1 ـــ السلبيات
إن لإنشاء كراسي أستاذية للدراسات الإِسلامية في الجامعات الأمريكية محاسن ظاهرة, ومنافع بينة. منها التعريف بالإِسلام, والدعوة له, والرد علىٰ المعتدين عليه, والتشجيع علىٰ الإقبال علىٰ دراسته. فهل يكون له مساوئ ؟
نعم. من هذه السلبيات ما يتعلق بالأصول أو الأسس التي اقوم عليها هذه الدراسات. ومنها ما يتعلق بالممارسات المتبعة في الجامعات الأمريكية, ومنها ما يتعلق بظروف نشأة هذه الدراسات ومنها ما يتعلق بالقواعد القانونية لإنشاء كراسي الأستاذية في الجامعات الأمريكية.
أ ـــ ففيما يتعلق بالأسس : انبثقت الدراسات الإِسلامية من أصول ثلاثة, لاتنفك عنها : أولها وأقدمها دراسات العهد القديم من الكتاب المقدس. ولذلك انحصرت في الشرق العربي, مسرح العبرانيين القدماء, وتركزت في الدراسات اللغوية كتمثيل للعبرانيين, وتحقيق لعاداتهم وأفكارهم, وكعونٍ علىٰ تفهم اللغات الساميّة, لغات المجاورين للعبرانيين, وعلىٰ تفهم أوصافهم, وأوصاف العبرانيين, كما جاءت في العهد القديم. لذلك ارتبطت الدراسات الإِسلامية بالدرسات الشرقية ( الإِستشراق), ومازالت في كثير من الجامعات محتضنة من قبل الدراسات الشرقية (شيكاغو, برنستون, بنسلفانيا, ييل, إلخ).
ثانياً : إنبثقت الدراسات الإِسلامية عن حاجة التشير والمبشرين للتعرف علىٰ الإِسلام كدين تجب محاربته وإزالته من عالم الوجود, أو علىٰ الأقل إيقاف (شره) والحيلولة دون انتشاره, وزعزعة مكانته في عقول وقلوب أبنائه. لذلك وضعت هذه الدراسات في كليات اللاهوت ضمن أقسام التبشير وسميت بالأديان المقارنة. ويصب المهتمون بهذه الدراسات جهدهم, في التعرف علىٰ مواطن (الضعف) في الإِسلام للنفاذ من خلالها إلىٰ صلبه, وطعنه هناك. لذلك كثرت دراساتهم للحركات الإِنحرافية كالشيعة والإِسماعيلية والصوقية والحشاشين, والبكداشيين والأحمدية والبهائية وغيرها. وإذا درسوا القرآن والحديث والفقه وأصوله, طعنوا فيها جميعاً لأن الطعن مرادهم الأول, ومعرفة موطن الضعف مرادهم الأخير. ولهذا تجد مركز دراسات الأديان المقارنة في جامعة هارفارد تابعاً لكلية اللاهوت, وكذلك في جامعة شيكاغو.
ثالثاً : انبثقت الدراسات الإِسلامية عن حاجة الدولة الأمريكية إلىٰ موظفين أمريكيين يتقنون معرفة الأمم الإِسلامية وأوضاعها السياسية, والإِجتماعية والإِقتصادية والجغرافية, والفكرية, والنفسية, وذلك لتمكينهم من خدمة مصالح الدولة المتعددة, والشركات الصناعية والتجارية الكبرىٰ, المتعاملة مع العالم الإِسلامي. ولذلك تركزت هذه الدراسات في الأبحاث الستراتيجية ـــ أي التي تمس مصالح الدولة مسّاً مباشراً ـــ كالتنظيم السياسي, والموارد والحاجات الإِقتصادية, والاستعدادات النفسية, وقوىٰ الروابط الإِجتماعية والدينية. ولم تنشأ هذه الحاجة إلا بعد الحرب العالمية الثانية, حيث أخذت الدولة تصب المال صباً علىٰ اقتناء الكتب والمطبوعات العربية والإِسلامية, وتشكل مراكز لهذه الدراسات التي أسموها دراسات الشرق الأدنىٰ أو الأوسط, والتي أدخلوا فيها الدراسات الإِسرائيلية, والأرمنية, والقبطية, والتركية, والفارسية, والحبشية, واليونانية الحديثة. وركزوا علىٰ تعليم المنضمين لهذه الدراسات اللغة العربية العامية بشتىٰ لهجاتها (بل أسموها في بعض الأحيان اللغات المصرية, والسورية, والحجازية, والمغربية, والعراقية) أو علىٰ الأكثر, لغة الكتابة الحديثة, كما عرفتها الصحف اليومية في مصر ولبنان.
