهل يحمون الديار ويردون الأعداء ويقاومون ويجاهدون لكى تبقى أرضهم وأرض أجدادهم نقية طاهرة صافية عطرة لا تلوثها أقدام السفهاء .. أما الآن فالأمر واضح ولا يحتاج إلى تحليل أو تفسير أو تعليق ما دام قد (( عادوا وما فى الشرق نور الدين يحكم أو صلاح )) ..
(( هموم الأرض )) قضية حية لا يمكن أن نمر عليها مرور الكرام ـــ عفوا مرور اللئام ـــ لأنها قضية حالية معاصرة وتذكرنا بمأساة أو بمآسى قديمة كمأساة (( أرض الأندلس )) يقول د. إبراهيم زيد الكيلانى(12) :
أيا جروحنا فى القدس أشبه جرحها
ولكنه ما زال أحمر داميــا
فلا ترجعوا مأساة أندلس لكــم
ويوعظ بالأحداث من كان واعيا
ويقول محمد السيد الداودى(13) :
رباه إن الغاصبين بمرصـــد
يتربصون بنا أذى وعنـــاء
من بعد أندلس فلسطين هـوت
وتمزقت بين الورى أشــــلاء
إن مأساة (( الأندلس )) لا يمكن أن تنسى أو تطوى صفحات كتابها .. إنها نكبة تعيش فى ضمير كل مسلم أو إنسان عاقل, ملحمة مأساوية يرويها التاريخ القديم والحديث وتسمعها وتعيها الآذان الصم, ويعرفها الخاص والعام .. إنها لا تفارق ذاكرة الأديب المسلم الذى يعبر عناها ـــ مباشرة أو تلميحا ـــ فى إبداعاته .. فهذا الشاعر أبو نزار يرسم هذه النكبة فى صورة شعرية حديثة يخرج فيها بين ما وقع تاريخيا لقرطبة أو الأندلس ( على اعتبار أن الجزء (( قرطبة )) يراد به الكل (( الأندلس )) ) وما يقع بأرض الشام ( على أساس أن الكل هنا يراد به الجزء (( فلسطينى )) ), وقد استعمل تركيبين جميلين استفهاميين ـــ يعتبران بؤرتا النص من حيث التركيب النحوى والمقصد الدلالى ـــ (( أسمعت )) و (( أتقوم )), وقد تتحد دلالتهما ومقصدية الشاعر منهما من خلال موقع القارىء ( أو وجهة نظر المخاطب ) بمعنى أن القارىء / المخاطب المسؤول هوالذى قد يحدد المراد من هذين التركيبين الاستفهاميين, فهو إما (( استفهام استنكارى )) بمعنى أن الشاعر يستفهم استنكاريا أن يكون المخاطب جاهلا بشىء ترويه أمواج البحر أى ذاغ صيته ولم يخف هاى أحد أو شىء .. وإما هو استفهام ( تهويلى ) يهول ويعظم به الشاعر القضية المستفهم عنها ..
أسمعت بنكبة قرطبـة ترويها أمـواج البحــر عن شط يشكو للشط هو التفتيش عن الفكر عن حرف زخـرف بالخط عن ديوان عن مكتبــة وبقايا من ألــق السحر عن آيات تتلى همسـا وركيعات عنــد الفجر أتقوم محاكــم تفتيش بالشام ويأتى الإِفرنج ويعيش الناس بلا رأى وتصادر أشعار الحب وتراقب نبضات القلب هل تذكر أسماء الله(14) إنها لوحة محزنة. مؤلمة مؤسفة تقرب إلى الأفهام إلى أى حد وصلت نكبة الأرض / الإِنسان كما ترسم فى الأذهان إلى أى مدى تعانى الأرض / الإِنسان حتى أن معاناتها التى يرسمها لنا الشاعر فى صورة حية / تنبض بالحياة تحمل هول التفتيش عن كل شىء وفى كل شىء حتى الخفى من الحاجات, ومنع كل شىء حتى إنها (( تراقب نبضات القلب هل تذكر أسماء الله )).
