يتجه العالم الإسلامي في الوقت الحاضر نحو مرحلة حرجة من مراحل تاريخه ، فهو يواجه المدينة الغربية بكل ما فيها من زيغ وانحراف ، وبكل ما فيها من تجرد من الإنسانية وتنكر لها .
تلك المدينة التي فرضت نفسها علي أرجاء العالم تقريباً وتحاول جاهدة أن تفرض نفسها علي العالم الإسلامي . ولقد حاولت ذلك في فترة الاستعمار المكشوف بالقوة السافرة ، أما في فترة الاستعمار فهي تحاول ذلك بأساليب أكثر دهاءً وخبثاً .
والعالم الإسلامي اليوم مقسم إلي دويلات متناحرة بينها إلي درجة المواجهة المسلحة . ووسائل الإعلام فيها والمؤسسات التعليمية في معظمها تعبر عن رأي القوي المحلية أو الأجنبية التي تناهض الإسلام وحضارته .
ومما يجعل المواجهة أكثر شؤماً أنها ليست قاصرة علي ضخامة العقبات في الطريق أو علي الوضع المتخلف المرعب للعالم الإسلامي بالمقارنة بالعالم الغربي في قوته المادية ونفوذه العسكري .
لقد كانت الأمة الإسلامية في القرن السابع لا تتجاوز تلك الأعداد البسيطة في شبة الجزيرة العربية وقد ووجهت بالإمبراطورية البيزنطية ذائعتي الصيت آنذاك . وبعد قرن من الزمان ، أصبحت نفس الأمة أكثر عدداً وأحرزت انتصارات عسكرية واسعة في نفس الوقت الذي كانت محرومة فيه من العلم والتكنولوجيا ومن فرصة التمدن .
لقد واجهت ثلاث حضارات ممزقة .. الحضارة اليونانية والحضارة الفارسية والحضارة الهندية . وقد انبثق النصر من جديد فقد امتصت هذه الأمة واستوعبت كل ما يمكن أن تقدمه هذه الحضارات بل وأثرتها بالتجربة والبحث . ثم أعادت صياغة الثقافة الإنسانية والمدنية في أطر وقوالب تتفق والروح الإسلامية .
لقد كان الخلق فريداً .. حضارة جديدة ، قوامها التوحيد الخالص واثبات الوحدانية المطلقة والتنزيه لله سبحانه وتعالي .
وبذلك مكنت الحضارة الإسلامية الجموع التي اعتنقت الإسلام علي اختلاف أصولها العرقية ، وعلي اختلاف مذاهبها العقادية من مسيحية ويهودية ، زرادشتية وبوذية وهندوسية – مكنت هؤلاء من الانضواء تحت راية الإسلام ، بل واعتبروه قضيتهم وجعلوه بعد صياغة حياتهم طبقاً لمنطقه الخاص من القيم والأخلاق .
وعلي ذلك ، فالفرق بين الأمة الإسلامية في تلك العصور القديمة ومسلمي هذه الأيام ، هو غياب الرؤية الإسلامية الواسعة الشاملة التي أشرقت عندهم وغابت عندنا .
وبتحديد أكثر .. بينما كانت الرؤية الإسلامية كشعلة متوهجة في عقول وقلوب أنصارها الأوائل فإن نورها قد أعتم وجذوتها قد خبت عند أتباعها الحاليين . وقد أسهمت هذه الحقيقة الفريدة أكثر من غيرها في انحدار المسلمين ، وإذا لم نكتشف طريقاً لإعادة إشعال جذوة الإيمان من جديد وتقوية عزيمتنا بنفس معيار الطاقة والفاعلية .. فإن المعركة الدائرة أمام أعيننا بين الحضارات ، ربما تأتي نتيجتها علي غير ما نتمنى نحن المسلمون .
وهي بناء علي ذلك أصعب من أن يدركها أي دارس لتاريخ العالم المعاصر ليتعرف من خلالها علي عوامل الاستقرار والاستمرار في الأمة الإسلامية ، أو ليتعرف علي عوامل التغير والاضطراب فيها .
1- الاستقرار والاستمرار :
أ- الإيمان .
إن الإيمان في الدين الإسلامي أعني جوهرة العقيدة ، الذي يسميه المسلمون التوحيد .. لهو حقيقة حية راسخة اليوم كما كانت بالأمس . إنه تصديق اللسان وإقرار بالجنان . إنه مكون من الاعتراف بالكمال المطلق الغيبي لله سبحانه وتعالي وهذا الاعتراف يترتب عليه بالتبعية الحقائق التالية :
1- أن الحقيقة ذات وجهين ، خالق متعال . وخلق تاريخي مفصول بهوة وجودية لا يمكن عبورها .
2- وأن الخالق سبحانه شديد القرب من مخلوق لدرجة أن إرادته تكون ما ينبغي أن تكون عليه إرادة مخلوقاته ، ويعبر عن ذلك بسنة الله في خلقه أو النواميس الإلهية .
3- أنه يقع علي عاتق البشر تحقيق الأهداف العليا لهذه النواميس وبالتحديد القيم الأخلاقية في حرية ، بينما يتعين علي سائر المخلوقات – من غير البشر – أن ينفذوا ما عدا ذلك من مكونات الناموس بحتمية القانون الطبيعي .
4- أن البشر مفطورون علي الخير مزودون بالمواهب الطبيعية وبتسخير الطبيعة لهم .
5- أن معيارية الواجبات وتطويع الطبيعة للإنسان وتمكينه منها ، كل ذلك يتطلب الحساب – وبالتالي الثواب والعقاب – علي الأفعال الفردية كما هو علي الحياة كلها .
هذه الحقائق المنطقية والدقيقة ، ليست مجموعة من المتناقضات ولا هي تأكيدات عقائدية يمكن أن تقبل أو ترفض لمجرد الإيمان بها أو إنكارها . بل لا يمكن معارضتها أو تكذيبها .
ولا يستطيع إنكار هذه الحقائق إلا ساخر أو موغل في شكه ، والإنكار في هذه الحالات لا يترتب عليه شئ ذو بال .
وبالطبع يمكن معارضة تلك الحقائق ، وغالباً ما يحدث ذلك من قبل أولئك الجهلة العاجزين عن إدراك أهداف دعواهم .
لقد شهد هذا القرن أنواعاً عديدة من الماديين الروحانيين الذين يعرفون الحقيقة من جانب أو آخر ، ومن العلمانيين الذين لا يعترفون إلا بالحواس كوسيلة للإدراك وينكرون ما عداها من وسائل .
والفئة السائدة من بين هذه الفئات المختلفة ، أولئك الذين يخلطون حقائق العلوم ببعضها ويخرجون بادعاءات عن بداية الخلق ونهايته وكأنها مسلمات تجريبية .
حتى الشاكون والقائلون بنظرية العدمية – أي مال الكون والخلق إلي العدم – الذين يناقضون أنفسهم كل ساعة بممارستهم مالا يعترفون به .
والمدهش ، مع ذلك ، أن أولئك الذين أوتوا موهبة الأمانة الفكرية وصواب الرأي لا يستطيعون الإذعان لتلك الأدلة المنطقية التي تدعم هذه الحقائق الأولية .
هذه المنطقية .. معقولية مضمون العقيدة الإسلامية تعطيها قوة ضخمة وتجعلها ذات مناعة ضد أي هجوم .
وبفضل هذه المعقولية ، صمدت العقيدة الإسلامية أمام المحن في الماضي . ونستطيع أن نجزم أنها ستكون قادرة علي الصمود والمواجهة في القرن المقبل .
