مقدمة
عندما تحط قدم الطالب المسلم في بلاد الغربية قادما من وطنه إلى البلاد الغربية للدراسة فإنه عادة ما يتعرض لكثير من الطابع والعادات غير المألوفة والمشاهد المستغربة والمسلمأت الثقافية الغربية. ويؤدي ذلك إلى مرور الطالب بمشاكل وعوامل إحباط كثيرة. وتبدأ هذه المشاكل والمضايقات بأشياء بسيطة مثل اختيار أنواع الأكل في المطاعم والبحث عن سكن وتنتقل إلى مراحل معقدة مثل محاولة التفاهم في البيئة الثقافية الاجتماعية الجديدة وأسلوب التعامل والاحتكاك المباشر مع ثقافة جديدة ومسلمات ثقافية غربية عما ألفة الطالب في مجتمعه. وتأتي بعد ذلك بعض الإجراءات والمسلمات الأكاديمية في التقاليد الجامعية الغربية التي تشكل حلقة أخرى من المشاكل . والطالب المسلم في خضم هذه البيئة الثقافية الاجتماعية الجديدة في حاجة لكثير من المعارف والمفاهيم والمعلومات وفي حاجه أيضا لكثير من عمليات التكيف الثقافي والأكاديمي حتى يستطيع حل مشاكله والحياة بطريقة تسمح له بالاستفادة من رحلته العلمية . والأسلئة التي تطرح نفسها في مثل هذه المناسبة كثيرة ومتشبعة . فعلى سبيل المثال ما الذي يحدث بالضبط للطالب المسلم حين قدومه إلى بلاد الغرب؟ وماهي طبيعة المشاكل التي يمر بها؟ وكيف تتم عمليات التكيف النفسي في النواحي الثقافية والأكاديمية؟ وما هي أفضل الطرق في التكيف مع الثقافة الجديدة؟ ما هي نتائج هذا التكيف على شخصية الطالب؟ ما هو دور معاهد تعليم اللغة الأجنبية والمؤسسات التعليمية الغربية من ناحية ثقافية؟ وأخيرا ما هي بصفة عامة نتائج الرحلة العلمية إلى بلاد الغرب على شخصية الطالب المسلم من النواحي الثقافية والأكاديمية؟
سنحاول في هذا البحث إلقاء الضوء على هذه التساؤلات ومحاولة الإجابة عليها مستأنسين بنتائج الدراسات والبحوث العلمية التي أجريت على الطلبة الأجانب لمعرفة مدى تأثرهم من ناحية ثقافية وأكاديمية بالمرحلة العلمية.
الاتصال الحضاري والرحلة العلمية:
تعتبر المرحلة العلمية للطالب الأجنبي من وطنه إلى المجتمعات الغربية للدراسة من أكثر العوامل تأثيرا على بناء شخصيته . فالقضية في هذه الرحلة العلمية في الواقع لا تقف عند إكتساب المهارات العلمية والخبرات الدراسية والمهنية التي عادة ما يبنى عليها مستقبل الطالب , بل تتعدى هذا إلى مؤثرات نفسية وإجتماعية ناشئة عن الاتصال الحضاري بين ثقافتين. وقد يأخذ هذا الاتصال الحضاري شكل صراع في نفسية الطالب تزداد حدته او تخف بمقدار نسبي حسب القرب أو البعد النفسي , أي النظرة إلى الكون والحياة وطبيعة الإنسان بين ثقافة الطالب والثقافة الغربية. فكلما كانت ثقافة الطالب متأثرة بالمفاهيم الغربية أو قريبة منها كانت عملية التكيف النفسي والاجتماعي أيسر وأسرع , وإن بعدت ثقافة الطالب في مفاهميها ونظرتها للحياة عن الرؤية الغربية فإن عملية التكيف تشوبها الصعوبة وتستغرق وقتا أطول. على أن المسألة من الصعب أن تؤخذ بهذا التعميم في جميع الظروف لأن من أهم العوامل, بالإضافة إلى اختلاف الثقافتين. شخصية الطالب نفسه ومدى قدرته على التعامل مع البيئة الجديدة والوجهة التي يوجه بها عمليات تكيفه النفسي والاجتماعي في المجتمع الغربي.
سنتناول في هذا البحث محاولة الإجابة على الأسئلة المطروحة في المقدمة وذلك بمناقشة لعمليات التكيف النفسي والاجتماعي للطلبة الأجانب والمراحل التي تمر بها هذه العمليات . وسنحاول أن نربط بين نتائج الدراسات التي أجريت في هذا المجال وحياة الطالب المسلم الذي قدم إلى الدراسة في الغرب.
