شاء البعض أم أبى ،اعترف بذلك أم أنكره ،أحسن الفهم أم أساء ،فإن الصراع العربى – الإسرائيلى هو المحور الرئيسى الذى تتحدد على أساس منه مواقف كافة القوى السياسية والاجتماعية والفكرية فى الوطن العربى . كما أن معايير تقويم الممارسات اليومية لهذه القوى إنما هى نبت هذا الصراع . يستوى فى ذلك أولئك الذين يرون الصلح مع إسرائيل وهماً مدمراً ،أو أولئك الذين استغرقهم هذا الوهم فأدمنوه واستسلموا له.
ومما لا شك فيه أن القوى السياسية المختلفة فى الوطن العربى تتفاوت فى تشخيصها لهذا الصراع ،وتحديد طبيعته ،وتحديد هوية العدو ،بقدر تفاوت منطلقاتها الأيديولوجية ،وكذلك تفاوت مناهجها الفكرية .
فالبعض يرى فى هذا الصراع جوهراً اقتصادياً يضع حركة التحرر العربى فى مواجهة الأمبريالية . بينما يراه البعض الآخر فى ثوب قومى يضع حركة القومية العربية (بمضمون تقدمى عادة ) فى مواجهة استعمار استيطانى صهيونى غاصب مؤيد من قبل الاستعمار العالمى عادة . هذا فى حين يستهوى البعض الثالث أن يكون هذا الصراع نكهة دينية فيتصوره حرباً مقدسة بين الإسلام وبين اليهودية . وفى كل حالة من هذه الحالات الثلاث فإن العدو المباشر (والمتمثل فى إسرائيل ) تتم صباغته بلون مختلف ،ويجرى تغليفه بغلاف متميز ،بل وقد ينتهى الأمر بتقديمه إلى الجماهير العربية – المسلمة فى طبعة مغايرة . فهذا العدو (الواحد ) هو لدى البعض الأول بمثابة الأمبريالية الصغرى الخادمة (أو التابعة ) للإمبريالية العالمية ،بينما هو عند البعض الثانى ذلك الاستعمار ومعونته لتكريس تجزئة الأمة العربية والحيلولة دون توحدها ،ثم إنه بؤرة تجميع ليهود العالم يتركز فيها الكيد للإسلام (وللمجتمعات المسلمة ) ويبلغ أشده عند ذلك البعض الثالث .
وقد أثبتت التجربة اليومية ،كما أكدت المعاناة الطويلة التى عاشها عالمنا العربى منذ بدأ العمل مع نهايات القرن التاسع عشر لتجسيد المشروع الصهيونى فى شكل الدولة الإسرائيلية ،أن تصوراً واحداً من هذه التصورات منفرداً واحداً قد يكون على قدر من الصواب ولكنه لا يملك الصواب كله . وقد لا يجانب الإنسان الدقة إن هو قطع بأن يقين العرب جميعهم الآن ،وبغض النظر عن منطلقاتهم الفكرية المبدئية المتباينة ،أن جبهة العداء لإسرائيل فى عالمنا العربى أوسع بكثير من جبهة العداء للاستعمار ،سواء نظرنا إليه فى أشكاله المعاصرة ذات الأبعاد والمخاطر الاقتصادية – السياسية ،أى الإمبريالية ،والتى يرى عرب كثيرون ، ونحسبهم على قدر من الفطنة ومن حسن التقدير ومن صواب الفهم ،أنها هى الأحق بالمعاداة والأجدر بالمقاومة . وليس أدل على ذلك من أن الدول العربية جميعها ،المحافظ منها والتقدمى ،قام ويقوم وسوف يظل يقوم ،رغم عوارض جزئية كثيرة محزنة وقد تكون مخزية ،بدور وجهد لا ينكر فى إدارة هذا الصراع ومحاولة حسمه لمصلحة الحق العربى . وأحسب أن الصواب لا يجانب الإنسان أيضاً إن هو أكد أن سعة الجبهة المعادية للمشروع الصهيونى وللوجود الإسرائيلى إنما تنشأ أساساً عن بعض الإضافات التى يقدمها التناول الدينى لهذا الصراع . وليس يقلل من قيمة هذه الإضافات ذلك القدر الكبير من الخلط والتشوش وعدم الوضوح الذى يكتنف ذلك التناول الدينى للمسألة لدى الكثيرين ، بالإضافة إلى النقص وإلى الطابع التجزيئى فى التناول والذى يشتركون فيه مع أنصار القولبة الاقتصادية (الحرفية ) للمشكلة العربية – الإسرائيلية ،أو مع مريدى الشوفينية القومية الذين يحاولون إخضاع الصراع العربى – الصهيونى لرؤاهم التحكمية المسبقة .
وحتى ندرك القيمة العملية لهذه الإضافات الإيجابية التى يمكن أن تقدمها التصورات الدينية لهذا الصراع المرير ،فإنه يحسن أن نلقى نظرة على ساحة ذلك الصراع خلال الأعوام القليلة الأخيرة ،والتى ظهرت نتائجها مجسمة مع نهايات السبعينيات على وجه التحديد .
فمع نهايات عام 1979 ،وبعد نضال مرير طال أمده ،تمكنت الشعوب الإيرانية ،تحت راية توحد إسلامية الصبغة ،أن تنهى إلى غير رجعة عصر آخر الشاهنشاهات غير العظام ! . وليس مجالنا هنا بالطبع أن نناقش صحة الشعار الذى رفعته قيادة الثورة التى أرادتها إسلامية من عدم صحته (وإن كنت أنا شخصاً أراه صحيحاً رغم متاعب الثورة وأزماتها بل وأخطائها الفادحة ،خاصة ما يتعلق منها بمعاداة الجيران العرب ومحاربتهم ) . ولكن الذى يعنينى هو ذلك . الموقف العلمى الذى اتخذته هذه الثورة العظيمة من القضية الفلسطينية والذى تمثل فى إنكارها إقرار إيران بشرعية وجود إسرائيل ،ومنع البترول عنها ،واعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية ،وإعلان نفسها قوة مواجهة فى أتون ذلك الصراع العربى – الصهيونى . وقد جاءت المواقف العلمية تلك للثورة الإيرانية إضافات إيدابية للجانب العربى ،فى الوقت الخطير الذى وقع فيه الطرح الأكبر للقوة المصرية العربية من رصيد ذلك الجانب . هذه الإضافات الإسلامية المنطلق ،والدينية للصراع العربى – الإسرائيلى يمكن أن يقدم الكثير لتطوير ذلك الصراع آنياً ،ثم حسمه مستقبلاً .