إن هذه المعاناة تتجاوز البحار, يحكى شطها (( الأندلس )) لشطها (( المغاربى )) ومن ثمة إلى أرجاء العالم. إنها نكبة علت أمواج البحر وطفحت على سطحه وطفت فوق مائه .. وانتشر ذكرها فى الآفاق .. إنها نكبة ولا كل النكبات ستبقى, ترويها الأجيال للأجيال ببقاء زبد البحر .. وهكذا تظهر علاقة قرطبة بالشام ( علاقة الأندلس بفلسطين ), إنها علاقة المحن والعذاب والكمد .. إنّه سلك المحن الحديدى الطويل جدا والذى ( تتموقع ) على حافته مجموعة أرضية وإنسانية, وتُقهر على المشى فوقه حافية الأقدام, وتتململ على مضض, وهى تخشى الوقوع فتتضاعف المحن وتكبر الأهوال وتتسع هوة الجرح وتتعمق .. إن هذا السلك الحديدى الغاشم حاول الشاعر أحمد عبد الهادى أن يأخذ صورة شعرية لما عليه, ولما يقع على حافته, فجاء بعدد من الأسماء الأرضية / الإِنسانية التى أرغمت على أن تعيش فوق هذا السلك ذهابا وجيئة لا يقر لها قرار ..
الغاصب الأرض والمحتل أبعدنا
عن أرض آبائنا من بعد ما ظلما
بل هل هو الآن فى لبنان أشعلها
نارا بإيعازه طورا ومقتحمـــا
والرعب فى الموطن المحتل ديدنـه
فيمن تبقى ومن كانوا له خدمـا
يا أمة الحق إخوان لنا حرموا
حق الحياة فهل نرعى لهم رحمــا
يستصرخون بحق الدين أمتنـا
فى الفلبين وفى بورمــا وغيرهما
فى الهند والسند والبنغال قاطبة
نلقى اضطهاد بنى الإِسلام قد عظما(15)
نود أن نقف عند هذا النموذج الشعرى لنجلله علنا نكشف عن بعض ما كمل بعد أن نفكك بعض مكوناته .. إننا نلحظ تعدداً فى أسماء الأماكن : لبنان, الفلبين, بورما, الهند, السند, البنغال, فلسطين = (( المواطن المحتل )) ونجد لفظة (( غيرهما )) فى البيت الخامس, وهى لفظة ليست للقافية فحسب بل لها مدلول مقصدى هو الفضاء المكانى غير المحدد غير ما ذكر الشاعر من أماكن كلها على حافة السلك الحديدى / العذابى ..
وهذا التعدد على المستوى المكانى يقابله تعدد آخر على المستوى الإِنسانى : الغاصب, المحتل, الآباء, الخدم, أمة الحق, إخوان, بنو الإِسلام ..
إن التعدد الأول يدخل فى إطار المكان ويحمل وظيفة مدلولية واحدة هى توضيح اتساع رقعة الهموم أما التعدد الثانى الذى هو فى إطار الإِنسان فهو تعدد ينقسم إلى أنماط بشرية ذات وظائف دلالية مختلفة .. فكل نمط يتحدد من خلال وظيفته فى هذا النص الشعرى ..
النمط الأول هو المتمثل فى : (( الغاصب )), (( المحتل )), (( ناشر الرعب )) .. الخ.
والنمط الثانى هو : (( المغضوب )), (( المحتل )), (( المحروم )) .. الخ.
والنمط الثالث هو : الخدم / (المنافق) وهو يعيش ازدواجية فى التكوين والممارسة بحيت هو من النمط الثانى ولكنه يخدم النمط الأول .. ويظهر هذا النمط إذا نحن قرأنا (( خدما )) التى فى البيت الثالث على أن شبه الجملة ((له)) ( فى الجار والمجرور ) تُرجع (( خدما )) إلى من يزرع الرعب فى الموطن المحتل وهو الغاصب الذى ديدنه الرعب فيمن تبقى من المستضعفين وقيمن كانوا له خدما كذلك .. وبهذا فإن اللفظة (( خدما )) فى هذه القراءة / التأويل لا تعود على (( الموطن المحتل )) أى ليس المقصود منها (( خدمه الموطن )) وإنما المقصود (( خدم المرعب / المحتل )) ومع خدمته تلك فهو لم ينج من الرعب الذى يمارسه الغاصب على / فى (( الموطن المحتل )) و (( من تبقى )) ..
