الارتباط بين الإسلام وفن العمارة:
ثارت تساؤلات عديدة بين بعض المسلمين وغير المسلمين حول حقيقة الصلة بين الإسلام وفن العمارة , وقد انقسم الرأي فيما بين هؤلاء حيث مال أحدهم إلى الجهل بطبيعة هذه العلاقة في حين أظهر فريق آخر فسادا في الرأي … بينما ارتأى البعض الجمع بين الرأيين…
أولا : إلتزم جانب الجهل : هؤلاء المسلمون ممن لا يدركون أن –
أ- ظهور الوحدة المعمارية في كافة أرجاء العالم الإسلامي قد جاء معبرا عن وحدة الأمة تحت لواء الإسلام …إذ لم تكن هذه الوحدة قائمة قبل ظهور الإسلام حينما كانت الطرز المعمارية غير متجانسة إلى حد بعيد … غير أن هذه الوحدة كانت قد نشأت مع بزوغ فجر الإسلام ومع بداية انتشار الخصائص الإسلامية في الطرز المعمارية للمسلمين, مما أتاح الفرصة لدخول عدد من الأنماط المختلفة وتكيفها مع بعض الطرز المناخية والطبيعية أو تلك الموروثة الأخرى.
ب- الخصائص التي تشكل وحدة الطرز المعمارية في أقطار العالم الإسلامي كانت مستوحاة أو مستمدة من الحضارة الإسلامية … وقد تركت هذه الخصائص بصماتها الواضحة على فن العمارة في فلب العالم الإسلامي – في ” المدينة ” و ” بيت المقدس ” كما في ” دمشق ” و “الفسطاط ” و ” القيروان ” و ” بغداد” … حيث انتشرت من هنالك إلى كل البقاع التي شملها الإسلام بنوره… وسوف نتعرض بالتحليل لكل من هذه الخصائص على حدة في ذيل المقال…
ج- من قبيل التقصير الجسيم أن يغفل الإسلام تأثيره على فن العمارة في الدول الإسلامية ؛ فالعمارة شأنها شأن كافة الفنون الأخرى … وهي تعبير جمالي لما لدى الإنسان المسلم من رؤية فريدة ومتميزة تجاه الواقع والمساحة والزمن والتاريخ بل والأمة نفسها وأيضا نحو ارتباطه العضوي بكل هذه العوامل…
فالإسلام هو حقا دين جامع وهو حضارة عالمية الرؤية.. ينبغي أن تعم آثاره لتشمل كافة مناحي الحياة الأنسانية .. فقد حدد الإسلام نظام الملبس والمأكل والنوم وإقامة العلاقات الاجتماعية وأسلوب قضاء أوقات التسلية والفراغ – وهل اهمل الإسلام مسألة تحديد نظام معيشة الأنسان؟… كلا … بل إنه على النقيض قد أكد تأثيره في هذا الصدد بقوة القانون. وإن كانت تعاليم الإسلام لم تقتصر سوى على تحديد زخرفة المساجد وبناء أرضياتها وتشغيل الأعمال الخشبية والإضاءة والسجاد بها … فحسبه ذلك كاف التأكيد الصلة الوثيقة بين الإسلام وفن العمارة …فالمسجد هو المثال والنموذج الأصلي المتكامل لفن العمارة الإسلامية.
ثانيا: التزم جانب فساد الرأي أولئك المسلمون والمشتشرقون ممن يعضدون الفرضية القائلة بانتفاء الصلة بين الإسلام وفن العمارة … وذلك سعيا منهم وراء قصر نطاق شرائع الإسلام على أداء الفرائض, فهم يرون من وجهة نظرهم المعروفة بالعلمانية أو المذهب الدنيوي … أن الإسلام أو أية ديانة أخرى ينبغي ألا تخوض في أمر يتعدى نطاق المسائل الدينية ( الفرائض , وعلاقة الفرد بربه… وعلى سبيل المثال… ) والحياة وفقا لرأيهم تنقسم إلى دنيا ودين وذلك على غرار الفصل المعهود بين ملكوت الله وقيصر الدين المسيحي , وما يستنبع ذلك من تقسيم الحياة إلى كنيسة ودولة…
غير أن أصحاب هذه المزاعم – وهم يدركون أن تعاليم الإسلام قد طرقت شتى جوانب الحياة – يسعون عمدا الى تقليص نطاق شرائع الإسلام وأحكامه … يدفعهم إلى ذلك إما حنقهم مما بلغه الإسلام من شأو واسع المدى إذا ما قورن باضمحلال وقصور نفوذ المسيحية أو خشيتهم من أن يمتد نظاق شرائع الإسلام لتشملهم وتفرض عليهم قواعدها وأحكامها الأخلاقية والجمالية.
وقد انضم لمروجي هذه الأباطيل أيضا فريق من دعاة التخريب ممن يعولون على إبعاد الإسلام عن مجال الأنشطة الإنسانية التي ينشدون اخضاعها لسلطان محددات لا إسلامية جديدة كالقومية أو العنصرية أو المسيحية أو الغربية أو الشيوعية … وما إلى ذلك … وكل هذه المحددات بما قد يكون لها من منفعة ووظيفة وطبيعة أو شأن … إنما تستهدف إفراغ فن العمارة من مضمونه كميدان للتعبير عن الغايات السامية والنبيلة للإنسان وتوجيهها لتلبية الحاجات الأساسية للمرافق … أو أنها قد ترمي أيضا إلى إخضاع هذا الفن كي يتكيف والطبيعة … وذلك كأحد الوان الوثنية المقرونة بتقليد أعمى للحضارة الغربية الحديثة….
طبيعة فن العمارة:
ا – العمارة كاحد الفنون الجميلة:
منذ ان هجر الإنسان حياة الكهوف والأدغال وطفق في إقامة مسكن يأوية , أضطلع فن العمارة بهذا الدور لتحقيق مبدأي الوظيفة والمنفعة …حيث أضاف فن العمارة في هذا الصدد بعدا فنيا وجماليا رفيعا … أضفى على أنشطة البناء والتشيد على هذا النحو صبغة عالمية … وظلت الغاية الأساسية لعملية البناء هي توفير الحماية. والمأوى وتحقيق عنصري الاستقلال والراحة … وقد قام فن العمارة بتجسيد هذه الغايات في إطار فني… حيث ظلت أهداف المنفعة قائمة بطبيعة الحال وذلك على نحو اقترن فيه عنصر المنفعة بالمعايير الفنية الشائعة … غير أنه في بضع حالات قليلة – كما هو الحال عند إقامة نصب تذكاري – تقلصت هذه العلاقة إذ تحلل فن العمارة عندئذ من عنصر المنفعة… أما في الغالبية العظمى من الأحوال فقد استمر الارتباط بين فن العمارة وعنصر المنفعة باقيا, لذا فقد نشأ بالضرورة تفاعل مزدوج بين عنصري المنفعة والوظيفة في فن العمارة ( ويظهر هذا التأثير المتبادل عند إنشاء مدرسة على سبيل المثال .. حيث تأتي أولوية استغلال المبنى في المرتبة الأولى تليها اعتبارات اشكل ثانيا…) .
