إن الوضع الراهن الذي تواجهه الأمة الإسلامية وضع جد خطير وإن لم يكن بجديد عليها، فلقد واجهته الأمة من قبل. فليست المرة الأولى التي تقف فيها أمام التحدي وجها لوجه. وذلك التحدي الذي بلغ من العمر ألف عام، فمنذ بزوغ فجر الإسلام خرج المسلمون الأوائل من الجزيرة العربية لا يحملون معهم من مقومات الحضارة شيئًا اللهم إلا الإسلام.
لقد كانوا عزلا حتى من الحد الأدنى من العلوم الطبيعية، ومن الفنون والحرف، وكذلك من الصناعة، وكانت الأمم من حولهم في قمة ازدهارها وحضارتها.
واجه أجدادنا عملاقين عظيمين، الأمبراطورية الرومانية: التي قامت على ما ورثته من آثار العصور القديمة بثقافتها وحضارتها. والفرس في الرق وقد ورثوا بدورهم حضارة عظيمة أساسها علوم الهند وحكمتها.
كلا الأمبراطوريتين قد حققتا ازدهاراً ورخاء اقتصاديًا عبر آلاف السنين.
وما أن بدأ المسلمون الأوائل مسيرتهم وظهروا على مسرح التاريخ حتى تصدى لهم هذان العملاقان الفارسي في الشرق والمسيحي في الشمال والغرب.
لقد كان هعند هؤلاء المسلمين الأوائل ما يجعلهم يثبتون في هذه المواجهة ولا يصابون بالهلع والذعر فقد كان إيمانهم مطلقًا وثابتًا بأنهم وحدهم الذين يجب أن يؤول الأمر في نهاية المطاف إليهم، وأنهم جديرون بأنهم يسودوا العالم بأسره بهذا الدين الجديد، لقد كان هذا الإيمان فيهم هو الفرق بيننا وبينهم.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فاليوم نحن نقف على عتبات مستقبل جديد ونواجه عالمًا يتقاسمه عملاقان: الغرب الممتد من روسيا إلى أمريكا ممتلكا لأرقى ما وصلت إليه العلوم، مسيطرًا على الموارد الطبيعية في العالم. والعملاق الآخر ذلك الذي بدأ يصحو من غفوته في الشرق ألا وهو الصين واليابان والذي يبدو أنه سيعوض ما فاته بما يحققه من تقدم مذهل في شتى المجالات.
ونحن المسلمون في العالم نقف على عتبات هذه الساحة غير مستعدين ليس لهذا فحسب بل وخائفين أيضًا وغير واثقين من أنفسنا، مختلفين كل الاختلاف عن أسلافنا الأوائل.
منذ أكثر من مائة عام حاولنا أن ندفع بأنفسنا في هذا العالم الجديد ولكن التوفيق لم يحالفنا ولقد بدأت هذه المحاولة على أثر حملة نابليون في الشرق وبعد ذلك بقليل في شبه القارة الهندية. لقد ظننا أن متطلبات دخولنا هذا العالم الجديد هي أن نقلد الغرب ونحذو حذوه – فجلسنا جيلا بعد جيل – على عتبات أسيادنا في الغرب نأخذ عنهم ونتتلمذ على أيديهم. حقًا أن أجدادنا تتلمذوا على أيدي الفرس والرومان وأخذوا عنهم ولكنهم خلال جيل أو جيلين تمكنوا من احراز كل العلوم والفنون بل تفوقوا على مدرسيهم، ولكننا في الوقت الحاضر، وحتى الآن لم نصل في أي مجال من مجالات السعي الإنساني إلى المستوى الرفيع الذي وصل إليه الغرب.
لقد بدأت تجربة الأمة الإسلامية في مصر منذ مائتي عام تقريبًا، في ذلك الوقت لم تكن مصر مرتبطة بالغرب في أي مجال من مجالات التعليم والتدريب، وبدأ المصريون يرسلون بأبنائهم وبناتهم جيلا بعد جيل ليتعلموا ويدرسوا، وكلما ازداد تقليدهم للغرب كلما ازداد عجزهم عن أحراز تفوق في أي مجال.
وهكذا كان الحال في كافة أنحاء العالم الإسلامي. إننا نتسائل لماذا ينبغي على المسلمين أن يكونوا أتباعًا للغرب في التعليم وفي تطبيق ما يتعلمونه على مشاكل الحياة؟ لمذا كتب على المسلمين أن يكونوا أدنى من زملائهم الغربيين؟ هل منح الله الذكاء لهؤلاء وحرمنا نحن المسلمين منه؟ أم أن العلم والمعرفة وقف على غير المسلمين؟
الجواب أن المعرفة ليست وقفًا ولا حكرًا على أحد، فالطبيعة، والكون وخلق الله جميعًا كتاب مفتوح يستطيع كل أنسان أن يقرأه… لا بل يجب على كل أنسان أن يقرأه.
والتاريخ أيضا ميدان تنافس مفتوح يستطيع أي إنسان أن يسطر فيه سطوره ويوجه مساره.. ولكنا نتحسر على أولئك الذين لا يستطيعون صنع تاريخ أو إحراز معرفة.. وذلك هو الفرق الأساسي بين أجدادنا المسلمين الأول الذين خرجوا من الجزيرة العربية وبين أجيالنا المعاصرة.
فبينما سبر أجدادنا غور المعرفة التي يملكها غير المسلمين بكل ايمان وثقة إذا بنا نحن نقترب منها بلا إيمان. نذهب إلى الغرب كالمتسولين راضين نقتات على فتات موائدهم من العلم والمعرفة. فلم يمكننا الغربيون بطبيعة الحال – من هذه العلوم وحالوا بيننا وبينها بشتى الطرق لأنها مفاتيح قوتهم وتفوقهم. وهذه خطتهم الواضحة لنظل دائمًا معتمدين عليهم حتى في استيراد بضائعهم وخدماتهم.
إن الطبة الذين أرسلوا إلى الغرب خلال المائة عام أو أكثر الماضية قد فشلوا في مهمتهم وذلك لأسباب منها:
أولاً: أن الطالب الذي أرسل لم يرسل لأنه الأكثر كفاءة لهذه المهمة من باقي المرشحين وإنما لأن عائلته من الغنى بحيث تستطيع الانفاق على تعليمه بالخارج أو أن لعائلته من النفوذ ما يضمن له منحة دراسية بالخارج.
