تمهيد:
إن الغرض من الطب, كما دل عليه الاستقراء, أحد أمرين هما: حفظ الصحة, وإزالة المرض.. والعلاج الناجع في الحالين بسلوك الوسيلة المناسبة, وقديمًا قالوا : حفظ الصحة يكون بمثلها, وإزالة المرض يكون بعكسه
. ومفاد هذه المقولة أن الصحة لا تدوم إلا بالاستمرار في سلوك المناهج القويمة الملائمة للطبيعة غير المنافرة للفطرة, والمرض لا يزول إلا بمقاومته بالأسباب المضادة له لأنها يغلب فيها مخالفة ما يعتاده الإنسان حال الصحة والسلامة..
والمراد مما تقدم أن هذين الأمرين (حفظ الصحة وإزالة المرض) يتطلبان الأخذ بكثير من الوسائل الطارئة على مألوف الإنسان, وتطبيق جملة من المبادئ التي يتحقق بمراعاتها استدامة الصحة واتقاء المرض أو درؤه بعد الوقوع.
على أن الصحة والمرض ليسا من خصائص الأجسام العضوية وحدها, بل هما مما يطرأ على النفوس والأرواح أيضًا, انطلاقًا من أن الإنسان ليس جثة ناطقة فسحب, بل هو نفس عاقلة. والتشريع الإلهي يربأ بالإنسان أن تنحصر همته في استدامة الحياة للحواس والأعضاء ولو كان صاحبها (ميت الأحياء) ذلك أن من وراء الضرر المادي: أضرارًا تلحق بالدين باعتباره وضعًا إلهيا ينظم محتواها بالغايات الرفيعة, أو تعتري النفس العاقلة السوية التي يفلح من زكّاها ويخيب من دسّاها, أو تخل بالتعايش الاجتماعي بين الإنسان وأخيه من بني آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا.
ورعاية هذه الأسس استوجبت إرساء الشريعة العديد من المبادئ التي تتناول, بالإضافة إلى مشروعية التطبيب والعلاج, تنظيم إجراءاته وملابساته ورسم السبل المثلى لتصرفات الطبيب المداوي, والمريض الشاكي, لتحقيق الهدف من خلال الوسائل السليمة ضمن إطار التعاليم الإسلامية, وهذه أبرز معالم الطب الإسلامي, كيلا يكون دفع الضرر عشوائيًا, على نمط الاستجارة من الرمضاء اللافحة بالنار الحارقة.. ولا يخفى أن إضفاء المشروعية على أصل فكرة التطبيب والعلاج. لا يستلزم إطلاق العنان لمتطلبات ذلك؛ لأن الشريعة الإسلامية كما اهتمت بتحديد المقاصد والأهداف جاءت بتنظيم الوسائل والأسباب, فإن اختيار الوسيلة السليمة من شأنه تمام الغرض واكتمال الوسيلة السليمة من شأنه تمام الغرض واكتمال الثمرة. وذلك للوصول إلى ما تترجح فيه المصالح على المضار, فإن المصالح المحضة نادرة جدًّا كما قرر المعنيون بالاستنباط من علماء الشريعة, ولذا اكتفى برجحان المصالح في أمر على ما يكتنفه من مضار, كما روعي أثر الوسائل في زوال المصلحة, بأن يؤول إلى أن ما يستهدف بها من منافع يضر كالمضار الخالصة أو أشد.
لا يختلف المراد بكلمة «مبادئ» هنا عن مقتضى الاستعمال في مختلف العلوم ولا سيما الاستعمال الحقوقي الأقرب في الطبيعة إلى الفقه واستعمالاته.. إلا أن كلمة «مبدأ Principal» يؤثر عليها علماء الشريعة كلمة «قاعدة» فهي المتداولة للدلالة على المعنى نفسه فيما يشمل معظم القضايا الجزئية في موضوع ما, ويحمل الطابع الكلي في الصياغة, وهي ثمرة صياغة جماعية تعاقب عليها التطوير والصقل واكتسبت مزايا التعقيد والدقة والأحكام. وهي – لما تتسم به من الإيجاز والسعة تشبه جوامع الكلم, بالرغم من أسلوبها العلمي المفتقر إلى المقومات الأدبية.
على أن هذه المبادئ أو القواعد ليست دائمًا مطردة, بل هي في بعض الأحيان أغلبية, لا تنفك عن استثناء محدد من شأنه عصمة القاعدة من الاضطراب والتردد..
وينبئ عن أهمية هذه القواعد اعتبار العلامة القرافي إياها من زمرة أصول الشريعة حيث قسم تلك الأصول إلى (أصول الفقه) أي العلم المعروف وإلى (القواعد الكلية الفقهية) وبين أن الإحاطة بهذه القواعد توضح مناهج التعرف إلى الأحكام وتغني عن حفظ جزيئات لا حصر لها..