ومن الوجهة التاريخية , فقد كان مثل هذا التأثير أحد العوامل المضاده لأسلوب المغالاة في الزخرفة وهو الأمر الذي كان سببا في تدهور الطرز المعمارية في القرن التاسع عشر, يبد أن هذا التأثير المتبادل لم يضعف بعدا إيجابيا لفن العمارة… بل ظل مجرد تذكرة لتنبية دعاة المغالاة ممن تركوا العنان لميولهم الفنية كي تنأى بالعمل المعماري عن أغراضه النفعية؛ وبمعنى آخر … فإن الفرضية الواقعية للتفاعل بين عنصري المنفعة والوظيفة بغرض اقامة منشا يستغل لأداء الوظيفة المعد من أجلها … تظل بديهية مقبولة شديدة الوضوح تستحق التوكيد ما لم يطرأ ثمة تعد واضح لهذه الحقيقة.
ونظريتنا لا تحول دون ممارسة النقد المعماري انطلاقا من منطق المنفعة لأن العمل الذي يجمع بين قيمة الجمال والمنفعة هو بالقطع أرفع شأنا من مثليه الذي يحقق أحد هذين الهدفين على حساب الآخر… أما الأمر الذي لا نتفق عليه فهو المفاضلة بين المنفعة والوظيفة كنظرية …وهو الرأي الذي يجعل من المنفعة معيار الأمور جميعها….
ب- فن العمارة كأداة للتعبير الفني:
(مقارنة بين النظريات الغربية والإسلامية )
1- المبدأ الأول لمفاهيم الجمال الغربية:
يعتبر المذهب الطبيعي هو المبدأ اول لمفاهيم الجمال في الغرب, ولقد أسهمت النهضة الأوربية عن طريق اكتشافها للتراث الكلاسيكي في ارساء مذهب الطبيعة الإغريقي كأحد المحددات الأساسية للجمال, غير أن ارتباط هذه المدرسة بالوثنية الاغريقية جعل استيعابها أمرا عسيرا بالنسبة لرجال الكنيسة ممن حاولوا جاهدين ترويض عقولهم لقبول تلك الفلسفة التي تنبني في أساسها على عري الرجل والمرأة.
وحاول فنانو النهضة الأوربية محاكاة لاساتذتهم الاغريق في فن التصوير فيما اعتبر آنئذ مساسا بالقيم الأخلاقية للدين المسيحي… غير أن رجال اللاهوت سرعان ما فطنوا لمسوليتهم تجاه عقد مصالحة بين هذه الفلسفة والقيم الأخلاقية للمسيحية.
والطبيعة ليست هي كما كان يعتقد بأنها كائن أرضي من صنع الله.. ولكنها عالم ينبض بالقدسية بفعل الروح التي نفثها الله فيها … ونسب قول للسيد المسيح أن الله قد نفخ في الطبيعة بروحه حتى لاتفارقها … فعملية التجسيد هذه جعلت من الطبيعة ملكوتا تلازمه الذات الالهية. ان النزعة الأخلاقية لا تؤتي من خلال فرض ارادة الله علي الطبيعة , ولكنها تمكن في اكتشاف أن هذه الإرادة كائنة في الطبيعة ذاتها… ولأنها تحوم دوما كي تكشف النقاب عن نفسها معبرة في صور شتى عن الجوهر المقدس الكامن بداخلها بصرف النظر أن اتفق هذا الرأي تماما والمسيحية أو اختلف معها… فليس هذا ما ترمي إليه … وحسبنا هنا أن نؤكد أن النزعة الطبيعية للاغريق قد نجحت حقا في التغلغل إلى وجدان المسيحية وشرعت منذ ذلك الحين في توسيع مجال سيطرتها داخله حتى أنها تمكنت في كثير من الأحايين من احتواء المسيحية ذاتها. أما بالنسبة للاغريق فكانوا يرون في المسائل الالهية والطبيعية حقيقة واحدة بعينها شريطة أن يحظى مفهوم ” تطبيع الطبيعة ” برؤية سامية متميزة , في الوقت نفسه مثلت مفاهيم القرون الوسطى تجاه النتائج الموضوعي المنفرد لعنصري الفراغ والزمن, وهي كما هو واضح ليست مسائل سماوية , من ناحية أخرى كانت مسألة ” تطبيع الطبيعة ” بداهة مفهومها ديناميكيا خلافا كائنا في الفراغ والزمن ولكنه لا يشتمل على أشياء بداخلها.
ان تطبيع الطبيعة حقا هو القوة أو السلطة التي تنشأ عنها كل القوى بكل ما تحمله في طياتها من القواعد السلوكية الخاصة وذلك في سعيها من أجل تجسيد هذه المعايير في المدركات التي تهبها الطبيعة خاصية الوجود, غير أن مهمة الطبيعة ليست قاصرة فقط على تحقيق اغراضها , بل أيضا على توضيح أسلوبها ومحاولاتها.
إن الفنان هو ذلك الشخص الذي يدرك مثل هذه الغاية ويحاول ابرازها في أعماله الفنية , ولقد أخطا ” افلاطون” عندما اتهم الفن بأنه مجرد محاكاة للطبيعة … فالفن هو الذي قام بفك طلاسم لغة الطبيعة بعد أن ظلت غامضة بسبب موجات الاخفاق المتلاحقة التي لحقت بمن تصدى لسير غورها … كما برز الفن كأداة مبدعة نجحت خلال جولة واحدة فيما أخفقت في تحقيقه الطبيعة خلال ملايين المحاولات.
