مقدمة :
عندما بدأ العالم يفيق من نشوة الإٍنتصارات المادية والإٍنجازات التقنية بدا له عياناً أن الإٍنسان ـــ محور كل هذه الإٍنتصارات, ومصدر هذه الإٍنجازات وغايتها ـــ قد تدنىٰ وتصدّع. وأنه كلما تصورنا أننا إرتقينا علىٰ سلم الحضارة, وأننا نقترب بسرعة مذهلة تجاه تحقيق حياة أفضل؛
زدنا يفيناً بأن هذا التصور قائم فحقيقته علىٰ إحساس زائف, وأن ما نسعىٰ إليه من سعادة, أو حتىٰ أمن وطمأنينة, ويتفلت من بين أصابعنا خيطاً إثر خيط, وتنفلت عرىٰ الحياة عروة عروة, وجاءت الدراسات تترى نشير إلىٰ أن بناء الإٍنسان قد تصدع, وأن ما تحققه من إنجازات مادية هدفها إسعاد, قد تحولت بين يديه إلىٰ مصادر دمار تفتك به. وبدا الكثير من علمائه وهم يعيشون معاناة الإنتصار, ورؤية النهاية, وإرتقاب السقوط الأكبر لبطل المأساة. واتجه بعضهم ـــ يحدوهم عدم الثقة فيه ـــ إلىٰ استبداله, وإختراع آلات تحل محله, واستقرت في ذهن البعض الآخر ضرورة التغيير, وكانت تلك من نصيب علماء التربية, فبدأوا محاولات مستميتة لرأب الصدع الكائن في بناء الفرد والمجتمع, وتعاقبت النظريات وأشتقت الوسائل والنُهج لتحقيق الإٍرتقاء بالإٍنسان, وبدوا في سباق مستعر لوضع الأصول والضوابط, وتحديد الغايات والوسائل, واستبدال ما هو أفضل وأرقىٰ من مناهج وأساليب, بما هو سائد.
إلا أن نجاح هؤلاء العلماء في إزالة هذا التصدع رهن بتبين أسبابه والتعرف علىٰ نقاط بدايته في البناء التربوي, وليس بمجرد التعرف علىٰ آثاره, ومحاولة علاج أعراضه التي نعاني منها. فتلك أمور ـــ رغم أهميتها ـــ لا ترقىٰ إلىٰ أهمية إدراك الأسباب من ورائها, وتحديدها, والتعامل معها, حتىٰ تتحقق الجدوىٰ مما يُبذل من جهد, ومما يزيد هذه الأهمية وضوحاً تشعب آثار التصدع لتشمل جولنب الحياة الفردية والمجتمعية, وضياع النموذج القدوة للفرد والمجتمع. وليس هذا بناتج في أساسه مما حققه العقل البشري من تقدم علمي تقني, أو من تعاظم في قدراته, كما قد يبدو من المقدمة التي أوردناها, فذلك أمر مطلوب منه, وقد خلقه الله سبحانه مهياً للقيام به, وإنما مردّه إلىٰ الإٍستغراق في الجانب المادي, وانصرافه عن الجانب الروحي, فأخل بتوازنه, وأخلد إلىٰ الأرض وأخضع نفسه لقوانين المادة, وهي مسخرة له, واستغنىٰ بعقله عمن خلقه, وجعل العقل له نعمة. ومن ثم فأن إعادة التوازن لا تعني بالضرورة إنقاص الكفة الراجحة, وإنما تعني إثراء الكفة المرجوحة. وعلىٰ هذا كانت العناية بالجانب الروحي صرخة حياة, ومطلب إنقاذ. ونشط البحث حول الأبعاد المعيارية في الدين والأخلاق, لكي يستقيم الواقع وتذهب أسباب التصدع وتنتفي آثاره.
الوضع الراهن :
وقد ظهرت آثار هذا التصدع في المجتمعات الإسلامية بصورة أكثر وضوحاً, وأشد وقعاً, لسببين رئيسيين : أولهما أن النموذج الفكري الغربي كان يشكّل النموذج الأمثل نظر الكثير من علمائها, وتقليده يعتبر مطمحاً يجد فيه غالبيتهم ضالته, فزاد ذلك من الإٍحساس بالخيبة, وثانيهما أن النموذج الفكري الغربي لم يدخل هذه المجتمعات علىٰ فراغ, وإنما دخلها ولديها شخصية حضارية متميزة, فخلق ثنائية فكرية ساهمت في تزايد الإٍحساس بآثار هذا التصدع, بل وفي إحداث تصدع مضاعف.
ومع الإٍحساس المتزايد بالمعاناة من فقدان المنهج, تباينت ردود الفعل في التعامل مع هذه الأوضاع, ويمكن أن نضع ردود الفعل هذه في ثلاثة توجهات رئيسة : توجه يرىٰ بأن محتوىٰ هذا الفكر الغربي ومباحثه أمر لم تعرفة الشريعة الإٍسلامية, ولم يكن من بين مصفوفة العلوم التي بحث فيها السلف؛ ومن ثم فهي بدعة ينسحب عليها حكم الضلالة, أو أنها علىٰ أقل تقدير ترف فكري لايجب أن نشغل بالنا به, أو نضيع جهدنا فيه, بينما اتجه أصحاب التوجه الثاني في فورة عاطفية إلىٰ محاولة إثبات السبق للإٍسلام في هذه الأمور, وأن القرأن قد جاء بهذه النظريات من قبل, وأن الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ قد قال بما قال به الباحثون الغربيون, وطفقوا يأتون بالنصوص والأمصلة التي تدعم هذا التوجه وكلا التوجهين ـــ في رأي الباحث ـــ قد جانبهما الصواب, فالأول قد بُني علىٰ مفهوم ضيق للإٍسلام, قصره علىٰ جولنب دون أخرىٰ أو عصور دون تاليتها, وهو ما يناقض مبدأين أساسيين, هما شمولية المنهج الإٍسلامي وخاتميته التي تبنىٰ عليهما صلاحيته لكل جيل قادم حتىٰ يرث الله الأرض ومن عليها, وأدىٰ إلىٰ ترك الباب مفتوحاً علىٰ مصراعيه للنظريات الغربية ـــ التي قد تناقض أسسها الأسس الإٍسلامية ـــ أن تسيطر علىٰ المناخ الفكري وتراث البحث في كثير المجالات الإٍنسانية, وتحوّل إجحافه إلىٰ إقرار ضمني بالنقص. أما التوجه الثاني فقد تحوّل يلهث وراء كل نظرية جديدة تظهر في الغرب, يتعرف عليها, ويدرسها, ويحاول جهده في البحث عن نصوص وأدلة من الكتاب والسنة, إما تأييداً لها أو لإٍثبات أن الشريعة في شرح الفكر الغربي, ولم يتبق له من الجهد والوقت وصفاء الرؤية ما يكفل له أن يكون صاحب فكر متميز.
أما التوجه الثالث فكان علمانياً عازلاً للدين, يعرض المذاهب الغربية كما هي ويتتبعها ويشيد بها, ويفرض أتباعه علىٰ أنفسهم إغفال الإٍسلام وتراثه, وأصبحوا مبهورين بما حققه الغرب من إنجازات مادية وتقدم تقني مذهل, وشل هذا الابهار قدرتهم علىٰ التفكير وقنعوا بالتبعية فظلوا شرّاحاً للفكر, ولم يصنعوا أي فكر, وكان أثرهم مدمراً في بناء الإٍنسان في مجتمعاتنا, حيث أن ما أوجدوه من إحساس بالنقص, وتصديق بالعجز قد إنسحب إلىٰ الذات ثم إلىٰ العقيدة نفسها, مدعوماً بالجهل الذي نعاني منه فيها. ورغم أن هذه الرؤية ليست حيادية بالمعنىٰ المطلق للحياد, بل ولا تشابه حتىٰ رؤية غير المسلمين للمنظور الإٍسلامي, إلا أن مفهوم الحياد في معالجة هذه الأمور ـــ أدنىٰ ما يقال عنه أنه غير مقبول. فرغم أن الله سبحانه قد سمىٰ ملة الكفر ديناً إلّا أنه قد قضىٰ بعدم قبول أي دين غير الإٍسلام.
ورغم إحتمالات حسن النية لدىٰ أصحاب هذه التوجهات إلا أن مردودها قد ظهر في إنعدام الثقة في أي منها, وسيادة نوع من الإٍستخفاف بما تقدمه من نماذج, والإٍقتصار علىٰ الاقتناع بالمظاهر الخارجية, والأهداف العرضية دون البحث في الجوهر أو الغايات الكبرى, وإستقر في الأذهان نوع من القناعة بما عرفوه من النموذج الغربي والاكتفاء بما أمكن من مزايا الظاهرة, وغض النظر عن مشكلاته الجوهرية. وساد تيار التغريب نتيجة ما أثارته تلك الأوضاع السلبية من شكزك في هويتنا الإٍسلامية, وإفتتان بالصيغة الغربية, وكانت النتيجة «مسخاً ثقافياً» لا يناسب ما ارتضاه الله لنا ولا حتىٰ ما ارتضيناه لأنفسنا حين الإٍختيار.
ووسط هذا المناخ ظهر إتجاه ينادي بالأخذ بالمبادى الصحيحة واشتقاق الأسس الشرعية, والاستفلدة مما توصل إليه علماء الغرب من نتائج مادية تساهم في عمار الأرض, وقيام الإٍنسان بوظيفته المرتضاة له ديناً, وتوجيه هذه النتائج في سبيل تحقيق الغاية من هذا الوجود, تحت إسم «أسلمة المعرفة». ولم يقف هذا الإٍتجاه عند حد «المناداة» وإنما تخطى لك إلىٰ تصور المبادئ العامة وخطة العمل. بل وانتقل من حيز التوصيات إلىٰ نطاق التنفيذ مما يعطي مزيداً من الأمل لكل المحاولات الفردية ويدعوها إلىٰ التجمع في نسق جماعي يحقق الشمول والتكامل. كما هيأ فرصة مثالية للقضاء علىٰ الثنائية الفكرية في المجتمعات الإٍسلامية, وإلىٰ التعرف علىٰ الأسس السليمة لبناء منهج يجمع بين المعرفة الأصيلة بالإٍسلام والبحث في مكونات هذا الكون لتحقيق وظيفة الوجود وهدفه من إعمار للأرض والفوز برضاء الله سبحانه.