ومرة أخرى ،عندما بدت فى الأفق احتمالات تصالح مصرى – إسرائيلى ،وعندما تجسدت هذه الاحتمالات واقعاً تعاقدياً بين حكومتى مصر وإسرائيل بمباركة أمريكية ،وعلى أسس مرفوضة من كثيرين ،أو مشكوك فيها لدى من هم أكثر ،فقد تأكد أن التصورات الدينية للصراع يمكن أن تنهض بدور عظيم فى تكييف هذا الصراع وفى إدراته . كما تبين أن القوى ذات المنطلقات الدينية ،محافظة كانت أو مستنيرة ،هى الأقدار على الفعل والمقاومة ،خاصة مع غياب الديمقراطية الحقيقية الذى يوشك أن يكون سمة عامة فى الحياة السياسية العربية . فبينما كان ممكناً ،وبقدر من السهولة ملحوظ ،خاصة فى أعقاب مفاجأة الاقتراب من العدو بالمصالحة ،أن يجرى تقييد حركة كافة وشل فعاليتها ،وحرمانها من فرص التفاعل الفكرى مع الجماهير ، وتشويه أية ممارسات اعتراضية تبوم بها عن طريق تكثيف الدعاية الحكومية المترخصة ضدها ،فقد ثبت يقيناً أن التيارات المعترضة ذات المنطلق الدينى ظلت قادرة على الحركة ،وعلى الفعل ،وعلى التأثير ،رغم كل المعوقات ،ومهما كانت لا منطقية الإجراءات التى تم اتخاذها للمصادرة على حق الرأى الآخر فى الوصول إلى جماهير شعبنا العربى ،فى مواقع كثيرة على الأرض العربية ،خاصة إلى القطاع المصرى من هذا الشعب العربى . وحتى فى إطار التوظيف والتوظيف المضاد للمعطيات الدينية التى حاول كل من فرقاء الخصومة العربية (المحدثة والعارضة والطارئة ) أن يستخدمها للدفاع عن مواقفه أو لتبرير توجهاته ، وبغض النظر عمن كسب وعمن خسر ،وهو الأمر الذى بات الجميع يعرفونه ويرونه رأى العين ، وبغض النظر عن إمكانية أن يكون الفصل الدينى ذا حدين ،فإن التجربة المأساوية تثبت أن أنصار الحق العربى الجريح المهان المهدر يمكنهم أن يجدوا فى الدين (الإسلامى ) مدداً وقوة ،وسنداً ودعماً ،ودرعاً وسيفاً ،ونصراً وعزة ،وإباء وشمماً ،وذلك رغم كل مشاعر السلب وقيم التدنى التى قد يستنبطها الآخرون !
وقد لا يكون من قبيل المبالغة ،أو التوهم ،أن يقال أن عمليات المراجعة الفكرية المكثفة التى تقوم بها كافة التيارات الفاعلة فى فكرنا العربى ،قومية كانت أو دينية أو ليبرالية أو ماركسية ،قد نشطت وتسارعت فى الفترة الأخيرة . ونحسب أن مرد هذا النشاط وذاك التسارع وإن كان يعود فى جانب منه إلى اشتداد أزمة ت الواقع الفكرى العربى بعد الإخفاقات والتوقفات (وحتى الارتدادا) التى منيت بها أغلب محاولات التغيير والتقدم فى عالمنا العربى ،كما يعود إلى اكتشاف كل فريق ،بل واقتناعه ،بعدم قدرته على تحمل تبعات مقاومة الانهيار أو مسؤوليات إعادة البناء منفرداً ،إلا أن التراكمات الإيجابية والفعاليات العملية التى توفرت للحركات الدينية هى التى لعبت الدور الأكبر فى دفع عجلة المراجعة ،والنقد ،والتقويم الذاتى ،داخل كافة التيارات الفكرية المشاركة فى صناعة الرأى العام العربى ،وفى صياغة العقل العربى المعاصر . ولعل أفضل ما أفضت إليه هذه الإيجابيات وتلك الفعاليات أنها قد ألقت الضوء الكاشف على كون الخصوصيات المحلية والإقليمية والقومية والحضارية للصراع العربى – الصهيونى تمهد أرضاً عظيمة الإتساع يمكن أن تلتقى عليها كافة التيارات الفكرية وأغلب القوى السياسية الفاعلة فى الواقع العربى والمتعاملة مع مشكلات الوجود العربى .
هذا عن الفعاليات الإيجابية . أما فيما يتعلق بالجوانب السلبية فإننا لا ننكر ابتداء أن التصورات بالجوانب السلبية فإننا لا ننكر ابتداء أن التصورات الدينية للصراع العربى – الإسرائيلى تعلق بها أخلاط غير طيبة كثيرة ،مما يجعل هذه التصورات مشوبة بالغموض حيناً ،محقونة بالتناقضات أحياناً ،عصبية التصرف والسلوك فى أحيات أكثر . بل والأخطر من كل هذا أن بعض الجوانب الملحقة اعتسافاً بهذه التصورات الدينية قد تقدم دعماً – غير واع – لموقف العدو الصهيونى ولمنطلقاته الأيديولوجية . ومن هنا فإن الواجب يقتضى أن نعيد بناء التصور الدينى للصراع العربى – الإسرائيلى ،وأن نخلصه من عناصر السلب فيه ،وأن ندعم إيجابياته .
وقد يحسن أن نثبت هنا ،وقبل أن نتطرق إلى التفاصيل المتعلقة بمبحثنا عن هذا التصور الدينى للصراع العربى – الإسرائيلى ،أن مصطلح (( التصور الدينى )) يقوم على اعتباراتفيها الكثير من التعميم . فالتوزيع الطيفى للحركات والتيارات الإسلامية متسع للغاية ،كما أن كثيرين ممن يتبنون المنطلقات والأدوات الدينية للتعبير عن المواقف السياسية قد لا يكونون منضوين تنظيماً ضمن أى من هذه الحركات أو التيارات . ولكن قد يكون القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً أنهم ينطلقون ،وفق فهم ذاتى عادة ،من نصوص دينية ،أو من معطيات تراثية ،أو حتى من مسلمات فولكلورية وجدانية . ومن هنا فإنه يمكن تعميم صفة (( التصور الدينى للصراع العربى – الإسرائيلى )) على تصورات هؤلاء جميعاً رغم ما قد يقوم بينها من تمايزات أو تفاوتات .
وكما يبدأ المشروع الصهيونى من نصوص التوراة يستقرؤها ويصطنع منها واقعاً كاذباً ،فإننا كذلك سوف نبدأ مع النصوص ،توراتية كانت أو عربية ،ثم نصعد بعد تحليلها مع التجربة والواقع ،على أمل الانتهاء إلى تقديم صياغة أو بنية (حتى ولو كانت أولية ) لتصور دينى معاصر للصراع العربى – الإسرائيلى ،نرجو أن تكون مقبولة بمعايير العلم المعاصر من جهة ،وبمقتضى الاحتكام إلى الكليات الإسلامية من جهة ثانية . كما نتمنى أن تكون قابلة للتطوير فى إطار حوار ديمقراطى إسلامى يشارك فيه العاطفون على الفكر الإسلامى وعلى الحركة الإسلامية .