ب- أن الناقدين للقرآن الكريم والحديث الشريف غالباً ما يندرجون تحت واحد من الأصناف التالية :
المفكرون الرغبيون الذين لا يعتمدون علي الحقائق ، والمفكرون غير المتعلمين ، وأحياناً ينتمي الناقد إلي كلا النوعين جامعاً للصفتين معاً .
إن هجومهم علي القرآن الكريم يتكون من ثلاثة مزاعم :
الزعم الأول : الادعاء بأن القرآن لم يخضع لما خضع له الإنجيل من اختبارات علمية موضوعية ، وكذلك الدراسات اللغوية من حيث النحو والصرف ودراسة النص من الناحية التاريخية والسلالية والصيغ التطورية ، وللنقد الأسلوبي والمقارن .
الزعم الثاني : أن المسلمين – ولمدة طويلة – لم يستطيعوا مواجهة ضغوط المدنية الحديثة ، وأن القرآن سوف يخضع لما خضع له الإنجيل من نقد وتحليل ، إن عاجلاً وإن آجلاً ، سواء قام بذلك العرب أم كان بفعل الاستشراق الغربي الذي يتقدم بخطي واسعة .
الزعم الثالث : وهو رغبة في نفوسهم أكيدة – أنه كما فقد الإنجيل – بالنقد والتحليل – الإيمان المطلق به والولاء التام الذي كان يفرضه علي قطاع كبير من اليهود والمسيحيين ، كذلك سوف يتسبب النقد أخيراً في أن يفقد القرآن سيطرته علي عقول وقلوب المسلمين .
إن إحكام النص القرآني أمر لا يقبل المناقشة ، فالنص الذي بين أيدينا اليوم قد روي علي النبي صلي الله عليه وسلم بنفس الترتيب وبنفس التفاصيل بكامله خلال شهر رمضان من كل سنة طوال فترة النبوة ، وقد حفظ عن ظهر قلب من الصحابة الذين نقلوه إلي التابعين وهكذا حتى وصل إلي مئات الملايين من المؤمنين به حول العالم ، بنفس الترتيب وبنفس الدقة والتفصيل . لقد كان شاهداً وحكماً في كافة المنازعات التي عرضتهم إلي إراقة الكثير من الدماء .
لقد وجد دون تغيير في صيغته المكتوبة اللهم إلا بعض التحسينات الخطية التي أدخلت منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث جمع القرآن كله في مصحف واحد متفق عليه .
ولم يناقش أي إنسان سلامة واكتمال الثقة في أي جزء أو آية من آيات القران الكريم منذ عهد النبي صلي الله عليه وسلم .
حقاً لقد وجد بعض الاختلاف في نطق بعض ألفاظه وذلك راجع لاختلاف لهجات اللغة العربية ، وقد قرئت أمام النبي صلي الله عليه وسلم ووافق عليها .
كما يوجد قليل جداً من الاختلاف في ترتيب بعض الألفاظ التي يعرفها كل دارس لعلوم القرآن وأيضاً وافق عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي لا تؤدي بأي حالي إلي أدني تغيير في المضمون ولا في احتوائها على النظريات القيمية والأخلاقية .
ومنذ نزول الوحي بالقرآن الكريم فقد أصبح نصاً عاماً ميسراً وكتاباً شائعاً يملك كل مسلم نسخة واحدة منه على الأقل ويحفظ عن ظهر قلب قدراً لا بأس به من كثرة تكراره وترديده .
إن آياته البينات يستعملها الملوك والمعوزون على السواء في زخرفة بيوتهم وتزيينها ، ويتمني كل إنسان – وغالباً ما يحاول – أن ينسخ القرآن الكريم بخط يده بشكل منمق جميل . ودراسته تكسب دراسته شرفاً ما بعده شرف ، ولقد ساهم في نهضة فروع من العلوم الحديثة مثل القواعد وعلم الصرف وعلم المعاجم واللهجات والبلاغة وحتى في النقد الأدبي ، وكل سلسلة الفروع المتعلقة بنقد النصوص وتحليلها .
وأي قراءة لقائمة مؤلفات العالم جلال الدين السيوطي صاحب الاتقان في علوم القرآن ، أو العالم الزر قاني صاحب مناهل العرفان في علوم القرآن ، أو العالم الزركشي صاحب البرهان في علوم القرآن . . هذه القوائم كافية لإقناع أي إنسان بالتنوع الكبير لفروع المعرفة التي استحدثت خصيصاً لتفسير وتوضيح مناسبة كل أية لمكانها في السياق . وكذلك لتوضيح المعني ، وتاريخ المعني الذي تتضمنه كل كلمة – والاستعمال الموازي لنفس اللفظ في اللغة العربية وتطبيقاته في القانون وعلم الأخلاق والتاريخ وحشد كبير من فروع المعرفة التي تتعلق بالفكر وبالحياة . . وبالمقارنة نجد أن نقد وتحليل الإنجيل قد جاء متأخراً . . وليس لديه ما يقدمه لدراسي علوم القرآن ، ولا يوجد شئ إلا ويجده الدارس قد فصل في التراث الإسلامي .
أما بالنسبة لعلوم الحديث ، فلم تكن جهود المسلمين فيها أقل مما بذل في علوم القرآن بل وبنفسي الدقة ، وبغض النظر عن مناهج تحليل النص التي تعلموها من دراسة مناهج القرآن الكريم ، والتي طبقها المسلمون على علوم الحديث ومتونه تحت عنوان كبير وهو النقد الذاتي ، فقد طوروا سلسلة من فروع المعرفة مصممة للتأكد و الاستيثاق من صحة النقل الشفهي .
إن تراث الإنسانية الشفهي قد مر دون التحقق منه ودون أن يكون قابلاً لذلك حتى تم اختراع أجهزة تسجيل الصوت حديثاً .
ولم يستخدم في أي مكان فن علم الرجال أو علم الجرح والتعديل ليبني عليه تراث شفوي موثوق به إلا في علوم الحديث .
لو أن هذه العلوم استخدمت لتوثيق التراث الشفوي الذي تكون منه فيما بعد ما يعرف بالعهد القديم أو ما بنيت عليه أصول الديانة المسيحية ، لكانت هاتان الديانتان العالميتان على غير ما هما عليه الآن . . من يستطع أن يخمن النتائج ؟
ولو أن الفنون النقدية الدقيقة لعلوم الحديث ، كانت قد استخدمت في توثيق رواية سفر ( Deuteronomic )التي رواها يوشع أو عزرا أو نيهيميا من أعضاء مجلس جامنيا ( Yibna) أو في توثيق التلمود الفلسطيني أو البابيلوني ، أو في توثيق ترجمة العهد القديم ( Septuagint) الذي ترجمة حا خامات العصور الوسطي . أو توثيق مؤلفات ما ثيو لوك ومارك وجون وبول ، أولئك البابوات الذين ملأت كتاباتهم مجلدات كثيرة ، لو كان هذا حدث . . فكيف كان التراث الشفوي المكون للهندوسية والبوذية سيصمد أمام التمحيص الدقيق الذي طبقه المسلمون على أقوال نبيهم صلي الله عليه وسلم ؟
إن هذا لا يعني أن الدراسات حول الموضوعات الإسلامية قد اكتملت وانتهت ، أو أن العلماء قد فرغوا ولم يصبح وانتهت ، أو أن العلماء قد فرغوا ولم يصبح لديهم ما يفعلونه ، فذلك موقف الجهلاء الذين يتخذون غير الطريق الحق . ( قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي ، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ) . ( قرأن كريم 18 : 110 )
وعلى وجه التحديد ، إن البحث عن المعرفة الدينية لا ينتهي ، لأنه أبدي . . . وبدقة أكثر لأن الهدف من البحث هدف غيبي فهو لذلك غير قابل للنفاد .