المشكلة :
ولكن ستظل المشكلة قائمة حول أمرين أساسيين هما : الإٍستمرارية, والجدوىٰ. ويمكن صياغتهما في التساؤلات التالية :
أ) هل يكون هذا الإٍتجاه فورة تنتهي بفقاعات مهما تعاظم حجمها فهي واهنة واهية, نعود بعدها إلىٰ الإٍقرار بعجزنا عن الإٍشتقاق من المصادر, ونعود إلىٰ النظريات الغربية نشتق منها نلقي باللوم عليها حين نفشل ؟
ب) هل يتمكن أصحاب هذا التوجه من وضع الأسس الثابتة التي تحقق الرسوخ والن هذا التوجه من وضع الأسس الثابتة التي تحقق الرسوخ والنماء للبناء التربوي السليماء للبناء التربوي السليم, حتىٰ يقنعوا غيرهم بجدوىٰ الانخراط معهم وسلامة نموذجهم التربوي ؟
ج) هل يمكن أن نقيم النماذج المستقاة من شرعو الإٍسلام في إطار الثوابت التي حددها الله, ومجالات الحركة التي شرعها. علىٰ مجرد إعادة تشكيل النماذج السائدة أو إعادة تنظيمها وإنما تمتد إلىٰ تجديد البناء والنسيج ؟
ضوابط العمل :
ونخلص مما سبق بيانه وما تبدى من تساؤلات حول هذا الجهد في ترشيد المسيرة التربوية وتقديم النموذج الأمثلد في ترشيد المسيرة التربوية وتقديم النموذج الأمثل إلىٰ تحديد بعض الضوابط التي يجب أن يأخذ بها القائمون بها الجهد وهي :
1 ـــ إن عملية التحول إلىٰ الصراط المستقيم تحتاج إلىٰ وعى وجهد ومجاهدة قد يكون مجرد تصورها مانعا عند الكثيرين من التحرك تجاهها؛ أضف إلىٰ ذلك أن مشقة الطريق ووعورته والتهديدات التي تكتنفه, قد توسوس لنا بالتردد وعدم الإٍقدام, ولكننا لا نحتاج إلا إلىٰ قليل من التدبر والتفكير من أجل أن نتبين عظم الغاية وشرف التكليف اللذين تتصمهما الهجرة إلى الله والإٍلتزام بمنهاجه وإحتساب ثواب ذلك.
2 ـــ إن الأمر سيتطلب العودة بعلوم الشريعة من علوم يدرسها الراغبون نظرياً ويدرّسها من أراد, إلىٰ علوم تدرّس لكي تطبق, وتدرس لكي تنفذ, وتخرج عن نطاق الحدود الضيقة التي قيدوها بها, فيُشربهــا الباحثون, فتأتي أبحاثهم متحررة من كل تبعية مرضية, وتزيل الفصام الفكري بين المسلمين والإٍسلام, ولا يعني هذا الأمر الإٍستبدال, وإنما يعني التلاحم والتلاقح بين علماء التراث الإٍسلامي والمتخصصين في العلوم الأخرىٰ, حتىٰ نعيد للدين مفهوم الحياة. فينبغي «أن يكون المتخصصون في كل مجال علىٰ قدر معقول من الثقافة الإٍسلامية حتىٰ يستطيعوا إبداع البدائل الإٍسلامية, أو تعديل ما يتبنونه من نظم وفق المبادئ الإٍسلامية, وإلا كانوا عاجزين تماماً عن هذا أو ذاك» (سيد دسوقي حسن, محمود سفر, 1981 : 31/33) فبذالك نفرق بين ما نريد نحن الآن بالدين وما يريده الدين لنا. فنحن نتعامل الآن مع التعاليم الدينية وكأنها مجموعة من الأعراف أو العادات الإٍجتماعية أبينا ألا نرتفع بها عن مستوى الإٍختيار العرقي, بل وعلىٰ هذا المستوىٰ يشاركها تصورات أفراد أسلمنا لهم القياد, أو اتجاهات إتبعناها هوىً, وقد أراد الله لنا بهذا الدين أن يكون منهاج حياة, وشريعة حكم, نأخذه عن إقتناع وحب بموجب ميثاق الإٍيمان الذي أخذه علينا.
3 ـــ أن نبدأ بإرساء الأسس ورفع القواعد وكلما أشتُقت هذه الأسس من أصول يقينية, كانت حاكمة ثابتة, تكفل عدم اضطراب القواعد, ومن ثم الثقة في رسوخ البناء وسلامته. وهكذا يتبين لنا ضرورة تقييم ودراسة معالم تراثنا الفكري وأصول بنائنا التربوي في ضوء الأصول اليقينية التي جاء بها الإٍسلام شرعة من خَلق لمن خُلق.
4 ـــ إن اكتشافنا للحجب الكثيفة التي تواجدت بين الإٍنسان والإٍيمان والتي نتجت عن الإٍعتماد الكلي علىٰ المنهج التجريبي الحسي في العلوم الإٍنسانية ثم عقم الإٍرتداد إلىٰ الأيديولوجيات اليونانية العقلانية يجب ألا ينسينا أن الإٍيمان قد يقدم ـــ بل ويتأكد ـــ علىٰ أسس عقلية, وأن هذه الأسس قائمة بدورها علىٰ الإٍعتماد علىٰ القدرات الإٍنسانية من فكر وحس, ومن ثم فإن الأصول الثابتة الواردة في الوحي لا تمنع الإٍعتماد علىٰ منابع البحث وتحديد مساره, وتمده بالإٍجابات علىٰ ما يعن له من تساؤلات.
5 ـــ إن العملية التي نقوم بها من بناء النماذج في العلوم التربوية لا تبدأ من فراغ وإنما من أصول كائنة وأن ما نلجأ إليه من إشتقاق للأسس يأتي من نبع صاف يضمن لكل قوم مشربهم ولكنهم يتحدون جميعاً في المصدر, وهكذا يؤدي التبحر في بناء النماذج والتعمق في إشتقاق الأسس إلىٰ مزيد من الإٍلتقاء في المصدر ويضمن وحدة المعرفة ولا يجب أن يؤدي إلىٰ إنفصال جوانبها.
6 ـــ إن المبادئ والأفكار التي تنشأ في مجتمعات غير إسلامية لا تكون صالحة بالضرورة لمجتمعاتنا الإٍسلامية, ولكن معكوس هذه القضية لا ينطبق علي نفس الحكم .. أي أن المبادئ والأفكا المبنية علىٰ الفكر الإٍسلامي الصحيح تعتبر صالحة لكل المجتمعات في كل زمان وأي مكان, علىٰ أساس أنها ليست فكراً إنسانياً يحتمل الصواب والخطأ, أو أنها بنيت علىٰ إعتبارات محلية محدودة, وإنما جاءت من خالق الخلق لكافة الخلق, صوابها يقينيّ, ونفعها للخلق دون الخالق. ولا يستلزم الإٍقتناع بمثل هذا الأمر تواجد الإٍيمان والتسليم بأساسه فقد يكون الإٍقتناع بمحتواه مؤدياً للإٍيمان بمصدره. ومن هذا المنطلق كان التحدي قائماً ودائماً منذ نزول الوحي وأبداً حتىٰ يرث الله الأرض ومن عليها, أن يجدوا في هذه الشرعة الباطل أو أن يأتوا بمثلها, ولولا أن كانت كاملة لما كانت خاتمة.
7 ـــ إن إقتناعنا الكامل بشمولية الإٍسلام وكفاية مصدريْه الأساسيين ـــ الكتاب والسنة ـــ لا يعنيالرفض لما حققه العالم غير الإٍسلامي في غيية الإٍنطلاقة الإٍسلامية, بل نحن مطالبون باستيعاب هذه الإٍنجازات, وإخضاعها لنوع من الهيمنة المعيارية التي نستقها من المصدرين السابقين, فنضئ أرجاءها بنور الإٍسلام الحق, ونعطيها الفعالية الموجهة إلىٰ غاية الإٍنسان : سعادة في الدنيا, ونعيم مقيم في الآخره. فالحكمة ضالة المؤمن, ونحن مطالبون بالسعي إليها. والمصادر تحوي القواعد وإقامة البناء, ولكن البناء ذاته وظيفتنا, وعلينا أن نبتغي في قيامه كل وسيلة لا تنحرف أو تنتقض تلك الأسس.
8 ـــ لا يمكن أن نعتمد علىٰ من يدْعون بفلاسفة الإٍسلام في الكشف عن العبقرية الإٍسلامية في وضعها التراث المنهجي. وإنما يجب أن نلجأ إلىٰ كتب الفقهاء والأصوليين والمتكلمين, حتىٰ لا نتقيد بما قيد به هؤلاء الفلاسفة أنفسهم من الدوران في الإٍطار العام للفكر اليوناني, (دي بور 1938 ـــ علىٰ سامي النشار 1965).
9 ـــ لا يجوز أن نقيد أنفسنا داخل حدود النقد السلبي. أو في نطاق الفكر النظري, بل ينبغي أن نتخطىٰ هذه الحدود. وذلك النطاق, إلىٰ بناء منهج واضح يجمع معه التطبيق العلمي, فلم يأت الإٍسلام بفلسفة نظرية أو رؤية تقديرية خيالية, وإنما إيمان وعلم وعمل, تقودنا فيه قدرة بشرية موحىٰ إليها.
10 ـــ إذا تحددت غاية الوجود في تحقيق السعادة والرضا للإٍنسان, فإن تحديد وسيلة هذه الغاية بالنسبة له, يعتمد على المعرفة والإٍحساس اللذين يشكل السلوك الإٍنساني الدلالة عليهما, كما تشكل الإٍرادة الإٍنسانية مساره. وهكذا جمعت وظيفية الوجود المعرفة والإٍحساس والسلوك والإٍرادة, ومن خلالها البحث والدراسة, وأهداف كل منها, كما يمكننا إكتشاف الصبغة العلمية الإٍنسانية التي تجمعها سواء كانت في مجال العلوم أو في مجال الآداب, وهو ما يشار إليه بالمقاربة القائمة علىٰ تعدد المناحي وتشابكها interdisciplinary approach يظهر من خلالها التشابك الإٍعتماديبين كافة العلوم, من طب أو جغرافيا أو علم نفس أو رياضيات. ومن خلال هذا المنظور ستكون رؤيتنا في مجال علم النفس.
مسار العمل :
هناك بعدان أساسيان يحددان مسار العمل في هذا الاتجاه:
البعد الأول :هو تقييم الواقع لمعرفة الصالح والطالخ معرفة شاملة في نطاق المعايير الثابتة التي أشرنا إليها.
البعد الثاني :هو إقامة النماذج السليمة, وقد تكون هذه النماذج فرعية جزئية وقد تكون كلية شمولية, وهي في كلتا الحالتين متحدة في الأصول والوسائل والغايات.