لقد دلت الدراسات العلمية التي أجريت على الطلبة الأجانب أن هناك أربع مراحل يمر بها الطالب في تكيفه مع الثقافة الغربية ( براون 1980)
وتتلخص هذه المرأحل الأربع في الآتي:
- مرحلة الانبهار.
- مرحلة الصدمة الثقافية.
- مرحلة التكيف الجزئي.
- مرحلة التكيف النهائي.
1- مرحلة الانبهار:
وهذه المرحلة هي بداية الاتصال الحضاري المكثف بين الطالب الأجنبي والثقافة الغربية. وتتميز عادة بمظاهر الاستغراب والانطباعات السريعة التي يشوبها شيء من السعادة والاطراء لهذه الثقافة الجديدة. وأهم ميزات هذه المرحلة أن انطباعات الطالب وعملياته الاستكشافية تتسم بالسطحية ولا تتعدى المظاهر الخارجية. وتتردد على لسان الطالب في هذه المرحلة عبارات المديح لأخلاقيات الثقافة الغربية ( لما قد يراه من حسن المعاملة والأدب الاجتماعي ) وللإنجازات المادية لهذه الثقافة ( لما قد يراه من توفر الخدمات) . وقد دلت الدراسات أن مرحلة الانبهار أكثر وضوحا عند أولئك الطلبة الذين يأتون إلى الثقافة الغربية من مجتمعات أقل تقدما ماديا ( كلارك 1976) .
وتأخذ هذه المرحلة فترة قصيرة نسبيا بالنسبة لمراحل التكيف الأخرى تتراوح بين عدة أيام إلى مجموعة أسابيع ( سيول وديفدسن 1961) . ولكنها ليست على أية حال من الأحوال بأكثر من شهر ( سكاوت 1956).
2- مرحلة الصدمة الثقافية:
وهذه المرحلة شديدة التداخل مع نهاية المرحلة الأولى لكنها عادة ما تتضح عندما يكتشف الطالب الفروق الثقافية الشاسعة بينه وبين هذه البيئة الجديدة. ومن بين الدراسات التي ناقشت هذه المرحلة دراسة لسيول وديفدسن أجريت عام 1961على بعض الطلبة الاسكندنافيين . فقد وجد أنه بالرغم من عدم البعد الثقافي بين الاسكندنافيين والأمريكان فإن الطلبة الاسكندنافيين بعد مرور عدة أسابيع من قدومهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة بدأوا يلقصون علاقاتهم الاجتمعية بالأمريكان ويفقدون ذلك الحماس والتقييم السطحي للمظاهر الاجتماعية في الحياة الأمريكية . كما أنهم بدأوا يعتبرون عن استيائهم وعدم إطمئنانهم لكثير من الانطباعات التي شكلوها في بداية قدومهم. وتكاد الدراسات حول هذه المرحلة تنفق على طبيعة الظروف النفسية والاجتماعية التي تواكبها. وللأسف ليست هناك دراسات على الطلبة المسلمين لمعرفة مدى أبعاد هذه المرحلة عليهم ولكن معرفتنا لطبيعة الطالب المسلم والبيئة التي قدم منها والبيئة الغربية التي قدم إليها تجعل هذه المرحلة من أصعب مراحله في المؤسسات التعليمية الغربية. وتشترك عوامل كثيرة في خلق هذه الصعوبة. من أهم هذه العوامل الثقافية الإسلامية للطالب المسلم والتي تختلف في مفاهيمها إختلافا جذريا عن الثقافة الغربية ( يدخل في مفهوم الثقافة المعتقدات, الأخلاق, الاتجاهات, الميول , القيم , طريقة السلوك, أنواع الأكل وطريقة المعيشة, طريقة بناء العلاقات الاجتماعية وغير ذلك). ومن هذه العوامل التي تساعد على زيادة صعوبة هذه المرحلة هو عامل اللغة. فاللغة وسيلة الاتصال التي ينقل بها الطالب مشاعره ويعبر بها عن نفسه. وهي في مجتمعات كالمجتمع الأمريكي والأوروبي مهمة لحياة الأجنبي لأنه مجبر على التحدث بلغة القوم. وبما أن المقدرة على تحدث اللغة الانجليزية عند الطالب المسلم الجديد هي قدرة محدودة غالبا فإن المؤشر الحقيقي لصعوبة هذه المرحلة يمكن في عدم قدرة الطالب التعبير عن نفسه . فاختلاف الثقافة واللغة هما العاملان الرئيسيان في رسم أبعاد الصدمة الثقافية وتشكيل ردود الفعل عند الطالب تجاه هذه الصدمة الثقافية.