أولاً : نصوص وأقاويل متشابهة
جاء فى سفر التكوين فى العهد القديم :
(( فى ذلك اليوم قطع الرب مع آبرام – إبراهيم – ميثاقاً قائلا : لنسلك أعطى هذه من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات )) .
وجاء فى سورة المائدة فى القرآن الكريم على لسان موسى عليه السلام مخاطباً بنى إسرائيل (*) : (ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين).
وفى عام 1919 يجزم الأمير الهاشمى فيصل بن الحسين (1) وهو يخاطب القاضى الأمريكى فليكس فرانكفورتر :
(( إن اليهود والعرب أبناء عم من الناحية العنصرية )) .
وحتى بعض القيادات العربية المشهود لها بالحنكة السياسية ،وبحكمة القول والتصرف ،بالرغم من خلافات لابد منها فى تقويم إنجازاتها وممارساتها ،قد شاركت فى ترويج مثل هذه الأطروحات .
ففى عام 1966 يعلن الأمير فيصل بن سعود (الملك فيما بعد ) :
(( إننا لا نكن شيئاً ضد اليهود ،لأننا أبناء عمومة فى الدم (2) )) ويتحدث ملك الأردن الحسين بن طلال أكثر من مرة فيردد (3) :
(( إن العرب عاشوا مراحل طويلة فى التاريخ جنباً إلى جنب وفى صداقة وتعاون كأقارب وجيران )) .
ونحسبها أشهر من أن توثق تلك الأقوال التى تنسب إلى الحسن الثانى ملك المغرب بخصوص تلك القرابة التى تربطنا نحن العرب باليهود ،وبخصوص العبقرية اليهودية التى يمكن أن تتكامل مع المال العربى (من دول النفط ) ومع قوة العمل العربى (من دول الفقر ) لإقامة الرخاء المشترك فى المنطقة ! .
وفى نوفمبر / تشرين ثانى 1977 يوجه بيجين رئيس وزراء إسرائيل رسالة مذاعة متلفزة إلى الشعب المصرى ،تمهيداً لدعوة رئيس جمهورية مصر العربية (وقتذاك ) لزيارة الأرض المحتلة (وبالتحديد القدس المغتصبة ) فيضمنها قوله :
(( نحن وأنتم نلتقى عند أب واحد هو إبراهيم )) .
ولم تذهب مجاملة بيجين هباء ،ولم تضع هدراً . فلم تمض غير شهور قلائل حتى كانت لغة الخطاب المفضلة لدى الساسة المصريين أن يسبقوا اسمه بصفة السيد ،وأن ينادونه وزمرته بالأصدقاء الأعزاء وبأبناء العم ! .
ويخطب بيجين بتاريخ 20 / 11 / 1977 فى مواجهة رئيس جمهورية مصر العربية (4) والعالم أجمعه يسمع فيقول :
(( لقد ذكر الرئيس تصريح بلفور … لا يا سيدى … لم نطأ أى أرض أجنبية .. عدنا إلى وطننا .. إن العلاقة بين شعبنا وهذه الأرض هى علاقة أزلية … هذه البلاد أقمنا حضارتنا فيها وفيها تنبأ أنبياؤنا )) .
وأضاف الرئيس السابق لعصابة الأرجون زفاى ليومى ، والرأس المدبر واليد الفاعلة الآثمة فى مذبحة دير ياسين ،فى موقع آخر من خطابه سالف الذكر :
(( هنا أقمنا مملكتنا . وعندما استعملت القوة ضدنا ،وعندما ابتعدنا عن أراضينا لم ننس هذه الأرض حتى ليوم واحد .. صلينا من أجلها وتشوقنا إليها .. وحين يعود الشعب بمشيئة الله إلى أرض صهيون ،حينذاك تمتلئ أفواهنا وألسنتنا بالبهجة وبالنشيد … وبرغم كل متاعبنا فإن عودة صهيون هى التى تطلعنا إليها والتى ستأتى لابد )) .
ومن باب الإحياء للتراث الحديث (!) ،وحتى يكتمل الموزايك الخرافى (أو التخريفى ) الذى يصنع من أقوال الكتب المقدسة (المحرفة ) ،ومن أوهام العوام ،وتورطات بعض كبار العرب أيضاً ،ثم من تحريف آى القرآن عن مواضعه إن استدعى الأمر ،وكذلك من وعى الصهاينة بمصالحهم ومطامعهم وتطلعاتهم ،فإننا نضيف النصين التاليين .
قال بين جوريون فى مقدمة التقويم الصهيونى السنوى لعام 1951 :
(( نحن لم نرث بلاداً واسعة ،ولكننا وصلنا بعد سبعين سنة إلى أولى مراحل استقلالنا فى قسم من بلادنا الصغيرة )) .
وقال مناحم بيجين فى الكنيسيت إسرائيل ،مادمنا لم نحرر وطننا بأجمعه ،حتى لو وقعنا معاهدة الصلح)) .
ثانياً : محاور أساسية فى الرؤى الدينية للصراع
الدعوة الصهيونية ،كما تبدو فى أدبيات الحركة والتى تضمنت النصوص السابقة مقتطفات قليلة منها ،تبدأ من وعد موجود فى كتاب العهد القديم ،وتستند إلى مزاعم تاريخية تتحدث عن الاستمرار العنصرى (الحضارى والبيولوجى ) لبنى إسرائيل القدامى . ومن هنا تصبح العودة إلى أرض الميعاد حق وضرورة . وزعم النقاء العنصرى (وانغلاق الأنساب ) يجعل من اضطهاد اليهود فى أوروبا متكئاً دعائياً وعنصرياً طيباً يتأكد عن طريقة حق هؤلاء (التاريخى والإنسانى ) فى وطن قومى على أرض الأجداد !! .
وليس صواباً بالطبع أن نغفل الدوافع الاقتصادية والإستراتيجية وراء قيام دولة إسرائيل ،أو أن نغفل دور الاستعمار ثم الإمبريالية العالمية فى إقامة هذا الكيان العدوانى ودعم استمراره على أرض لنا مغتصبة (4) . فكل ذلك كامن وصلب فى أعماقنا الوجدانية وخلفياتنا الفكرية ومشاعرنا القومية . ولكننا نتجاوز هذه الظواهر فقط من أجل تحديد أدق وتركيز أفضل لمناقشة الرؤية (أو على وجه الدقة الرؤى ) الدينية للمشكلة .