والنظرة الفاحصة لهذين البُعدين ترينا إتحادهما, فنحن حين نقوم بتقيم الواقع يتضح لنا النموذج السليم, وحين نقوم ببناء النموذج السليم, أن نضع في اعتبارنا أن ذلك التقييم أو نلك النماذج البديلة ليست هي الإٍسلام, وإنما محاولات إسلامية كنوع من المجاهدة في الله حتىٰ يهدينا إلىٰ سبيله, وهذه المحاولات سوف تؤدي بإذنه إلىٰ تكوين محموعة من الأبنية الفكرية والتطبيقية وتؤدي في النهاية إلىٰ صيغة إسلامية ووعاء رحب تصب فيه كل الطاقات التي يحدوها الإٍخلاص في الله والثقة في نصره, وينبثق من هذا التجمع الرؤية الإٍسلامية الكلية, سواء في هذا الجيل أو الذي يليه, بمعنىٰ أن تكون هذه المباحث نواة أولية للتجميع, تبرز منها الرؤية المتكاملة.
أسلمـة علـم النفس :
إذا ما اتفقنا علىٰ أن موضوع كل علم هو المسائل التي يختص بالبحث فيها, وتميزه عن غيره من العلوم, فإن المسائل التي يختص بها علم النفس يمكن تحديدها علىٰ هيئة مباحث يتم في إطارها تحقيق البعدين اللذين يحددان مسار العمل, وقد تكون هذه المباحث عامة, مثل علم النفس التعليمي وعلم النفس الاجتماعي وعلم النفس النمو .. وقد تكون خاصة عندما تقتصر علىٰ موضوع معين مثل الواقعة أو العلاقات الأسرية .. وهي كما أشرنا سابقاً لا تخرج عن نطاق المسلّمات التي تنبثق منها الرؤية المطلوبة. فهي تتشعب في توحد وتتفرق في تآزر.
مبحث علم نفس النمو (رؤية عامة)
إن أي دراسة لعلم نفس النمور بصفة عامة وجوانبه المختلفة بصفة خاصة, يجب أن تؤدي إلىٰ إيجاد رؤية شاملة يمكنها :
أ) إحتواء القدر المتاح من الأفكار والمعلومات.
ب) إعطاء فروض قائمة علىٰ المتيسر من البيانات وإيجاد التفسيرات المناسبة لها.
ج) تخطّي ما هو معروف وقائم في الماضي أو الحاضر, بتوليد أساليب ومجالات بحث ودلالات تفسيرية مستقبلية.
ومن أجل تحقيق مثل هذه الرؤية على أسس سليمة يجب علينا أن نحدد :
1 ـــ المصادر التي نعتمد عليها في بناء هده الرؤية.
2 ـــ المسلّمات الأساسية التي ترتكز عليهم.
3 ـــ المفاهيم والمصطلحات التي نستخدمها ودلالتها.
4 ـــ مناهج البحث ومجالاته ووسائله وغاياته.
المصادر :
إن طبيعة الإٍنسان المعتقدة من جسم وروح وعقل وإرادة ـــ تحكم مكوناتها علاقات متداخلة وحاجات ورغبات متباينة تحتاج إلىٰ التوازن الدقيق لكي يغيب فيه تعارض هذه الحاجات والرغبات, وتستقيم من خلاله العلاقات بينها. هذه الطبيعة تحتم أن يكون لما يتصل به من علوم جانبية أساسان : الجانب المعياري والجانب الواقعي. ولا تستقيم أية رؤية دون وضع هذين الجانبين في الأساس, ولا يمكن لأحد من البشر مهما عظم قدره أو تعاظمت قدرته أن يضع المعيار الصحيح الكامل الذي يحيط بطبيعة الإٍنسان, بل إن محاولة تحقيق مثل هذا الهدف يعتبر عبثاً. ومن ثم وجب التسليم بأن المصدر الأسمىٰ والمهيمن للجانب المعياري هو الوحي, فهو وحده الذي يتوجه إلىٰ النفس كلها مقدماً لها الزاد المتكامل, منهج من خلق لمن خُلق. ولما كان الجانب الواقعي مرتبطاً بقدرات الإٍنسان الحسية المتمثلة في العقل والحس, كانت الأصول الفلسفية بمفهومها الصحيح من الحكمة ونتائج الأبحاث والدراسات التجريبية وغير التجريبية, والتي نتوصل إليها في إطار هيمنة المعيار الشرعي, منبعاً لإٍطمئنان القلب وتثبيت الفؤاد تجاه ما نتوصل إليه منها.
وتثبيت الفؤاد تجاه ما نتوصل إليه منها.
وهكذا تكون المصادر التي نلجأ إليها في ترسم هذه الرؤية هي :
1) الوحي.
2) الحكمة (الفلسفة).
3) نتائج الأبحاث.
أولاً : الوحي :يتمثل الوحي في ما أوحىٰ الله إلىٰ عباده من الرسل والأنبياء. والقرآن الكريم يشكّل الكتاب الجامع المصدق لما جاء في غيره من الكتب السماوية ومهيمناً عليها, والذي أُنزل بالحق وبالحق نزل, ولم يتعرض لما تعرضت له الكتب السابقة من تحريف أو إقتصار علىٰ قوم دون غيرهم. وهناك أيضاً الأحاديث الصحيحة التي وردت عن النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ علىٰ أساس أنهَ ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ لم يكن ينطلق عن الهوىٰ وأن الله يعلم أين يضع رسالته. ثم تأتي بعد ذلك ـــ وإن لم تكن لتقترب من المستوى السابق ـــ تفسيرات الصحابة والفقهاء وما توصلوا إليه, وهي إما أن تكون تفسيراً للوحي قائماً علىٰ المعايشة والإٍتقان لعلم الأصول فيندرج تحت هذا البند, أو أنها إجتهاد لا ينفك عن تلك الأصول, فتأتي تحت البند الذي يليه (الحكمة). ولجوؤنا إلىٰ تفسيرات الصحابة والفقهاء لنصوص الوحي والسنة نابع من أن تفسيرهما يلزمه قدرات خاصة وعلم بالناسخ والمنسوخ وأسباب التنزيل وتأصيل الحديث, ولا ينقص هذا من صدقهما أو دلالتهما فذلك أمر لا يرقىٰ إليه الشك سواء عند المسلمين أو غير المسلمين, (Muri, 1923- 28).
ثانياً : الحكمة :إن الربط بين الحكمة والفلسفة أمر أساسي, فكلمة الفلسفة في مضمونها الأصلي مكونة من كلمتين يشيران في معناهما إلىٰ «حب الحكمة» philo Sophiaومن هنا وجب الرجوع إلىٰ أساس المصطلح لأن التفاعل مع هذا المصطلح عبر العصور التاريخية للفكر الإٍنساني قد حاد به عن الطريق السليم فاكتسب مضامين مختلفة ومخالفة أوصلت الكثيرين إلىٰ الخروج عن هذا التعريف الأصلي إلىٰ تعريفات أخرىٰ ربما تكون مناقضة. وبادئ ذي بدء يجب أن نذكّر بأن الفلسفة بمفهومها الأصلي وبعدها عن التدخل في الأصول الدينية علىٰ أساس أن الله قد خلق الإٍنسان وليس العكس, وأن الغني بغيره ناقص والغني بذاته كامل .. هذه الفلسفة إذا لم تحاول إستبدال العقل بالوحي, لها قيمتها الكبرىٰ فهي محبة الحكمة, والحكمة وردت في القرآن في أكثر من موضوع مقترنة بالكتاب, والفلسفة هي الرحيق الذي يفرزه أشرف ما وهب الإٍنسان وهو العقل وهي التي تغذي آمال الإٍنسان وأحلامه في مستقبل أفضل يتحقق له فيه الأمن والخير والسعادة, فهي أم العلوم ورائدتها إلىٰ إكنشاف آفاق جديدة بإستمرار, ثم هي في النهاية إن سلكت طريقها الصحيح تنتهي بالإٍنسان إلىٰ معرفة نفسه ومعرفة عظمة خالقه. والفيلسوف إذا لم يركب متن الشطط والغرور فإنه خير داعية إلىٰ الله وإلىٰ تقدم الإٍنسان وسعادته, (حيا الله 1975 : 75 /58) ولذا فإن عليه أن يجمع بين العلم والتقوىٰ حتىٰ لا يضل و «القرآن لا ينكر الفلسفة الحقة وليدة التفكير الناضج وعاشقة اليقين .. انه يوافقها ويشجعها و .. يرتضي بحثها المنصف .. بل .. انه يمدها بمادة غزيرة في الموضوعات والاستدلالات. ويدعو إلىٰ التبصر والتعقل والاعتبار, ولكنه يحذر من إتباع الظن ورفعه إلىٰ مستوىٰ اليقين : «إن دعوة الإٍسلام العقل إلىٰ النظر والاعتبار فيما حولة, كما في قوله تعالىٰ }فإعتبروا يا أولي الأبصار{لا تعني أن الهقل يتقدم الشرع لأن ملكات الإٍنسان ومنها العقل الاستدلالي محدودة, ولأن العقل لا يكون في كل حالاته بمعزل هن الهوىٰ أو العاطفة ومن هنا ليس لدينا ما يضمن صدق أحكام باستمرار, ولذا كان من الضروري أن يلجأ الإٍنسان ـــ مع استخدامه للعقل ـــ إلىٰ الوحي, فالعقل علىٰ حد تعبير الغزالي في معرض رده علىٰ المعتزلة من المتكلمين ـــ ليس بمأمن عن «العيّ والحصر» .. ولهذا يجب دائماً تصحيح ما يصل إليه العقل علىٰ أساس ما جاء به الوحي». ومن هنا كانت إجتهادات الفقهاء والعلماء المسلمين تختلف إختلافاً بيناً عما إتبعه الفلاسفة الغربيون. ونخلص من ذلك إلىٰ أن مصطلح الفلسفة قد ناله التحريف في المعنىٰ مما أوجب تَرْكَهُ, واستخدام مصطلح الحكمة علىٰ أساس أنه الفكر الإٍستدلالي المنظم الذي يبحث في خلق الله, والعلاقة بين الإٍنسان والكون, ووظيفة الإٍنسان, والهدف من وجوده, بما لا يخرج عن أحكام الوحي. وبذلك لا تتناقض مع المصدر الأول أو تتعدىٰ عليه «إن الفلسفة علىٰ الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود نحو تعلمها ليس هو شيئاً غير اصلاح النفس بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلىٰ سلامتها في المعاد, وحسن السياسة للمنزل والرعية, وهذا نفسه لا غيره هو الغرض من الشريعة. هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالفلسفة ولا بين أحد من العلماء بالشريعة», (إبن حزم في الملل والأهواء والنحل ج1 ص 94).