وقد عبر أدلر (1972) عن جوهر الصدمة الثقافية بقوله ” إنها نوع من القلق الناتج عن فقدان المعايير الاجتماعية التي تعود عليها الفرد” وإذا أضفنا إلى ذلك عدم القدره على التعبير الذي يصاحب هذا القلق فإن القضية قد تتطور إلى مشاكل نفسية وينتاب الفرد مزيج من مشاعر الحيرة والخوف وعدم الاطمئنان.
ويصاحب الصدمة الثقافية غالبا تكوين كثير من الاتجاهات والانطباعات عن البيئة الغربية تختلف من تلك التي كونت في البداية ( في مرحلة الأولى) .
فيصاب الطالب بكثير من عمليات الاحباط لفقدان كثير من توقعاته التي بناها قبل قدومه ولأدراكه لسطحية الانطباعات التي تركتها أيامه الأولى في هذه البيئة الجديدة. وفي بعض الأحوال النادرة يصاحب هذه المرحلة من التكيف أعراض مرضية تتخذ شكل الآم في الرأس والمعده ( بروان 1980) أو بعض المشاكل النفسية ( زابورنك وزملاؤه 1980).
ويلاحظ على الطالب الأجنبي في هذه المرحلة البحث عن المساعدة عند أبناء وطنه الموجودين في منطقة دراسته, وقد يختار العزلة, وربما تترد على لسانه عبارات الإستياء , بل إن حالته قد تزداد سواء لعدم استطاعته التكيف مع هذه البيئة مما قد يؤدي به إلى التفكير جديا في الرجوع إلى أرض الوطن وقد يفعل.
3- مرحلة التكيف الجزئي:
في المرحلة الثانية ( الصدمة الثقافية) يشعر الطالب بمدى الفروق الفكرية والسلوكية بين ثقافته والثقافة الغربية وتترك عنده هذه المعرفة انطاباعات تختلف باختلاف شخصية الطالب. لكن شعور الطالب بأنه أصبح جزاء من هذه البيئة الثقافية الاجتماعية المختلفة يفرض عليه كثيرا من عمليات التكيف الاجتماعي والنفسي لكي يتمكن من العيش بسهولة في هذا المجتمع . كما يفرض عليه كثير من عمليات التكيف الأكاديمي مع نظام التعليم الذي قدم إلية من أجل التحصيل العلمي. وهذه المرحلة هي بداية التعامل بصفة مقبولة مع هذه البيئة الجديدة وفيها يتم التكيف التدريجي شيئا فشيئا. وتبدأ بعض المشاكل التي تعرض لها الطالب في مرحلة الصدمة الثقافية بالاختفاء كما أن الأعراض الخاصة بالمرحلة السابقة تبدأ بالاضمحلال . ويبدأ الطالب باكتساب بعض المهارات الجديدة التي ستلعب دورا كبيرا في تطور شخصيته وبناء مواقف جديدة تجاه المجتمع الغربي تعتمد على فهم وإدراك أكثر لمسلماته الثقافية.
ويجدر التأكيد هنا أن عمليات التكيف طبيعة إنسانية يتم حدوثها عندما نتعرض لبيئات جديدة مثل الانتقال من القرية إلى المدينة أو من مجتمع إلى مجتمع آخر أو على مستوى أقل مثل الانتقال من عمل إلى عمل آخر لكن أشد عمليات التكيف تصير عندما ننتقل من بيئة ثقافية إجتماعية إلى بيئة أخرى, مثل الانتقال من بلد إسلامي إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة.
وهناك علاقة قوية بين هذه المرحلة من حياة الطالب وبين تطور إتقانه للغة الأجنبية. فقد بين براون (1979) وآكتون (1980) أن مشكلات مرحلة الصدمة الثقافية تفرض على الطالب ضغوطا طبيعية كثيرة تجعله يحاول التفاهم مع الآخرين والاتصال بهم والتعبير عن نفسه وتكوين علاقات إجتماعية. لذلك فإن هذه المرحلة – كما تدل الدراسات – هي مرحلة التي يحدث فيها كثير من إكتساب اللغة الأجنبية والتعرف على السمات الثقافية للمجتمع الغربي.