استمرت الدعوة لاقحام الفلسفة الطبيعية في الفن تأسيسا على أن الطبيعة في صفتها البديهية هي الحقيقة وهي المعيار السلوكي . ان نزوع النفس الإنسانية إلى الحب والكراهية , وإلى الخوف والتملك , وإلى السيطرة والميل إلى الانتقام والتدمير… وكل هذه الميول وأكثر منها تمثل قوى خاصة بتطبيع الطبيعة ومن ثم فإنها قوى واقعية ومعيارية في الوقت ذاته…
ولقد صور المؤلف المسرحي التراجيدي الاغريقي تفاعل هذه القوى وصراعها مع بعضها البعض من خلال أشخاص رواياته الذين تقمصوا انئذا أدوار الآلهة… ولكونهم آلهة, فلم يكونوا خاضعين بالفعل لأي قوى بخلاف القدر, وهي حقيقة تدلل على انهم لم يقعوا تحت رحمة عوامل خارجية , أي أنهم كانوا يتمتعون باستقلالية تامة… وإذا ما حدث ان انتهت صراعاتهم هذه بوفاة أحدهم اعتبر ذلك أمرا عاديا وطبيعيا…
ان الانسان العاقل هو وحده الذي يدرك أن المأساة هي جوهر الحياة كلها بما يعترك فيها من صراعات , حيث ينمحي الصراع بين قوتين من قوى الحياة لدى ظهور قوة أساسية ثالثة على مسرح الأحداث؛ قوة مهيمنة على بقية العناصر المتصارعة الأخرى وتقضي كل التفاوت والخلافات القائمة بينهما … غير أنه إذا كانت هذه القوى المتصارعة مطلقة – وذلك هو محك ومغزى الفلسفة الطبيعية – فلن يكون لقوة ثالثة على وجه التحديد أن تسيطر على تلك القوى لأنه عندما يكون الصراع مطلقا تصبح المأساة ضرورة , والعار كل العار أن تسعى تلكم القوى لتجنب لصراع, والبطولة كلها في المواجهة والنفاذ إلى قلب الصراع, ولأن الصراع وأركانه مطلقة , ولأن تجسيد تفاعله هو الحياة ذاتها وهو الواقع والحقيقة … لذا فإن ذلك الصراع هو السمو بعينه وهو المعيار المطلق لمقاييس الجمال والضرورة وأثارة المشاعر…
عملت النهضة على أدخال الفلسفة الطبيعية الاغريقية في فن العمارة الغربي وذلك على غرار ما قامت به تجاه كافة الفنون الأخرى, ففي طرز الكنيسة القوطية أعيد اكتشاف عنصر القوة كأحد الركائز الأساسية في الأعمال الانشائية القوطية التي نشأت في ظل المفهوم الأساسي لقوة تطبيع الطبيعة, وتجلت هذه الخاصية معبرة عن نفسها في بناء مذبح الكنيسة حيث تقدم القرابيين لتصعد الى الأعالى مع قربان السيد المسيح … وقد ظل هذا المضمون مواكبا للكنيسة في حين أصبحت مسألة المعالجة طبيعية وجديدة على نحو ملحوظ … وفي نهاية المطاف حصلت هذه المعالجة من خلال تأكيدها لذاتها تدريجيا على استقلاليتها وشرعت في اثراء مضمونها الذاتي بدلا من تأسيسه على تعاليم الدين المسيحي .
2- المذهب الطبيعي وأسلوب التعبير في فن العمارة:
أ- الفضاء ( الفراغ).
ان الفضاء هو الغاية الأولى والأخيرة لأعمال البناء, فكل مبنى يبدأ أولا بالتصميم لينتهي بتخصيص حيز في الفراغ وذلك هو بالطبع سبب وجود ذلك المبنى فإن كل مبنى ينشي بالضرورة لشاغلة أو مشاهدة علاقة محددة بالفضاء فالمبنى لم يكن ليظهر الى حيز الوجود ما لم يشتمل على الفضاء ولن يتسنى له القيام بوظيفة فنية وجمالية دون الاستعانة بداهة بالفضاء , لذا فإن الفضاء هو العالم أو العمل الفني الخلاق وهو أيضا المؤشر البليغ لوجود الذات الالهية وهو بحق الملكوت الطبيعي المبدع لله. ولأن الفضاء لا نهائي فهو دائما ما يثير لدى الإنسان مشاعر الدهشة والغموض.
ظن الإنسان في العصور الغابرة أن الفضاء يحوطنا من أعلى فحسب , غير انه قد عاد اليوم ليرى أنه ينتشر من حوله وأسفله أيضا. إن أى جزء أو اتجاه في الفضاء يمكن لنا أن نلمسه بحواسنا لدية ذات الأثر في خلق إدراكنا بلا نهائية الفضاء وفي إثارة نوع من الدهشة المقرونة بالقناعة والخضوع أمام ملكوت الله. وفن العمارة هو الذي يحصر لنا هذا الفضاء في الأبنية ويجعلنا نعقد علاقة بينه وبين الفضاء في صور شتى.
1- البناء والفضاء الخارجي
أولا- تميز فن العمارة المرتبط بالمذهب الطبيعي بالنزوع إلى اقتطاع الفضاء اللازم لإقامة مبانية عن طريق القوة, بمعنى انه اتجه إلى تدعيم وترسيخ الحدود الخارجية للمباني, حتى يؤكد انفصام هذه الحدود عن بقية الفضاء … فكلما كانت عملية اقتطاع الفضاء عمية وقوية ومجددة , كلما دل ذلك بداهة وبحق – على حد قولنا – على أنه قسرا وضد إرادة ومقاومة الفضاء.
وهكذا فإن فن العمارة الواقعية يعطي دلالة على وجود القوة البشرية في الفضاء وعلى دور هذه القدرة في تشكيل الفضاء تاكيدا لذاتها على مسرح الطبيعة الالهية…
وتؤكد مقولات الطبيعيين أن القوة أو المقدرة هي حقائق في الطبيعة وأنها واقع ميتافيزيقي ذاتي وأخلاقي مطلق… ومن ثم كانت محاولات المهندس المعماري الواقعي لبرهنة ذلك أمرا بديعا يستحق التقدير, ويحضرنا هنا أن نشير إلى أن الإغريق اتخذو من (برميثوش) المبدع إلها (وهو سارق النار من السماء ومعلم البشر استعمالها) باعتباره مفخرة وأملا للبشرية.
ثانيا- يرى فن العمارة الواقعي أن الجزء المنحوت في الفضاء جاء لتأكيد حدود البناء الذي يشغل حيزا فيه, فحدود المبنى هي حوافة الأفقية والرأسية التي تدعم اطاره وتجعله أكثر وضوحا وبروزا وتفردا ليكون هذا النحو شغل الفضاء أمرا مكتملا وثابتا … وعندئذ يصبح المبنى مليئا بعناصر التحدي والبهجة النابعة من نشوة النصر على الفضاء.
ثالثا- حتى يستوفى فن العمارة الواقعي أغراض نحت أو اقتطاع الفضاء وشغله بالقوة فضلا عن تأكيد الذات والتبرئة من تهمة فرض نفسه عنوة أو خلق حقيقة معيارية صادقة, فقد لجأ إلى ما يمكن أن نطلق عليه ” هندسة وتخطيط الفضاء” حول المباني حيث تخير المناطق المرتفعة أو عمد إلى رفع الموقع صناعيا كما وقع اختياره أيضا على مساحات الأرض الخلاء المتبسطة وأزال التكوينات المجاورة لها وقام بغرس الأشجار أو شيد أبنية إضافية بغرض تدعيم الكيان الاستقلالي لللمباني في الفضاء.
وعلى النقيض تماما, فلم ينظر الإسلام للإنسانية من وجهة نظر (برومثيوسية ) فالإنسان ليس طرفا في أي صرع مع الذات الإلهية, والمسلمون يقررون بوحدانية الله سبحانه وتعالى … فهو الخالق… وهو مالك كل شئ. والله القادر هو الذي أمرنا بالتسليم لقضائه… والشهادة بوحدانيته والخضوع لأمره وطاعته … وليس في استطاعة مخلوق أن يعصية إلا وكان عقابه في الآخرة, فالله هو الملك الحق لكل المخلوقات, لذا فإن الدنو من ملكوته الطبيعي… الفضاء… ينبغي أن يقترن بالتوفير له لا بالتعالي عليه, ولأنه قدر على الإنسان أن يتخذ له مسكنا يأوية في هذا الفضاء بات لزاما عليه أن يفعل ذلك في خضوع ودون اللجوء للقوة أو التحدي وتأكيد الذات … فإن القوة النسبية للإنسان تظهر عندما يكون الآلهة بشرا خلقوا من نفس المكونات الطبيعية ونفس القوى الطبيعية الأخرى للإنسان … ولكن الإسلام يعترف بوجود الله الذي تعالت قدرته فوق كل الموجودات فهو الواحد الفرد الذي ليس كمثله شئ.. وهنا يتجلى ضعف الإنسان وضآلته أمام خالقه.