ليست هذه الأصول أصولاً فحسب. إنما هي أيضاً أسس تحدد مناهج الدراسة وأهدافها, ونوعية الطلبة ومقاصدهم, والجو المخيم علىٰ الدراسات كلها. ولا يقوىٰ أستاذ مسلم عين في هذه الدراسات علىٰ تغيير الأسس, بل لابد له من الإِنصياع لها ومجاراتها وإلا كادوا له ونغصوا عليه إقامته وعطلوا فاعليته. فإذا انصاع لهم وتعاون مع منفذيها ارتكب الجريمة وحقر نفسه, بل هدم عزته وقتل معنوياته.
ب ـــ وفيما يتعلق بالممارسات المتبعة في الجامعات, فمكانة الأستاذ صاحب كرسي الدراسات الإِسلامية محدودة جداً, خلافاً لما نعهده بالجامعات الإِسلامية وما نعرفه عن كراسي الدراسات الأخرىٰ. ذلك أن السياسة العامة للقسم وممارساته الخاصة كلها خاضعة لقرارات جماعية, يتخذها القسم بأكثرية أساتذته غير المسلمين. وليس لمدير القسم او لأي أستاذ مخالفة ما اتفقت عليه الأكثرية الساحقة من غير المسلمين. فلأستاذ المسلم ليس له إلا صوت واحد لا يجدي, وإن تكلم معارضاً, جلب علىٰ نفسه غضب زملائه وكيدهم. وعلىٰ كل حال, معارضته عديمه الجدوىٰ.
ومن هذه الممارسات ما يلي :
أولاً : أن القسم هو الذي يحدد المساقات الدراسية التي ستدرس في كل فصل, كما هو الذي يحدد فحوىٰ تلك المساقات, من مواد تعليمية وواجبات الطلبة والكتب المدرسية. قد يكون للأستاذ المسلم الحق في ذلك, إلا أن ممارسته لذلك الحق, في سبيل غير سبيل القسم سيجر عليه معارضة زملائه وغضب القسم. وهي لا تنفع علىٰ كل حال.
ثانياً : إن القسم هو الذي يقبل الطلبة ويدخلهم إلىٰ المساقات المعروضة. فهو إذاً الذي يقرر من يدخل المساق الذي يدرِّسه الأستاذ المسلم من الطلبة. فإن عرف أن الأستاذ المسلم مناهض لسياسة القسم, أدخلوا المساق المطروح أولئك الطلبة الذين يثقون بصلابتهم ضد ما يتعرضون له من دعاية مناقضة. ولا يقوىٰ الطالب علىٰ مناهضة قسمه لأن القسم هو الذي يقرر نجاحه أو سقوطه في نهاية الأمر, وكثيراً ما يتحكم أيضاً عن الطريق المنح بلقمة العيش التي يتناولها.
ثالثاً : إن القسم هو الذي يقرر الأنشطة الثقافية فلا يجوز لأستاذ أن ينظم محاضرة عامة في جامعته أو ندوة ثقافية عامة, إلا بإذن القسم ودعمه. لذلك فلن يقوىٰ الأستاذ المسلم أن يعرّف بالإِسلام, أو يحاضر في موضوع يتعلق به, إلا بموافقة القسم ولن يرضىٰ القسم عن الأستاذ المسلم وتقديمه للأسلام, طالما أن الأهداف والمقاصد مختلفة بينه وبين المسلمين, بل متناقضة.