والنمط البشرى الرابع هو (( المستنجَد به )) : (( أمة الحق )) وهو نمط يشترك مع الثانى فى الأخزة والميراث إلا أنه يعيش بعيدا عن معاناته وهموم أرضه ..طوإجمالاً فهذان رسمان بيانيان يقربان لمداركنا كل ما سبق وذكر :
( أ ) :
الغـــاصب علاقة احتـــلال وتعـــدى المغتصبـــــة
الصاحب علاقة ملكيــة شرعيـــة الموروثـــــة
الإنسان الأرض
الخـــدم علاقة ملكيــة + خيانــة المخدوعــــة
المستنجد به علاقة ملكية + استجــاد المستضعفـــة
ملحوظة : شكل يصعب رفعه على الموقع
نرسم هنا علاقات معينة تتوضح من خلال وجهة الأسهم واتجاهها .. فكل سهم هنا يحدد نوعية العلاقة ـــ الإِنسانية بالأرض أو الإِنسان بالإِنسان ـــ فمثلا الغاصب يمارس ( علاقة الاحتلال ) على الأرض كما أن له علاقة اعتداء على الصاحب بمعنى أن العلاقة تبدأ من الغاصب ( بداية السهم ) وتنتهى إلى أن الأرض المغتصبة أو الصاحب ( نهاية السهم ) وكذلك بالنسبة لسهمى الخادم فأحدهما يمثل ( الخدمة ) ( من الخادم إلى الغاصب ) والآخ يمثل ( الظلم ) ( من الغاصب إلى الخادم ) أما الأسهم المتقطعة فتدل على أن العلاقة المنصوص عليها مرغوب فيها إلا إنها علاقة قد تتحقق وقد لا تتحقق.
ومما يؤكد هذه العلاقات بوضوح وجلاء تلك المقولات النحوية فى النص الشعرى : كمقولة الفعل مثلا = أبعد, ظلم, أشعل, حرم, رعى, صرخ, لقى, عظم … وكمقولة الإِضافــة = الغاصب, الأرض, أرض أبائنا, اضطهاد بنى الإِسلام .. إلى غير ذلك من المقولات النحوية التى توضح العلاقات التى أتينا على ذكرها سالفا .. كما تؤكد فاعلية النص وحيويته .. إلا أن هذه المقولات النحوية يجب أن ينظر إليها وتقرأ فى سياقها داخل النص وفى علاقاتها مع بعضها البعض مكونة شبكة من الدلالات ترتبط فيما بينها, ولا ينظر إليها أو تقرأ فى وضعها هناك بين فواصل ..
وإذا ما حاولنا, بعد, أن نتقصى الأنماط الإِنسانية فى الشعر الإِسلامى والتى لها علاقة بقضية : (( هموم الأرض )) من قريب أو بعيد, نجده يرصد أنماطا عديدة ويسجل شعريا أنواعا بشرية كثيرة .. نمثل لها فى التشجير التالى
ملحوظة : شكل يصعب رفعه على الموقع
هذه الأنماط البشرية كلها يربط الشعر الإِسلامى بينها وبين (( هموم الأرض )) (( المهمومة )) بحيث لا يستنكف عن ذكر كل نمط ومحاولاته وأعماله ومساهماته فى تكريس هذه الهموم وإشغال نارها وعدم إخماد أوارها .. كما أنه يوزه (( المجاهد )) نفسه إلى أنواع .. كل حسب وظيفته أو أسلوبه فى الجهاد .. كل هذا وغيره مثبت فى الشعر الإِسلامى المعاصر الذى ينادى بأعلى صوت شاعرى :
من يستعيد كرامة الشجر المقوس ؟
من يعيد صراحة الأشياء فى زمن التأرجح ؟ من ينقى الماء من عكر الضفادع ؟ من يعيد لهذه الأيام جبهتها ؟ لهذا العمر نكهتـــــه ؟ يعيد الشمس للقدس الحبيبة كى تعود لها الظبــاء ….. من يشتهى تفجير حقل الصمت فالوقت اشتهاء(16) …
فيا أيها المبحرون إلى عالم ما به من جراح تخطوا حدود المواجع, سيروا إلى شرفات المآل فهــذا أوان الكفـــــــاح(17)!!
وأخيرا وليس آخرا نشير إلى أن الأدب الإِسلامى حاليا عليه أن ينطلق نقده من التنظير إلى التطبيق, من البرمجة إلى القراءة, من المعيارية إلى الوصفية, مما يجب أن يكون إلى ما هو كائن ليرسم معالم الأدب الإِسلامى, فقد أصبحنا فى حاجة الآن إلى معاينة النصوص وإلى قراءتها وإعادة كتابتها عن طريق / وبرؤية نقد إسلامى يتبنى ما أمكنه من الأدوات التى يتم له بها التجاوب مع النصوص الإِبداعية باحثا فيها عن :
1 ـــ الالتزام الإِيمانى والتجديد الإِسلامى.
2 ـــ الصدق الفنى والجمــــالى والخلقى ..
3 ـــ القوة والوضوح فى المبنى والمعنى ..
