1 ـــ ظهور الفرق الإسلامية :
أ ـــ الخوارج :
إنتهىٰ الخلاف الذي نشب بين الإِمام علي رضي الله عنه وكرم اللّٰه وجهه وبين معاوية ابن أبي سفيان رضي اللّٰه عنه بقبول الإمام على التحكيم بعد معركة صفين, وتلا هذا ظهور أول فرقة تخرج علىٰ الأمة الإسلامية بأفكار ومبادئ وعقائد مخالفة لعقيدة الصحابة رضوان اللّٰه عليهم جميعاً.
وعُرفوا باخوارج, وتميزوت بتكفير مرتكب الكبيرة وقالوا بتخليده في النار, وكفـروا علياً ومعاوية ومن حارب معها, وقالوا : ليس من الضروري أن يحكم المسلمين إمام.
ب ـــ الشيعة :
مشأت الشيعة كـرد فعل لظهور الخوارج, فأوجبوا الإِمامة لعلي رضي اللّٰه عنه ولأبنائة ونسله وحرموها علىٰ من سواهم, وجعلوا مذهبهم هذا في الإِمامة ركناً من أركان الدين, كما أقروا بإيمان ركناً من أركان الدين, كما أقروا بإيمان مرتكب الكبيرة. قالوا بعدم خلوده في النار, مع وجوب إقامة الحد عليه في الدنيا.
وأولهم وأشهرهم الإِمامية والإِثنا عشرية والجعفرية. وهؤلاء اعتبرهم إبن تيمة من فئات المسلمين أو طوائف المسلمين. ولم يكفرهم, إلا أنهم ضلوا في بعض المسائل وإبتدعوا.
بيد أن ممن ينتمون إلىٰ الشيعة فرق أخرىٰكفرهم جمهور المسلمين, منهم الإِسماعيلية والنصيرية (العلوية) والدروز, كما انتمىٰ إليهم كثير من الباطنية.
ج ـــ المرجئة :
تلىٰ ظهور الخوارج والشيعة ظهور المرجئة كرد فعل للإِثنين, فرفضوا قول الخوارج والشيعة معاً في مرتكب الكبيرة, وقالوا نرجىْ الحكم عليه إلىٰ يوم القيامة, فليس من اختصاص العباد الحكم علىٰ العباد, وفصلوا بين الإِيمان والعمل, واعتبروا الإٍيمان إقراراً بالقلب فقط, أو قولاً باللسان, فالمؤمن مؤمن في نظرهم مها كانت أفعالة سيئة. كما أن الكافر كافر مها كانت أفعاله حيًّرة, أي أنهم قصروا الإيمان علىٰ الاقرار بالقلب.
د ـــ القدرية :
أثناء حكم بني أمية تفشت بين الناس ـــ مع انتشار المعاصي ـــ مقالة الجبريين الذين يعتذرون عن معاصيهم بالقدر, الأمر الذي كان له رد الفعل الذي حدا بمعبد الجُهني إلىٰ قول عبارته المشهورة «لا قدر والأمر أنُف», ونبعة آخرون, ثم تفشت مقالة القدرية بين كثير من المحدثين والتابعين في البصرة وغيرها, حتىٰ قيل إن الحس البصري إمام التابعين قال بهذه المقالة ثم رجع عنها, لكن الثابت أن المنكر للقدر مخالف لعقيدة السلف.
هـ ـــ الجهمية :
وإذا كانت القدرية قد نشأ كرد فعل لتفشّي القول بالجبر بين الناس في عهد بنى أمية, فأرادوا بقولهم إثبات المسئولية الإنسانية عن الأفعال الخلقية بإنكار القدر نفياً للجبر, فإن الجهمية نشأت كرد فعل للقدرية كإتجاه فكري علىٰ يد الجهم بن صفوان, الذي استخدم منهج التأويل العقلي للآيات القرآنية اتخداماً واسعاً, مما جعله يخرج علىٰ أكثر مبادئ الإسلام, وشذ عن الأمة في مفهوم آيات الصفات, فعطل مدلولات هذه الآيات الصفات, فعطل مدلولات هذه الآيات ونفىٰ أن يكون لله عو وجل صفات وصف بها نفسه.
ومما أعلنه الجهم أيضاً إنكاره للسمعيات والغيبيات مؤولاً لنصُوص الوحي في العيبيات تأويلاً معطلاً لمعانيها.
كما اعتبر الجهم الإٍنسان مسيراً ومجبراً جبراً مطلقاً حتىٰ علىٰ الأفعال التى يحاسب عليها. وهذا قول منكر لم يقل به أي من الفرق الأخرىٰ.
و ـــ المعتزلة :
مع احتدام الجدل وانصهار الفكر في العديد مع المسائل حول مفهوم الألوهية والإٍنسان في مدرسة البصرة, وبالجمع بين بعض آراء هذه الفرق السابقة ظهرت فرقة المعتزلة علىٰ يد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد, بمبادئ معتدلة نسبياً, ثم امتد وجود المعتزلة الفكرية ـــ مع المغالاة ــ في العالم الإسلامي, عدة قرون, ولازال تأثيرها قوياً بإعتبارها مدرسة الرأى في المسائل الإٍعتقادية, حتىٰ خروج الأشعري عليها الإٍعتقادية, حتىٰ حروج الأشعري عليها.
وتفرقت المعتزلة إلىٰ حوالي اثنين وعشرين فرقة كفرت الواحدة منهم الأخرىٰ, وظهر منهم الفلاسفة الذين تأثروا إلىٰ حد ما بالفكر اليوناني, وبسببهم ظهرت مشكلة خلق القرآن وتعذيب الإٍمام الجليل أحمد بن حنبل والإٍمام البخاري والإٍمام مسلم وغيرهم من الأئمة الأفاضل.
ز ـــ الأشعرية :
إنتهىٰ المطاف بعلم الكلام في العالم الإسلامي بنشأة الأشعرية.
وبالرغم من أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله قد خرج علىٰ الإٍعتزال وعاد إلىٰ عقيدة السلف المتمثلة في عقيدة الإٍمام أحمد بن حنبل رحمه اللّٰه تعالىٰ, إلا أن بعض الأتباع المنتسبين إليه ـــ أي إلىّ الأشعري كالباقلاني والجويني والغزالي ومن جاء بعده من أئمة الأشاعرة, حاولوا أن ينهجوا نهجاً وسطاً بين عقيدة السلف وأهل السنة والجماعة وهم أهل الحديث والفقهاء من ناحية وبين أهل الرأي وهم المعتزلة من ناحية أخرىٰ.
وانتشرت العقيدة الأشعرية في العالم الإٍسلامي بعدما تقلص بسببها نفوذ المعتزلة وظهرت تهافت آرائهم. ولازالت الأشعرية هي العقيدة التي يدين بها أكثر الملمين في أرجاء العالم الإٍسلامي حتىٰ اليوم. هذا بالرغم من مخالفة هذه العقيدة في بعض القضايا الإٍعتقادية لعقيدة السلف للسلف ويسميهم البعض الخلف.
ح ـــ الفلاسفة :
بدأت حركة الترجمة من اللغات الأعجمية إلىٰ اللغة العربية في العصر الأموي, وتوسعت في العصر العباسي وبخاصة خلال عهد المأمون حيث انتقل معظم التراث اليوناني المتمثل في الفلسقة اليونانية إلىٰ العربية, وكذلك نقلت بعض الكتب الهندية والفارسية.
وقد أدىٰ ذلك إلىٰ تتلمذ بعض المسلمين علىٰكتب أفلاطون وأرسطوا, واعتنقوا مبادئهم وعقائدهم, وقاموا بمحاولة «لأسلمتها» أي لإٍظهارها بالمظهر الذي يتفق مع مبادئ وعقائد الإٍسلام, رغم التناقض الواضح بين العقائد الوثنية اليونانية وبين عقيدة التوحيد الإٍسلامية الأمر الذي يجعل غاية هذه المحاولة مستحيلة وباطلة.
وهؤلاء عرفوا بالفلاسفة وأشهرهم الكندي والفارابي وابن سينا وابن مسكويه وإخوان الصفا وابن رشد, وقد ثبت صلة بعضهم بالباطنين الذين يعادون الإٍسلام في الحقيقة ويظهرون الإٍنتساب إليه في العلن.
وقد استفحل أمرهم وعمت فتنتهم حتىٰ جاء الإٍمام الغزالي فهاجمهم هجوماً شديداً وكفرهم متبعاً في هذا الحكم سائر جمهور علماء المسلمين, فأثر علىٰ مركزهم وسمعتهم تأثيراً عظيماً بين أرجاء العالم الإٍسلامي حتىٰ اليوم.
