(*)مقدمة
كأي كائن حي، يتعرض لظواهر الصحة والمرض، تُصاب الصحوة الإسلامية المعاصرة بظواهر الصحة والمرض، أو بما نسميه الإيجابيات والسلبيات. والتعرف على الداء وتشخيصه هو أول خطوة على طريق العلاج. لذا كان من المفيد أن يجتمع المهتمون بالأمر، لا ليكيل بعضهم المديح للبعض الآخر، ولا ليتباهوا على العالم بما أنجزه العمل الإسلامي خلال فترة من الزمان، وإنما ليتدارسوا عقبات الطريق، ما كان منها خارجًا عنهم وما كان من عمل أيديهم، وهذا الأخير هو ما اصطلحنا على تسميته بالنقد الذاتي، وهو ما تتناوله هذه الورقات في إطاره الفكري.
والنقد الذاتي بمعنى مراجعة النفس أو النشاط، فرديًا أو جماعيًا، ثم محاسبتها نراه في الآية الكريمة: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} ولم يقل اللائمة، وإنما اللوامة. «أي أن هذه النفس أصبح لها هذا الأمر خلقًا وعادة.. فهو ليس أمرًا يستنفر له بين حين وآخر، بل هو عملية روتينية تشكل أسا من أجزاء العمل الرئيسية» (جلبي 21).
وحديثنا عن السلبيات لا يعني نكرانًا للإنجازات الإيجابية التي واكبت ظاهرة الصحوة الإسلامية المعاصرة. وإنما يعني اهتمامًا مركزًا بإصلاح عيوبنا قبل أن نوجه اللوم إلى غيرنا. وتشخيص المرض هو عمل إيجابي بناءً لكل من يزمع المساهمة في العلاج، وليس لمن لديه هواية النقد وقذف الآخرين ليبرر لنفسه عجزها وقعودها عن الإنتاج. «إن عملية النقد الذاتي هي التفات إلى العامل الجوهري الذي عن طريقه يمكن حل المشكلة جذريًا. فتطهير الوسط الداخلي هو الذي يهب الصحة ويرفع المقاومة ويقي من المرض. والعمل الإسلامي اهتم كثيرًا بخصومه أكثر من داخله، فهو رأى الصليبية والصهيونية والاستعمار والمخابرات العالمية والشيوعية الدولية، ولم يلتفت إلى نفسه بهذا القدر مع العلم أن جوهر القضية هي نفسه. {اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. بل نذهب شوطًا أبعد من هذا فنقول: إن القوى الخارجية يجب أن نتوقع منها كل خبث وكيد وتخطيط مضاد. ولكن ليس لنا عليها سيطرة إلى من خلال أنفسنا بأن نحقق في أنفسنا عدم القابلية حتى لا ينفذ منها مخطط العدو. فنفوسنا، لنا قدرة أن نغير فيها، على خلاف عدونا، ونحن تركنا مجال الإنتاج إلى حيث اللا إنتاج» (جلبي 39).
وقبل أن ندلف إلى صلب موضوعنا، يحسن أن نقدم تعريفًا للصحوة وبيانًا موجزًا لأسبابها والتنبؤ بحدوثها.
* * *
تعريف الصحوة:
لن نوغل في التنظير فنتلمس تعريفًا جامعًا مانعًا للصحوة الإسلامية المعاصرة، إذ ليس هذا مجاله. وإنما نطرح هذا التعريف – استكمالاً للبحث – وتبيانًا لما نقصده عندما نتناول الظاهرة بعد ذلك بالدراسة والتحليل.
فنحن نريا بالصحوة الإسلامية المعاصرة تلك الظاهرة الاجتماعية الجديدة التي تشير إلى تنبه الأمة الإسلامية وإفاقتها وإحرازها تقدمًا مطردًا في إحساسها بذاتها واعتزازها بدينها وفي تحررها من التبعية الفكرية والحياتية، وفي سعيها للخروج من تخلفها وانحدارها، ولقيامها بدورها الحضاري الخيري المتميز باعتبارها خير أمة أخرجها الله لإعمار الأرض.
وهي ظاهرة شاملة لحركة الأفراد والجماعات والدول. ممتدة في مجالي الفكر والممارسة، متضمنة الإيجاب والسلب في منجزاتها المتعاقبة على رقعة العالم الإسلامي وما يلحق به من جاليات إسلامية متناثرة في أنحاء المعمورة.
أسباب الصحوة:
تحدث الكتاب عن العوامل التي أدت إلى ظهور الصحوة الإسلامية، فهي كظاهرة تاريخية جديرة بالتحليل الموضوعي، كما أن الإمساك بأسبابها يدفع المسلمين الغيورين إلى الاستزادة منها وتطويرها في الاتجاه الذي تؤتي فيه ثمارها.
ومن أكثر التحليلات شمولاً وعمقًا ما أورده صادق المهدي في دراسته المعنونة (الصحوة الإسلامية ومستقبل الدعوة) والتي جمع فيها أسباب الصحوة وعددها في سبع فقرات، نكتفي بإيجازها في هذه التقدمة.
1- استمرار الجذوة:
إن الضعف والركود لم يقتلا جذوة الإسلام تمامًا بل ما برح المصلحون والمجددون والثوار ينهضون هنا وهناك ينبذون التقليد ويقاومون الاستعمار، باسم الإسلام واستجابة لداعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذه السلسلة المتصلة من مجتهدين بالقلم ومجاهدين بالسيف، هي التي مهدت عبر القرون للصحوة التي توهجت أثناء النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وخبت حينًا ليعود توهجها في النصف الثاني من القرن العشرين، مستقبلة القرن الخامس عشر الهجري. لقد ظلت أمة من الناس حافظة ضمير الأمة الإسلامية، مؤكدة أن الدين منصور وأن وعد الله حق، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.
2- اكتشاف الخدعة:
كانت الهيمنة في البداية للحضارة الغربية وافتتن بها بعض الناس ثم افتتن آخرون بالحضارة الشرقية الشيوعية وصارت الحضارتان طريقين للتنمية الرأسمالية أو الشيوعية للحاق بالعصر. ولكنهما لم تفيا بالوعد تمامًا، وتكشفتا عن ضعف خطير أذهل المفتونين بهما أنفسهم.. وافتضح ما انطوت عليه الحضارات الوافدة من خطط استغلال لموارد الشعوب المغلوبة، واتضح أن الكبار إنما يتصارعون على سلب البلاد المتخلفة، وإن هم عاونوا فلكي ينالوا موقعًا أو موقفًا إلى جانبهم في صراعهم الدائب للسيطرة العالمية.
هذه الحقائق فتحت عيون كثيرة من الضحايا.
3- البحث عن البدائل:
إن كانت بعض المحاولات القومية قد اشتملت على درجة من التحرير السياسي والتعبئة الوطنية، إلا أنها كانت خارج الفاعل الأساسي في البلاد الإسلامية وهو الإسلام، مما دفع الناس إلى البحث عن البدائل.
4- التحرر من التقليد:
أنبرى كتاب ومفكرون تحرروا من تقليد الموروث ومن تقليد الوافد، استوعبوا نصوص الإسلام المنقولة واستوعبوا معارف العصر الحديث، وشرعوا يبثون فكرًا إسلاميًا عصريًا. ومهمًا كانت إخفاقات هؤلاء فقد نجحوا في بيان أن تعاليم الإسلام صالحة للتطبيق مع اختلاف الزمان والمكان. هذا الفكر ساهم مساهمة فعالة في الصحوة.
5- التحدي الحضاري:
هجوم الحضارة الغربية ثم الشرقية ثم الصهيونية التي ألقمت أمتنا جرعة مركزة نبهت حتى بعض الغافلين إلى أن ثمة تحديًا حضاريًا أساسيًا يحيط بهم.
6- تحسين الجذور:
في الصراع مع الاستعمار أحست الشعوب المغلوبة بانقطاعها من أصولها، وأحست أن ذلك الانقطاع هو جزء من خطة الاستعمار ليهندسها على شاكلته، لذلك شرعت الشعوب تبحث عن أصولها ومنابع ذاتها وكرامتها. والإسلام – في بلاد المسلمين – هو جذور الجذور، لذا فإنه استقطب الاهتمام فصار رمزًا للاستقلال الحضاري من الاستعمار حتى لغير المسلمين.
