لاحظ الفلاسفة والمحللون الاجتماعيون أن المجتمع بناء مكون من أسر ، وأن خصوصية أي مجتمع يمكن أن تعرف عن طريق التعرف على العلاقات الأسرية فيه . وتذهب أقدم الدراسات الأخلاقية إلي أن المجتمع يفقد قوته عندما يفشل أفراده في القيام بواجباتهم الأسرية . كذلك ، فإن الفلاسفة والمصلحين والزعماء – الدينيون منهم والعلمانيون – في كل العصور كانوا على وعي واضح بأهمية النماذج الأسرية كعنصر أساسي في البناء الاجتماعي لمجتمعاتهم إذن ، فلابد من فهم العلاقات والواجبات الأسرية كضرورة لفهم العمليات الاجتماعية .
أما الإسلام ، فإنه علاوة على هذا – يعطي أهمية عليا لبناء الأسرة كنقطة الطلاق أساسية وجوهرية لأي إصلاح على أي مستوي صغير أو كبير ، ولقد ابتدأ النبي محمد ( صلي الله عليه وسلم ) خطته العظيمة لتغيير المجتمع العربي بفرض قواعد السلوك الإسلامي في إطار أسرته وعشيرته . وأكد ( صلي الله عليه وسلم ) على الحاجة إلي تحريك العمليات الأسرية عن طريق الجهود الفردية والجماعية . وترسم سورة ” النساء ” في القرآن الكريم أبعاد العلاقات المتنوعة في بناء الأسرة . ومن بين ما تضمنته موضوعات تفصيلية نحو : معاملة النساء وحقوقهن من ممتلكاتهن والشقاق بين الزوجين . . . الخ (1) .
إن القوي الدافعة التي توجه العلاقات الأسرية في الإسلام هي القوي الأخلاقية ، والهدف الاسمي لها هو ترقي الإنسان خلقياً وروحياً .
ولقد دلت الدراسات الإنسانية ( الانثروبولوجية )أن الأسرة – على امتداد عمليات تطورها ونموها ، وهي عمليات ذات طبيعة عالمية – قد أسهمت في هذا بتقديم خدمات أساسية من بينها إنجاب الذرية والدفاع عن أعضاء الأسرة وتحديد نسب الطفل ( أو موقعه ) في المجتمع ثم القيام بالتهيئة الاجتماعية والضبط الاجتماعي (2) . والأسرة مفهوم شعبي محبوب على الرغم من تبعاتها الثقيلة والمتمثلة في وظائفها الاجتماعية التقليدية والتطويرية . وكل فرد يحس بأن الأسرة مهمة له شخصياً ، كما أنها قد برهنت على قدرتها على استيعاب المتطلبات الحديثة بصفة عامة . وعلى المستوي العالمي تعتبر فكرة الأسرة محور الترابط بين الناس . وهي كذلك تمثل الحب والأمن وسواهما من القيم وتعمل كقوة من قوي التماسك الاجتماعي .
اتجهت الحضارة الغربية إلي إعادة توجيه الوظائف الأساسية التي تضطلع بها الأسرة . وبالتحديد ، فإن علمانية الغرب – وما صاحبها من إضفاء الشرعية على الاتجاهات الحسية وعلى نزعة التمرد التي زعموا انها نتيجة حتمية للتكيف مع عصر الصناعة – قد قضت بالتدريج على معاني الاستقامة والإخلاص في النية والعناية يغرس القيم التي يجب على الأسرة المسلمة أن تلتزم بها .