تمكن فن العمارة الإسلامية من الوقوف على سبل احتواء الفضاء … الأمر الذي يعكس موقف الإسلام من الملكوت الطبيعي لله … فقد تميزت الخطوط الأفقية للمباني الإسلامية ببساطتها وعدم احتوائها على الخطوط ذات الزوايا كالأسطح الجمالونية أو المقوسة… كما اتخذت خطوط وحواف المبني الإسلامي في أغلب الأحوال أشكالا زخرفية محززة لأن الخطوط البسيطة للجدران أو مستوى السقف تعد من الصور الحادة الجامدة بالنسبة للذوق الإسلامي … فمثل هذا التحزز من شأنه أن يسمح للمباني بالاتساق مع الفضاء على نحو يعيد معه جزءا منه بدلا من أن ينفصل عنه.
ويمكن تحقيق مثل هذه الغاية أيضا عن طريق تكرار ومضاعفة الخطوط الأفقية بإقامة الشرفات المغطاه والإفريز أعلى فتحات المباني … غير أنه قلما تصمم الحواف الرأسية والجانبية للمبني والتي تفصله عن الفضاء بزاويا 90 ° درجة أو أقل من ذلك … بل روعي أن تظل هذه الحواف مرتدة أو ناتئة وذات أسطح مئلومة للتقليل من تأثير الانعزال عن الفضاء وحتى بالنسبة لخطوط تصميم القبة – وهي أصعب خطوط التصميم طواعية – فقد عثر فن العمارة الإسلامية على مخرج عن طريق زخرفتها وتحزيزها وتضليعها…
أما بالنسبة لهندسة ” تخطيط الفضاء ” فقد ظل ذلك معارضا لأغراض فن العمارة الإسلامية إذ أقام المسلمون أفخم مبانيهم في قلب المدن تلاصقها المتاجر والمنازل حيث نجد الواجهات والجدران الضخمة باسقة في أحد الشوراع العادية وحتى في الطرقات الضيقة بحيث يتعين أحيانا على المرء أن يخترق هذه المسالك كي يتسنى له مشاهدة هذه الأبنية .. كما جرت العادة أيضا أن تقام معظم المباني الإسلامية لا سيما المساجد وسط الكتل العمرانية وليس على مسافة منها حتى تتمتع هذه المباني بقسط وافر من الفضاء حولها… (يشذ عن هذه القاعدة :- أبنية المقابر في شمال شرقي ايران وأفغانستان وتاج محل في الهند.)
2- البناء والقضاء الداخلي:-
أولا:- بعد أن انتهي فن العمارة الواقعية من اقتطاع وتخصيص جزء له في الفضاء وبعد أن نجح في حماية مبانية عن طريق تدعيم حوافها وتخطيط الفضاء المحيط بها, اتجه بعد ذلك للتعبير عن إرادة الإنسان حتي يتسنى له أن يحتفل بالنصر وأن يستمتع بما استحوذ عليه بعد أن تم له شغل المنزل والإقامة به, والمفهوم الوحيد الذي يحقق له هذه الغاية على النحو الأمثل هو فكرة ” الأحتواء” , إذ يتعين تقييد الفضاء وتطويقة إذا رؤي امتلاكه والاستمتاع به.
فطالما ظل المرء بداخل المبني فعليه أن يستشعر بوجود ” الفضاء الأسير”. ومثل هذا الفضاء بغض النظر عن حجمه هو غار كبير بما تثيره عوامل مساحة الجدران وارتفاع الأسقف في وجدان شاغله من الشعور بمحدودية القضاء من حوله.
ومن الجلي أن إدخال الفتحات في الجدران والأسقف يقلل من الشعور بالتكهف في حين يساعد على إثارة ذلك الشعور الجدران والأسقف – الصلبة الجامدة , فكما ازدادت مساحة أسطح الجدران والأسقف وإن احتوت على قباب أو مسطحات – كلما زاد الإحساس بالتكهف وبالأنغلاق النفسي عن بقية الفضاء الرحيب . وحتى لا ينتهك فن العمارة الواقعية حرمة هذا التكهف لجأ الى استخدام الزجاج الداكن اللون لتغطية فتحات المبنى واتجه إلى تصميم هذه الفتحات بأسطح مائلة وفي مواقع ليتم توظيفها لخدمة فكرة التكهف.
ثانيا:- أمكن خلق الفضاء الأسير عن طريق ” المركزية ” أو ” الحصر البؤري” فالفضاء المحصور بالمبنى يجب أن يستخدم كمركز أو بؤرة تجمع جوانب المبنى كلها, ففكرة تحديد الفضاء المحصور تستوجب الوجود الكلي للفضاء المحصور الأمر الذي يتطلب بدوره ربط الأقسام الفرعية للفراغ ببعضها عضويا وهنا يبرز الترتيب المركزي كأحد الحلول بصرف النظر إن أسفر ذلك عن تجزئة الفضاء المحصور من عدمه … ومثال هذه الحالة ما اتبع في الكنائس والمعابد والبلاط الملكي حيث جرت العادة على ترتيب الأثاث والستائر والزخرفة الداخلية والنوافذ ومصادر الإضاءة وممرات أجنحة الكنائس كي تفضي نهايتها إلى المذبح أو العرش.
وفي حالة تقسيم الفضاء فإن العلاقة بين الأقسام الفرعية والمركزقد تكون إما عضوية أو على الأقل علاقة إضافية وهي الحالة التي تفتقر إلى الحس والإدراك , أما في حالة العلاقة العضوية فإن الأقسام الفرعية لا تستطيع إلا أن تؤكد انجذابها نحو المركز…
ومن الوجهة الإنشائية وبالنسبة لمقاييس الزخرفة الداخلية ( النوافذ , الإضاءة , الأثاث… وما إلى ذلك ) فإن بناء صحن الكنيسة يؤكد على فكرة تطوير الوحدة العضوية للمذبح في الصحن الكنسي.