7- الإمكانات المالية:
النفط هو وقود الحضارة الحديثة صناعيًا وزراعيًا. ووجوده بكميات هائلة في بلاد المسلمين زاد من أهميتها الاقتصادية في عالم اليوم.. ووضع في يدها موارد مالية ضخمة.. كما لعب وعي المسلمين المتصاعد بدورهم وأهمية منطقتهم دورًا في الصحوة. (المهدي 63).
التنبؤ بالصحوة:
الصحوة الإسلامية التي يشهدها العالم المعاصر لم تكن مفاجئة للعالم الغربي، وإن كانت مفاجئة للعالم الإسلامي الذي لا يقرأ التاريخ.
يقول الدكتور حامد ربيع أستاذ العلوم السياسية: «إن جميع القيادات الفكرية العالمية توقعت هذه الصحوة منذ ما لا يقل عن ثلاثين عامًا، بل وهناك من توقعها منذ أكثر من ستين عامًا».
«فالعالِم الأمريكي سميث، في جامعة مونتريال في كتاب له أسماه «الإسلام اليوم» وصدر في الخمسينات، لفت نظر المسئولين في بلاده إلى هذه الصحوة».
«والعالم الإنجليزي صاحب الشهرة الدولية (وات) أيضًا في تحليله للإسلام في العصور الوسطى الذي تضمنه كتابه الصادر عام 1964 م توقع هذه الصحوة، ووصفها بأنها سوف تقود إلى أيديولوجية رابعة ستتحكم في العالم المعاصر في نهاية القرن الحالي».
«على أن أخطر وثيقة بهذا الخصوص تعود إلى عالم روسي هو تروجانوسكي، كتب مجموعة مؤلفات في أعقاب الثورة الشيوعية محاولاً تقييم تلك الثورة، ومتسائلاً متى وأين تأتي الثورة العالمية الثالثة؟ مشيرًا بها إلى الثورتين الفرنسية والشيوعية وإلى أن كلتيهما قد فشلتا في ناحية معينة، وأن العالم في حاجة إلى ثورة قادمة تستطيع أن تصحح من مسارات الحركة الإنسانية، ويجيب تروجانوسكي بأن تلك الثورة لن تأتي إلا من العالم الإسلامي.. كان ذلك في عام 1919 م» (غراب 72).
أمراض الصحوة
التفرق:
التفرق مرض قديم مزمن. يزداد حدة زمنًا ويخف زمنًا آخر. وقد بلغ في زماننا هذا مبلغًا عظيمًا. ذلك أنه لم يقتصر على الخلافات التي أدت إلى القتال بين جيران مسلمين في آسيا وأفريقيا. وإنما أصبح سمة من سمات الدعاة الإسلاميين أنفسهم، حيث تفرقت مذاهبهم ومدارسهم وتشتت بذلك جهودهم.
إن تعدد المدارس الفكرية يمكن أن يكون كسبًا كبيرًا للصحوة الإسلامية المعاصرة إذا تعاونوا فيما فيهم متفقون وعذر بعضهم بعضًا فيما هم فيه مختلفون، ذلك الشعار الذي أطلقه جمال الدين الأفغاني منذ قرن من الزمان وسار على دربه المصلحون من بعده، ولكن الأمور سارت على غير ما كانوا يأملون.
فما زالت الأمة الإسلامية – بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان – عاجزة عن حصر الخلاف بين الشيعة والسنة، ذلك الخلاف الذي نشأ عن ملابسات تاريخية سياسية بحتة ثم ما لبث أن اتخذ أبعادًا عقائدية وفكرية كرسته وعمقته على مر القرون، ثم توجته بتلك الحرب الضروس القائمة على ضفتي الخليج العربي. والتي لا تستند إلى أي تبرير عقلاني على كافة مستويات التحليل السياسي والعسكري والاقتصادي. وما زالت النزعات الصوفية والسلفية والعصرانية والأصولية تمزق وحدة العمل الإسلامي. وتتسابق في اكتساب الأنصار أكثر مما تتسابق في إنقاذ المجتمعات الإسلامية من مستنقع التخلف الذي تتردى فيه منذ عصور الانحطاط. إن التفرق يأتي نتيجة علة أخرى تصيب الفكر قبل أن تظهر في السلوك. تلك هي علة التعصب للرأي تجاه آراء الآخرين. والخلط في ذلك بين قضية الحق والباطل، وهي قضية لا تقبل المفاصلة بطبيعتها، وبين قضية الصواب والخطأ التي لا نُحسن استيعابها والعمل بمقتضاها. «فيحب ألا نصر على تطابق الأفكار في الأمة تطابقًا تامًا. ذلك قيد لا يمكن تحقيقه، فالتجانس الفكري في الأمة لا يتطلب تطابق الأفكار تمامًا، وإنما يتطلب وجود أرضية مشتركة تلتقي فيها الأطراف على قدر يحقق المصلحة الحضارية من خلال العمل المشترك».
«إننا يجب ألا نخلط بين العقائد السماوية وبين عالم الأفكار الذي انبثق عنها، والعقائد في جملتها إيمانية وهي تمثل الأسس التي قام عليها عالم الأفكار، والطرائق التي انبثق عنها عالم الأفكار من العقيدة طرائق عقلية وليست إيمانية، ومن هنا ينبغي أن نتحفظ في دفاعنا عن عالم الأفكار، فهو يعتمد الاجتهاد في طرائق انبثاقه من العقيدة، وكل اجتهاد يحتمل الصواب والخطأ» (دسوقي وسفر 39).
الصراع مع السلطة:
إن ظاهرة الصراع بين الإسلاميين والسلطة – وإن كانت ظاهرة سياسية – إلا أن جذورها التي تعنينا هنا هي الجذور الفكرية.
إن الخسائر المترتبة على هذا الصراع المتكرر في معظم أرجاء العالم الإسلامي لا تَقِل خطورة عن خسائر الدول الإسلامية المتحاربة في آسيا وأفريقيا. فالأطراف كلها مسلمة، والرابح الوحيد هو العدو المتربص في كلتا الحالتين.
إن الخلفية الفكرية لدى الشاب الذي يدفعه إخلاصه وحماسه إلى العمل للإسلام من خلال حركة إسلامية منظمة، تُرسخ في أعماقه – مع مرور الوقت – أن نجاح جماعته لا يحمل إلا معنى واحد هو الوصول إلى امتلاك السلطة. وسواء تصور هذا الوصول بالطرق الدستورية المشروعة في بلاده، أو عن طريق الثورة والانقضاض، فإن النتيجة واحدة، وهي تكوين أجيال من المسلمين تحلم بالسلطات، كحل لمشاكل المجتمع، وتقيس نجاحها وفشلها بمقدار قربها أو بعدها من هذا الهدف.
وهذا المنطلق الفكري الخاطئ يصوره الدكتور جعفر شيخ إدريس في حديث له بقوله: «إن الحركة الإسلامية إذا حددت لنفسها أهدافًا كالوصول إلى الحكم ثم لم تصل إليه فإن هذا لا يعني بالضرورة أن الهدف أو العمل له كان خطأ. لأن كثيرًا من الأنبياء لم يحققوا مثل هذه الأهداف. فمثلاً نوح عليه السلام ماذا حقق؟ كل الذين آمنوا معه حملهم في سفينة واحدة بعد ما يقرب من ألف عام. وكذلك بعض الأنبياء. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى أعطى الناس حرية الاختيار في مسألة الحق والباطل ولم يعط الأنبياء ولا الدعاة القوة على تغيير قلوب الناس. وإذا لم تتغير قلوب الناس فلا يمكن أن يتغير مجتمعهم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. ونحن لم نُعط هذه القوة – {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} – فالله أعطى الناس هذا الحق. ونحن لا نستطيع أن نسلبهم إياه.. كما أنه لم يُعط الشيطان أيضًا القدرة على قهرهم على قبول الباطل حتى إن الشيطان يحتج بحجة معقولة في النهاية فيقول للكفار: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (إدريس – مقابلة 30).