ولن أقف أيضاً لأناقش وجوه الضعف المتعلقة بالتسجيل المتأخر لكتاب العهد القديم والتناقضات والأخطاء التى يتضمنها (5) . ولن أقف طويلاً عند جهود الأنثروبولوجيين التى تنفى عن اليهود المعاصرين أن يكونوا ساميين (*) ،وتتحدث عن مياه بيولوجية كثيرة جرت تحت الكبارى اليهودية لتختلط أنساب ،وتتغير دماء ، وتسقط خرافة الانغلاق اليهودى الدينى والعنصرى .
أما الذى يعنينا من النتائج التى توصل إليها علماء التاريخ ،وعلماء الحضارات القديمة (الأركيولوجى ) ،فهو أن انتساب اليهود المعاصرين لليهود القدامى موضع شك ،بل هو موضوع تكذيب لا يدفع . ويترتب على ذلك أن قرابة الدم بين اليهود المعاصرين وبين العرب ليست تعدو أن تكون مغالطة هى إلى الخرافة أقرب . وتصبح القرابة بين العرب وبين يهود التوراة تاريخاً يروى ويستحيل بعثه حياً من جديد .
ومع استدعاء ما سبق أن قلنا به عن عدم وجود رؤية دينية متكاملة (محددة ومتبلورة ومطردة ومقبولة ) للصراع العربى – الإسرائيلى ،فإنه فى إمكاننا أن نتبين أن الذين ينطلقون فى تصوراتهم (أو على وجه الدقة انطباعاتهم ) من منطلقات دينية قد يتحركون على واحد أو أكثر من محاور ثلاثة يلتقون فيها جميعاً مع الصهيونية المعاصرة ،رغم شكلية الخلاف بل وعدوانيته ،إن لم يتطابقوا معها . مع التأكيد على المصادرة المبدئية لأدنى الشبهات المتعلقة بسوء القصد أو التحلل من الالتزامات الدينية أو الوطنية أو القومية أو الأخلاقية فى أفعال هؤلاء أو فى مقاصدهم .
* والمحور الأول فى الرؤى الدينة للصراع العربى – الإسرائيلى يقوم على وهم القرابة فى الدم بين العرب وبين اليهود ،ويتحدث عن تجاور أمن وعن معيشة مسالمة بينهما فى الماضى ،ويلوح بإمكان تكرارها فى الحاضر ،استغلالاً لسماحة الإسلام ،واعتماداً على سعة صدرة تجاه المخالفين فى الدين . وهذا الخطأ الموضوعى الفادح الذى يغفل عن ضرورة تحديد الزمان والمكان اللذين تصبح فيهما ومعهما هذه المقولة صحيحة ،يعطى الحركة الصهيونية موافقة ساذجة على صحة منطلقاتها الغيبية ،والتاريخية ،والعنصرية ، مثلما يؤكد عن غير وعى حقها المكذوب ليس فقط فى أرض فلسطين ،ولكن فى دولة إسرائيل الكبرى التى تمتد فيما بين النيل والفرات .
وفى تبنى هذه النظرة إقرار صريح يكون يهود العالم المعاصر مجموعة موحدة أنثروبولوجيا
(سلاليا وعرقيا ) ،انحدرت فى نقاء مستمر ودون اختلاط من أصلاب يهود العالم القديم الذين كانوا يقيمون فى منطقتنا العربية ،بما يعنى دعم الأكذوبة التوراتية الكبرى التى تمثل العمود الفقرى للمشروع الصهيونى .
وإدراك هذه الإشكالية يكشف لنا كيف تتطابق أوهام العوام ،والنوايا الحسنة لبعض المفكرين والقادة ، وتشدقات الفقهاء أحياناً ،مع مغالطات الأعداء اليهود الصهاينة ،والتى تمثلت فى أغلب النصوص التى أوردت من قبل فى موضوع سابق من هذه الدراسة .
* ومحور آخر أساسى يتحرك عليه فريق عربى آخر (مسلم عادة ) شديد العداوة لليهودية . وهذا الفريق شديد التعصب ، يكره اليهود قدامى ومحدثين . وهو أكثر تشدداً وأكثر عدوانية من الفريق الأول الذى يأخذ بأكذوبة القرابة العرقية بين اليهود وبين العرب ،ويوشك أن يكون مناقضاً لهذا الفريق الأول فى الظاهر ،ولكنه فى الحقيقة يظاهر الفريق الأول ويظاهر الحركة الصهيونية (عن غير وعى ) .
ويستقى هذا الفريق تصوره لليهودى ولليهودية من التوصيف القرآنى ليهود التوراة من بنى إسرائيل الذين عاصروا الأنبياء القدامى بصفة عامة ،وموسى عليه السلام بصفة خاصة . ثم إنه يواصل استكمال الصورة القبيحة لهم مستقرئاً السيرة النبوية وما ورد فيها عن يهود يثرب ويهود خيبر (وغيرهم ) وعن عدائهم القبيح لمحمد عليه الصلاة والسلام وللدعوة الإسلامية التى جاء نبياً ورسولاً وقائداً . ويسحب هذا الفريق خبراته النقلية تلك ،ويبترها من الزمان والمكان ،ويغفل عن العناصر الموضوعية فى الصراع الدائر ، ويتحدث عن مؤامرة يهودية تستهدف الإسلام هى استمرار لمؤمرات بنى النضير ،وبنى قريظة ،وبنى قينقاع وغيرهم من يهود الجزيرة العربية فى وقت البعثة المحمدية .
والذين ينحون هذا المنحنى لا ينتسبون فقط إلى الشرائح المحافظة فى الفكر الإسلامى ،والتى تقدم أكثرية الأدبيات الدينية فى هذا الخصوص سواء فى الكتب أو على صفحات أغلب المجلات الدينية المعروفة ،ولكنهم قد ينتسبون إلى الشريحة التى قد ترى نفسها ،أو يراها الآخرون ،أكثر استنارة ،وأسبق تقدمية . ذلك لأن الإنسان لا يعدم وجود البعض من المنتسبين إلى هذا الفريق ،والذين يرون عدم جواز التعامل مع اليهود الصهاينة المغتصبين للأرض العربية ،فى فلسطين وفيما حولها ،باعتبارهم (( بنى إسرائيل )) الذين وصفهم القرآن بأنهم يقتلون النبيين ،وينقضون العهد ،ويكتمون ما أنزل الله ،ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ..الخ (6) . أى أن مطابقة تامة تقوم فى فكر هؤلاء بين إسرائيل التوراة وبين إسرائيل المشروع الصهيونى – الاستعمارى الذى تم إنجازه ويجرى استكماله فى القرن العشرين ! . وهو الأمر الذى يعنى أنه فى العقل الباطن لهؤلاء جميعاً تظل الصلة الحضارية والبيولوجية قائمة بين يهود موسى ،ويهود العصر المحمدى ، ويهود عصر النكبة فى فلسطين المحتلة ،مما يفتح الباب أمام تطابق آخر بين أوهام العوام ،وتخبطات المتعالمين ،ومغالطات الصهيونية المعاصرة .