وإذا كانت للمبادئ أو القواعد هذه الفائدة الفنية للمختصين في الفقه, فإن من فوائدها لغيرهم, كالطبيب وأمثاله, تكوين الإلمام السريع بجوانب الموضوعات التي تنظمها تلك القواعد -أو المبادئ- وتيسير التعرف إلى الأحكام الشرعية التي يحتاجون إليها في مجال الممارسة من خلال منهج وسط لا هو مسلك الاستنباط المستوعر على غير من له ملكة فقهية وأهلية اختصاصية تتيح له الاستقلال في النظر وبذل الجهد الفكري, ولا هو المنهج البدائي لتلقي الأحكام المنثورة من غير أن ينتظمها أصل تنضوي تحته وهو منهج لا يغني سالكه عن دوام التلقي الحرفي واستمرار الحاجة للتلقين..
إن هذه المبادئ وإن كانت لها تطبيقاتها العامة في شتى المجالات, يعتبر التطبيق الدقيق والاستثمار الخطير لها متمثلاً في مجال التطبيب والعلاج, لخطورة آثار التسويغ أو المنع من حيث صلتها بمقصد من مقاصد التشريع هو (حفظ النفس البشرية وسلامتها) وهو على رأس (الضروريات) المعتبرة من أهم مقاصد التشريع الإسلامية.
ولما كانت سلامة التطبيق لا تتاح في الميدان النظري بل تفتقر إلى من يملأ ثغرات التصويف الصحيح, ويرجح أقوى الاحتمالات الدائرة في كل أمر من الأمور قبل اللجوء إلى عنصر التجربة أو مقتضى المقولات المحتكم إليها في كل اختصاص.
فإن من أهداف هذا البحث- وأمثاله- زيادة الوشائج التي تصل بين الفقه والطب وتسهل تناول الفقه المحتاج إليه للأطباء خاصة أو غالبًا, إذ لا بد أن توضع بين أيديهم بالإضافة إلى البيانات المباشرة لبعض التصرفات – طريقة الاحتكام إلى المبادئ (القواعد والضوابط)- التي هي النبع الثري للتطبيقات, وبها يسهل لهم أيضًا أن يولوا الأهمية للعناصر المؤثرة في وضع التصورات الصحيحة التي لا يقدر طرف واحد على تولي الفصل فيها, وبمثل هذا التعاون يتحقق الوصول إلى معالم الطب الإسلامي ذي الخصائص المميزة له كعلاج للروح والبدن معًا, ومظهر من مظاهر العدل والإحسان والتعاون على البر والتقوى.
لقد اشتملت الشريعة الإسلامية (وما صدقته من سابق الشرائع السماوية) على مبادئ وقواعد تنبرى أحيانًا للحض على اجتلاب المصالح, وتنهض أحيانًا لدرء المفسدة واجتناب المضار, فإذا كان الضرر عصيًّا عن الإزالة إلا مع أثر يخلفه أجريت الموازنة بين الضررين للركون إلى أخفهما.. وفي ثنايا هذا المبدأ جملة من القواعد الدقيقة التي تفرز الأضرار بحسب متعلقاتها من الضروريات والحاجيات وبحسب درجتها من الخصوص والعموم..
هذا عن إزالة المرض. أما حفظ الصحة فإن أهم المبادئ المعول عليها لتحقيقه قاعدة تحريم المضار ووجوب التحرز منها قبل الوقوع في أخطارها وسلوك الطرق الوقائية وعدم الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة.. وإلى جانب هذين المبدأين هناك قواعد أخرى كثيرة منها الحض على النفع, والتعاون, وبذل المعروف, وكرامة النفس الإنسانية, ورعاية المقاصد الأساسية من حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال, وهي أساس للتطبيب والعلاج بشتى أنواعه كما هي أساس التكييف الشرعي لاجراءات الطب الاستعاضي الذي يقوم على هذه المبادئ, مضافًا إليها بعض المبادئ الأخلاقية كالإيثار دون تجاوز حدود الله وحقوقه.
ولو ذهبنا نستعرض جميع المبادئ المتصلة بالموضوع مع الشرح المفصل والتطبيقات الموضحة لخرجنا عن نطاق المجال المرسوم لمثل هذه الأبحاث. لكن الحرص على مطابقة المقال لمقتضى الحال هو الذي يحدونا للاجتزاء بالقدر المحقق للأغراض الخاصة المنوه بها فيما سبق من بيان. ولذلك كان المناسب استقطاب المبادئ الأساسية بالصورة التي يبرز فيها الموضوع والقصد منها بدلاً من الألفاظ والعبارات, ويستتبع ذلك الإغضاء عن التغاير الذي مرده بالترادف أو التشابه في صياغة المبدأ أحيانًا..
مبادئ المصلحة:
إن التيسير من خصائص التشريع الإسلامي العامة, وقد تواردت على إثبات هذه الخصيصة كثير من نصوص القرآن والسّنة منها قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) البقرة/185 وقوله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) المائدة/6.
ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم «إن هذا الدين يسر» أخرجه البخاري وقوله «يسروا ولا تعسروا».