إن الصراع مع السلطة أخذ بُعدًا دينيًا لدى بعض الكتاب والمنظرين الإسلاميين، أفضى بهم – أحيانًا – إلى اعتباره جهادًا في سبيل الله. بينما هو لدى الحكام الذين يبطشون بالجماعات الإسلامية – في بعض أرجاء العالم الإسلامي – لا يحمل أي مضمون أيديولوجي. فمعظم الذين استولوا على مقاليد الحكم في بلادنا بغير إرادة شعوبهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام من ينازعهم سلطان، سواء كان ذلك المنازع إسلاميًا يدعو إلى تطبيق شريعة الله أو كان ماركسيًا يعتبر الدين أفيون الشعوب.
لذلك كان إلباس هذا الصراع ثوبًا عقائديًا – واعتبار أن هؤلاء الحكام يحاربون الإسلام أو يحاربون الماركسية – فيه مجانبة للصواب، عن وعي أو عن غير وعي بطبيعة الصراع. إن الطرف الوحيد الذي يفهم هذا الصراع على حقيقته، هو الراصد الأجنبي، الذي يسره انشغال (المارد الإسلامي) بصراعاته الداخلية، حتى لا يُفيق من جديد، فيسترد ثرواته المنهوبة، ويستعيد صدارته للمسيرة البشرية.
وهناك مفهوم آخر – لدى الإسلاميين – يتطلب منا وقفة لمناقشته وتحليله. ذلك أننا – إذا أنصفنا – لا نستطيع أن نلقي كل اللوم على الحكام. فكيفما تكونوا يُول عليكم. والشعوب هي أداة القوة التي تقوم بها الأنظمة، والشعوب هي التي تجعل من الأنظمة قوىً عادلة أو قوىً غاشمة. يقول الدكتور حامد خليل في مقال بعنوان: «إني أتهم الشعب»:
«لقد حدث أن عُين أحد الضباط في أحد الأقطار العربية، على أثر القيام بثورة عسكرية ناجحة – وزيرًا للتعليم. فوجد أنه مضطر – بحكم هذا المنصب – إلى الالتقاء بأساتذة جامعة ذلك القُطر. غير أن الضابط المذكور تهيب أول الأمر الدخول إلى الحرم الجامعي لشعوره بالنقص تجاه هذه النخبة من عمالقة الفكر المتواجدين في تلك الجامعة. وقد تردد كثيرًا قبل أن يخطو خطوته الأولى، لكه وجد أن لا مفر له من الإقدام على ذلك. وعندما زار الجامعة، ظهرت عليه الأعراض التي تظهر على أي تلميذ مبتدئ حين يدخل إلى قاعة المدرسين لأول مرة. غير أن الأساتذة الأجلاء أخذوا يعينونه على الخروج من الورطة التي وجد نفسه متورطًا فيها، ولكن ليس بدافع إنساني ولا تربوي، وإنما بدافع انتهازي صرف، وقد بدأوا يوهمونه بأنه على مستوى من الثقافة يؤهله لأن يتقلد ذلك المنصب ولا يكون أول الأمر نِدًا لهم، وأستاذًا عليهم فيما بعد، وبعد مضي وقت قصير – وبالاعتماد على نظرة الإعجاب والدهشة بثقافته الرفيعة من قِبلهم، وتواضعهم المهذب تجاه شخصه الفاضل – لم يجد ذلك الضابط ما يمنعه من «تعيين» نفسه «قائدًا» للجامعة، يعامل أساتذتها مثلما كان يعمل جنوده من العسكر.. وأترك الأمر للقارئ لكي يتصور كيف يمكن أن تجري الأمور في الأوساط الأخرى التي يفترض أنها أقل عقلانية» (خليل 11).
إن العمل السياسي أمر مشروع. بل هو واجب ملزم لكل من يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن قصر مفهومه على السلطة التنفيذية دون غيرها، فيه حشد للجهود في اتجاه واحد فقط، غالبًا ما يؤدي إلى الخلاف، ثم إلى الصراع الخاسر للطرفين في نهاية المطاف. يقول الدكتور جمال عطية في مقالٍ بعنوان: «العمل الإسلامي في المجال السياسي»:
«إن تركيز الاهتمام في العمل السياسي على السلطة التنفيذية فيه تجاهل لأهمية السلطة التشريعية والسلطة القضائية وأجهزة التأثير على الرأي العام من صحافة وإذاعة مسموعة ومرئية وغير ذلك من أجهزة الإعلام. فإيجاد التوازن الدستوري والفعلي بين هذه السلطات ينبغي أن يكون هدفًا من أهداف العمل السياسي».
«ومحاولة العناصر الإسلامية في هذه الأجهزة القيام بواجبها الإسلامي في مجالات التشريع والرقابة والقضاء والإعلام ينبغي أن يكون في بُؤرة اهتمام الحركة الإسلامية» (عطية – المجال السياسي 9).
إن الرقعة المتاحة أمام الدعاة في ظل الأُطر السياسية والقانونية القائمة ليست ضيقة. بل هي تستوعب جهود الآلاف من المتخصصين والفنيين المخلصين لخدمة دينهم ومجتمعهم. والعمل الإصلاحي في ظل الأطر القائمة يجب أن يقوم جنبًا إلى جنب مع العمل على إصلاح الأطر نفسها، سياسية كانت أو دستورية.
«فحيث نشكو من فساد التعليم.. علينا بإنشاء مدارس خاصة من رياض الأطفال حتى الجامعات، وحيث نشكو من فساد أجهزة الإعلام.. علينا بإنشاء الصحف والمجلات ودور السينما ودور الإنتاج السينمائي والتليفزيوني».
وحيث نشكو من وضع المرأة.. علينا بإنشاء جمعيات نسائية ترعى المرأة المسلمة، وتبشر بين النساء بمفهوم الإسلام عن المرأة وتطالب باسم الإسلام بما حباها من حقوق.
وحيث نشكو من وضع الشباب.. علينا بإقامة النوادي الرياضية والاجتماعية والثقافية النظيفة.
وحيث نشكو من شركات التأمين، بإمكاننا إقامة جمعيات تعاونية للتكافل. وأكثر هذه المشروعات – إن لم تكن جميعها – مما لا يقف دونها حائل قانوني أو سياسي، ومما تتسع له قوانين الشركات والأندية والجمعيات وغيرها» (عطية – الإطار القانوني 6).
ويرى بعض المنظرين أن جر الحركات الإسلامية إلى الأعمال السياسية اليومية إنما هو مخطط للإيقاع بها في صراع خاسر. وأن الأجدر بها أن تتبنى – كجماعات – مناهج التغيير الاجتماعي البطيء.
«لابد للجماعات الحضارية أن تتبنى منهجًا حركيًا يمكنها من تفادي الصدام مع السلطة السياسية. وذلك أولاً بالعمل على التغيير العميق البطيء والذي عادة لا ترى آثاره السلطة السياسية حتى ولو كانت لا تؤمن به، وثانيًا أن تتجنب الخوض في الأعمال السياسية اليومية كجماعات، إنما تترك خدمة هذه المجالات لمجهود بعض أفرادها. ولسوف يستدعي ذلك أن تكون الجماعات الحضارية على دراية وعلم بخطوط السياسة العالمية واهتماماتها في إحباط عملية البعث الحضاري في أمتنا حتى يمكن لهذه الجماعات أن تنفلت من المصايد المنتشرة هنا وهناك والمقصود بها إيقاع الصدام المستمر بين هذه الجماعات والسلطات السياسية – ذلك أن العلم بهذه السياسات هو أول الطريق لمحاولة التفلت من الحفر في طريقها الحضاري» (دسوقي وسفر 46).
التطرف:
والتطرف – أي تجاوز الاعتدال – ليس مرادفًا للعنف، كما يتبادر للبعض. إذ أن التطرف موقف فكري بينما العنف سلوك. وما يعنينا هنا الموقف الفكري المتطرف، والذي يعتبر آفة من آفات العمل الإسلامي في كل العصور، وليس سمة للصحوة المعاصرة وحدها بل هو ضارب فثي التاريخ الإسلامي منذ قديم.
