الاشكالية المطروحة للبحث تثير العديد من القضايا التي تتعلق بموضوعات شتىٰ بعضها يدور حول ماهية هذه الإِشكالية ونواحي اللبس والاشكال فيها. والبعض الآخر يتعلق بمنهج المعرفة المستقىٰ من التراث وكيفية الإِفادة منه في نطاق العلوم السياسية وتدريسها في الجامعات العربية.
أولاً: إشكالية التراث
المعنىٰ الواسع للتراث(1) الذي ينصرف إلىٰ ميراث الإِنسانية كلها ليس هو الذي نقصده, لأنه في بعض الأحيان يكون وسيلة لإِلغاء التمايز الحضاري بهدف فرض سيطرة الأقوىٰ.
أما المعنىٰ الذي نتناوله للتراث, فهو المنصرف إلىٰ الميراث المعنوي, الذي تركه السلف للخلف, والذي يتعلق بجماعة معينة تشعر بأنه يعنيها ويخصها, حيث يصير بالنسبة لها مدخلاً لفهم الذات وتحديد الهوية, علىٰ ضوء الخبرة الماضية, وحيث يمثل أصلاً يجتمع عليه أفراد هذه الجماعة, ويشعرون عن طريقه بالانتماء. ويعول منهجنا خلال هذه الورقة, علىٰ البدء بإثارة بعض القضايا المتعلقة بهذه الإِشكالية, لنحدد موقفنا منها, قبل أن نعرض تصورنا لعملية إحياء المعرفة بالتراث, والإِستفادة منه في العلوم السياسية. ونعرض لهذه القضايا تباعاً :
طبيعة التراث ونعته : فالتراث ذو طبيعة كلية واستمرارية, وذو نعت عربي وإسلامي. فهو يرتبط بالسلف لأن ما نعاصره اليوم لا يتصف بأنه تراثا, إلا أن ارتباطه بالسلف لا ينفي الإِستمرارية « اللأمة »(2) التي ينتسب إليها هذا التراث. وهو من حيث النعت عربي إسلامي لأنه يرتبط بالخبرة التاريخية العربية الإِسلامية, والعروبة هنا هي عروبة اللسان, وليست عروبة الجنس, أو العنصر. فاللسان العربي بعد نزول القرآن, أصبح جزءاً من الإسلام لا ينفصل عنه(3) . والتراث أيضاً كلي وشامل لوجوه ومعاني عدة, تشمل كل ما تركه السلف للخلف, سواء ما اتخذ طابع التدوين في شكل نصوص مكتوبة, أو ما اتخذ شكل العرف والمفاهيم التي ترسبت في الوعي والشعور الجماعي, والتي لو لم طمسها ظاهرياً, تظل كامنة تحت السطح ولا تلبث أن تعبر عن نفسها حين تواتيها العوامل المناسبة(4) , مؤكد بذلك علىٰ معنىٰ الاستمرارية المذكورة آنفاً. وبذلك فإن الاقتصار في التراث علىٰ النصوص المكتوبة, التي تنتمي في غالبيتها إلىٰ مجموعتين من السلف: الفقهاء, والفلاسفة, إنما يحدّ من نطاق تعاملنا مع التراث, لأنه يربطنا بخبرة ذاتية محددة, زماناً ومكاناً, ومرتبطة بأشخاص معينين بالأسماء. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرىٰ فإن تلك النصوص المكتوبة كانت في معظم الأحيان تدور حول ما ينبغي أن يكون, لا علىٰ ما هو قائم بالفعل. ولذالك وجدنا تلك الفجوة التي تظهر أحياناً عند مقارنة التراث المرتبط بالممارسة السياسية, بذلك المرتبط بالنصوص المكتوبة, حيث قد يعبر الأول عن سلوكيات وممارسات قد لا تتطابق في بعض الأحيان مع ما تؤكد هليه نصوص التراث, سواء ما اتخذ منها صورة فلسفية أخلاقية أو صورة فقهية تقنينية. والتعامل مع تلك الفجوة إنما يمكن ـــ من وجهة نظرنا ـــ في تناول التراث بشكل كلي وشامل لكل ما له صلة بالمشاكل العلمية للجماعة السياسية وطريقة فهمها وأساوب مواجهتها وكيفية إدراكها لها(5) .
تمجيد التراث والنزعة التقديسية : حيث نجد أن مناشدة التراث, كمحاولة للخلاص من إخفاقات يعاني منها الخلف, في الواقع المعاصر, أو كرد فعل لخوف من خطر يستشعرونه يجعل اللجوء إلىٰ التراث بمثابة إجراء دفاعي, وفي ذلك نجد أن هذه الظاهرة ليست بجديدة, فهي قد اتخذت صوراً متكررة عبر التاريخ العربي الإِسلامي, والجهود فيها موصلة, حيث يقود الإِحساس بحرمان أخلاقي ونفسي شديد, الأفراد والجماعات نحو السعي وراء النموذج الفذ. ويضاف إلىٰ ما سبق أن النظم الإِنتقالية تمر بتغيير إجتماعي شامل, يؤثر فية بشكل أو بآخر, سلوك النخب السياسية, لأنه يرتبط بقضية الشرعية والضبط, ولذلك فإن البعض يرىٰ أن الشخصية «غير المستقلة ذاتياً»(6) , بمعنىٰ أنها لا تمثل أصالة معينة بالنسبة لمجتمعها, تثير الشكوك من حولها, كما أنها قد ترفع من التوقعات المبالغ فيها, للقدر الذي يستطيع أن ينجزه أي ماسك للسلطة. ورد الفعل لذلك الوضع قد يظهر في شكل البحث عن المجتمع السياسي الأمثل, والتساؤل عن السند الشرعي للولاءات السياسية النهائية. وقد يتخذ ذلك صورة التركيز حول الولاء للقومية, كما قد يظهر في التعليق بالخلافة الإِسلامية والولاء للإِسلام. ويضاف إلىٰ ذلك أيضاً الشعور بعدم الثقة في جدوىٰ الإِقتباس عن الغرب, لإِرتباطه بمعنىٰ الاستعمار الذي يمثل خلفية مرفوضة, لاسيما وأن محاولات الاقتباس تلك ـــ التي قد تتخذ مسمىٰ «التحديث» أو «التنمية»(7) ـــ تفرض أحياناً من أعلىٰ في صورة مجموعة من التكوينات التقليدية المنتمية للمجتمع ذاته. وهنا نجد أن مناخاً من الشك, وعدم القدرة علىٰ التنبؤ بشكل التربة الصالحة, للبحث عن شيء متفوق, يمكن أن يعمل كجسر بين المستقبل غير المحدد. جينئذ تظهر الدعوة إلىٰ إحياء المعرفة بالتراث, بإعتباره المنقذ المؤهل لحل مشاكل العصر, وتتخذ أحياناً شعارات «الإصالة والمعاصرة» أو « التجديد» .. كلها محاولات تعبر عن مناشدة واستحضار التراث المتفوق, وانتظار الخلاص علىٰ يد هذا البطل المسمىٰ التراث.