والتيسير ليس شعارًا معنويًا بل هو مرتكز لكثير من القضايا التي لم يرد نص بشأنها ولا ورد بشأن ما هو قريب منها متشابه له ليقاس عليه لذا ظهر هذا المبدأ بصورة قواعد تشريعية عامة:
(الأصل في المنافع الإباحة):
ومعنى هذا المبدأ أن الإباحة هي الأصل فيما فيه تقع للناس, -مما لم يتناوله نص أو يكن مقياسًا على منصوص- إلا أن هذا فيما تمحض من الأشياء منفعة خالصة, والشأن في هذه الزمرة أنها تدرك من النصوص أو من سكوت الشارع وهي مرتبة سماها بعضهم (مرتبة العفو) اشتقاقًا من قوله صلى الله عليه وسلم (وما سكت عنه فهو مما عفا لكم) أخرجه البزار بسند صالح كما قال ابن حجر, وفي رواية (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها). ومن الأدلة المشهورة لهذا المبدأ قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأْرْضِ جَمِيعًا). والهدف من هذا المبدأ: الإقدام على ما تحققت فيه صفة المنفعة ولم يرد بشأنه منع, واطمئنان القلب إلى إباحته وانتفاء الإثم عن الانتفاع به..
(الأصل في المضار التحريم):
والمضرة بعمومها تشمل ما كان شدة في البدن, ويفيد هذا المبدأ أن المضار مما طلبت الشريعة طلبًا جازمًا الكف عن فعلها ولِم لم يرد فيها نص يخصها. وأن ما سلف من مستندات للمبدأ السابق تتناول من طرف خفي هذا المبدأ فضلاً عن اقتضائه بالعقل السليم المجرد عن الشوائب.
على أن هذين المبدأين (أصالة إباحة المنافع-وأصالة تحريم المضار) رغم استمدادهما الشرعي لا يرقيان إلى معارضة الأدلة والقواعد الشرعية العامة ما كان منها خاصًا في الموطن المخصوص أو عامًا يتناول جميع أفراده.. وفضلاً عن ذلك لا بد من التزام التوصيف الدقيق للضرر والنفع بأن يتولى الشارع نفسه بيان ذلك فيكون حكمه هو الفصل, أو تراعي قواعد المصالح والمفاسد القائمة على استهداف ما كان النفع أو الضر فيه خالصًا, أو هو الغالب الراجح, ولا عبرة بالطارئ المؤقت في إزاء الثابت.. وتأمل هذه الأشياء والنظائر ينمي مقدرة البت في المسكوت عنه مما المآل فيه إلى الاستنباط الدقيق وسؤال أهل الذكر : أهل الاختصاص كل منهم في مجال خبرته.
قال العلامة القرافي: أن الموجودات في هذا العالم قسمان: الأول حرام لصفته, وهو ما اشتمل على مفسدة تناسب التحريم (أوالكراهة) والثاني مباح لصفته وهو ما اشتمل على مصلحة, أو كان ليس فيه مفسدة ولا مصلحة, وهو قليل, فلا يكاد يوجد شئ إلا وفيه مصلحة أو مفسدة.
تجنب المضار وإزالتها
مقتضى المبدأ السابق أن المضار متناولة بالموقف العام للمنع, تحت طائلة الإثم والعقاب, سواء كان الضرر بالمبادرة أم على سبيل الانعكاس وقد تجلى ذلك بإحدى جوامع كلمه صلى الله وعليه سلم وهي قوله (لا ضرر ولا ضرار), و(الضرر) حصول الأذى أو المفسدة ابتداء, و(الضرار) حصوله على سبيل الجزاء ورد الفعل. وقد استمد من هذا الحديث, في ظل قوله تعالى (لاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ), أكثر من مبدأ شرعي, وهي إذا روعيت مجتمعة كانت نبراسًا في الممارسة الصحيحة لاجراءات التطبيب والعلاج لتوفير الطمأنينة من الإثم الذي يحيك في النفس, ولتحاشي المسئولية وموجبات الضمان إذا لم تستخدم موازين العدل.
وتشتمل هذه القاعدة على جملة من المبادئ مكونة من نوعين : وقائي وعلاجي.
الجانب الوقائي
الحفاظ على الفطرة السليمة
شرع الله عز وجل مبدأ الحفاظ على الفطرة الإنسانية باعتبارها (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ), وهي الحالة الأصلية المستحقة للبقاء بعيدًا عن التغيير المعنوي أو المادي (كل مولود يولد على الفطرة) ووسيلة تحقيق هذا الهدف إرساء المبادئ وتعزيزها بالتطبيقات العديدة ومما يكفي هنا: الإشارة إلى أنها جاءت متنوعة.
(الضرر يدفع بقدر الإمكان):
والدفع هو الحيلولة دون الوقوع, باتخاذ الاجراءات والاحتياطات الكفيلة بالوقاية منه سواء كانت سلبية بالامتناع من أفعال مؤدية للضرر, أو إيجابية بالأخذ بما يعصم منه, ومفاد هذا أن الضرر لا يتريث فيه حتى يقع بل يبذل كل ما أمكن لدفعه.