ثانيًا: أن المبتعث للخارج لم يكن لديه دافع كاف للكد وبذل الجهد وإنما كانت لديه فقط الرغبة في التسلق الاجتماعي خلال رحلته الدراسية وكسب عيشه عن سعة بعد عودته.
ثالثًا: أن الطالب لا يتعلم أكثر من القواعد النظرية الأساسية للمعرفة ويحصل على درجته العلمية من أساتذته الغربيين لأنه تتلمذ على أيديهم فلابد أن يحكموا عليه بأنه مقبول.
رابعًا: يعود إلى وطنه حاصلا على درجة علمية باحثًا في تحسين مركزه الاجتماعي والمادي، عير محاول تعزيز حصيلته العلمية البسيطة التي حصل عليها، شأنه في ذلك شأن الغالبية العظمى من الخريجين في العالم الإسلامي، وليس من الغريب بعد ذلك أن يكون تلامذتهم أقل إلهامًا منهم وعلى النقيض من الحقائق المحزنة التي ذكرت آنفًا فالتعليم في الخارج للشباب المسلم يجب أن تحكمه المبادئ التالية:
أولًا: يجب أن تتوافر في المرشح شروط أساسية منها:
الذكاء والكفاءة والإعداد الجيد، لأن متابعة المعرفة والتفوق ليس بالأمر الهين كما أن الاغتراب والعيش في ظل ثقافة أجنبية ولغة أجنبية.. مع شعوره المستمر بالأمجاد التاريخية للأمة الإسلامية.. ثم الانبهار بالحياة الغربية التي يعيشها.. كل ذلك يشكل عبئًا ثقيلًا على أعصاب الدارس المسلم.. فقط أصحاب العزائم الصلبة الذين يتمكنون من الصمود والنجاة والقيام بواجبهم لتحقيق الهدف الذي من أجله أرسلوا إلى الخارج.
ثانيًا: بعد الاعداد السابق يجب أن يسمح فقط للدارسين الذين تحركهم النظرة الإسلامية للأمور، بالسفر للدراسة في الخارج.
إن رغبة الأمة الإسلامية في إتقان ألوان المعرفة وتعلم قوانين الطبيعة الأبدية وادراك سنة الله تعالى في خلقه، هذه الرغبة يجب أن تتجسد فيهم وتحركهم لبذل أقصى جهد ممكن وشغل حياتهم لتحقيقها.
إن النظرة الإسلامية شرط أساسي وبدونها لا يستطيع الدارس أن يحاول معرفة أكثر من أستاذه وهي أيضا ضرورة لحيازة مفاتيح المعرفة ونقلها إلى وطنه. بل ويدفع بها إلى مستوى أرفع مما وصلت إليه عند الغرب.
إذا أراد الطالب أن ينجز عملا ذا قيمة علمية ما الذي يفرض عليه أن يتفوق على أستاذه؟ لماذا يفرض عليه الاطلاع على كل ما قيل في العلم الذي يبحثه؟.. لماذا يحاول تخطي العقبات لتحقيق هدفه؟.. إذا كان احساسه بالله سبحانه وتعالى يسري في شعوره كما تسري الروح في الجسد، إذا كان ارضاء الله غايته… هنا فقط سوف يتجاوز الحدود الطبيعية ويصنع المعجزات.. ولذلك يجب أن يتحلى بالإيمان الصادق، والاقتناع الراسخ بقضية الإسلام.
ثالثًا: أن الدارس المسلم إذا ألزم نفسه بهذا الإيمان وأخذ على نفسه ذلك العهد سوف يعتبر نفسه – في الحقيقة – آخر طالب أضطرت الأمة أن تبعثه للدراسة في الخارج.
إن النظرة الإسلامية سوف تكسب الأهداف أهمية وتجعلها تتضمن بجانب التحصيل العلمي، محاولة نقل هذا العلم إلى الأمة الإسلامية. والمتطلبات الأساسية لذلك هي تمكين الدارسين المسلمين من التفوق وذلك بعمل برامج تعليمية مركزة وتجميع المعلومات وتنسيقها وإعادة النظر في منجزات العالم من المعرفة وتنمية هذه المعرفة بمزيد من البحث.
وفي النهاية، فإن النظرة الإسلامية في الفيصل بيننا وبين أجدادنا، وتفسر فشلنا المستمر ونجاحهم المضطرد. لقد حثهم النجاح على بذل المزيد من الجهد للوصول إلى السيادة المطلوبة. وأصابنا الفشل بالاحباط، ومنع فينا الرغبة في رؤية العلم ككل: تاريخه، تطوره، منهجيته، مشاكله، مبادؤه الأساسية، أهدافه البعيدة، والآمال المعقودة عليه. ان المعرفة الكاملة بكل ذلك ضرورية للحصول على نظرة شاملة تمكن من ادراك الموضوع وتقييمه وتقدير الوسائل الممكنة للوصول به إلى آفاق أرحب وأهداف أبعد.
إن النظرة الشمولية الناقدة اللازمة لإنجاز أي عمل أو مسعى إنساني يجب أن ترتكز – وبوعي – على نظرة أشمل منها لتكون مرجعًا له. وبالنسبة للمسلم لا يوجد أيطار يمكن الرجوع إليه أشمل من الإسلام. فنظرة الإسلام تلبي فيه احتياجاته الأخلاقية، وتمنحه الدافع ليجهد نفسه ليخدم أهداف أمته كما أنها ترضي فيه رغبة حب المعرفة بتحويل الأسس النظرية للمعرفة إلى فهم ناقد شامل واع في أي حقل من حقول المعرفة.
إن عملية التعلم نفسها سواء كان ميدان المعرفة علم النبات، أم علم الحيوان، الفنون الجميلة أم الفلسفة، وكذلك عملية ادراكها بتأن وصبر لا يمكن تتبعها دون أطار من القيم والأخلاق، بمعنى آخر بدون المنظور الإسلامي. فالإسلام يعطي المعنى النهائي للحياة وللوجود بأسره ذلك المعنى الذي أدركه أجدادنا من سنة الله في خلقه ومن الوحي، والذي فهموه من القرآن والسنة. وتشربت به أرواحهم وعقولهم وتحركت به ضمائرهم.
وبخلاف ما نحن عليه الآن فقد كان التعليم بالنسبة للسلف الصالح – عندما يهاجرون خارج أوطانهم – واجبًا مقدسًا، واجبًا دينيًا أن يتعلم المسلم وينقل هذا العلم إلى غيره سواء كان قديما أم حديثًا بهدف اعلاء كلمة الله. وبهذا الإيمان الراسخ كانت أهدافهم تتحقق بسهولة ويسر روحيًا وعقليًا.