إن نظام الأسرة عند المسلمين في الوقت الحاضر لهو ثمرة للملابسات الفاسدة التي انطلقت من عقالها ، واستمرت تتابع ، نتيجة للآثار التي تولدت منذ الغزو التتري ، وحتى الهجمة الشرسة للقوي الغربية ذات التوجه الدنيوي . وبالتحديد ، فإن الأسر المسلمة في أنحاء الهند والباكستان تعتبر حصيلة صراع الثقافات . وكان مبدأ هذا الصراع هو التناقض القائم بين قيم الإسلام ومثله من ناحية وقيم الغرب ومثله من ناحية أخري ، ولقد كانت الأسرة الإسلامية في الهند ، قبل قيام الحكومة الانجليزية فيها ، واقعة تحت تأثير البيئة الهندوكية المعادية لفكر المسلمين وقيمهم . فكان للقوانين الهندوكية في الأحوال الشخصية تأثير على المسلمين في أغلب الأحيان ، وكانت الطقوس والشعائر والعادات والتقاليد – ولا تزال حتى الآن – تعكس هذا التأثير الهندوكي . وقد تأصل هذا التأثير أكثر وأكثر خلال محاولات أباطرة الدولة المغولية هندكة الإسلام . ولقد حلول ” أورانجزيب ” ( Aurangzeb )(3) أن يقضي على تلك التأثيرات المناقضة للإسلام ولكن محاولاته أحبطت بسبب سقوط الإمبراطورية الإسلامية وظهور القوي الغربية في الهند . وهكذا تعاونت الثقافة الغربية والتأثيرات الهندوكية في القضاء على التأثيرات الإسلامية لتتركا الأسر المسلمة تعيش في وضع شاذ . أضف إلي هذا أن الصفوة ” المتغربة ” من أبناء المسلمين قد اعتنقت عادات الحاكمين الأجانب وقيمهم وأساليبهم في العلاقات الأسرية . أما من يدعون بالطبقة الوسطي من هذه الأقلية الصغيرة فقد حاولوا الاستمساك بالتقاليد الإسلامية لكن سرعان ما انجذبوا كغيرهم نحو المثالية الموهومة للأنماط الأسرية الغربية . أما غالبية المسلمين ممن هووا عن القمة إلي القاع وضربهم الفقر بشدة ، فقد كانوا في غلفة وشغل عن غاية الحياة ، وإن كانوا لا يزالون يتعلقون بما ورثوه من ضلالات وخرافات ونوادر وتقاليد تنسب إلي ” الأولياء ” ( المزعومين ) .
على هذه الأرضية ظهرت باكستان في أفق العالم الإسلامي وهي تنادي بالتحول إلي ما يتفق مع مبادئها الإسلامية . لكنها – كدولة – لم تستطع أن تفصل نفسها تماماً عن التقاليد الهندية ، كما أحدقت بها في نفس الوقت صعوبات عديدة نتيجة للضغوط الدولية . وكان تغلغل النفوذ الغربي جارفاً جداً ، وقد وصف ” وليمز ” ( Williams )هذه القوي المؤثرة لتيار الانحراف الثقافي الجديد بأنها ” ثقافة تكنولوجية أو ذرية للعرف العقلاني الفردي ” (4) .
أصبحت الأسرة الباكستانية – نتيجة ظهور هذا التحول الثقافي – تواجه تأثيراً جديداً قوياً مشبعاً تماماً بنظرة علمانية إلي الحياة ، ولذلك تغيرت تغيراً واضحاً في اتجاهات أطر علاقاتها من الناحيتين الشكلية والنفسية ، فتغيرت لديها الأزياء وطرائق التفكير والعمل واختلفت عن طرق حياة وتفكير الأسر الهندية . ولم يحدث هذا في
أسر المدن فقط ، بل اتجهت الأسر في القرى إلي تقليد الأنماط الغربية . أصبح الناس ينظرون نظرة إعجاب إلي استخدام وسائل التجميل والروائح وألوان الشفاه وسواها من أدوات التزيين . وقلدت نساؤنا نساء الغرب تقليداً أعمي في أزيائهن وتصفيف شعورهن ، وكان لوسائل الإعلام دور فعال في عمليات التأثير هذه . كذلك ، فإن
عرض الأفلام الغربية ، التي تهتك معايير العفة لدي المرأة الشرقية ، قد أدي إلي نتائج مدمرة في إفساد الأغنياء الجدد ذوي العقول الفارغة وأهل الريف ذوي العقول الساذجة .
هذه العدوى لا يمكن الاستهانة بآثارها الظاهرة ، ففي هذا الوضع إشارة واضحة إلي انحراف مستوي القيم . لقد قضي بالتدريج على البساطة والنقاوة اللتين اعتزت بهما التقاليد الإسلامية الأصيلة الصافية .
والحق أن الأسرة إذا تركت تعيش على هذا النحو دون رادع أو تحكم فإن الوضع سيؤدي إلي خلق المزيد من الصراعات .