كما أن دفع الضرر إن لم يمكن كلية يدفع المقدار الممكن منه, فليس هناك تلازم بين الدفع والاستئصال, بل أن التخفيف للمقدار الموشك وقوعه يحظى بالاهتمام الشرعي نفسه إذا تعذر تفادي جميعه. هذا المبدأ بشقيه (دفع الضرر-ولو الممكن منه) هو المظلة الفنية للمثلين المتداولين: (الوقاية خير من العلاج) و (ما لا يدرك كله لا يترك بعضه).
الجانب العلاجي
العودة إلى الفطرة الأصلية
إذا حل الضرر, في غيبة الضمانات المقامة سدودًا دون وقوعه, فإن الإجراء المطلوب حينئذ إيجابي فعال من شأنه تصحيح ما نزل من انحراف عن الطبيعة برفع الضرر وإزالته وهو مفاد المبدأ القائل:
(الضرر يزال) :
أي الشأن فيه أن ينحى عمن أصابه, ولا يعتبر حصوله وضعًا طبيعيًا وأمرًا واقعًا مهما تقادم أو تضاعف أثره, ولا ذريعة للمتواكلين المدعين الركون للمقادير, وهي كما تجري بما لا يعرفه الإنسان إلا بعد حصوله, فإن بقاءها كذلك لا يحكم له باللزوم والثبات إلا بعد المحاولة والأخذ بالأسباب, وإذا كان المرض (أو الضرر عامة) أمرًا مقدورًا فإن الشفاء والمعاناة هو من قدر الله, وبذلك أجاب عمر رضى الله عنه من تردد في تجنب البيئة الموبوء: (نفِرّ من قدر الله إلى قدر الله).
وتعبيرًا عن بقاء (الضرر) دخيلاً هجيناً جاء المبدأ القائل:
(الضرر لا يكون قديمًا) أي لا يحظى بحصانة ولا يكتسب استيطانًا مهما تطاول زمانه بل ويظل مزلزل الأركان مضطرب الجنان يهدده نداء الرحيل, لأنه (لا تبديل لفطرة الله).
وللمبدأ الأساسي (إزالة الضرر) هالة تحّف به من المبادئ التي يتم بها تنظير كامل له يتناول في آن واحد رسم الوسائل وتحديد المقاصد, منها:
(الضرر لا يزال بمثله) وبعبارة أخرى تقدم البديل: (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) وبأسلوب آخر:
(يختار أهون الشرين) وتحديد الشرية والخيرية ليس بالهوى بل ضابطه:
(إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما) وبالتحديد:
(يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)
وبكلمة جامعة:
(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح).
وهذه المبادئ الغنية عن التطويل بشرحها توحي بالخطوات الحكيمة التي ينبغي سلوكها في مجال التطبيب والعلاج: بأن لا يطغى خوف الخطر المائل في الداء على استشعار الخطر الكامن في الدواء, إذا كانت كفة هذا راجحة على ذلك.
والمحظورات, على ما في بعضها من ملاذ أو أرباح موقوتة أو فردية, جديرة بالمنع ولو أهدرت به المصالح الجزئية, ومن هنا نشأ حكم الشريعة (وما وافق منهجها) بالحجر على الطبيب الجاهل بأصول الصنعة, والحيلولة بينه وبين فوائد المزاولة النافعة له شخصيًا, لما في ذلك من حفظ المصالح العامة ودرء المفاسد المتوقعة.
وهو كذلك مناط الفصل في مسائل العلاج بوسائل هي في الأصل محرمة, أو التداوي ببعض المحرمات إذا تعين ذلك سبيلاً لإزالة الضرر..
رفع الحرج ومراعاة الضرورة
إن رفع الحرج عن المكلفين من المقاصد الأساسية للتشريع الإسلامي عامة, وله هنا مظاهره الخاصة الكثيرة التي يتعاقب أثرها لتحقيق سمو الشريعة عن أن يكون طابعها الجمود على نمط واحد من التكليف, تأسيسًا على أن تلك التكاليف نصبها الشارع الحكيم, بالنسبة للأفراد, لمقصد عام هو: «إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا, كما هو عبد الله اضطرارًا» وإن المقصد بالنسبة للمجموع هو «إقامة المصالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي» فهناك نظام كافل للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به, ومطلوب من كل فرد أن ينضوي تحت هذا النظام وينقاد له لا لهواه.
ولهذا جرت الشريعة الإسلامية في التكليف على الطريق الوسط الأعدل الداخل تحت طاقة الإنسان من غير مشقة عليه, ولا انحلال لربقة عبوديته لله, وجاءت تكاليفها لتحقيق توازن ينشد غاية الاعتدال في جميع المكلفين.. فإن آل الأمر للميل إلى جهة التشديد بسبب واقع خاص, أو حال متوقعة, عالجت الشريعة ذلك بالرخص الشرعية الدائمة, أو بمراعاة ظروف الضرورة الطارئة, ليظل المكلف في جميع أحواله ملتزمًا بما نصبه الله من معالم دينه التي لا تغادر صغيرة أو كبيرة من شئون الحياة إلا وضعت لها أصلاً يرجع إليه ومعقلاً يلجأ إليه. وهذا غاية الإحسان والإنعام من الله.