رابعاً : إن الكتب المدرسية المتوفرة باللغة الإِنجليزية والتي تقدم الإِسلام وثقافته ألّفها المستشرقون, والمبشرون, والمستعمرون, وضمنوها وجهات نظرهم, بما فيها من حقد, وتهجم, وإزدراء, وتشكيك, وذلك علىٰ مستوىٰ التعليم الجامعي ( الداني والعالي, قبل البكالوريوس وبعده). وجل ما ألفه المسلمون في اللغة الإِنجليزية أو نقلوه إليها كان من صنع الهنود والباكستانيين وهو مؤلف لقراءة المسلمين لا لقراءة غيرهم. فإذا اعتمد الأستاذ المسلم هذه المؤلفات الإِسلامية رمي بالشعور بالضعة والدفاعية, ونال من القسم وطلبته وصف التزمت وعدم الموضوعية. وإن اعتمد مؤلفات غير المسلمين ـــ وهي بالرغم من ضعف منهجيتها, قليلة جداً ونادرة غير متوفرة ـــ اضطر إلىٰ مهاجمتها والدفاع عن الإسلام في معظم محاضراته وأوقات انعقاد صفه, مما يترك اسوأ الأثر في نفس الطالب, وقد يتقبل الطالب نقد الأستاذ المسلم لكتابه المسيحي واليهودي وقد لا يتقبله. وينطبق هذا أيضاً علىٰ الأفلام السينمائية, والمواد المرئية التوثيقية المتوفرة في المكتبات الجامعية الأمريكية.
تكاد تعدم هذه الممارسات القائمة في كل جامعة أمريكية, فاعلية الأستاذ المسلم الذي حُمِّل عبء الدراسات الإِسلامية. فهو بدا في صراع مستمر مع طلبته غير المسلمين, ومع مؤلفي الكتب التي يقرأونها, والانطباعات الموروثة أو المكتسبة من المجلات, والصحف, والراديو, والسينما, والتلفزة, ومع زملائه الأساتذة الواقفين له بالمرصاد, ومع إدارة القسم التي تتحكم في كل حركة من حركاته, وأخيراً, مع نفسه التي سولت له هذا التعيين وزينته فأوقعته فيه. هذا إن كان له ضمير إسلامي حساس. وإن لم يكن جاري القسم, وتعاون منه, بعد أن يكون قد أخرس ضميره.
ج : وفيما يتعلق بظروف نشأة الدراسات الإِسلامية, فإن مكانها بانسبة لدراسات الأديان الأخرىٰ ضئيل منحط. فإذا كانت الدراسات الإِسلامية واقعة في قسم دراسات العهد القديم أو ما يسمونه اليوم بالدراسات الساميّة أو الشرقية, أو في مراكز دراسات الشرق الأدنىٰ أو الأوسط, فتعتبر تابعة لدراسات الكتاب المقدس أو الدراسات الستراتيجية من حيث المكانة والأهمية. فالأستاذ الذي يختص بدراسة القرآن, والحديث, والفقه, والفكر واللغة (الدراسات الإِنسانية) يجري تعيينه في قسم الدراسات الشرقية أو في أحد أقسام كلية اللاهوت ( كتاب مقدس, لغات سامية, أديان مقارنة, إلخ). وإن اختص بدراسة تاريخ المسلمين وأحوالهم, وأوضاعهم, وضع كرسيه في قسم العلم الإِجتماعي المعني (السياسة, الإِقتصاد, الإِدارة, الإِجتماع, الأنثروبولوجيا, التاريخ, الجغرافيا, إلخ). فهو خاضع إما للدين المسيحي وكتابه, أو امقتضيات الستراتيجيا الأمريكية التي تهدف إلىٰ الكشف عن المسلمين لا عن الإسلام.