* أما المحور الثالث الأساسى فعليه يتحرك (بل يتخبط ) عرب مسلمون كثيرون مغيبون ،مثلما تتحرك عليه الصهيونية المعاصرة ،ولكن بوعى يقظ .
وهنا يجرى خلط رهيب بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كحركة سياسية . فالحركة الصهيونية تستغل الدوافع الدينية التى يمكن أن تكون متعصبة بطبيعتها ،وتعمد إلى تغييب الفروق الجوهرية بين الأمرين على أمل أن تستوعب القوة اليهودية فى العالم كله فى إطار الحركة الصهيونية . أى أن علاقة الحركة الصهيونية بالدين اليهودى هى علاقة نفعية (براجماتية ) فى جوهرها . وهى أى الحركة الصهيونية ،حين تعلن أن إسرائيل أرض يهود العالم جميعهم ،وحين تبحث عن تبرير توراتى لوجودها ،إنما تستغل العاطفة (إن لم تكن الغريزة ) الدينية لدى الكثيرين للمشاركة فى المشروع الصهيونى ،والإسهام المتحمس فيه . كما أنها توظف أحد عناصر التوحد التى ثبت فعاليتها على امتداد تواريخ الأمم ،وتجارب الاجتماع الإنسانى ،وخبرات العمران البشرى ،ألا وهو الدين . وهى إذا تحاول جمع أشتات متباينة من الناس (عرقياً ،وحضارياً ،وثقافياً ، ولغوياً ) إنما توظف عنصر التأليف الوحيد الماح أمامها وهو الاتحاد فى الانتساب التاريخى إلى الديانة اليهودية .
والحركة الصهيونية إذا تتخذ من الفرضيات التوراتية الدينية نواة أولى للتجميع ،إلا أنها تراكم عليها طبقات متتابعة صلبة وسميكة من الإنجاز العلمانى المادى الذى يترتب على ممارسات دنيوية قحة منبتة الصلة بالدين فى أغلب الأحيان . فالدين فى إسرائيل أداة تأليف اجتماعى ولكنه ليس منهاج حكم . والذين يحكمون على يهودية دولة إسرائيل بالتزام بعض قياداتها (وكثيرين من مواطنيها ) استخدام غطاء الرأس اليهودى فى المناسبات العامة لا يختلفون كثيراً عن الذين يرون إسلام بعض المسلمين فى معابثة المسابح ،أو فى رسم بصمة الصلاة (الزبيبة ) على الجبهة مراءاة بكثيرة السجود فى الصلاة . والذين يرون فى اتخاذ الإسرائيليين المعاصرين من السبت يوم قعود أسبوعى ،أو فى امتناع بعضهم عن العمل فيه ،دليلاً على التوجه الدينى لدولة إسرائيل وإنما يخلطون بين تحول الموروث الدينى إلى عادة اجتماعية وبين اتخاذ الدين نظام حياة وشريعة حكم .
وعندما نتجاهل نحن العرب ،أو البعض منا ،كل هذه الفروق أو بعضها ،ثم ندفع إلى مناطحة غير متبصرة مع اليهودية ،التى اختلط علينا أمرها فحسبناها والصهيونية سواء ،فإننا نعطى الحركة الصهيونية السياسية المعاصر (رغم تمحكها فى الدين ) فرصة أفضل لتحقيق الحشد العنصرى الدينى الذى نرجوه وتهدف إلى تحقيقه ،كما أننا نفتح أمامها الأبواب عن سعة للزعم أننا نواجه علمانيتها بتعصبنا الإسلامى .
ولعله قد يكون مفيداً أن يستقر فى أفهامنا أن (( كل الصهيونيين يهود وليس كل اليهود صهيونيين ))،وأن الحركة الصهيونية لا تعادينا لكوننا مسلمين ابتداء ولكنها تستهدف إزالتنا من الوجود لكوننا السكان وأصحاب الحق (مسلمين كنا أو مسيحيين ) فى المنطقة التى ترمى إلى تفريغها بشرياً لتنفيذ مشروع دولتها إسرائيل وتثبيته ،وأن عداءنا الشديد لسكان دولة إسرائيل لا ينشأ لمجرد كونهم يهوداً ولكن لكونهم فى الأساس اعتدوا علينا وبادؤونا بالعدوان وظلمونا حقوقنا وأخرجونا من ديارنا ،وأن مثل هذا العداء الشديد كنا ولابد حامليه لغيرهم لو أن هذا الغير مارس ضدنا الذى مارسه الإسرائيليون ،وأياً كانت ديانته أو معتقداته أو توجهاته . هذا مع التأكيد أننا إذا نرى فى توظيف الحركة الصهيونية للدين اليهودى أداة للإضرار بنا أو وسيلة لتمتين الكيان الصهيونى فى إسرائيل (أو خارجها ) ،فإنه يكون من أحق حقوقنا . بل ومن أوجب وأجباتنا ،أن نجعل من كل ساحات توظيف الدين اليهودى هذه ميادين قتال ،ومسارح صراع ،ومنصات عداوة ،بشرط أن لا يغيب عن وعينا أدبداً أننا نخوض حرباً شرسة ضد الاستخدام السياسى السئ والمبتذل للدين اليهودى وليس ضد الديانة اليهودية ذاتها .
ثالثاً : موضوع القدس عند النظر دينياَ للصراع
فى القدس يبلغ التجسيد الدينى للصراع أشده . يرجع ذلك أساساً إلى القداسات المادية والمعنوية الكائنة فى المدينة أو المرتبطة بها ،والتى تخص الديانات السماوية الثلاثة .
فبالنسبة لليهود هناك هيكل سليمان المفقود ،وحائط المبكى (محل البراق ) الذى تنازعه اليهود والمسلمون فى عام 1930 وأقرت لجنة دولية حينئذ بملكية المسلمين له ويحق اليهود فى التعبد عنده . وهناك أيضاً أورشليم العاصمة القديمة للدولة اليهودية التى قامت فى التاريخ القديم الذى يزعم المعاصرون من الصهاينة انتسابهم إليها .
وفى القدس أيضاً وعظ المسيح ،وحوكم ،وجرت محاولة صلبة ،وسار فى طريق الآلام بها صاعداً إلى الجلجثة . وفيها من أعظم القداسات الدينية المسيحية كنيسة القيامة .