ففي تتبعهم لعلوم الصحة – على سبيل المثال – يستطيع الإنسان أن يتخيل عقولهم تحثهم على التقدم وأحراز النجاح حفاظًا على حياة الأنسان تنفيذا لأوامر الله في اهمار الكون وفي حرص على نظافة البدن ولياقته وقوته وبالتالي فقد كان ما يقال عن الطب والعلاج سواء ما قاله الفرس أو الرومان أو اليونان أو الهنود، يقيم من وجهة النظر الإسلامية بحيث تملأ ثغراته بواسطة الأنسان المسلم الذي تعهد بذلك كواجب ديني مقدس.
بهذا النوع الملهم من الشباب المسلم تستطيع دراسة الطب أن تتقدم على عكس ذلك النوع الذي يذهب إلى أمريكا وأوروبا وجل همه الحصول على مركز اجتماعي أفضل، مثل هذه الأهداف التي تعجز عن دراسة الطب ناهيل عن التقدم به والنهوض بعلومه.
ونفس الشئ يمكن قوله على أي علم آخر، يجب أن يكون تعلمه له في سبيل الله. وكل شئ خلقه الله تعالى جدير بجذب أنتباهه وملاحظته وتحليله. ليخدم به هدفًا نبيلاً. كجزء من خلق الله الكبير لأن كل شئ مترابط كل الترابط مع الخلق الكبير مترابط ماديًا وبصفة قاطعة ونهائيًا ليشكل في النهاية كل لا يتجزأ ووحدة متكاملة وفوق ذلك فإن الإسلام يفرض على المسلم الذي يحرز أي معرفة أن ينقلها إلى أخوانه، بل ينبغي عليه أن يضعها في أيسر صورة وبطريقة علمية حديثة لكي يستفيد بها كل من يتناولها، وفي النهاية يجب أن يعدها كمادة تدرس لجيل آخر من طلاب العلم.
هذا الإيمان الذي وجد في أسلافنا مفقود لدينا فماذا نحن فاعلون ازاء ذلك؟ .. من الواضح أنه لا يوجد عجز في الطاقات العقلية في العالم الإسلامي والذي يفوق تعداده البليون نسمة كما لا يوجد عجز في الخامات ولا الموارد الطبيعية فالعالم الإسلامي يتمتع بأغنى هبات الأرض فقد أنعم الله عليه بالطقس المعتدل ووفرة المياه وسطوع الشمس وكل هذه موارد لها قيمتها .. علاوة على انخفاض الكثافة السكانية في معظم أنحائه إذا استثنينا ثلاث أجزاء صغيرة منها، هي بنجلادش وجاوة ودلتا النيل .. ولكن يبدو أننا تنقصنا الرغبة في التقدم واحراز السبق.
إن عقلية المسلم المعاصر يمكن وصفها من الناحية الدينية بنقص الإيمان، أما من الناحية الاجتماعية فهو يعاني من نوعا من مركب النقص الضار، نقص في الثقة بنفسه وفي الثقة بأمته، بإيمانه، ممزوجا بجهل مطبق بتراثه الإسلامي العريق.
عقدة النقص هذه توهن من طاقته وتحبط تطلعاته المستقبلية نحو ملاحقة العالم الحديث. ان سبب المرض يمكن بالدرجة الأولى في مواجهة العالم الحديث بقوة منهارة.
فنحن نرى – على عكس من ذلك – أن القروي البسيط، الذي عزل نفسه تماما عن التعامل مع العالم الحديث لا يعاني عقدة النقص التي أشرنا إليها. وهذا يعني أننا كلما ازددنا التصاقًا بالعالم الحديث كلما تضخمت أمراضنا. وليس معنى هذا أن نبحث عن الحل في العزلة. فالعزلة مستحيلة في هذا العالم الذي تظلله شبكات الإعلام الضخمة. ان واجبنا هو أن نواجه هذا الغول المسمى بالمدينة الغربية الحديثة.. نحلله ونفهمه جيداً لنعرف ما هو السبب الذي جعله يبث ذلك الرعب في قلوبنا.
إن أول شئ يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الغرب أو العالم المتحضر هو علمه – فالعلم هو سره الأكبر – أما التكنولوجيا والقوة فهما آثار خارجية لهذا العلم. ولأن الغرب، أو العالم الحديث يفكر ويعمل بطريقة علمية، لذلك فهو عالم عظيم. بينما يفكر المسلمون ويعملون بطريقة مختلفة تمامًا. ومن هنا فهم في مركز ضعفوتأخر. والعلم ببساطة هو النظر في الطبيعة أو الخلق والنظر في قوانينها ونظمها لاستثمار عناصرها وقواها لصالح الحاجات البشرية.. والعلم علاوة على ذلك يجب أن يقود إلى التكنولوجيا وهي بالتالي عليا أن تؤدي إلى راحة ورفاهة الجنس البشري.
والملاحظة الأولى هنا هي اعتبارات ربط العلم بالتكنولوجيا .. هل يجب أن يقود العلم إلى التكنولوجيا؟ هل يجب أن يكون محدداً بالاستعمال التطبيقي أو بالأمل المعقود عليه؟ ان الإجابة الإسلامية على هذا النساؤل ثابتة وواضحة… فكل مسلم يدعو «اللهم اني أسألك علماً نافعًا» معبرًا عن آماله في المعرفة التي يجب أن تقود إلى النفع البشري. وفي دعاء آخر «اللهم انا نعوذ بك من علم لا ينفع» فالمسلم لا يطلب علمًا غير ذي نفع ولا يكن له أي احترام وتقدير.
فإذا أردنا أن نوضح مفهوم هذا الدعاء الذي يردده كل منا يجب أن نقول أن أي بحوث – الطبيعة، الكيمياء، على الفضاء والرياضيات – يجب أن ترتبط بشئ مفيد فإذا لم يكن ذلك وجب علينا تجنبها.