ثالثاً : نتائج الأبحاث :لا يمكن أن نغفل في مجال حديثنا عن المصادر ما توصل إليه الدارسون والباحثون من نتائج في أبحاثهم ـــ فهذه الأبحاث التي دارت في إطار ما شرعه الله, وجرت بمسلّمات يقرها دين الفطرة وتم تفسير نتائجها علىٰ هدى من هذه المسلّمات التي لا تناقض الشريعة, قد أصاب موافقات الباحثين حتىٰ الملحدين منهم بينما عجزت الأبحاث المناقضة لهذه المبادئ عن الثبات أو الهيمنة. إن إغفال نتائج هذه الأبحاث قد يجرنا إلىٰ مزلقين : أولهما تمجيد الذات القائم علىٰ عدم فهم طبيعة إرثنا للحضارات السابقة, وثانيهما ما وقع فيه الغرب عندما أغفل الإٍنجازات الإٍسلامية التي قامت في عصور جهالته, فما قام علىٰ علم وبصيرة نحن أولىٰ الناس به, وما قام علىٰ زيغ وضلال نحن أولىٰ الناس بالتبصير به.
المسلّمات الأساسية :
1) الإٍيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
2) طبيعة الإٍنسان الخيّرة.
3) الكون مسخر للإٍنسان والإٍنسان مستخلف فيه.
4) البعد الأخلاقي ضرورة من أجل الوجود.
5) النظرة التكاملية للإٍنسان.
6) النمو الإٍنساني لا يندفع في فراغ وإنما تحده ثلاثة عوامل رئيسة : العقل والقدرة والمشروعية.
(1)الإٍيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر : الإٍيمان بالله ضرورة فطرية وعقلية ونفسية, وهي فوق ذلك كله قضاء إلٰهي يشترك فيه كافة المخلوقات. وهو أمر فطري فطر الله عليه النفس البشرية .. يجده كل إنسان في أعماق نفسه دون تعليم أو تلقين }وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرَيَتَهُمْ عَلىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِربَكُمْ قَالُوا بَلىٰ شهدنَا{(الأعراف 172) ويقول الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ (كل مولود يولد علىٰ الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه(واستقراؤنا للتاريخ يدل دلالة واضحة علىٰ أن البشر مهما تقادمت عصورهم أو إختلفت أجناسهم عرفوا الإٍيمان علىٰ صورة من الصور. كما أن الإٍيمان بالله يقوم علىٰ أسس عقلية, فالعقل الإٍنساني في أصلح حالاته يستخرج القوانين ويتعرف عليها, ولا بد أن يقر بوجود صانع لهذه القوانين, ولا يجد تفسيراً للوجود إلا من خلال خالق مبدع قدر صنعته وأحسن كل شئ خلقه. كما أن الإٍيمان ضرورة نفسية وهو أعظم من أن يكون مظهراً من مظاهر الخوف, بل درءاً له وسبيلاً إلىٰ الصحة النفسية }وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكَتُمْ وَلَا تَخافُونَ أَنَكُمْ أَشْرَكْتُمْ بالله مَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأيُّ الفريقَينْ أَحَقُ بالأمْن إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الذّينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسوُا إِيمَانَهُمْ بظُلْم أولئكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ{(الأنعام 81 ـــ 82) }الذّين آمنُوا وَتَطْمئن قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله ألَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ{(الرعد 28) ويقول ابن كثير في تفسيره لآية }.. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَد هُدِىَ إلىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ{(آل عمران /101) «فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمد في الهداية والعدة في مباعدة الغواية والوسيلة إلىٰ الرشاد وطريق السداد وحصول المراد» فالإٍعتقاد إذن يعني في جوهره الثقة بوجود إلهٰ حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. وهكذا فالدين ليس خوفاً بقدر ما هو رد فعل ضد الخوف (برجسون 1984 : 169) بل إن التأويل الديني يدفع عناّ الخوف ويجعلنا نستقبل أي هزة في هدوء (برجسون 1984 : 172) فالإٍيمان يملأ قلوب المؤمنين أمناً ولا يشعرون بخوف ولا هم يحزنون.
ووجود الملائكة مطلب إيماني ورحمة إلٰهية, أسجدهم الله لآدم توقيراً واصطفىٰ منهم رسلاً إلىٰ البشر وجنوداً يشدون من أزرهم, يتشكلون في أي صورة ما شاء الله حتىٰ يقتنع ابن آدم بالأسباب ولا يغرق في التواكل, أو ينحرف في طريق الأوهام, ورغم أن الإٍيمان بهم إيمان بالغيب إلا أنهم تمثلوا في عالم الشهادة أفراداً وجماعات (كما في بشارتيْ إبراهيم ومريم, وحديث جبريل) ثم يأتي الإٍيمان بالكتب باعتبارها المنهج الذي اختاره رب العالمين للبشر, وجاءت الكتب السماوية كلها برسالة واحدة لبني آدم أن يتقوا الله ما لهم من إلهٰ غيره, ويطيعوه. والإٍيمان بهذه الكتب السماوية من أسس الإٍيمان ولكن الكتب السابقة علىٰ القرآن قد نالتها أيدي البشر بالتحريف والتحوير, وكان بعضها وقفاً علىٰ جماعات دون الغالبية, ولذا أنزل الله القرآن وتكفل بحفظه شاملاً لما سبقه, ومهيمناً عليه, ويحتوي علىٰ منهج كامل للحياة البشرية. أضف إلىٰ ذلك أن هذه الكتب قد أوحاها الله إلىٰ رسل يحملونها إلىٰ البشر وهم منهم, وزوّدهم بصفات معينة تعينهم علىٰ حمل الرسالة, وأداء الأمانة, وأيّدهم بالمعجزات, ولم يكونوا ملائكة, حتىٰ نجد فيهم القدرة, ونتأسى بهم, ويكونوا علينا شهداء يوم الحساب. ولذا فإن الإٍيمان بالكتب والرسل إيمان متطابق فالرسل هم الذين حملوا الكتب, والتصديق بهما أمر مشترك (الشمري, 1983) والإٍيمان لا يكتمل إلا بالإٍيمان باليوم الآخر, واليوم الآخر أمر أساسي وضرورة وجودية فهذه الدنيا مهما طالت ومهما تعاظمت قدرات الإٍنسان فيها فلا بدّ وأن يتحقق ـــ مؤمناً كان أو غير مؤمن ـــ من أنها إلىٰ زوال. وإذا كانت قاصرة علىٰ هذه الدنيا الزائلة إنعدم الهدف من الحياة, وأصبحت وظيفية مطلقة بلا غاية وهي تتفق مع مفهوم العبث أو اللهو (حيا الله, 1978).
(2)طبيعة الأنسان الخيرَة : الإٍنسان هو محور علم النفس وفهمنا لنمو مرتبط بفهمنا لطبيعته. وقد لجأ كثير من علماء نفس النمو إلىٰ الإٍعتماد علىٰ رؤى فلسفية حول طبيعة هذا الإٍنسان, وطفقوا يسقطون هذه الرؤية علىٰ ما يجمعون من نتائج بل إنهم أصبحوا أسرى هذه الرؤى, فإذا ما سمعوا في أعماق نظرياتهم صدىٰ خافتاً لرؤية مخالفة, أظهروا عدم المبالاة به ولجأوا إلىٰ تحوير التفسير المرتبط به. ويمكن تلخيص هذه الرؤى فيما يلي :
ـــ رؤية تقول بأن الإٍنسان مخلوق شرير بطبعه يحمل في طبيعته بذور العدوان فهو يهدف إلىٰ دمار نفسه أو إلىٰ دمار الآخرين.
ـــ رؤية تقول بأن الإٍنسان خيرّ بطبعه وأن واجبنا أن نتركه بلا تشويه أو تعليم أو حتىٰ رعاية حتىٰ تنمو فيه بذور الخير.
ـــ رؤية ترى أن طبيعة الإٍنسان محايدة كالصفحة البيضاء وأن البيئة تضع بصماتها بالخير أو الشر عليه.
وبكل نظرية من هذه النظريات قال مفكرون وفلاسفة, وقامت علىٰ نظرياتهم مذاهب, ورسمت خطط, وتحددت سياسات, واستخدمت دلالات, ووُضعت تنبؤات.
والإٍسلام له نظرة فريدة تجاه طبيعة الإٍنسان جاءت ممن خلقه فكانت أصدق وأسلم. فالإٍنسان في تصور الإٍسلام يتكون من جسم وروح وعقل وإرادة, وهو كيان واحد مترابط الأجزاء لا ينفصم أحدها عن الآخر. فكل جزء موجب لوجود الجزء الآخر وقائم علىٰ وجوده. وأصل الوجود الفطرة السوية والتقويم الأحسن. وهذا الإٍنسان لم يخلق كاملاً إلىٰ درجة أن نهمل رعايته, بل هو في تصور الإٍسلام قد خُلق ناقصاً وقابلاً للكمال في آن واحد. فهو بذرة تنطوي علىٰ جميع عناصر الكينونة (الأرض والحياة) بأكملها,وتشمل تقديراً ـــ وفي حيز القوة ـــ علىٰ شروط نموها كلها, ولكنها في انتظار ظهور عمل حر وإرادي, حتىٰ تتحول هذه الشروط التقديرية إلىٰ واقع فعلي (النحل /78, دراز 1973 : 585). فالنفس الإٍنسانية خُلقت ميالة للخير مجبولة علىٰ حبه, وإذا ما عُرض عليها إختارته دون تردد أو أدنىٰ إحجام, وإنما يأتي التردد والإٍحجام مما تتعرض له النفس من قوىٰ الشر. ولأن طبيعة الإٍنسان إختيار الخير, أنزل الله هداه إلىٰ رسله يعرضونه علىٰ الناس, وتلك مسألة الإٍختلاف في الرؤية, بين الرؤية الإٍسلامية للطبيعة الإٍنسانية, وبين رؤية من يقولون بخيريّة الإٍنسان بلا منهج من الخالق أو إرادة يستحق عليها الثواب والعقاب.