وعلاوة عل ذلك نجد أن تطبيق المعرفة الدينية على الحياة ومشاكلها غير محدود لأن الحياة نفسها غير محدودة في احتياجاتها وأوضاعها .
ومع ذلك يمكننا أن نظل واثقين من أن الاكتشافات النقدية للإنجيل . . . على سبيل المثال . . ومن أن التوراة لم تكتب بواسطة موسي عليه السلام ، أو أنها تحتوي على تجاوزات تاريخية وأنها تتضمن لذلك تجاوزاً في المعلومات الجغرافية والحساب . أو أن رعاة الكنائس الأوائل – وليس المسيح عليه السلام – هم الذين أملوا التصور المسيحي عن ذات الله سبحانه وعن الإنسان وعن الخلاص وعن الكتاب المقدس بل وأن الكنيسة نفسها . وكل تلك التصورات لا مكان لها بالنسبة للقرآن الكريم .
إن بعض الأحاديث في واحد أو أكثر من كتب الجوامع الحديثية المقبولة ربما يتحول بالتحقيق الدقيق إلي حديث غير موثوق بسنده ، وهذه الحقيقة لا تزعج الباحث المسلم لأنه يعلم تماماً تعدد الدرجات في الصحيح . فهناك الحديث القدسي والحديث الحكمي والحديث الفعلي ، والحديث المتواتر ، وحديث الآحاد والسند والمتصل والغريب والمشهور والحسن . . الخ .
في النهاية . . فالنقاد المتحيزون الذين يظنون أن الاتجاه النقدي للمدينة جاء بكل تأكيد ليفسد على المسلمين إيمانهم وولاءهم لكتابهم المقدس . . هذا الاعتقاد مبني على تشيبه القرآن بالإنجيل وقياسه عليه ، ولكن القرآن يختلف عن الإنجيل في المحتوي وبالتالي فمناشدتهما لعقول الناس مختلفة شكلاً وموضوعاً .
وبالتالي فليس من الضروري أن ما حل بالإنجيل من فقدان الثقة به والولاء له سوف يحل أيضاً بالقرآن الكريم .
ج – الشريعة :
إن أروع ما يميز الروح الإسلامية هو الشريعة ، ويعتبر الفكر الأصولي لدي المسلمين مظهر من مظاهر قوتهم فالشريعة هي تجسيد للتصور الإسلامي .
إن الشريعة الإسلامية شريعة إلهية باعتبارين :
أولهما : باتحادها مع التصور الإسلامي باشتقاقها منه بقدر ما تحتويه من مبادئ أخلاقية ، هي مضمون الإرادة الإلهية .
ثانيهما : احتواؤها على عدد من التصورات المحددة سلفاً لأنها مأخوذة من القرآن الكريم مباشرة . . وفي كلتا الحالتين يمكن أن يقال إن الشريعة الإسلامية شريعة إلهية طالما أن الإرادة الإلهية للبشر .
وهذا النوع من المعرفة ( Percipi God – in) يختلف مع التصورات الأخرى التي تعتبر الإله مجهولاً بصفة مطلقة ( in – esse God– ) من قبل البشر .
والمشيئة الإلهية معروفة في القرآن والسنة ، وهي بالنسبة للمسلم واضحة كل الوضوح وتكون العمود الفقري للحياة على الأرض ، وفضلاً عن أنها تتناول الأمور الاعتقادية والحقائق الدينية المقدسة التي ذكرت من قبل ، فهي تتضمن كذلك المحرمات أو المحظورات ( كالدم ولحم الخنزير والخمر والميسر والأصنام والربا ) . كما أنها تتضمن الحدود أو القوانين الجنائية ( كالزنا والسرقة وقطع الطريق والردة . . إلخ ) . . وقوانين الأحوال الشخصية ( كالقوانين التي تخص الأسرة من زواج وطلاق وميراث ) . أما ما تبقي من الشريعة فهو من أعمال البشر ، مفصل ومدروس حسب مصالحهم وتصورهم في حدود التعاليم القرآنية الأساسية ( العدالة والمساواة والحرية والإحسان . . الخ ) . مسترشدين في ذلك بالسنة النبوية الشريفة .
وإذا كان التوحيد يشكل ماهية الإسلام وأنه ثابت وغير قابل للتغير على الإطلاق . . فإن الشريعة تكون كيفيته . وهي ثابتة إلي حد ما عندما تكون نابعة من القرآن والسنة في صيغتها الشكلية ، وتكون متغيرة نسبياً عندما تأخذ صبغتها الشكلية من البشر .
لقد أسس الفقهاء قديماً علم أصول الفقه كسيد لكل العلوم عندما أدركوا كل الإدراك أن النظرة الإسلامية لدي الفقهاء لن تنضبط انضباطاً شاملاً عند تجسيدها أو تطبيقها إلا بعلم الأصول . وكذلك لأن شطراً كبيراً من الشريعة قابل للاجتهاد وللتفسير المتجدد المغير .
يتكون هذا العلم – علم أصول الفقه – من المبادئ الأساسية لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية ، ومن القواعد التي بها تستنبط الأحكام من هذين المصدرين الرئيسين ، ومن المبادئ المنظمة لصياغة الأحكام التي لا تستنبط من هذين المصدرين مباشرة .
وبالنسبة لفهم النصوص ، اجتهد العلماء في وضع قواعد النحو والصرف في اللغة وكذلك علم المعاني ودلالات الألفاظ وكذلك علم التفسير . . وقد أسست كل هذه العلوم على ما تحمله اللغة العربية من حس موروث عبر الأجيال .
وكذلك استنبط المجتهدون قواعد القياس من الاستدلال المنطقي والتناظري .
وبالنسبة لاستنباط أحكام جديدة ، فقد حدد علم الأصول مقاصد الشريعة وكيفية الاستنباط منها بدقة في غياب النص القرآني ولكن من خلال الواقع العملي لحياة الناس ( كالاستحسان أو المصالح المرسلة أو الاستدلال أو استصحاب الحال ) .
كل ذلك بالإضافة إلي الاستدلال القياسي وهو النوع الوحيد الذي سماه الفقه الشافعي اجتهادا .
ذلك التأويل المنطقي المبدع الذي اعتبر مصدراً من مصادر الشريعة تالياً للقرأن .
لقد عضد الفقه الشافعي ذلك المصدر الفعال بالمقولات التالية التي تعتبر أول مبادئ وضعت لصناعة القوانين :
1 – الحكم الناشئ عن علة يدور معها وجوداً وعدماً .
2 – قد تتغير الأحكام بتغير الأزمان ( الظروف والأماكن . . إلخ ) .
3 – لم يجعل الله سبحانه في الأحكام الشريعة مشقة ولا حرجاً على الناس .
4 – الضرورات تبيح المحظورات .
5 – المشقة توجب التيسير .
وهكذا فالشريعة ليست فقط نظاماً كلياً محكماً شاملاً من القوانين تحكم كل مظهر من مظاهر السعي الإنساني ، بل إنها متفاعلة قادرة على التغير والتطور ، وقادرة على متابعة تيار الحياة بكل اتجاهاتها .
وممسكة بيدها نحو مقاصد الشريعة الإسلامية . ونحو تحقيق الأهداف التي من أجلها سنت هذه القوانين .
لقد أفاد المسلمون أنفسهم من هذه الفعالية خلال التاريخ .