فاعلية التراث وجدوىٰ عملية الإِحياء : وانطلاقاً مما سبق نوضح أن ـــ التوقعات المتزايدة التي تعلق علىٰ التراث. وإنما تنطوي في أحد جوانبها علىٰ تحميل للتراث بأكثر مما ينبغي. لأنه إذا كان السلف قد عاشوا حياتهم, وواجهوا مشاكلها, وتفاعلوا مع البيئة المحيطة بهم, فهم ليسوا مطالبين بأن يواجهوا حياة الخلف, وأن يجدوا لديهم الإِجابة والحلول, لكل ما يعن من مشاكل وما يلتبس عليهم من إشكاليات. فمثل ذلك الجهد إنما يطلب من المعاصرين أنفسهم. ولذلك عندما لا يوجد قي التراث ما يفيد بخصوص جزئية من جزئيات الواقع المعاصر, فهذا ليس عيباً أو قصوراً في التراث, لإنه ليس من المفترض أصلاً أن يوجد فيه حل لكل شىء. وهذا الوضع لا يعد مسوغاً لوصف التراث بعدم الفاعلية, أو عدم الجدوىٰ, لأن الفاعلية والجدوىٰ إنما تتأتي من أشخاص المتعاملين مع التراث. فالتراث في هذه الناحية محايد, فهو إرث فاعليته رهينة بالقدرة علىٰ تحقيقها والاستفادة منها. ومن هنا, فإن القصور والجمود, أو الفاعلية والجدوىٰ, إنما هي صفات تخلع علىٰ محاولات التعامل مع التراث, وليس علىٰ التراث ذاته. وبذلك فإن إطلاق الدعوة إلىٰ إحياء التراث تعني إحياء المعرفة بالتراث لأن التراث نفسه موجود وباق. ونشير بهذا الصدد, إلىٰ أن عملية الإِحياء قد تنزع نزعة انتقائية, قد تركز علىٰ جانب السلب أو الإيجاب(8), أو قد تنزع نزعة توفيقية. والواقع أن فاعلية هذه العنلية مرتبطة بالتزام الصدق المنهجي في التعامل مع التراث حتىٰ لا تعاق عملية الاتصال بين السلف والخلف ولا تحدث تلك الفجوة الشعورية التي تظهر عند الحديث عن التراث وكأنه في وضع إنفصال عن الذات وليس في وضع تعايش واتصال. وهنا نجد أن عملية إحياء المعرفة بالتراث ليست بحاجة إلىٰ منهاجية, بقدر حاجتها إلىٰ إيمان القائمين بها بأهميتها وبقدرتهم علىٰ التفاعل مع التراث ومعطياته.
وبعد أن تعرضنا لبعض القضايا المتعلقة بإشكالية التراث وأوضحنا موقفنا منها. نقدم تصورنا لمنهاجية إحياء المعرفة بالتراث, ونستهل ذلك بالتساؤل التالي :
من هو المؤهل والمسئول حقيقة عن مهمة البحث في التراث, ومحاولة إحياء المعرفة به, واستخدامه في نطاق العلوم السياسية؟
في الواقع أن موضوعات السياسة كما يظهر من متابعة تاريخ الفكر والتراث السياسي الإِسلامي, كان يتناولها من يغلب عليه وصف الفقه أو الفيلسوف. والفقيه الذي ينصرف جهده إلىٰ عملية تخريج الأحكام من مصادرها الشرعية, وليس بالضرورة مفكراً سياسياً. وإن تجمعت لفقيه مكانة سياسية, فهي ترجع إلىٰ مواهب شخصية خاصة به, وليس إلىٰ طبيعة عمله المعنية بصفة خاصة, بالقياس العقلي والمقارنة بين الأشباه والنظائر, والتي تختلف عن أمور السياسة المتغيرة(9). ولذلك فإن احتكاك معظم الفقهاء بالسياسة, إنما كان بقصد إصدار الفتاوىٰ وتوضيح ما للراعي والرعية من حقوق وواجبات, مستمدة من الأصول التشريعية(10), وهم في ذلك متسقون مع أنفسهم. وإذا نظرنا إلىٰ تعامل الفقه المعاصر مع التراث وأمور السياسة, نجد أن التراث بالنسبة له ـــ سواء كان في ذلك التراث الفقهي أو التاريخي السياسي ـــ هو مجال للقياس علىٰ الأشباه والنظائر. ولذلك فإن معظم النتاج الفكري المرتبط بمن تغلب عليه صفة الفقيه يكون متعلقاً بالسوابق التاريخية والفقهية. وكذلك نجد أن من تغلب عليه صفة الفيلسوف يعبر نتاجه الفكري عن تصور ذاتي مستمد من رؤيته الخاصة ومتأثر فيه بأحوال وظروف عصره, ويكون نجاحه في صياغة نظرية ذات طابع سياسي, أمر مرده إلىٰ مدىٰ قدراته الفكرية. والفيلسوف المعاصر عندما يتناول التراث, فإنه يتناوله من خلال هذه الرؤية الذاتية, التي تغلب عليها نزعة الفلسفة. وأيضاً المؤرخ الذي يعبر نتاجه الفكري عن طابع التسجيل والمتابعة الزمنية, ليس هو من يتصدر لهذه المهمة.