وننطلق من خلال هذا البعد إلىٰ تحقيق مبدأ مصاحب, وهو هل تنسحب الرؤية الحيوانية علىٰ الإٍنسان ؟ بمعنىٰ هل يمكن أن نلجأ إلىٰ تجارب الحيوان في علم نفس النمو لكي نستخلص منها مبادئ محددة لرؤيتنا للنمو الإٍنساني ؟ والإٍجابة علىٰ ذلك هي الرفض. وفي أقصىٰ درجة من التسامح, فإنها ستكون محفوفة بالمحاذير, فهم أمم مثلنا, ولكن ليسوا مطابقين لنا, والإٍنسان نوع متفرد متميز عن سائر الحيوانات. فإنها ـــ وإن شابهته في عناصر تكوينها الطيني ـــ تخالفه ويخالفها في التكوين المعنوي. إذ لم يكرمها الله بما كرمه به من الروح والعقل, لأنها لم تكلف ما كلفه من عمارة الأرض, وخلافة الله فيه (القرضاوي 1981 68 ـــ 69) وهكذا نرىٰ علماء النفس المحدثين يرون أن اعتماد علم النفس الإٍنساني علىٰ البحوث الحيوانية مضلل وغير مناسب, وكذلك اعتبار سلوكه في إطار الآلية البسيطة, (Bugental 1967 : 9), كما أن طبيعة الحيوان تتركز في صفة واحدة علىٰ الأقل في رؤيتنا له. فالكلب صفته الوفاء والثعلب المكر .. ولذا فإن فرديته ونوعه يبدوان شيئاً واحداً, بينما نجد معرفة الإٍنسان في تمييزه عن غيره من الناس (برجسون 1984 : 196), كما أن التفكير والإٍرادة بالنسبة للحيوان أمر مشكوك فيه, ولا يعني ذلك سرّ قوة, بل قد يكون عنصر ضعف, لأنه منبع التردد. ومن هنا كان تسخير الله لها للإٍنسان, فليس هناك من الحيوانات من يشغل باله بالموت, أو يعاني من التمزق النفسي (برجسون 1984 : 216), ويذكر الغزالي أن تشريف الإٍنسان علىٰ الحيوان «راجع إلىٰ علم وإرادة, أما العلم فهو العلم بالأمور الدنيوية والأخروية والحقائق العقلية. فإن هذه أمور وراء المحسوسات ولا يشاركه فيها الحيواناتبل العلوم الكلية الضرورية من خواص العقل .. وأما الارادة فإنه إذا أدرك بالعقل عاقبة الأمر وطريق الصلاح فيه, إنبعث من ذاته شوق إلىٰ جهة المصلحة, وإلىٰ تعاطي أسبابها, والإٍرادة لها. وذلٰك غير إرادة الشهوة وإرادة الحيوانات» (الغزالي /الإٍحياء ج3 (1)). وإغفال الدور الذي يقوم به العقل أو تختص به الإٍرادة يعتبر مصدر نقص خطير في تفسير النتائج من التجارب علىٰ الحيوانات ولا يمكن تجاهله.
(3)الكون مسخر للإٍنسان والإٍنسان مستخلف فيه : الكون الذي نعيش فيه خلْق الله. موجود بقضاء الله, تواجد بأمر «كـن» والعلاقة اللغوية بين اللفظين واضحة, ويخضع لقوانين ونواميس محددة .. }مَا تَرىٰ في خَلْق الرَّحمنِٰ مِنْ تَفَاوُتٍ{(الملك 3) وتلك القوانين والنواميس تدخل في نطاق المشيئة الإٍلٰهية فإذا أراد الله أن يبطل قانوناً أو يعطل ناموساً أو يحوّل أو يبدّل في آثارهما, فلا رادّ لقضائه, ولا معقب لحكمة, وخلْق هادف. وكلما اقتربنا من تفهم هذا الهدف, وإزددنا قرباً من فهمنا لمكانتنا فيه, وإدراكنا لوظيفتنا في هذه الدنيا.
والكون مسخر بإرادة الله للإٍنسان, ولكن هذا التسخير ليس أمراً مطلقاً, أو أنه بلا هدف يرتجىٰ, فكلما كان خلقه هادفاً كان تسخيره للإٍنسان هادفاً, معيناً له علىٰ القيام بأداء أمانته, وإتيان تكاليفه. ولذا فإن هذا الهدف يتعارض مع ثلاثة مداخل سائدة : الأول يتمثل في اعتبار العلاقة بين الكون والإٍنسان أحادية الجانب ذات إتجاه واحد يكون فيها الإٍنسان مطلق التعرف في الكون المسخر, له أن يتحكم في بقائه أو إفنائه أو تحويل سننه, والثاني يتخيل وجود صراع بين الإٍنسان والبيئة يأتي علىٰ الإٍنسان حين يحقق فيه انتصاراً ساحقاً عندما «يقهر» الطبيعة, أو تنتقم منه الطبيعة حيناً آخر علىٰ هيئة ما يُسمىٰ بالكوارث الطبيعية, أما المدخل الثالث فإنه يحمل في باطنه رؤية هذا الكون ككائن مستقل ذي إرادة ونيّة موجّهة, يقوم بتنفيذها وقتما يحلو له. وهذا مخالف للقاعدة الشرعية في التسخير. كما أنه ـــ حين يضفي قدسية علىٰ قوى الطبيعة ـــ يشتمل بين طياته علىٰ معنىٰ مناف للتوحيد, لا يقبل في الجوهرعما يلجأ إليه بعض الوثنيين البدائيين عند عبادة الطبيعة أو تمثل القوة الإٍلهية فيها أو عندما خلعوا «علىٰ الطبيعة الحياة فكأن لكل شئ كائن روحي غامض يرافقه .. وللأشياء والحوادث نيات, فكأن للطبيعة في كل مكان عيوناً تنظر بها للإٍنسان .. وتحس أن في هذا الكون شيئاً منظوراً .. ولو لم تكن النيّة التي تعني بنا طيبة دائماً» .. (برجسون 1984 190 ـــ 191). ونجد أن المدخل الأول يطلق يد الإٍنسان فيسئ إلىٰ ما حوله ولا يعترف بما له من حرمات في غرور مطلق, هدفه في ذلك التغيير المطلق, بينما يجب أن تعترف «بأن بنيان الإٍنسان يدلنا علىٰ أنه خُلق لحياة أكثر تواضعاً, والدليل علىٰ ذلك مقاومته الغريزية للتجديد» (برجسون 1984 : 1986) تلك المقاومة التي احتاج معها جهد الإٍبداع والابتكار إلىٰ جهد إيجاد القبول بين الأفراد, وقد ظهرت علىٰ مر العصور صعوبة إيجاد القبول بين البشر ـــ علىٰ إختلاف مللهم ونحلهم ـــ نحو ما نقترفه تجاه البيئة ومكوناتها المادية والحيوانية, وكذلك المدخل الثاني يتنافىٰ مع حكم التسخير والعلاقة المتناغمة, ويعطي للعلاقة بين الإٍنسان والكون سمة العداوة.
والرؤية الأمثل في هذه العلاقة هي التسخير الهادف المعتبر لوظيفته وهدفه فالكون مسخر بإرادة الله ومشيئته وليس لدونية فيه, أو لعبت في القضاء, تعالىٰ الله عما يصفون, فكما أسجد الله الملائكة لآدام سخر له الكون المحيط به, فهو عون للإٍنسان علىٰ القيام بوظيفته في الدنيا, وتحقيق هدفه من حياته فيها, من إعمار للأرض يحدوه إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, ولذا كان التعامل معه تعامل الإٍنسان العرف بربه, الحافظ الحدوده, حين يستخدم جسده المسخر له فلا يأت بمعصية, فاليد لن تتأبىٰ علينا حين نقدم بها علىٰ معصية, ولكنها ستكون علينا شاهدة, ونتحمل وزر المعصية دونها, وكذلك فالأرض لن تتأبىٰ علينا إن أتينا عليها بمعصية, ولكنها ستكون شاهدة علينا. وينقلب وزر العمل شقاءً في الدنيا وعذاباً في الآخرة. وفي الوقت ذاته يتحمل الإٍنسان أمانة التكليف في أن ينبغي فضل الله فيها ولا يضيع تسخيرها له, أو يبدد الهدف منه وهو مكلف بإستخدام ما منحه الله له من عقل, وما فطره عليه من إيمان في أن يصرف طاقته في معرفة أسراره قرباً من الله, وإكتشافاً لنواميس الكون وعلومه, إطمئناناً لفؤاد مَنْ آمن, وجذباً لقلب من لم يؤمن, وليس هناك تناقض بين البحث في سنن الكون وبين الوحي إذا ما فهمنا الوظيفة والغاية من هذا البحث واتخذنا الوحى معياراً له.
وإستقراء تاريخ العلاقة بين الإٍنسان والكون في ظل الرؤى الفلسفية المخالفة للوحي يشير إلىٰ تخبط واضح بين الأضداد فهي إما إضفاء قدسية عليه وعبادة له أو لمكوناته (برجسون 1984) أو إفساد وتدمير وإحتقار لقيمته إلا لما يؤخذ منه أو يستفاد به؛ وربما إحسان إليه تحدده المقبولية الإٍجتماعية أو النفعية المادية, كمعيار متغير بحسب الزمان والمكان, وربما نظرة «رومانسية» تقصر هدفه علىٰ التعامل معه كموجود لمجرد الوجود, وهو ما يجذب أنظار علماء النفس تحت إسم علم النفس البيئي .. ولو أدخلناه تحت مظلة الوحي التي وسعت كل شئ لزال هذا التخبط وإنقشعت سحب التناقض بين أبعاد المقبولية الإٍجتماعية والنفعية المادية والرومانسية غير الهادفة. ويقول دارسو الشريعة الإٍسلامية بأن التصور الإٍسلامي في علاقة الإٍنسان بالوجود الطبيعي. أنها «علاقة تقوم علىٰ التسخير وهو الحق الذي منحه الله للإٍنسان في استخدامها واستغلالها علىٰ الوجه الذي يحقق خيره وسعادته, وهذا الحق لا يقابله واجب علىٰ الإٍنسان لذات الوجود الطبيعي أما ما يتصور من أنه واجب تجاه هذا الوجود مثل واجب الرعاية وحسن الاستخدام وغير ذلك, فإنما هي واجبات لا تستحقها الأشياء لذاتها وإنما أملتها مصلحة الإٍنسان وجقوقه في استخدام الوجود المادي علىٰ الوجه الذي يحقق خيره وسعادته, والقرآن واضح في تحديد هذه العلاقة في قوله تعالىٰ : }وَسَخَّرَ لَكُمْ الَّيْل وَالنَّهَارَ. وَالشَّمَس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم مُّسَخَّرَاتّ بِأَمْرِهِ إنَّ في ذلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{(النحل /12) }وَسَخْرَ لَكُمْ مَا في السَّمَواتِ وَمَا فِي الأرْضْ جَمِيعاً مِنْهُ إنَّ في ذلِك لآيَاتٍ لِقَومٍ يتفكَّروُن{(الجاثية /13) (حيا الله 1978 : 144).