لقد توصلنا – كمتخصصين في علم العمران ( الاجتماع ) ، وعلى أساس دراسات ضيقة النطاق أجريت على نظام الأسرة عندنا – إلي اكتشاف حقائق مرضية أساسية تمكننا من التعرف على طبيعة الفجوة التي تفصلنا عن النظام الإسلامي للأسرة والتي تولدت عن التأثير الشديد بطرائق التفكير الحديثة الشائعة في المجتمع الغربي . وفي مجال المبادئ
( الأيديولوجيات ) نجد أنه قد انتشرت على مدي واسع تناقضات تضغط على نظام الأسرة فتدفعه إلي الانحراف .
يعتبر الإسلام أن وحدة الأسرة هي المحور الأساسي للتماسك . وإن أعمق وأقوي صور التماسك في كل مجتمع هي صور التماسك الأسري التي تشمل في حدها الأدنى تماسك الزوجين ، والإخوة والأخوات ، والوالدين والأولاد ، والأخ وأخيه . . الخ . والمدى أوسع أبعاداً من هذه ، لكن تلك الأشكال ذات معان خصبة عند أغلبية واسعة من أعضاء المجتمع . ” والحضارة الغربية ، من خلال اهتمامها بالانجاز كشرط ضروري للنمو الفردي ، وتؤثر تأثيراً بالغاً على المراهقين .
وهذا يترجم عملياً في صورة التعليم الفردي للتمكن من التكيف مع أشكال التماسك القائمة على غير أساس الأسرة – ونظراً لقيام الرأسمالي على أساس التمحور حول الذات وعلى مبدأ التنافس المستعر فإن عدداً كبيراً من الشباب يتجاهلون التماسك الأسري ، وهم بهذا يؤذون مشاعر الآخرين ” . (5) يقول محمد أسد : ” إن النتيجة من الناحية الثقافية هي خلق نمط من البشر تنحصر أخلاقياته في مسألة المنفعة المادية وحدها ، ويصبح النجاح المادي هو أعلى مقياس لديه لقياس الخير والشر ” (6) ومع تزايد الاتجاه نحو الفردية أصبح الشباب يواجه مشكلة التعامل مع من يفترض فيه أن يعولهم ، بالطريقة التي يحبذها الإسلام ، وهم غالباً أسلافه ومن يكبرونه سناً . هذه الأخلاقيات الفردية ، التي تتباين كثيراً بينها ، والتي تعرف غالباً بالقواعد الأخلاقية المتحررة ، يبدو أنها تشيع بين غير المتزوجين وحتى بين المتزوجين ولكن بدرجة أقل .
ومن الواضح أن إحلال مبادئ الغرب ومناهجه في التفكير والحياة محل نظام الأسرة المتكاملة والمتماسكة فكرياً كان عامل إضعاف لنا . لقد تأثرت شخصياتنا وتشكلت بقوة طبقاً لنوع القيم المنحرفة والبعيدة عن نظام الأسرة التي تربينا فيها .
وهنا يجب علينا أن نستكشف ونحدد المشكلات التي نجمت عن انهيار نظام الأسرة عندنا حين نقيسه بما يتطلبه نظام الإسلام . ويمكنني أن أؤكد – طبقاً لقراءاتي – أن النظام الإسلامي للأسرة باعتبارها ركناً أساسياً في المجتمع – قد ظل خمسة قرون هجرية على الأقل يجري ويتطور في انسجام دقيق مع التشريعات والمبادئ الموجودة في القرآن والسنة . ولقد حاول النبي محمد ( صلي الله عليه وسلم ) طليلة حياته في مكة أن يبني نظاماً أسرياً كشرط أولي لتطور المجتمع بجملته ، ذلك التطور الذي توج بقيام الدولة الجديدة (7) .
إن النظام الأسرة في الإسلام موقعاً أساسياً إلي حد أن الجزء الأكبر من القرآن والسنة قد خصص لبناء هذه الوحدة الأساسية من وحدات المجتمع وتطويرها (8) . كذلك ، فإن التشريعات التي تنظم عملية بناء الأسرة في الإسلام قد جاءت مكتملة إلي حد أننا نجد في كتب العقيدة والفقه الإسلامي مادة وفيرة جداً حول هذه المشكلة (9) . ولاشك أن مشاكل الأسرة ، كوحدة لها تركيبها الخاص ووظائفها المتميزة ، ذات حيوية وأهمية تبرران قيام المؤرخين والفلاسفة – مسلمين أو غير مسلمين – بمحاولات كثيرة للتعرف على أسس تكونها وذلك بهدف دراسة المجتمع المسلم دراسة تحليلية .