أما في العمارة الإسلامية حيث تنتفي عوامل الصراع والتحدي لداخلي وقهر الفضاء الخارجي والغلبة عليه… فلم تكن ثمة حاجة لتقييد الفضاء الداخلي بل على العكس تميزت المباني الإسلامية بإشباع الحاجة للاتصال بالفضاء الداخلي عن طريق امتزاج الفضاء الداخلي والخارجي لهذه المباني على نحو يظن معه أحيانا أن عملية المزج أو المدج هذه تمت على مضض. وقد أمكن تحقيق هذه الغاية بإنشاء النوافذ والبهو الداخلي المفتوح أو صحن المسجد الذي يحف المنطقة الداخلية لحدود المبني . وقد ظل المسجد النبوي في المدينة المنورة والذي شيده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه النموذج الأصلي لبناء المساجد حيث درج المسلمون في كافة أرجاء العالم الإسلامي على الاقتدار بهذا الطراز. ويشتمل التكوين الخارجي للمسجد النبوي على تكوينات داخلية ذات جدران ثلاثة ولا وجود لجدار رابع … حتى يتسنى ربط الفضاء المحصور مع الصحن الداخلي للمسجد الذي يتصل بدوره بالفضاء الخارجي لعدم وجود سقف يعلوه وعند وجود حائط رابع قامت الأبواب والنوافذ الضخمة إلى جانب الأورقة بنفس الوظيفة الأساسية لمعالجة الفضاء المحصور في فن العمارة الإسلامية … الأمر الذي يتنافي ونظرية حصر الفضاء التي يقول بها فن العمارة الواقعية.
ولقد وجدت مثل هذه الساحات الداخلية المفتوحة أو الأفنية في الغرب غير أنها مجرد فراغات بين أربعة أو أكثر من الأقسام المنفصلة للمنبي الواحد … الأمر الذي يتجه إلى زيادة حصر الفضاء عما ينبغي بالسنبة لدمج هذه الفراغات بالفضاء الخارجي … والحقيقة ان نموذج الحرم الشريف في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة ومسجد ” باو شاهي ” في لاهور ” جامي مسجد ” في دلهي كلها نماذج تبرز مسألة معالجة ربط الأماكن المغلقة بالفضاء الخارجي… الأمر الذي لم يرد في فن العمارة الواقعية…
3- الفضاء الخارجي ووحدة البيئة:
اتخذ فن العمارة الواقعية اتجاها أكثر واقعية لا سيما على يد (فرانك لويد رايت ) فقد كانت تقول من قبل باخضاع هذا الفن للتعبير عن الطبيعة البشرية والحقائق البديهية لهذه الطبيعة المعروفة بالقوى ” الفذة” , ونصبت هذه القوى من نفسها معايير أو بالأحرى آلهة, وبطبيعة الحال تميزت الفلسفة الطبيعية بمفاهيمها العميقة فكانت المضامين التي تفترضها كنهايات حتمية أو موضوعية ليست هي المضامين التجريبية ولكنها كانت مسلمات واقعية تطرحها على العقل كبديهيات ذهنية وعاطفية … فمن المعتذر اخضاع هذه القوى للموضوعية … ولكن إن تحقق ذلك بالفعل فإن التمثيل الغني لهذه القوى سوف يرفع من قدرها ومن جمالها لأن التمثيل ينطوي أيضا على المثالية.
كانت الفلسفة مفرطة في التبسيط عندما حذت حذو الواقعية الساذجة بافتراضها أن نهايتها الحتمية والموضوعية يمكن ان تخاطب بها الحس… وفي هذه الحالة فإنها تدعو إلى وحدة النتاج المعماري مع البيئة المحيطة به لتكون المحصلة النهائية هي تلبية حاجات الإنسان للمأوى والراحة والاستقلالية على ألا يتم بأي حال الإضرار بالطبيعة أو إحداث تغيير بها … فالمبنى على هذا النحو يشيد رأسيا أو منبسطا أو مقوسا أو على شكل شلال أو منحدر قليلا, وقد تصنع الجدران من زجاج ليصبح من هو داخل أو خارج المبنى مرئيا… وهكذا لا يمكن تفرقة المبنى عن البيئة المحيطة به… ونموذج ( فرانك لويد رايت ) “الشلات” هو النمط الشهير لهذا النوع من فن العمارة.
وتفترض النزعة الطبيعية أن الطبيعة التي تخلق المعايير في حين الطبيعة الساذجة أن كل ما تدركه الحواس فهو طبيعي … والإسلام ينظر لكلتا الفلسفتين على أنهما من ضروب الوثنية… فالله هو المطلق وهو الآخر وإرادته ومنهجه هما المعيار الوحيد… والطبيعة هي عالم مادي ليس في استطاعتها اطلاقا خلق المعايير بل إنها نفسها قد خلقت ليتم تشكيلها كي تتكيف وتلك المعايير .. وفي الوقت الذي يمكن أن نصف فيه الفلسفة الطبيعية بالدقة على أقل تقدير فإن الطبيعة الساذجة ما هي إلا فلسفة أثمية خرقاء …. فهي لم تقم حتى بمجرد طرح مبرر للإنسان ليهجر حياة الكهوف والدغال… وبالقطع فأن هذه الفلسفة يمكن أن أكثر تطورا ولكنها مهما تطورت فسوف تظل في اتجاه لا يتفق وفن العمارة.
ولكن كل ذلك لا يمنع المهندس المعماري من محاولة التوفيق بين الحاجات الإنشائية للمبنى والحقائق المادية الأخرى للموقع … كظروف المياه والتكوينات الصخرية والأنهار والجبال … الخ.. وهي اعتبارات تدخل في اختصاص المهندس وليس المعماري…
ب- الضوء:
إن فن العمارة مثله مثل كافة الفنون الأخرى بعيد عن الرؤية الشاملة للبشر نحو عالمهم… والضوء يلعب دورا بارزا في الرؤية الإسلامية لفن العمارة… وقد شبه الله تعالى ذاته العلية بالنور ( سورة النور آية 34).. كما استخدم سبحانه وتعالى المعنى نفسه في تنزيلة للدلالة على الرؤية المادية أو الروحية أو الأخلاقية . والحقيقة ان الضوء والرؤية هما عنصران يدلان على أن البصيرة والحكمة هي صفات لم تقتصر على الأرض فحسب بل تجاوزتها إلى السموات .. فالفوز العظيم في الآخرة هو أن يرى الإنسان وجه الله تعالى.
أمن المسلمون عبر القرون الماضية بكل ما جاءت به الدعوة الإسلامية لهداية النفس وإنارة الطريق وحسم المجالات الجاهلية الباطلة, وقبل ظهور نور الإسلام ظلت شعوب الشرق الأدنى كلها تعبد نور السموات بقرون طويلة تمتد عمقا في التاريخ إلى حضارة المصريين القدماء وحضارة مابين النهرين… كل هذا التراث جعل من الضرورة أن تضاء المباني الإسلاميةإضاءة كاملة… فالإسلام يمقت الظلام لأن أحكامه لا تنطوي على أسرار أو ألغاز وطلاسم كما انه لا يسمح بالتناقضات أو الغموض فهو يهدي للبصيرة الثاقبة والصفاء الكامل والسمو الرفيع… فلم يقبل الإسلام على سيبل المثال استخدام الألفاظ التي ترمز للرحم بل نص عليه صراحة . وإن نزول الوحي لم يحدث من وراء ستر الظلمات ولم يكتنفه الغموض واللبس … فكان الوحي كثيرا ما يهبط على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حضرة الصحابة ولم يكن يعتري النبي صلى الله عليه وسلم أي تغيير لدى نزول الوحي عليه بل على النقيض كان صلى الله عليه وسلم أكثر رباطة جأش وصفاء والإسلام لم يبح في احكامه اللهو او تعاطي كل ما يفقد الوعي كما نهى عن معاقرة الخمر أو الخوض فيما يتعلق برؤية الذات الإلهية….