وحول المسجد الأقصى فى القدس تتحلق مشاعر المسلمين . فهذا مسرى الرسول محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام . وهنا مسجد من ثلاث تشد إليها الرجال . وهنا أيضاً القبلة الأولى للمسلمين .
لكل ديانة قداستها فى هذه المدينة إذن . فلو حصرنا الصراع فى إطار دينى بحت فلمن يثبت الحق ؟! .
وكيف نوفق بين أمنيات حاكم عربى مسلم يود أن يستعيد العرب القدس ليصلى فى مسجدنا الأقصى ،وبين المطامع الصهيونية التى يعبر عنها دافيد بن جوريون رئيس الوزراء إسرائيل الأول وأبرز وجوه حرسها القديم إذا يقول :
(( لا معنى لفلسطين بدون القدس . ولا معنى القدس بدون الهيكل )) ؟ ! .
وكيف يمكن أن تقوم مصالحة (حقيقية ! ) بين مطالبة الرئيس المصرى الراحل السادات بالقدس العربية (وربما المدولة ) أمام الكنيست الإسرائيلى فى 20 /11 / 1977 ،وبين أصرار بيجين على أن تظل المدينة المقدسة يهودية موحدة كما جاء فى خطابه التعقيبى على مطالبة السادات السابق الإشارة إليها ،خاصة وأن المدينة تضم هيكل سليمان فى جانبها الشرقى (المسمى الآن خطأ بالعربى ،حيث المدينة كلها عربية فى الأساس ) ؟! . هذا مع التذكير هنا أن البرلمان الإسرائيلى ((الكنيست)) قد صادق فى 30 يوليو 1980 م ، أى بعد حوالى العامين ونصف العام من مناظرة السادات / بيجين ،على قرار للحكومة الإسرائيلية ،التى كان يرأسها مناحم بيجين ،باعتبار القدس العاصمة الأبدية الموحدة لدولة إسرائيل .
ثم كيف نحول دون أن تكون الصلاة فى المسجد الأقصى ،وقد تمناها مواطنون وقادة عرب كثيرون ،وسيلة لخداع الجماهير ،أو أن تكون تلبية داعى السلام الوهمى درباً ملتوياً أو ممهداً لتضييع الحقوق ؟! .
فى وضوح شديد ،نثبت هنا ،أنه لو اقتصر الأمر على القداسات الدينية ،والبقايا التاريخية ،والدعاوى الديماجوجية ، لتساوت فى نظر الكثيرين ،إن لم يكن فى نظر الجميع من خارج وطننا العربى ،حقوق الصهاينة (اليهود ) فى المدينة المقدسة .
غير أن إدراك الحقائق الموضوعيى للصراع العربى – الإسرائيلى ،واكتشاف الإطار الكلى الإسلامى الصحيح الذى تجب إدارته من خلاله ،ووضع القدس المدينة فى الموضع الصواب من هذا الصراع الشامل ، كلها عوامل تجعل حق العرب (أياً كانت ديانتهم ) لا لبس فيه ولا جدال ،كما تجعل وقوف الآخرين معهم قائماً على أسس موضوعية مقبولة لدى هؤلاء الآخرين ،وليس على أسس وجدانية يستحيل أن تكون مبررة لديهم ، رغم أهميتها المطلقة لدينا نحن.
فالقدس ليست هى المأساة ،ولكنها جزء منها . وأرضنا كلها مقدسة وليست القدس فقط . وتلك حقيقة حضارية ومادية ودينية فى آن واحد .
رابعاُ : تعريف بعناصر المأساة وأبعاد الصراع وأدواته
ليس القصد ها هنا تقديم تغطية تفصيلية لأبعاد الصراع بين قطب الدفاع عن الحق (الجانب العربى ) وبين قطب الاعتداء عليه (الصهيونية ومن يؤازرونهم ) ،ولا للأدوات التى يجب أو يمكن استخدامها عن إدارة هذا الصراع ،ولا للنتائج التى ترتبت على ممارسته فى الماضى ،أو التى يمكن أن تترتب على استمراره مستقبلاً . فالمجال لا يتسع لكل هذا . كما أن مستهدفات الدراسة قد لا يخدمها مثل هذا التفصيل.
غير أن تذكرة وتأكيداً للأساسيات التى تحكم حركة الصراع ،والتى أتصورها حية وحاضرة فى أذهان الكثرة الكاثرة منا ،تصبح واجبة ،باعتبارها معبراً لمحاولتنا تلك التى تستهدف ترشيد منظورنا الدينى للصراع العربى – الإسرائيلى .
وعناصر النكبة القومية هى : أرض مسلوبة مغتصبة (قبل 1967 وبعدها ) ،وشعب مشرد تم إخراجه بالعنف من دياره ،أو تم قهره حين أبقى على البعض منه داخل تلك الديار ،ثم حقوق مادية وأدبية عديدة مهدرة .
والقوى التى تصادمنا وتحول دون استرداد حقوقنا ليست هى الصهيونية العالمية فقط ،ولكن الاستعمار والامبريالية وقوى التخلف والرجعة العالمية بصفة عامة .
والكيان الإسرائيلى قد اسُتنبت فى المنطقة (بفعل استعمارى ) ،ونما فى مرحلة ضعف وتخلف حضارى سيطر على العالم العربى (بدعم امبريالى ) . وكان العالم أجمعه على وجه التقريب مستقطباً لصالح الحركة الصهيونية.
كل هذا يعنى أن الجبهة التى يجب أن نناضل عليها أطول من حدودنا الجغرافية مع إسرائيل ،كما أنها أكثر اتساعاً من الرقعة التى تحتلها إسرائيل الدولة الآن ،أو تطمع فى احتلالها مستقبلاً ،حتى تستكمل استقلالها المزعوم الذى أعلن عنه بيجين بتاريخ 20 /11 /1977 أمام الكنيست الإسرائيلى وقتئذ برئاسة الراحل السادات ،وأمام العالم أجمع . وهذه الجبهة تمتد فى الزمان أيضاً إلى آماد طويلة لم تأت بعد .
ويصبح التحدى الذى يواجهنا كما أحسن البعض تشخيصه تحدياً حضارياً (8) . ويصبح أمن إسرائيل فى أعماقه الحقيقية البعيدة أمناً حضارياَ وليس أمن حدود ،وهو ما يعنى تخلف المجتمع العربى فى مقابل تقدم المجتمع الإسرائيلى (9) .
وهذا الصراع الحضارى الذى فرض علينا أن نخوضه ليس معركة عسكرية فقط ،وليس معركة سياسية ، ولكن يضاف إلى كل ذلك متطلبات وضرورات وأدوات قتال اقتصادية ،واجتماعية ،وثقافية ،ودينية .