والضرورة التي اشتملت الشريعة على كثير من المبادئ لمراعاة ظروفها هي كل ما فيه مشقة بالغة وحرج, وهي الحالة التي تلجئ الإنسان إلى فعل الممنوع عنه شرعًا, أو هي الحالة التي يصبر بها الإنسان معرضًا للتلف إن لم يقدم على الممنوع. ولما كان من خصائص الشريعة الإسلامية رفع الحرج ودفع المشقة سواء كانت المشقة من النوع غير المقصود للشارع أصلاً, وهي المشقة غير المعتادة, أم من النوع الذي لا يخلو عنه أصل التكليف, لأنها في بعض الظروف تتحول إلى منزلة المشقة غير المعتادة, وهذا التحول ليس واقعًا على طبيعتها بل هو بحصول سبب اقتضاه. قال القرافي: «كل ما حرم لصفته لا يباح إلا بسببه, وهو الاضطرار». وفي التعليل الدقيق لإباحة المحظور هنا يقول العز بن عبد السلام: «الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلبًا لمصالحها» أي للمصلحة المغلوبة بمفسدة راجحة, بناء على أن معظم الأمور تشتمل على مصالح ومفاسد, والعبرة بالراجح فيها منهما, ففي حال الضرورة يستفاد من تلك المصلحة النادرة التي أهدر أمرها في الأحوال الطبيعية.
وقد صاغ علماء الشريعة هذا المبدأ بجملة من القواعد المشهورة المتداولة بين المختصين بل بين غيرهم من طبقات الناس على حد سواء مع شئ من التحريف أو اغفال القيود الواجب مراعاتها..
وقطب الرحى لتلك القواعد هو قول الله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه), وقوله فيما أجاب به قومًا سألوه عن أكل الميتة في المخمصة (فشأنكم بها), وها هي نبذة عن تلك القواعد بتوضيح يسهل به استثمارها على الوجه السليم:
(المشقة تجلب التيسير):
في هذا المبدأ وصف للحال المعهودة من الشريعة الإسلامية السمحة مما تقدمت الإشارة إليه من استهداف التوازن وإعطاء كل ظرف ما يناسبه, وزيادة عما سبق عن الضرورة من بيان توضيحي فإن المراد بالمشقة الجالبة لليسر: المشقة التي تجاوز حدود المعتاد, لأن التكليف لا يخلو عن المعتاد منها فهو إلزام ما فيه كلفة, ولو شمل التخفيف جميع التكاليف لكان- كما قال الإمام الشاطبي نقضًا لما وضعت الشريعة له من اخراج المكلف عن داعية هواه. وضرب من الأمثلة على تسويغ ذلك طلب المعاش بالاحتراف وسائر الصنائع فإنه مع اعتياده لا يزيل ما فيه من الكلفة.. وأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار في أكله وشربه وسائر تصرفاته ولكن جعل الله له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره لا أن يكون هو تحت قهرها..
وفي نحو هذا المبدأ الوصفي جاءت قاعدة أخرى مؤكدة هي:
(الأمر إذا ضاق اتسع):
على أن ثمرة الخاصة التشريعية المعبر عنها بالمبدأين السالفين جاءت في مبدأ مشهور متداول هو:
(الضرورات تبيح المحظورات):
وقد سبق بيان استمداد هذا المبدأ, وهو ذو غزارة في التطبيقات وأبرزها يتصل بقضايا التطبيب والعلاج, فإن ممارسة أي من الإجراءات المندرجة فيهما هي في الأصل محظورة ومعتبرة جناية على النفس الإنسانية أو جزء منها, أو تسببًا في إتلافها وإلحاق الضرر بها لولا عامل الضرورة الذي تسوغ معه تلك التصرفات وتغدو من باب أداء الواجب أو الفعل المأذون به.. ولا مجال لسرد التطبيقات الخاصة بدءً من إباحة النظر واللمس للعورة عند الاقتضاء, وانتهاء بإعمال المبضع في البدن دون أن ينشأ عنه قصاص أو ضمان.
وإلى جانب المبدأ المراعي لحال الضرورة التي تستلزم التعرض للتلف أو وقوع الخطر هناك مبدأ يعطي نفسه لحال (الحاجة) وهي ما ينشأ عنها عسر وصعوبة في الظروف الجماعية الشاملة للأمة أو الخاصة بطائفة أو مجموعة خاصة, لا للأفراد فيكون (عموم الظرف) في (الحاجة) مدعاة لإحلالها منزلة الضرورة التي يطبق مبدؤها ولو كانت فردية. وهذا المبدأ هو:
(الحاجة تنزل منزلة الضرورة, عامة كانت أو خاصة):
والمبادئ المتناولة لأثر الضرورة والحاجة العامة للأمة, أو الخاصة بمجموعة من فئاتها, محاطة بالضمانات الكافية للحيلولة دون اتخاذ ذلك ذريعة للخروج عن دائرة التكليف, وإلغاء الالتزام بأحكام الشريعة على نطاق زائد عن مقتضى الضرورة أو الحاجة, وللتعبير عن أهم تلك الضمانات جاءت المبادئ التالية:
(الضرورات تقدر بقدرها):
فيباح بالضرورة القدر الذي يدفع الخطر, من غير بغي ولا عدوان, وتطبيق هذا المبدأ سارٍ في تصرفات التطبيب, فلا يتجاوز المقادير المجزئة إلى غيرها سواء من جهة أصل الفعل الاضطراري, أو من جهة توقيته واستمراره:
(ما جاز لعذر بطل بزواله) أو بصياغة أخرى لفكرة المبدأ هي:
(إذا زال المانع عاد الممنوع), وهو كما ينظم بقاء المسوغ الاضطراري من حيث الزمن يؤكد الربط بفقدان البديل السائغ ووجوده..