من الممكن أن نحدد أصول نظام الأسرة في الإسلام من خلال القرآن والسنة . وتاريخ نظام الأسرة في الإسلام يسير في خط مستقيم ، بل كان يتذبذب تبعاً لظروف الزمان والمكان . وكانت النتيجة أن صار نظام الأسرة الإسلامي نمطاً عظيم التنوع ، لكن هذا النظام لم ينحرف انحرافاً حقيقياً عن قيمه ومعانيه الأصيلة . إن أسرنا اليوم قد تغيرت ولابد أن تتغير ، لكن الخطر الحقيقي عليها يكمن – في رأينا – في انهيارها الخلقي ، وبشكل خاص في فقد صلتها بتشريعات الإسلام الأساسية ومبادئه وقيمه ومقاصده ، ومع أن تاريخنا الثقافي يظهر أن أسرنا قد تغيرت ، إلا أنها ظلت ” وحدانية ” مثالية مترابطة (10) ومن حسن الحظ أن تأثير الغرب على الأسرة كان في الشكليات ولم يتأصل في أعماقها أو يلوث روحها ، ولقد وقعت الأسر التي تأثرت بالغرب فريسة للتحلل الخلقي ، لكنها
مازلت في مأمن من الفجور والفساد الذي لا يعرف الخجل . عرضنا جانب التأثير الغربي في الأزياء والطرائق الغربية في العيش والسلوكيات . ونحمد الله تعالي أن انحرافنا عن القيم – كما نراه حالياً – مازال بريئاً من الأمراض الاجتماعية البغيضة كالإسراف في التطليق دون ما قيد ، والانفصال بين الزوجين معيشياً ، والإباحية الجنسية ، وعادات الصداقة المفتوحة بين الجنسين ، وأولاد السفاح ونحو ذلك . لكن الخطر لا يزال قائماً ، وإذا لم نوفقه فمن الممكن أن تغزونا الأمراض التي تغلغلت في المجتمع الغربي .
قد نسمع أحياناً عن حالات من العلاقات الجنسية غير المشروعة . ومعلوم أن الإباحية الجنسية أمر يناقض تشريعات الزواج في الإسلام نصاً وروحاً ، فالإسلام يشدد على ضرورة تزويج الشباب والشابات ، لأن الزواج – كما جاء في أحد الأحاديث النبوية (11) – خطوة حتمية يستلزمها التطور السوي للشخصية واكتمال الرسالة الاجتماعية . كما جاء في ” حديث ” أخر أن الزواج استكمال لنصف الدين ، وعلى الزوجين أن يتقيا الله . في النصف الأخر (12 ) ، وهذا التصور الذي قدمته الأحاديث النبوية يضيق بعداً جديداً لا وجود له في أي نظرية حديثة عن تكوين الشخصية وتطويرها . وثمة ملمح أخر فذ في التصور القرآني لتطور الشخصية نجده في توجيهاته إلي أن الإيمان هو أحد مقومات تطور الشخصية الإنسانية . فالإيمان هو أحد أركان البناء الروحي ، وحين يؤكد القرآن تلك الحقيقة فإنه يضفي هذه الصبغة الروحية على كل مكونات الشخصية . والجانب الروحي ذو علاقة بالجانب النفسي . فالقرآن هو الذي أعلن أن العامل النفسي ينطوي على العمق الروحي والمقاصد الروحية .
وإعلان أن ” الإيمان ” ضرورة حتمية لاكتمال الشخصية وتقرير التلازم بينه وبين الزواج ، فيه إشارة إلي القداسة التي تضفيها الثقافة الإسلامية على المؤسسة القائمة على الزواج . إن القصد من الأسرة والزواج هو إقامة نظام اجتماعي وحماية الجنس البشري من العلاقات الجنسية غير الشرعية . وأعضاء فقط في المؤسسة الأسرية ، وإنما هم ( أعضاء في المجتمع ) يخدمونه من خلال تلك المؤسسات . إن واجب الوالدين أن يساعدوا الأطفال على السير في المنهج الثقافي الملائم ، وأن يهيئوهم اجتماعيا ويبثوا فيهم الوعي بقيم الأسرة ومقاصدها وهي النصف المكمل لقيم المجتمع . يجب أن يغرس في نفوس الأطفال الشعور بالمسئولية تجاه مساعدة الوالدين عندما يضعفان لبلوغهما الكبر . وإذا لنسمع عن حالات عارضة من الانحراف في هذا المجال ، وهو منحي يلزم كبحة وإلا أدي تعريض المجتمع للعديد من المشاكل ، إذ هو علامة علي التفكك والتحلل الاجتماعي .