اجتاحت الجامعات الأمريكية ابتداءً من سنة 1960, موجة شديدة من الإِهتمام بدراسة الأديان غير المسيحية. وأنشئت في ظل هذه الموجة أقسام عديدة أطلق عليها إسم الدراسات الدينية. وكادت هذه الأقسام توجد في جميع الجامعات, بما فيها الجامعات الحكومية العلمانية. إلا أن المسيحية تبوأت من هذه الأقسام المقام الأول, واحتفظت لنفسها بحصة الأسد من الكــراسي والمساقات الدراسية, وبالتالي, الطالبة. وحفظت اليهودية بالمقام الثاني بطبيعة حال الأمريكان وهيمنة اليهود التامة علىٰ الأقسام الأخرىٰ, وعلىٰ الجامعة ككل, في كل مكان. وجاءت الأديان الهندية, ةالأفريقية, والصينية, في مقام ثالث, وذلك لما لأمريكا من مصالح في الشرق الأقصىٰ, وما للأمريكان من اهتمام باليوجا, والتأمل المتهرب من أعباء الحياة, ولتواجد الزنوج الأفريقيين في المجتمع الأمريكي. أما الإسلام فهو في أحط الدركات, تحت تلك الأديان جميعاً. ويتمثل هذا الإِزدراء للإِسلام في ما يلي :
1 ـــ للدين المسيحي كراسي عديدة, كما للدين اليهودي, فإذا كان قسم الأديان كبيراً خصص كرسي لكل من الأديان الهندية والصينية والأفريقية. لكن الدين الإِسلامي لم يخصص له كرسي واحد في أي قسم ما عدا قسم الأديان في جامعة تامبل التي ينتمي إليها مؤلف هذا المقال. فالإِسلام يدرس كإضافة عابرة يحملها أحد أصحاب الكراسي الأخرىٰ, المسيحية إن كان مبشراً مهتماً بالإِسلام, أو اليهودية إن كان صهيونياً بالعرب.
2 ـــ لا يوجد تخصص في الدراسات الإِسلامية في الدراسات العالية في أي قسم, بينما يوجد التخصص في المسيحية واليهودية في جميع الأقسام تقريباً, وفي الأديان الأخرىٰ في الأقسام الكبيرة. وإذا أراد طالب أن يعتني بالإِسلام علىٰ مستوىٰ الماجستير أو الدكتوراه اضطر إلىٰ دراسة فلسفة الدين, أو إجتماعياته أو نفسياته أو شعائر ككل وأدخل معارفه الإِسلامية بمثابة مثل أو تحقيق. وإن أصَّر الطالب علىٰ دراسة الإِسلام بمفرده, أحيل علىٰ قسم الدراسات الشرقية, أو دراسات الشرق الأوسط, حيث التخصص في دراسة المسلمين لا الدين الإِسلامي. ولا يوجد تخصص علىٰ درجة الماجستير والدكتوراه في الإِسلاميات في قسم الإِديان, إلا في جامعة تامبل السابق ذكرها. كما أنه لا توجد منح دراسية مخصصة للدراسات الإِسلامية في أي مكان. وقد قدمت جامعة تامبل عدداً من المنح للطلبة المختصين بالدراسات الإِسلامية فيما مضىٰ إلا أن إدارة القسم تغيرت. كانت سحابة أمطرت غيثاً ثم مضت وعادت الأرض إلىٰ جفافها المعتاد.
3 ـــ يدرس الإِسلام في الغالبية العظمىٰ من هذه الجامعات دراسة عابرة, ضمن مساق يضمن العبور علىٰ الأديان جميعاً, أو علىٰ ما يسمىٰ بالأديان الآسيوية منها, أو الأديان المنبثقة من الشرق الأوسط. فلا يحظىٰ الإسلام باهتمام الطلبة, إلا لفترة قصيرة لا تتجاوز الاسبوعين, ويقرأ فيها ما كتب أعداء الإِسلام ويستمع خلالها لمحاضرات الأستاذ المسيحي, أو اليهودي المغادي للإِسلام. كذلك, لا يدخل الإِسلام في الأنشطة الثقافية التي يقيمها القسم, إلا قليلا نادراً. ولا يوجد في أي قسم أديان في أمريكا من يدرِّس الإِسلام من المسلمين إلا مؤلف هذا المقال.