هذا, وإن مبادئ مراعاة الضرورة هي المظلة الشرعية لكثير من قضايا التطبيب والعلاج, ليس للأفعال وحدها, بل للأشياء المحتاج إليها لإزالة الحالة المرضية التي يتحقق فيها شروط الاضطرار كالتداوي ببعض المحرمات عند تعيين الاستشفاء بها وعدم وجود دواء ظاهر حلال يؤدي الغرض, حسب اخبار الطبيب المسلم الثقة في تدينه وخبرته, وذلك إذا لم يسعف تطبيق مبادئ المطهرات التي منها: انقلاب العين الأصلية واستحالة المادة إلى خصائص مادة أخرى.. فحينئذ تسوق الضرورة إلى استعمال بعض المواد في العلاج والمداولة ولو كان محكومًا –في الأحوال الطبيعية- بتحريمها للنجاسة أو لسبب آخر من أسباب الحظر, دون أن ينشأ عن ذلك المساس بمقصد أساسي من مقاصد التشريع. فيباح بالضرورة – عند بعض الفقهاء- التداوي بالمقدار الذي لا يسكر. أما المقدار الذي يسكر فتحريمه موضع اتفاق ولو للدواء, لأنه كما يقول الإمام الشافعي, ومذهبه هو الأرحب في هذه المسألة:
يمنع من أداء الفرائض ويؤدي إلى فعل المحرمات. ومستند اتفاق الفقهاء على تحريم التداوي بما يسكر هو قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر مخاطبًا من كان يصفها للدواء: إنها ليست بدواء: إنها ليست بدواء. أما المشمول بحكم الضرورة فهو المقدار الذي لا يسكر, والمعروف أن ما يستعمل في الأدوية من المواد القابلة للإسكار هي مقادير قليلة وفي أوقات متباعدة ومع هذا يحسن بالمسلم الخروج من مواطن الخلاف والحرص على الالتزام بالجادة في أمور الدين, ومثل هذا الموقف إذا اتخذ طابعًا جماعيًا يجعل المعنيين بصناعة الدواء يذعنون لمراعاته تحت وطأة المصالح الاقتصادية بعد أن أهدروا مصلحة الدين وحفظ العقل..
وقبل مغادرة الكلام عن هذا المبدأ الهام لا بد من الإشارة إلى إشكال قديم أُثير بشأن اعتبار (المرض) حالة ضرورة مسوغة للمحظور على قدم المساواة مع حال (المخمصة) من حيث أن هذه إن لم يتناول فيها الغذاء المحظور أدى ذلك الامتناع إلى التلف يقينًا, لما سن الله من السنن الكونية بزوال الجوع عند تناول الغذاء. أما الدواء المتناول فقد يحصل مع الشفاء أو لا يحصل فانتفى عنصر اليقين.. وقد جاء جواب هذا الإشكال على لسان الإمام السرخس بأن ما لا طريق إلى معرفته حقيقة ويقينًا يكتفي فيه بغالب الظن.. ولا شك أن الظن يقوي بما بلغته طرق التشخيص والعلاج من شأن رفيع, بسبب التطور الزمني واكتشاف كثير من الوسائل الآخذة من اليقين بحظ كبير, بدءً بالمجهر, ومرورًا بالتخطيط والأشعة, إلى ما يكشف عنه العلم من جديد كل يوم..
حق الغير وإذنه فيه
إن من المبادئ المنظمة مبدأ (الحق) لا سيما إن كان للعباد أو في ملكهم, وهو شديد الصلة بمبدأ (الإذن), وكل من الحق, والإذن إما أن يرجع إلى الشارع (حق الله) و(الإذن الشرعي) أو إلى الإنسان (حق العبد) و(إذن المالك), وإن للحقوق تقسيمات وأنواعًا ليس من المناسب التوسع فيها بمجال كهذا, لا سيما أنها موضوع مشترك بين المعاملات المالية والتصرفات الجنائية, وإن ذلك يجر إلى الكلام عن (المسئولية) وهو جانب عولج على حدة لاتصاله بأمور أخرى غير الحق والإذن, كالقصد وطبيعة الفعل والخبرة..