ولهذا فإننا نستطيع القول بأن الباحث الذي يمتلك أدوات التحليل العلمي للظاهرة السياسية, والمتمكن من التعامل مع السياسة ومتغيراتها, ودراستها علىٰ مستوىٰ الفكر, وعلىٰ مستوىٰ الحركة, هو المؤهل والمسئول حقيقة عن مهمة الاضطلاع بالبحث والتنقيب في التراث من الوجهة السياسية العلمية, دون أن يقتصر علىٰ ما يمتلك من أدوات منهجية, ولكنه لابد وأن يجعل من اجتهادات الفقهاء ومن تصورات الفبلسفة ومن تسجيل المؤرخين خلفية فكرية بالنسبة له, ينطلق منها بعد ذلك لكي ينقب في كليات التراث السياسي. ولاشك أن ذلك سوف يربأ كثيراً من الصدع الناشيء عن الانفصال ما بين من يعرفون العصر واحتياجاته, والسياسة ومتغيراتها, ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن الفقه وأصوله, وعن التراث الفكري والفلسفي والتاريخي, وبين ما يعرفون ما سبق ولكنهم يفتقرون إلىٰ القدرة علىٰ التفاعل مع الحقائق السياسية ومتغيراتها. واجتماع هذه الروافد في الباحث والمفكر والعالم السياسي, سوف يكون له أثر عظيم علىٰ جدوىٰ القوىٰ الدافعة للتطور والتقدم.
بقىٰ أن نتحدث عن تصورنا لمنهاجية إحياء التعامل مع التراث, والاستفادة منه, في مجال العلوم السياسية, وهي تقوم علىٰ دعامتين أساسيتين :
الدعامة الأولىٰ : اللغة العربية والمنهاجية المقترحة
ونلاحظ في هذا الصدد, أن من الأوليات التي تتطلبها منهاجية التعامل مع التراث, هي التمكن من اللغة العربية والتمكين لها, حيث تبدأ إشكاليات التعامل معه عادة, ببداية لغوية تدور حول تفسير النصوص والدلالة اللغوية لألفاظ معينة لها معناها, سواء في الأصل التشريعي في القرآن والسنه, أو في الاستخدام الحركيز ولذلك أهميته في بناء المفاهيم المتعلقة بألفاظ لها إستخدامها في مجال التراث السياسي كألفاظ : الخلافة, الشورىٰ, الحكم, والإِمامة, والأحزاب, والخروج, والهجرة, والصبر,.. إلخ حيث ينبغي عدم الإِكتفاء بالدلالة المركزية, أو الهامشية للفظ من الألفاظ, وإنما بلزم التعرف علىٰ تاريخ اللفظ وتطور دلالته(11).
ولا أقصد من ذلك بالطبع إغراق الباحث في التراث في مجال التأويلات الكلامية والاشتقاقات اللفظية. وإنما أرمى إلىٰ إبراز المعنىٰ اللغوي والدلالة اللفظية لما لهما من أهمية في إحياء التعامل مع التراث, وإحلال ألفاظ التراث الأصيلة محلها اللائق, في حياتنا السياسية, والإِجتماعية.
ويرتبط بذلك أيضاً, تأثر اللغة السياسية العربية بالثقافة العلمانية الغربية, حيث هجرت بعض الألفاظ الأصيلة, التي لها دلالتها المرتبطة بالتراث. كألفاظ : الشورىٰ, الحسبة, أهل الحل والعقد, وغيرها. وذلك في مقابل شيوع ألفاظ أخرىٰ, تستخدم كترجمة لمرادفاتها المقتبسة من لغات أخرىٰ, كالمعارضة مثلاً كترجمة للفظة opposition(12) والصفوة والنخبة كترجمة للفظة Elite أو غيرهما من ألفاظ تعرب مثل البرلمان والديمقراطية وما إلىٰ ذلك.
وهذا الأمر يزيد من مشاكل العلوم السياسية في الوطن العربي, حيث أن الألفاظ تكسب دلالتها في كل لغة بعد تجارب كثيرة, وخبرات يمر بها المجتمع الذي يستخدم اللغة, فإذا انتقلت الكلمة وخرجت من بيئتها, إلي بيئة أخرىٰ, فإن هذا يواجه صعوبة أن تكون الترجمة حاملة للدلالات الدقيقة التي تؤديها الكلمة في بيئتها الأصلية. ويزيد الأمر صعوبة, أن المجتمع العربي الإِسلامي حتىٰ وإن لم يتم إبراز الإِسلام فيه صورة سياسية تعبر عن مفاهيم ومدركات الإِسلام, فإنه يحتفظ به تحت السطح, وتبقىٰ مفاهيمه (كما يقولون في علم النفس في اللاشعور) لذلك فإن محاولة فرض ألفاظ ثقافات ولغات أخرىٰ, علىٰ واقع هذا المجتمع, تصطدم مع الآثار الموجودة والمختزنة من التراث, ويكون الصراع بين الوافد والموروث, من أكبر التحديات التي يواجهها المشتغل بالعلوم السياسية ـــ إذا كرّس نفسه للعمل في عملية إحياء التعرف علىٰ التراث والتفاعل معه, واستخدامه في مجال العلوم السياسية.
الدعامة الثانية : موقفنا من التاريخ ونحن بصدد البحث في التراث
إن التاريخ بالنسبة للباحث والمحلل السياسي, يمثل معملاً لإِجراء التجارب إذا جاز التعبير ـــ ومجالاً فرضياته وفروضه(13). ويقوم المنهج التقليدي في التعامل مع التراث علىٰ تقديمه في صورة الفرق والمذهب وعرض تاريخها الفكري والحركي, أو تناول أعلام الفكر الإِسلامي من فقهاء وفلاسفة. وعلىٰ الرغم من قيمة هذا المنهج, إلا أن عملية إحياء التفاعل مع التراث ـــ والاستفادة منه في مجال العلوم السياسية, في حاجة إلىٰ إرتياد منهج جديد يتجاوز ذلك الأسلوب التقليدي إلىٰ دراسة قضايا الوجود السياسي والإِجتماعي, وكيفية تناول وإدراك الفرق والمذاهب لهذه القضايا, وذلك من أجل بلورة مدارس فكرية, تجمع فكر الفرق والمذهب تحت مدركات واحدة, تمثل مباديء لها استمرارية تاريخية, جعلتها تحيا حتىٰ عصرنا هذا, حيث تظهر أصداء تلك المدارس لدىٰ بعض الإِتجاهات المعاصرة.
ولقد فمنا بمحاولة في إطار ذلك التصور من خلال دراستنا» للمعارضة في الفكر السياسي الإِسلامي»(14), حيث حاولنا الخروج من إطار المتابعة التاريخية الزمنية, إلىٰ إطار أرحب, يتعامل مع التراث كمعبَّرٍ عن مباديء وأفكار, وليس عن دول وأشخاص. وذلك لأن انحصار البحث داخل حدود زمنية بعينها, تمثل عهوداً تاريخية وتجارب ذاتية, له مخاطره التي تتمثل في تبنّي وجهة النظر السائدة في الحقبة الزمنية التي يدور في إطارها البحث, أو رفضها, وتقديم ذلك علىٰ أنه هو التعبَّر عن التراث, مع أن الأمر في حقيقته هو أن أي مملرسة إنما تعكس خصوصيتها.