ط ــ الصوفية :
كان من أثر فتح اللّٰه عز وجل الدنيا علىٰ المسلمين تدفق الأموال علىٰ الشام والحجاز والعراق وإندفاع بعض الناس إلىٰ الترف والإسـراف في اللهو والشهوات, مما كان له رد فعل عنيف عند بعض الصالحين, فدفعهم ورعهم إلىٰ الإٍتجاه بشدة إلىٰ الزهد والإٍقلال من شأن الدنيا حرصاً علىٰ الآخرة.
ثم بدأت حركة الزهد تتطور حيث لتجهت إتجاهاً فكرياً لتفسير الزهد وتبرير وتفسير وجود الإٍنسان والهدف من حياته من وجهة نظر اعتنقها الزهاد. ثم أصبح الزهد تصوفاً والزهاد صوفية.
وقد بدأ التصوف في أول عهده علىٰ يد الشيوخ الأوائل غير مخالف مخالفة واضحة صريحة لمبادئ الإٍسلام, حيث التزموا منهج السلف وعقيدتهم وطريقتهم, ولكنه تتطور بعد ذلك بتأثير الثقافات والديانات الهندية واليونانية وبفعل الأهواء إلىٰ الامتزاج بالفلسفات والزندقات الوثنية وديانات الشرك, وظهر التصوف الفلسفي الإٍلحادي نتيجة لهذا كله ـــ متمثلاً في مذهبي الحلول للحلاج ووحدة الوجود لابن عربي ومن تبعهما.
كما انتشرت بين المسلمين عن طريق التصوف المفاهيم الضالة التي كان لها أثرها السئ علىٰ التقدم الحضاري ببمجتمعات الإٍسلامية, كإبطال السنن بإسم الكرامات وإبطال التكليف والتواكل وترك التعليم وغير هذا من أباطيل التصوف التي كانت أحد عوامل الجمود الحضاري في تاريخ الأمة الإٍسلامية.
ومما لا شك فيه أن الطرق الصوفية وانتشارها في العالم الإٍسلامي حتىٰ اليوم من الأسباب الرئيسية لتخلفه وضعفه.
ي ـــ الباطنية :
الباطنيون فئة أرادوا تحريف القرآن والسنّة بالمعنىٰ, بعد أن عجزوا عن تحريف القرآن باللفظ والكلمة, فقالوا إن القرآن ظاهراً وباطناً, وأن الظاهر المعلوم بمقتضىٰ دلالات وقواعد اللغة العربية موجة إلىٰ العامة, أما الباطن فهو الموجه إلىٰ الخاصة أي أذكياء الناس كالفلاسفة وشيوخ الصوفية وغيرهم.
ومن ثم فسروا آيات القرآن الكريم تفسيرات باطنية لا علاقة لها بكلمات الآيات وجملها علىٰ الاطلاق, لا علاقة لغوية, ولا علاقة عقلية أو منطقية من قريب أو بعيد.
ولقد تكالبت الفئات والفرق المغالبية من الاتجاهات السابق ذكرها علىٰ هذا النهج المنحرف الضال في تفسير نصوص الوحي, فكفروا كفراً بواجاً.
وكان أكثر الباطنيين من غلاة الشيعة الفلاسفة وملاحجه الصوفية من أصحاب وحدة الوجود والحلول.
وأشهر الفرق الباطنية القديمة هي الإٍسماعيلية والنصيرية والدروز.
وتمثل الحديث منها في القادانية والبابية والبهائية وهؤلاء جميعاً كافرون بإجماع جمهور علماء الإٍسلام. كذلك ظهرت الأليجية والفرهخاتية والفوبية (جمعية أنصار اللّٰه) كفرق باطنية معاصرة كافرة تنسب نفسها للإٍسلام في الولايات المتحدة الامريكية(1).
2 ـــ السلف (أهل السنة والجماعة)
يضيق المجال هنا عن تحديد المفهوم التاريخي للسلف وحصرهم لما ثار حول هذا المفهوم من تنازع حيث حاولت كل فرقة من الفرق السابقة أن تنتسب إليهم أو تتسمىٰبإسم أهل السنة والجماعة أو تدعي إتباعها للسلف, أو علىٰالأقل أن تثبت التوافق معهم منهجياً وعقدياً, وذلك حرصاً منهم علىٰإثبات مذاهبهم وإحقاق مناهجهم.
فهم جميعاً يحاولون جاهدين اعتبار القرآن الكريم والسنة أصلا لمذاهبهم, بل إن معظم الفرق قد أعلنت صراحة أن الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ هو إمامهم دون غيرهم, وأنهم متبعون لا مبتدعون.
فهو عند الصوفية الصوفيّ الأول في الإسلام, وكذلك بجعل المعتزلة الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة علىٰرأس طبقاتهم. والأشاعرة يسمون أنفسهم الخلف بإعتبار أنهم الذين خلفوا السلف في اعتقاداتهم.
أما الفلاسفة فيزعمون أنهم الفئة الوحيدة القادرة علىٰفهم القرآن والسنة ومعرفة الحكمة الإٍلٰهية معرفة يعجز عن إدراكها أصحاب المناهج الأخرىٰ.
أما القدرية, فقد رفضوا أن يطلق عليهم هذا الإٍسم حيت ورد (القدرية مجوس هذه الأمة) فقالوا إن اسم القدرية يجب أن يكون علماً علىٰالذين يحتجون عن معاصيهم بالقدر لا الذين يرفضون الإٍحتجاج به وينكرونه. ومن ثم فقد أطلق الإٍسم أيضاً علىٰالجبريين. ويزعم القدريون أنهم علىٰمنهج الصحابة والتابعين لأنهم لم يحتجوا بالقدر.
وكذلك نجد المعتزلة قد أضطروا إلىٰقبول الإٍسم بعد شيوعه, ولكنهم أوًّلوا التسمية حتىٰلا يصبحوا معتزلين من قبل الأمة أو الجماعة. فسموا أنفسهم معتزلة (بكسر الزاي) بينما يسميهم خصومهم معتزَلة (بفتح الزاي) وزعموا أنهم اعتزلوا الباطل والمعاصي والإنحرافات العقيدية التي تفشت بين الفرق الأخرىٰبعد جيل السلف.
وهكذا نرىٰأنه بينما كانت الحرب سجالاً بين معظم الفرق بهدف الإٍنتساب إلىٰالسلف أو إدعاء كل فرقة أنها تمثل أهل السنة والجماعة, نجد محاولة تنصّل بعض الفرق من الأسماء التي شاعت عليها, والتي تدل علىٰخروجهم عن أهل السنة والجماعة ومنهج السلف.
ومن ثم يبدو أن تحديد مفهوم للسلف أمر صعب حيث لم تتفق عليه الفرق, وحيث حاولت كل فرقة منهم أن تكون هي صاحبة الإٍسـم دون غيرها لتصبح هي الفرقة الناجية من النار إستناداً إلىٰحديث الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ.
والمشاكل الفكرية التي نجمت عن ظهور الفرق والتي كانت موضوعاً بينهم للنزاع (مشكلة الإٍمامة ـــ مرتكب الكبيرة ـــ القضاء والقدر ـــ فهم آيات صفات اللّٰه تعالىٰـــ خلق القرآن ـــ رؤية اللّٰه عز وجل في الآخرة .. وغير ذلك من المسائل المثارة) لم تبحث كما هو معروف في عهد الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ ولا في عهد الصحابة فكرياً, ذلك ترف عقلي, وعمل فكري نظري ليس من ورائه فائدة عملية ترجىٰللأمة الإٍسلامية, بل إن أثره مدمًر لوحدة الأمة الإٍسلامية وقوتها, ولصالح البشرية عموماً, وقد أغنىٰعنه جهاد الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ والصحابة لبناء المجتمع الإٍسلامي في العهد النبوي, هذا الجهاد العظيم الذي كانت نتيجته تحقيق السعادة والعدالة والخير العميم للعرب وللمسلمين في واقع الحياة البشرية.
كما أغنىٰعنه أيضاً توجيه الجهود في عهد الخلفاء الراشدين لنشر النور والعدل والخير العميم بين سائر الشعوب الأخرىٰ.