4 ـــ إنّ معظم الطاقات البشرية والمالية المخصصة للدراسات الإِسلامية في أمريكا, توجد في مراكز الشرق الأوسط. وهي المراكز التي تعتمد علىٰ الدراسات اللغوية والستراتيجية وتعني بالمسلمين لا بالإِسلام. زلتجدن هذه المراكز تعج بالزائرين و المدعوين من العالم الإِسلامي, فهو يتهافتون عليها إما طلباً للجاه واعتراف الغير, وإما بدعوة منها لتعزز الأفكار المسمومة التي تدسها هذه الأقسام في عقول طلبتها. وإما الأساتذة في هذه المراكز الذين يعنون بالدراسات الإِسلامية, فكلهم من غير المسلمين ما عدا اثنين : كاتب هذا المقال والدكتور الباكستاني الأصل الذي كفّره علماء بلده وأجبروه علىٰ الفرار. وتوظف هذه المراكز العرب و المسيحيين للاستفادة من خبراتهم اللغوية. وقلما توظف أحداً من المسلمين حتىٰ للإِنتفاع من خبراتهم اللغوية سواء كانو عرباً, أم اتراكاً, أم هنوداً أم باكستانيين, أم غيرهم, إذا ما وجد. وهم متمسكون بإسلامهم, حريصون علىٰ إقامته في حياتهم وتفكيرهم.
د : وفيما يتعلق بالقواعد القانونية لإشنشاء الكراسي للدراسات الإِسلامية, فإنك لتجدها خاضعةً للقواعد العامة المتبعة في جميع الحالات. وأولىٰ هذه القواعد, أن لاترتبط الجامعة بأي شرط في تقيلها للكراسي, سوىٰ أنه سيخصص للدراسات الإِسلامية. وإن تراخت بعض الجامعات في تقبل الأساتذة الذين ارتضتهم الجهة المتبرعة كما هي الحال في عملية انشاء كراسي في جامعة لانكستر بإنجلترا, وماجل بكندا وهارفارد بالولايات النتحدة فذلك أولا لصدفة توفر العقول الثلاثة في تلك الجامعات من قبل التبرع من جهة أولىٰ, ولكونهم ذوي اختصاصات غير الدين الإِسلامي (تاريخ في لانكستر وماجل, وتاريخ علوم طبيعية في هارفارد) من جهة ثانية, ولتراخي الفريقين فإن علىٰ المتبرع أن يقدم من نصف مليون إلىٰ المليون ـــ وهو المبلغ اللازم لوقفية الكرسي إلىٰ الجامعة لتمتلكه باسمها من جهة ثالثة, ولاعتراف الجهة المتبرعة ولو ضمناً بأنه بعد تقاعد أو موت الأستاذ الأول, تقوم الجامعة بانتخاب خلفه كيفما تريد من جهة رابعة. ولم تنص الإِتفاقية علىٰ كيفية التصرف في حالة عدم رضىٰ الفريق المتبرع. وعلىٰ كل الحال فالمال في حوزة الجامعة وقد تملكته واستهلكته.
هذا إذا تقبلت الجامعة مال المسلمين ولم تسلط الصهيونية أبواقها علىٰ التنديد بتلك الجامعة التي فعلت, كما حدث لكلية هافرفورد في فيلادلفيا عندما أعلن أن ممولاً عربياً كبيراً تبرع لها بمليوني ونصف دولار, فانهالت القوىٰ الصهيونية, تصب حمم غضبها علىٰ الكلية لقبولها مال «الكفار», الذي جُمع بتجارة الأسلحة, و جَلَبَ الدمار علىٰ إسرائيل, وأهلها من اليهود, والذب غذته اللاسامية اللعينة المتفشية بين العرب وصدرت صحف فيلادلفا كلها يمثل هذا فتراجعت الكلية ورفضت المال المتبرع به. كما ادىٰ تقبل جامعة جنوب كاليفورنيا تبرعات مالية من دول عربية واقامة كرسي للدراسات الإِسلامية يشغله أستاذ مسيحي منذ انشائه, ثم تقبلها لتبرع شركة فلور المتعاملة مع العرب إلىٰ فشل تلك المحاولات. إذ أحدث اليهود لها أزمة أدت إلىٰ إستقالة مدير الجامعة ورد التبرع الثاني. وهنالك جامعات تقبلت التبرعات من العرب ولم تغير شيئاً من عدلئها للإِسلام والمسلمين. وقد سمعنا بآذاننا مدير جامعة جورجتاون يخطب في مؤتمر لأصحاب منح دانفورث في فيلادلفيا قبل ثلاث سنوات فيقول : «لابد لنا من تقبل الأموال التي يتبرع بها العرب دون قيد أو شرط. وهل نلام إن إخذنا أموال عدونا مي نستكشف موطن ضعفه ونحاربه بها ؟».