(4)البعد الأخلاقي ضرورة من أجل الوجود : إذا كانت غايى أي شئ هي ما يتحقق به كماله فكمال النمو الإٍنساني لا يتحقق إلا من خلال التعرف علىٰ غايته, والتعرف علىٰ غايته يجرنا للحديث عن كثير من الغايات الوسيلية التي هي في حد ذاتها لا تكوّن غاية قصوىٰ, وإنما غاية مرحلية أو شخصية تحدث في الطريق إلىٰ الغاية الكبرىٰ بسمات الغاية الحقيقية في أنها :
أ) عامة أو كلية تصلح غاية للناس جميعاً. ب) تكون غاية لكل ما قبلها وليست وسيلة لغاية بعدها. ج) لا يمكن تفسيرها أو تعليلها. (حياً الله 1978 : 16) ومن هنا كان الهدف من الوجود الإٍنساني, وكان سلوك الإٍنسان الذي يهدف إلىٰ تحقيق هذه الغاية. ومن خلال تلك الرؤية يتضح لنا البعد الأخلاقي الذي يميز السلوك الإٍنساني في وظيفته وغايته, فالسلوك الحيواني لا يهدف إلىٰ غاية أقصىٰ من الوجود, والوجود عند الإٍنسان ليس هدفاً في حد ذاته وإلا كان وجوداً إستهلاكياً يستهلك نفسه بنفسه, يتماثل فيه اليوم مع الأمس مع الغد, نعمل لكي نعيش, ونعيش لكي نعمل ـــ ننام لنصحو ونصحو لننام, ولكن الحياة الإٍنسانية في المفهوم الإٍسلامي لها إمتداد غائيّ في العالم الآخر نجد فيه الجسنى وزيادة, فرغم أن وجودنا يستلزم في حد ذاته جهداً عضوياً ومادياً من أجل نشأته واستمراره, إلا أن ذلك لا ينطبق إلا علىٰ جانب واحد هو الجانب العضوي المادي, ولكن الوجود الروحي يتطلب تسخير هذا الجهد من أجل السمو وبلوغ المثل الأعلىٰ, وهكذا يتضح لنا البعد الأخلاقي الذي يسري في نسيج هذا الجهد, ويعتبر ضرورة من أجل هذا الوجود. فمن خلال الغاية يكتسب الجهد فيمته. «لقد يكون في وسع الإٍنسان أن يستغني طول حياته عن بعض مسائل العلم والمعرفة فلا تخطر له ببال, بل قد يستطيع أن يستغني عنها جميعاً فترة طويلة أوقصيرة من عمره, ولكن أحداً لن يستطيع أن يخلي همه من المسألة الأخلاقية طرفة عين» (دراز 1973 : 100), وهذا البعد الأخلاقي الذي نعنيه لا يتحدد معياره في القوانين الوضعية أو في الرؤى الفلسفية المجردة أو غيرها, وهي تتأرجح بين الواقعية المطلقة المتغيرة بتغير الزمان والمكان, والمثالية المفرطة التي بدت في كثير من النظريات الفلسفية, وإنما في الرؤية الإٍسلامية التي جاءت بمحور متصل يمتد من الواقعية إلىٰ المثالية, من العدل إلىٰ الاحسان, فكما أنها نزلت بحدود ثابتة إجرائية محددة؛ إحترمت الوُسع الإٍنساني, فخولت لكل ضمير فردي جزءاً من النشاط التشريعي, حبسته داخل إطار واسع من التقوىٰ والإٍحسان.
ويتحدث هنري برجسون عن إرتباط الحياة بالأخلاق منذ الأزل وكيف «كانت العادات في القديم هي الأخلاق كلها .. ولا تميز أبداً بين النظام المادي والنظام الأخلاقي أو الإٍجتماعي .. حتىٰ أننا لم نتخلص إلىٰ اليوم من هذا التوحيد وما زالت آثاره باقية في اللغة .. فتراها .. تعبر عما هو كائن وما يجب أن يكون بتعبير واحد, (برجسون, 1984 : 142 ـــ 144) ومن هنا كان البعد الأخلاقي بمفهومه الإٍسلامي أمراً فطرياً, ووجوبه أمر حياتي وضرورة أخروية, ولم تأت الشريعة الإٍسلامية بأمر ينسج الشريعة الطبيعية بل لرعايتها والحفاظ عليها وتوضيح الغاية منها.
(5) أمره بالسعي في الأرض والإٍستمتاع بزينة الله وفاءً بحظ جسمه, واعتبر كل عمل يبتغي به وجه الله وصالح العباد عبادة تعدل الإٍعتكاف وقد تفضله, وأمره بألوان العبادات والشعائر الظاهرة والباطنة وفاً بحق الروح, وشدد علىٰ تعظيم الشعائر واعتبرها من تقوىٰ القلوب وفاءً بحق الروح, وأمره بالنظر والتفكير في ملكوت السموات والأرض وإلتماس الحكمة بإعتبارها ضالة المؤمن وفاءً بحق العقل, ووجه إلىٰ الإٍستمتاع بجمال الكون وينع الثمر وترويح النفوس خشية الملل, رعاية لوجدانه, (القرضاوي 1981 : 74) ولم يبن هذا التكامل علىٰ أساس الفصل والإٍنقسام وإنما اجتمعت النظرة التكاملية الكلية في كل مفردة من هذه المفردات, فالسعي في الأرض صلاة وتفكير في الملكوت واستمتاع والتماس للراحة, تحدوه الإٍرادة, كما أن في الصلاة وفاء بحق الكيان البشري كله, فيها اللسان والبدن, فيها القلب والوجدان, فيها العقل والإٍرادة, ومن ثم كان الشمول الواجب والإٍستغراق اللازم في إعتصام لا يشوبه إنفصام, وفي توازن لا يعتريه جنف أو زيغ, ووسطية تجبُّ المغالاة, وتناسق لا يعيبه نشوز, كما ظهر هذا التكامل في أن الشريعة جاءت للفرد داخل الأسرة, داخل المجتمع, داخل الأمة؛ فكان رحمة للعالمين يجمع بين الفردية والجماعية بخيوط متينة ليست من صنع البشر.
وهذه النظرة التكاملية تجعل النظرة إلىٰ جوانب النمو الإٍنساني نظرة كلية فهي لا ترىٰ جانباً بمعزل عن الآخر, ولا تعتبر الجانب المعرفي دون السلوك, أو الحس دون التعقل, فالنمو الإٍنساني يشمل الكائن كله ورعايته رهن بالعناية به ككل.وإذا كانت النظريات السائدة قد فشلت في تكوين هذه النظرة الكلية, واقتصرت علىٰ جانب دون آخر, فلأن ذلك ينبع من نظرتها الجزئية للإٍنسان موضوع الدراسة. والأخذ بمبدأ تكامل النظريات خطأ منهجي لا تقره الدراسة العلمية لأن هذه النظريات وإن بدا إقترابها في الفروع إلا أنها تختلف إختلافاً بيّناً في المسلّمات الأساسية والأصول النظرية ـــ هذا الإٍختلاف الذي يجعل إتحادها داخل نظرية موحدة أمر يرفضه أصحابها ولا يقره الدراسون المتخصصون. وهكذا تجمع النظرة التكاملية للإٍنسان والتي أقرها الإٍسلام ما ظهر من إنفراط عقد هذه النظريات باعتبارها موحدة المسلّمات, يقينية المصادر, شاملة لكل الجوانب.
(6)النمو الإٍنساني لا يندفع في فراغ وإنما تحده ثلاثة عوامل رئيسة؛ العقل والقدرة والمشروعية : من الأمور التي أصبحت واضحة من خلال المناقشة السابقة أن أي تغيير يحدث من أجل التغيير يعتبر عبثاً, وأنه من خلال الغاية يكتسب أي جهد نمائي أو تغييري قيمته ومن هنا كان النمو الإٍنساني يمثل مسيرة تغير تصل بالكائن الإٍنساني إلىٰ غاية, واندفاع النمو الإٍنساني إلىٰ تحقيق هذه الغاية يمر بغايات مرحلية وسيطية تعتبر وسيلة إلىٰ الغاية الكبرىٰ, والوسيلية التي ترتبط بهذه الغايات المرحلية من أجل الغاية الكلية لا تجعلها تنحرف لتأخذ مكان الغاية الكبرىٰ, كما أنها لا يجب أن تستلزم وسائل لا تتفق مع هذه الغاية الكلية, فمثلاً العناية بالجسم قد تكون غاية ولكنها غاية مرحلية لتحقيق العبادة, ولذا فهي عبادة, وتؤدي إلىٰ رضا الله. ولذا فيجب ألا تستغرقنا العناية بالجسم كغاية كاية فنقدم في سبيل تحقيقها علىٰ معصية, أو ننسىٰ في هذا السبيل الغاية الكلية. ولذا وجب أن ننظر إلىٰ النمو الإٍنساني داخل إطار تحده تلك العوامل الثلاثة, العقل والقدرة والمشروعية.
والعقل هو الذي ينبثق عنه التمييز, ويلزم الفرد بالتكليف ويجر معه الشعور بالواجب نحو ما استخلف فيه, والإٍرادة تجاه ما يبذل من جهد مقاومة, أو جهد إبداع. فكل أنماط السلوك التي تفقد هذا الضابط ـــ حتىٰ وإن اندرجت تحت مظلة التغيير ـــ تفقد الهدف, ومن ثم تكون عبثاً أو قد تكون عبئاً علىٰ عملية النمو. ومن ثمار العقل العلم والإٍرادة والتوجه وتحقيق الولاية علىٰ الذات وعلىٰ الآخرين ـــ وهكذا أعتبر النمو الإٍنساني مسئولية فردية ومسئولية جماعية }وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئوُلُونَ{(الصافات 24) }يَا أَيُّهاً الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً{(التحريم 6) فعلى الفرد تحقيق النمو لذاته, والإٍتجاه نحو ما يحقق له ذلك. طالما وضعت الولاية في يده. ولن توضع هذه الولاية إلا عند البلوغ العقلي, ثم إن الفرد مسؤول عن تحقيق النمو لمن هم تحت ولايته, وفي نطاق مسئوليته التي قد تمتد لتشمل كل المسلمين بل كل البشر, وفي إطار هذه النظرة يكون العقل مؤدياً إلىٰ الرؤية السليمة للنمو الإٍنساني من ناحية وإلىٰ تحديد المسئولية من ناحية أخرىٰ, وأصبح لزاماً أن يكون من مقاصد التشريع حفظ العقل والابتعاد عما يعطله أو ينحرف به عن جادة الفطرة.
ويأتي العامل الثاني متمثلاً في القدرة والاستطاعة كأساس لتحديد فعالية هذا النمو ـــ والقدرة تعني الإٍمكانية الذاتية. بينما تعني الإٍستطاعة الإٍمكانية الموقفية ـــ ومن هنا كانت النظرة إلىٰ الفروق الفردية نظرة مرنة داخل إطار ثابت من العلم والتقوىٰ, نحكم فيها علىٰ السلوك بما بدا لنا, وتفترض فيه حسن النية إلا ما كان سوؤه بواحاً ومجاهرة. كما أن ذلك العنصر يتسم بالدينامية التي لا تضع النمو الإٍنساني داخل علاقة ثابتة تتساوىٰ فيها المدخلات مع المخرجات, وإنما تهيئ له منبعاً ينمو بالتطبيق, ويعدل نفسه لإٍنسان وللفروق بين الأفراد التي لا تجعلهم متساوين في القدرات ولكنهم في الوقت ذاته لا يتفاضلون إلا بمعيار التقوىٰ الذي يزن الله به أفعال العباد. وهكذا تكون مسيرة النمو الإٍنساني مرتبطة بالخالق؛ الجهد البشري فيها يستتبعه مدد إلٰهي يعضده ولا ينقص من أجره.