ولكن إذا كان من المسلّم به من كل الفرق والإٍتجاهات أن منهج الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ في فهم حقائق القرآن وسوره وآياته والتعامل معه بتطبيق أحكامه ومعرفة مفاهيمه وحقائقه الربانية هو المنهج الصحيح, فلاشك أن الفرقة الفكرية التي التزمت هذا المنهج بكل دقة وأمانة, وتعاملت مع القرآن الكريم والسنة الصحيحة كتعامل الصحابة معهما دراسة وتطبيقاً, لاشك أن هذه الفرقة, هي الأجدر بالتسمية والإنتساب إلىٰالسلف وهي الأحق بالتفرد بالنجاة دون سواها.
كما يمكن القول أيضاً أن أية فرقة سواها أو أي مذهب أو أي إتجاه أو منهج فكري إنما يقلاب من الحقيقة الإسلامية أو يبعد بمدىٰقربه أو بعده عن المصدر الصحيح والمنهج الصريح, فيصيب بقدر قربه منه ويخطئ بقدر بعده عنه, ذلٰك هو المقياس الإٍسلامي الحق.
ومن ثم يمكن القول أن السلفيين أو أهل السنة والجماعة في الفكر الإٍسلامي هم الصحابة ثم التابعون ثم تابعو التابعين ثم المحدثون الذين جعلوا همهم التحقق من صحة الأحاديث ثم الفقهاء وهؤلاء جميعاً هم الذين وقفوا في وجه سائر الفرق الأخرىٰمتهمين إياهم بالابتداع مقتصرين علىٰالإٍتباع.
3 ـــ التعليل التاريخي لنشوء الفرق في العالم الإٍسلامي :
سلك المعللون لنشوء الفرق في الإٍسلام مسالك شتىٰ, ونهجوا مناهج مختلفة, كل حسب مذهبه وإتجاهه. فثمة إتجاه يرجع هذا الحدث التاريخي الخطير في حياة الأمية الإٍسلامية إلىٰالنزاعات السياسية التي نجمت بين المسلمين في الصدر الأول, والتي بدأت بالنزاع بين الإٍمام علي كرم اللّٰه وجهه ورضىٰاللّٰه عنه وبين معاوية بن أبي سفيان رضي اللّٰه عنه, حيث انتهىٰهذا الخلاف بين الفريقين إلىٰظهور فرقتيْ الخوارج والشيعة كفرقتين سياسيتين, ثم تلا هذا خلاف حول بعض الأمور الإٍعتقادية والمسائل الإٍيمانية, في محاولة من مفكري الفرقتين تبرير أفكارهما وعقائدهما التي خالفوا بها الأمة الإٍسلامية.
وثمة إتجاه آخر يعلل نشوء الفرق بالعصبية القبلية أو التنافس بين بني هاشم وبنى أمية ثم بالعصبية القومية بين القوميات الإٍسلامية المختلفة كالتنافس بين الفرس والعرب وغيرهم, مما كان له الأثر الواضح في سير الأحداث التاريخية للأمة الإٍسلامية بعامة, كما كان للثقافات والحضارات والأديان التى هزمها وغزاها الإٍسلام والمسلمون تأثير واضح في نشوء الفرق.
كما يعلل البعض نشوء الفرق بطبيعة الفكر البشري التي من شأنها أن تلح بحثاً عن إجابات مرضية للنفس البشرية في مسائل الإٍعتقاد مما يكون من شأن البحث الفكري والإختلاف, ويدلل علىٰهذا بحدوث هذه الفرق في الأمم الأخرىٰ.
ويحاول آخرون من المستشرقين تصوير نشوء الفرق الكلامية والفلسفية في الإٍسلام بمظهر الثراء الفكريّ والتراث الغنيّ الذي يجب أن تفتخر به الأمة الإٍسلامية. فيصرحون بأن نتاج الفرق الفكري هو مظهر الإٍبداع الفكري والفلسفي عند المسلمين, وقد يظهر بعضهم منكراً أن في علم الكلام وتراث الفرق أدنىٰإبداع فكري أو فلسفي حتىٰيتحمس بعض أبناء الإٍسلام للرد عليه وإثبات عظمة التراث الفكري للفرق وللمتكلمين كإبداع حضاري للعرب وللمسلمين, فيتحقق بذلك هدف هؤلاء المستشرقين الخبثاء, وهو تنتول الدارسين من أبناء الإٍسلام في العصر الحديث لهذا القسم من التراث الإٍسلامي علىٰأنة مفخرة يجب أن نبرزه ونحرص عليه ونردده ونعيش عليه بإعتباره إسهاماً من المسلمين في إنماء الحضارة الإٍنسانية بعامة.
من هؤلاء المستشرقين الخبثاء المستشرق اليهودي إرنست رينان الذي يتهم العقلية العربية بالعجز عن إنتاج هذا التراث الذي يراه البعض إنجازاً عظمياً من إنجازات الأمة الإٍسلامية, ويرد هذا اليهودي علم الكلام وفكر الفرق بطريقة أو بـأخرىٰإلىٰاليهودية وإلىٰالمسيحية وإلىٰالفلسفة اليونانية, بحجة أن العرب لا يملكون العقلية الفلسفية القادرة علىٰإنتاج مثل علم الكلام, ومن ثم يعلل نشوء الفرق وخاصة الكلامية منها بتأثير خارجي من الأمم السابقة, مما يدفع كثيراً من المسلمين للرد عليه لإٍثبات الأصالة وبهذا يغفلون عن القضة الأساسية وهي أن علم الكلام والفرق كان إنحرافاً عن عقيدة السلف.
وأخيراً نجد محاولات من بعض الذين يؤمنون بالمادية الجدلية كتفسير للتاريخ, لتعليل نشوء الفرق في الإٍسلام بالعامل الإٍقتصادي واعتبار العوامل الأخرىٰجانبية أو ثانوية, فيفسرون مقتل عثمان بإعتباره ثورة برولتيارية علىٰالحكم الرأسمالي, كما يفسرون الخلاف بين الإمام علي ومعاوية رضي اللّٰه عنهما بأنه كان صراعاً طبقياً بين الفقراء والأغنياء. ومن ثم يصبغون الفرق بالصبغة الطبقية, ويفسرون ظهور الفرق بالصراع بين الطبقات.
4 ـــ الموضوعية في تفسير التاريخ :
وقبل أن نمحص هذه الإٍتجاهات لنرى أوجه الصواب والخطأ في كل منها, تمهيداً لإٍثبات الأسباب الحقيقية لنشأة الفرق يجب أن نوضح حقيقة هامة من حقائق تدوين التاريخ وتعليله وهي أنه : «قد يقوم الباحث ببحثه وهو مشبع بفكرة معينة من موضوع ما أو من اتجاه ما في النواحي السياسية أو الإٍقتصادية أو العسكرية أو الدينية, وتسيطر عليه الفكرة سيطرة كاملة فإذا هو يدرس ويكتب تحت تأثيرها, فيخرج بحثه ترجمة لهواه الشخصي, وليس ترجمة لما جاء في النصوص والأصول والآثار, لأنه يرفض تلقائياً كل ما يتعارض مع الفكرة التى تسلطت عليه, والنتيجة أن الباحث قد يظن أنه يضع تفسيراً جديداً للنصوص أو للأصول بينما هو في الحقيقة يخضعها لفكرته الخاصة»(2)قتفسير التاريخ من خلال فكرة معينة مسبقة تفسير خاطئ يتنافىٰ مع المنهج العلمي الصحيح القائم علىٰ الموضوعية, لكن إنطلاق التفسير التاريخي من عقيدة خاصة أمر لابد منه, إذ أنه يستحيل أن يوجه مفكر أو مؤرخ إلا ويعتقد بعقيدة ما, حتىٰ ولو كانت مادية, ولذلك نقول أن تحقيق الموضوعية بالمعنىٰ المطلق في العلوم الإٍنسانية ومنها التاريخ أمر مستحيل, ولكنه ممكن جزئياً ونسبياً.
كما نجد هذه القاعدة المنهجية لباحث أمريكي يستعرض في كتابه (التاريخ وكيف يفسرونه) مناهج وأساليب المؤرخين وفلاسفة التاريخ في معالجة الأحداث التاريخية وتعليلها, قديماً وحديثاً, وانتهىٰ إلىٰ أن التعليل بعامل واحد أو بعاملين فقط, وهو منهج المؤرخين قديماً وحتىٰ القرن الماضي, قد أصبح مرفوصاً من أكثر المؤرخين وفلاسفة التاريخ, حيث أتجهوا إلىٰ المنهج التوليفي في تفسير التاريخ, وهو يقوم على تعليل الحادثة التاريخية بالنظر إلىٰ كل العوامل الثقافية والحضارية والروحية والمادية التى تحكم الأحداث التاريخية, دون تخصيص عامل واحد منها أو إبرازه علىٰ سائر العوامل, وكذلك دون إهمال عامل منها مهما كان ثانوياً أو غير مباشر.