وبذلك نصل إلىٰ أن نقطة البدء في التحليل السياسي للتراث, لا تقتصر فقط علىٰ جانب الثبات المتمثل في الشريعة والنصوص الثابتة, ولا علىٰ جانب التغير المتمثل في الممارسة, ووقائع التاريخ وأحداثه المستمرة, وإنما هي ينبغي لها أن تجمع وتسير علىٰ هذين الساقين, في منهج يتجاوز الدوران حول التجارب التاريخية(15) إلىٰ تبني اللجوء إلىٰ الخبرة التاريخية المرتبطة بالتراث من أجل معرفة أصول وقواعد الممارسة, دون الإِلتزام بتبني أشكالها, أو إشكالياتها النابعة من خصوصيتها الزمنية والبيئية.
ثانياً : إنطلاقا مما سبق نعرض محاولتنا في الكشف عن منهج المعرفة المستقىٰ من التراث في إطار مقارن, مع المنهج الوضعي والتفسير المادي, وكيفية الإِستفادة منه, في مجال العلوم السياسية, ونحدد فيما يلي بعض عناصره :
1 ـــ وحدة الظاهرة الإِجتماعية والسياسية وتكاملها :
يقوم المنهج الوضعي علىٰ إقتصار العلم علىٰ ما هو محسوس وملموس, وما هو خاضع للتجريب. وبالرجوع إلىٰ التراث, نجد أنه يعرف ذلك الجمع بين العناصر المختلفة للشخصية الإِنسانية, وللمجتمع نفسه, حيث لا يقر بأي فصل لأي عنصر من هذه العناصر, بل انه يرىٰ في هذا الفصل تدميراً لشخصة الإنسان وللمجتمع نفسه. ويظهر هذا الجمع في مظاهر شتىٰ : كالجمع بين المادة والروح وتكاملها, والجمع بين الدنيا والآخرة, حيث ينظر للأولىٰ علىٰ أنها « مزرعة للآخرة ».
والواقع أن هذا الجمع بين العناصر المختلفة المكونة للظاهرة الإِجتماعية والسياسية, وتكاملها في إطار يجمع بين الإِنسان والمجتمع والكون, له أصوله المستفادة من التراث, بمعناه الكلي, والتي منها نستقي التصور التراثي للوجود السياسي والإِجتماعي, والذي يقوم علىٰ عدة دعائم :
ـــ النظر إلىٰ الكون والخلق علىٰ إنه وجد من أجل المعرفة بالله وعبادته.
ـــ أن البشرية سائرة نحو غاية محددة, تتمثل في يوم الحساب يفصل فيه الخالق بين خلقه.
ـــ أن الدولة ـــ المجتمع السياسي ـــ هي وسيلة تمكن الفرد من إجتياز الإِختبار الدنيوي, والوصول إلىٰ يوم الحساب, وهو مؤدياً لفروض دينه بعيداً عن إرتكاب ما حَّرمه الله.
ـــ ومن ثم فإن من أول وظائف الدولة والمجتمع السياسي, تمكين الفرد المسلم من تحقيق مباديء الإِسلام السياسية, والإِجتماعية, وإزالة العقبات التي تحول دون ذلك. وبذلك, فإن للدولة والمجتمع وظيفة عقيدية, والحاكم بمثابة الحارس علىٰ الشرع.
وهذا المعنىٰ يظهر في معالجة التراث السياسي لقضية الخلافة وتعريفها بأنها «خلافة عن صاحب الشرع, في حراسة الدين, وسياسة الدنيا به»(16).
وتلك النظرة القائمة علىٰ الجمع والتكامل والوحدة لها آثارها علىٰ طريقة التناول لكثير من المسائل المتعلقة بالسياسة كعلم وممارسة. من ذلك مثلاً مسألة « الشرعية » و«المشروعية». « فالمشروعية» في المعنىٰ المستقىٰ من التراث ـــ المرتبط بالإِجتهاد من الأصول التشريعية التي منها نستقىٰ أدلة الأحكام ـــ تعني : الأساس الذي يجعل أمراً من الأمور مشروعاً, أو يبين حكمه من حيث الوجوب, أو الندب أو الإِباحة(17) ـــ أما «شرعية» شيء ما فهي : أن يكون مشروعاً علىٰ أساس من المشروعية بمعناها السابق بأن يوجد دليل علىٰ مشروعيته وحكمه.
فإذا قارنا هذا المعنىٰ السابق, بالمعنىٰ المستقي من المفاهيم الغربية لعلم السياسة, نجد أنه يقوم علىٰ التمييز بين «المشروعية» و «الشرعية» حيث ينظر إلىٰ الأولىٰ علىٰ أنها ترتبط بنص القانون, وقد يطلق عليها «الشرعية القانونية».
أما معنىٰ «الشرعية», فقد نظر إليها علىٰ أنها ترتبط بالقيم والتوقعات الإِجتماعية, وقد يطلق عليها أحياناً إسم «الشرعية السياسية» أو « الشرعية الإِجتماعية».
وهذا التمييز بين المفهومين لا يعرفه التراث الإِسلامي المرتبط بالأصول التشريعية حيث أن ما هو شرعي مشروع والعكس صحيح. «فالشرعية الإِسلامية» واحدة وتتسع لتضم « المشروعية» ـــ بمعنىٰ الإِستناد إلىٰ ما يبرر ويضفي الصحة علىٰ التصرف ـــ, و «الشرعية السياسية» بمعنىٰ إلتزام السلطة باحترام المباديء والأحكام الواردة في أصول الشرعية, وإلتزام الموطن إزاءها بالطاعة, حيث يمثل إحترامه لتلك الأصول ما يبرر طاعتها وبالتالي شرعيتها(18).