إن الاهتمام بالكسب والمجد الدنيويين من جانب الصغار والكبار ، وعدم المبالاة بتفهم المسئولية الخلقية والدينية وعدم القيام بحقها ، لمما يمهد الطريق في بطء إلي إصابة الأسرة بالتحلل . وإذا ما قارنا بين العلم بالقران والعملفي الجيلين الأخيرين من المسلمين
لأدركنا مدي إلا هما الذي تلقاه تلك الواجبات الدينية الأساسية . ومن الطبيعي أن تمتلئ هذه الفجوة بالأفكار والممارسات الأجنبية الدخيلة التي قد يلوح أنها أكثر فائدة . ولقد كشفت دراسة أجريت على نطاق محلي (13 ) في جامعة كراتشي أن الناشئة كانوا أكثر جهلا من والديهم الذين لم يهتموا بتلقينهم أوليات مبادئ الإسلام .
لقد فشل الوالدين والمدرسون كما فشلت الدولة في إدراك واجبهم في التثقيف والتهيئة الاجتماعية طبقاً لأساليب الإسلام في الحياة والفكر . وكانت النتيجة أن تولد الشعور بالغربة لدي الناشئة والشك في خبرية الإنسان لدي المراهقين والنفور لدي الكبار ، وكلها أخطار علينا أن نحصنهم ضدها ، فتلك هي حال الأسرة في الغرب . وقد أصبح العلماء الغربيون يدركون هذا الخطر ويكافحون كي تبقي مسيرة الأسرة هادئة .
إن صراع الثقافات حقيقة والتأثيرات المضادة هي التجسيد للإمكانيات الداخلية . وإن علم الاجتماع الكوني ليحذر البشرية لعلها تدرك أهمية هذا العنصر . والمؤكد أن أثار عصر التكنولوجيا ستصل غلي كل مكان في العالم ، فالواجب على كل أمة أن تتنبه بالقدر الكافي وتعمل على حماية شخصيتها وهويتها الثقافية والاجتماعية من أخطار هذه التأثيرات . وإذا كان نظام الأسرة عندنا – نتيجة لجمود التقاليد – لما يمسخ بدرجة مخيفة بعد هجمة القوي المدمرة تلك ، فليس ثمة ضمان بأنه سيبقي في مأمن من الخطر الذي يتهدده والذي وضع المجتمع الغربي بالفعل على طريق الزوال .
وأود أن أشير بإيجاز إلي حقيقة مرضية أخريي جنوح الصغار . لقد وصلت المشكلة في الغرب إلي مدي مخيف ، وهي الآن تترصدنا على الأبواب . إن بداية العلاج تبدأ من الأسرة ، وذلك بأن تقوم بوجبها في كبح جرائم الصغار المتفشية ومشاكساتهم المخيفة . ولكن كل الدلائل تشير إلي أن الأسرة لا تهتم الاهتمام الواجب بتوجيه النشء فيها . فكثيراً ما نجد الوالدين مشغولين إلي حد إهمال تنشئة الصغار وتدريبهم . وإني لعلى يقين بأن خريجي الجامعات – دعك من الصبيان – لا يعرفون إلا النذر اليسير عن القرآن والسنة . نحن مسلمون بالاسم والمولد . وهذا السلوك من أولي الأمر في الأسرة ومن الأساتذة في نعاهد التعليم ، وهو سلوك مناهض للتدين ، ليهد الطريق أمام النظام الغربي للأسرة – وهو حصيلة عقلية ثقافية مغايرة تماماً – أن يعمل عمله في الأسرة المسلمة .
على كل حال ، نحن بحاجة إلي منهج عقلي في التفكير لنتمكن من تبين تشابكات العلاقات الاجتماعية وتعاقداتها ومن فصل المشكلات الاجتماعية الهامة في هذا المجال . كذلك ، فإننا بحاجة إلي تخطيط الجهود من أجل تصنيف المقترحات المطروحة لمواجهة هذه المشكلات . إن التعرف بدقة على نقاط الضعف في النظام الثقافي أمر لابد منه لكن نقص الإحصائيات الحيوية والحقائق الأساسية عن الأسرة يشكل عقبة أخري في طريق إثبات صحة هذه الاستنتاجات . أما بالنسبة للدارسين الغريين المدربين ، فإن دراستهم للمشكلة وحلولهم التي يقترحونها مبنية برمتها على أسس ومناهج غربية لا تتمشي مع بيئتنا الثقافية . ولهذا لم يكين هناك قبول شعبي ل ” قانون تشريعات الأسرة ” الذي صدر وطبق في عهد ” أيوب خان ” ، وهو الآن قيد الفحص والمراجعة من قبل ” مجلس الفكر الإسلامي ” .