وقد تكتسب القدس أهمية خاصة ،ثقافية ودينية ،على خيطة ذلك الصراع الحضارى الرهيب الذى نخوضه . ولكن تبقى القدس قبل كل هذا وبعده ،أرضاً ضاعت ،وشعباً طرد أو سيطرد ،وحقوقاً مادية ومعنوية قد انتهكت . وهذه هى الحقائق الصماء التى تربط بين القدس المدينة وبين فلسطين الوطن ،والتى يجب توظيف جميع الدوافع السياسية والاقتصادية والثقافية والروحية لخدمتها .
خامساً : إعادة بناء التصور الإسلامى للصراع
حتى يتحدد دور أكثر موضوعية ،وأشد فاعلية ،للمفهوم الدينى (الإسلامى على وجه التحديد ) للصراع الدائر بيننا وبين العدو الإسرائيلى ،وحتى لا تختلط الأوراق لمصلحة العدو ،فإن الأساسيات التالية لابد وأن تتأكد ، كما لابد وأن يقبل بها الجميع .
** إن العلم ،والعلم فقط،هو المهيأ لحسم ادعاءات العدو وخرافاته . فعلماء التاريخ ،وعلماء الحضارات ، وعلماء السلالات والأجناس ،هم أصحاب الكلمة الأولى (والأخيرة أيضاً ) فى شأن توهمات الانتماء البيولوجى ،وادعاءات الانتساب الحضارى ،التى يزعمها العدو . وما تنتهى إليه هذه العلوم هو الجواب الحاسم . أما الاحتكام إلى النصوص القديمة فليس بذى جدوى ،لأنها تتضارب عادة ،كما أنه فى الإمكان فهمها على وجوه عدة متناقضة ،إن لم تكن متعادية .
والاحتكام إلى روح العلم ،والخضوع لمقتضياته ،إنما يعبر فى جانب منه عن إدراكنا العملى للدلالات الحقيقية لكون الصراع بيننا وبين العدو الصهيونى صراعاً حضارياً شاملاً ،مثلما سبق أن أوضحنا فى موضع متقدم من هذه الدراسة .
** إن الكتب المقدسة ،بفرض أن التاريخ من أجل التأريخ كان هدفها ،لم تكن تعرض إلا لتاريخ كان قائماً . أما عن استمرار هذا التاريخ (بجوانبه الحضارية والبشرية والجغرافية ) أو انقطاعه ،فهنا تعفى هذه الكتب من المسئولية ويتحملها الإنسان العالم الباحث المدقق المتخصص . إن آية سورة المائدة التى سبق إيرادها فى هذه الدراسة (*) (على سبيل المثال ) تعبر عن حقيقة وقعت فى أيام موسى عليه السلام ،ولكننا لا ترتب حقوقاً أبدية أو مستقبلية لقوم موسى هؤلاء ،وذلك مع افتراضنا (من باب الجدل ) أن يهود أوروبا الاشكنازيين ومنهم المدعى بالكذب بيجين وكل قيادات إسرائيل جاءوا من أصلاب هؤلاء القوم الذين خرجوا مع موسى عليه السلام من مصر لتنتهى رحلة الخروج بهم إلى الإقامة فى فلسطين ! . ومن هنا يسقط حق الإرهابى مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل آنذاك فى استخدام مثل هذه الآية لتعضيد المطامع الصهيونية فى الأراضى العربية مثلما فعل قبيل الزيارة النكبة لرئيس جمهورية مصر العربية الراحل للقدس فى نوفمبر 1977 م ،كما يصبح فزعنا من استخدامه مثل هذه الآية (وقد حدث أن فزعنا فعلاً ) هو الآخر لا مبرر له .
إن حقائق التجربة الإنسانية الطويلة تثبت أن التغييرات التاريخية ،والصراعات الحضارية ،تجرى فى الواقع وهى محكومة بالمعطيات الموضوعيى والحياتية ،وليست محكومة بالمعطيات أو الموضوعات التراثية .
** إن من التزيد فى القول (وقد يكون من الخطأ ) الزعم بوجود رؤية إسلامية بعينها للمشكلة الفلسطينية ،أو لمشكلة القدس ،،أو لمشكلات الأراضى المحتلة ،أو للصراع العربى – الإسرائيلى بصفة عامة . ولكن الصواب أن نقول أن للإسلام رؤيته الكلية لمسائل الجهاد ،والحرب ،ورد العدوان ،والمحافظة على الحق والدفاع عنه . وفى إطار هذه الرؤية الكلية يتحدد مسلكنا ،وتتبلور مناهجنا لمواجهة التحدى الصهيونى – الامبريالى – الرجعى الذى يواجهنا .
والعنصر الدينى فى هذا الصراع المرير يجب أن لا يتشوه ،أو أن يمسخ ،فيصير استنفاراً لعداوات تاريخية ضد جنس بعينه (وإنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) ،ولاضد دين بذاته . ذلك لأن مجرد المخالفة فى الدين ليست سبباً للعداء فى الإسلام . فكما يشرح الإمام العظيم المجتهد الشيخ محمود شلتوت (10) فإن : ((الإسلام لا يجعل مجرد المخالفة فى الدين سبباً يحمل على التقاطع بالتفريق وسلب الحريات والإخراج من الديار ،وإنما يجعل العداء الذى يدفع المخالفين إلى الإيذاء والفتنة سبباً مانعاً من موالاتهم والامتزاج بهم ،والاعتماد عليهم . وقد قرر ذلك فى آيتين واضحتين : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين . إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ،ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) (الممتحنة 8 ،9 )
أما الاستخدام الرشيد للعناصر الدينية الروحية فى هذا الصراع الحياتى الدنيوى العاتى فإنه يتمثل فى الإصرار الدؤوب على فضح تزييف المزيفين ،والعمل على حشد المؤمنين جميعاً وراء التوجيه الإسلامى الكلى لاستخلاص الحق ورد العدوان .
** ولو حاولنا إعادة بناء التصور الدينى لهذا الصراع العربى – الصهيونى ،بشرط أن يقوم متماسكاً ومتناسقاً مع الكليات الإسلامية ،وبشرط أن نحول بين العدو الصهيونى وبين الانتفاع من أطروحاتنا (المبترة المتناقضة ) الطيبة النوايا ،لدعم أطروحاته (المدققة الصياغة )الخبيثة النوايا العدوانية الأفعال ،فإن العناصر الجوهرية التالية يجب أن تعتمد ،وأن تؤخذ فى الاعتبار ،كما يجب أن توظف كأركان أساسية يقوم عليها البناء الجديد المستهدف .