2 ـــ مركز الإِنسان في الكون ووظيفة علم السياسة
النظرة إلىٰ الإِنسان في التراث العربي الإِسلامي, وتقوم علىٰ أن الله سبحانه جعل الإِنسان في الأرض خليفة, وحمله أمانة العقل, وهو لذلك له مسئولية فردية إزاء عمله, وله جزاء علىٰ هذا العمل, فالإِنسان هو مخلوق الله المكرم, حيث سخَّر له الكون. وعليه أن يفهم هذا الكون. ويقلّب النظر فيه ليدرك غظمة الخالق, وليدرك حقيقة ذاته نفسها, حيث يتعامل من هذا المنطق مع كافة مكونات الكون, علىٰ أنها مخلوقات لله مثله هو, ولذلك فهو يحترم خلق الله, ويحترم نعمة الله, ويوزع من خير الله لأنه ليس مالكه الأصلي. أيضاً الإِنسان كيان كلي يضم الجسد والروح, والقلب والعقل, ولا انفصال بين هذه المكونات.
ومن هذه النظرة إلىٰ الإِنسان, ومن هذه الوحدة والألتقاء بين المكونات والعناصر المختلفة للظاهرة الإِجتماعية والسياسية, لا نجد في التراث مكاناً للخلاف بين العلم والدين, ولا بين الدين والدولة. وفي ضوء ذلك كله, نجد أنه ليس هناك ما يمكن أن يسمىٰ فكر ديني, أو لغة دينية, أو رجل دين, أو سلطة دينية, وأخرىٰ زمنية, علىٰ النحو الذي يفهمه علم السياسة الغربي. وبالتالي فإن علم السياسة, إنطلاقاً من هذه النظرة, مرتبط بالدين والفلسفة والأخلاق, حيث يتناول البحث في الظاهرة السياسية التي تحوي الإِنسان والمجتمع, في نظرة لا تنفصل عن الكون المحيط, ويكون الهدف هو مساعدة الإِنسان علىٰ بلوغ قدره الإِنساني, عن طريق المجتمع السياسي (الدولة) وبواسطة العلم المدني المسمىٰ «علم السياسة»(19).
3 ـــ التراث والتفسير المادي
لم يعرف التراث العربي الإِسلامي ذلك الصراع الذي عرفه التراث الغربي بين الدين ومعطيات العلم, والذي أدىٰ إلىٰ انتصار العلم وقطع الصلة بالدين. ونتيجة لذلك هيمنت النظرة المادية التي ترد أصول الأشياء كلها إلىٰ المادة, والتي تنكر ما سوىٰ المحسوس كله, من غيب روحي, فالطبيعة موجودة «وجوداً ذاتياً» والكون إنما نشأ «صدفة».
وامتدت النظرة المادية إلىٰ الظواهر الإِنسانية والإِجتماعية(20) حيث نظر إلىٰ أنه, بإستطاعة الإِنسان عن طريق العلم, أن يفسر كل الظواهر المحيطة به, وأن يقيم بناء علىٰ ذلك نظاماً إجتماعياً وسياسياً, خالياً من الإِعتقاد أو الإِيمان بغير ما هو مادي ومحسوس. والواقع أن كل ما سبق أتخذ أساساً لإِقامة أيديولوجيات, وأصبح يمثل مسلمات تتحدث عن قداسة وجلال العلم, وتوسع من الفرقة بين العنصرين المتكاملين عنصريْ المادة والروح.
وهنا نجد أن البحث في التراث, يظهر مبدأ هاماً يرسي أن معرفة الإٍنسان بقوانين الطبيعة, ولا تغني عن الإِيمان بصانع الطبيعة. ومن ثم فإن الدعوة إلىٰ تأليه الطبيعة, والقول بالتطور المطلق, الذي ينسحب علىٰ مل الظواهر, بإعتبار أن كل شيء قد بدأ ناقصا ثم تطور, إنما تترك آثاراً عميقة, تختلف كلية عن النظرة المستقاة من التراث. ذلك أن موقف التراث من تلك النظرة, إنما يقوم علىٰ إعتبار أن العوامل الظاهرة للحدث, أو القانون, ليست وحدها العوامل الفاعلة فيه, فهناك عوامل أخرىٰ غير منظورة, وهي إرادة الله ومشيئته, فهي أكبر من الأسباب نفسها, وهي قادرة علىٰ تعطيل الأسباب ومنعها من أن تحقق النتائج المترتبة عليها. ولا يعني ذلك طمس دور الإِرادة الإِنسانية, فالإِنسان له إرادته, التي تحقق له القدرة علىٰ التصرف, والتي يكون بها مسئولاً عن عمله, وهو عن طريقها, يستطيع أن يمارس قدرته علىٰ تغيير الواقع والمجتمع, بقدر استفادته من القوانين والمعطيات الإلهٰية(21).
ولتلك النظرة أثرها علىٰ التصور العربي الإِسلامي ـــ المنبثق من التراث ـــ بالنسبة للتاريخ ودور الإِنسان فيه, فالإِنسان لا يعد مفترجاً إزاء حركة التاريخ, ولكنه صاحب إرادة قادرة علىٰ الإِختيار والحركة لتغيير الواقع, وهو قادر علىٰ أن يجعل من إرادته, قوة تتحكم في الغرائز, وتسيطر عليها, وتوجهها(22).
4 ـــ النظرة العضوية المنبثقة من التصور الإِسلامي والإِجتماعي :
تقوم نلك النظرة, علىٰ أن لكل عضو في الجسد الإِجتماعي والسياسي وظيفته التي يؤديها, والتي لديه الصفات والمؤهلات الكفيلة بتمام تأديتها, ولهذا فان الجانب الفكري من التراث, اتجه عموماً إلىٰ وضع الصفات والمؤهلات المطلوبة ـــ في كل عضو يقوم بوظيفة معينة ـــ من وظائف المجتمع السياسية, أو الإِجتماعية. ولقد مثلت هذه «الشرائط» ـــ الصفات ـــ أهم ضامن لتمام تأدية العضو لوظيفته, وبالتالي فإنه في حالة فقدان إحدىٰ هذه «الشرائط» أو كلها يفقد العضو أهليته, وصلاحيته التي تكفل له البقاء في مركزه. ومن هذه النظرة العضوية إنصب اهتمام الفكر السياسي في التراث علىٰ مركز «القيادة» وصفات وشروط «القائد», لأنه من الجسد بمثابة الرأس والقلب, حيث يصلاحه يصلح الجسد وبفساده يفسد.