على أن من المفيد لتنويع المبادئ المنوه بها الإشارة إلى أن منها:
(لايجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذن):
وبدن الإنسان ملك لله عز وجل وفيه مع ذلك حق للعبد نفسه, فهو مما يجتمع فيه الحقان (حق الله وحق العبد) وهذا من حكمة التشريع فهذا الاجتماع للحقين مما يستظهر به على صيانة محل الحق بدلا من سهولة سقوطه أو إسقاطه ما لم يتوافر اجتماع إذن الشارع مع إذن المالك. وإذن الشارع منه المنصوص عليه في صورة أحكام شرعية, ومنه المنوط بالولاية العامة التي تقول قاعدتها:
(التصرف على الرعية منوط بالمصلحة):
على أن إذن الشارع سواء كان بالأحكام المنصوصة أو القواعد العامة هو المرجع في حال القصور أو العجز عن إصدار الإذن ممن كان الأصل أن يملكه ولهذا كان إلى جانب الولاية العامة: الولاية الخاصة والوصاية والقوامة.
أما إذن المالك فهو بإطلاق ابتداء أو اجازته بعد وقوعه.
ومما يتصل بهذا المبدأ ما أبداه العلامة القرافي من فرق في الأثر, بين الإذن من صاحب الشرع (وهو في الغالب عام) وبين الإذن من قبل المالك (وهو من الإذن الخاص) بأن إذن المالك يسقط الضمان, أما إذن الشارع فالأصل فيه إسقاط التبعة الأخروية والعقوبة, دون الضمان (المسئولية المدنية) وهذا تفضل من الله على عباده حيث جعل ما هو حق لهم لا يصح الإبراء فيه إلا برضاهم وإسقاطهم ضمانه. وهذا الفرق تدل عليه القاعدة العامة:
(الاضطرار لا يبطل حق الغير):
وهو مطرد حيث يكون هناك قيود للإذن الشرعي, أما إذا كان الإذن من صاحب الشرع –أي الجواز- مطلقًا عن أي قيد (ومثاله مما هنا الاجراء الطبي حسب المعتاد إذا أدى لتلف غير مقدور على التحرز منه) فإن المبدأ المستحق التطبيق هنا أن:
(الجواز الشرعي ينافي الضمان):
وهو كما حققه الشارع لهذه القاعدة: الجواز الشرعي المطلق عن أي قيد (عدا عدم التقصير والتعدي) ومثاله: أن يكون التصرف الطبي لم تلحظ فيه القيود الشرعية العامة كحفظ حق الغير (بحصول الإذن) أو التحرز من مضاعفات يمكن التوقي منها, لأن تجويز الشرع لهذه التصرفات مقيد بشرط السلامة فيما يمكن التحرز عنه..
ومن تمام القول في الحق والإذن تصريح العلماء كالعز بن عبد السلام والقرافي أن ما هو حق خالص لله تعالى, أو فيه حق له وحق للعباد, لا يتمكن العباد من إسقاط حق الله في الحالين, بل ذلك يرجع إلى صاحب الشرع. وينوب عن إذن المالك إذن غيره من الأولياء, ومنهم أولو الأمر, في حال الاضطرار إذا ما فقد صاحب الحق مقدرة التصرف المعتبر.
التعاون والنفع والإيثار
إن الحض على التعاون والإحسان وفعل الخير مما تواردت عليه آيات القرآن والأحاديث النبوية المعروفة, ونفع الناس من الرغائب المشروعة المحمودة إلا فيما نهى الشارع عنه, والنهي إما لمحظور يتصل بالفعل النافع لضرر ديني عام, أو لأن النفع يقابله ضرر أكبر لباذله, على ما سبق في مبادئ إزالة الضرر ومراعاة الضرورة.. فإذا خلا الفعل النافع للغير من ذلك وكان الضرر الذي يرفع عن الآخرين أشد من الضرر اللاحق بالمقدم على النفع, فهو من الإيثار على النفس ولو لحقها شئ من الخصاصة أو الضرر المحتمل, أو المتوهم..
وهذه المبادئ هي المسوغ الشرعي للتطبيب القائم على تقديم الدم والأعضاء البديلة إلى المرضى التالفة أعضاؤهم مما يبذله المحسنون دون أن يؤدي ذلك إلى التهلكة المنهي عنها. ومستند ذلك مقتضى النصوص التي ألمحنا إلى كثرتها في هذا المجال, كقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان) وقوله: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقوله: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ومن الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام: (من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه) وفي رواية (فليفعل) أخرجه مسلم في صحيحه.
فهذه النصوص وغيرها كثير, ليست مبادئ أخلاقية فحسب, بل هي ذات أثر تشريعي في الإباحة والترغيب, إن لم يكن بالوجوب عند من يجعله أولى ما تقتضيه صيغ الأمر.. فهذا العمل من الجائز شرعًا وهو من صنائع المعروف وأبلغ صور الإحسان و(مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ).