لهذه الأسباب مجتمعة, ونرىٰ أن لا فائدة من إقامة كراسي أستاذية للدراسات الإِسلامية في الجامعات الأمريكية, وأن إنشاءها بدون قيد أو شرط إهانة للإِسلام والمسلمين جميعاً, وإزدراء منثطع النظير للجهة المتبرعة نفسها. فالضمير الإِسلامي, والإِباء الإِسلامي, والعزة التي فرضها الله لنفسه ولرسوله وللمؤمنين, تأبىٰ أن يمتهن المسلمون أنفسهم, أمام أعدائهم من الكفار. وأي مصلحة تعود علىٰ الإِسلام والمسلمين من إقامة كرسي يشغله إن شغله مسلم عدة سنوات ثم يتسلمه الكافرون ؟ وأي نفع يعود علىٰ الإِسلام والمسلمين من وضع مفكر إسلامي في قسم دراسي غريب مجرداً عن كل سلطة, بما فيها سلطة انتخاب الطلبة الذين سيستمعون إليه وهم من الكافرين, مكبلاً لا يقوىٰ علىٰ مبادرة أو حساب, يتخاطفه زملاؤه كلهم, أو أغلبهم معادون للإِسلام, يتربصون به وبأبنائه الدوائر ؟ وأية دعوة إسلامية هذه التي سيقوم بها الأستاذ المنتب, إن هو لم يستطع المحاضرة العامة والخاصة إلا بإذن أسياده الكفار ؟
نعم لقد تبرعت بعض الدول العربية وأنشأت كراسي في بعض الجامعات. لكنها, كما سبق, علىٰ هامش الحياة الجامعية وأصحابها أساتذة في جامعاتهم قبل التبرع معينين فيها علىٰ مدىٰ الحياة فهي ليست إلا مساعدة مالية أجدر بالعرب أن يصرفوها علىٰ أنفسهم. وانشأت دولة أخرىٰ كرسياً للإِسلاميات شغله مسيحي منذ إنشائه. وانتدبت دول أخرىٰ أساتذتها للتدريس في أكثر من جامعة أمريكية تحت إدارة وإرشاد ومراقبة الإِدارات المعادية للإِسلام. فأين الذين دخلوا في دين الله من جراء هذه التبرعات ؟ وأين هم اليهود والمسيحيون الذين حببت هذه التبرعات العرب إليهم أو خففت من عداةتهم وبغضهم للعرب ؟
2 ـــ الإِيجابيات
إنها حقيقة لاشك فيها, أن الإِسلام لم يدخل ميدان الجامعة الأمريكية حتىٰ الآن, اللهم إلا إذا استثنينا ما قام به الطلبة المسلمون منفردين أو جماعات, وهو قليل جداً لا يتناسب قط مع قدر الإِسلام العظيم, وقدرة منطق الإِسلام علىٰ الإِقناع والإِفحام وجاذبيته الهائلة التي لا يقوىٰ علىٰ مقاومتها إلا الظلم العنيد, ومع الحاجة البينة والأكيدة التي يعانيها طالب العلم غير المسلم, وكل صاحب ضمير حساس اشمأز من العدمية, والإِنحلال, والرذيلة, والسكر المتفشي في البيئة الأمريكية. فكيف السبيل لإِدخال الإسلام في الوسط الجامعي ؟
الجواب الذي يتجنب المساوئ والسلبيات المذكورة أعلاه هو إقامة قسم دراسي للدراسات الإِسلامية, كامل بمديره وأساتذته, ومساقاته الدراسية, وبرمجه الثقافية, ومنحه للطلبة والزائرين. فالقسم هو الذي له سلطة قبول الطلبة وتخصيص المنح, وتعيين الأساتذة, وتحديد المساقات, وطرحها للتسجيل لدىٰ الطلبة, وتنظيم برامج الثقافية, ومن محاضرات عامة وخاصة, ومعارض ومهرجانات, واستقبال الضيوف. لكن يجب أن لا يفوتنا أن إنشاء