وقد دلت الدراسات ( موريس 1960؛ سيول وديفدسن 1961؛ وكريستانا جند 1970) بأن مرحلة التكيف الجزئي مرتبطة إرتباطا وثيقا بمدى صلة الطالب واهتمامه وتقييمه ورأيه في الثقافة التي يحملها. كما دلت الدراسات أن هناك ثلاث استراتيجيات للتكيف في هذه المرحلة تتصف بها سلوكيات الطالب للتعامل مع الثقافة الغربية. وهذه الاستراتيجيات هي الإندماج والتكيف الراشد والرفض فإذا كان الطالب يشعر بأفضلية الثقافة الغربية على ثقافته, على سبيل المثال, ويشعر بعدم الثقة في نفسه وفي الاتجاهات والقيم التي اكتبسها في مجتمعه أو كان الطالب صغير السن وفرض عليه الدارسة في منطقة لا يوجد بها من يشاركه الايمان بالقيم التي يحملها فإن الطالب غالبا ما يتخذ إستراتيجية الاندماج في التكيف حتى تتسنى له الحياة بدون أن يبدو غريبا أو شاذا في هذه البيئة الجديدة واستراتيجية الاندماج تحتم على من يسلكها إتخاذ النموذج الغربي طريقا يحتذى فيبدأ بتشكيل كثير من قيمة وإتجاهاته وميوله حسب ما يمليه هذا النموذج . ويرى في سلوكه التقليد لما يعمله الغربيون من تصرفات.
أما إذا كان الطالب يشعر بالاعتراز لانتمائه الحضاري فإن استراتيجية تكيفه مع البيئة الجديدة تأخذ طريقا مغايرا للاندماج. فهو يحاول في تكيفه أن يفهم طريقة الحياة الجديدة ويبني علاقات اجتماعية لا تؤثر على قيمة ويحتفظ باستقلال شخصيته, كما يحاول – إذا توفرت الفرصة – التعريف بالقيم التي يؤمن بها والدفاع عنها بطريقة مقبولة سليمة تتمشى مع فهم صحيح للثقافة التي يعيش فيها. والطالب المسلم الملتزم على وجه الخصوص, كما هو ملاحظ, عند تكيفه مع المجتمع الغربي يزداد تمسكه بإسلامه. وهذه ردود فعل طبيعية للبعد النفسي والاجتماعي بينه وبين الثقافة البعيدة عن منهج الله. فقد زادت هذه المعرفة الغربية والعلاقة المباشرة من مستوى إيمانه وتمسكه بأخلاقه. وهذا ليس غريبا في الدراسات الاجتماعية والنفسية فقد دلت البحوث على أن من يتصل حضاريا مع ثقافات أخرى يؤدي به ذلك إلى الوقوف من ثقافته وقفات تقييمية. حيث يقارن بين السمات التي تتصف بها ثقافته والسمات التي تتصف بها الثقافة أو الثقافات الأخرى. هذا بالنسبة للثقافات الإنسانية فكيف بمن يحمل الرسالة الخالدة التي تتخطى عوائق الثقافات الإنسانية والكفيلة بإنقاذ من يلتزم بها من أفراد ومن جماعات. ونعرف هذه الاستراتيجية في التكيف – الاحتفاظ بالتميز مع التعامل مع البيئة الجديدة – باستراتيجية الكيف الراشد.
والاستراتيجية الثالثة للتكيف مع البيئة الجديدة هي استراتيجية الرفض ويقصد به الرفض التام لهذه الثقافة الجديدة وعدم الاستعداد للتعامل معها وتكثر حالات الرفض الفكري والثقافي عند أفراد الآقليات التي تعيش في مجتمع أغلبيته تختلف ثقافيا ودينيا عن هذه الأقليات ومن أمثلة ذلك في وقتنا الحاضر ما يحصل مع كثير من الهنود الحمر في المجتمع الأمريكي الذين يختارون السكن في أماكن بعيدة عن الرجل الأبيض يمارسون طقوسهم الدينية وحياتهم الاجتماعية بمعزل عن الثقافة الأمريكية, وبعض الحركات المسلحة لبعض السود في الولايات المحتدة مثل حركة تحرير السود التي تطالب بدولة مستقلة للسود في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية. وإستراتيجية الرفض الكلي في التكيف نادره الحدوث مع الطلبة الأجانب ذلك أن الأهداف العلمية لقدومهم إلى الغرب تفرض عليهم ولو بطريقة نسبية تختلف من طالب إلى آخر – التعامل مع البيئة الثقافية الجديدة وتكوين الصلات الاجتماعية ومنهم كثير من المسلمات الثقافية للغرب. ولا يضاهي بعض جوانب إستراتيجية الرفض في التكيف تصور أجنبيا من بلاد الغرب قدم إلى إحدى بلاد الخليج العربي للعمل ومنذ قدومه كان إتصاله بالمجتمع المسلم في ذلك البلد محدودا جدا فهو يعمل في مكتب فيه أجانب آخرين ويسكن بمنطقة معزولة مخصصه للأجانب ويتسوق من بقالة خاصة لآبناء وطنه ولا يتحدث العربية ولا تتوفر لدية الحوافز للتعرف على ثقافة وقيم هذا المجتمع الذي يعيش فيه. فمثل هذه الحالة الفرضية يسميها علماء النفس إستراتيجية الرافض في التكيف مع ثقافة المجتمع المضيف.