ويعتبر عمل المؤرخ الرئيسي هو تعليل أحداث التاريخ بعد جمع وقائعه وتسجيل أحداثه, وبالرغم من إختلاف فلاسفة التاريخ حول مفهوم التعليل التاريخي ومناهجه, إلا أن الرأي السائد حديثاً بينهم حول تعليل الحادثة التاريخية يدور حول استبعاد تصور سابق بعينه, كعلة وحيدة لحادص معين بمعنىٰأنه يصعب ـــ إن لم يكن يستحيل ـــ تحديد حدث واحد سابق كعلة واحدة لحدث لاحق.
فالحدث الواحد له سوابق عديدة من الأحداث التاريخية التي يمكن إعتبارها جميعاً عللاً حقيقية لوقوع ذلك الحدث. وإن كانت هذه العلل تختلف من حيث كون بعضها أسباباً رئيسية, والأخرىٰأسباباً مباشرة, والثالثة تدخل تحت ما يمكن تسميته بالفرص المواتية, أو بالعوامل المساعدة, والرتبعة يمكن تسميتها بالأسباب البعيدة أو جذور الحوادث.
ومثال ذلك نشوب الحرب العالمية الأولىٰبسبب رصاصة قتلت أرشيدوق النمسا عام 1914م, حيث من الخطأ القول أن مقتل إنسان ما مهما كأن شأنه ومكانه يسبب حرباً عالمية. ولأن تحليل المؤرخين للأحداث التاريخية والأوضاع السياسية والنظم والمعاملات الإٍقتصادية والدولية في العالم إبان نشوب هذه الحرب, كل هذا يؤكد وجود جذور عميقة لها وأسباب حقيقية أدت إلىٰنشوبها, تكمن في النظام والأوضاع والأحوال والعلاقات والصراعات السياسية والقومية والإقتصادية, وكلها تجعل المؤرخ علىٰيقين بأن الحرب كانت ستنشب حتماً, لإن لم يكن بسبب مقتل الأؤشيدوق كعلة مباشرة, فستكون بسبب مباشر آخر.
وإذا كان لابد أن نأخذ بهذا المنهج حتىٰيكون تعليلنا لنشوء الفرق في تاريخ الإٍسلام علمياً وموضوعياً, وإذا كان لابد لمفسر التاريخ أن ينطلق من وجهة نظر معينة وبحسب أصول اعتقادية خاصة, فإنه من الأولىٰأن يكون تفسير تاريخ الإٍسلام لها جميعاً.
ومن ثم بناء علىٰهذا وذاك يجب علينا أن نضع في إعتبارنا الحقائق الإٍنسانية والمبادئ الإٍسلامية الآتية :
الإٍسلام ـــ وهو آخر الرسالات الإٍلهٰية إلىٰالناس ـــ شأنه كشأن الرسالات الإٍلهٰية الصحيحة التي سبقته من لدن آدم ونوح حتىٰ موسىٰوعيسىٰعليهم جميعاً وعلىٰخاتمهم الصلاة والسلام, أنزله اللّٰه سبحانه وتعالىٰلإٍقامة المجتمع الإِسلامي الذي تقوم نظمه الإٍجتماعية والسياسية والإٍقتصادية والتربوية والخلقية علىٰعقيدة التوحيد.
ومن ثم يصبح هذا المجتمع ـــ بمجرد قيامه ـــ سواء قام في حجم القرية ـــ كمجتمع المدينة المنورة بعد الهجرة مباشرة ـــ أم كان في حجم الدولة التي كادت مساحتها تغطي شبه الجزيرة العربية في آخر العهد النبوي, أم في حجم الدولة العالمية, كما كان الحال في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه, ومن جاء بعده حتىٰعصر الخلافة العثمانية … نقول يصبح هذا المجتمع هو الأمة الإٍسلامية سواء كان جنينا أو وليداً, صغيراً أم عملاقاً, فالأمة الإٍسلامية أمة واحدة, والمسلمون علىٰإختلاف أجناسهم وقومياتهم وألوانهم وأوطانهم ـــ إخوة يكوّنون أمة واحدة.
يخبرنا ربنا عز وجل. عن هذه الحقيقة الهامة في حياة المسلمين بقوله سبحانه وتعالىٰ}إنْ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون{(الأنبياء : 92). وقال تعالى أيضا }وَإنُّ هذِه أُمَّتكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{(المؤمنون : 52).
فربط سبحانه وتعالىٰبين وحدة الأمة وتوحيد الربوبية وإفراد اللّٰه بالعبادة لما بينهما من علاقة وطيدة ورباط وثيق. حيث تنبثق وحدة الأمة من التوحيد وتقوم عليه.
فوحدة الأمة الإٍسلامية الأساسية, مبدأ هام من مبادئ الإٍسلام الأساسية, وضياع هذه الوحدة أو تفتيتها والعمل على نقضها وتقسيم الأمة الإٍسلامية إنما هو نقض لأهم مبادئ الإسلام, وحرب علىٰالمجتمع الإٍسلامي وهدم لبنائه الإٍجتماعي ودليل علىٰفساد العقيدة, ومخالفة صريحة للتوحيد.
لذلك نصت الشريعة الإٍسلامية علىٰقتل الخارج علىٰالجماعة الإٍسلامية, الساعي لتفتيت وحدتها.
ب ـــ واحدية الأمة الإٍسلامية :
كذلك تثبت الآية الكريمة السابقة واحدية الأمة كما تثبت وحدتها, فالوحدة تعني وجوب المحافظة علىٰوحدة الأمة الإٍسلامية في ذاتها فلا يجوز أن تنقسم أو تتصارع فيما بينها. أما الواحدية فتعني أنها أمة واحدة لا تتعدد في مواجهة أمم الباطل المتعددة.
وأساس الواحدية. يكمن في أنها أمة الحق, والحق واحد لا يتعدد, لأن الحق في كل قضية واحد بينما الباطل في القضية الواحدة كثير ومتعدد قال تعالىٰ}فذلكم اللّٰه رَبُّكُمْ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقَّ إلاّ الضَّلالُ, فَأنى تُصْرَفُونَ{(يونس : 32).
ومن ثم كان الصراط المستقيم واحداً بينما السبل متعددة ومختلفة ومعوجة, وكلها تتصف بالباطل والضلال.
والإٍنسان حين يتبع الحق لا يجد أمامه إلا سبيلاً واحداً هو السرلط المستقيم. بينما يجد حن ينحرف عن الحق ويبتغي الباطل العديد من الطرق والسبل والمناهج والأديان.
وهذا المبدأ هام في قضية الصراع بين الإٍسلام وبين ما سواه من الأديان والمناهج في الأرض حيث أنها جميعاً يمكن أن تتحد مع بعضها أو يتحد بعضها مع بعض ضد الإٍسلام وأهله, ولكن مبدأ الواحدية الذي يعني أن المسلمين هم وحدهم أهل الحق وعلىٰالحق يستلزم عدم جواز إتحادهم مع أي أمة من أمم الباطل في الصراع بين الحق والباطل.
ج ـــ الصراع بين الأمة الإٍسلامية (أمة الحق) وسائر الأمم الأخرىٰ(أهل الباطل) :
العلاقة بين الأمة الإٍسلامية وغيرها من الأمم غير الإٍسلامية علاقة صراع وحرب دائمة. دائبة لا تفتر ولا تلين ولا تتوقف, وذلك منذ بدء الخليقة إلىٰ يوم القيامة. لأنه في الحقيقة صراع بين الحق والباطل : بين الحق متمثل في حزب اللّٰه عز وجل أي في الأمة الإٍسلامية, والباطل متمثل في حزب الشيطان, أي كل ما سوىٰأمة الإٍسلام من الأمم الأخرىٰ.
وهذا الصراع يأخذ جميع أشكال الحروب والصراعات والمنافسات التي يمكن أن تقوم بين الناس في الأرض : الفكرية والإٍعتقادية والإٍعلامية والأدبية والنفسية والإٍقتصادية والسياسية والعسكرية.
وقد شاء اللّٰه أن يختلف إلىٰحزبين : حزب اللّٰه عز وجل وحزب الشيطان, وقد شاء اللّٰه عز وجل أيضاً أن يتصارع الحزبان حتىٰقيام الساعة قال تعالىٰ}وَلَوْ شَاءَ رَيُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحَدةً وَلاَ يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ{(هود : 118 ـــ 119).