1 – فى القرآن الكريم وفرة ملحوظة فى الآيات والمقاطع القرآنية التى تركز على ذكر (( بنى إسرائيل )) ، واليهود بصفة عامة ،وراوية أخبارهم ،وتوصيف سلوكياتهم ،وتقويم ممارساتهم ،والإدانة لهم ،والتنبيه إلى مساوئهم ،ولفت النظر إلى الحكم والدروس التى يجب على المسلمين والمؤمنين استخلاصها إذ تتلى عليهم أمثال هاتيك الآيات والمقاطع القرآنية .
ويهود عصر المبعث المحمدى فى المدينة وما حولها كان لهم هم الآخرون نصيب وافر من الاهتمام القرآنى . وكان أغلب هذا الاهتمام سلبياً فى محتواه ،إدانياً فى توجيهاته ،شديداً فى أحكامه عليهم ، عنفياً معهم ،ناقماً عليهم ،غاضباً منهم ،مشبعاً بالتحقير لأفعالهم ،منذراً إياهم دوماً بالويل والثبور وسوء المآل .
وتركيز القرآن الكريم على (( بنى إسرائيل )) دون سواهم من الأمم الخالية ،قد يكون مرده أن القرآن لم يكن يهتم بغير أخبار تلك الأمم القديمة التى أرسل الله إليها الأنبياء وفى إطار النموذج العربى – الصهيونى للصراع ،فإن كافة الأسباب الموجبة للقتال ضد الصهيونية وضد الذين يوالونها (الاستعمار والامبريالية وما وراء ذلك ) كلها موجودة ومجتمعة . فالإخراج من الديار حقيقة ،والمظاهرة للعدو دائبة ونشيطة ،والقتال الباغى من جانب إسرائيل (العدو المباشر ) بمثابة القوت اليومى لإخواننا فى لبنان ،وفى معسكرات اللاجئين وفى الأرض المحتلة ،وعلى كافة خطوط المواجهة (رغم الصمت الكاذب للمدافع فى بعض الأحيان ) . ومن هنا فإن الصبر والمثابرة والمرابطة فى مواجهة هذا العدو الباغى الغاشم تصبح واجباً دينياً .
6 – والجنوح إلى السلم ،فى المفهوم الإسلامى الصحيح ،ليس عملاً ساذجاً أو يوتوبيا سياسية ،أو مغامرة تليفزيونية . ولكنه اختيار القادرين القائم على العدل . فبعد حشد المستطاع من القوة لإرهاب عدو الله ومن وراءه :
* (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم .. )) (الأنفال – 60 ) .
أما تجعل السلم أو استجداؤه ،أو البحث عنه فى غير مواضعه الصحيحة ،أى فى غير مواضع القوة والعزة والأنفة ،واستعادة الحقوق المغتصبة ،ورد الحرمات المنتهكة ،ورفع الظلم الذى وقع ،إنما وهن منهى عنه :
* (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم – أى ينقصكم – أعمالكم) (محمد – 35 )
الخلاصة
إدراك الحقائق الموضوعية للصراع العربى – الإسرائيلى ،والتمسك بها ،والعمل من خلالها ،يضعنا على الطريق الصحيح لخوض التحدى الحضارى الذى يواجهنا ،ويجعل كفة العرب والمسلمين راجحة فيما يتعلق بحقوقهم القديمة والمعاصرة فى فلسطين وفى كافة الأراضى المحتلة ،بما فيها القدس .
وحتى نحرم العدو من الميزات التى تتحقق له عن طريق خلط المفاهيم الدينية والتلاعب بها ،وحتى نستثمر الدوافع الدينية المستنيرة لدى مواطنينا ،فإننا يجب أن ننظر إلى الصراع العربى – الصهيونى فى إطارة الرؤية الإسلامية الكلية لمسائل الجهاد ،ورد العدوان ،والمحافظة على الحقوق . كما يجب أن نترك للعلم والعلماء أمر البت فى الادعاءات التاريخية والأنثروبولوجية والأركيولوجية التى يزعمها العدو .
مصادر ومراجع
- د . جمال حمدان ،اليهود أنثروبولوجيا ،المكتبة الثقافية ،دار الكاتب العربى ،القاهرة ،(1967) .
- مناحم بيجين ،خطاب فى حضور الرئيس المصرى فى القدس ،جريدة الأهرام ،القاهرة ،(21 / 11 / 1977 ) .
- خيرى حماد ،التطورات الأخيرة فى قضية فلسطين ،كتب قومية ،الدار القومية ،القاهرة ،(1964) .
- د . إدوارد سيدهم ،مشكلة اللاجئين العرب ،كتب قومية ،الدار القومية ،القاهرة ،(1963) .
- د . محمود دياب ،الصهيونية العالمية والرد على الفكر الصهيونى المعاصر ،دار الشعب ،القاهرة ، (1976 ) .
- د . حسن حنفى ،(( هل يجوز الصلح شرعاً مع بنى إسرائيل ،اليسار الإسلامى ،كتاب غير دورى ، العدد الأول ،القاهرة ،(يناير 1981 ) .
- محمد على علوبة ،فلسطين والضمير الإنسانى ،كتاب الهلال ،دار الهلال ،القاهرة ،(1964) .
- أحمد بهاء الدين ،إسرائيليات ،كتاب الهلال ،دار الهلال ،القاهرة ،(1965) .
(9) د . مراد وهبة (( رؤية إسرائيلية لمستقبل المنطقة بعد حرب أكتوبر ،مركز بحوث الشرق الأوسط بجامعة عين شمس ،ندوة (22 – 23 أكتوبر 1977 ) .
(10) محمود شلتوت (الإمام الأكبر ) ،من توجيهات الإسلام ،دار القلم ،القاهرة ،(1966 ) .
(*) فى أول رد رسمى لرئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجين على إعلان الرئيس المصرى استعداده لزيارة القدس (التى تمت فى نوفمبر / تشرين ثانى 1977) أورد مناحم بيجين هذه الآية الكريمة مسيئاً استخدامها لدعم الحق التوراتى المزعوم لليهود فى أرض فلسطين العربية . وقد أعطت هذه المحاولة منه نموذجاً صارخاً لكيفية توظيف أكذب الناس لأصدق الأقوال للتزييف على الناس وخداعهم .
ومن هنا تبدو أهمية تصدرها للنصوص الواردة فى هذا الجزء من الدراسة على أن يتم تناولها فهماً وتفسيراً فى صلب الدراسة فى موضوع لاحق .
(*) أى أن شعب بيجين لم تكن قد تمت عودته إلى كل أرضه المزعومة بعد وحتى تاريخه 20 / 11 / 1977 م .
(*) أنظر الآية ،والهامش المتعلق بها ،فى رقم (1) من هذه الدراسة .