يقول خالد محمد خالد في بحث له عن التطرف: «في رأينا أن التطرف الديني بدأ في الإسلام بالفتنة التي أودت بحياة الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه. صحيح أن البواعث كانت خليطًا من الفتنة السياسية والتطرف الديني إلا أنها في التحليل النهائي لها تبدو وكأنما لعب التطرف الديني فيها الدور الأساسي والرئيسي.. فقد كانت كل المآخذ التي روجها المتطرفون تعتمد في تقديرهم على مخالفات دينية.. ورغم أن الخليفة فند أكثرها، ورجع عن بعض الأخطاء التي حُسبت على حكمه، فإن المتطرفين أججوا لظى الفتنة، وأضرموا نيرانها، وراحوا يتوسلون بالمنطق الديني وحده للتأليب على الخليفة والتحريض على دمه».
«استحلوا قتل الرجال والأطفال وسبي النساء المسلمات مائة عام أو تزيد، يُروِّعون الدنيا، ويشغلون الحكومات. ومن عجب أنهم كانوا من كبار العابدين، ومع هذا فقد تجاوز بهم التطرف كل حدود العدل والرحمة والحق والعقل» (خالد 55).
وللتطرف أسباب أفاض فيها الكتاب والمحللون، منها ما يتحمله العلماء والمفكرون ومنها ما تتسبب فيه الأنظمة الحاكمة عندما تُضيق الخناق على الإسلاميين فتدفعهم إلى العمل في الظلام، حيث المرتع الخصب لألوان الغلو والانحراف. والتطرف لا يُولد مع الإنسان ولا يُورث. وإنما هو موقف ينتقل إليه تدريجيًا دون تخطيط مسبق. وقد ينتهي به إلى موقف فكري لم يكن يتصوره هو لنفسه.
«فالفرد يبدأ متدينًا عاديًا يأخذ نفسه بتعاليم الإسلام ومبادئه وآدابه ويدعو الناس إلى الأخذ بذلك كله.. وهذا مسلك حسن، وتوجه بذلك كله.. وهذا مسلك حسن، وتوجه لا يملك المجتمع إزاءه إلا التعبير عن الرضا والتشجيع، ثم يواصل المتدين مسيرته متجهًا نحو التشدد مع نفسه ومع الناس، ثم يتجاوز ذلك إلى إصدار أحكام قاطعة بالإدانة على من لا يتابعه في سيرته، وقد يجاوز ذلك إلى اتخاذ موقف ثابت ودائم من المجتمع ومؤسساته وحكومته.
ويبدأ هذا الموقف عادة بالعزلة والمقاطعة المبني على إصدار حكم فردي على ذلك المجتمع بالردة أو الكفر أو العودة إلى الجاهلية ثم تتحول العزلة والمقاطعة عند البعض إلى موقف إيجابي عدواني، يرى معه أن هدم المجتمع ومؤسساته قربى إلى الله وجهاد في سبيله لأنه مجتمع جاهلي منحرف لا يحكم بما أنزل الله» (أبو المجد – التطرف 37).
وكما يصيب داء الغلو أفكار الفرد فكذلك يصيب الجماعات. بل إنه يصيب أحيانًا الدول التي تتبنى المنهج الإسلامي على أثر ثورة أو طفرة أو تغيير مفاجئ. فتلجأ في تشريعاتها إلى التشدد مع أن لها في التيسير والتدرج مندوحة. وتتبنى مواقف فكرية متطرفة عند إجراء التغيير الاجتماعي المنشود، أو عند معالجة المشاكل المزمنة بينها وبين جيرانها.
إن قرونًا من التخلف والانحطاط الفكري والتبعية والاستعمار، لا يمكن تعويضها في سنوات معدودة. فالسلطة ليست عصًا سحرية يمكن – عند امتلاكها – تحويل المجتمعات الغارقة في التخلف إلى مدينة فاضلة، تختفي منها الجريمة ويرفرف عليها الأمن والعدل ويعمها الرخاء.
«وإنه لمن المشادة الفكرية للدين أن يرفع شعار: إما الإسلام كله.. وإما تركه كله.. وإنه لمن المشادة العملية للدين أن يحاول أقوام تطبيق هذه الشعار وجعله سلوكًا عمليًا، وإنهم لمغابون إن هم فعلوا ذلك. ولن يُشاد هذا الدين أحد إلا غلبه. لطريقة الصحيحة هي: أن نعتبر أنفسنا بنائين نشيد صرح الإسلام لبنة لبنة وأن نعد كل عمل إسلامي إضافة لبنة لهذا البناء. ولئن أريد بشعار (خذوا الإسلام كله أو دعوه كله) الإيمان الكامل بكل ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة فهذا حق. لأننا مكلفون بالإيمان بالكتاب كله ولعل الخلط بين هذه القضية وبين تطبيق الإسلام – وفق الاستطاعة – هو علة الغلو والفهم الخاطئ» (إدريس 18).
الغرور:
وغرور النفس بما تفعل – مدخل خطير من مداخل الشيطان، فهو يزين للمسلم عمله ويحقر في عينه عمل غيره، ويظل ينفخ الغرور في صدره حتى ينتفخ، وهو عندها لن يسمح لغيره أن ينقد له عملاً أو يعدل له منهجًا أو يؤاخذ على خطأ.
وعندما يصيب الغرور جماعة من الجماعات الإسلامية، تعم به البلوى على كافة أبنائها لالتزامهم موقف جماعتهم، بل إن نقد الآخرين لهم يصور على أنه نقد للفكر لا للسلوك، وطعن في الدين لا في فهمه وتفسيره.
ورغم أننا ندعو الله أن يرحم من يهدي إلينا عيوبنا، وأن يجزيه عنا خير الجزاء إلا أننا في واقع الأمر – لا نعترف بخطأ، ولا نمارس بأنفسنا نقدًا ذاتيًا. فعلى المستوى الفردي لا أتصور خطيبًا في مسجد، أو كاتبًا في صحيفة، يُعلن أمام جمهوره أنه أخطأ في قضية فقهية أو فكرية، وأنه – بعد أن نُبِّه إلى وجه الصواب فيها عدل عن رأيه الأول. إلا في النادر الذي يشذ عن القاعدة. وعلى المستوى الجماعي، لم نسمع عن جماعة إسلامية أعلنت – على لسان أحد قادتها – أنها أخطأت في موقف من المواقف – مهما كان الواقع ينطق بخطئها – وأنها عدلت عن ذلك الموقف رجوعًا إلى الصواب.
«إن لدى الحركات الإسلامية المعاصرة قدرًا كبيرًا من الثقة بالنفس يمنعها من أن يفيد بعضها من تجارب البعض الآخر، بل يمنعها في بعض الأحيان من أن يفيد كل منها من تجاربه هو ذاته، هذا فضلاً عن الأجيال الجديدة من الإسلاميين الذين لا يفيدون من تجارب السابقين» (عطية – المتغيرات 6).
وعلى المستوى الحكومي، خاصة في دول العالم الإسلامي التي بدأت تمارس تطبيق الشريعة الإسلامية – تحت أي مذهب من المذاهب – لم نسمع عن مسئول استقال من منصبه بعد أن أدان نفسه في تصرف جانب فيه الصواب.. ذلك في كثرة ما تتعرض له الممارسات الجديدة من اجتهادات خاطئة، تجر البلاد إلى ويلات وحروب. ويحلل الدكتور خالص جلبي ظاهرة تجنب النقد الذاتي لدى الإسلاميين فيقول: «إذا كان الكون – بما فيه قطاع النشاط الإنساني – يقوم على سنن الله التي لا تتبدل ولا تنحرف، فإن الفشل في الوصول إلى الهدف لا يشكل استثناءً في هذا الأمر، بمعنى أن الفشل له سببه الذي انطلق منه».