العلاقة الثانية التي تربط التكنولوجيا بإرضاء الحاجات والرغبات البشرية مساوية للأولى:
فمما لا شك فيه أن أرضاء الحاجات البشرية أمر تعنى به القوانين الأخلاقية، تلك القوانين التي لا يمكن أن تستمر إلا في حدود القيم والغايات التي حددها الله سبحانه وتعالى .. وأي ارضاء أو انتهاك أو انكار لهذه الاحتياجات يتم بصورة غير منظمة يعتبر انحرافًا عن الغاية من وجود الانسان نفسه .. لذلك فاخضاع ارضاء الرغبات للقوانين الأخلاقية مساو لاخضاع التكنولوجيا، وفي النهاية لاخضاع العلم نفسه لهذه القوانين. وبذلك نصل إلى نتيجة حتمية ألا وهي ارتباط ضروري بين العلم والتكنولوجيا وبين الأخلاق ذلك ما يجب أن يكون واضحًا كل الوضوح سواء استفادت منه البشرية أم وجدت فيه شرًا. زانكار هذه الصلة هو انكار لحقيقة الدعائين اللذين تعلمناهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنحن إذا تلونا الدعاء مرة، فقد وجب علينا أن نأخذه مأخذ الجد وأن نهتم بتطبيقه كل الاهتمام.
ان التقدم من العلم إلى التكنولوجيا ومن التكنولوجيا إلى تحقيق الرغبات الإنسانية ومن الأخيرة إلى تحقيق المثل العليا يعتبر هو التسلسل المنطقي الذي رسمه لنا الله سبحانه وتعالى.
لقد خلق الله الإنسان لعبادته «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» والعبادة تتضمن خلافة الله في الأرض «إني جاعل في الأرض خليفة» والخلافة هي إعمار الأرض «وجعلناكم خلائف في الأرض لننظر كيف تعملون». والاعمار يتضمن بناء الحضارات المدنيات وهذه بدورها بكل متطلباتها تتضمن العلم والتكنولوجيا لغاية كبرى «لتكون كلمة الله هي العليا».
وبهذا التسلسل المنطقي يرينا الله سبحانه وتعالى الطريق الصحيح للسعادة وليس هناك طريق آخر، وعلينا التقيد بأوامر الله بنفس التسلسل لنجني السعادة والا سيكتب علينا الشقاء.
وهنا يفرض السؤال نفسه … هل نحن اليوم ملتزمون بأوامر الله؟ هل نحن ملتزمون بالتسلسل المقدر علينا للبحث عن السعادة؟ أم أننا ندور حول الهدف محاولين اختصار الطريق أملا في الوصول إلى السعادة من أقصر سبيل؟ .. وهل محاولاتنا في الماضي نجحت أم باءت بالفشل؟
إن المسلمين اليوم هم آخر من يفكر بطريقة علمية، ومازالوا يعتمدون على ما ورثوه من خرافات العصور الوسطى البائدة باحثين عن السعادة بطرق تبعد كل البعد عن العلم والتكنولوجيا، مستعينين في ذلك بالسحر والشعوذة وعلم التنجيم .. وهذه الطرق علاوة على فشلها فهي تمثل نوعا من الكفر. وقد حذر الامام محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة الوهابية في الجزيرة العربية من مثل هذه التصرفات لأنها تنسب إلى غير الله تعالى القدرة على تقرير الأحداث وتغيير الأمور ونحن بتوسلنا إليها إنما نرتكب نوعًا من الشرك الصريح لأننا بذلك ننسب إلى الله تعالى شركاء في هذا الكون.
وإنه لمن الشرك الصريح الاعتقاد في أن للطبيعة القدرة على التغيير الذاتي دون تدخل في الإرادة الإلهية. وحتى لو أفترض أن القوة التي تتدخل ليست الها آخر إذا فماذا يمنع السحر من أن يدعي القدرة على جلب التدخل المطلوب في الإرادة مثل الإرادة الذاتية أو الآلهية والتي ليست من الله تعالى الخالق الأعظم وسيد هذا الكون.
وإذا قيل أن الأرادة الفعالة هي من الله تعالى ولكن يتخذ إليها وسيلة من بعض العباد – كما يدعي بعص الصوفية أنها نوع من كرامات الأولياء. إذا فالتوسل إلى الارادة الإلهية لا يعدو أن يكون نوع من صلاة الحاجة التي يستطيع كل إنسان أن يقوم بها. دون وسيط ولا أحد منا نحن البشر يملك أمتيازاً خاصًا ليؤثر به ويصل من خلاله إلى إرادة الله دون سائر البشر. فكل العباد متساوون أمام الله تعالى وهو وحده الذي يستجيب لتوسلاتهم حسب ارادته.
والنتيجة الحتمية هي زيف ادعاءات المشعوذين والمنجمين وكل أولئك الذين يتخطون العلم والتكنولوجيا ويحاولون تحقيق السعادة البشرية بطرق أخرى.
لقد ناقشنا آنفا ارتباط العلم بالقيم ولقد توصلنا الى نتيجة أن الإسلام يحض على تحقيق المثل العليا بواسطة العلم والتكنولوجيا. هذه المناقشة قد أشارت إلى فائدة العلم. ومن هنا يمكن تسميتها المناقشة الأخلاقية. ولقد بدأت بتعريف افتراضي للعلم كاختبار للطبيعة في سبيل كشف قوانينها ونماذجها. وتعتبر نفسها باستخدام منائج العلم بالتحديد «المعرفة بقوانين الطبيعة». ولقد تركت جانبا دون مساس طبيعة حب المغامرة العلمية. ومعظم المدافعين عن العلم اليوم يؤكدون أن العلم أخلاقي وهو يخضع فقط لقوانينه الخاصة والتي لا تنتمي إلى دين أو مذهب.
يدعي البعض أن النشاط العلمي ذات طبيعة الحادية تنكر وجود الله سبحانه أو تفصل بين العلم والدين على أقل تقدير. وهم يفترضون أن الكون يؤدي وظيفته على أكمل وجه بحركة آلية مجردة. والعلم في نظرهم هدفه كشف الأسباب المادية الفعالة. وهذه مهمة لا يمكن تحقيقها بنجاح خاصة إذا كانت الطبيعة هي مجال البحث، ولوجود قوى أخرى غيبية غير ملحوظة ولا يمكن قياسها تؤثر في الطبيعة ألا وهي قوة الله سبحانه وتعالى.
إن هذه المناقشة لها حدان من وجهة النظر الإسلامية، حد نظري وهو الذي يفصل بين الله سبحانه وبين الطبيعة والمعمل العلمي. وحد أخلاقي يصطدم بالمقولة الأفتراضية التي تعتبر الأستفادة من قوانين الطبيعة بواسطة العلم وتنكر وجود الله كلية.