أما العامل الثالث فهو يشكل البعد المعياري الذي يتحد مع البعدين السابقين فالكائن الإٍنساني كائن أخلاقي, خلق يحمل بذور الكمال, مهيأ للوظيفة التي خلقة الله لها, وهي عبادة الله من خلال إعمار الكون, وهذه الوظيفة تستلزم قدرات ومستويات نمائية مختلفة, والمعيار الذي يحدد هذه المستويات هو مدىٰ قربها أو إبتعادها عن الغاية, ولذا كانت المشروعية المتمثلة في الإٍلتزام بحدود الله هي التي تحدد هذه المسئولية. فتزايد القدرات المعرفية ليست نموّاً إن لم تكن في نطاق المشروعية. ونماء القدرة الجسمية وبال إذا لم تصبغها الصبغة الشرعية, والنمو الأخلاقي مفسدة أو ضرب من الظواهر النسبية إذا لم تحدده الضوابط المشروعة. تلك هي القيمة الأخلاقية الشرعية التي يجب أن تحل محل التأرجح بين الفلسفات المثالية أو النفعية النسبية أو الشك أو التجريد.
المفاهيم والمصطلحات :
تشكّل المفاهيم والمصطلحات مكونات الرؤية, سواء كانت نظرية أو عملية, وتنبع أهميتها فيما ترمز إليه وتقف مقابله من خبرات محددة أو تعريفات إجرائية, هذه المفاهيم تتشكل وتتحدد من خلال تراكم الخبرات وتفاعلها مع قدرة الأفراد في المجتمع ـــ أو الناطقين باللغة ـــ علىٰ التمييز والتعميم, ومن ثم تختلف مضامينها الفكرية ودلالاتها اللغوية طبقاً لإٍختلاف الخبرات واختلاف اللغات. وانتقال المفاهيم من لغة إلىٰ أخرىٰ يحمل معه مزالق إفتراض تطابق الخبرات أو تشابهها, وهو أمر نسبي. ونجد بين علماء المدخل الواحد واللغة الواحدة إصراراً علىٰ وضع تعريفات إجرائية لأي مصطلح ينوون إستخدامه حتىٰ يكوّنون بينهم لغة مشتركة, وقد يبرز اختلاف علماء النفس حول مفهوم الذكاء دليلاً علىٰ تباين الدلالة اللغوية والإٍجرائية لمصطلح واحد تختلف حوله عدة مدارس, وقد يصل الإٍختلاف إلىٰ مصطلح أساسي داخل المدرسة الواحدة, مثل إختلاف علماء النفس السلوكيين حول مفهوم التدعيم, ومن هذا يجب علىٰ أي رؤية جديدة أن تقدم لنفسها بتعريفات إجرائية للمفاهيم الشائعة, أو مجموعة من المفاهيم الجديدة المحددة.
وهذه المفاهيم هي التي تمد الدارس بالخطوط التي يسترشد بها في فهم طبيعة هذه الرؤية, ويتحقق بها وعي بموقعها من الجوانب المختلفة من العلم, والتوصل إليها يحتاج إلىٰ تعرف كامل علىٰ خطوات تكونها وظروف هذا التكون والأمثلة التجسيدية لها. «ونحن نطلب من الدارس أن يكون علىٰ وعي ذاتي بالمفاهيم التي أخذها مأخذ التسليم داخل الأطر ذات الفروع المتعددة والمتداخلة, وهو يتعلم ألا يربط بين هذه المفاهيم وبين التاريخ فحسب؛ وإنما بينها وبين الواقع المعاصر أيضاً .. فيكشف أولاً ما يقوله القرآن عن هذه المفاهيم وكيف قام النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بتجسيدها .. ثم يكتشف بعد ذلك ماذا قال مفكرو الإٍسلام والمتمعنين فيه عن هذه المفاهيم وكيف تم وضعها في صورة إجرائية في المجتمعات الإٍسلامية الأخرىٰ خلال التاريخ. وأخيراً يدرس كيف يمكن أن نستخدم أدوات وطرق البحث والدراسة المستخدمة في العلوم .. المعاصرة وفروع المعرفة الأخرىٰ لكي نحصل علىٰ فهم جديد لهذا المفاهيم وكيف يمكن أن تكون الأساس لنظرية معاصرة ترتبط بالإٍسلام»؛ (ساردار 1984 : 36/37). علىٰ أن يكون الدارس علىٰ علم ودراسة بقواعد انتقال مدلول المصطلح من المعنىٰ اللغوي إلىٰ المعنىٰ الاصطلاحي, حتىٰ لا يلتبس عليه الأمر.
والمفاهيم التي تتحدث عنها في إطار الرؤية الإٍسلامية لا تمثل دوائر منفصلة يستقل فيها كل مفهوم عن غُيره إستقلالاً طارداً ناقضاً, وإنما يستمد كل منها وجوده ودلالته من إرتباطه مع غيره في نسق الفكر الإٍسلامي العام. فالدين الإٍسلامي دين التوحيد والقرآن والسنة يحددات لنا نسق الإٍيمان والعبادة بمفهومها الإٍسلامي الذي يشمل كل ما يصدر عنا من حركة وسكون إبتغاء مرضاة الله ووجهه الكريم, ومن ثم فهو يحدد لنا مناسكنا, وتبصرنا لذاتنا, وأسلوب تعاملنا مع غيرنا كأفراد علىٰ إختلاف مواقعنا, وكل ذلك يترجم عقيدة التوحيد .. وهناك مفاهيم عامة تهيمن علىٰ المفاهيم الجزئية وتحدد نمط الإٍستدلال علىٰ الخصوص والعموم. كما أن هذه الرؤية لا تعتمد كلية علىٰ القياس المنطقي وإن كانت تستخدم في الدربة علىٰ التفكير المرتب والانتقال من المقدمات إلىٰ النتائج, ولكنها ترتكن أيضاً علىٰ الخبرة والتجربة العلمية أي علىٰ ما هو واقع فعلاً في الأعيان, وليس ما هو مقدر في الأذهان. كما أن تكون المفاهيم تحكمه الخبرة الثقافية, ومن الصعب أن نفصل بين الثقافة ومت يسري فيها من تيار ديني حتىٰ في أكثر المجتمعات إلحاداً «حتىٰ عندما يبدع الفنانون الكبار أعمالهم الرائعة وهو يبدون في انعزال تام عن أي عقيدة دينية, فإننا حين نمعن النظر في حياتهم أكثر وأكثر, نتبين وجود ما يمكن أن نسميه حسًاً دينياً», Read, 1972 : 83).
إنه من الخطأ أن نقتنع بنقل المفاهيم التي دارت في دراسات الغرب بثقافات المختلفة إلىٰ دراستنا لإٍختلاف مضمونها, وقد فطن سيجموند فرويد إلىٰ مثل هذا الخلط عندما إختار لنظريته في التحليل النفسي مصطلحات لاتينية تشير إلىٰ مفاهيم أراد لها أن تكون ذات تعريفات مستقلة عن التعريفات السائدة في عصره. وإذا ما أخذنا ذلك مثالاً علىٰ ما نقول مفهوم «الأنا» عند فرويد يختلف عن مفهوم النفس عند السلوكيين, وعلىٰ نفس المنوال فإنه من الخطأ أن ننظر إلىٰ مفاهيم وردت في نظرية فرويد حول «الأنا الدنيا» أو «الأنا» أو «الأنا العليا» علىٰ أساس أنها مترادفات لما ورد في كتاب الله عن «النفس الأمارة» أو «النفس المطمئنة» أو «النفس اللوامة» فتلك أوصاف مختلفة للنفس بحسب إختلاف أحوالهم, والنفس الإٍنسانية في مجملها تخضع للحق وتنقاد له وتقبله ممن قال وتسمع منه وليست جامعة للشهوات راغبة عن الخير تلجأ إلىٰ الحيل الدفاعية للخضوع إلىٰ قواعد المجتمع, أو أن قمة كمالها في إتساقها مع رغباتها أو مع رغبات المجتمع. ولن نسهب في بيان مفهوم النفس علىٰ أساس أنه قد سبقت الإٍشارة إليه في مكان آخر من هذا المقال.
وإذا كان النمو يشير إلىٰ حركة تطورية, فإن عملية التغير الكامنة فيه والتي يتعرض لها الكائن البشري يجب أن تكون هادفة إلىٰ تحقيق غاية معينة, وتتحد أطوار النمو ومراحله علىٰ أساس طبيعة الجهد الموصل إلىٰ هذه الغاية سواء كان هذا الجهد من جانب الفرد الرعية أو من جانب الراعي فرداً أو جماعة, ولذا ارتبطت كل مرحلة من مراحل النمو بحقوق وواجبات قد يجوز أن نعتبرها مطالب يشترك في تحقيقها الراعي و الرعية. ومن خلال هذا المنظور يمكن تقسيم مراحل النمو إستناداً إلىٰ مبدأ الرعاية المتمثل في الحضانة والتكليف, وكذلك فإن استمرار فعالية الرعاية يجعلنا ننظر إلىٰ النمو الإٍنساني المتمثل في نمو الفرد علىٰ أساس إكتمال الحياة منذ خَلْق آدم إلىٰ أن يرث الله الأرض من عليها, وعلىٰ هذا فإن مطالب النمو هذه يجب أن تمتد قبل مرحلة الإٍخصاب, وتمتد إلىٰ إراث الفرد ذريته. ومن ثم لا يمكننا أن نغفل مرحلة ما قبل الإٍخصاب, وأن تختلف نظرتنا إلىٰ المفاهيم المرتبطة بالإٍنجاب مثل الزواج والنكاح والحمل والنسل, وكذلك المفاهيم المرتبطة بالغايات والأهداف ومفاهيم الموت والحياة والوجود.
إن غاية النمو الإٍنساني هي وصول الفرد إلىٰ الوفاق مع منهج الله اللطيف الخبير الغني عن العالمين, ومن خلال هذا الوفاق يتحقق له الوفاق مع نفسه ومع غيره, وتتحق له الغاية من الوجود, وتنقلب حياته من حياة إستهلاكية إلىٰ حياة ممتدة باقية. كما يجب أن يكون ذلك النمو في إطار التوحيد فكل جوانب الإٍنسان تعمل في شكل تكاملي حتىٰ وإن كان لكل جانب منها إعتباراته الخاصة إلا أنها تترابط في وحدة مميزة تساهم في إعطاء معنىٰ للحياة ولا تنفصل فيها الغاية عن الوسيلة, ولا يُقاس فيها الناتج بالعائد الآني دون العائد الآجل. وكذلك فإن الفروق الفردية سواء كانت كمية في أبعادها أو نوعية, فإن هدفها التكامل وليس التفاضل وأن البحث في المساواة علىٰ أساس التطابق يلغي هدف الوجود ويجعل الأفراد نسخاً مكررة تنعدم معها الغاية من وجودها.