ومن ثم فإن هذا الجسد إن كان يعرف توزيع الأدوار, إلا أنه يتحفظ بشأن تبادل هذه الأدوار: فالحل والعقد, هو لأهل الحل والعقد, والإِجتهاد هو لأهل الإِجتهاد, والشورىٰ هي لأهل الشورىٰ .. وهكذا, ومن هنا, فإن تبادل الأدوار رهين بتحصيل المؤهلات و«الشرائط» المطلوبة للقيام بكل دور.
ومن هذه النظرة العضوية أيضاً نستطيع أن نفهم, كيف يقوم الفرد بواجبه في المجتمع, عن سلطة وولاية مباشرة, بما يمكن أن نسميه تمثيلاً لحق المجتمع, يقوم به الفرد, فالمسلم ولي المسلمين ونائبهم وممثلهم جميعاً, في كل ما يتعلق بتطبيق الشريعة, بما له من ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاع إلىٰ ذلك سبيلاً. وبذلك فإن أي خطر يهدد الكيان المعنوي أو العضوي للمجتمع الإِسلامي, يقابل من الفرد الذي هو عضو في الجسد السياسي برد فعل, من أجل الحفاظ علىٰ سلامة الجسد. والترجمة السلوكية لهذا تتمثل فيما يملكه الفرد المسلم من رفع دعوىٰ «الحسبة»(23) دون أن يقال له : «لا مصلحة شخصية لك» وذلك بعكس الدعوىٰ في النظم الوضعية العصرية التي تقوم علىٰ مبدأ «حيث لا مصلحة لا دعوىٰ»(24).
5 ـــ موقف التراث في قضيتيْ الثبات والاطلاق, والتغير والنسبية, وأثر ذلك علىٰ القيم السياسية والتطور السياسي :
يحتاج الإِنسان إلىٰ التمسك بمجموعة من القيم الثابتة يقيم عليها كيانه المعنوي والفكري, حتىٰ لا يؤدي الاعتقاد في نسبية القيم وتغيرها إلىٰ قبول القول بأنه : مع اختلاف الزمان والمكان, فإن ما يعد من مكارم الأخلاق والأفعال, قد يصبح العكس. وفي ذلك الخصوص نجد أن التراث له رؤية تقوم علىٰ تقديم مجموعة من القيم الثابتة, التي لا تتغير مع تغير عنصري الزمان والمكان, والتي تراعي في نفس الوقت تغير إطار الحركة وظروف الممارسة. فالتراث يجمع بين الاعتقاد في الأصول الثابتة, وبين الإِجتهاد في الفروع, إجتهاداً يتغير مع نغير المكان, واختلاف الزمان حيث ينظر إلىٰ الإِسلام علىٰ أنه منهج إلهي رباني من حيث الأصول, وممارسة إنسانية من حيث التطبيق.
وبالتالي فإن تناول التراث في إطار العلوم السياسية له جانبان :
ـــ جانب الثبات المتمثل في مجموعة من القيم والمباديء, المستمدة من الأصول الثابتة, حيث توجد قيم : العدالة, الحرية, المساواة. وحيث توجد مباديء : الشورىٰ, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وغير ذلك. وهذا الجانب يستمد ثباته من ثبات مصدره المتمثل في أصول الشريعة الثابتة.
ـــ ثم جانب التغير, وهو الذي يتعامل مع الخبرة الإِنسانية التي تمارس الحركة والتي تصنع التطور السياسي, وتتفاعل مع مشكلات الوجود السياسي والإِجتماعي وظواهره(25).
في الجانب الأول ندرس القيم والمبادىء السياسية, وفي الجانب الثاني ندرس التطور السياسي والحركة السياسية. وبذلك فإن ثبات القيم والمبادىء, لا ينفي التطور ولا يعني الجمود, كما أن نسبية التطبيق وخصوصية التجربة لا تنفي إطلاقية القيم.
وبعد, فقد حاولت من خلال هذه العجالة, أن أثير بعض القضايا التي تتصل بإشكالية التراث والعلوم السياسية. ومما لاشك فيه, أن هناك العديد من القضايا الأخرىٰ, التي لم يتسع المقام لتناولها. وحسبي أنني أثرت بعضها ولا أدعي لنفسي الكمال. ولكل متخصص في فرع من فروع العلوم السياسية(26) أن يدلي بدلوه, وأن يتفاعل مع التراث, ويبدأ من عنده كإطار معرفي أصيل.
ثالثاً : ملاحظات ختامية حول التراث وتدريس العلوم السياسية
إن أمانة نقل التراث من جيل إلىٰ جيل واستمرار هذه العملية عبر الأجيال هو واجب أساسي علىٰ القائمين, والمشتغلين بالعملية التعليمية. وبذلك فإن الحاجة ماسة إلىٰ التعامل مع الظواهر السياسية والإِجتماعية في مجتمعنا, من منطلق أصيل يوازن ويحد من هيمنة مدركات علم السياسة الغربي, علىٰ مناهج الدراسة في جامعاتنا. ويعيد النظر في المسلّمات, التي تبنىٰ عليها المناهج الدراسية, ويضعها في موضعها الحقيقي, بإعتبارها مجرد فروض ونظريات, يقابلها ويوازنها منهج المعرفة المستقىٰ من التراث الأصيل.
ومن ثم, فإن دعوتنا إلىٰ تطعيم مناهج الدراسة في العلوم السياسية بالتراث(27) إنما تعني أساساً إدماج التراث في مناهج الدراسة, في صورة متناسقة, وعدم تدريسه كجزئية مبتورة, او كخبرة منفصلة داخل محتوىٰ منهج دراسي واحد. وأن نعمل بذلك علىٰ تدعيم انتماء جيل الشباب بالتراث, بحيث تبدأ في تحديد المفاهيم من التراث, بإعتبارنا ننتمي إليه, ثم ننتقل إلىٰ ما عند آلاخرين وبذلك فإن الإِحساس بالانتماء ـــ الذي يقابله الإِحساس بالغيرية ـــ إنما يكون لدينا موجهاً نحو التراث العربي الإِسلامي, حتىٰ نقضي علىٰ هذه الازدواجية, التي تصيب المثقف العربي المغرّب, حينما يشعر بانتمائه لثقافة الغرب, هذا الانتماء غير الإِصيل, الأمر الذي يجعله يرجع إلىٰ المراجع الأجنبية, والموسوعات الغربية, بدلاً من أن يبدأ بالتراث ثم يكمل الإِطار بعد ذلك من عند الغير.