إن مرحلة التكيف الجزئي – باستراتيجياتها الثلاث – هي نتيجة للصدمة الثقافية وهي بداية للمرحلة الأخيرة من حياة الطالب في المجتمع الغربي.
ومن الصعب تحديد فترة زمنية لهذه المرحلة.
4- مرحلة التكيف النهائي:
وفي هذه المرحلة يكون الطالب قد طور مهارات للتعامل مع البيئة الجديده, بعض هذه المهارات ذو صبغة تربوية للتعامل مع النظام التعليمي الغربي مثل طريقة عمل البحوث الدراسية وطريقة النقاش ( في الفصل الدراسي الغربي) والتعامل مع المدرسة والطالب في البيئة الأكاديمية الغربية وغيرها مما يتعلق بالدراسة. والبعض الآخر من هذه المهارات يتعلق بتطور معرفته لجوانب كثيرة من الثقافة الغربية.
ويكون الطالب أيضا قد طور كثيرا من العلاقات الاجتماعية مع أفراد المجتمع الغربي الذي يعيش فيه حسب إستراتيجية التكيف التي اختارها في المرحلة السابقة. وعلى كل حال فمهما تكن إستراتيجية التكيف فإن هذه المرحلة من حياة الطالب الأجنبي في المجتمع الغربي تخلق أبعاداجديدة في شخصيته (تافت 1977؛ كيف 1980؛ و زابوزنك ورفقاه 1980). وهذه الأبعاد تتمثل في أنه لم يعد ذلك الإنسان الذي قدم من بلاده لاكتسابه مهارات ومعارف جديدة في علاقته مع البيئة الثقافية الغربية, لكنه لا يشترك على أية حال من الأحوال في جميع السمات الثقافية المميزة للفرد الغربي.
ومفهوم الأبعاد الشخصية الجديدة (تسمى في بعض الدراسات بالأنسان الجديد) ليست خاصة بالطالب الأجنبي بل أنها تنطبق على أي إنسان ينتقل من بيئة إجتماعية إلى بيئة أخرى.
لكن مدى التغيير الذي تفرضه هذه الأبعاد الجديدة على سلوك الإنسان محكوم بطبيعة العلاقة بين البيئة الجديدة والإنسان. فسفير الولايات المتحدة في إحدى دول الجزيرة العربية لا يقارن من ناحية تأثره بالبيئة الثقافية الاجتماعية الجديدة بطالب من إحدى دول الجزيرة العربية قدم للولايات المتحدة للدراسة. فعمر الإنسان وجنسه (ذكر أو أنثى ) وطبيعة مهمته ومدى تكوينه النفسي ونظرته للبيئة الثقافية الاجتماعية التي قدم إليها والفترة التي سيقضي في هذه البيئة ومدى تقييمه وإداركه لأبعاد الثقافة التي اكتسبها, كل هذه العوامل بالإضافة إلى عوامل أخرى يصعب تحديدها, لها دور كبير في مدى التغيير الذي سيحصل للإنسان إذا انتقل من مجتمعه إلى مجتمع آخر.
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الدراسات التي بحثت علاقة هذه المرحلة من التكيف بمستوى إتقان اللغة الأجنبية تشير إلى اكتساب اللغة عند الطالب الأجنبي بطئ في هذه المرحلة. فلم تعد هناك ضغوط كبيرة يفرضها الطالب على نفسه للتعلم واكتساب اللغة مثل ما حصل في المرحلة الثالثة. ومن ثم إذا تعدى الطالب المرحلة الثالثة بدون أن يتقن التحدث باللغة الانجليزية جيدا فإن الاحتمال كبير بأنه لن يتقدم كثيرا (شومان 1978). والسبب في ذلك أن الطالب في هذه المرحلة قد طور مهارات شخصية في علاقاته مع البيئة الثقافية الاجتماعية الغربية. فقد يؤثر العزلة شيئا ما, أو يختار تجنب كثير من المواقف الاجتماعية التي تفرض عليه كثرة الحديث, وقد يركز على العمل الأكاديمي المهم في الأمر أنه طور أسلوب حياة يعيش به في هذا المجتمع.