وهذا كله إذا كان على سبيل التبرع, لأن المبدأ أنه:
(يغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في المعارضات):
أما إن كان ذلك على سبيل المعارضة نظير بدل, فإنه تصرف يثير كثيرًا من الحرج والشبهة بالحرام, جريًا على أن أجزاء الآدمي ليس لها مالك إلا الله تعالى فليست مما يباع ويشترى. وقد بلغ التحرز ببعض الفقهاء أن يفسروا بيع لبن المراضع بأنه استئجار لشخص الظئر (المرضع) والانتفاع بلبنها أمر تبعي. مع أنه مما فصلت في شريعيته النصوص الصريحة رعاية لضرورة حفظ الأنفس, وما اللبن هنا إلا أجزاء مبانة بصورة طبيعية عن بدن المرضع ولا نفع مقصودًا لجسدها منه, فكأنه مما استودعها الله إياه لنفع الرضعاء..
ولا يتنافى مع حظر المعارضة عن هذا البذل أن يقبل الباذل ما يكافأ به من غير مشارطة ولا مواطأة, لقوله تعالى: (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) وما روي عنه (صلى الله عليه وسلم): -بالرغم من ضعفه- (من أتى إليكم معروفًا فكافئوه, فإن لم تجدوا فادعوا له) فهو مما تشهد له قواعد الشريعة العامة.
كما يملك أولو الأمر تخصيص مكافآت تشجيعية لا مشارطة فيها ولا التزام, للترغيب في هذا اللون من الإحسان وفعل الخير, أو للمعونة على ترميم آثاره على الجسم كتشجيعهم على أشباه ذلك من الأعمال المندوبة أو الواجبة لكونها من الطاعات المفروضة أو مما ينبغي احتساب الأجر فيه..
وأخيرًا, ليست هذه المبادئ كل ما يتصل بموضوعنا, وهي أيضًا لا يقتصر تطبيقها عليه بل هو أهم مجالات استثمارها والاستنارة بها في تكوين الإلمام بمنحى الشريعة في هذه الأمور عن طريق وسط بين تلقي الفروع المجردة, أو التوسع غير الميسور في غمار الأدلة ومقتضاها. و(كل ميسر لما خلق له) واتقان العلوم والمعارف والحرف والصناعات كلها مما فرضه الله على جماعة المسلمين, بإزاء ما عم بفرضيته كل مسلم من طلب العلم بما تقتضيه حالة وتمس إليه حاجته في حياته ومهنته بعد الفرائض العينية المعروفة..
قائمة المراجع المستخدمة في البحث
المراجع الخاصة :
– الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي (ــ 790 هــ) ط. مصطفى محمد.
– قواعد الأحكام في مصطلح الآنام, للإمام عز الدين عبد السلام (هــ) ط. (1) 1353هــ.
– الفروق «أنوار البروق في أنواء الفروق» للإمام القرافي (ــ784 هــ) ط. دار احياء الكتب العربية.
– الأشباه والنظائر في قواعد فروع فقه الشافعية, للسيوطي (ــ911 هــ) ط.عيسى الحلبي.
– الأشباه والنظائر, لزين الدين ابن نجك الحنفي (ــ هـ) ط.مؤسسة الحلبي وشركاه 1387 هــ.
– القواعد, لابن رجب الحنبلي (ــ795 هـ) ط.الخانجي 1352 هــ.
– القواعد والفوائد الأصولية, لابن اللجام البعلي الحنبلي (ــ 803 هـ) ط.السنة المحمدية.
– لقواعد للإمام الزركشي (مطبوع بالآلة الكاتبة) تحقيق (رسالة دكتوراه) ثلاثة أجزاء.
– المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى أحمد الزرقا ط.الحياة.
– شرح القواعد الكلية للمجلة, للشيخ أحمد الزرقا (تحت الطبع) دار الغرب الإسلامي, المغرب.
– رفع الحرج في الشريعة الإسلامية, للدكتور يعقوب عبد الوهاب الباحسين(رسالة دكتوراه) ط.بغداد.
– مجموعة بحوث فقهية (بحث الضرورة) للدكتور عبد الكريم زيدان ط.الرسالة ومكتبة القدس.
المراجع العامة:
– تفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن» (ــ671 هـ) ط. دار الكتاب العربي.
– نيل الأوطار وشرح منتقى الأخبار, للشوكاني (ــ1250 هـ) ط.
– المستصفى في الأصول, للإمام الغزالي (505 هـ).
– ارشاد الفحول إلى علم الأصول, للشوكاني.
– بداية المجتهد ونهاية المقتصد, لابن رشد الطبيب (الحفيد) ط. الخانجي.
– المبسوط, لشمس الأئمة السرخسي ط. السعادة.
– التاج والإكليل للمواق المالكي (بهامش مواهب الجليل) ط.السعادة 1328 هـ.
– أسنى المطالب شرح روض الطالب للقاضي زكريا الأنصاري الشافعي.
– المغني شرح مختصر الخرفي, لابن قدامه الحنبلي.
– المحلي, لابن حزم الأندلسي (ــ هـ) ط.المنيرية 1350 هـ.
– زاد المعاد (الجزء الثالث: الطب النبوي) لابن القيم.