حقيقة أنه عقب القرن الثالث عشر كان المسلمون محافظين على غير ما ينبغي ، عازقين عن استعمال منابع الفعالية التي بين أيديهم . وهذه الحالة التي تأتي وتذهب وقد أتت وذهبت فعلاً . ولمدة مائة عام أو يزيد نادي كل مسلم جدير بالاعتبار بإعادة فتح باب الاجتهاد . وأعظم مثال على هذه الدعوة شيخ الإسلام ابن تيمية قطب القرن الرابع عشر وأقرب منه عهداً محمد بن عبد الوهاب وشاه ولي الله الدهلوي ومحمد بن على السنوسي ومحمد أحمد المهدي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وحسن البنا وأبو الأعلى المودودي .
ولقد وقفت الحركات التي يمثلونها بصلابة خلف ضرورة الاجتهاد . وأن التحديث تحد وحقيقة تجريبية دون نقاش . وكذلك حقيقة أن المسلمين الذين يواجهون التحديث يلجأون إلي فعالية الشريعة للوصول إلي التحديث المطلوب .
أما هؤلاء الذين يقفون جامدين أمام التحدي فلا اعتبار لهم ، وسوف يقصيهم التاريخ جانباً كما سوف تجرفهم قوي الإسلام الفعالة والخلاقة .
إن الشريعة الإسلامية بطبيعة بنائها المرن واستعدادها للتوافق مع متطلبات كل عصر مع الحفاظ على هويتها النقية ، ستستمر كما كانت منذ البداية مناسبة لكل زمان ومكان .
لقد اتخذت بعض الإصلاحات المطلوبة مكانها فعلاً في قوانين الأحوال الشخصية في بعض الدول العربية والإسلامية مثل سوريا والعراق والجزائر وتونس وباكستان واندونيسيا وغيرها . . أما في مجال القانون المدني فمعظم الدول الإسلامية مازالت محكومة بالقوانين التي كانت موجودة منذ عهود الاحتلال .
وجدير بالذكر أن الأردن كان رائداً في تبني دستوراً مدنياً حديثاً مؤسساً كلية على مبادئ الشريعة الإسلامية ، وقد أعد هذا الدستور أحد كبار رجال القانون المعاصرين وهو فضيلة الشيخ مصطفي الزرقا .
وبكل تأكيد يستطيع الإنسان أن يجزم أن بقية العالم الإسلامي سوف يتبع هذه الجهود الرائدة إن عاجلاً وإن أجلاً .
د – التحليل الإحصائي :
يبلغ تعداد مسلمي العالم اليوم أكثر من بليون نسمة ولا توجد قوة تدميرية أو تخريبية تستطيع أن تمحوهم من على ظهر الأرض ، وفضلاً عن إيمان المسلمين بضرورة دعوة غيرهم إلي الإسلام ، فهم أنفسهم يتزوجون من غير المسلمات وينجبون ويبحثون عن الخدمات الطيبة والغذائية والصحية ليحملوا الإيمان إلي سلالاتهم وأجيالهم القادمة ، وعلى الأرجح سوف يستمرون في الزيادة بالتوالد وباعتناق عناصر جديدة للدين الإسلامي فالمسلمون يتزايدون بمعدلات أسرع من معدلات معظم المجتمعات الأخرى .
إن العوامل التي أدت إلي الأخذ بنظام إيقاف النمو السكاني في الغرب (GROWTH ZeRO) لا توجد فرصة لقبولها لدي جماهير المسلمين . فالعوامل الاقتصادية أو الرغبة في رفع مستوي المعيشة بالحد من عدد الأفواه المطلوب إطعامها ، أو الرغبة في زيادة فرصة التمتع بوقت الفراغ نتيجة للعناية بعدد أقل من الأطفال . . كل ذلك يسير في طريق ينافي قواعد الأخلاق والقيم الإسلامية .
فالحق سبحانه وتعالي يأمرنا في القرآن الكريم بقوله ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ) (17 : 71 ) إن حديث الإحصائيين عن أن التعارض بين النمو السكاني بمتوالية هندسية وبين النمو الاقتصادي بمتوالية عددية سينتهي حتماً بكارثة ، هذا الحديث أشبه ما يكون بتخويف لهم .
إنهم يعتقدون أن الكارثة سوف تحل بالطبقات الحاكمة أولاً . ثم بالطبقات الرأسمالية بعد ذلك ، أما بالنسبة لهم ، فهم واقعون تحت وطأة الفقر ، ولن يضيف التمرد السياسي أو الاجتماعي والاقتصادي إلي معاناتهم الشئ الكثير .
ثالثاً : لقد علمهم إيمانهم أن عطاء الله سبحانه ماله من نفاد كما تعلموا بإيمانهم أن العلم والتقنية لا حدود لهما يتوقفان عندها .
وأن حقهم في الانتفاع بالطبيعة بما أوصلهم إليه العلم والتقنية لا حدود له . . وبهذه العطاءات فإن مسلمي العالم يتزايدون بمعدل 100% كل 30 -40 سنة تقريباً .
وسوف يبلغ تعدادهم غالباً – بعد مائة سنة من الآن – حوالي 2 – 3 بليون نسمة – مالم تحدث كارثة عالمية .
2 – عوامل التغير والاضطراب :
أ – التعليم : لقد انحرفت رغبة المسلمين في المعرفة – خلال فترة الانحدار ( القرن 13 – 19 ) – بسبب انغلاق المنهج الصوفي وتسلط شيوخه واتخاذهم طريقاً مبتسراً لإصلاح النفوس وتزكيتها من خلال الشعوذة وما يصاحبها من أعمال السحر والتقديس والتنجيم والخرافات .
وبنفس الدرجة فقد أوهن التصوف من عزيمة وجعلهم عازفين عن الاندماج والتغلغل في شئون الأمة العامة وتحمل مسئولية ترشيدها وإدارتها .
لقد أغرت الصوفية المسلمين بالسكون والانعزال في الزوايا وبنكران الذات بعيداً عن العالم والتاريخ .
ولقد وقعت الأمة الإسلامية المحرومة اليقظة الجماهيرية غنيمة للسلاطين المستبدين الذين سخروا الطاقات لخدمة مصالحهم وأمجادهم . مما اهتمام الجماهير بشئون الأمة أمراً بغيضاً وكريهاً .
كل هذا الانهيار الذي حملته السحابة الصوفية السوداء – قد استغرق قرنين من الزمان ومازال مفعوله قائماً أمام أعيننا .
وفي كل إقليم من العالم الإسلامي تياران مسموح لهما بالعمل لمناهضة الصوفية . . ولكل منهما دوافعه التي تختلف عن الأخر وربما تكون الأهداف متضاربة .
القوة الأولي تمثلها الحركة السلفية أو حركة إحياء التراث ، والثانية تمثلها محاولات المعاصرة أو التحديث .
والسلفية في أصلها روح إسلامية صافية نابعة من الإيمان الحقيقي . لقد أدرك المسلم انطلاقا من إيمانه أن زيغ التاريخ وانحرافه يكون بابتعاده عن مبادئ الإيمان . لقد أدي وعيه بالديانات السماوية إلي اعتبار التاريخ دالة على استقامة الإنسان أو عدم استقامته .
والتي جعلها الله نتيجة لاختيار الإنسان السير في طريق الخير أو الشر . ومن هنا كان من الطبيعي بالنسبة للمسلم أن يفكر بإعادة بعث التاريخ ومكانة المسلمين فيه ، الأمر الذي يجب أن يسبقه بعث الإيمان من جديد ، بقيمه وتطبيقاته في قلوب المسلمين وحياتهم .
ولذلك فإن نموذج الرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته والذي وضعه الإسلام دائماً معياراً للصلاح مع الاهتداء بهدي القرآن الكريم – هو المثال الذي يجب أن يعود إليه كل المسلمين .
السلفية إذن ليست إلا عودة إلي سنة الرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته الكرام كما أمر الله بأتباعها . عودة لمبادئ القرآن والسنة النبوية التي طبقها عملياً الرعيل الأول من المسلمين كنظام للحياة .