ارتطبت الفلسفة الطبيعية ارتباطا قويا بالمعتقدات الإغريقية الوثنية وبالديانات الكهنوتية القديمة للامبراطورية الرومانية وبالدين المسيحي نفسه الذي تبنى في بداية نشأته بعض آراء الفلسفة الواقعية ثم وقع بعد ذلك تحت تأثير عصر النهضة… وقد لجأت هذه الفلسفة إلى الاحتماء بالظلام عند محاولتها ترويج طلاسمها …فعالمها ملئ بالأساطير , وهذا هو السبب الذي جعل من الكنيسة المسيحية على مر العصور عالما يكتنفه الظلام…
والظلام يمكن أن يسهم في جذب الأقسام الفرعية للفضاء الداخلي نحو المركز فعند إضاءة المركز أو النقطة البؤرية وإظلام بقية المساحات فإن الجزء الداخلي للمبنى بأكمله ينجذب نحو المركز….وفي حقيقة الأمر فإن المركزية العضوية للفضاء الداخلي الخاص بالفلسفة الطبيعية تحتاج إلى قدر من الظلام لتعمل تحت ستاره.
وعلى طول الخط نجد أن إلاسلام يفسد في الظلام والغموض ولكنه ينهض في الضوء … وأكثر من ذلك فإن الضوء الطبيعي الذي يغمر المنبي بأكمله هو الرباط الضروري والأساسي بين الفضاء الداخلي والفضاء الخارجي الرحيب.
ج- الكتله:
الكتله هي النتيجة الطبيعية واللازمة الوحيدة للفراغ فهي الجسم الذي يحتوي هذا الفضاء وليست هذه هي وظيفتها الوحيدة. والكتله تعبر عن قوى الطبيعة في صورة بناء أو جدار . سقف أو أرضية التي يحملها كل جزء منها نحو الأجزاء الأخرى ومظهر كل جزء على حدة… كل ذلك إنما يمد المشاهد بإحساس فني بديهي بمجموعة من القيم التي يتخذها كمعايير للحياة وللواقع…. والكتله ذات خصائص أساسية أربعة هي الموضع والجاذبية والتماسك واللاشفاقية. وتلك هي المظاهر الشكلية الظاهرية التي يمكن من خلالها ادراك الكتله.
1- مفهوم الكتله:
الكتله والموضع:
تقوم الكتله الموجودة بالقاعدة المرئية للمبنى بتثبيت دعائم هذا المنبى نحو الأرض لتحقيق عنصري الثبات والبقاء…. وتجسد الأهرامات المصرية هذا المبدأ في أحسن صوره. إذ استهدف بناؤها أن تظل تعبيرا عن فكرة الأزلية والتي نجحت الأهرامات في تأكيدها … ان استقرار الكتله علة قمة منبى دون ارتكازها على قاعدة أو أساس كتلي إنما يعبر بوضوح عن التوتر الناشئ أو السقوط الوشيك أو الكارثة وهي على هذا النحو تعبر عن عدم اليقين أو الضعف أو القابلية للسقوط ولهذا السبب تبدو كتله الإفزيز الذي يعلو ” البارثينون” في أثينا والمحمولة على العديد من الأعمدة الضخمة… كما لو كانت ثقلا خفيف الوزن ترفعه الأعمدة بسهولة… والإنسان يمكنه أن يتخيل نفسه في هذا الوضع إذا كانت لدية الثقة في نفسه ليحمل أعباء الوجود والالتزامات الأخلاقية والمسئولية الكونية … ومن ناحية أخرى يمكن أن نتخيل أن الكتله المحمولة فوق العمدة قد سحقت هذه الأعمدة بفعل ثقلها وصارت مهددة بالسقوط… وهي صورة جلية لما قد يكون عليها الإنسان من الشك وعدم اليقين قبل السقوط… منسحقا تحت وطأة أعبائه وأوزاره.
وأخيرا فإن الكتله المرتكزة على السقف أو السطح فوق دعامات إنشائية ضعيفة أو متهاوية يمكن أن تعبر عن قهر الاستبداد أو القوى المهيمنة.
من جهة أخرى, يمكن أن تكون الكتله رأسية وقائمة أو أفقيه مستلقية وقد تحتوي على العنصرين معا سواء اتزنت أو لم تتزن مع بعضها البعض, والهدف من ذلك هو التعبير عن مدى الاستعداد التام لمواجهة الإنسان لقدره ومتضمنا إشارة إلى قناعة الإنسان بهذا القدر. فكما يدل تمثال ” بوذا” القائم أو الراقد على هدوئه وسكينته بعد خلاصة من عناصر الرغبة… فإن تمثال البطل المغوار المتأهب المتحقز يدل على الشئ نفسه.
وقد ارتبط الوضع الأفقي تقليديا بالشرق الأقصى في حين التزمت الآثار القديمة بالوضع الرأسي . فوفقا لتصورهم لمفهوم القوة اتخذ الاشتراكيون القوميون في ألمانيا الوضع الرأسي للطرز المعمارية الرسمية . ان توزيع الكتله من شأنه أن يخلق الحركة الاستاتيكية الصاعدة أو الهابطة على حد سواء.
وفي حالة الكاتدارئية القوطية برزت الكتله بين زخارف البناء الداخلية صاعدة إلى السماء بينما أكمل صحن الكنيسة هذه الصورة بارتفاعه نحو الخارج. إن توزيع الكتله قد يعطي إيحاء بالحركة للأمام أو الحركة الجانبية الثابتة كما هو واضح في ( مثال الأبنية المصممة على غرار السفن تبدو كما لو كانت في صورة تماثلها).
الكتله واللاشفافية:
إن مفهوم الكتله يتأكد بخصائص السمك واللاشفافية والوزن الظاهري والجاذبية وتماسك الحبيبات الصلبة ….. وكل هذه الخواص تتأكد بالخاصية المقابلة لها طالما كانتن هذه الصفات المقابلة تناقض الخصائص السابقة ولا تنفيها , فوجود جزء سميك بمنطقة ما يمكن وصفه بأنه سمك زائد بالنسبة لجزء آخر رقيق يجاوره, ومن الوجهة العملية سادت ظاهرة اللاشفافية الواجهات الخارجية للعمارة الغربية على الرغم من استخدام الزجاج لتزيين معظم أسطح الجدران, أصف إلى ذلك أن النوافذ أينما وجدت ومهما كان عددها لم تسهم في كسرة حدة اللاشفافية في المباني الغربية, أما داخل المبنى فقد تغير مفهوم اللاشفافية باستخدام ورق الحائط الذي يحوي رسوما قد تزيد من الإحساس باللاشفافية عن طريق ما يزخر به مضمونها من صبغة طبيعية وذلك على الرغم من اللمحة الجمالية التي يضفيها على الجدران, فوق الحائط يساعد على الإحساس باتساع الحجرة ولكنه يجعلها محدودة بحاجز من الأشجار أو الزهور والمناظر الطبيعية مثلما تعطي مرايا الحائط الكبيرة أو الزجاج العاكس إحساسا باتساع الحيز دونما أن ينتزع الإحساس باللاشفافية من الجدران.