الأقسام الجديدة, لا يتم إلا بموافقة الأقسام الأخرىٰ, ثم موافقة مجلس الأساتذة, ومجلس الكلية, ومجلس العمداء, وهيهات أن يستطيع العرب, أو إدارة أية جامعة صديقة لهم, أن تمر بهذه المجالس, وتحصل علىٰ موافقتها. فاليهود والاستعماريون, متغلغلون في جميع الجامعات الأمريكية, بل لهم اليد العليا في كل ما يختص بالأكاديميات الأمريكية. هذا من جهة. ومن جهة أخرىٰ, يجب أن لايفوتنا أن القسم لا يحق له التصرف المقرون بالمال, ألا ضمن الخطة السنوية التي تبنتها الجامعة, وبالمقادير المعينة في الميزانية السنوية. فالقسم لا يجوز له أن يكون له حساب خاص في مصرف ما, ولابد له من أخذ ماله من صندوق الجامعة العام, حيث تدمج جميع الواردات. وأنه من الجائز, بل من الثابت, أنه سيواجه معارضة شديدة في مجالس الجامعة ترغمه علىٰ مسايرة الجامعة بأقسامها كلها. وحتىٰ التصرف غير المقرون بالمال, كطرخْ المساقات الدراسية, وتقوم الأساتذة والطلبة, وترقيتهم, ومنحهم المنح المالية, وتخريجهم, وتحصيل الكتب اللازمة في المكتبة إلخ ـــ كل من هذه العمليات مناط بلجنة جامعية أو بأخرىٰ لا سلطة للقسم عليها. وسيتمكن المعادون للإِسلام من عرقلة أو توقيف حركة القسم, إن أرادوا.
فهل من هيئة جامعية لا تخضع لمجالس الجامعة ولجانها المختلفة, يمكن أن تكلف بإقامة الدراسات الإِسلامية ؟
نعم, تعرف الجامعة الأمريكية نظام المعاهد. وهي مؤسسات تنشئها الجامعات لتحقيق غرض ما, وتجعلها مستقلة عن الجامعة, وإن نزلت في الحرم الجامعي, وتمتعت بسلطات القسم ـــ كلها أو معظمها وقد قامت معاهد كثيرة في الجامعات, لإِجراء الأبحاث الخاصة, أو لتنفيذ تعاقد عقدته الجامعة مع جهة خاصة. إلا أن هذه المعاهد لا تتمتع قط بسلطة تمنح الدرجات ( البكالوريوس, الماجستير, الدكتوراه) فهذه مناطة بمجالس الجامعة فقط. فالطالب الذي ينتمىٰ مثل هذه المعاهد, لابد له من الانتماء ايضاً إلىٰ قسم جامعي آخر إن هو أراد التخرج, ولابد له من تحقيق متطلبات ذلك القسم الذي سيتخرج منه. وهذا يضطره بأن يجعل انتماءه لمعهد الدراسات الإِسلامية أمراً ثانوياً.
ولكي يكون المعهد محترماً, يجب أن يتوفر فيه عدد من الأساتذة المحترمين, الذين يتقنون اللغة والعلم تمام الإتقان, والذين تفرض ترجمات حياتهم الأكاديمية أنفسهم فرضاً علىٰ سلك الأكاديميين الأمريكان. وهؤلاء قلق قليلة, ومعظمهم موظفون في الجامعات الأمريكية بإنشاء معهد جديد للدراسات الإِسلامية.
والحل الأمثل هو أن تكون للمسلمين كلية أو جامعة يشكل المسلمون إدارتها, ولجانها, ومجالسها, وأساتذتها, وأقسامها. وأن يكون المال متوفراً لها بتقديم منح دراسية مغرية لألمع الطلبة الأمريكان للدخول فيها ودراسة الإِسلام علىٰ يد أساتذتها, ولإِقامة المهرجانات والمؤتمرات, والحملات الدعائية علىٰ حسابها.