«فلماذا يفشل المسلمون؟ هناك تفسيرات:
1- إن كلمة الفشل لا يعترف بها، لأنها حطا من قدر الإسلام لاختلاط المبدأ بالشخص، وصعوبة الفصل بين فشل الشخص المحاول، وبين المبدأ الذي لا علاقة له بنشاط الفرد.
2- وهناك اختلاط في مفهوم المحنة، فالعذاب والفشل هو محنة – وهو أمر طبيعي فهي طريق الرسل – وهنا يختلط الأمر بين المحنة والخطأ، مع أن المحنة هي معاناة عذاب الطريق الصحيح، والخطأ هو عذاب الطريق غير الصحيح.
3- وهناك إرادة الله، بمعنى أن الخطأ الذي يحصل يغطي تمامًا فلا يراجع لأنه طالما غُزى إلى إرادة الله سبحانه فلا حاجة إلى مراجعة أمرٍ لا دخل لنا فيه.
4- أو يأتي مفهوم انفصال السبب عن النتيجة.. بمعنى أننا غير مسئولين عن النجاح والفشل، فإذا قمنا بالعمل الخاطئ وكررناه فنحن غير محاسبين، لأن علينا أن نقوم بالعمل وليس علينا الوصول إلى النجاح..».
«إن الناظر في السوق الفكرية الإسلامية يرى الاهتمام متباينة، ولكنها تصب في النهاية في مديح العمل الإسلامي وليس نقده وترشيده، فطالما كان المبدأ الممثل في الإسلام يتمتع بالحصانة، كان تسرب الحصانة إلى المسلمين أمرًا ممكنًا» (جلبي 17).
الانغلاق:
ونقصد به الانغلاق الفكري في الدرجة الأولى ذلك المرض الذي يصيب الفكر فيفضي به إلى التجمد أو إلى الذبول. ويأتي الانغلاق في الفكر نتيجة فقدان الإرادة القادرة على التفاعل مع الثقافات الأخرى، ونتيجة فقدان التمييز بين ما يُؤخذ منها وما يُترك، فيكون المهرب والملاذ هو إغلاق النوافذ جميعًا، وتضييق دائرة الحوار حتى أننا نرى بين أيدينا كُتبًا تقذف بها المطابع كل يوم، وصحفًا ومجلات يصدرها الإسلاميون بُغية نشر دعواتهم بين الناس، ولكنها لا تعدو أن تكون حوارًا مع النفس أو حديثًا داخليًا يُحدث بعضهم بعضًا به، لا يهتم له غيرهم، ولا ينفعل به أحد، وما ذلك إلا لانفصالهم للتفاعل معه إلا في النادر الذي لا حكم له.
يقول الدكتور زكي نجيب محمود:
«هناك درس يجب أن نتعلمه من أسلافنا الأولين، خلال القرون الأربعة الأولى من التاريخ الإسلامي على الأقل، حيث كان لهم موقفان يدعوان إلى التأمل والاحتذاء: أولهما موقفهم من عصر الجاهلية، وثانيهما موقفهم من الثقافات غير الإسلامية: اليونانية والفارسية والهندية، فهم في كلتا الحالتين قدروا بكل الثقة في أنفسهم على ما لم نقدر نحن عليه في عصرنا الحاضر إزاء الثقافة الغربية، من حيث تحليلهم للمصدر الخارجي، تحليلاً يفرقون به بين ما يؤخذ وما ينبذ، ولم يتزمتوا عن خوف فينظرون إلى «الثقافة» المعينة ممزوجة بأصحابها، ويخشون أن يمسوا فيها جانبًا فتتسلل إليهم سائر الجوانب» (زكي نجيب).
ويبين الدكتور أحمد كمال أبو المجد كيف يُفْضي هذا الانغلاق إلى سلسلة أخرى من المخاطر: التقصير أو العجز عن إقامة علاقات متصلة ومتزايدة القوة مع سائر عناصر المجتمع. هو أثر من آثار منهج يبسط الأمور وهو منهج (من ليس منا فهو من خصومنا) وقد يتحول من مجرد التقصير في دعوة الآخرين أو الاتصال بهم إلى نوع من الخصومة العامة مع المجتمع، وهذه الخصومة مدخل من أخطر مداخل الانحراف في فهم الإسلام والعمل باسمه، لأنه يرجع إلى آفات كثيرة كاعتبار الدعاة أنفسهم (جماعة المسلمين) وكاتهام المجتمع بالجاهلية وكالتعالي على الناس» (أبو المجد – الدعوة 10).
ويحلل موقف الانغلاق الدكتور محمد رضا محرم في بحث بعنوان (أفكار الآخرين) حيث يقول:
«إن موقفنا غير المتوازن من أفكار وثقافات الآخرين ينتج عنه سوء الظن الذي يُنجب موقفًا عدوانيًا حين التعامل معهم يتمثل هذا الموقف في نوعين متناقضين من المشاعر تجاههم: أولهما الإحساس بالدونية أمام فاعلية هذه الأفكار مما يدفع إلى تبني الرفض العصبي أو التبعية المَرضية لأفكار الآخرين وثقافتهم. وثانيهما الإحساس الكاذب بالاستعلاء على أفكار الآخرين وثقافتهم مما يدفع إلى الحط الدائم من قدرهم وإلى التهوين الساذج من إبداعاتهم وإلى التحامل الطفولي على إنجازاتهم الثقافية» (محرم 43).
السطحية:
إن الامتداد الأفقي السريع للصحوة الإسلامية لم يصاحبه – بنفس السرعة – امتداد رأسي ترسيخي. ففي كل عام نسمع عن جامعة إسلامية جديدة نشأت في مكان ما من العالم الإسلامي. وفي كل عام نسمع عن منهج جديد للاقتصاد الإسلامي أو الإعلام الإسلامي أضيف إلى مناهج كلية الاقتصاد أو كلية الآداب في إحدى جامعاتنا. ولكن نظرة واحدة إلى المادة العلمية التي تدرس في هذه المناهج الجديدة وإلى مدى تطورها وتجذرها واستيعابها، تردنا إلى الواقع الفكري المسطح الذي نعيشه، رغم حماسنا الدافق ورغبتنا العارمة في التغيير.
وما ينطبق على المجال الأكاديمي ينطبق أيضًا على المجال التطبيقي فالذين يلحون في المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في بلدانهم – وهم مُحقون في ذلك – لا يحملون في أيديهم دراسات ميدانية مستوفاة لما يطالبون به «ومحنتنا أننا لا نعرف أننا لا نملك النظم الحاكمة للمؤسسات (الحضارية) المطلوبة، فكثير منا يتصور أن الكتاب والسنة قد اشتملا على كل النظم الحضارية المطلوبة، وكأن لسان حالنا يقول قلب الصفحات تجدها.. والحق الذي نؤمن به أن الكتاب والسنة قد اشتملا على كل المبادئ والأخلاقيات الكافية واللازمة لانبثاق نظم حضارية، ولكن النظم الحضارية نفسها هي محاولات بشرية تنطلق متحررة من كل القيود إلا القيود الأخلاقية والمبادئ الأساسية التي يحددها الكتاب والسنة والتي نؤمن بأنها خير أساس لقيام حضارة إنسانية ليس كمثلها حضارة» (دسوقي وسفر 30).
يقول خليل حيدر في بحث بعنوان مستقبل الحركة الدينية:
«إن الكتب الدينية الحزبية تؤكد دائمًا على استقلالية النظام الاقتصادي في الإسلام وتميزه عن الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي. وبالرغم من أن هذه المؤلفات تحوي كمية هائلة من الآيات الكريمة والأحاديث والأمثلة التاريخية الجميلة، فإنها تكاد تخلو من الإحصائيات والأرقام والأمثلة المرتبطة بحياة البشر في المجتمع المعاصر، مجتمع التقدم الصناعي. إن الحركة الدينية مثل سائر حركات العدالة الاجتماعية التي سبقتها، تخلط بين الحياة كما ترسمها نظرياتها وأيديولوجياتها وآمالها، والحياة التي من المتوقع، بل الأكيد أن تفرضها الوقائع اليومية وطبيعة تضارب المصالح بين البشر.. فالكتاب يصرون دائمًا على إهمال الواقع كي يظلوا سابحين في عالم المُثُل».