وباختصار ، نري أن الأسرة المسلمة تقوم الآن بوظائفها الأساسية التي أشرنا إليها ، ولكنها ليست محصنة ضد القوي التي يمكن أن تصيب تلك الوظائف بالفوضى والتعثر . والأمر يتطلب اتخاذ إجراءات إيجابية للوقاية .
والعلاج كسن التشريعات الاجتماعية المتفقة مع نظامنا الأخلاقي ، والتي نتوصل إليها عن طريق ” الاجتهاد ” ، وذلك بغية الحيلولة دون مزيد من الانحراف عن النبي والعلاقات الأسرية الطاهرة .
الهوامش
1 – من بين ما تتضمنه سورة النساء ، في تحديدها لأبعاد بناء الأسرة ، ما يلي :
أ – واجبات الأوصياء نحو رعاية اليتيم . ( 4 : 1 ) .
ب – معاملة النساء . ( 4 : 3 ) .
ج – حق النساء في التصرف في ممتلكاتهن . ( 4 : 5 )
د – الشقاق بين الزوجين . ( 4 : 6 )
{ لا شك أن الكاتب يعني ب ” قواعد السلوك الإسلامي في إطار أسرة النبي وعشيرته ” المبادئ العامة الإيمانية والأخلاقية التي توجه علاقات الأسرة والعشيرة ، وليس التشريعات والتنظيمات التفصيلية لتلك العلاقات ، لأن هذه لم تنزل إلا في المدينة كما هو معلوم ، وسورة النساء التي استشهد بها مدينة . المترجم }
2 – William J . Goode . The FamilY , Prentice Hall , Wood Cliffs , N . J . 1064 , 5 .
3 – ” أورانجزيب ” ( 1658 – 1707 م ) ، ابن ” شاه جاهان ” هو أخر الأباطرة الكبار في الدولة المغولية الإسلامية في الهند ، وكان متديناً وحاول أن يحكم بالإسلام في الهند كلها ففتح جنوب الهند ووصل بدولة المغول إلي أوسع حدودها . وكان يلقب ب ” فاتح الدنيا ” . ومن بعده ضعفت تلك الدولة حتي سقطت في أيدى البريطانيين عام 1858 م .
( المترجم ) .
4 – Robin M . Williams , American Society – A Sociological Interpretation ( 3 rd ed ) Aifred K .Knoff , N , Y , 1070 , 90 .
5 – Marion , J Levy , Modernization and the Structure of Societies , Princeton University Press N . J . 1966 , 220 – 221 .
6 – Muhammad Asad , Ialam at the Cross Roads, ( Ixth ed .) Arafat Publications, Lahore . 1969, 56 .
7 – راجع تعليق المترجم في نهاية هامش 1 .
8 For details the reader is advised to go thrugh Chapters III & IV of ReubenLevy`s The Social Structure of Islam , Cambridge University Press , 1971 .
9 – This Subject matter forms the core and the central idea of the copious Book by Abdul Rahim , The Principles of Mohammaden Jurisprudence, London, 1911 .
10 – استخدمت مصطلح ” وحدانية ” لأشير به إلي النظام الإسلامي للأسرة الذي يتحد فيه كل أفراد الأسرة ويحبون أن يعيشوا في نظام واحد يهتدي بقوانين الشريعة الإسلامية ومبادئها . وبهذا أميزها عن الأسرة التي تتجمع على أساس القبيلة أو على أي أساس أخر .
11 – روي أبو هريرة أن النبي ( صلي الله عليه وسلم ) قال : ” تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك ” . ( البخاري 67 : 16 ) .
12 – عن أنس قال : قال رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) : ” إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين ، فليتق الله في النصف الباقي ” .
13 – Mohd . Mushtaq , ” Measures of Religiosity in Muslim Family ” , an unpublished M . A . ( Thesis ) Department of Sociology , Univesity of Karachi , 1980 , 121 .