الكتله والجاذبية:
يمكن حساب الوزن الظاهري للكتله وجاذبيتها اما مباشرة بمعلومية ابعادها أو من خلال خواص السطح والقوام, ويمكن إضافة الإحساس بثقل الوزن باستخدام طبقة شفافة للزينة. وقد استخدم الحجر الجيري ذو المظهر المتشقق خلال العقود الماضية إلى جانب الحجر الرملي والأسطح الخرسانية غير المجهزة لخلق انطباع بجسامة الوزن على غرار ما ينتاب المشاهد من مشاعر جارفة لدى اقترابه من الصخور هائلة الحجم, ويقول الفلاسفة “كانت” و “شوبنهار” إن شعورا بالخشوع والرهبة يسيطر على المرء عند رؤيتة لمظاهر القوة والقدرة مما يشعر بمدي ضآلته إزاءها.
الكتله والتماسك:
أما الخاصية الرابعة والأخيرة لمفهوم الكتله فهي تماسك مكوناتها, وهي الخاصية التي تظهر بجلاء في رفض الكتله لعمليات النحت والنقش أو تعريض حوافها الخشنة أو الملساء لفعل الأدوات الحادة أو تثبيت التماثيل والزخارف الأخرى عليها . إن الحائط الحجري ذا التجاويف المنحوته والبروزات الناتئة والحواف الملساء أو الخشنة والعقد ذات الأحجار المنحوته والذي اصطفت وحداته على نحو يؤكد مرونتها في انسيابية بالعقد … كل هذه المظاهر إنما تخلق انطباعا واضحا عن الكتله وعن تماسك عناصرها, وكلما ازدادت عوامل التحدي للكتله وازدادت تبعا لها اعتبارات الانتصار عليها, كلما عظم الأثر الذي تتركه هذه الكتله في نفس المشاهد.
2- مغزى الكتله في العمارة الواقعية:
إن الكتله هي اللغة التي تتحدث بها عناصر الإرادة والحركة وقد ظل مفهوم الكتله هو المرآة التي تعكس رؤية الحضارتين الإغريقية والرومانية تجاه فن العمارة, واستمر مفهوم الكتله في القيام بالدور نفسه في العمارة الغربية وإن لم يكن المضمون متطابقا تماما في الحالتين, نظرا لأن رؤية الإنسان لذاته وللعالم تختلف بالقطع من مكان لآخر حتي في الغرب نفسه فقد كانت رؤية الإنسان الغربي الحديث لنفسه متقاربة إلى حد بعيد في القوميات الاشتراكية والشيوعية , في حين كانت الصورة مغابرة لذلك تماما في دول أوربا الغربية وفي القارة الأمريكية, فبينما اتخذت مباني الجيش الأمريكي التي شيدت قبل وبعد الحرب العالمية الثانية نمطا رأسيا متطابقا على غرار مباني دول المعسكر الاشتراكي في اوروبا, ظلت طرز المباني الأمريكية متباينة إلى حد يتعذر معه تعميم الوصف.
فقد الانسان الغربي المعاصر انتماءه وثقته في قيمة الموروثة كما تسرب الشك الى نفسه مما انتهي به إلى عزوفه عن اتخاذ طراز مميز واتباع رؤية ما أو هوية محددة , ومرجع ذلك هو الافتقار للنظرة الشاملة وتفتت الشخصية المتفردة , وتغلغل النظرة النسبية التي صبغت الحياة المعاصرة … وكل هذه الأمور صارت مادة بين يدي المهندس المعماري يمكنه أن يعبر عنها من خلال الكتله , وجريا وراء هذا النسق شاعت في العمارة المعاصرة أنماط الكتله المحطمة أو المشوهة أو غير المنتظمة أو ذات الزوايا أو الكتله المضغوطة والمتقلصة أو تلك التي تخترقها الفتحات لتبدو كالكتله المثقوبة , بل إنه في حالات أخرى ظلت الدعامات الهيكلية الرئيسية للمبنى قائمة دون الاستعانة بالكتله ليبدو هذا الهيكل وحده مسيطرا على الشعور في محاولة لانكار أن للمعماري – كإنسان – رؤية شاملة يود توصيلها للمشاهد.
ومهما كان تباين المفاهيم أو توافر النظرة الشاملة من عدمه فسوف تبقى الكتله بال منازع هي مجال التعبير عن الارادة وعن استعدادها للسعي نحو هدفها, فالإرادة متحدية كانت أو رافضة , حية أو ميته, فإنها في النهاية إرادة إنسانية كاملة. وإن تجسيد هذه الإرادة في مفهوم الكتله لهو إبداع وتجديد فني مثله مثل المقطوعات الشعرية “لهوميروس” و ” اسخيلوس” أو مثل التصوير الدرامي لحبكة الروايات التي تحكي عن صراع الآلهة مع بعضها البعض مهما احتوت هذه الروايات من قيمة تراجيدية. إن هذا التصوير هو ابداع وعظمة فنية جمالية احتفظت فيه القيم الجمالية باستقلالها عن القيمة الأساسية للمضمون, والحق فإنه بفضل هذه القيمة الجمالية صارت عملية التصوير عملا من قبيل التعبد والاجلال.
3- الكتله في العمارة الإسلامية:
ظلت العمارة الإسلامية رافضة تماما وعلى طول الخط لجميع الآراء السابقة, فالإنسان ليس هو مناط الأمور جميعها وتصويره وتمثيل إرادته ورغباته وشقاؤه بمصيره وقدره ( سواء كان ذلك تراجيديا أو كما صوره المثاليون والشيوعيون) … هو من قبيل العبث…. فإذا كانت إرادة الإنسان وجميع حالات شعوره الأخرى ما هي إلا مجرد وسائط حسية من الدرجة الثانية كما تقول بذلك نظريات الفن الواقعي, فإن الإغريقي الكلاسيكي ينظر إليها كأداة للتعبير عن مسلمات ” تطبيع الطبيعة” ذات الصفة الإلهية التي هي أهل للعبادة… وذلك بالقطع هو إحدى حالات الكفر البين عندما يمتزج الخالق في مخلوقاته وحيث تنتفي أو تمس الذات الإلهية العلية. إن شهادة لا إله إلا الله تعني أنه مامن شيء في الطبيعة ( الكون والملكوت بكامل مخلوقاته ) يمكن أن يكون هو الله أو حتى يمكن أن يحمل أحد أسمائه الإلهية.
فالله وحده هو المنتهي وهو ميتافيزيقيا خالق كل شيء ومن وجهة نظر علم القيم فهو الآخر وهو معيار الوجود كله, لذا فإنه ليس بمقدور المخلوقات جميعا بما في ذلك الإنسان التعبير أو الرمز عن الذات الإلهية سواء تم ذلك بالأسلوب التجريبي أو المثالي … فالإسلام نهى عن أية محاولة مادية من هذا القبيل لتصوير الخالق أو ما يتعلق به.