وهكذا يبين اللّٰه عز وجل أن هذا الصراع الذي فرق الناس إلىٰ أمم هو الحكمة القريبة التي من أجلها خلق اللّٰه الخلق فقال }وَلِذّلِكَ خَلَقَهُمْ{أما الحكمة النهائية التي من أجلها شاء الله هذا الصراع فهى ما يخبرنا عنه ربنا عز وجل بقوله }وَهُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاَواتِ وَالأرْضَ في سِتًةِ أياّمٍ وَكانَ عَرْشُةُ عَلىٰ الماَءِ لِيَبْلوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً{(هود : 7).
فهذا الصراع ليس مراداً لذاته, ولكن شاءه الله تعالىٰلكي يبتلي العباد ويستبين موقف كل منهم من الحق ويتحدد مكانه من الصراع ودوره في النزاع فيميز الخبيث من الطيب, ويستبين المؤمن من الكافر ومن المنافق ومن ثم تقوم الحجة علىٰكل إنسان ويتحدد مصيره الأخروي, لأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان للناس. وهذا الابتلاء إنما يتمثل أعظم ما يتمثل ويتحقق أجلىٰ ما يتحقق في الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل بجميع أشكاله وصوره بعامة, وفي الصراع العسكري أو الحروب بخاصة قال تعالىٰ}ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ* فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ{(محمد : 3 ـــ 4).
د ـــ ثبات السـنن التاريخية :
والحقيقة الثالثة التي نود الإٍشارة إليها هنا هي أنه ـــ كما أن القوانين والنواميس والسنن التي يسير عليها الكون المخلوق ثابتة ودائمة مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء الله تعالىٰــ فإن الله سبحانه شاء أيضا أن تكون السنن التى تحكم وتوجه وتضبط سير الأحداث البشرية, والنواميس التي يسير بحسبها التاريخ البشري أيضاً ثابتة فنفىٰالله سبحانه عنها التغيير والتبديل بقوله تعالىٰ}فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَتَ الأَوَّلينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا{(فاطر : 43).
وقال تعالىٰ أيضاً }سُنَّهَّ اللهِ فِي الَّذِيِنَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا{(الأحزاب : 62). ومعنىٰهذا أن التغير الذي يصيب الناس في أحوالهم خلالهم خلال أعمارهم كأفراد أو كمجتمعات أو كأمم إنما هو محكوم بسنن ثابتة, وليس تغييراً خاضعاً للصدفة وللعشوائية, وحاشا لله أن يكون في الكون مكان أو مجال للصدفة أو العشوائية.
ومن ثم إذا واجه العقل البشري مشكلات فكرية معينة بدون الإٍسترشاد بالوحي فإنه يسلك حيالها سبلاً محددة, أو مناهج رئيسية هي هي بعينها التي يسلكها في أية حضارة أو أي زمان أو أية بيئة.
وك1لك إذا حاول الناس أن يبحثوا في مشكلات وقضايا محددة يثيرونها حول آيات من كتابهم السماوي المنزل فإنهم يسلكون أيضاً مناهج محددة وسبلاً هي هي التي سلكها أهل الكتب من قبلهم.
قال رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر, وذراعاً بذراع حتىٰ لو دخلوا حجر ضب لتبعتموهم, قلنا : يا رسول الله؛ اليهود والنصارىٰ ؟ قال : فمن ؟ » أخرجه البخاري ومسلم(3).
وعن أبي هريرة أن رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ قال «لا تقوم الساعة حتىٰ تأخذ أمتي مأخذ القرُون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع. قيل له : يارسول الله, كفارس والروم ؟ قال : كَنْ الناس إلا أولئك» أخرجه البخاري(4).
وعن أبي اقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ «لما خرج إلىٰ غزَوة حنين مرّ بشجرة للمشركين كانوا يعقلون عليها أسلحتهم, يقال لها ذات أنواط, فقالوا : يارسول الله, آجعل لنا ذات أنواط, كما لهم ذات أنواط, فقال رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسـلم ـــ : سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسىٰ : آجعل لنا إلهٰا كما لهم آلهو, والذي نفسي بيده : لتركبن سنن من كان قبلكم» أخرجه الترمذي(5).
ومن ثم فإن اختلاف الناس إلىٰ أمم وملل ونحل متصارعة, أمة واحدة منهم على الحق والباقي علىٰ الباطل, من السنن الجارية في تاريخ البشرية.
وكذلك إختلاف أمة الحق وتفرقها إلىٰ فرقة, فرقة واحدة منها علىٰ الحق والباقي علىٰ البدع والبعد عن الحق بدرجات متفاوتة, هو أيضاً من السنن الجارية في تاريخ البشرية بالنسبة لأهل الكتب السماوية. فكما تفرقت اليهود بعد أن جاءتهم البينة من ربهم تفرقت أيضاً النصارىٰ, وكذلك حدث بالنسبة للمسلمين, كما أخبر بذلك الصادق المصدق ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, بقوله فيما يرويه معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه, قال : قام فينا رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ فقال «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب إفترقوا علىٰ ثنتين وسبعين ملة, وإن هذه الأمة ستفترق علىٰ ثلاث وسبعين, ثنتان وسبعون في النار, وواحدة في الجنة, وهي الجماعة» زاد في رواية «وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارىٰ بهم الأهواء, كما يتجارىٰ الكلبُ بصاحبه, لا يبقىٰ منه عرق ولا مفصل إلا دخله» أخرجه أبو داود(6).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ قال «تفرقت اليهود علىٰ إحدىٰ وسبعين فرقة, أو اثنتين وسبعين, والنصارىٰ مثل ذلك, وستفترق أمتي علىٰ ثلاث وسبعين فرقة» أخرجه الترمذي(7).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ «ليأتين علىٰ أمتي ما أتىٰ علىٰ بني إسرائيل حذو النعل بالنعل, حتىٰ إن كان منهم من أتىٰ أمة علانية, ليكونن في أمتي من يصنع ذلك, وإن بني إسرائيل تفرقت علىٰ ثنتين وسبعين ملة, وستفترق أمتي علىٰ ثلاث وسبعين ملة, كلها في النار إلا ملة واحدة, قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : من كان علىٰ ما أنا عليه وأصحابي» أخرجه الترمذي(8).
هــ ـــ صراع العقائد أو الحرب الفكرية :
يمكن القول ـــ بناء علىٰ ما تقدم, وبناء علىٰ حقيقة الصراع ـــ أن الصراع بين أمة الإٍسلام وأمم الباطل يكاد يأخذ نفس الخطوط العريضة في سيره سواء كان ذلك بين أمة الإٍسلام بقيادة سيدنا نوح, أم بقيادة سيدنا موسىٰ, أم بقيادة سيدنا محمد, عليهم جميعاً الصلاة والسلام, أم بقيادة الصالحين من عباد الله المجاهدين حتى يوم القيامة.
وسواء قاد أمم الشرك فرعون وهامان, أم أبو جهل وأمية بن خلف, أم غيرهم, فإن منهاج أهل الحق في الصراع واحد وثابت لأنه منهاج إلٰهٰي لا يجوز عليه التبديل والابتداع.
أما أهل الباطل فهم علىٰ مناهج وأديان وأهداف مختلفة, إلا أنها جميعاً ـــ وبدون إستثناء ـــ أهداف دنيوية محضة. كما أنهم يتحدون في حربهم ضد المسلمين بالرغم من أن بأسهم بينهم شديد.
كما علمنا أن حقيقة الصراع بين الناس في الأرض صراع بين الأديان, وبتعبير آخر نقول : إن العامل الرئيسي وراء سير الأحداث التاريخية وتوجيهها هو الصراع بين الأديان, بينما أنواع الصراعات والحروب الأخرىٰ : القومية والإٍقتصادية والسياسية والإعلامية والنفسية والعسكرية وغيرها هي صراعات فرعية بالقياس إلىٰ صراع الأديان.
ولا يقدح في هذا القول إختفاء ـــ أو بتعبير أدق إخفاء ـــ هذا العامل الرئيسي كأساس في الصراع في بعض الأحيان, وراء عوامل قومية أو إقتصادية أو غيرها, حيث كثيراً ما يلجأ أهل الباطل والأديان الباطلة إلى التستر وراء عوامل فرعية تثبيطاً لهمم المسلمين في حربهم ضدهم.