وهذا هو ما نريد ترسيخه في شعور دارسي العلوم السياسية في جامعاتنا, فطريقة التدريس المعتمده علىٰ البداية المستمدة من الفكر الغربي, إنما تحمل إنحيازاً قيمياً للثقافة الغربية, وتحمل في نفس الوقت الشك والتجاهل لقيمة التراث العربي الإِسلامي. وهدفنا ليس هو الاقتصار علىٰ ما في التراث, وقطع الصلة مع معطيات الفكر والثقافة الغربية, وإنما نريد موقفاً معتدلاً ـــ ليس توفيقياً ولكنه موقف عادل أصيل ـــ يدعم الانتماء إلىٰ التراث, ويجعله موصولاً بالعصر, حتىٰ نستفيد منه في التفاعل مع معطيات الغير, وحتىٰ نكون قادرين علىٰ تبادل الأخذ والعطاء, بدلاً من الاقتصار والتهافت علىٰ الأخذ فقط.
الهوامــش
(1) وردت لفظة «التراث» في القرآن بمعنىٰ «الميراث», وذلك في قوله تعالىٰ : (وتأكلون التراث أكلا لما) (سورة الفجر «19»). وحاء في تفسيرها أن المعنىٰ المراد من التراث هو الميراث. ونضيف أن الميراث إنما يخص في الغالب الإِرث المادي, بينما شاع استخدام التراث فيما يخص الإِرث المعنوي. انظر : محمد علي الصابوني, صفوة التفاسير, المجلد الثالث, بيروت, دار القرآن الكريم, الطبعة الرابعة, 1981, ص 558.
(2) انظر وقارن: د. منىٰ أبو الفضل, «مفهوم الأمة في الإِسلام», بحث غير منشور مقدم لندوة النظرية السياسية في الإِسلام, والتي نظمها المجلس الأعلىٰ للثقافة بالقاهرة, في الفترة ما بين الخامس والثامن من مايو 1981.
(3) يذكر في هذا الصدد حديث ينسب للرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ نصه «ليست العربية بأب ولا أم, وإنما العربية اللسان». وكذلك قوله تعالىٰ : (إنا انزلنا قرآنا غربياً لعلكم تعقلون) (سورة يوسف «2» ),
(4) انظر تحليلا لذلك في A.A.A. FYZEE, «The Impact of Islam upon Political Conduct in Recent Times», in : HAROLD D. LASSWELL and HRLAN CLEVELAND. The Ethic of Power : The Interplay of Religion Philosophy and Politics, New York : Harper, 1962, pp. 113 – 116.
(5) انظر وقارن : د حامد ربيع, سلوك المالك في تدبير الممالك, 1980 ج 1, ص 75, 76, عبد السلام هارون, التراث العربي, 1978, ص 12 وما بعدها.
(6) راجـــع H. DAALDER «Government and Political Opposition in the New States », in : Government & Opposition, Vol . I No. 2, 1966, p. 208, 209.
(7) حول موضوع التنمية السياسية انظر : G. FINKLE, Political Development and Social change, New – York: John Wiley, 1968.
(8) انظر وقارن : د. محمد أكون, «التراث: محتواه وهويته ـــ إيجابياته وسلبياته», بحيث غير منشور مقدم إلىٰ ندوة : التراث وتحديات العصر, التي نظمها مركز دراسات الواحدة العربية والتي انعقدت بالقاهرة في الفترة من 24 ـــ 27 ايلول/ سبتمبر 1984.
(9) لاحظ ابن خلدون من قبل طبيعة عمل الفقهاء المنصة علىٰ النظر العقلي والقياس والاستنباط, والتي هي تختلف عن مجالات السياسة التي لا تؤدي فيها القياس علىٰ الاشباه والنظائر نفس الدور الذي يؤدية في مجال الفقه. راجع / ابن خلدون, المقدمة, القاهرة (ط. لجنة البيان العربي), ج2, ص 743, 744.
(10) الأمثلة علىٰ ذلك من نصوص التراث كثيرة نذكر منها : ابن تيمية, السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. أبو حامد الغزالي, التبر المسبوك في نصيحة الملوك.
(11) من المراجع المفيدة بهذا الخصوص : د. إبراهيم أنيس, دلالة الألفاظ, القاهرة : مكتبة الانجلو المصرية, الطبعة الرابعة, 1980.
(12) يفيد التعامل اللغوي مع المصطلحات, في الكشف عن بعض نواحي اللبس والغموض, الذي يظن معه أن الألفاظ المستعملة للدلالة علىٰ تلك المصطلحات, ليست لها دلالة مرتبطة بالتراث. من ذلك مثلاً مصطلح «المعارضة» الذي استطعنا بيان كيف أنه كلفظ مشتق من أصل لغوي سليم, وهو كمصطلح موفق في الدلالة علىٰ الخلاف الفكري والسياسي.ولقد عثرنا علىٰ مخطوط ـــ تم تحقيقة حديثاً ـــ يرجع تاريخه إلىٰ القرن الثالث الهجري وهو معنون بلفظة المعارضة, ويستخدمها بنفس الدلاله المستعملة فى عصرنا هذا, في جال الخلاف الفكري والسياسي., إلا أن الاحتكاك الثقافي بالغرب في عصرنا الحالي, أكسب اللفظة بعض الدلالات التي أصبحت تحملها كترجمة للفظة Opposition الإِنجليزية. انظر المخطوط المشار إليه في : سهل بن عبدالله التستري, المعارضة والرد علىٰ أهل الدعاوىٰ في الأحوال, تحقق نقد وتعليق : د. محمد كمال جعفر, القاهرة دار الإِنسان, الطبعة الأولىٰ, 1980. انظر مزيداً من التفاصيل حول لفظ ومصطلح المعارضة في د. نيڤين عبد الخالق, المعارضة في الفكر السياسي الإِسلامي, القاهرة : مكتبة الملك فيصل الإِسلامية, الطبعة الأولىٰ, يناير1985.
(13) انظر مزيداً من التفاصيل في : بكر مصباح تنيره, التاريخ والتحليل السياسي, رسالة ماجستير غير منشورة, جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. 1976.
(14) انظر محاولتنا بذلك الصدد في : د. نيڤين عبدالخالق, المعارضة في الفكر السياسي الإِسلامي, مرجع سابق.
(15) انظر وقارن : د. سعد الدين إبراهيم, «المسألة الاجتماعية وتحديات العصر», بحث غير منشور مقدم لندوة : التراث وتحديات العصر, مرجع سابق, ص 17, 18.