وتستند فكرة العلم اللا ديني على دعامتين آكدهما أو هي من الثانية فالأولى تدعى – بأسم العلم – أن هذا الكون ليس له خالق وأنه وجد وسوف لا ينتهي، وتؤكد أن فكرة الخلق فكرة غير علمية. ونجيب على هذه المقولة بأن بداية الخلق ونهايته أمر مرفوض مسلم به. وطالما أن الأمر لا يمكن اجراء تجارب عليه فكيف يستنتجون النتائج ويسنون عليها قوانين ثم يسمونها قوانين علمية.
والحجة الثانية وهي أوهى من الأولى تحاول اثبات أنها تبحث في محاكاة نماذج الطبيعة من خلال معتطيات موجودة. أي في الماديات التي يمكن قياسها وتتجنب الحالات الغيبية، وتقتفي أثر السبب والمسبب الذاتي في المادة بافتراض غياب تأثير قوة الله سبحانه – هذا على اعتبار أن وجود الله أصلا حالة افتراضية غير مجزوم بها عند العلمانيين – وهؤلاء وضعهم يعادل وضع المنكرين لوجود الله سبحانه.
وردنا على هذه المقولة هو أنها ترتكز على ثلاث دعائم من سوء الفهم:
أولاً: أنها تفترض أن الله سبحانه وتعالى موجود وهو بقوته وارادته وراء وجود الكائنات كلها وحدوث الأحداث. وهذا ما يؤكده الإسلام.
بالمقابل – في ادعائهم – ينبغي على العلم – أو يمكن للعلم – أن يهتم بالبحث عن السبب الروحي في كل الأحداث الطبيعية – وحيث أن الروح ذات طابع معنوي لا مادي إذا فالبحث هنا غير منطقي كمن يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة والقطة غير موجودة. إذا فهذا الإدعاء باطل.
إن الإسلام لا ينظر إلى تسبيب الله سبحانه وتعالى للأحداث في الطبيعة على أنه آني أو محصور في التغيرات المادية فقط. ولكن الله سبحانه يؤثر من خلال مسببات وأفعال صادرة منه، ويتم الحدث بإرادة الله نتيجة إلتقاء عدد غير محدود من الأسباب والمسببات في نقطة محددة من الزمان والمكان. ربما يستطيع العلم ادراك سبب أو أثنين من مسببات حدث ما ولكنه أبداً لا يستطيع شرح أو ادراك كيفية تجمع ذلك الكم من الأسباب لينتج الحدث.
انها إرادة الله.
ثانيًا: انها تفرض أن تسبب الله سبحانه للأسباب لابد وأن يكون له مظهر مادي. وغني عن التوضيح أن أي سلسلة من الأسباب المترابطة لابد وأن تبدأ بسبب رئيسي وجوهري وتسعى إلى غاية لتحققها وكلا الأمرين السبب الأولى والغاية النهائية أمران لا يمكن أخضاعهما للتجارب العملية وهما سنة الله تعالى في خلقه. وإذا غابت عنهم الحكمة من الأسباب والهدف من الغاية فكيف يخلصون إلى نتيجة علمية؟
ثالثًا: النقطة الثالثة في سؤ الفهم تعتبر أن الغرض من التغيير الناشئ عن تسلسل الأسباب والمسببات هو نهايتها الحتمية لا أكثر من ذلك.
في الماضي تجاهل العلماء الطبيعة واليوم بدأوا بالتدريج يدركون حقيقتها الواقعة. ذلك الاهمال للطبيعة في الماضي أدى إلى جهلها وذلك أدى إلى نتائج مشئومة وهو ما نسميه اليوم باختلال التوازن بين الأحياء والبيئة والتي نعزوها إلى الاستغلال غير المسئول وغير المنظم لموارد الطبيعة.
فالطبيعة ما هي إلا نظام مركب من الأسباب والمسببات لها غاية محدودة وهذه الغاية بالطبع ليست مادية ولا يمكن قياسها وأخضاعها للحس المادي وبالتالي فالنتائج المترتبة عليها تنطبق عليها نفس المواصفات – لا تحس ولا تقاس كميًا.
والعلم غير مجهز ولا قادر على التعامل مع هذه المقولات البديهية القيمية.
كل شيء خلق لسبب وله غاية. قال تعالى «ربنا ما خلقت هذا باطلا» وقال أيضًا «وكل شيء خلقناه بقدر» ولقد خلق الله الخلق وقدر على كل مخلوق أ يخدم الآخر بطريقة ما، وسخر العالم بأسره لخدمة الأنسان وسخر الأنسان لعبادته سبحانه.
هل يستطيع العلم أن يؤدي دوره بدون الأعتراف بوجود اله سبحانه؟ معظم العلماء تأثروا بالأفكار الغربية الالحادية التي بدأت في القرن السابع عشر وبلغت أوجها في القرن التاسع عشر لقد كان معظمهم – في هذا القرن – يستطيع الاجابة على هذا السؤال بالأثبات. وأولئك الذين أصروا على عنادهم حتى حلول القرن العشرين لم يكونوا أقلية ولقد تعزز موقفهم بالأنجازات العلمية الضخمة في مجال الطبيعيات وعلم الفلك.
واليوم نادراً ما نجد عالمًا بارزًا يوافق على هذه النظريات الالحادية. حتى معظم العلماء المسلمين المعاصرين قد تأثروا بهذه النظريات الالحادية ولكنهم حصروها في حدود العلم فقط. وبذلك انقسمت عقولهم إلى قسمين يعمل كل منهما باستقلالية عن الآخر منتجة شخصية معقدة ومنقسمة على نفسها.
ونستطيع الاجابة عن ذلك السؤال «هل يستطيع العلم أن يؤدي دوره بدون الأعتراف بوجود الله سباحنه؟» نستطيع أن نجيب بالاثبات إلا كان المقصود هو البحث في الشيء المدرك المحس في الطبيعة والذي له سبب مادي فعال وآثار مادية آنية الحدوث. أي إذا كان من الممكن علميًا احداث السبب والأثر والنتيجة، مثل هذا الأستقصاء يمكن أن ينجز دون الرجوع إلى مسببات مطلقة أو إلى القيم الافتراضية للغايات والآثار وبغض النظر عن النتيجة سلبًا أم إيجابًا.
أما إذا كان المقصود بالعلم هو محاولة الأنسان لتفهم البيئة العالمية الشاملة المحيطة به هنا لابد له من نظرة شاملة عامة على الخلق بأسره. لأن العلاقات بين العوامل المختلفة في الطبيعة من عنصرية ونباتية وفضائية تبدو مبتورة إذا أخذ كل منها على حدة، ولكن بعضًا من نفاذ البصيرة يعتبر أمراً ضروريا ليربط بينها ولتكوين علاقة سببية ويتشكل منها كل لا يتجزأ يعمل في توافق وأنسجام.