بينما فيما سبق الأربع مراحل التي يمر بها الطالب الأجنبي في البيئة الثقافية الاجتماعية الجديدة التي قدم إليها للدراسة. وهذه المراحل هي مرحلة الأنبهار وتتسم بتشكيل انطباعات سطحية عن البيئة الجديدة, ومرحلة الصدق الثقافية التي يشعر بها الطالب نتيجة لادراكه الفروق بين ثقافته والثقافة الجديدة ثم مرحلة التكيف الجزئي حيث تبدأ تحارب الطالب للتعامل مع البيئة الجديدة. ويحل الطالب في هذه المرحلة بعض مشاكله وتبقى مشاكل أخرى, كما يختار فيها إستراتيجية التكيف التي يحل بها هذه المشاكل أما بالاندماج أو التكيف الراشد أو الرفض وأخيرا مرحلة التكيف النهائي حيث بدأ الطالب بالاستقرار النفسي في حياته في هذا المجتمع. وتتسم هذه المرحلة بالتمييز في شخصية الطالب وتكوين إتجاهات وميول جديدة, وتعرف هذه المرحلة بظهور أبعاد جديدة في شخصية الطالب نتيجة لنوعية استراتيجية التكيف التي اتخذها إسلوب حياة له.
وهذه المراحل الأربع في التكيف تكون دائما متتالية لكن مدى إدراك الطالب لهذه المراحل والوقت الذي يأخذه في الانتقال من مرحلة إلى أخرى هو مسألة نسبية. فبينما يتمكن أحد الطلبة من تخطئ هذه المراحل بسرعة ( من عدة أسابيع إلى عدة أشهر) مع إحساس خفيف ببعض مظاهر الصدق الثقافية, قد تأخذ هذه المراحل وقتا أطول يمتد لأكثر من سنة عند البعض الآخر وتكون معاناتها قوية ومؤثرة , تعتبر الفترة الزمنية من ثمانية أشهر إلى سنة – في المتوسط – فترة كافية للوصول إلى المرحلة الأخيرة من التكيف.
على ألا يفهم مما أشرنا إليه في المراحل الأربع – خصوصا في المرحلة الثالثة – أننا نستطيع التنبؤ بسلوك الإنسان في جميع الظروف. فالإنسان مخلوق إلهي معقد لم تستطع الدراسات العلمية في مجال التكيف النفسي والاجتماعي تفسير كثير من سلوكه.
ففي المرحلة الثاثلة (مرحلة التكيف الجزئي ) عند إختبار إستراتيجية التكيف ( الاندماج , التكيف , الراشد , الرفض) لا يعني ذلك أن مثل هذه الاستراتيجية ستستمر مع الطالب في جميع الظروف. بل قد يجد نفسه مندمجا في فترة من الفترات ورافضا لهذه الثقافة أو لبعض جوانبها في فترة أخرى. وقد يختار أن يتكيف بتوازن , وقد تختلط عليه الأمور في بعض المواقف فلا يعرف ماذا يفعل.
المهم في الأمر أن هذه المرحلة ( التكيف الجزئي ) هي مرحلة غير مستقرة ومعقدة للغاية. وبالرغم من أن المرحلة الرابعة هي مرحلة مستقرة في الغالب إلا أنه ينطبق على المرحلة الثالثة من التكيف. والهدف من تفصيلنا لجميع مراحل التكيف بطريقة فيها كثير من التصنيف والتتابع إنما هو لرسم صورة إجمالية لعمليات التكيف النفسي والاجتماعي التي تحدث للإنسان عندما ينتقل من بيئة ثقافية إجتماعية إلى بيئة أخرى.
وقفات ختامية:
حاولنا في هذه الدراسة أن نستعرض لعمليات التكيف النفسي والاجتماعي للطلبة المسلمين في المؤسسات التعليمية الغربية وما يصاحبها من مؤثرات .
ودراسة هذه الظاهرة من الاتصال الحضاري وما يصاحبها من مشاكل على المدى القصير والبعيد تفرض على جميع الأطراف التي لها علاقة بالإبتعاث مسؤلية كبيرة في هذه الظروف التارخية التي يعتبر فيها الإبتعاث من الحاجات الأساسية لتطور العالم الإسلامي . فهناك مسؤليات تتعلق بالطالب المبتعث نفسه وتتعلق بعائلته. كما أن هناك مسؤليات أخرى تتعلق بالحكومات المسلمة وبالمؤسسات الطلابية الإسلامية في الغرب . فمن ناحية الطالب المتبعث فإن من أهم واجباته , وهو المسؤول أولا وأخيرا عن استراتيجية التكيف التي سيختارها لنفسه في المجتمع الغربي, أن يحاول ما استطاع فهم الأبعاد النفسية والثقافية لرحتله العلمية.