وبعيداً عن تجارب الضعف والتحلل في جانب ، والشعور بالقدرة والحيوية والاهتمام الشديد بعظمة أهداف الإسلام في الجانب الأخر ، فإن الرغبة أكيدة في إعادة تشكيل الوضع الراهن في كل ركن من أرجاء العالم الإسلامي .
في كل مكان سمت الحركات نفسها سلفية ، في ثقة وعزم على إعادة تشكيل الحاضر على شاكلة الماضي وعظمته لتعيد للإسلام مجده وللنظرة الإسلامية عزها على دعائمها الصلبة التي أسسها الرسول صلي الله عليه وسلم ، وصحابته الراشدون ، ذلك التصميم كان نابعاً من ضمائرهم وهدف مسعاهم الإصلاحي .
من هنا كانت تسميتهم وكانت طبيعة حركاتهم الإصلاحية . وكان من الواضح أن التربية هي ميدانهم الأساسي .
لقد حاولت زاوية الصوفية أن تكون هدفاً للإصلاح وبالتالي محلاً لتنظير جديد ( كما هو الحال في الطريقة النقشبندية للشيخ أحمد سيد هندي من الهند ، أو السنوسية والتيجانية في شمال أفريقيا ) .
وكذلك حاولت المدارس والكليات الإسلامية العامة كما في الحركات الإصلاحية للأفغاني وسيد أحمد خان ومحمد عبده .
لقد تجددت مناهج المدارس لتواكب الروح الجديدة وتسابقت كل من الزاوية والمدرسة في تنشئة جيل من المسلمين القادرين على تحقيق المثل العليا كما فعل الأسلاف .
القوة الثانية : هي تيار التحديث . الذي ينبثق أيضاً من نفس المنطق ، وبرغم ذلك قد اختار طريقاً أخر ألا وهو تقليد الغرب .
هذا الطريق يعتمد على تبني طرق الغربيين التنظيمية ومهاراتهم وأفكارهم وبالتالي السماح لهم بفتح مدارس لتعليم المسلمين أو إرسالهم للدراسة في معاهد أوروبا .
وعندما يقع أي بلد إسلامي تحت الاحتلال الأوروبي ، فإن مثل هذه المقاييس لا تصبح خيارات يستطيع المسلمون أخذها بحرية وإنما تصبح أمراً محتوماً . إن الحراب الأوروبية تقف خلف المدارس الجديدة ، تحملها كتبهم المدرسية أو أفكارهم أو مدرسوهم القادمون مباشرة من الغرب .
كان هدف المدارس الجديدة من خلال الاستعمار هو التبشير المسيحي بين المسلمين أو على الأقل زعزعة إيمانهم بعقيدتهم ، وزيادة تعلقهم بالدنيا ، وذلك بصبغهم بالثقافة الأوروبية وبالتالي يصبح تعاونهم مع الغزاة المستعمرين أمراً ميسوراً . . وأخيراً لجعلهم بعيدين عن علوم الطبيعة . . بعيدين عن أسرار القوة العسكرية ومن ثم لا يهددون الوجود الأوروبي في العالم الإسلامي .
عندما انسحبت الإدارات الاستعمارية ، تركوا زمام القوة في أيدي المتخرجين من هذه المدارس ، لأنهم كانوا أنسب الفئات لإطالة الوجود الاستعماري تحت أقنعة أخري .
وهكذا أعطيت هذه المدارس فرصة للحياة كما منحت قوة جديدة للاستمرار هي قوة القومية والتقدم واللحاق بالمستعمرين السابقين . لقد أعدو إعداداً يؤهلهم لتدريب الجيل الجديد من العلماء والفنيين على قيادة الحياة الإنسانية نحو الهدف المنشود .
وقد تلقي التصوف ضربات قوية من كلا تياري التعليم ، التقليدي والتجديدي .
وكذلك تلقت نفس الضربات الخرافات والخزعبلات التي التصقت به . وللالتحاق بكلأ النوعين من المدارس كان لابد من تحرير الدارس من هيمنة شيخ الطريقة الصوفية علية . ومن ثم فقد أنجزت المدرستان على الأقل واحداً من متطلبات الإصلاح .
فقد تمكنتا – على وجه التحديد – من تنقية الوعي الفكري من التصوف المتآكل ومن الخضوع لسلطانه .
وحتى الآن مازالت المدرستان ضعيفين جدا رغم ما تبذلانه من جهد للاستمرار في تحقيق أهدافهما الايجابية .
فلم تنجح بعد المدرسة التقليدية في ترجمة التصور الإسلامي إلي نموذج قادر على إثبات نفسه والصمود على أرض صلبة أمام أعدائه .
ولم تنجح المدرسة التجديدية في استزراع التصور الأوروبي الذي يمثل المصدر الحقيقي لقوتهم وإبداعهم . فضلا عن أنها بقيت شوهاء مجردة من الحياة ومن القدرة على النمو .
إن المدارس التجديدية في العالم الإسلامي تقليد الغرب دون إدراك لروحه – ناهيك عن احتوائها – ولذلك فقد حكم عليهم بالا ينتجوا شيئاً أكثر من التقليد المتواضع . وقد أنتجوا فعلاً عدة أجيال على هذه الشاكلة .
لقد شهد هذان التياران التربويات المتشعبان تاريخاً عاصفاً . وكانت تلك العواصف تهدأ – في العهد الاستعماري – كحماية ، وبرغبة المسلمين في تعلم الحيل الجديدة للمعرفة الأوربية على أمل الوصول إلي مركز قوة كاف لمعارضتهم فيما بعد . . وقد انتشرت المدرسة التجديدية في عهد الاستقلال ولاقت قبولاً من عدد كبير من المسلمين على أنها طريقهم إلي التقدم الوطني وإلي إعادة البناء الذاتي وإلي تمكين الأمة من السير قدماً في مضاهاة الغرب .
ولقد عم شعور في العالم الإسلامي في العقيدين الأخيرين هو على وجه التحديد – أن المدارس التجديدية قد فشلت في انجاز ما وعدت به ، فالدول التي تدور في فلك التجديد والتمدن مازالت على حالها من الضعف والوهن رغم عدم وجود طرق صوفية في الوقت الحاضر تعلق عليها فشلها . ذلك الشعور هو الذي يقف وراء إغلاق .
الجامعات الإيرانية ومساندة الثورة ، وهو في الحقيقة نفس الشعور الذي وراء المؤتمرات الدولية الأربع في التعليم الإسلامي والتي خطط لها ونظمت من قبل السعودية .
وهو نفسه أيضاً الذي يقف وراء محاولات المعهد الدولي للفكر الإسلامي ” حول أسلمه المعرفة ” .
ليس معني ذلك أن هذا الشعور سيمهد الطريق أمام التعليم في المستقبل ويجعله سهلاً ميسراً فالمقاومة ستزداد حتى تكتمل ترجمة ونقل المنظور الإسلامي إلي نموذج واقعي معاصر .
ومع ذلك فسوف يشهد القرن المقبل التمرد المصحوب بالثورة الحقيقية وبالتحديد عودة إلي المنظور السلفي وإعادة صياغتها بما يتلاءم والقرن المقبل .
ب : اتحاد الأمة :
لقد جاء لخدمة الأهداف العليا للمجتمع الإنساني كافة – كجزء مكمل لرسالته .
ويمكننا أن تؤكد أن الفروق بين الناس محتمله الوجود – بل هي واجبة – تبعا لتفاوتهم في الأعمال التي يؤدونها والفضائل التي يتحلون بها . ولكن أي تفاضل بينهم ، قد اعتبر منذ الأزل ومنذ نشأة الخلق الأولي تعبيرا عن علاقة المخلوق بالخالق عز وجل ، ومن ثم فهو تعبير عن وحدانيته وسموه .