لقد دار جدل فلسفي كبير حول امكان أو استحالة قيام العلم دون اعترافه بوجود الله. وكان مدار القضية حول مشكلتين في نظرية أو فلسفة العلوم. فالعلم – مع الأعتراف بوجد الله أو مع أنكاره – يشكل جانبًا لاهوتيا لقضيتين غيبيتين:
- هل تغد المسببات التجريبية سببا بدون بديهيات أخلاقية؟
- هل تعتبر أحداث الطبيعة حقيقة بدون بديهيات أخلاقية؟
لقد حلت هاتان القضيتان من وجهة النظر الإسلامية. فقد تحدى الإمام الغزالي الفلاسفة الذين يقولون بذلك وعلى رأسهم ابن سينا منذ مئات السنين. يقول ابن سينا أن الطبيعة كانت نظامًا محكمًا يتكون من خيوط من الأسباب والمسببات حيث يتبع السبب المسبب بطريقة آلية. هي بداءة من خلق الله ولكن بطريقة تجعلها تسيِّر نفسها بعد ذلك بنفسها ويعتبر أن كل نقطة في الزمان والمكان يتولد منها ذاتيًا النقطة أو الحدث التالي.
ونظرية الدفع الذاتي هذه لا تحتاج إلى أله ليسيرها. فالله قد خلق الخلق مرة واحدة واستراح بعد ذلك ليسير الكون نفسه ذاتيًا وآليا بعد ذلك، هذا على حد زعم ابن سينا ومن نحا نحوه. وتصادف أن تكون هذه وجهة نظر علماء الغرب في علاقة السبب بالمسبب في القرن التاسع عشر.
وانبرى الغزالي للدفاع عن الحقيقة متهمًا ابن سينا ورفاقه الفلاسفة بالكفر والردة. لأنهم بادعائهم ذلك يمنحون الطبيعة القوة الذاتية لتسير نفسها بنفسها فوضعوا بذلك الطبيعة من حيث قوة الارادة جنبًا إلى جنب مع الله سبحانه وتعالى. ان الله تعالى بقوته وعظمته هو صاحب الارادة في كل الأحداث في هذا الكون فهو يجعل الضوء ينير، الأمطار تسقط، الأشجار تنمو، الدجاجة تبيض، وهو سبحانه الذي يتحكم في أقدار البشر.
وكل ذلك من أحداث الطبيعة الضرورية وهي أيضًا نتائج حتمية لأسباب ضرورية لا يمكن أن تأتي على غير ما هي عليه.
وهذه المناقشة القيمة تتعلق بخيط واحد هو الشاهد الوحيد لصالحها. هذا الشاهد هو حتمية الأسباب والمسببات ويكمن في الحكم بأنه إذا جاء السبب تبعه الأثر.
ولقد سبر الأمام الغزالي غور هذا الشاهد وأدركه كما أدركه دافيد هيوم «David Hume» بعده بما يزيد عن ألف عام .. ان تتابع الأثر عقب السبب مباشرة – وهذا هو كل ما في الشاهد – يؤكد الحتمية السببية.
مثل هذا التتابع لنفس النتيجة بعد نفس السبب ربما يتكرر في الطبيعة وربما يتكرر في التجربة الحكمة أيَا ولكن التكرار لا يحول التتابع إلى حتمية سببية، وكما قال جورج سانتايا «George Santaya»في كتابه الشكية وإيمان الحيوان «ٍSkepticism and Animal Faith» ربما يقنعنا التكرار بما نحن عليه من بساطة وسذاجة بالحتمية، حيث لا يوجد غير التتابع، ولكن ليس مثل كلب بافلوف «Pavlov» الذي كان مقتنعًا بأن رنين الجرس هو شرط حضور الطعام. أو كالطفل الذي يقنع بأن رنين الجرس هو شرط قيام القطار من المحطة. ولقد عبر الإمام الغزالي عن ذلك أجمل تعبير حيث قال «ليس من الضروري أن يتبع التابع المتبوع».
إن دحض الغزالي للفلاسفة في «تهافت الفلاسفة» ليقف أثرًا باقيًا فعالًا في وجه أي ادعاء يدعيه مسلم أو غربي بأن للكون حركة آلية ذاتية.
إن الادعاء الذي أنتشر في القرن التاسع عشر والذي يقول بالسببية الحتمية قد جاء متأخرًا، متجاهلًا مساهمة الغزالي في ذلك الميدان، ولكنه ظهر إلى حيز الوجود بفضل جهود علماء غربيين.
ومنذ آينشتاين «Einstein» فتح عالم جديد من الطبيعيات حلت فيه اللا حتمية محل الحتمية.
ولكن ما هي اللا حتمية؟ أليست هي إنكار الحتمية في الطبيعة؟ أليست هي حقيقة أن الغاية السببية لا تنطوي بالضرورة على غاية أبعد مما يكمن فيها بالفعل؟ وهذه الغاية ربما يترتب عليها أثر مختلف عما يرافق السبب المعطى عادة. وذلك الأثر الناتج عن السبب لم يكن ضرورة حتمًا؟ أليست هي بالتحديد ما نعنيه بتسبيب الله سبحانه للأسباب؟ عندما نفهم جيدًا أن الله تعالى يعمل بقدرته من خلال وسائل ووسائط متعددة ولكن هو سبحانه الذي يجمع هذه الأقدار لتلتقي في نقطة محددة من الزمان والمكان ليتم حدوث أمر معين من أمور لا حصر لها محتملة الحدوث لنفس السبب.
ان الحقيقة لها طرفان … الخالق والمخلوق … فإذا عجز المخلوق عن إحداث الحدث والنتيجة بقدرته الذاتية فعليه أن يستلهم القدرة من خارجه أي من الخالق سبحانه وتعالى.
وإذا اعتبرنا أن للحقيقة مجالًا واحداً ألا وهو الطبيعة معنى ذلك أن نعتبر السببية ذات خاصية أدراكية.
ومن جهة أخرى إذا اعتبرنا الحقيقة مؤلفة من ثلاثة أطراف أو أكثر. أحدهم ليس الها وهو المسئول عن أحداث النتيجة والأثر، هذا الاعتبار معناه ازحام الكون بلا مبرر.