(16) ذلك تعريف ابن خلدون. وعلىٰ نفس المعنىٰ يدور تعريف الخلافة لدىٰ فقهاء آخرين كالماوردي والتفتازاني والرازي وعضد الدين الايجي. راجع علىٰ سبيل المثال : ابن خلدون, المقدمة, مرجع سابق, ج 2, ص 688. الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية, القاهرة : مكتبة مصطفىٰ البابي الحلبي, الطبعة الثالثة, 1973, ص 5.
(17) راجع مفهوم : الوجوب, الندب, الإِباحة في كتب الفقه. ونذكر علىٰ سبيل المثال : عبدالوهاب خلاف, علم أصول الفقه, الكويت, دار القلم, الطبعة الثامنة, (د.ت). محمد الخضري, أصول الفقه, القاهرة, المكتبة التجارية الكبرىٰ, الطبعة السادسة, 1969.
(18) يمكن الرجوع إلىٰ مزيد من التحليل في : د. مصطفىٰ كمال وصفي, مصنفة النظم الإِسلامية, القاهرة: مكتبة وهبة, الطبعة الأولىٰ : 1977, ص 151, 152. د. فاروق يوسف, القوة السياسية : دراسات في علم الاجتماع السياسي. (3), القاهرة : مكتبة عين شمس, 1979, ص 38. وانظر في مفهوم «الشرعية الدينية» : د. حامد ربيع, سلوك المالك في تدبير الممالك, مرجع سابق, ج1, ص 211, 212.
(19) تناولنا هذه الفكرة بمزيد من التفاصيل في مؤلف لنا تحت الطبع. انظر: د. نيڤين عبد الخالق, الفارابي وعلم السياسة ,القاهرة : مكتبة الملك فيصل الإِسلامية, تحت الطبع.
(20) حول اتجاه التفسير المادي للتاريخ الإِسلامي. أنظر علىٰ سبيل المثال لا الحصر: محمد فتحي عثمان, التاريخ الإِسلامي والمذهب المادي في التفسير, الكويت : الدار الكويتية للطباعة والنشر, الطبعة الأولىٰ, 1969. ومن الكتابات التي وقفت موقفاً نقدياً من هذا الاتجاه نذكر علىٰ سبيل المثال لا الحصر: Ali Shari’ati , Marxisn and other Western Fallacies: An Islamic Critique, Trans. By R.Campbell, Berkeley : Mizan Press,1980.
(21) تكشف تلك النظرة عن حقيقة كثير من المفاهيم الملرتبطة بالتراث : كمفهوم «الصبر» وهو فكرة إسلامية عميقة المغزىٰ تتصل بالاعتقاد بضرورة اتباع الجماعة للعدالة, انطلاقاً من وازع ديني أخلاقي, وإلا فإن قدرة الله كفيلة بقهر الظلمة. ولقد أشار ابن خلدون بهذا الصدد, إلىٰ أن«الظلم مؤذن نجراب العمران», وكذلك نجد أن القصص القرآني يؤكد علىٰ ذلك من خلال قصص إهلاك فرعون, وغيره من الظلمة, بالصاعقة أو بالطير الأبابيل. راجع : ابن خلدون, المقدمة, مرجع سابق. ج 2, ص 849, سيد قطب, التصوير الفني في القرآن, القاهرة : دار الشروق, ط6 , 1980, ص 117 ـــ 138. وانظر أيضاً : د. محمود إسماعيل, قضايا في التاريخ الإِسلامي, بيروت : دار العودة, 1974, د. نيڤين عبدالخالق, المعارضة في الفكر السياسي الإِسلامي, مرجع سابق, ص 230 وما بعدها.
(22) راجع علىٰ سبيل المثال : محمد أبو القاسم حاج محمد, العالمية الإِسلامية الثانية : جدلية الغيب والإِنسان والطبيعة, بيروت : دار المسيرة, 1399 هـ.
(23) راجع : ابن تيمية, الحسبة في الإِسلام أو وظيفة الحكومة الإِسلامية, القاهرة: مطبعة المؤيد, 1318 هـ.
(24) راجع :د . مصطفىٰ كمال وصفي, مرجع سابق, ص 77.
(25) في هذا الصدد أظهر التراث مرونة كبيرة تتمثل في مظاهر شتىٰ منها : جواز تعدد الرئاسة العامة مع اختلاف مكان انعقادها بشرط الاتفاق في «السير والأغراض», أيضاً إجازة إمارة الاستيلاء في ظروف وبشروط معينة, والبحث في قضية المفضول والأفضل, والموازنه بين الضرر الواقع والضرر المتوقع واختيار أخف الضررين. وغير ذلك مما لا يتسع المقام لتفصيله. لمزيد من التفصيل راجع : د نيڤين عبد الخالق, الفارابي وعلم السياسة, مرجع سابق. الماوردي, الأحكام السلطانية, مرجع سابق, ص 3 وما بعدها. أبو المعالي الجويني, غياث الأمم في التياث الظلم, تحقيق ودراسة د. مصطفىٰ حلمي. الاسكندرية: دار الدعوة 1979.
(26) في مجال إثراء العلوم السياسية بالتراث ظهرت العديد من الدراسات الرائدة نذكر منها علىٰ سبيل المثال لا الحصر : د. حامد ربيع, التراث الإِسلامي ووظيفته في بناء النظرية السياسية, القاهرة: مكتبة القاهرة الحديثة, (د.ت) .د. حورية مجاهد, محاضرات في تطور الفكر السياسي الإسلامي والغربي, جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, 1982/1983.د. منىٰ أبو الفضل, مدخل منهاجي في دراسة النظم السياسية العربية (مذكرات في جزئين), جامعة القاهرة : كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, 1983/1984.
(27) نشير بهذا الخصوص إلىٰ بعض الكتابات التي عنيت بتلك القضية ـــ علىٰ سبيل المثال لا الحصر ـــ د. حسن حسين زيتون, الاتجاه الديني في تدريس العلوم : دراسة في العلاقة بين العلم والدين, دار المعارف بمصر, الطبعة الأولىٰ, 1984 .د. منىٰ أبو الفضل, من قضايا تطوير التعليم في الوطن العربي : نحو منهجية علمية لتدريس النظم السياسية العربية, القاهرة : مكتبة نهضة الشرق, 1982 .د. فاضل الجمالي, نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الإِسلامي, تونس, الطبعة الثانية. 1978.