ومن ثم يعتبر الصراع العقدي (الفكري أو الأيديولوجي) علىٰ رأس قائمة الصراعات من حيث أن أهم ما في الدين هو العقيدة, ولذلٰك يعتبر الهدف الأول, والرئيسي للمتحاربين في حلبة الصراع الحضاري الذي أساسه صراع العقائد هو أن يهدم كل منهم عقيدة الآخر وأصوله الدينية ويشكك فيها. حتىٰ يمكن القول أن الحرب الدينية العقائدية أو الفكرية هي أخطر أنواع الحروب أثراً. لأن المنهزمين فيها لا اقوم لهم قائمة كأمة واحدة بعد الهزيمة, فهي هزيمة نهائية, ولا يحدث هذا في المعارك الإٍقتصادية والسياسية ولا حتىٰ العسكرية.
وأهل الباطل والزيغ. في حربهم ضد الإٍسلام وأهله, يتوجهون مباشرة إلىٰ أصليْ الإٍسلام المنزلينْ من الله عز وجل : القرآن والسنة لتحريفهما بالمعنىٰ بعد أن يئسوا وعجزوا عن تحريف الوحي بالنص وباللفظ. وذلك بُغية تحريف عقيدة المسلمين التي ترك الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ صحابته عليها, وبُغية إدخال البدع علىٰ عبادة المسلمين وعلىٰ شريعتهم ونظمهم, تلك التي ترك الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ صحابته عليها.
ولقد أخبر الله عز وجل رسوله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وأخبرنا بما سيكون من شأن أعداء الإسلام حيال القرآن والسنة, فقال عزَّ مِنْ قائل }قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{(المائدة : 68).
وهو إخبار من الله لرسوله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بما سيكون من محاولات الكافرين من يهود ونصارىٰ لتغيير وتحريف وزيادة الوحي, وهو ما يبدو واضحاً فيما دسّوه علىٰ السنة من الأرتال الهائلة من الأحاديث الموضوعة والمكذوبة علىٰ رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, ومتمثلاً بوضوح كذلك فيما دخل علىٰ تفسير القرآن الكريم من تأويلات رمزية وباطنية, وإسرائيليات وتحريفات لمعاني الآيات القرآنية.
فتحريف النصوص النبوية ووضعها ونسبتها كذباً إلىٰ الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ كان أحد الأسلحة الرئيسية التي إستخدمها الكافرون في حربهم الفكرية والعقدية ضد أمة الإٍسلام.
والسلاح الرئيسي الثاني هو إثارة الفتن الفكرية وافتعال المشكلات العقدية لإٍثارة مسائل وقضايا دون الوصول إلىٰ حلول حاسمة لها, بقصد غرس حالة من البلبلة والشك في نفوس المسلمين, واظهار عقيدتهم أمام أبنائهم وأمام غيرهم بمظهر العقائد الباطل الأخرىٰ, المليئة بالخلافات والنزاعات والمشاكل التي ليس لها حلول, وكل هذا من شأنه أن يمنع المد اللإٍسلامي من الإٍنتشار بين سائر الشعوب والأمم.
ومن هذه المسائل التي أثارها أهل الزيغ : حقيقة الإٍيمان ـــ القضاء والقدر ـــ والجبر والاختيار ـــ فهم آيات صفات الله عز وجل ـــ الإٍمامة .. الخ فعندما يتوقف أهل الزيغ عند آيات صفات الله عز وجل محاولين معرفة الصفة علىٰ حقيقتها فإن هذا يؤدي بالضرورة إلىٰ سبيلين للزيغ والكفر والضلال, حيث ينتهون إما إلىٰ تعطيل الصفات وإنكارها ونفيها, وإما إلىٰ التشبيه والتجسيم.
وعندما يتوقفون عند قضية الجبر والاختيار والقضاء والقدر, فإنهم لابد سينتهون كما انتهىٰ الذين من قبلهم, إما إلى القول بالجبرية المحضة, وإما إلىٰ إنكار القدر, وهذا ما حدث بالنسبة للأمم السابقة. قال تعالىٰ }وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ{(النحل : 35).
فمثل هذه القضايا التي يثيرها أهل الزيغ ودعاة حول الآيات المتشابهة عادة ما يؤدي التوقف عندها والبحث فيها إلىٰ تكون الفرق وانقسام الأمة بإختلافها حول المسائل الإٍعتقادية.
وقد نبهنا عز وجل إلىٰ المزالق التي هوىٰ فيها من الأمم السابقة (اليهود والنصارىٰ) بسبب إختلافهم حول كتابهم, وأن المسلمين معرضون لوقوع أهل الزيغ منهم في نفس المزالق. قال تعالىٰ }وَمَل اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَتْهُمُ البَبَّناتُ{(البقرة : 13).
وبيّن الله سبحانه وتعالىٰ أن البغي واتباع الهوىٰ هو أثل الاختلاف وعلته النفسية الأولىٰ }وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُو الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَهُمُ العِلْمُ بَغياً بَيْنَهُم{(البقرة : 213).
وقال تعالىٰ أيضاً }وَإنَّ الَّذِينَ اختَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعيٍد{(البقرة : 176).
وقال تعالىٰ أيضاً عن أهل التوراة وإختلافهم فيها }وَلَقَدْ آتيْنَا مٌوسَىٰ الكِتَابَ فَأخْتُلِف فِيه{(هود : 110).
ومن ثم فاختلاف أهل التوراة وأهل الإٍنجيل في كتبهم كظاهرة تاريخية حدثت في تاريخ أهل الكتب السماوية تستتبع ـــ حسب ثبات السنن التاريخية, وبحسب خبر الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ عن أمته بالاختلاف والافتراق وإتباع سنن السابقين ـــ نقول إن هذا كله يستتبع إختلاف بعض المسلمين الذين في قلوبهم زيغ ويتبعون أهواءهم حول القرآن الكريم والسنة, ومن ثم تحدث الفرقة بينهم وتتكون الفرق.
قال تعالىٰ موضحاً منهج أهل الزيغ في فهم آيات القرآن الكريم ومبيَّناً منهج الراسخين في العلم المعتدين برسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وأصحابه رضوان الله عليهم جميعاً :
}هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ{(آل عمران : 7).
فليس مشكلة علىٰ الإٍطلاق بالنسبة للمسلمين المؤمنين لتسليمهم بأن القرآن كلام الله تعالىٰ ولتوقفهم عند حدود الاستطاعة لبشرية في فهم آيات الصفات بخاصة والآيات المتشابهات بعامة. فيثبتوا الله عز وجل ما أثبته لنفسه دون الخوض في كيفية الصفة والسؤال عن حقيقتها.
أما أصحاب القلوب المريضة الزائغة وهم الذين إنساقوا وَراء أهوائهم, بغياً منهم, وابتغاء الفتية, فهم يتتبعون المتشابه من الآيات, ويتوقفون عندها, ويسألون عن تأويلها, وعن حقيقى الخبر وكيفية الصفة, مع العلم أن النتيجة الحتمية لمثل هذا المنهج الضالّ هي :
أ ـــ العجز المطلق عن الوصول إلىٰ الإٍجابة المطلوبة.
ب ـــ التفرق الحتمي كنتيجة لازمة لهذا المنهج الضال.
وهذا هو المطلوب لهم تعميماً وترسيخاً للفتنة والفرقة بين المسلمين.
ولذلٰك وضح الله سبحانه وتعالىٰ أن اليهود بعد إختلافهم في كتابهم أصبحوا في شقاق بعيد أي فرقة لا ألتقاء بعدها.
كما وضح أن الاختلاف الذي أدىٰ بهم إلىٰ الشقاق البعيد, وتكوّن الفرق الاثنتين والسبعين, إنما كان بسب عامل نفسي هو البغي, أي اختيار بعض الناس الدنيا ومناهج الفسق والكفر إتباعاً للهوىٰ والشهوات, وإيثاراً للدنيا علىٰ الآخرة وهذا هو الذي حدث بسببه تفرق المسلمين, ومن ثم يمكن تعليل نشوء الفرق في الإٍسلام أولاً بهذا السبب, كعامل رئيسي, ومركوز في طبيعة الناس وسنن الحياة, التي تؤدي جميعها إلىٰ الحكمة, التي من أجلها خلق الله تعالى السموات والأرض والإٍنسان, ألا وهي الإٍبتلاء.