فالجامعة, يحق لها أن تصدر جريدة يومية, ومجلات في كافة الأشكال والصور. ويحق لها أن تمتلك مطبعة, فتطبع وتنشر وتوزع ما تريد وكيفما تريد. ويحقق لها أيضاً أن تنشيء محطة إذاعة, ومحطة تلفزة وتبث من البرامج ما تشاء. ومن نوادر الصدف أن عينت جامعة تامبل شاباً اسوداً, مديراً لبرامج الإِذاعة في محطة الراديو التي تمتلكها الجامعة وتديرها كلية الصحافة والاعلام. ولم تكن تعلم أن الشاب المذكور مسلماً. وما تسلم مهام منصبه, إلا وجعل برامج الإِذاعة كلها موسيقىٰ الجاز وهي المحببة إلىٰ الأمريكان السود والأذان وتلاوة القرآن الكريم وترجمه وتفسيره بالإِنجليزية. فأصبح للمحطة أصدقاء كثيرون ودخل منهم عدد وافر في دين الله. لكن سرعان ما تنبه أعداء الإِسلام لهذا فاقصوا الشاب المسلم عن منصبه وفصلوه هن إدارة المحطة.
هذان هما الحلان الإِيجابيان لمسألة إدخال الدراسات الإِسلامية الصحيحة إلىٰ حيز الحياة الأكاديمية الأمريكية : إنشاء معهد في جامعة أمريكية ما, بعد الاتفاق مع إدارتها علىٰ ذلك وهو الحل الأصعب و الأشد تعقداً. لأن الجامعات الأمريكية تقع تحت ضغوط صهيونية, وتبشيرية, وإستعمارية هائلة تمنعها من التعاون مع العرب والمسلمين في أي ظرف. ولأن طاقة المسلمين البشرية في هذا المجال قليلة. ولأن المعاهد الخاصة لا تتمتع بسلطة منح الدراجات العلمية.
والحل الثاني, وهو الأسهل من جميع الوجوه بما فيها وجه المال اللازم, وهو إنشاء كلية أو جامعة إسلامية تحقق جميع ما نتمناه من أهداف ومقاصد دون العقبات المذكورة في هذا المقال. وبالفعل فبعون الله وتوفيقه, أنشئت الكلية الأمريكية الإِسلامية في شيكاغو قبل سنتين تحقيقاً لهذا الغرض.
تشكل لها مجلس أمناء من كبار العاملين في حقول الدعوة والأكاديميات الإِسلامية وبعم مالي من منظمة المؤتمر الإِسلامي وصندوق التضامن الإِسلامي. وقد حصلت علىٰ ترخيص لفتح أبوابها للطلبة بعد أن اشترت مبنىٰ كلية كاثوليكية واستقطبت الطلبة والأساتذة. وقد حصلت علىٰ سلطة منح درجتي البكالوريوس في الآدب والعلوم واعترفت بها حكومة إلينوي, وعدد من الجامعات الأمريكية ومؤسسة التقويم الجامعي الأمريكي ووزارة التعليم الفدرالية وهي في طريقها إلىٰ الحصول علىٰ سلطة منح الدرجات العلمية العالية. وقد استقبلت عامها الثاني بحماس وتفائل. وبإستطاعتها تحقق كل ما نتمناه في ميداني الدعوة الإِسلامية والدراسات الإِسلامية العالية في أمريكا. ومما يؤسف له أن المسلمين الذين قاموا بتأسيس هذه الكلية لم يضعوا لها وقفاً يسدد ريعه حاجاتها, ولم تبادر حتىٰ الآن أية جامعة أو دولة إسلامية إلىٰ انشاء كراسي أساتذة القادرين للتعلم فيها. وهي تعاني من نقص في الأساتذة, ونقص في الطلبة لقلة ما تمنحه من منح دراسية, ونقص في الكتب والمراجع. وكأن المسلمين لا يستطيعون إخراجاً إلا مجهضاً, ناقصاً مبتور الأعضاء.
فياحبذا لو تحولت جهود الدول العربية والإِسلامية الموجهة إلىٰ إنشاء كراسي أستاذية للدراسات الإِسلامية في الجامعات الأمريكية إلىٰ الكلية الأمريكية الإِسلامية في شيكاغو, حيث تتوفر كل متطلبات النجاح والفعالية. وكذلك, لو تحولت جهود المسلمين ودولهم ومؤسسانهم في مجالات الدعوة إلىٰ الكلية الأمريكية الإِسلامية لأنها تستطيع تحقيق مالا يستطيعون وبفعالية لا تُضاهى.