4 ـــ الأصالة والعراقة.
5 ـــ المعاصرة والحداثة ..
6 ـــ الشمولية والتوازن ..
7 ـــ الواقعة / المثالية والمثالية / الواقعية ..
8 ـــ ( الذاتيــة ) و ( الأُمَّوِيّــــة ) والإِنسانية والكونية ..
إلى غير ذلك من المسائل التى لا يفتقدها الناقد الإِسلامى عندما يعابن ما أنتجته قرائح الأدباء الإِسلاميين ـــ وإن قلوا وقلت إنتاجاتهم ـــ ونسأل الله عز وجل أن ييسر لنا طريق البحث فى موضوعنا هذا لإِتمامه تحت العناوين الآتية :
( أ ) أسباب (( هموم الأرض )) فى الشعر الإِسلامى المعاصر.
( ب ) مظاهر (( هموم الأرض )) فى الشعر الإِسلامى المعاصر.
( جـ ) مقترحات الشعر الإِسلامى من أجل كشف (( هموم الأرض )).
هوامش ومراجع البحث :
(1) ديوان (( حكاية الشال الفلسطينى )) محمود مفلح. دار العلوم للطباعة والنشر. الرياض : م . ع . س. الطبعة الأولى 1404 هـ / 1984 م. الصفحة 11 ( من القصيدة الثالثة ).
(2) من قصيدة (( مكذا تكلم أحمد أو مكابدات فارس فى زمن الهزيمة )) عبد الرحمن عبد الوافى. مجلة (( المشكاة )) ( أول مجلة تعنى بالأدب الإِسلامى ) العدد : 2 / 1983. ص 41.
(3) من قصيدة (( شموخا أيتها المآذن )) محمود مفلح. مجلة (( منار الإِسلام )) العدد : 4 / 1986. ص 25.
(4) من قصيدة الشاعر أحمد محمد الصديق (( قالوا هو العيد )). مجلة (( الأمة )) العدد 60. ص 31.
(5) مجلة (( المشكاة )) نفس المرجع.
(6) من قصيدة (( أحلام حفيد صاحب الرأس )) للشاعر حسن الأمرانى. مجلة (( المشكاة )) نفس المرجع. ص 54.
(7) من قصيدة (( شكوى )) لمحمود مفلح. مجلة (( الأمة )) العدد 28. ص 73.
(8) مجلة (( الأمة )) العدد 38. ص 32.
(9) من قصيدة الشاعر حسن الأمرانى. نفس المرجع. ص 48.
(10) ديوان (( ذكريات وأصدقاء )) الشاعر الدكتور وليد قصاب. من قصيدة (( أغنية لوطنى جريح )) .. كتاب النادى الأدبى ـــ الرياض ـــ السعودية. العدد 22 / 1980.. ص 17 و 20.
(11) من قصيدة (( يا أمتى وجب الكفاح )) مجلة (( الأمة )) العدد 58. ص 30.
(12) فى قصيدته (( وقفة فى قرطبة )) مجلة (( الأمة )) العدد 64. ص 80.
(13) من قصيدته (( فى استقبال رمضان )) مجلة (( الأمة )) العدد 33. ص 80.
(14) من مجلة (( المجتمع )) الكويتية. العدد 634 (23/8/83) ص 40.
(15) من قصيدة (( يا أمة الحق )) أحمد محمد عبد الهادى. مجلة (( منار الإِسلام )) العدد 9/82. ص 29.
(16) ديوان محمود مفلح (( حكاية الشال الفلسطينى )) ص 17.
(17) من قصيدة (( رحلة فى المصير )) الدكتور عماد الدين خليل .. مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الأولى 1398 هـ / 1978م. الصفحة 28.
(*) هكذا فى الديوان ولعلها تصحيف لكلمة (( بهجتها )) ومع ذلك يمكن أن نجعل منها ( جبهتها ) مفردة = رمزا شعريا للدلالة على العمل والجد والكدح من أجل الحياة, فالجبهة أو الجبين تدل على ذلك انطلاقا من قولنا (( عرق الجبين )) بمعنى (( العمل الدؤوب )) وعليه يكون المقصود من الشطر الشعرى : (( من يعيد لهذه الأيام الخاملة الكسولة جدها وعملها وحيويتها ونشاطها )) إلا أن لفظة (( نكهته )) فى الشطر الشعرى التالى : (( لهذا العمر نكهته )) تعد قرينة دالة على أن الأصل فى اللفظة الأولى ( جبهتها ) هو (( بهجتها )).