حيث لا يوجد ثمة تعارض بين صفات الله المقدسة وبين ذلك التفاضل القائم فيما بين مخلوقاته منذ نشأتهم .
لكل ذلك فقد اعتبر الإسلام العنصرية أو أي نظام يقوم على الانتخاب أو الاختيار أو على أساس طبقي أو عرقي أو عصبي كتحد للتوحيد . ولذلك صارع العصبية القبلية حتى النهاية أينما قابلها ، مبتدءاً بمهدها الرئيسي . . مكة .
ومن جهة أخري فلم يغفل الإسلام الطبيعة الدقيقة للحياة الإنسانية ، فلقد اعترف بالعائلة في أوسع نطاق لها وعزز تماسكها وصلابتها بقوانين الثبات والوراثة ، ولقد اعترف أيضاً بالكيانات العرقية الممثلة ولقد اعترف أيضاً بالكيانات العرقية الممثلة في اللغة والعادات بل واتخذه كأساس للتغير المطلوب ولإثراء الحضارة الإسلامية ، طالما توافقت هذه الكيانات العرقية مع متطلبات الشريعة الإسلامية .
لقد فرق الإسلام بين النزعة الوطنية ، والنزعة الشعوبية . الوطنية كواجب يفترض أن يقوم به الإنسان بشي من الأفضلية والتميز يتناسبان مع قربه من بني وطنه وما عليه من حق الدفاع عنهم . والشعوبية التي يتنازل فيها الإنسان عن قيمه لوجوده العرقي حتى ولو كان ذلك على حساب مصلحة الأمة الإسلامية .
لقد فرق الإسلام بين النزعة الوطنية ، والنزعة الشعوبية . الوطنية كواجب يفترض أن يقوم به الإنسان بشئ من الأفضلية والتمييز يتناسبان مع قربه من بني وطنه وما عليه من حق الدفاع عنهم . والشعوبية التي يتنازل فيها الإنسان عن قيمه لوجوده العرقي حتى ولو كان ذلك على حساب مصلحة الأمة الإسلامية .
إن العالم الإسلامي يطالعنا اليوم بمثل هذا التنوع الكبير من الثقافات البديلة بكل دقة – لأنه لم يكن من هدف الإسلام تدمير الإقليمية ولا العرقية . ولكن كان هدفه ترويضها ليجعلها تخدم مصلحة الجميع .
وكما روض الإسلام النزعات العرقية فقد أثراها باللغة العربية وعلومها ، والقانون وعلومه والآداب والعلوم الإسلامية المختلفة .
لقد أزال الحواجز وجعل من كل كيان عرقي مجتمعاً مفتوحاً يسمح بتدفق القوي البشرية من مكان إلي أخر وكذلك يسمح بتدفق الثروات والعمل والأفكار والعلم والثقافة أي أنه أزال الحواجز والحدود بين أرجاء العالم الإسلامي . وعلى سبيل المثال فقد كان باستطاعة قاضي جاوا أو طشقند أو بخاري أن ينزل إلي مكة أو القاهرة أو دار السلام ويستقبل فيها بما يليق بمكانته العلمية والأدبية كما كان بوسعه أن يتزوج من أي بلد إسلامي دون اعتراض دون اعتراض ويقضي بقية حياته كسائر المواطنين .
وعلى الرغم من استمرار السيطرة السياسية العسكرية لدولة إسلامية واحدة ( دولة الخلافة ) على العالم الإسلامي لحقبة من الزمن فاقت أي فترة استعمار عالمي ، إلا أن الأقاليم المختلفة كانت تعتمد على نظمها السياسية الخاصة بها محققة بذلك نوعاً من الاستقلال . ولم تدمر تلك الأنظمة المحلية بقدوم الإسلام إذا كانت هي سابقة عليه لأن الإسلام لم يذهب إلي هذه المواطن بهدف تقييد الحريات السياسية . أو أنهم تقدموا تبعاً لتقدم الإسلام لأن الأسلمة تسري بسرعة أكثر من التعريب بما بينهم من اتحاد ضمني وتجانس على مستويات الثقافة المختلفة .
ولم يكن التقسيم إلي دويلات تحت إمرة حاكم أو أمير ذا تأثير يذكر على الوحدة التي يجمعها الإيمان سواء في مجال القانون أو التعليم أو الفنون ، والحقيقة أن مظاهر الاتحاد السياسي قد استمرت في صور منها الهدايا التي كانت تقدم سنوياً إلي الخلفية ، وفي خطبة الجمعة حيث يتوسل فيها إلي الله أن يحفظ الخليفة ويديم حكمه ويمنحه النصر على الأعداء .
وحتى في حالات الانفصال التي حدثت وأعلن فيها الحاكم نفسه خليفة على الإقليم الذي يحكمه مثل الأمويين في قرطبة والفاطميين في القاهرة – حتى في هذه الحالات – استمرت الوحدة في القانون والأنظمة الدينية وفي الفنون والعلوم . بل وكانت تدعم ويحرص على تقويتها .
إن النزعة القومية قد انتشرت في العصر الحديث بين الأقاليم الإسلامية بتأثير من الغرب سواء كانت هذه الأقاليم تخضع لنظام استعماري مباشر أو غير مباشر من خلال نزعة التقليد مذكين بذلك في خبث للنزعة الشعوبية ولقد كانت نيران هذه الفكرة تزكي باستمرار بواسطة القوي الغربية ، من جهة بمتابعة اهتماماتهم من خلال التقسيم والاحتلال ، ومن جهة أخري لأن الانفصال روح يعرفها الاستعماريون جيداً ويشجعونها .
ثانياً : نفس النيران كانت تغذي بواسطة المواطنين التواقين لمحاربة الغرب أو الصدام به متصورين أنه ليست هناك وسائل أخري لمحاربته سوي منافسته .
ثالثاً : بانسحاب الاستعمار وإحلال محله دولاً مستقلة على أساس من التجزئة المحلية . . وجد العالم الإسلامي نفسه مجزءاً إلي دويلات قومية منفصلة . وفي النصف قرن الأخير لم تتحد فقط هذه الدول مع بعضها البعض . . بل وعملوا ضد مصالح بعضهم . . وشنوا حروباً ضد بعضهم البعض .
اليوم لا تكاد توجد حدود بين دول إسلامية لم تشهد توتراً أو اغتصاباً وإراقة دماء . وأسوأ هذه الحروب كانت حرب اليمن – السعودية ، وحرب اليمن – مصر ، وحرب اليمن مع اليمن ، وحرب اليمن وسلطنة عمان ، وحرب الباكستان مع بنجلادش والمواجهة الماليزية الاندونيسية في كاليمانتان ( Kalimantan) ، والمجابهة الجزائرية المغربية في الصحراء ، والحرب العراقية الإيرانية والتوتر بين مصر وليبيا ، وبين السودان وليبيا ، وبين سوريا والأردن ، وبين سوريا والعراق ، الخ . . .
إن القومية أو بمعني أخر الشعوبية الجديدة ليست في طريقها للاختفاء . بل في الحقيقة إنها تنمو مكتسبة مزيداً من المؤيدين من بين صفوف المتعلمين في العالم الإسلامي . أما الباقون وهم يشكلون الغالبية العظمي فلم ينبهروا بادعاءاتها . . إنهم يسيرون وراء القيادة وغدا سوف يمنحون تأييدهم لقيادة إسلامية بحماس أكثر مما يؤيدون به قادة القوميات اليوم .