وبغض النظر عما إذا كان العالم في بحثه يستطيع أن يضع أصبعه على القدرة الألهية ويركها إلا أن هناك شيئًا واحدًا أكيدًا هو أنه لا يستطيع أن يستنفد هذه القدرة.
إن الطبيعة اللانهائية للقدرة الألهية تنعكس على المجال اللانهائي للاحتمالات القابلة للتجمع في أي نقطة من الزمان والمكن وتجعلها سببًا منتجًا للنقطة التالية.
إن العالم يستطيع أن يتحقق من العلاقة الحاسمة لبعض هذه العناصر المحتملة ولكن من غير الممكن ادراك وأستقصاء كل العناصر. ان لانهائية هذه العناصر الفعالة هي أساس نظرية اللاحتمية. ان تمثلهم في عدد لا نهائي من المقدرات المحتملة للتأثير في أي نقطة من الزمان والمكان هي أساس رفع نظرية اللاحتمية إلى المستوى الغيبيات وعالم ما وراء الطبيعة.
وهكذا فقد أعيد في النصف الثاني من القرن العشرين بعث الحقيقة التي أسسها الأمام الغزالي منذ ما يزيد عن الألف عام، والآن إذا تأكدنا أنه يجب علينا أن نكون عصريين علميين … سيظهر السؤال التالي:
على أي مذهب سنكون علميين؟ هل على أساس من ذلك الفكر العتيق البالي للفلاسفة المسلمين في العصور الوسطى والذي أعيد بعثه على أيدي علماء الغرب مع شيء من التعديل في القرن التاسع عشر؟ أم على أساس أدراك وفهم الأمام الغزالي والذي بعث أيضًا مع قليل من التغيير في النصف الأخير من القرن العشرين؟
وبكل وضوح سنختار الطريق الثاني – وهو فهم وأدراك الأمام الغزالي. ولكن لكي نكون علميين بهذا المستوى من الحس والأدراك يجب أن نكون مسلمين حقًا. ولسؤ الحظ فإن معظم مسلمي العالم مازالوا يعيشون تحت ظلال العصور المظلمة يعتقدون في الطلاسم وشتى ألوان السحر.
حتى في جامعاتنا الإسلامية نجد أخواننا المستنيرين بالثقافة يتشدقون بفلسفات القرن التاسع عشر العلمية، ولا يعيشون عصرهم ولا يؤدون ما عليهم من واجب نحو تعلم أسلوب التفكير العلمي المعاصر في الغرب جاهلين بتراثهم الإسلامي عاجزين عن الاستفاجة منه وربطه بالتطورات الحديثة.
الأساس الثاني الذي يرتكز عليه العلم الالحادي هو ادعاء أن الطبيعة ذات خاصية مادية بحتة لدرجة تؤدي إلى أنفصالها تمامًا عن علم القيم الأخلاقي. وهذه المناقشة عادة يقدمها العالم أو الملاحظ في صيغة من الاستقلالية عن معطيات الطبيعة. ومهما كان القرار الشخصي للعالم عن القيم الأخلاقية فإن معطيات الطبيعة تبقى كما هي، وهذا الادعاء يفترض تواجد القيم الأخلاقية في الشخص الملاحظ وينكره في الشيء الملاحظ وعلى هذا الأفتراض يعلن الملاحظ مجردًا من القيم الأخلاقية ويتجاهلها أن وجدت في الشخص الملاحظ.
وربما يسأل سائل ما هو أساس ذلك الأفتراض؟ أليس هو محاولة اختزال حقيقتين متميزتين في حقيقة واحدة؟ وإذا كان الأفتراض ينكر وجود حقيقتين ويرى واحدة فقط بينما يرى الرأي الآخر أنهما حقيقتان فكيف يمكن حل هذه المشكلة؟
إن أدعاء الأختزال يعرف في علم الأخلاق والقيم بخداع الطبيعة. وجوهره تطابق الحقيقة الواقعة مع القيمة، تطابق الرغبة مع المرغوب، أو تطابق ما هو كائن مع ما ينبغي أن يكون والعكس صحيح.
إنه يسير عكس الفطرة السليمة وضد بعد نظر الغالبية العظمى للجنس البشري التي تجد لهذا السؤال معنى… وبعد كل تقدير ووصف للحقيقة المادية، ومهما كانت مستنفدة، مرغوبة أم غير مرغوبة، وبغض النظر عما ينبغي أن تكون عليه وحتى لو كانت هذه الحقيقة ملتزمة بما ينبغي أن تكون عليه أو بمعنى آخر لو كانت كاملة، لا يزال من المهم أن نسأل ما إذا كانت الحقيقة الكاملة ينبغي أن تكون كما هي؟ .. كاملة.
وهكذا لا توجد نقطة يفقد عندها السؤال مغزاه، ما هو الشرط الأساسي الضروري للافتراض الذي تفرضه المناقشة، في الحقيقة إذا طرح السؤال على أساس الطبيعة المادية للأشياء فإن في ذلك تكرارا لا معنى له. أما إذا طرح السؤال على اعتبار أخلاقي فسيتجه الموضوع إلى منحى آخر بعيدًا عن الحشو والتكرار.
لم تخطئ الإنسانية في طرح مثل هذه الأسئلة باعتبار الرغبة وما ينبغي أن يكون وقد فعلت ذلك منذ أن بدأت في الوجود. ولقد كان هذا السؤال في الحقيقة هو نقطة الفصل لحياة الانسانية كلها على وجه الأرض، وعكس ذلك خداع وزيف.
إن افتراض أن الحقيقة قائمة على التجربة فقط هو افتراض يرتكز عليه الشاك، في مناقشاته فقط، أما في حياته العملية فهو يتصرف طبقًا للقواعد المؤسسة على بعد نظر الجنس البشري بأسره. هو نفسه يسأل أسئلة في المرغوبية وما ينبغي أن يكون في كل لحظة من حياته، حتى في أدق مناقشاته ضد موقف الإسلام يدحض افتراضه نظراً لأنه يفترض أنه من الأفضل للحقيقة أن تبحث وتعرف فضلا عن أي شيء آخر.
هذا الموقف مثل موقف الشاك ابيمندس «Epimenides» الذي أدعى أن كل الكريتين كذابون بينما يدحض ادعائه ذلك بحقيقة أنه هو نفسه كان كريتيًا.