الارتجال:
والارتجال يعني فقدان التخطيط، واضطراب الأولويات، وهو أمر لا يقتصر أثره الضار على ضياع الجهد في غير محله أو إنفاق المال في غير موضعه أو تقديم المهم على الأهم منه، وإنما يتعدى أثره إلى أبعد من ذلك – خاصة إذا مارست هذا الارتجال جماعة أو حركة ترفع شعار الإسلام – إذ أنه يعكس صورة للإسلام مشوهة، ليست من الحقيقة في شيء. وهذا المرض ليس قاصرًا على العاملين في الحقل الإسلامي، بل هو آفة العالم الثالث بوجه عام. فالارتجال أثر من آثار التخلف وسمة من سمات عالمنا الإسلامي على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والتربوية.
يقول الدكتور أحمد كمال أبو المجد:
«إن من أمثلة الخلل في ترتيب الأولويات أن يسوى الداعية في الإلحاح والتشديد بين أمور تتفاوت أهميتها وخطورتها في نظر الشارع ونظر الناس على السواء.. أليس غريبًا – على سبيل المثال – أن يطيل بعض الدعاة الحديث في النهي عن سماع الموسيقى والغناء، أو في المطالبة بفرض لبس الحجاب على النساء أو الإنكار الشديد على شاربي الدخان.. وألا نرى منهم نفس الاهتمام والحماس حين يتصل الأمر بقضايا الحرية أو الشورى أو العدل في توزيع الثروات وتحديد أجور العاملين» (أبو المجد – الدعوة 17).
وتحت عنوان: الاشتغال بالمعارك الجانبية عن القضايا الكبرى يقول الدكتور يوسف القرضاوي: «ومن دلائل عدم الرسوخ في العلم، الاشتغال بكثير من المسائل الجزئية والأمور الفرعية عن القضايا الكبرى التي تتعلق بكينونة الأمة وهويتها ومصيرها، فنرى كثيرًا منهم يقيم الدنيا ويقعدها من أجل حلق اللحية أو إسبال الثوب أو تحريك الإصبع في التشهد، أو اقتناء الصور الفوتوغرافية أو نحو ذلك من المسائل التي طال فيها الجدال، في الوقت الذي تزحف فيه العلمانية اللا دينية، وتنتشر الماركسية وترسخ الصهيونية أقدامها، وتكيد الصليبية كيدها وتتعرض الأقطار الإسلامية العريقة في آسيا وأفريقيا لغارات تنصيرية جديدة، ويُذبح المسلمون في أنحاء متفرقة من الأرض.
والعجيب أني وجدت الذي هاجروا إلى أمريكا وأوروبا لطلب العلم أو لطلب الرزق قد نقلوا هذه المعارك الجانبية إلى هناك» (القرضاوي 70، 71).
أما على المستوى الحكومي، فقد دفع الحماس بعض الدول التي أعلنت التزامها بتطبيق الشريعة الإسلامية خلال العقد الأخير أن تتعجل في إصدار تشريعات لم تأخذ حظها من التخطيط والترتيب وحسن السياسة، مما اضطرها إلى إجراء تعديلات متتالية، اضطربت معها شؤون البلاد بينما بقيت المشاكل الحياتية الرئيسية دون عناية أو علاج.
لقد اشترك عضو ممثل لإحدى الدول الإسلامية في مؤتمر الزكاة الأول الذي عقد في الكويت هذا العام، وتلا على الحاضرين تشريع الزكاة الذي صدر مؤخرًا في بلاده، ولما ناقشه الحاضرون اتضح أن المشرع لم يطلع –عند إصدار القانون- على ما أصدرته أربع دول أخرى من تشريعات مماثلة خلال السنوات العشر الماضية..!
تقديس التراث:
إن الآفة التي لحقت بكثير من الحركات والتجمعات الإسلامية المعاصرة، فضلاً عن كثير من علماء الأمة ومتعلميها، هي آفة تقديس كل ما هو قديم، حتى صارت صفة القدم في حد ذاتها تُضفي على العمل قداسة تحول بينه وبين النقد والتحليل. وقد أصبحت التراكمات العلمية والفقهية والممارسات الحياتية عبر القرون السالفة تمثل تراثًا ضخمًا يختلط في أعين الناس بأصول الدين وقواعد الشرع، وبالتالي يمتنع على النقد والتدبر والتحليل، ناهيك عن الرفض والمعارضة والإدانة.
يقول الأستاذ عبد الحليم محمد أحمد تحت عنوان: حول تقديس التراث:
«إن الله فرض قدسية دينه، ولا قدسية لاجتهادات البشر سواء كان هؤلاء البشر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من الأئمة التابعين ومن بعدهم أو من الأتقياء الصالحين أو من الزعماء الملهمين. وأن ديننا لم يرض للإنسان أن يقف خاشعًا إلا أمام جلال الله ساعة عبادته وساعة تلقي هدايته، ومع خشوع القلب فرض الدين على العقل أن يكون يقظًا متدبرًا متفكرًا».
«هكذا الدين وهكذا الإنسان ولكنا نحن ورثة الدين قد مسخنا الدين ومسخنا الإنسان. مسخنا الدين بتحميله كل اجتهادات القرون فصار عملاقًا رهيبًا وسيفًا مسلطًا على عقل الإنسان. ومسخنا الإنسان بإخضاعه لتراث القرون فصار قزمًا أشل لا يملك غير التسليم. بل ونرفع رتبته كلما استمسك بالتقليد، فأشركنا بذلك مع الله آلهة أخرى من البشر» (عبد الحليم 18).
ومن أمثلة التقديس، التمسك بمصطلحات تراثية، أو رفع شعارات أطلقها القدماء اختفت ملابساتها منذ قرون طويلة، فاختلف مدلولها مع الزمن.
يقول الدكتور محمود أبو السعود في مقال له بعنوان: المفهوم السياسي للإسلام: «لقد قام القضاة من المسلمين الأوائل بوضع فكرة أهل الحل والعقد عن طريق الاستدلال من تطبيق مبدأ الشورى. إن المعنى الحرفي لذلك التعبير هو: هؤلاء المؤهلون للتقرير والإلغاء ولكنه لا توجد أقل إشارة في الشريعة بالنسبة لضرورة وجود تلك الهيئة، أو بالنسبة للتأهيل الذي يجب أن يحوز عليه أعضاؤها، أو الاختصاصات والسلطة التي تستطيع أن تمارسها».
«إن عدم وجود أي قالب سياسي للحكومة في الإسلام يجعل الإنسان يشك فيما إذا كانت تلك الجماعة من ذوي العلم (أهل الحل والعقد) تعد إجبارية أو إذا كانت مجرد مسألة تترك للملاءمة. وكما ذكرنا من قبل فإنه ليس من الممكن أن تكون إجبارية لأنه لا توجد هناك أية وصية تلزم بوجودها.
وإذا افترضنا أنه يجب أن توجد كنتيجة منطقية لضرورة عدم انتهاك مبدأ الشورى. فما الذي يجبرنا حينئذ على تطبيق ذلك النظام المطلق الغامض بصفة خاصة، أفلا نستطيع أن نتبنى نظامًا آخر يتم بمقتضاه انتخاب الأعضاء بواسطة المهنيين والنقابات، أو حتى بواسطة هيئات انتخابية تمثل جميع العامة المصوتين» (أبو السعود 40).
وهناك مثال آخر يضربه الدكتور عبد الحميد أبو سليمان في بحثه عن أسلمة المعرفة إذ يقول:
«أما قضية الخلافة قضية تمثل الخلط بين الإسلام كقيم وغايات ومثل ومبادئ وبين التطبيقات التاريخية المادية في حياة المجتمعات الإسلامية التاريخية. ولما كان من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – إعادة تطبيق النظم التاريخية بحذافيرها، وإذا عُرفت الخلافة بأنها الصورة المادية للتنظيمات السياسية الإسلامية فإن إعادة تطبيقها والأمل في تبنيها أكثر صعوبة».