وعليه أن يتعامل مع البيئة الثقافية الاجتماعية الجديدة بطريقة تضمن له الاحتفاظ بقيمة الإسلامية وفي الوقت نفسه تمكنه من معرفة الثقافة والمجتمع بأفكاره ومسلمأته واتجاهاته. كما يجب عليه ألا يخلد – بفعل العاده والألفة – إلى الاستسلام لمعطيات هذه الثقافة ومسلماتها بل يكون دائم التقيم لها. ويقترح أن يكون هذا التقييم مستمرا والا يكون من منظور الإنسان المنهزم فكريا, بل من منظور الواثق من نفسه الفخور بما أنعم الله عليه من قيم تتخطى عوائق الثقافات الإنسانية. كما ينصح الطالب فترة تعلم اللغة بالحذر كثيرا مما يركز عليه من معلومات وأنشطة صفية ولا صفية تهدف إلى صياغة إتجاهات وأفكار جديدة لديه. ذلك أن معاهد تعليم اللغة في المجتمعات الغربية – بالرغم من طبيعتها التجارية – إنما هي مؤسسات يقف وراءها خبراء على معرفة تامة بمراحل التكيف التي تحدثنا عنها وتعكس برامجهم – بالإضافة الى تعليم اللغة الأجنبية – محاولات جاده لتغيير إتجاهات وسلوك الطلبه الأجانب. بل إن معاهد تعليم اللغة في المؤسسات التعليمية الغربية, على وجه الخصوص , تتحكم في أغلبها إعتبارات قوية تهدف إلى تغيير مفاهيم الطلبه الأجانب لخدمة مصالح إقتصادية وسياسية وحضارية. على ألا يعني ذلك العزلة أو عدم الاهتمام بتعليم اللغة في معاهد تعليم اللغة في السنة الأولى.
فقد بينا كيف أن الدراسات تؤكد على أهمية السنة الأولى في تعليم اللغة وكيف يجب على الطالب أن يبذل جهدا كبيرا- للحديث بها وتعلمها قراءة وكتابة. فمستقبل الطالب من الناحية الأكاديمية وفهمه للثقافة الغربية بل وصحته النفسية أيضا تعتمد إعتمادا كبيرا على ما يبذله من جهود في تعلم اللغة في السنة الأولى من قدومه للدراسة.
ويعتبر عم الطالب المبتعث من أهم المؤشرات التي تأثير قوى نوعية علاقته بالثقافة الغربية في رحلته العلمية. فالطالب في مرحلة المراهقة المتاخرة مثلا ( من عمر 18 – 22) لا يزال نموه النفسي لم يستقر بعد. وشخصيته لا تزال لم تطور أطرا ثابته من الاتجاهات والقيم وهو بذلك عرضه لتغيير تشكيلته النفسية ومن ثم الفكرية عند حياته في ثقافة أخرى.
من أجل ذلك يجب على أولياء أمور الطلبة عدم المجازفة بإرسال أبنائهم إلى الغرب وهم لا يزالون صغار السن. ويعتبر خريج المرحلة الثانوية, في الغالب – دع عنك من هو أقل مستوى من ذلك – صغيرا للغاية من منظور حضاري. فهو في حاجه إلى مزيد من الجهود لتثبيت عمليات تطبيعها الاجتماعي ومزيد من الوقت لاستكمال نضوجه النفسي والفكري. وإذا تناسينا الآن ما يحصل للطالب في معهد تعليم اللغة الأجنبية فإن هناك بعدا آخر أشد خطوره في دراسته في الغرب. ذلك أن أي طالب في مرحلة الدراسات الجامعية (ما قبل الدراسات العليا) يجب عليه في جامعات الغرب, سواء كان أجنبيا أو غير أجنبي, أن يأخذ عدة من المواد الاجبارية تعرف بالمواد الأساسية ( أو المواد العامة في بعض الجامعات) . وهذه المواد هي تقديم لوجبات دسمة للقيم العلمانية الغربية ونظرتها للعلم والمعرفة والإنسان والكون والحياة.
وعلى الحكومات المسلمة في سياسة الأبتعاث أن تهتم بتدعيم القيم التي أؤتمنت عليها من الله سبحانه وتعالى ثم من قبل الشعوب المسلمة. وألا ترمي بالالآف من أبناء المسلمين في أحضان البلاد الغربية بلا مراعاة لعامل العمر وبلا حصانه فكرية أو متابعة جيده. وهذا بالطبع لا يعني عدم الابتعاث فهو في الواقع – في ظروفنا – ضرورة تاريخية لتقدم المسلمين لكن يجب أن يكون منظما ومعنمدا على أسس سليمة. فيكون مثلا بعد المرحلة الجامعية وفي التخصصات النادره وبعد التأكد من تهيئة ظروف مناسبة في جهات الابتعاث. كما يجب على جهات الابتعاث في العالم الإسلامي – وما يماثلها من ملحقيات ثقافية – تأمين صلات قوية مع المؤسسات الطلابية الإسلامية في الغرب لتقديم المساعدة للطلبة الجدد وتخفيف مشاكل التكيف التي يمرون بها.