والسبب في أن القومية لا تخطي لديهم إلا بالقليل من القبول هو شعورهم الإسلامي القائم أساساً على التوحيد الذي لا يستطيع أن يفهم – دعك من الإذعان إلي – مبدأ التعصب العرقي والذي يعتبر العرقية غاية في حد ذاتها ويعرف الإنسان على أساس من الصفات العرقية المميزة .
أما القومية فهي عديد من النزاعات العرقية المختلفة والتي تنافست مع عالمية الإسلام لأكثر من جيل . وقد أسست وشجعت في بادئ الأمر بواسطة الاستعماريين والآن تحصل على الدعم من معظم حكومات العالم الإسلامي . وعلى الأرجح أن القومية ستستمر في النمو – بغض النظر عن ذلك التأييد – ولكنها لن تكسب الجولة الأخيرة . ومن جهة أخري فإن عالمية الإسلام ووحدته قد أصيبتا بنكسات في عقول الشعب المسلمة في هذا القرن فلقد كان يدافع عنه من قبل التقليديون الذين لم يكونوا يحظون بكثير من الاحترام بين الطبقات المتعلمة . إن دعاة الوحدة الإسلامية كانوا في حالة عجز وكانت حججهم واهية بسبب جهلهم بحجج الغرب والتي طور بها أنصار التجديد مناقشاتهم من أجل تقدم القومية .
لقد بلغت القومية أوجها بين المسلمين في الفترة من 1956 – 1967 ، وكان كل من جمال عبد الناصر وأحمد سوكارنو من أشد الداعين لها . وهرعت السياسة السوفيتية لتأييدها . ومع ذلك ففشلها في إنجاز ما وعدت به – وبالتحديد التحاد القومي ، القوة ، التحرر ، الكرامة ، الرخاء الاقتصادي . .فشلها في كل ذلك أدانها في أعين الجميع ، وكذلك التحول العنيف لمراكز القوي في اندونيسيا وحرب الأيام الستة . . والحرب الباكستانية . . كل تلك العوامل جعلت قلاع القومية تنهار في أعين المسلمين وضمائرهم .
ومنذ ذلك الحين فقد تفتحت أعين المسلمين على نقاط ضعف النظم القومية في مجالات السياسة ، والاقتصاد ، وعلى المستوي الاجتماعي وكذلك في الزراعة .
وفي نفس الوقت الذي تطلبت فيه الوحدة الإسلامية – كهدف أسمي للحركة الإسلامية وكمحتوي تكميلي للنظرة الإسلامية مدرسين جدد ومدافعين جدد ، فإنه كان يتم اضطهاد الإسلاميين وإقصائهم إلي أبعد ما يمكن عن مراكز القوي وبعيداً عن مجابهة الجماهير . من أجل ذلك فقد لجأوا إلي صب نقدهم على النظم القومية وتدريب مجندين حدد من أجل الحركة الإسلامية العالمية .
إن العقيدة الإسلامية وما ولدته من حركة عالمية قد أصبحت نوعاً من الملاذ الفكري والروحي لأولئك الجامعيين من أنصار القومية العلمانية أو التعليم الأجنبي ، وقد تحرروا من الوهم بسبب فشل القومية ، وذلك دعم طاقة الحركة لإقناع الآخرين بحيوية وملائمة العقيدة الإسلامية .
واليوم فالحركة الإسلامية هي الأقوى والأكثر أنصاراً في أوساط الجامعات الإسلامية في العالم أجمع .
إن استئناف القضية الإسلامية محكوم بالتصور الاتحادي ، ومرتبط بازدياد عدد المتعلمين المؤيدين للقضية بغض النظر عن التحاقهم بالحركة أم لا . لقد جاء الضعف الحالي لجامعة الدول العربية متوافقاً مع النهضة في نفوذ منظمة العالم الإسلامي والحركات الإسلامية في معظم أرجاء البلاد الإسلامية .
ج – التطور :
1 – وجهة النظر القومية :
إن النظر في اتجاه التعليم والتصنيع ،والإصلاح الزراعي ، وتحسين سبل التجارة وإعادة بناء المجتمع على مؤسسات سياسيه واجتماعية أكثر حيوية ، كان له تصور سابق لدي الشعوب الإسلامية في القرنين السابقين .
ولقد كان المثل الأعلى للتطور في أي مكان هو النموذج الغربي والذي بدأ أولاً في الدولة العثمانية ومصر ثم في الدول الإسلامية بعد حصولها على الاستقلال ، وقد صممت المؤسسات بحيث تربط الاقتصاد الوطني بالبلد المحتل بصفة أساسية . وكان ذلك مطبقاً في التعليم وفي الزراعة والصناعة كما هو في التجارة ، لقد عنوا بربط البلاد برخاء وازدهار البلد المحتل ، بينما ظلت التنظيمات السياسية للبلاد الإسلامية تزود ما أمكن بالخطط السياسية في الدول الاستعمارية عند الحاجة على أمل استبعاد فرصة التغيير الجذري .
وكانت حالة الزراعة في العالم الإسلامي متشابهة ، فبينما كانت النظم الاقتصادية تمنع وصول القمح السوري والبلح العراقي إلي القاهرة – والأرز المصري والسكر والقطن إلي سوريا والعراق . . فقد كان على الجميع أن يصدروا إنتاجهم إلي الدولة الاستعمارية التي توزعه بعد ذلك بما تراه مناسباً . في نفس الوقت الذي كانت فيه رؤوس الأموال المستثمرة تصب عند الملاك من الطبقات ألكبري بسبب الروابط السياسية . تلك المبالغ التي كانت غالباً ما تنفق في المضاربات والمغامرات .
وفوق ذلك كله . . فإن إغراء الحياة في المدينة كارتفاع الأجر والرغبة في تقليد الطبقة الارستقراطية . . الخ كل تلك العوامل اجتذبت الفلاح بعيداً عن الأرض وأودعته في مدن الأكواخ حول المدن . أما أولئك الذين قاوموا إغراء الهجرة إلي المدينة فقد كانوا مشجعين من الحكومة – مثلهم مثل المضاربين – ليزرعوا محاصيل ذات قيمة عالية للتصدير .
وبذلك تمكن الاستعمار من زعزعة أسس حياتهم الزراعية وجعل البلد كله معتمداً على تصدير موارده الزراعية واحتياجاته الغذائية . . محرومين من معاهد البحث الكافية لاكتشاف إمراض الزراعة وعلاجها ومحرومين من التصنيع ومن الزراعة وعلاجها لامتصاص الإنتاج ، ومن برامج لتوعية الفلاحين لتحسين معيشتهم ، وهكذا تخبط حقل الزراعة في كل مكان .
وتلك كانت نقاط الشكوى ومطالب الإصلاح التي نادت بها الحركة الإسلامية في مصر عام 1940 . فيما يخص الشئون الداخلية للبلد .
ولقد نجحت ثورة 1952 لتطابق جدولها المعلن مع جدول أعمال حركة الإخوان المسلمين بكامل تفصيلاته ، ومع ذلك فقد كانت الثورة غير كفء لانجاز ذلك البرنامج . . ومن هنا فقد فشلت .
ولم تكن الصناعة بأحسن حال . . وإنما كانت بنفس السوء . فقد فشت الدعاية الاستهلاكية بين جموع الطبقة المتوسطة ، والتأسي بالأرستقراطيين المتشبهين بالغرب . . كل ذلك جعل طلب البلد على المنتجات المصنعة نهم لا يشبع . مع ضغط مصاريف الدفاع بنفس المقدار . وعلى الرغم من أن بعض الحكومات القومية في العالم الإسلامي قد وضعت سياسات وبرامج اقتصادية عديدة إلا أن القليل منها قد نجح . والسبب في فساد تلك الجهود هي نقاط الضعف التالية : –
أولاً : كان الاهتمام منصباً على صناعات محددة تدعم مركز الحكومة ، وليس منصباً على سلسلة انتاجة متكاملة تستطيع كل مرحلة أن تساند التالية لها دون مساعدة من الدول الاستعمارية .