«إن الخلافة ليست إلا مصطلحًا إسلاميًا قُصد منه إقامة النظام الاجتماعي السياسي عند المسلمين على أساس الإسلام، وإقامة شريعة الإسلام خلافة لدور الرسول عليه السلام في قيادة المجتمع الإسلامي لتلك الغاية. ولذلك فالخلافة فكرة وغاية لطبيعة النظم السياسية الإسلامية».
«وأي نظام مهمًا كان تركيبه إذا التزم الحدود والغاية والقيم الإسلامية وقصد إلى رعاية شئون الأمة الدينية والدنيوية على أساس الشريعة ووفقًا لها فهو نظام خلافة» (أبو سليمان 40).
إن تقديس القديم بخيره وشره – لأنه قديم – يجمد حركة العقل المسلم، ذلك العقل الذي كرم الله الإنسان به، وجعله وعاءً للفكر، وحاديًا لقافلة الحضارة الإنسانية.
«إن الأصل في ديناميكية الأفكار هو أن كل نظم البشر، قديمها وحديثها ينقصها الكمال وليس فيها شيء مقدس، ومن هنا يتحرك الفكر ليكمل النقص، ثم يتحرك الزمن وتتغير الأحوال فيبدو في النظم نقص ما كان ليراه الأولون، حيث كانت تلك النظم محكومة بظروف، فيتحرك الفكر مرة أخرى لسد النقصان وإقامة العمران».
«أما إذا جمد الفكر عند نظم موروثة فقدسها، فإن هذه النظم سوف تصبح قيدًا حضاريًا يعوق مسيرة الحضارة وتفاعل الإنسان مع البيئة والزمن» (دسوقي وسفر 41).
وسائل العلاج
لا مخرج من أزمتنا الفكرية إلا بإعادة العقل المسلم إلى مكانته التي كرمه الله بها. ومسئولية تحريك العقل المسلم في المسار السليم تقع على عاتق العلماء والمفكرين في الدرجة الأولى. فعلى المستوى الفردي. يكمُن العلاج في الصفوة من هؤلاء الذين حملوا أمام الله أمانة القلم.
في الساحة الإسلامية عدد محدود يملك التأثير – بكتبه وصحفه – في الملايين من أبناء الأمة الإسلامية على اختلاف مواطنهم وألسنتهم.
من هؤلاء علماء وفقهاء وناشرون وصحفيون وزعماء ومفكرون. كما أن منهم من ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء ولكن الظروف دفعت بأسمائهم بين هؤلاء فاعتلوا الموجة معهم.
وأصحاب الريادة الفكرية هؤلاء – عن جدارة أو عن غير جدارة – بأيديهم أن يتقوا الله في هذا الجيل، وأن يتخلوا عن السطحية والارتجال، وأن يكفوا عن دغدغة العواطف وعن الاستهانة بعقول القراء، وأن يعكفوا على ما يخرجونه للناس من فكر منشور فيطهروه من دواعي الفرقة ومن مظانها قبل أن يطرحوه على الناس، وألا يستغلوا شهرتهم في اجترار ما سبق أن طرحوه مكررًا بشكل أو بآخر، فيتسببوا بذلك في عزوف الناس عن الكتب والكتاب. وألا يكتفوا بالنظر تحت أقدامهم وهم يمسكون بالقلم، وإنما عليهم أن يحسبوا ألف حساب لما يمكن أن يترتب على إطلاق ما لديهم من إرشاد أو توجيه. فالكلمة ملك لصاحبها قبل أن يخرجها للناس، فإن خرجت فهي التي تملكه ولا سلطان له عليها في تفسير أو تأويل. إن ترشيد العقل المسلم في هذه الصحوة منوط بمن يوجهون الفكر الإسلامي في هذا العصر. وفي مُكنتهم أن يرتفعوا إلى مستوى مسئوليتهم بالتجرد والمثابرة والتمحيص.
وعلى المستوى الفردي أيضًا، يكمُن بعض العلاج في أيدي آلاف المدرسين والمدرسات الذين نعهد إليهم بأبناء هذا الجيل على امتداد العالم الإسلامي بأسره. والمسئولية ليست قاصرة على أن يلقنون التلاميذ دروس الدين الإسلامي أو قواعد اللغة العربية، بل إن تأثير المُربي على تلميذه لا تحُده مادة علمية أو علاقة مقننة، داخل جدران أربعة.
إن الصفوة الملتزمة المدركة لرسالتها من بين هذا الجيش من رجال التربية بأيديهم مفاتيح العقول المتشوقة إلى المعرفة. ويمكنهم أن يتقوا الله في أبناء هذه الأمة، وأن يكونوا على مستوى رسالتهم السامية، قدوة ثم عطاءًا.
وبعض وسائل العلاج بين يَديْ أساتذة الجامعات في عالمنا الإسلامي. فهم قادة الفكر الذين يشكلون عقول النخبة الرائدة في الأمة.
إننا إذا أسقطنا من حسابنا أولئك الذين مسخ الغرب هويتهم وأفقدهم إيمانهم بدينهم واعزازهم بأصولهم، فسوف يتبقى لدينا آلاف من الأكفاء المؤمنين برسالتهم الحضارية، وهؤلاء هم الذين نعقد عليهم الآمال. ونحملهم التبعة، ونطالبهم بأداء دورهم الحقيقي حيال أبنائهم الطلاب.
إن جيل الصحوة الإسلامية لا ينقصه الحماس والعاطفة، ولكن ينقصه الفكر المستنير، والقدوة الصالحة، والرعاية الواعية. ولن يلتمس هذا كله إلا في أساتذته المقربين إليه، المتجاوبين معه، الحاملين أمامه هموم أمته وآمالها.
وعلى المستوى الفردي أيضًا، يكمن العلاج في أيدي أثرياء المسلمين الذين يستطيع واحد منهم بمفرده أن ينشئ مؤسسة تُضاهي مؤسسة نوبل أو كارنيجي. إن بعض العلاج في أيدي هؤلاء الأثرياء الذين يستطيع واحد منهم بمفرده أن يرعى مئات الباحثين العباقرة وأن ينقذهم من إضاعة أعمارهم يلهثون خلف لقمة العيش، أو تتلقفهم مؤسسات مشبوهة فإذا بهم وبال على أمتهم بدلاً من أن يكونوا دعائم صحوتها ونهضتها.
إن أثرياء المسلمين يُمكنهم أن يزرعوا في كل عاصمة إسلامية مركزًا لبحوث تقنين الشريعة، ومراكز لفهرسة التراث، ومراكز للمعلومات المتخصصة في كل فرع من فروع العلوم الشرعية والإنسانية والاجتماعية.
ويمكنهم أن يوفروا لهذه المؤسسات أحدث ما وصلت إليه التقنية الحديثة دون عناء يُذكر.
إن إنفاق الأموال الطائلة في بناء المساجد الفاخرة لن يساهم في حل مشاكل الأمة، ولن يخرجها من أزمتها، فإن أعظم المساجد وأفخمها كان قائمًا تزداد به مدينة الآستانة يوم سقطت الخلافة، فما حمت الأبنية الشاهقة الخلافة من السقوط.
إن كرم الأثرياء ليس كافيًا وإن كان مطلوبًا. ولكن المطلوب الأجدى والأهم هو توجيه إنفاقهم وترشيده، وهي مهمة العلماء الرواد، فهم الذين يملكون قوة التأثير والإقناع.