كما أن المؤسسات الطلابية الإسلامية والمراكز الإسلامية في الغرب تتحمل مسؤولية كبيرة تجاه الطلبة المسلمين خاصة في السنة الأولى من الابتعاث التي غالبا ما يمر بها الطالب بمراحل تكيفه في الثقافة الجديدة. فالطالب في مرحلة الصدق الثقافية في حاجة إلى المساعدة في فهم أخلاقيات الثقافة الغربية ومؤشرات الاختلاف بينها وبين الإسلام. وهو أيضا في حاجة إلى المواساة والتشجيع وتهيئة الظروف له – للتعرف على المسلمين في منطقته والانتماء إليهم والارتباط بأنشطتهم في الجامعة التي يعيش فيها. وبهذا يرتبط تكيفه (تكوين إتجاهاته وميوله وفهمه للثقافة الغربية) بعلاقته بالمجتمع المسلم في الجامعة ويبتعد عن الوحدة والعزلة التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال “ إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية “. كما يجب على المؤسسات الطلابية الإسلامية في الغرب أن تقيم علاقات جيده مع معاهد تعليم اللغة التي يتوافد إليها الطلبة المسلمين ومع المؤسسات المسؤولة في الجامعات عن الطلبة الأجانب لتتمكن من مساعدة الطلبة المسلمين وتخفيف الضغوط الثقافية عليهم في هذه السنة الحرجة من الاتصال الحضاري (السنة الأولى من الابتعاث) . وهذه العلاقات مع المؤسسات التعليمية الغربية يؤمل من ورائها الحد من أن يصبح الطلبة المسلمون – أو بعضهم على الأقل – فريسه سهلة الابتلاع للقيم الغربية. فالمجتمعات الغربية لها للأسف الشديد – تاريخ حافل وقدرة عجيبة على صهر قيم الطلبة الأجانب واستبدالها بقيم ومفاهيم وميول واتجاهات جديدة غالبا ما تربط هؤلاء الطلبة بالتبعية الغريبة وتجعلهم عبادا مخلصين للحضارة الغربية.
والله ولي التوفيق وهو المرجو والمستعان
المراجع
Acton, William. 1979. Second language learning and perception of difference in attitude. Unpublished doctoral dissertation, University of Michigan.
Adler, Peter s. 1972Culture shock and the cross – cultural learning experience. Readings in Intercultural Education 2, Pittsburgh: Intercultural Communi – catin Network.
Berr, John. 1980, ”Acculturtion as Varieties of Adaption in Acculturation: Theory, Models and some New Findings Amado Padilla (ed.) West- view Press, Boulder, Colorado
Bromn, Douglas. 1980, The Optimal Distance Model of Second language Acquisition. TESOL (Teachers of English to Speakers of Other Languages Quarterly magazine) 2: 157 – 164
Keefe, Susan. 1980 “Acculturation and the Extended Family” in Acculturation: Theory, Models and some New Findings Amado Padilla (ed.) west- view Press, Boulder, Colorado.
Klark, 1976, “Clash of Consciousness” language learning, v. 26p. 377.
Knisanachinda, Rachjtluk. 1970. Attitudes and Adjustment of Foreign Stu – dents in the United States “Intercultural Students Studies, The University of Kansas, Lawrance.
Morris, Richerd. 1960, “The two way Mirror” Minneapolis: University of Minnesota Press.
Schumann, John. 1976 “Social Distance as a factor in second language Acquisition” language learning, 26 135 – 143.
Scott, Franklin. 1956, the American Experience of Swedish. Min – neopolis: University of Minnesota.
Sewell W. and Oluf Davidson, 1961, Scandinavian Students in an American Campus Minneoplis: University of Minnesota Press.
Szapocznik et al. 1980, Biculturalism and Adjustment in Acculturation: Theory, Models and some New Findings Amado Padilla (ed.) west- view Press, Boulder, Colorado.
Taft, R. 1977. Coping with unfamiliar Cultures. In N. Warren (Ed.) Students in an Cross – Cultural Psychology, V.L New York : Academic Press, pp. 121 – 153.