6 ـــ العوامل الرئيسية لنسوء الفرق في تاريخ المسلمين :
يمكن القول بأن العوامل الرئيسة هي :
أولاً :الإٍبتلاء, وتعدد الأديان, وإختلاف الناس إلىٰ فرق : لقد خلق الله عز وجل الدينا والإٍنس والجن للإِبتلاء, وحقيقة الإٍبتلاء تتضمن بالضرورة الحقائق التالية :
أ ـــ خلق الله عز وجل الإنسان تحقيقاً للإبتلاء ـــ ذا إرادة حرة مختارة, ويزاول إختياره فيما كُلّف به, أي الاختيار بين الإٍيمان والكفر, وبين الهدىٰ والضلال.
ب ـــ النتيجة الحتمية لمزاولة الإٍنسان للإختيار الصحيح, واللازمة الضرورية لتحقيق ظروف وأحوال وملابسات الإٍبتلاء الصحيح, هي أن يختار بعض الناس الحق, ويختار البعض الآخر الباطل, وأن يفعل البعض الخير والحلال, ويفعل البعض الآخر الشر والحرام.
أي أنه ـــ نتيجة للإختيار الصحيح ـــ لابد من أن يصبح الناس فريقين, فريقاً علىٰ الحق ـــ وفريقاً أو فرقاً علىٰ الباطل, أي أنه لابد أن يصبح الناس أمماً.
ومعنىٰ هذا أن الإٍختلاف قائم وسيظل بين الناس, وأن الأممية مستمرة إلىٰ يوم القيامة. كلهم ـــ إلا واحدة ـــ مختلفون عن الحق. أما أمة الحق فهي لم تختلف عن الحق لأنها تمسكت به.
قال تعالىٰ }وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَإِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{(هود : 118 ـــ 119).
ومعنىٰ قوله تعالىٰ }وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً{أنه لم يشأ أن يكون الناس كلهم علىٰ الهدىٰ, كما أنه لم يشأ أن يكون الناس كلهم علىٰ الضلال, وإنما شاء الله تعالىٰ أن يكون الإنسان مختاراً بين الهدىٰ والضلال مما كان نتيجته أن جعل البعض يختار الهدىٰ والبعض يختار الضلال, فاختلفوا إلىٰ أمم, فالاختلاف أمر حتمي نتيجة حرية الإٍختيار. وسيستمر إلىٰ يوم القيامة}وَلاَيَزلبُونَ مُخْتَلفينَ إلاْ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ{.
ثانياً : البغي وإيثار الدنيا عامل رئيسي من عوامل تكوَّن الفرق :
إختيار الذين في قلوبهم زيغ سبيل الهوىٰ وإيثارهم للدنيا دفعهم إلىٰ تتبّع المتشابه من آيات القرآن الكريم, فأدىٰ هذا إلىٰ الإٍختلاف فيه, ومن ثم أدىٰ هذا إلىٰ إثارة الشبهات, ومن ثم تكونت الفرق, وغالباً ما يكون زعماء الفرق ورؤوسهم من أهل الزيع, وهذا لا يمنع وجود بعض الأتباع من المخدوعين المفتونين الذين ضللهم أهل الزيغ.
ثالثاً : تكوّن الفرق الكلامية إنحراف أصاب عقيدة بعض المسلمين :
ومن ثم لم يكن نشوء الفرق في الإٍسلام حدثًا إسلامياً خالصاً, وليس مفخرة من مفاخر المسلمين, وليس الإٍنتاج الفكري للفرق والمدارس الكلامية إسهاماً من العقلية العربية الإٍسلامية في عملية إثراء الفكر البشري, بقدر ما هو إنحراف عن طريق الهدىٰ وحجب للنور الإٍلهٰي الخالص, الذي يحتاج إليه الناس, فهو شر أصاب الأمة الإٍسلامية, وانحراف عن الطريق المستقيم سلكته الفرق المتنازعة والإٍتجاهات المختلفة, مما كان له أثره الواضح علىٰ وحدة الأمة الإسلامية وقوتها, وانتشار نُور الله تعالىٰ في الأرض.
وهكذا يجب أن ينظر إلىٰ فكر الفرق وآراء علماء الكلام.
رابعاً : كل الفرق ضالة إلا واحدة :
إن كل الفرق التي نشأت في تاريخ المسلمين ضالة إلا واحدة, لأن الحق واحد وأهل الحق جماعة واحدة. والصراط المستقيم واحد لا يتعدد والسالكون إياه جماعة واحدة لا تتفرق ولا تتحزب, والخارج عليهم ضال ملتحق بالفرق الضالة.
قال تعالىٰ : }وَأنْ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيِلهِ{(الأنعام : 153). ومع التحذير يبين لنا عز وجل كيف نتقي وننجو من الوقوع في التفريق واتباع السبل, وهو التزام الصراط المستقيم, أي الكتاب والسنة بالمنهج الصحيح الذي كان عليه الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وأصحابه رضوان الله عليهم جميعاً.
خامساً : الحكم علىٰ الفرق الإٍثنتين والسبعين :
يمكن القول أن السبل هي مناهج الفرق الاثنتين والسبعين, التي اتبعتها فئات ضالة من اليهود وفئات ضالة من النصارىٰ وفئات ضالة أخرىٰ من المسلمين.
بيد أن هنا خلافاً حول فرق المسلمين : هل كفروا وخرجوا عن المللة إذا كانوا قد سلكوا نفس السبل التي سلكها اليهود والنصارىٰ الذين هم مشركون كافرون بلا ريب ؟!
ولعل الرأي الأرجح أن فرق المسلمين الإٍثنتين والسبغين ليسول كفاراً لقول رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ «… وتفترق أمتي …» وفي هذا دلالة علىٰ أن هذه الفرق من أمته عليه الصلاة والسلام أي لم يكفروا ولم يخرجوا عن المللة وإن ضلوا.
وإنما يكون التشابه بينهم وبين اليهود والنصارىٰ في الإٍختلاف في كتاب, والتفرق, وفي عدد الفرق, وفي السبل والمناهج التي أدت إلىٰ هذه الفرقة, ويكون بقاء فرق الإٍسلام الإٍثنتين والسبعين داخل دائرة الإٍسلام, بسبب حدوث الإٍنحراف عن الصراط المستقيم بدرجة محدودة أبقت هذه الفرق داخل دائرة الإسلام, وإن كانت قد أخرجتهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وأصحابه, فيكون دخولهم النار ليس علىٰ سبيل الخلود مع المشركين.
ولكن هذا القول لا يمنع أن يكون هناك من أمة الإٍسلام من كفر كفراً بواحاً وخرج عن ملة الإٍسلام وخالف أصول العقائد وأركان الإٍيمان. وذلك مثل الإٍسماعيلية والقرامطة والنصيرية (العلوية) والدروز والقاديانية وسائر الباطنية هؤلاء أجمع علماء الإٍسلام علىٰ كفرهم. ومن ثم لا تعد أمثال هذه الفرق من الفرق الإٍثنتين والسبعين باعتبار أن هذه الأخيرة من أمة الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ.
سادساً : تحديد وحصر الفرق الإٍثنتين والسبعين :
عُنِي كثير من الكتب والمصنفات التاريخية والكلامية في تاريخ الإٍسلام قديماً وحديثاً بذكر الفرق وتاريخ نشأتها وإحصائها حتىٰ أن بعضاً منهم حاول أن يحدد الفرق الثلاثة والسبعين التي أشار إليها الحديث. وقد أفرد بعض مفكري الإسلام كتباً خاصة لهذا الموضوع منهم علىٰ سبيل المثال :
الشهرستانيفي كتابه : الملل والنحل.
ابن حزمفي كتابه : الفصل في الملل والنحل.
البغداديفي كتابه : الفرق بين الفرق.
الأشعريفي كتابه : مقالات الإٍسلاميين واختلاف المصلين.
الإٍسفرايينيفي كتابه : إعتقادات فرق المسلمين والمشركين.
الباقلانيفي كتابه : التمهيد علىٰ الملحد والمعطلة والرافضة والخوارج.
ابن تيميةفي كتابه : منهاج السنة النبوية في نقد الشيعة والقدرية.
لقد حاول بعض هؤلاء ذكر اثنتن وسبعين فرقة تحقيقاً وتأويلاً لحديث الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ فلم يوفقوا إلىٰ تصنيف لهذه الفرق يتفقون عليه. والسبب أن الفرق ستظل تزيد إلىٰ آخر الزمان, ولازلنا في هذا العصر نسمع عن تكوّن فرق جديدة.