فإذا انتقلنا إلى المستوى الجامعي، نجد أن فلاسفة الجماعات الإسلامية ومُنظريها هم الذين يحملون مفاتيح الحلول، وهم الذين يقودون الركب، حيث تأثيرهم الفكري على كافة مطبوعات وصحف الجماعات التي يُنظرون لها. بل إن كثيرًا من الجماعات المعاصرة تُقصر تلقيها على هذه المصادر الداخلية المحدودة، فتصبح بذلك مسئوليتهم مضاعفة، فهم مصدر العلم والفتوى، وهم حملة الرأي والحكمة، ولذا كان أول واجب منوط بهم أن يخلعوا عن أنفسهم هذه الجبة، وأن يصلوا ما بين الشباب وبين المصادر الأصلية مباشرة، من كتاب وسنة وفقه وتاريخ. وألا تستهويهم في أعناقهم، وعليهم أن يفتحوا أمامه النوافذ، وأن يقربوا ما بينه وبين الجماعات المتعددة في الساحة الإسلامية على أساس من حتمية تعايشها بل وتعاونها، لأنها – بتعدد اهتماماتها – يكمل بعضها بعضًا، بدلاً من تنشئته على أساس من التعالي على غيره باعتبار جماعته هي الأفضل والأكمل والأقرب فهمًا وتطبيقًا للإسلام.
وعلى المستوى الجماعي أيضًا، نرى أن الحركات الإسلامية المعاصرة مطالبة بإقامة جسور فكرية فيما بينها، ولن تعدم الوسائل لتحقيق ذلك. فصحافتها تستطيع أن تُفسح المجال لحوار موضوعي يلتزم الأدب الإسلامي للحوار، ويستهدف تبيان وجه الصواب. لا انتصار رأي على آخر. والندوات المشتركة بين قادة الفكر في هذه الجماعات حول موضوعات محددة قد تساهم في إضعاف روح التعصب التي تجر إلى الفُرقة.
ولن تنجح الجماعات الإسلامية في ممارسة الحوار فيما بينها إلا إذا نجحت أولاً كل منظمة على حدة في ممارسة الحوار الفكري البناء داخل كوادرها وبين أبنائها.
وكما تنشأ أجنحة يمينية ويسارية داخل الأحزاب السياسية، فكذلك تعودنا أن نسمع عن مدارس فكرية تنشأ داخل الجماعات الإسلامية المعاصرة. لقد خفت حدة الخلافات حول المذاهب الفقهية الأربعة والتي كانت طابع النصف الأول من هذا القرن من الزمان. ولكن حلت محلها المدارس التي تحمل اتجاهات عامة، كاتجاه سلفي يقابل آخر صوفي وكاتجاه محافظ يقابله اتجاه آخر عصراني.. إلى غير ذلك مما يتطلب توفير مناخ للحوار داخل هذه الجماعات حتى تكون مدارسها الفكرية كسبًا وإثراءً للفكر، وليس فُرقة وتمزيقًا للصفوف.
فإذا ما انتقلنا إلى المستوى الرسمي، فإننا نجد أن المسئولية العظمى الملقاة التي كبلتها عقودًا طويلة. ولن نضيف جديدًا إذا قلنا إن أمراض الانحراف والتطرف تجد مجالها الخصب حيث القهر والفردية والتسلط وخنق الأنفاس. وأن الشباب المخلص المتحمس الذي تفقده الأمة الإسلامية في كل جولة من جولات الصراع بينه وبين السلطة إنما هو ضحية المعالجة الخاطئة لقضايا الفكر عن طريق أجهزة الأمن بدلاً من أن يرعاها ويعالجها رجال الفكر وعلماء الأمة.
ولن نضيف جديدًا إذا قلنا إن استمرار ثنائية النظم التعليمية، بين ديني وعلماني، لن يؤدي إلى خير. وستظل هذه الأنظمة تُفرخ أجيالاً من العلماء المنقسمين إلى فريقين، لا توجد بينهما لغة مشتركة. ولا يقوى أي فريق منهم بمفرده على مواجهة القضايا المعاصرة وإيجاد الحلول لها، على أساس من قيم الإسلام وشريعته. إن أزمة الزيادة الفكرية للأمة الإسلامية مردها – في المقام الأول – إلى نظم التعليم الثنائية التي طال أمدها، وآن لها أن تذوب في نظام متكامل واحد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
محيي الدين عطية
المراجع
1- أبو السعود، محمود. «المفهوم السياسي للإسلام» المسلم المعاصر. س 4: ع 16 (1398 ه) ص ص 25 – 52.
2- أبو سليمان، عبد الحميد «إسلامية المعرفة وإسلامية العلوم السياسية» المسلم المعاصر. س 8: ع 31 (7/1402 ه) ص ص 19 – 45.
3- أبو المجد، أحمد كمال. «بشائر نهضة إسلامية جديدة» العربي. ع 295 (8/1403 ه: 6/1983 م) ص ص 15 – 19.
4- أبو المجد، أحمد كمال. «التطرف غير الجريمة والتشخيص الدقيق مطلوب» العربي. ع 278 (1/1982 م) ص ص 36 – 40.
5- أبو المجد، أحمد كمال. «الدعوة إلى الإسلام وتحديات العصر» المسلم المعاصر. س 5: ع 19 (1399/1979) ص ص 5 – 28.
6- إدريس، جعفر شيخ «في منهج العمل الإسلامي» المسلم المعاصر. س 4: ع 13 (1398/1978) ص ص 5 – 22.
7- إدريس، جعفر شيخ. «مقابلة مع جعفر شيخ إدريس» مجلة الأمل. (الولايات المتحدة الأمريكية) 1404 ه/ 1984 م.
8- بن نبي، مالك. المسلم في عالم الاقتصاد. بيروت: دار الفكر، 1979 م، 112 ص. (مشكلات الحضارة: إصدار ندوة مالك بن بني).
9- جلبي، خالص. في النقد الذاتي، ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1404 ه = 1984 م، 312 ص.
10- حيدر، خليل. «مستقبل الحركة الدينية» (الكويت) 16/6/84.
11- خالد، خالد محمد. «أسباب أربعة للتطرف» العربي. ع 278 (1/82).
12- خليل، حامد «إني أتهم الشعب» الوطن (الكويت). (31/5/1983).
13- دسوقي، سيد ومحمود محمد سفر. ثغرة في الطريق المسدود، دراسة في البعث الحضاري. القاهرة: دار آفاق الغد، 1401 ه = 1981 م، 100 ص. (سلسلة آفاق الغد).
14- زكي نجيب محمود. العربي (6/1981).
15- عبد الحليم محمد أحمد. «خواطر حول أزمة العقل المسلم المعاصر» المسلم المعاصر. س 1: العدد الافتتاحي (1394/1974) ص ص 12 – 28.
16- عطية، جمال الدين. «العمل الإسلامي في الإطار القانوني الحالي» المسلم المعاصر. س 1: ع 4 (1395/1975) ص ص 5 – 9.
17- عطية، جمال الدين. «العمل الإسلامي في المجال السياسي» المسلم المعاصر. س 2: ع 5 (1396/1976) ص ص 5 – 9.
18- عطية، جمال الدين. «المتغيرات ومستقبل العمل الإسلامي» المسلم المعاصر. س 3: ع 12 (1397/1977) ص ص 5 – 14.
19- عويس، عبد الحليم. «حول ظاهرة المؤتمرات الإسلامية – طريق جديد للمؤتمرات الإسلامية – طريق جديد للمؤتمرات الإسلامية» المسلم المعاصر. س 4: ع 15 (1398/1978) ص 125 – 248.
20- غراب، حازم. «الصحوة الإسلامية لماذا وإلى أين» حديث مع د. حامد ربيع. الأمة. س 4/ع 39 (3/1404 ه = 12/1983 م) ص ص 72 – 75.
21- الغزالي، محمد. مشكلات في طريق الحياة الإسلامية. الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، ط 3، 1402 ه، 151 ص (كتاب الأمة – 4).
22- القرضاوي، يوسف. الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف. الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية، 1402 ه، 228 ص. (كتاب الأمة – 2).
23- محرم، محمد رضا. «أفكار الأخرين» المسلم المعاصر س 8: ع 29 (1402/1982 م) ص 7 – 64.
24- المهدي، صادق. «الصحوة الإسلامية ومستقبل الدعوة» الهداية (البحرين) س 6: ع 63 (5/1403 ه = 3/1983 م) ص ص 6 – 13، س 6: ع 64 (6/1403 ه = 4/1983 م) ص ص 60 – 70.
(*) بحث مقدم إلى الملتقى الثامن عشر للفكر الإسلامي، الجزائر 10 – 16 يوليو 1984 م.