وهنا يمكن السر وراء استبعاد الإنسان من مجال التصوير الحسي فالإنسان هو أسمى المخلوقات التي ترمز للذات الإلهية, وعليه على العمارة الإسلامية أن تنأى كلية بالكتله عن مجال عملها. ولأن الكتله هي أفضل أداة للتعبير عن لغة الإرادة والحركة برغم كونها صامته, فقد تجلت عبقرية المعماري الإسلامي في كشف أساليب تحويل الكتله , فقد جعل الكتله بادىء ذي بدء غير مرئية مهما كانت جسامتها أو وزنها وعدم شفافيتها أو تماسكها من وجهة الهندسة الإنشائية وقد توصل إلى تحقيق ذلك من خلال الاستعانة بالطبقات المغطية للكتله لتتحول بذلك إلى كيان جديد مختلف جزئيا وكليا, وهنا يبرز الدور الرافض للزخرفة في العمارة الإسلامية , الدور الذي يتعلق بإنكار شهادة أن لا إله إلا الله. ان المعماري الإسلامي لم يكن يعبر من خلال تغطيته للكتله بالزخرفة عن رهبته من الفراغ التي ورثها من معيشته بالصحراء كما يزعم بذلك المستشرقون … ولكنه كان يدحض أحد مظاهر الوثنية والكفر التي شاعت عن طريق التمثيل الحسي والمادي للكتله.
وقد أسهم هذا الدور في تحول الزخرفة ذاتها, فالزخرفة في العمارة الإسلامية هي عنصر أساسي وليست مجرد دور ثانوي, فهي إضافة للبناء وليست بالضرورة فن للتزيين… ومن خلال دوريها الإيجابي والسلبي تعتبر الزخرفة جوهر ولب العمارة الإسلامية كما هو الحال بالنسبة للكتله في العمارة الواقعية, ونظرا لأهمية وظيفة الزخرفة في العمارة الإسلامية فمن المستحسن أن نطلق عليها ” تغيير الشكل الخارجي”
عمل المعماري الإسلامي على تغيبر المظهر الخارجي للكتله عن طريق ترتيب مواضع الوحدات والمواد المتشابهة والمتكررة بغرض صرف الانتباه من الكتله إلى الطراز أو التصميم, وحيثما توافرت لدية المواد ذات القوام والألوان المتباينة , أمكن له توظيف هذه العناصر في مواضع ما لتأدية الغرض نفسه , أي أنه قام بتغيير المظهر الخارجي للكتله… ونجح أيضا في حفر المادة إما كليا أو جزئيا بهدف تحويل الكتله إلى شاشة من التصميمات ذات ألوان وأشكال مختلفة. وعندما أخفقت هذه السبل وأرهقت المعماري الإسلامي تحول إلى تغطية الكتله بالقرميد أو النقوش والزخارف الجبسية والأعمال الخشبية والمواد المختلفة الأخرى لإخفاء الكتله كلية ليظهرالتصميم أو الطراز بمفرده في الفراغ , كما استخدم في أحيان كثيرة خليطا من هذه العناصر لنفس الغرض السلبي وهو إخفاء الكتله.
إن عملية تغيير المظهر الخارجي لم تكن عملية سلبية فحسب بل كان لها أيضا جانبها الإيجابي الذي لا تقل وظيفته أهمية, وهو إبراز تصميمات فن الزخرفة العربي ( الأرابيسك) الذي يعبر عن إبداع الخالق من خلال تكرار عناصره وتنافسها وقوتها وتفردها وثباتها ولا نهائيتها. وبذلك يلقى في نفس المشاهد إحساسا بديهيا باللانهائية وسمو الذات الإلهية.
وفي هذا الصدد يمكن تعميق أثر تغيير الكتلة بتقسيم المشهد إلى وحدات إطارية على مستوى واحد, أو على عدة مستويات بالواجهة بغرض شد الانتباه, إذ أن مرور البصر من وحدة إطارية إلى أخرى أو من مستوى لآخر – وهو الإحساس الذي ينشأ لدى المشاهد خلال التركيز على وحدة ما والأحساس باللانهائية الذي يأسر المشاهدفي نهاية رؤيته لكل وحدة … كل ذلك من شأنه أن يؤكد الشعور الصادق الذي يتولد عن بداهة الإحساس باللانهائية, وبالمثل فثمة وسيلة إضافية أخرى أكثر فعالية في تغيير المظهر, وهي وسيلة تعد أول تعبير جمالي تتمخض عنه التجربة الإسلامية ألا وهي استخدام لفظ الجلالة في الخط العربي.
وفي الوقت الذي طوعت فيه يد المعماري الواقعي الكتله البنائية الصلبة لتجسيد القوة الجبارة والإدراة الهائلة التي لا تلين وتأكد النظرة الذاتية المبدعة , نجد أن العمارة الإسلامية تمكنت في سلامة من صياغة تكوينات وتصميمات أصيلة رقيقة كالنسمة تخطف الأبصار كالقطار المسرع ولجأت أيضا إلى تغطية أركان البناء الداخلية بالتصميمات المتصلة لإخفاء سيطرة الكتله على الفضاء فالقبة… برغم ضخامه كتلتها التي تزخر بالقوة … وبكل جسامتها ووزنها كما في قاعة ” الشقيقتان” بقصر الحمراء…فقد أمكن استئناس هذه الضخامة بالتكوينات المعشقة والمتداخلة لفن ” الأرابيسك” كالأقواس والأعمدة التي تشابكت مع بعضها البعض ملايين المرات في منظور بديع ساحر لدى مرور الطرف عبر زخارف القاعة.
إن فن العمارة الإسلامي هو المتحدث باسم الإسلام… وهذا ينبغي أن يكون عليه… فقد تغلغلت لسوء الحظ الأفكار الأجنبية في كيان فن العمارة بالعالم الإسلامي… فيما ظل العدو متربعا على عرش المدينة الإسلامية وصوته لا يزال يدوي في أرجاء المباني حديثة الإنشاء في أنحاء العالم الإسلامي بما في ذلك ” إسلام أباد..”
إن نصيبنا من العمارة ليس بالشئ اليسير في الوقت الذي صار فيه العدو واحدا منا … فهاهم المهندسون المعماريون يتلقون تدربيهم في فروع فن العمارة الغربية في عقر دارنا وداخل جامعاتنا الوطنية… لقد أصبح المعماري الإسلامي غربي النزعة ينتمي لدين الإسلام شكلا… ولم يدرك أن الحرب لم تضع أوزارها بعد وأن الهزيمة سوف تكون ثقيلة وشاملة بمعنى الكلمة … فهل يعاودنا الأمل في صحوة العمارة الإسلامية من جديد؟ وهنا… في عرين الأسد؟ وهل نتمكن من هنا أيضا أن نبعث الروح في التقاليد الإسلامية التي هوت واندثرت؟ …