كما أنهم لم ينفقوا علىٰ معنىٰ كلمة «فرقة» هل هي الجماعة ذات المنهج الواحد والسبيل الواحد في فهم القرآن الكريم والسنة. أم هي الجماعة ذات الزعيم الواحد والمؤسس الواحد الذي جمع أتباعه علىٰ أصول إعتقادية واحدة.
بالمفهوم الأول تكون المعتزلة فرقة واحدة, وبالمفهوم الثاني يمكن أن يكونوا أكثر من عشرين فرقة كفّر بعضهم بعضاً.
ومن ثم نقول أن عملية التصنيف هذه غير متفق عليها وغير محددة.
ولكٰن الذي يمكننا تأميده كمعنىٰ ثابت لحديث الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ في الفرق هو أن السبل الضالة الخارجة علىٰ الصراط المستقيم ليست لا متناهية, وليست اتجاهات فكرية مستحدثة علىٰ تاريخ البشرية.
فمن حيث كونها محدودة العدد ذكرها الله عز وجل مُعرفة بالألف واللام (السبل) وحدد عددها الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بإثنتين وسبعين.
ومن حيث كونها مطروقة من قبل, فهذا واضح من قول الله «السبل» معرفة بالألف واللام, ومن قول رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ مخبراً إياناً من إتباع فئات من المسلمين سنن الأمم السابقة في الإٍبتداع والفرقة والإختلاف.
حتىٰ يقول البعض : إن في تاريخ اليهود فرقة نُدعىٰ المعتزلة قالت بنفس أو بأكثر المبادئ التي قامت عليها المعتزلة في العالم الإسلامي.
ولتفسير هذا نجد أنفسنا ملزميم باستحضار حقيقة إنسانية وهي أن العقل البشري محدود المبادئ والمسلّمات والبديهيات العقلية, والقوانين الفكرية المنطقية, الضابطة لتفكيره, ومن ثم فإمكانيات الرأي البشري محدودة, وقُدرات المعرفة لدىٰ الإنسان متناهية وليست مطلقة.
وهذا من شأنه أن يجعل السبل التي يسلكها العقل البشري, في حالة إذا ما حاد عن الطريق المستقيم وترك مصادر الحق (الكتاب والسنة بالمنهج الصحيح الذي كان عليه الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وصحابته رضوان الله عليهم جميعاً), نقول من شأنه أن يجعل هذه السبل محدودة, ومن ثم لا يستطيع العقل البشري وأجهزة الإٍدراك والمعرفة البشرية ـــ في حالة ضلالها ـــ إلا سلوك هذه السبل المحدودة, وهي هي بعينها.
ولذلك نجد رسول الله ـــ صّلى الله عليــه الله ـــ ينبؤنا أن اليهود عندما حادوا عن الصراط المستقيم, سلكوا إثنتين وسبعين طريقاً ومسلكاً, فتفرقوا إلىٰ إثنتين وسبعين فرقة.
وكذلك النصارىٰ سلكوا نفس السبل فتفرقوا بنفس الفرق وبعددها. وكذلك فعل المسلمون, لأن الإٍنسان هو الإٍنسان لا تتغير طبيعته بتغير الزمان والمكان, وهو عندما يختار الحق فليس أمامخ إلا صراط الله المستقيم, فإذا إنحراف عنه مؤثراً للضلال والباطل والهوىٰ والشهوات يجد أمامه من السبل إثنتين وسبعين.
بيد أن فرق المسلمين ـــ إذا اعتبرناهم من أمة الإسلام, ولم يخرجوا من الملة ـــ لم يغلوا في دينهم وفي إختلافهم وفي تفرقهم, فلم يبعدوا عن الصراط المستقيم بالقدر الذي بعدت به فرق اليهود والنصارىٰ فخرجوا عن التوحيد وكفروا.
سابعاً : لماذا زادت الفرق في تاريخ الإٍيلام واحدة ؟
قد يتوهم البعض أن تفرق المسلمين إلىٰ ثلاث وسبعين فرقة ـــ بزيادة فرقة اليهود والنصارىٰ ـــ يعني زيادة الفرقة بينهم, مما يوحي بأن حال اليهوج والنصارىٰ كان أفضل. وهذا وهم خاطئ.
لأن هذه الفرقة الزائدة هي الميزة العظمىٰ التي يمتاز بها تاريخ أم سيدنا محمد ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ عن الأمم السابقة, بل هي المنّ الكبرىٰ والنعمة العظمىٰ التي خص الله بها أمتنا, ألا وهي نعمة حفظ الوحي قرآنا وسنة باعتباره الوحي الأخير من الله عز وجب إلىٰ الناس وبإعتبار رسوله آخر الرسل والأنبياء وخاتمهم جميعاً, مما إستتبع ضرورة وجود طائفة من أمة الإٍسلام ظاهرة علىٰ الحق دائماً إلىٰ قيام الساعة, كما نص علىٰ ذلك حديث للرسول ـــ صّلى الله عليـه وسلم ـــ بهذا المعنىٰ.
وهذا يعني أن الوحي محفوظ بعناية الله عز وجل, وأن الحق سيظل معروفاً لمن يطلبه ويبتغيه وأن هناك جماعة ستتمسك به علىٰ طول الزمان, منذ عهد النبوة إلىٰ قيام الساعة, وهي الفرقة الثالثة والسبعين الناجية, الأمر الذي لانجده في تاريخ اليهود ولا في تاريخ النصارىٰ, حيث جاء علىٰ اليهود اليوم الذي إندثر فيه الحق بينهم وانمحت الرسالة الصحيحة وانقرضت الفرقة التي كانت متمسكة بالصراط المستقيم أو انحرفت عنه, حتىٰ أدركتهم سنة الله تعالىٰ في خلقه بارسال عيسىٰ عليخ السلام بالحق, ثم جاء علىٰ أمته اليوم الذي اندثرت فيه معالم الحق ومنهاج الحقيقة وانقرضت فرقة الحق وانتهت وأصبحت فرق النصارىٰ كلها علىٰ ضلال وكفر وشرك, حتىٰ جاء الإٍسلام ناسخاً للتوراة والانجيل؟
وحدث في الإٍسلام ما حدث في تاريخ أهل الكتاب إلا أنه ـــ ولأنـه آخر الرسالات ـــ إمتاز عنهما باستمرار وجود فرقة الحق الناجية إلىٰ قيام الساعة ومن ثم صارت الفرق ثلاثاً زسبغين فرقة.
من كل ما تقدم يتبين لنا أن الخلاف بين الإٍمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه, وبين معاوية رضي الله عنه, وكذلك التنافس بين بني هاشم وبني أمية, وكذا العوامل القومية والإٍقتصادية وغيرها, كل تلك العوامل لم تكن سوىٰ عوامل مباشرة أو مساعدة في قيام الفرق وإنما العوامل الرئيسية هي ما ذكرنا من إختيار البعض الهوىٰ والسعي وراء الفتنة والإٍختلاف حول النصوص المتشابهة حسب سنن الله الثابتة في الأمم, وكذا الحرب الفكرية والاعتقادية من الأمم السابقة وإتباع أهل الزيغ لانحرافاتهم.
والسبيل الوحيد لوحدة الأمة الإٍسلامية وقوتها هو العودة إلىٰ كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بالمنهج الذي كان عليه الصحابة والتابعون والفقهاء والمحدثون وجمهور علماء المسلمين, الذين انبعوهم بإحسان جيلاً بعد جيل؟
نسأل الله تعالىٰ أن يهدينا إلىٰ الحق لما اختلفوا فيه, وأن يربط قلوبنا عليه, وأن يميتنا علىٰ صراطه المستقيم, وأن يجعلنا من الجماعة المسلمة الناجية, إنّه سميع مجيب.
الهــوامــــش
(1) الفرق الباطنية المعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية /رسالة ماجستير مقدمة من الطالب بلال فيليبس تحت إشراف المؤلف بقسم الثقافة الإسلامية.
(2) د. محمد عواد حسين /صناعة الفكر. ـــ مجلة عالم الفكر (إبريل 1984) ص115.
(3) عن جامع الأصول في أحاديث الرسول لأبن الأثير /الجزء العاشر صفحة 35 تحقيق عبد القادر الارناؤوط.
(4) المصدر السابق صفحة 36.
(5) المصدر السابق صفحة 32.
(6) المصدر السابق صفحة 32.
(7) المصدر السابق صفحة 33.
(8) المصدر السابق صفحة 34.
ترجمة عن الإٍنجليزية
د. محمد رفقي عيسىٰ
جامعة الكويت