مناهج البحث ومجالاته ووسائله ودلالاته :
وقبل أن نتطرف إلىٰ الحديث عن مجالات البحث وأساليبه يجب أن نذكر الضمانات التي أقرها علماء المسلمين حتىٰ يكون البحث محموداً. ومن هذه الضمانات (غنيم, 1984 : 41 ـــ 86) :
1) حتمية إرتباط العلم الناتج من البحث بالدين فكلاهما مؤد لإٍصلاح الحياة, وانفصالهما يدل علىٰ فساد هذا العلم وبطلانه وعدم مسايرته للحق.
2) نفع نتائج البحث وعدم الإٍفساد به ووضوح الغاية منه, فالرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ كان يتعوذ من علم لا ينفع, وعدم الإٍفساد به يكمن في عدم استعماله في غير الوجه السليم.
3) الإٍبتعاد عن ولوج الأمور الغيبية التي اختص بها الله سبحانة وتعالىٰ, مثل علم الساعة وعلم الآجال.
4) الأمانة العلمية وضرورة توخي الصدق, فقد أمرنا الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ أن نتناصح في العلم وأن خيانة في العلم أشد من خيانة في المال. والأدلة علىٰ البعد عن الظن والاصرار علىٰ التيقن كثيرة.
5) الإٍلتزام بروح الشريعة والحفاظ علىٰ جوهر الدين الإٍسلامي فلا ننجرف في تيار التقليد, والعلم ضالتنا مالم يؤي معصية.
6) الابتعاد عن الغرور العلمي فهو معيار الجهالة, والدرجة الأولىٰ علىٰ سلم التدنّي.
7) إبتغاء وجه الله تعالىٰ وهي الموضوعية التي تقودها التقوىٰ.
8) إقتران العلم بالعمل وما يعني ذلك من وجوب التطبيق العلمي لما تؤدي إليه الأبحاث, فكل أمر لا ينبني عليه عمل هو من الخوض الذي نهينا عنه شرعاً. والعلم في الإٍسلام يُطلب به العمل, ويقول الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, «تعلموا فإذا علمتم فاعملوا ـــ تعلمو العلم وانتفعوا به ولا تتعلموه لتتجملوا به».
مناهج البحث :
يقصد بمناهج البحث المقاربات التي نستخدمها في التعامل مع الظاهرة المستهدفة, ولا تعترض الرؤية الإٍسلامية علىٰ أي من المقاربات السائدة في مجال الدراسة في ميدان العلوم الإٍنسانية إذا ما التزمت هذه المقاربات بالضوابط الشرعية, ويمكن أن نرىٰ ذلك فيما لجأ إليه السلف من تقسيمات لهذا الجانب من العلوم إلىٰ علم الرواية وعلم الدراية وعلم القياس والنظر, فعلم الرواية يشمل المنهج التاريخي والمنهج الوصفي, وعلم الدراية يشمل الدراسات الإٍمبريقية, والدراسات التجريبية, وعلم القياس والنظر يشمل الدراسات المقارنة والدراسات التحليلية.
مجالات البحث ووسائله ودلالاته :
العلم بكافة فروعه التخصصية سواء النظرية أو التطبيقية يتناول كل موجود, فنحن مأمورون بالنظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله في إطار الضمانات المعيارية التي أشرنا إليها سلفاً. وكل أداة يقرها الشرع مطلوبة لغايتها وكل دلالة تفسيرية تلتزم بالأصول الشرعية مقبولة. ولا خلاف أن أي خلل في المنهج البحثي قد يدل عليه انحراف في الدلالة المنبثقة من النتائج, ومن ثم فإن استخدام أدوات قياس مناسبة وصادقة ومستقرة أمر أساسي في تحقيق القسط وسلامة التقويم, كما أن اللجوء إلىٰ أساليب إحصائية مناسبة وسليمة يسهم في اتضاح الصورة والوصول إلىٰ نتائج محددة, ولكن الخلاف يكون دائماً حول دلالات البحث وتفسير نتائجه, وقد ظهرت دقة المفكرين الإٍسلاميين في هذا الفرع من مناهج البحث وفي تحديث مكنون الإٍستنباط وشروطه وتفصيل ضوابط الإٍستدلال وتعميم النتائج, وأعمل الأصوليون فكرهم في التوصل إلىٰ تحديد دقيق لضروب القياس ومسالك العلة وقوادحها وميّزوا بين قياس العلة وقياس الدلالة وقياس الشبه, حتىٰ أنه يجب علىٰ الباحث في مجال علم نفس النمو أن يتعرف علىٰ مناهجهم ومعاييرهم قبل إصدار الحكم أو سحب حكم الأصول علىٰ الفروع والتدقيق في بيان حدود الدراسات. ودراسة هذا الجانب من الفكر الإٍسلامي ترينا كيف وضع الفقهاء والمتكلمون المسلمون مناهج كاملة للتفسير والاستدلال لم تقتصر علىٰ بحث مناط الأحكام في الأصول وتخريجها وتنقيحها, وإنما أقاموا حججهم علىٰ الخبرة والتجربة العلمية التي تدل علىٰ الدراية الكاملة بأبعاد هذه الأساليب وحدودها, وفرقوا بين التلاحق السببي والتلازم في الوقوع والتلازم في التخلف والتلازم في التغيير (أنظر على سامي النشار 1965, محمد سليمان داود 1984) وعلىٰ هذا فإن عملية مناقشة لنتائج التي نهدف إليها تقوم علىٰ أسس قوية تحقق نتائج رصينة, بين النتائج وربما تحقق التناغم, أو معقولية التباين مع اختلاف التوجهات.
وهكذا يتضح أنه لا غبار علىٰ إستخدام وسائل البحث الواردة في معظم كتابات علم نفس النمو, وإقرار مناهج البحث العامة تحت مظلة الضمانات الشرعية المذكورة, وكذا بالنسبة للأساليب الإٍحصائية المتبعة في الوصول إلىٰ النتائج. ولكن الدلالات المرتبطة بتفسيرها قد تختلف في أمرين : أولهما وأهمهما اختلاف المسلمات والأصول, وثانيهما الدقة اللازمة التي أشار إليها الباحثون المسلمون.
المـراجــع
1 ـــ أبو الوفا الغنيمي التفتازاني : منهج إسلام في تدريس الفلسفة الأوربية الحديثة والمعاصرة في الجامعة. ـــ المسلم المعاصر س 5 ع 19 (يوليو 1979).
2 ـــ أبو حامد الغزالي : معيار العلم, تحقيق د. سليمان دنيا. ـــ القاهرة : دار المعارف, 1961.
3 ـــ أبو حامد الغزالي : إحياء علوم الدين ج 3 ـــ القاهرة لجنة نشر الثقافة الإٍسلامية, 1356 هـ.
4 ـــ إسماعيل راجي الفاروقي : أسلمة المعرفة, ترجمة عبد الوارث سعيد ـــ الكويت : دار البحوث العلمية, 1984.
5 ـــ جعفر الشيخ إدريس : التصور الإٍسلامي للإٍنسان أساس لفلسفة الإٍسلام التربوية ـــ المسلم المعاصر س 3 ع 12 (اكتوبر 1977).
6 ـــ حمدي حيا الله :أثر التفلسف في الفكر الإٍسلامي ط 1 ـــ القاهرة : مطبعة الجبلاوي, 1975.
7 ـــ حمدي حيا الله : الأخلاق ومعيارها بين الوضعية والدين ط 3 ـــ القاهرة : مطبعة الجبلاوي, 1978.
8 ـــ دي بور : تاريخ الفلسفة الإٍسلامية, ترجمة عبد الهادي أبو زيده ـــ القاهرة 1938.
9 ـــ سيد دسوقي حسن, محمود محمد : ثغرة في الطريق المسدود : دراسة في البعث الحضاري ـــ القاهرة : دار آفاق الغد, 1981.
10 ـــ ضياء الدين ساردار : مستقبل الدراسات الإٍسلامية ـــ ترجمة محمد رفقي عيسىٰ. المسلم المعاصر ـــ س 10 ع 39 (1984) ص 25 ـــ 39.
11 ـــ علي سامي النشار : مناهج البحث عند مفكري الإٍسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإٍسلامي ـــ القاهرة, 1965.
12 ـــ عيد الشمري : الأسس النظرية للتربية الإٍسلامية, الأمل بلومنجتون, انديانا ـــ الولايات المتحدة الأمريكية ع 122 (إبريل 1983).
13 ـــ كارم السيد غنيم : قضية العلم والمعرفة عند المسلمين. المسلم المعاصر. س 10 ـــ ع 39 (1984) ص 41 ـــ 86.
14 ـــ مالك بدري : علماء النفس المسلمون في حجر الضب. المسلم المعاصر. ع 14, 15, 16 (1978).
15 ـــ محمد سليمان داود : نظرية القياس الأصولي, منهج تجريبي إسلامي ـــ دراسة مقارنة ـــ الاسكندرية : دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع, 1984.
16 ـــ محمد عبد الله دراز : الأخلاق في القرآن ـــ ترجمة عبد الصبور شاهين. ـــ بيروت : مؤسسة الرسالة, 1973.
17 ـــ محمد عبد الله دراز : دراسات إسلامية ـــ الكويت : دار القبم, 1973.
18 ـــ محمد عودة, محمد رفقي عيسى : الطفولة والصبا ـــ الكويت : دار القلم, 1984.
19 ـــ مقداد يالجن : جوانب التربية العقلية والعلمية في الإٍسلام. المسلم المعاصر س 8 ع 31 (مايو 1982).
20 ـــ هنري برجسون : منبعا الأخلاق والدين, ترجمة سامي الدوربي, عبد الله عبد الدائم ط 2. بيروت : دار العلم للملايين, 1984.
21 ـــ وليم مكدوجل : الأخلاق والسلوك في الحياة, ترجمة جبران سليم ابراهيم ـــ القاهرة مكتبة مصر ـــ 1961.
22 ـــ يوسف القرضاوي : الخصائص العامة للإٍسلام ط 2. ـــ القاهرة : مكتبة وهبة, 1981.
-Bugental. J.F.T. The Challenge that is man. In J.F.T. Bugental (ed.) Challenges of humanistic psychology. N.Y.: Mc Graw. Hill. 1967.
– Kagan, J. E Moss, H.A. Birth tp maturlty, A study in Psychological Development. N.Y. Wiley, 1962.
– Muir, Sir William. The life of mohammd, Edinburgh : John Grant, 1923.
– Read, Herbert, The meaning of art. N.Y.: Praeger Publishers, 1972.