إن العلم الالحادي – أو علم القيم الافتراض كلاهما تمثيل سيء للحقيقة، لأنه لا يوجد ادراك للحقيقة التجريبية دون أن يصحبه في نفس لاوقت ادراك للحقيقة الافتراضية حول نفس الشيء. اننا لا نرى من المعطيات ولا من أحداث الطبيعة الا ما يحتل بعض المواقع في حدود المتوقع والمرغوب فيه. ونحن إذ نتكلم عن العلوم وعن طبيعتها أنما نتكلم في المجرد المطلق. ففي الحياة الواقعية لا يوجد فصل تام بين التجربة والافتراض فهما وجهان لعملة واحدة. وهما وجها الحقيقة. وعلى ذلك فالعلم الالحادي ربما يحظى بقليل من الصحة المحدودة لكنها ليست مطلقة ولا عامة. وكما أن العلم يعجز عن الوصول بالفرضيات إلى حقيقتها المطلقة فكذلك استنتاجاته التجريبية تتسم بالنقص وعدم الوثوق بها. وهنا مجال الأستقصاء واسع ومهول كالفضاء الخارجي. فالعلماء وهم يسيرون غوره أشبه ما يكونون بمستكشف يسير بليل في غابة وليس معه إلا ضوء مصباح صغير. ولقد دفعت العلوم الحديثة – مثل الانشطار النووي وعلم الوراثة – بالسؤال حول القيمة في المعرفة العلمية إلى حيز الوجود. ومازالت الأنسانية المعاصرة تتطلع إلى اجابة شافية على هذا السؤال ولن تجدها الا في الإسلام.
ملاحظة أخيرة تحتاج إلى تجلية تتعلق بالعلمانية الغربية، فطبقًا لأقوال العالم الكيميائي جيمس كونانت «James Conant» لذي كان رئيسًا لجامعة هارفارد أن العلم ليس بحثًا عن الحقيقة في الطبيعة للبحث عنها. ولقد تحرك العلم فيما وراء ذلك الأدعاء الذي يبحث عن قوانين الطبيعة. أنه يعتبر الطبيعة نموذجًا أسس بطريقة ثابتة غير قابلة للتغيير ولكن بطريقة علمية وبالتدريج. فالعلم المعاصر في أمريكا – طبقًا لأقوال كونانت – ليس مهتمًا بالبحث عن الحقيقة لأنه لا يوجد مثل هذا الشيء المسمى حقيقة الطبيعة وأنه ليس من الممكن الاقتراب من شيء غير موجود. العلم يتعامل فقط مع الفرضيات الظنية ولا يسأل عما إذا كانت فرضية أصدق من أختها وأنما ينظر إليهما أكثر من الأخرى عطاء لما هو مرغوب ومطلوب.
إن علاقة الفرضيات الظنية بالحقيقة هو مجرد شكل من أشكال الحوار، ولكن هذه العلاقة لا وجود لها. وعلى العكس من ذلك فإن علاقة التكنولوجيا بثمارها هي العلاقة الحقيقية الوحيدة الموجودة. وذلك ما يجعل من الخطأ التحدث عن الحقيقة على أساس من الفرضيات الظنية. والعلم هو الطريقة التي تبحث بها عن النتائج والثمار. ومن هنا فهو يتحرك من فرضية إلى أخرى بلا تردد حول أقترابها أو أبتعادها عما يسمى بحقيقة الطبيعة.
وبالنسبة للنتائج فهي على ما ينبغي أن تكون عليه مهما كان هدف انشغال الرجال بما يؤدي إليه البحث العلمي بواسطة الفرضيات الظنية وما تؤدي إليه من تقنيات حديثة.
هذه المبالغة في العلمانية أنتشرت في الغرب خلال وبعد الحرب العالمية الثانية وهي تتجاهل تماما حقيقة الطبيعة قلبًا وقالبًا ولا تميز بين النتائج وبعضها. وهي بالنسبة لها كلها حقائق طالما فيها مصلحة كافية لتمويل عمليات البحث العلمي الضرورية.
إن المعايير مستبعدة كلية من كل من الطبيعة والعالم مثلما هي مستبعدة من نتائج التكنولوجيا العلمية.
وبوضوح فهذه هي نهاية المطاف. فقد أدت الشكية إلى نهايتها الأخيرة وهي العدم – والضياع.
إن صاحبنا مستكشف الغابة في الليل بمصباح صغير بات غير منتبه – وبعجرفة – لما تنطوي عليه الغابة من أخطار تهدده.
إنه يظن أن الممر الضيق الذي يمر به هو كل شيء في الغابة، انها فقط مسألة وقت قبل أن يواجه بالمأساة. ان تلوث الكرة الأرضية، وأختلال توازن البيئة، وسلسلة التفاعلات النووية وأستنزاف عناصر الطبيعة الضرورية للحياة – أي واحد من هذه الأخطار – ومئات أخرى تترصد له في هذه الغابة.
إن فروقًا هائلة تميز علم الغرب عن العلم الإسلامي حول الطبيعة. هنا يوجه البحث دائمًا وأبدًا إلى سنة الله الثابتة في الطبيعة، إن الطبيعة ليست غابة شيطانية وضعت ليفنى فيها الإنسان. ولا هي مجهولة شرير كتب على الإنسان أن يقهره ويسيطر عليه. أنها ليست هبة مشاعة بدون مالك حيث يستطيع الأنسان أن يسيء أستعمالها ولا هي كتلة خامدة لا قيمة لها غير مستجيبة لما يحدث لها. أنها نظام عضوي جيد الأحكام من الأسباب والأهداف. خلقها الله سبحانه وتعالى وأمدها بأسباب البقاء ومنحها فعالية الأسباب والمسببات.
إنها مسرح محكم وضع الله الأنسان فيه ليثبت جدارته، فأفعاله طيعة مفتوحة للقرارات التي يتخذها الأنسان تحقيقًا للأهداف التي يسعى إليها والتي تجعلها منبعًا للخير أو الشر تبعًا لخياراته وأحكامه.
إن الأنسان مكلف بالمعنى المطلق ليحقق القانون الأخلاقي بمساعدة الطبيعة. فحقه في الانتفاع بالطبيعة – بناء على ذلك – محدود بالأمر الألهي الذي أعطى القانون الأخلاقي مضمونه أما العلم أو المعرفة بحقائق الطبيعة فهي بناء على ذلك لا تعد معرفة مالم تكن محدودة بهذه المباديء.
وكما وضحها الأمام الغزالي من قبل
«طلبنا العلم لغير الله – فجاءت النتيجة معرفة جاهلة – فأبى العلم أن يكون إلا لله»