ثانياً : التطور الصناعي يحتاج إلي أسواق كبيرة وثابتة وتلك كانت غير متوفرة بسبب الانعزالية وسياسة الحماية من قبل الحكومات القومية .
ثالثاً : وقوف القوي الاستعمارية وراء تلك الأسواق . كل واحد من الأسباب السابقة كاف بمفرده أن يعوق التطور الصناعي ، واجتماعهم معاً جعله أمراً مستحيلاً .
إن الخلافات السياسية بين مصر والعالم العربي التي نجمت عن توقيع اتفاقية كامب دافيد ، قد محت تقريباً في سنوات قليلة المكاسب الصناعية المصرية التي حققتها في عدة قرون – ولعل مناداة الحركة الإسلامية بإصرار بوحدة وادي النيل ( السودان ومصر ) ووحدة الوادي بما يحيطه من صحراء ( ليبيا وتشاد – ارتيريا والصومال ) ليعتبر الخطوة الأولي نحو وحدة إسلامية تحتذي بوحدات إقليمية في المغرب والهلال الخصيب . . الخ كل ذلك أمر أصبح أساسياً بدونه لا يمكن أن تكون هناك تصنيع .
والخلاصة ، حتى إذا كانت الرغبة في التطور – الزراعي والصناعي – على الأراضي التي تحكمها حكومات قومية على النمط الغربي – مسلماً به ، فإن برامج التنمية للنصف قرن الأخير لتشهد بفشلهم في إنجاز أهدافهم الذاتية .
ولعل أهم هذه الاعتبارات هو الشحنة الإسلامية التي تعتبر أن التنمية على النظام الغربي لا تتفق وروح الإسلام ومن هنا فهي غير جديرة بإخلاص المسلمين وجهودهم .
2 – وجهة النظر العالمية :
أولاً : إن الحركة الإسلامية متشوقة بكل تأكيد لأن يأخذ التطور دوره وينجح . ولكن على أساس ألا يعتني بجانب من الإنسان ويهمل الجوانب الأخرى – أما ما يعرفه عن النموذج الغربي وما مدي تطبيق هذا النموذج على العالم الإسلامي فقد برهن على ذلك بإسهاب والسؤال الآن . . هل يبحث العالم الإسلامي عن احتياجات صناعية ومتطلبات ووسائل رفاهية لأن ذلك هو الاعتبار الواضح الجلي للتطور الصناعي في العالم الإسلامي ؟ . . كوكاكولا – مشروبات كحولية – مستحضرات تجميل مثلها مثل المكيفات ، الملابس الغربية للرجال والنساء والأطفال . . كل هذا كان يخطي بأولوية التطور يلي ذلك الراديو ، التليفزيون ، المستحضرات الطبية ، المبردات ، السيارات ، الجرارات .
أما عن المحاصيل النباتية فهي تعتمد دائماً على الإمدادات التي تستورد والتي يمكن منعها في أي وقت يشاء الاستعمار .
والأكثر أهمية من ذلك كله الأولويات الخاطئة المعنية لبرامج التطور وبعدها الشديد عن المثل العليا وتصورات العدالة الاجتماعية تلك كانت الحال على المستوي المحلي ( بين احتياجات الطبقات المختلفة للجماهير) . وعلى مستوي العالم الإسلامي ( بين احتياجات القطاعات المختلفة من الأمة الإسلامية ) .
ويرغم ذلك فالسؤال عن العدالة الاجتماعية منفصل عن ذلك ، وقصور النظر في الناحية الاقتصادية سبب الفشل وقصر العمر لمعظم برامج التنمية ، وليس المطلوب أكثر من هدف جاد وجهد جاد وبالتحديد . . تخطيط يأخذ في الاعتبار كل احتياجات العالم الإسلامي ، أو على الأقل جزءاً اقتصادياً منه قابلاً للتطبيق . . مثل التغلب على إزاحة العوائق التي تعوق انتقال المواد الخام أو المنتجات المصنعة بين الدول ، لكن لا النظام القومي ولا الاستعمار الجديد للدول المناصرة للصناعة سيسمحان بمثل هذه المساواة أو اتحاد العملاء .
ثانياً : إن النموذج الغربي للتطور مبني على نظام الفائدة بأعلى درجاتها ، ومن ثم على الإنتاج فالاستهلاك ، وذلك بالتالي يستلزم قدراً من الغش من خلال إعلانات مركزة مع بعض الإهمال في نوعية الإنتاج . . ولكن حق الانتفاع بالطبيعة والتي سخرها الله سبحانه وتعالي للبشر يجب ألا يذهب سدي وبلا ضابط ،وإلا فسوف ينقلب توازن العالم البيئ . . ولذلك فقد عني الإسلام بالخسارة التي تلحق بالبيئة من جراء سواء استعمال حق الانتفاع بها ووضع أقصي العقوبات على ذلك ، لأن وراء ذلك التصرف تقف حالة من اللامسئولية الواضحة ، وقصر نظر اقتصادي ونوع من الفساد الأخلاقي .
ثالثاً : إن النموذج الغربي للتنمية يعني بالإنتاج الاقتصادي والاستهلاك بصفة مركزة . . واهتمامه بكيفية حياة الناس يكاد لا يوجد .
فالصناعة تدعو الناس للهجرة من القرية غلي المدينة دون الاهتمام بصحتهم الاجتماعية . . والمشكلة ليست فقط في الحد الأدنى من الأجر ولكن في تعليم العامل كيف ينفق مكاسبه بأحسن صوره ، وإدارة حياته وخصوصاً وقت فراغه في غايات تعود عليه وعلى أسرته وأمته بالخير . إذا لم تتحمل الصناعة مسئوليتها تجاه الصحة الاجتماعية والثقافية والروحية للعمال . . فسوف لا تتقابل أبداً مع أهداف الإسلام وغاياته .
رابعاً : كون النموذج الغربي للتطور مهتماً بالفائدة فهو يميل غالباً لتركيز الثروة في أيدي القلة التي توظفها لمصلحتها المنافية لشروط العدالة الاجتماعية ، ومن هنا فالصرخة المدوية للأصوات الإسلامية في كل مكان خلال القرن الأخير المنادية بالعدالة خلال القرن الأخير المنادية بالعدالة الاجتماعية ، كانت متحملة مسئولية هذه الصيحات لدرجة أن الأنظمة القومية سنت القوانين الاجتماعية ، وسوغتها للأمة على أنها تطبيقات لاشتراكية الإسلام . . ولسوء الحظ لم يكونوا مسلمين ولا اشتراكيين وكل ما فعلوه هو استبدال طبقة من الإداريين مكان أخري لإدارة رؤوس الأموال .
إن النموذج الإسلامي للتطور لم يعمل بعد ، ولعل وثاقة صلة الإسلام بالمصنع بالجمعية التجارية ، بالمدينة كتنظيم مدني ، بالمسرح ، بجموع الطبقات المتوسطة ، بالبطالة والنشاط ، بالمعاهد المالية وبكل أعضاء المجتمع وبمساعيها التعاونية لعل كل تلك الاعتبارات تحظي بشعور فطري لا نهائي .
وسوف يشهد القرن المقبل – إن شاء الله – هذا التحدي الأخذ في النمو بين حملة النظرة الإسلامية من جهة وبين أولئك العلمانيين والقوميين والمناصرين للغرب من جهة أخري .